• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء التاسع) ، تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي .
                    • الموضوع : سورة مريم من أول السورة ـ آية 35 من ( ص 397 ـ 449 ) .

سورة مريم من أول السورة ـ آية 35 من ( ص 397 ـ 449 )

[397]

 

سُورَة مَرْيَم

مكّية

وعَدَدُ آيَاتِها ثمان وتسعُونَ آية

[399]

 

«سورة مريم»

محتوى السورة:

لهذه السورة من جهة المحتوى عدة أقسام مهمّة:

1 ـ يشكل القسم الذي يتحدث عن قصص زكريا ومريم والمسيح(عليهم السلام)ويحيي وإِبراهيم(عليهما السلام) بطل التوحيد، وولده إِسماعيل، وإِدريس وبعض آخر من كبار أنبياء الله، الجزء الأهم في هذه السورة، ويحتوي على أُمور تربوية لها خصوصيات مهمّة.

2 ـ الجزء الثّاني من هذه السورة ـ والذي يأتي بعد القسم الأوّل من حيث الاهمية ـ عبارة عن المسائل المرتبطة بالقيامة، وكيفية البعث، ومصير المجرمين، وثواب المتقين، وأمثال ذلك.

3 ـ القسم الثّالث، وهو المواعظ والنصائح التي تكمل ـ في الواقع ـ الأقسام السابقة.

4 ـ وأخيراً، فإِنّ آخر قسم عبارة عن الإِشارات المرتبطة بالقرآن، ونفي الولد عن الله سبحانه، ومسألة الشفاعة، وتشكل بمجموعها برنامجاً تربوياً مؤثراً من أجل دفع النفوس الإِنسانية إِلى الإِيمان والطهارة والتقوى.

فضل السورة:

روي عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم): «من قرأها أُعطي من الأجر بعدد مَن صدّق

[400]

بزكريا وكذب به، ويحيي ومريم وموسى وعيسى وهارون وإِبراهيم وإِسحاق ويعقوب وإِسماعيل عشر حسنات، وبعدد من ادعى لله ولداً، وبعدد من لم يدع ولداً»(1).

إِن هذا الحديث ـ في الحقيقة ـ دعوة إِلى السعيت والجد في خطين مختلفين: خط مساندة ودعم النّبي والطاهرين والخيرين، وخط محاربة المشركين والمنحرفين والفارسقين، لأنا نعلم أن هذه المكافئات والعطايا الجزيلة لا تعطى لمن يتلفظ كلمات السورة بلسانه فقط، ولا يعمل بأوامرها، بل إِن هذه الألفاظ المقدسة مقدمة للعمل.

ونقرأ في حديث آخر عن الإِمام الصادق(عليه السلام): «من أدمن قراءة سورة مريم لم يمت في الدنيا حتى يصيب منها ما يغنيه في نفسه وماله وولده»(2).

إِن هذا الغنى وعدم الإِحتياج ـ حتماً ـ قبس من وجود محتوى السورة وسريانها في أعماق روح الإِنسان، وانعاكسها من خلال أعماله وأقواله وسلوكه.

* * *

____________________________

1 ـ مجمع البيان الجزء 3، ص 500.

2 ـ المصدر السابق.

[401]

الآيات

كهيعص(1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ(2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً(3) قَالَ رَبِّ إِنِّى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّى وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً(4) وَإِنِّى خِفْتُ الْمَوَلِىَ مِن وَرَآءِى وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِراً فَهَبْ لِى مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً(5)يَرِثُنِى وَيَرِتُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً(6)

التّفسير

دعاء زكريا المستجاب:

مرّة أُخرى نواجه الحروف المقطعة في بداية هذه السورة، ولما كنّا قد بحثنا تفسير هذه الحروف المقطعة بصورة مفصلة في بداية ثلاث سور مختلفة فيما سبق ـ سورة البقرة وآل عمران والأعراف ـ فلا نرى حاجة للتكرار هنا.

ولكن ما ينبغي اضافته هنا هو وجود طائفتين من الرّوايات في المصادر الإِسلامية تتعلق بالحروف المقطعة في هذه السورة.

الأُولى: تقول بأن كل حرف من هذه الحروف يشير إِلى اسم من أسماء الله الحسنى، فالكاف يشير إِلى الكافي، وهو من أسماء الله الحسنى، والهاء تشير إِلى

[402]

الهادي، والياء إِشارة إِلى الولي، والعين إِشارة إِلى العالم، والصاد إِشارة إِلى صادق الوعد(1).

الثّانية: تفسر هذه الحروف المقطعة بحادثة ثورة الإِمام الحسين(عليه السلام) في كربلاء، فالكاف إِشارة إِلى كربلاء، والهاء إِشارة إِلى هلاك عترة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والياء إِشارة إِلى يزيد، والعين إِشارة إِلى مسألة العطش، والصاد إِشارة إِلى صبر وثبات الحسين وأصحابه المضحين(2).

وكما قلنا مراراً، فإِن لآيات القرآن أنوار معان مختلفة، وتبيّن أحياناً مفاهيم من الماضي والمستقبل، ومع تنوعها واختلافها فإنّه لا يوجد تناقض بينها، في حين أننا إِذا حصرنا المعنى وفسّرناه تفسيراً واحداً، فمن الممكن أن نبتلى بإشكالات من ناحية وضع و سبب نزول الآية و زمانه.

وبعد ذكر الحروف المقطعة، تشرع الكلمات الأُولى من قصّة زكريا(عليه السلام)فتقول: (ذكر رحمة ربّك عبده زكريا)(3). وفي ذلك الوقت الذي كان زكريا(عليه السلام)مغتماً ومتألماً فيه من عدم إِنجاب الولد، توجه إِلى رحمة ربّه: (إِذ نادى ربّه نداء خفياً) بحيث لم يسمعه أحد، وذكر في دعائه وهن وضعف العظام باعتبارها عمود بدن الإِنسان ودعامته وأقوى جزء من اجزائه: (قال ربّ إِنّي وهن العظم منّي واشتمل الرأس شيباً).

إِن تشبيه آثار الكبر بالشعلة التي عمت كل الرأس تشبيه جميل، لأنّ خاصية شعلة النّار أنّها تتسع بسرعة، وتلتهم كل ما يحيط بها.

ومن جهة ثانية فإِنّ شعلة النّار لها بريق وضياء يجلب الإِنتباه من بعيد.

ومن ناحية ثالثة، فإِنّ النّار إِذا اشتعلت في محل له، فإِنّ الشيء الذي يبقي

____________________________

1 ـ نور الثقلين، الجزء 3، ص 320.

2 ـ المصدر السّابق.

3 ـ كلمة «ذكر» خبر لمبتدأ محذوف، وعليه فالتقدير: هذا ذكر رحمة ربّك.

[403]

منه هو الرماد فقط.

لقد شبه زكريا نزول الكبر، وبياض كل شعر رأسه باشتعال النّار، والرماد الأبيض الذي تتركه، وهذا التشبيه جميل وبليغ جداً.

ثمّ يضيف: (ولم أكن بدعائك ربَّ شقياً) فقد عودتني دائماً ـ فيما مضى ـ على استجابة أدعيتي، ولم تحرمني منها أبداً، والآن وقد أصبحت كبيراً وعاجزاً فأجدني أحوج من السابق إلى أن تستجيب دعائي ولا تخيبّني.

إنّ الشقاء هنا بمعنى التعب والأذى أي إِنّي لم أتعب ولم أتاذَّ في طلباتي منك، لأنّك كنت تقضيها بسرعة.

ثمّ يبيّن حاجته: (وإِنّي خفت الموالي من ورائي) أي إنّي أخشى من أقربائي أن يسلكوا سبيل الانحراف والظلم (وكانت امرأتي عاقراً فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله ربّ رضياً) أي مرضياً عندك.

* * *

بحوث

1 ـ المراد من الإِرث

لقد قدم المفسّرون الإِسلاميون بحوثاً كثيرة حول الإِجابة عن هذا السؤال، فالبعض يعتقد أنّ الإِرث هنا يعني الإِرث في الأموال، والبعض اعتبره إِشارة إِلى مقام النبوة، وبعض آخر احتمل أن يكون المراد معنى جامعاً شاملا لكلا الرأيين السابقين.

وقد اختار كثير من علماء الشيعة المعنى الأوّل، في حين ذهب جماعة من علماء العامّة إِلى المعنى الثّاني، والبعض الآخر ـ كسيد قطب في (في ظلال القرآن)، والآلوسي في روح المعاني ـ اختاروا المعنى الثّالث.

إِنّ الذين حصروا المراد في الإِرث في المال استندوا إِلى ظهور كلمة الإِرث

[404]

في هذا المعنى، لأن هذه الكلمة إِذا كانت مجرّدة عن القرائن الأُخرى، فإِنّها تعني إِرث الأموال، أمّا في موارد استعمالها في بعض آيات القرآن في الأُمور المعنوية، كالآية (32) من سورة فاطر: (ثمّ أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)فلوجود القرائن في مثل هذه الموارد.

إِضافة إِلى أنّه يستفاد من قسم من الرّوايات أن هدايا ونذوراً كثيرة كانت تجلب إِلى الأحبار ـ وهم علماء اليهود ـ في زمان بني إِسرائيل، وكان زكريا رئيس الأحبار(1).

وإِذا تجاوزنا ذلك، فإِن زوجة زكريا كانت من أسرة سليمان بن داود، وبملاحظة الثروة الطائلة لسليمان بن داود، فقد كان لها نصيب منها.

لقد كان زكريا خائفاً من وقوع هذه الأموال بأيدي أناس غير صالحين، وانتهازيين، أو أن تقع بأيدي الفساق والفجرة، فتكون بنفسها سبباً لنشوء وانتشار الفساد في المجتمع، لذلك طلب من ربّه أن يرزقه ولداً صالحاً ليرث هذه الأموال وينظر فيها، ويصرفها في أفضل الموارد.

الرّواية المعروفة المروية عن فاطمة الزهراء(عليها السلام)، والتي استدلت فيها بهذه الآية من أجل استرجاع فدك، هي شاهد آخر على هذا المدعى.

ينقل العلاّمة الطبرسي في كتاب الإِحتجاج عن سيدة النساء(عليها السلام): إِنّه عندما صمم الخليفة الأوّل على منع فاطمة الزهراء(عليها السلام) فدكاً، وبلغ ذلك فاطمة، حضرت عنده وقالت: «يا أبا بكر! أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فرياً! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إِذ يقول فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا: (إِذ قال رب هب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب؟)(2).

____________________________

1 ـ نور الثقلين، ج3، ص323.

2 ـ نور الثقلين، الجزء 3، ص 324 (نقلا عن الإِحتجاج).

[405]

أمّا الذين يعتقدون بأن الإرث هنا هو الإرث المعنوي، فقد تمسكوا بقرائن في نفس الآية، أو خارجة عنها، مثل:

1 ـ يبدو من البعيد أن نبيّاً كبيراً كزكريا، وفي ذلك السن الكبير، يمكن أن تشغل فكره مسألة ميراث ثروته، خاصّة وأنّه يضيف بعد جملة (يرثني ويرث من آل يعقوب) جملة (واجعله ربّ رضياً)، ولا شك أن هذه الجملة إِشارة إِلى الصفات المعنوية لذلك الوارث.

2 ـ إِنّ الله سبحانه لما بشره بولادة يحيى في الآيات القادمة، فإِنّه ذكر صفات ومقامات معنوية عظيمة، ومن جملتها مقام النبوة.

3 ـ إِن الآية (38) من سورة آل عمران بينت السبب الذي دفع زكريا إِلى هذا الطلب والدعاء، وأنّه فكر في ذلك عندما شاهد مقامات مريم حيث كان يأتيها رزقها من طعام الجنّة في محرابها بلطف الله: (هنا لك دعا زكريا ربّه قال ربّ هب لي من لدنك ذرية طبية إنّك سميع الدعاء).

4 ـ ورد في بعض الأحاديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ما يؤيد أن الإِرث هنا يراد به الارث المعنوي، وخلاصة الحديث أنّ الإِمام الصادق(عليه السلام) روى عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): إِنّ عيسى بن مريم مرّ على قبر كان صاحبه يعذب، ومرّ عليه في العام الثّاني فرأى صاحب ذلك القبر لا يعذب، فسأله ربّه عن ذلك، فأوحى الله إِليه أنّه لصاحب هذا القبر ولد صالح قد أصلح طريقاً وآوى يتيماً، فغفر الله له بعمل ولده. ثمّ قال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «ميراث الله من عبده المؤمن ولد يعبده من بعده»، ثمّ تلا الإِمام الصادق عند نقله هذا الحديث الآية المرتبطة بزكريا: (هب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضياً)(1).

فإِن قيل: إِن ظاهر كلمة الإِرث هو إرث الأموال.

فيقال في الجواب: إِن هذا الظهور ليسَ قطعياً، لأنّ هذه الكلمة قد استعملت

____________________________

1 ـ نور الثقلين، الجزء 3، ص 323 و 324.

[406]

في القرآن مراراً في الإِرث المعنوي، كالآية (32) من سورة فاطر، والآية (53) من سورة المؤمن. إِضافة إِلى أنّنا لو فرضنا أنّها خلاف الظاهر، فإِنّ هذا الإِشكال سيزول بوجود القرائن.

إِلاّ أنّ أنصار الرأي الأوّل يستطيعون أن يناقشوا هذه الإِستدلالات، بأنّ ما كان يشغل فكر زكريا ـ نبي الله الكبير ـ هي مسألة الأموال، ولم تكن تشغله كمسألة شخصية، بل باعتبارها مصدراً لفساد أو صلاح المجتمع; لأنّ بني إِسرائيل ـ وكما قيل أعلاه ـ كانوا يأتون بالهدايا والنذور الكثيرة إِلى الأحبار فكانت تودع عند زكريا، وربما كانت هناك أموالا متبقية من قبل زوجته التي كانت من أسرة سليمان، ومن البديهي أن وجود شخص غير صالح يتولى هذه الأموال قد يؤدي إِلى مفاسد عظيمة، وهذا هو الذي كان يقلق زكريا.

وأمّا الصفات المعنوية التي ذكرت ليحيى في هذه الآيات والآيات الأُخرى، فإِنّها تؤيد ما ذكرنا، وتنسجم معه، لأنّه أراد أن تقع هذه الثروة العظيمة بيد رجل صالح يستفيد منها في سبيل المجتمع.

إِلاّ أنّنا نعتقد بأنا إِذا توصلنا من مجموع المباحث أعلاه إِلى هذه النتيجة، وهي أن للإرِث هنا مفهوماً ومعنى واسعاً يشمل إرث الأموال كما يشمل إرث المقامات المعنوية، فسوف لا يكون هناك مورد خلاف، لأنّ لكل رأي قرائنه، وإِذ لاحظنا الآيات السابقة واللاحقة ومجموع الرّوايات، فإِنّ هذا التّفسير يبدو أقرب للصواب.

أمّا جملة (إِنّي خفت الموالي من ورائي) فإِنّها مناسبة لكلا المعنيين، لأنّ الأشخاص الفاسدين إِذ تولوا أمر هذه الأموال، فإِنّهم سيكونون مصدر قلق حقاً، وإِذا وقعت زمام الأُمور وقيادة الناس المعنوية بيد أناس منحرفين، فإِنّ ذلك أيضاً يثير المخاوف، وعلى هذا فإِنّ خوف زكريا يمكن توجيهه في كلا الصورتين. وحديث فاطمة الزهراء(عليها السلام) يناسب هذا المعنى أيضاً.

[407]

2 ـ ماذا تعني كلمة «نادى»؟

في قوله تعالى (إِذ نادى ربّه نداءً خفياً) طُرح هذا السؤال بين المفسّرين، وهو أن «نادى» تعني الدعاء بصوت عال، في حين أن «خفياً» تعني الإِخفات وخفض الصوت، وهذان المعنيان لا يناسب أحدهما الآخر.

إِلا أننا إِذا علمنا أن «خفياً» لا تعني الإِخفات، بل تعني الإِخفاء، فسيكون من الممكن أن زكريا حين خلوته، حيث لا يوجد أحد سواه، كان ينادي ويدعو الله بصوت عال.

والبعض قال: إِن طلبه هذا كان في جوف الليل حيث كان الناس يغطون في النوم(1).

والبعض الآخر اعتبر قوله تعالى: (فخرج على قومه من المحراب) التي ستأتي في الآيات التالية، دليلا على وقوع هذا الدعاء في الخلوة(2).

3 ـ (ويرث من آل يعقوب)

إِنّ زكريا قال: (ويرث من آل يعقوب)، وذلك لأنّ زوجته كانت خالة مريم أو عيسى، ويتصل نسبها بيعقوب، لأنّها كانت من أسرة سليمان بن داود، وهو من أولاد يهودا بن يعقوب(3).

* * *

____________________________

1 ـ تفسير القرطبي، ج 6، ذيل الآية مورد البحث.

2 ـ تفسير الميزان الجزء 14، ذيل الآية.

3 ـ مجمع البيان، الجزء 6، ذيل الآية.

[408]

الآيات

يـزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلـم اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً(7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونَ لِى غُلـمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً(8) قَالَ كَذلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيئاً(9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِّى ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلـثَ لَيَال سَوِيّاً(10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الِْمحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً(11)

التّفسير

بلوغ زكريا أمله:

تبيّن هذه الآيات استجابة دعاء زكرى(عليه السلام)ا من قبل الله تعالى استجابة ممزوجة بلطفه الكريم وعنايته الخاصّة، وتبدأ بهذه الجملة: (يا زكريا إِنّا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سمياً).

كم هو رائع وجميل أن يستجيب الله دعاء عبده بهذه الصورة، ويطلعه

[409]

ببشارته على تحقيق مراده، وفي مقابل طلب الولد فإِنّه يعطيه مولداً ذكراً، ويسميه أيضاً بنفسه، ويضيف إِلى ذلك أنّ هذا الولد قد تفرد بأُمور لم يسبقه أحد بها. لأنّ قوله: (لم نجعل له من قبل سمياً) وإِن كانت تعني ظاهراً بأن أحداً لم يسم باسمه لحد ولادته، لكن لما لم يكن الاسم لوحده دليلا على شخصية أحد، فسيصبح من المعلوم أنّ المراد من الإِسم هنا هو المسمّى، أي أحداً قبله لم يكن يمتلك هذه الإِمتيازات، كما ذهب الراغب الأصفهاني إِلى هذا المعنى ـ بصراحة ـ في مفرداته.

لا شك في وجود أنبياء كبار قبل يحيى، بل وأسمى منه، إِلاّ أنّه لا مانع مطلقاً من أن يكون ليحيى خصوصيات تختص به،كما ستأتي الإِشارة إِلى ذلك فيما بعد.

أمّا زكريا الذي كان يرى أن الأسباب الظاهرية لا تساعد على الوصول إِلى مثل هذه الأمنية، فإِنّه طلب توضيحاً لهذه الحالة من الله سبحانه: (قال رب أَنَّى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغت من الكبر عتياً).

«عاقر» في الأصل من لفظة «عقر» بمعنى الجذر والنهاية، أو بمعنى الحبس، وإِنّما يقال للمرأة: عاقر، لأنّ قابليتها على الولادة قد انتهت، أو لأنّ إِنجاب الأولاد محبوس عنها.

«العتيّ» تعني الشخص الذي نحل جسمه وضعف هيكله، وهي الحالة التي تظهر على الإِنسان عند شيخوخته.

إِلاّ أنّ زكريا سمع في جواب سؤاله قول الله سبحانه: (قال كذلك قال ربّك هو علي هين)(1).

إِن هذه ليست بالمسألة العجيبة، أن يولد مولود من رجل طاعن في السن

____________________________

1 ـ المعروف بين المفسّرين أن عبارة (كذلك) هي في تقدير (الأمر كذلك). ويحتمل كذلك أن (كذلك) متعلقة بما بعدها ويصبح معناها: كذلك قال ربّك.

[410]

مثلك، وامرأة عقيم ظاهراً (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً)، فإِنّ الله قادر على أن يخلق كل شيء من العدم، فلا عجب أن يتلطف عليك بولد في هذا السن وفي هذه الظروف.

ولا شك أنّ المبشر والمتكلم في الآية الأُولى هو الله سبحانه، إِلاّ أن البحث في أنّه هو المتكلم في الآية الثّالثة: (قال كذلك قال ربّك هو عليَّ هين).

ذهب البعض بأنّ المتكلم هم الملائكة الذين كانوا واسطة لتبشير زكريا، والآية (39) من سورة آل عمران يمكن أن تكون شاهداً على ذلك: (فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب إِنّ الله يبشرك بيحيى).

لكن الظاهر هو أنّ المتكلم في كل هذه الأحوال هو الله سبحانه،  ولا  دليل ـ أو سبب ـ يدفعنا إِلى تغييره عن ظاهره، وإِذا كانت الملائكة وسائط لنقل البشارة، فلا مانع ـ أبداً ـ من أن ينسب الله أصل هذا الإِعلان والبشارة إِلى نفسه، خاصّة وأنّنا نقرأ في الآية (40) من سورة آل عمران: (قال كذلك الله يفعل ما يشاء).

وقد سرّ زكريا وفرح كثيراً لدى سماعه هذه البشارة، وغمر نفسه نور الأمل، لكن لما كان هذا النداء بالنسبة إِليه مصيرياً ومهماً جداً، فإِنّه طلب من ربّه آية على هذا العمل: (قال ربّ اجعل لي آية).

لا شك أنّ زكريا كان مؤمناً بوعد الله، وكان مطمئناً لذلك، إِلاَّ أنّه لزيادة الإِطمئنان ـ كما أنّ إِبراهيم الذي كان مؤمناً بالمعاد طلب مشاهدة صورة وكيفية المعاد في هذه الحياة ليطمئن قلبه ـ طلب من ربّه مثل هذه العلامة والآية، فخاطبه الله: (قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليالِ سوياً) واشغل لسانك بذكر الله ومناجاته.

لكن، أية آية عجيبة هذه! آية تنسجم من جهة مع حال مناجاته ودعائه، ومن جهة أُخرى فإِنّها تعزله عن جميع الخلائق وتقطعه إِلى الله حتى يشكر الله

[411]

على هذه النعمة الكبيرة، ويتوجه إِلى مناجاة الله أكثر فأكثر.

إِن هذه آية واضحة على أن إِنساناً يمتلك لساناً سليماً، وقدرة على كل نوع من المناجاة مع الله، ومع ذلك لا تكون له القدرة على التحدث أمام الناس!

بعد هذه البشارة والآية الواضحة، خرج زكريا من محراب عبادته إِلى الناس، فكلّمهم بالإِشارة: (فخرج على قومه من المحراب فأوحى إِليهم أن سبحوا بكرة وعشياً) لأنّ النعمة الكبيرة التي منّ الله بها على زكريا قد أخذت بأطراف القوم، وكان لها تأثير على مصير ومستقبل كل هؤلاء، ولهذا فقد كان من المناسب أن يهبّ الجميع لشكر الله بتسبيحه ومدحه وثنائه.

وإِذا تجاوزنا ذلك، فإِنّ بإِمكان هذه الموهبة التي تعتبر إِعجازاً أن تحكّم أسس الإِيمان في قلوب الناس، وكانت هذه أيضاً موهبة أُخرى.

* * *

بحثان

1 ـ يحيى (عليه السلام) النّبي المتألّه الورع

لقد ورد اسم «يحيى» في القرآن الكريم خمس مرات ـ في سور آل عمران، والأنعام، ومريم، والأنبياء ـ فهو واحد من أنبياء الله الكبار، ومن جملة امتيازاته ومختصاته أنّه وصل إِلى مقام النّبوة في مرحلة الطفولة، فإِنّ الله سبحانه قد أعطاه عقلا وذكاءً وقّاداً ودراية واسعة في هذا العمر بحيث أصبح مؤهلا لتقبل هذا المنصب.

ومن خصائص هذ النّبي(عليه السلام) التي أشار إِليها القرآن في الآية (39) من سورة آل عمران ، وصفه بالحصور، كما قلنا في ذيل تلك الآية، فإِنّ «الحصور» من مادة الحصر، بمعنى وقوع الشخص في المحاصرة، وهي تعني هنا ـ طبقاً لبعض الرّوايات ـ الإِمتناع عن الزواج.

[412]

لقد كان هذا العمل امتيازاً بالنسبة له، من جهة أنّه يبيّن نهاية العفة والطهارة، أو أنّه كان ـ نتيجة ظروف الحياة الخاصّة ـ مضطراً إِلى الأسفار المتعددة من أجل نشر الدين الإِلهي والدعوة إِليه، واضطر كذلك إِلى أن يعيش حياة العزوبة كعيسى بن مريم(عليه السلام).

وهناك تفسير قريب من الصواب أيضاً، وهو أن الحصور ـ في الآية المذكورة ـ تعني الشخص الذي ترك شهوات الدنيا وملذاتها، وهذا في الواقع مرتبة عالية من الزهد(1).

على كل حال، فإِنّ المستفاد من المصادر الإِسلامية والمسيحية أن يحيى كان بن خالة عيسى.

فقد صرّحت المصادر المسيحية بأنّ يحيى غسل المسيح(عليه السلام) غسل التعميد، ولذلك يسمّونه (يحيى المعمد) ـ وغسل التعميد غسل خاص يغسل المسيحيون أولادهم به، ويعتقدون أنّه يطهرهم من الذنوب ـ ولما أظهر المسيح نبوته آمن به يحيى.

لا شك أن يحيى لم يكن له كتاب سماوي خاص، وما نقرأه في الآيات التالية من أنّه (يا يحيى خذ الكتاب بقوة) إِشارة إِلى التوراة، وهي كتاب موسى(عليه السلام).

وهناك جماعة يتبعون يحيى، وينسبون له كتاباً، وربما كان (الصابئون الموحدون) من أتباع يحيى(2).

لقد كان بين يحيى وعيسى جوانب مشتركة، كالزهد الخارق غير المألوف، وترك الزواج للأسباب التي ذكرت، وولادتهما التي تحمل طابع الإِعجاز، وكذلك

____________________________

1 ـ لقد بحثنا مفصلا في أنّ ترك الزواج لا يمكن أن يكون فضيلة لوحده، وأنّ قانون الإِسلام يؤكّد في هذا المجال على الزواج، في الجزء الثّاني ذيل الآية (39) من آل عمران من هذا التّفسير.

2 ـ أعلام القرآن، ص 667.

[413]

النسب القريب جدّاً.

ويستفاد من الرّوايات الإِسلامية، أن بين الحسين(عليه السلام) ويحيى(عليه السلام) جهات مشتركة، ولذلك فقد روي الإِمام زين العابدين علي بن الحسين(عليه السلام) أنّه قال: «خرجنا مع الحسين بن علي(عليه السلام)، فما نزل منزلا ولا رحل منه إِلاّ ذكر يحيى بن زكريا وقتله، وقال: ومن هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريا أهدي إِلى بغي من بغايا بني إِسرائيل»(1).

كما أن شهادة الحسين(عليه السلام) تشبه شهادة يحيى(عليه السلام) من عدّة جهات أيضاً، وسنذكر كيفية قتل يحيى فيما بعد.

وكذلك فإِنّ اسم الحسين(عليه السلام) كاسم يحيى(عليه السلام) لم يسبقه به أحد، ومدّة حملهما كانت أقل من المعتاد.

2 ـ ما معنى كلمة «المحراب»؟

«المحراب» محل خاص في مكان العبادة يجعل للإِمام أو الوجهاء والمبرزين، وقد ذكروا علتين لهذه التسمية:

الأُولى: أنّها من مادة «حرب»، لأنّ المحراب في الحقيقة محل لمحاربة الشيطان وهوى النفس.

والثّانية: أنّ المحراب في اللغة بمعنى مكان الصدارة في المجلس، ولما كان مكان المحراب في صدر المعبد فقد سمي بهذا الإِسم.

يقول البعض: إِنّ المحراب كان عند بني إِسرائيل بعكس ما هو المتعارف عندنا، حيث كان في مكان أعلى من سطح الأرض حيث يُرتقى اليه بعدّة

____________________________

1 ـ نور الثقلين، الجزء 3، ص 324.

[414]

درجات. وكانوا يحيطونه بالجدران بحيث تصعب رؤية الذين يتعبدون في داخل المحراب، ويؤيد ذلك ما ورد في الآية: (فخرج على قومه من المحراب) والتي قرأناها في الآيات محل البحث، ومع ملاحظة كلمة «على» التي تستعمل عادة للدلالة على الجهة العليا يتّضح هذا المطلب أكثر.

* * *

[415]

الآيات

يـيَحْيَى خُذِ الْكِتَـبَ بِقُوَّة ءَاتَيْنـهُ الْحُكْمَ صَبِيَّاً(12) وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوةً وَكَانَ تَقِيّاً(13) وَبَرَّاً بَولِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً(14) وَسَلـمٌ عَلَيهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً(15)

التّفسير

صفات يحيى (عليه السلام) البارزة:

رأينا في الآيات السابقة كيف أنّ الله سبحانه منّ على زكريا عند كبره بيحيى، وبعد ذلك فإنّ أوّل ما نلاحظه في هذه الآيات هو الأمر الإِلهي المهم الذي يخاطب يحيى: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة).

المشهور بين المفسّرين أنّ المراد من الكتاب هنا هو التوراة، حتى ادعوا الإِجماع على ذلك(1).

إِلاّ أنّ البعض احتمل أن يكون له كتاب خاص كزبور داود، وهو طبعاً ليسَ

____________________________

1 ـ يراجع تفسير القرطبي والآلوسي في تفسير هذه الآية.

[416]

كتاباً متضمناً لدين جديد ومذهب مستحدث(1). غير أن الإِحتمال الأوّل هو الأقوى كما يبدو.

وعلى أي حال، فإِنّ المراد من أخذ الكتاب بقوة هو إِجراء وتنفيذ ما جاء في كتاب التوراة السماوي بكل حزم واقتدار وتصميم راسخ، وإِرادة حديدية، وأن يعمل بكل ما فيه، وأن يستعين بكل القوى المادية والمعنوية في سبيل نشره وتعميمه.

إِنّ من القواعد المسلّمة أنّه لا يمكن تطبيق أي كتاب ودين بدون قوة وقدرة وحزم أتباعه وأنصاره، وهذا درس لكل المؤمنين، وكل السالكين والسائرين في طريق الله.

يحيى وصفاته العشرة:

ثمّ أشار القرآن الكريم إِلى المواهب العشرة التي منحها الله ليحيى والتي اكتسبها بتوفيق الله:

1 ـ (وآتيناه الحكم صبياً). وهو أمر النّبوة والعقل والذكاء والدراية.

2 ـ (وحناناً من لدنا) والحنان في الأصل بمعنى الرحمة والشفقة والمحبّة وإِظهار العلاقة والمودّة للآخرين.

3 ـ (وزكاة) أي أعطيناه روحاً طاهرة وزكية، وبالرغم من أنّ المفسّرين فسروا الزكاة بمعان مختلفة، فبعضهم فسّرها بالعمل الصالح، وآخر بالطاعة والإِخلاص، وثالث ببر الوالدين والإِحسان إِليهما، ورابع بحسن السمعة والذكر، وخامس بطهارة الأنصار، إِلاّ أنّ الظاهر هو أنّ للزكاة معنى واسعاً وشاملا يتضمن كل هذه الأعمال والصفات الطاهرة الصالحة.

4 ـ (وكان تقياً) فكان يجتنب كل ما يخالف الأوامر الالهية.

____________________________

1 ـ يراجع تفسير الميزان في ذيل الآية.

[417]

5 ـ (وبراً بوالديه).

6 ـ (ولم يكن جباراً) فلم يكن رجلا ظالماً ومتكبراً وانانيّاً.

7 ـ ولم يكن (عصياً) ولم يقترف ذنباً ومعصية.

8 ، 9 ، 10 ـ ولما كان جامعاً لكل هذه الصفات البارزة، والأوسمة الكبيرة، فإِن الله سبحانه قد سلّم عليه في ثلاثة مواطن: (وسلام عليه يوم ولد، ويوم يموت، ويوم يبعث حياً).

* * *

بحوث

1 ـ خذ الكتاب السماوي بقوة واقتدار!

إِنّ لكلمة «قوة» في قوله: (يا يحيى خذ الكتاب بقوّة) ـ كما تقدم ـ معنى واسعاً جمعت فيه كل القدرات والطاقات المادية والمعنوية، الروحية الجسمية، وهذا بحد ذاته يبيّن ويوضح هذه الحقيقة، وهي أنّ الدين الإِلهي والإِسلام والقرآن لا يمكن أن تحفظ بالضعف والتخاذل والمهادنة اللين، بل يجب أن تصان بقوّة وتجعل في قلعة القدرة المنيعة.

إنّ المخاطب هنا وإن كان يحيى، إلاّ أنّه قد ورد هذا التعبير بالنسبة إلى غيره من الأنبياء في موارد أُخرى من القرآن المجيد، ففي الآية (145) من سورة الأعراف أمر موسى بأن يأخذ التوراة بقوة: (فخذها بقوة).

وفي الآية (63 و 93) من سورة البقرة يلاحظ أنّ الخطاب موجه لجميع بني إِسرائيل: (خذوا ما أتيناكم بقوة) وهو يوحي بأن هذا الحكم عام يشمل الجميع، ولا يخص شخصاً أو أشخاصاً معينين.

وقد ورد هذا المفهوم بتعبير آخر في الآية (60) من سورة الإِنفال: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة).

[418]

وعلى كل حال، فإِنّ هذه الآية تعتبر جواباً لمن يظن أنّه بالإِمكان تنفيذ عمل أو تحقيق غاية من موقعه الضعف، أو يريد حل المشاكل عن طريق المساومة في كل الظروف.

2 ـ ثلاثة أيّام صعبة في مصير الإِنسان

إِنّ التعبير بـ (سلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً) يبيّن أن في تاريخ حياة الإِنسان وانتقاله من عالم إِلى عالم آخر ثلاثة أيّام صعبة: يوم يضع قدمه في هذه الدنيا: (يوم ولد) ويوم موته وانتقاله إِلى عالم البرزخ (ويوم يموت) ويوم بعثه في العالم الآخر (ويوم يبعث حياً) ولما كان من الطبيعي أن تكون هذه الأيّام مرافقة للإِضطرابات والقلق، فإنّ الله سبحانه يكتنف خاصّة عباده بسلامه وعافيته، ويجعل هؤلاء في ظل حمايته ومنعته في هذه المراحل العسيرة الثلاثة.

وبالرغم من أنّ هذا التعبير قد ورد في القرآن في موردين فقط، في حق يحيى وفي حق عيسى(عليه السلام)، إلاّ أنّ التعبير القرآن في شأن يحيى امتيازاً خاصّاً، لأنّ المتكلم بهذا الكلام هو الله سبحانه، في حين أنّ المسيح(عليه السلام) هو المتكلم في حق نفسه.

ومن الواضح أنّ الأفراد الذين يكونون في أوضاع وأحوال تشابه أحوال هذين العظيمين ستعمهم وتظللهم هذه السلامة.

ومن البديع أن نقرأ في رواية عن الإِمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام): «إِنّ أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يلد ويخرج من بطن أمه فيرى الدنيا، ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها، ويوم يبعث حياً فيرى أحكاماً لم يرها في دار الدنيا، وقد سلم الله على يحيى(عليه السلام) في هذه الثلاثة مواطن وآمن روعته، فقال:

[419]

وسلام عليه ...»(1).

3 ـ النّبوة في الطفولة

صحيح أنّ مرحلة النضج العقلي للإِنسان لها حدّ معين عادة، إِلاّ أنّه يوجد أفراد استثنائيون بين البشر دائماً، فأي مانع من أن يختصر الله هذه المرحلة لبعض عباده لمصالح ما، ويجعلها تتلخص في سنوات أقل؟ كما أن مرور سنة أو سنتين على الولادة أمر محتم من أجل التمكن من النطق عادة، في حين أنّنا نعلم أنّ عيسى(عليه السلام) قد تكلم في أيّامه الأُولى، وكان كلاماً عميق المحتوى من شأنه أن يصدر ـ عادة عن أناس كبار في السن، كما سيأتي في تفسير الآيات القادمة إِن شاء الله تعالى.

من هنا يتّضح عدم صحة الإِشكال الذي طرحه بعض الأفراد حول بعض أئمة الشيعة، بأنّه كيف تسلّم بعضهم أُمور الإِمامة في سن صغيرة؟

نطالع في رواية عن علي بن أسباط، أحد أصحاب الإِمام الجواد محمّد بن علي النقي(عليه السلام) أنّه قال: رأيت أبا جعفر(عليه السلام) وقد خرج عليّ، فأجدت النظر إِليه، وجعلت أنظر إِلى رأسه ورجليه لأصف قامته لأصحابنا بمصر، فبينا أنا كذلك قعد فقال: «يا عليّ، إِنّ الله احتج في الإِمامة بمثل ما احتج به في النّبوة، قد يقول (وآتيناه الحكم صبياً)، وقد يقول (ولما بلغ أشده وبلغ أربعين سنة) فقد يجوز أن يؤتى الحكمة وهو صبي، ويجوز أن يؤتى الحكمة وهو ابن أربعين»(2).

كما أنّ هذه الإية تتضمن جواباً مفحماً لأُولئك المعترضين الذين يقولون: إِنّ علياً(عليه السلام) لم يكن أوّل من آمن بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من الرجال، لأنّه كان ابن عشر سنين في ذلك اليوم، ولا يقبل إِيمان صبي في العاشرة من عمره!

____________________________

1 ـ تفسير البرهان، ج3، ص 7.

2 ـ نور الثقلين، الجزء 3، ص 325.

[420]

ولا بأس من ذكر الرّواية الشريفة عن الإِمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام)، وهي أن جماعة من الأطفال قالوا للرضا(عليه السلام) أيّام طفولته: أذهب بنا نلعب، قال: «ما للعب خلقنا» وهذا ما أنزل الله تعالى (وآتيناه الحكم صبيّاً)(1).

يجب الإِلتفات إِلى أن اللعب هنا هو الإِشتغال بما لا فائدة فيه، وبتعبير آخر لا هدف يطلب منه، لكن قد يستتبع اللعب واللهو ـ أحياناً ـ هدفاً منطقياً وعقلائياً ويسعى إِليه، فمن البديهي أن لهذا اللعب حكماً مستثنى.

4 ـ شهادة يحيى

لم تكن ولادة يحيى عجيبة ومذهلة لوحدها، بل إِنّ موته أيضاً كان عجيباً من عدّة جهات، وقد ذكر أغلب المؤرخين المسلمين، وكذلك المصادر المسيحية، مجرى هذه الشهادة على هذه النحو، بالرغم من وجود اختلاف يسير في خصوصياتها بين هذه المراجع:

لقد أصبح يحيى ضحية للعلاقات غير الشرعية لأحد طواغيت زمانه مع أحد محارمه، حيث تعلق «هروديس» ملك فلسطين اللاهث وراء شهواته ببنت أخته «هروديا» وهام في غرامها، وألهب جمالها قلبه بنار العشق، ولذلك صمم على الزواج منها!

فبلغ هذا الخبر نبي الله العظيم يحيى(عليه السلام)، فأعلن بصراحة أنّ هذا الزواج غير شرعي ومخالف لتعليمات التوراة، وسأقف امام مثل هذا العمل.

لقد انتشر صخب وضوضاء هذه المسألة في كل أرجاء المدينة، وسمعت تلك الفتاة (هيروديا) بذلك، فكانت ترى يحيى أكبر عائق في طريقها، ولذلك صممت على الإِنتقام منه في فرصة مناسبة لترفع هذا المانع من طريق شهواتها وميولها، فعمقت علاقتها بخالها ووطدتها، وجعلت من جمالها مصيدة له، وقد

____________________________

1 ـ نور الثقلين، الجزء 3، ص 325.

[421]

ملكت عليه كل مشاعره وأحاسيسه، إِلى أن قال لها هيروديس يوماً: اطلبي منّي كل ما تريدين فسأحققه لك قطعاً، فقالت هيروديا: لا أريد منك إِلاّ رأس يحيى! لأنّه قد شوّه سمعتي وسمعتك، وقد أصبح كل الناس يعيروننا، فإِنّ كنت تريد أن يهدأ قلبي ويسر خاطري فيجب أن تقوم بهذا العمل!

فسلّم هيروديس ـ الذي أصبح مجنوناً لا يعقل من عشق هذه المرأة ـ لما أرادت من دون أن يفكر ويتنبه إِلى عاقبة هذا العمل، ولم يمض قليل من الزمن حتى أُحضر رأس يحيى عند تلك المرأة الفاجرة، إِلاّ أنّ عواقب هذا العمل الشنيع قد أحاطت به، وأخذت بأطرافه في النهاية(1).

ونقرأ في الرّوايات أن سيد الشهداء الإِمام الحسين(عليه السلام) كان يقول: «إنّ من هوان الدنيا أن يهدى رأس يحيى بن زكريا إِلى بغي من بغايا بني إِسرائيل» أي إِن ظروفي تشابه من هذه الناحية ظروف وأحوال يحيى، لأنّ أحد أهداف ثورتي محاربة الأعمال المخزية لطاغوت زماني يزيد.

* * *

____________________________

1 ـ يستفاد من بعض الأناجيل وقسم من الرّوايات أنّ هيروديس قد تزوج امرأة أخيه، وقد كان هذا الزواج ممنوعاً في قانون التوراة، وقد لامه يحيى على هذا العمل بشدّة، ثمّ أن تلك المرأة حملت هيروديس على قتل يحيى بإِغرائه بجمال بنتها. إِنجيل متى باب 14، إِنجيل مرقس باب 6، الفقرة 17 وما بعدها.

[422]

الآيات

وَاذْكُرْ فِى الْكِتـبِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانَاً شَرْقِيّاً(16)فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيَّاً(17) قَالَتْ إِنِّى أَعُوذُ بِالرَّحْمـنِ مِنكَ إِن كُنْتَ تَقِيّاً(18)قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَِهَبَ لَكِ غُلَـماً زَكِيّاً(19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلـمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً(20) قَالَ كَذلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً(21)

التّفسير

ولادة عيسى (عليه السلام):

بعد ذكر قصّة يحيى(عليه السلام)، حولت الآيات مجرى الحديث إِلى قصّة عيسى(عليه السلام)لوجود علاقة قوية وتقارب واضح جداً بين مجريات هاتين الحادثتين.

فإِنّ كانت ولادة يحيى من أب كبير طاعن في السن وأم عقيم عجيبة، فإِن ولادة عيسى من أم دون أب أعجب!

[423]

وإِن كان الوصول إِلى مقام النّبوة وبلوغ العقل الكامل ـ في مرحلة الطفولة ـ باعثاً على الحيرة ومعجزاً، فإِنّ التحدث في المهد عن الكتاب والنّبوة أبعث على التعجب والحيرة، وأكثر إِعجازاً.

وعلى كل حال، فإِنّ كلا الأمرين آيتان على قدرة الله الكبير المتعال، إِحداهما أكبر من الأُخرى، وقد صادف أن تكون كلا الآيتين مرتبطتان بشخصين تربطهما أواصر نسب قوية، فكل منهما قريب للآخر من ناحية النسب، حيث أن أم يحيى كانت أخت أم مريم، وكانت كلاهما عقيمتين وتعيشان أمل الولد الصالح.

تقول الآية الأُولى: (واذكر في الكتاب مريم إِذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً) فقد كانت تبحث عن مكان خال من كل نوع من التشويش والضوضاء حتى لا يشغلها شيء عن مناجاتها ويصرفها ـ ولو حيناً ـ عن ذكر المحبوب، ولذلك اختارت شرقي بيت المقدس، ذلك المعبد الكبير، لعله يكون مكاناً أكثر هدوءاً، أو أنّه كان أنظف وأنسب من جهة أشعة الشمس ونورها.

كلمة «انتبذت» أخذت من مادة (نبذ) على قول الراغب، وهي تعني إِلقاء وإِبعاد الأشياء التي لا تسترعي الإِنتباه، وربّما كان هذا التعبير في الآية إِشارة إِلى أنّ مريم قد اعتزلت بصورة متواضعة ومجهولة وخالية من كل ما يجلب الإِنتباه، واختارت ذلك المكان من بيت الله للعبادة.

في هذه الأثناء من أجل أن تكمل مريم مكان خلوتها واعتكافها من كل جهة، فإِنّها (فاتخذت من دونهم حجاباً) ولم تصرح الآية بالهدف من اتّخاذ هذا الحجاب، فهل أنّه كان من أجل أن تناجي ربّها بحرية أكبر، وتستطيع عند خلو هذا المكان من كل ما يشغل القلب والحواس أن تتوجه إِلى العبادة والدعاء؟ أو أنّها كانت تريد اتخاذه من أجل الغسل والإِغتسال؟ الآية ساكتة من هذه الجهة.

على كل حال، (فأرسلنا إِليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً) والروح أحد

[424]

الملائكة العظام حيث تجسّد لمريم على شكل انسان جميل لا عيب فيه  ولا نقص.

إِنّ الحالة التي اعترت مريم في تلك اللحظة واضحة جدّاً، فمريم التي عاشت دائماً نقية الجيب، وتربّت في أحضان الطاهرين، وكان يضرب بها المثل بين الناس في العفة والتقوى ... كم داخلها من الرعب والإِضطراب عند مشاهدة هذا المنظر، وهو دخول رجل أجنبي جميل في محل خلوتها! ولذلك فإِنّها مباشرة (قالت إِنّي أعوذ بالرحمن منك إِن كنت تقياً) وكانت هذه أوّل هزّة عمّت كل وجود مريم.

إِنّ ذكر اسم الرحمان، ووصفه برحمته العامّة من جهة، وترغيب الرجل في التقوى والإِمتناع عن المعصية من جهة أُخرى، كان من أجل أن يرتدع هذا الشخص المجهول إِن كانت له نيّة سيئة في ارتكاب المعصية، والأهم من ذلك كله هو الإِلتجاء إِلى الله، فالله الذي يلتجىء إِليه الإِنسان في أحلك الظروف، ولا تقف أية قدرة أمام قدرته، هو الذي سيحل المعضلات.

لقد كانت مريم تنتظر رد فعل ذلك الشخص المجهول بعد أن تفوهت بهذه الكلمات انتظاراً مشوباً بالإِضطراب والقلق الشديد، إِلاّ أنّ هذه الحالة لم تطل، فقد كلمها ذلك الشخص، ووضّح مهمته ورسالته العظيمة (قال إِنّي رسول ربّك).

لقد كانت هذه الجملة كالماء الذي يلقى على النار، فقد طمأنت قلب مريم الطاهر، إِلاَّ أنَّ هذا الإِطمئنان لم يدم طويلا; لأنّه أضاف مباشرة (لأهب لك غلاماً زكياً).

لقد اهتز كيان ووجود مريم لدى سماع هذا الكلام، وغاصت مرّة أُخرى في قلق شديد (قالت أني يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً).

لقد كانت تفكر في تلك الحالة في الأسباب الطبيعية فقط، وكانت تظن أن المرأة يمكن أن يكون لها ولد عن طريقين لا ثالث لهما: إِمّا الزواج أو التلوّث بالرذيلة والإِنحراف، وإِنّي أعرف نفسي أكثر من أي شخص آخر، فإِنّي لم أختر

[425]

زوجاً لحد الآن، ولم أكن امرأة منحرفة قط، ولم يسمع لحد الآن أنّ شخصاً يولد له ولد من غير هذين الطريقين!

إِلاَّ أنَّ أمواج هذا القلق المتلاطمة هدأت بسرعة عند سماع كلام آخر من رسول الله إِليها، فقد خاطب مريم بصراحة: (قال كذلك قال ربّك هو علي هين)فأنت الواقفة على قدرتي والعالمة بها جيداً.. أنت التي رأيت ثمر الجنّة في فصل لا يوجد شبيه لتلك الفاكهة في الدنيا جنب محراب عبادتك. أنت التي سمعت نداء الملائكة حين شهدت بعفتك وطهارتك .. أنت التي تعلمين أنّ جدك آدم قد خلق من التراب، فلماذا هذا التعجب من سماعك هذا الخبر؟

ثمّ أضاف: (ولنجعله آية للناس ورحمة منّا) فنحن نريد أن نبعثه للناس رحمة من عندنا، ونجعله معجزة، وعلى كل حال (وكان أمراً مقضياً). فلا مجال بعد ذلك للمناقشة.

* * *

بحثان

1 ـ ما هو المراد من روح الله؟

إِنّ كل المفسّرين المعروفين تقريباً فسّروا الروح هنا بأنّه جبرئيل ملك الله العظيم، والتعبير عنه الروح لأنّه روحاني، ووجود مفيض للحياة، لأنّه حامل الرسالة الإِلهية إِلى الأنبياء وفيها حياة جميع البشر اللائقين، وإِضافة الروح هنا إِلى الله دليل على عظمة وشرف هذا الروح، حيث أنّ من أقسام الإِضافة هي (الإِضافة التشريفية).

ويستفاد من هذه الآية بصورة ضمنية أنّ نزول جبرئيل لم يكن مختصاً بالأنبياء، وإِن كان نزوله بالوحي والشريعة والكتب السماوية منحصراً فيه، إلاّ أنّه لا مانع من أن يواجه غير الأنبياء من أجل تبليغ رسائل وأوامر أُخرى، كرسالته المذكورة إِلى مريم.

[426]

2 ـ ما هو التمثل؟

«التمثل» في الأصل من «المثول»، أي الوقوف مقابل شخص أو شيء، ويقولون للشيء الذي يظهر بصورة أُخرى: ممثلا، وعلى هذا فإِنّ قوله: (تمثل لها بشراً سوياً) تعني أن ذلك الملك قد ظهر بصورة إِنسان.

ولا شك أنّ هذا الكلام لا يعني أن جبرئيل قد تبدل إِلى إِنسان شكلا وسيرة، لأنّ مثل هذا التحول والتبدل أمر غير ممكن، بل المراد أنّه ظهر بصورة إِنسان بالرغم من أنّ سلوكه كان نفس ذلك السلوك الملائكي، إِلاّ أنّ مريم التي لم تكن تعلم بالأمر في البداية، كانت تظن أن في مقابلها إِنساناً سيرة وصورة.

وتلاحظ كثيراً في الرّوايات والتواريخ كلمة «تمثل» بمعناها الواسع، ومن جملتها: إِنّ إِبليس لما اجتمع المشركون في «دار الندوة» وكانوا يخططون لقتل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ظهر بصورة شيخ كبير حصيف الرأي، يهدف إِلى الخير وشرع بإِغواء رؤساء قريش.

أو أنّ الدنيا وباطنها تمثلت للإمام علي(عليه السلام) على شكل أمراة في غاية الجمال والجذابية ولم تستطع أن تنفذ إِليه، وقصتها مفصّلة معروفة.

ونقرأ أيضاً في الرّوايات أنّ مال الإِنسان وولده وعمله تتجسم أمامه عند الموت بصورة مختلفة وخاصّة.

أو أنّ أعمال الإِنسان تتجسم في القبر ويوم القيامة، ويظهر كل منها بشكل خاص.

إِن التمثّل في جميع هذه الوارد يعني أن شيئاً أو شخصاً يظهر بشكل آخر من ناحية الصورة والشكل فقط، لا أن تتبدّل ماهيته وباطنة(1).

* * *

____________________________

1 ـ تفسير الميزان، ج14، ص 37.

[427]

الآيات

فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً(22) فَأَجَآءَهَا الَْمخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يـلَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هـذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَّنسِيّاً(23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً(24) وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسْـقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً(25) فَكَلِى وَاشْرَبِى وَقَرِّى عَيْناً فَإِمَّا تَرِيَنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُوِلى إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمـنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمِ إِنْسِيّاً(26)

التّفسير

مريم في عاصفة:

وأخيراً حملت مريم، واستقر ذلك الولد الموعود في رحمها: (فحملته)ولم يتحدث القرآن عن كيفية نشوء وتكوّن هذا المولود، فهل أنّ جبرئيل قد نفخ في ثوبها، أم في فمها؟ وذلك لعدم الحاجة إِلى هذا البحث، بالرغم من أنّ كلمات المفسّرين مختلفة في هذا الشأن.

وعلى كل حال، فإِنّ هذا الأمر قد تسبب في أن تبتعد عن بيت المقدس (فانتبذت به مكاناً قصياً).

[428]

لقد كانت تعيش في حالة بين الخوف والأمل، حالة من القلق والإِضطراب المشوب بالسرور، فهي تفكر أحياناً بأن هذا الحمل سيفشو أمره في النهاية، فالأفضل أن أبقى بعيدة عن أُولئك الذين يعرفونني عدّة أيّام أو أشهر، وأعيش في هذا المكان بصورة مجهولة، وماذا سيحدث في النهاية؟

فمن الذي سيقتنع بأنّ إمرأة لا زوج لها تحمل دون أن تكون قد تلوثت بالرذيلة؟ فماذا سأفعل تجاه هذا الإِتهام؟ والحق أنّ من المؤلم جدّاً بالنسبة لفتاة كانت لسنين طويلة نموذجاً وقدوة للطهارة والعفة والتقوى والورع، ومثالا في العبادة والعبودية لله، وكان زهاد بني إِسرائيل يفتخرون بكفالتها منذ الطفولة، وقد تربت وترعرعت في ظل نبي كبير، وقد شاع أمر سجاياها وقداستها في كل مكان، أن تحس في يوم ما أن كل هذا الرصيد المعنوي مهدد بالخطر، وستكون غرضاً ومرمى لاتهام يعتبر أسوء وأقبح اتهام، وكانت هذه هي المصيبة الثّالثة التي وقعت لها.

إِلاّ أنّها من جهة أُخرى كانت تحس أنّ هذا المولود، نبي الله الموعود، تحفة سماوية نفيسة، فإِنّ الله الذي بشرني بمثل هذا الغلام، وخلقه بهذه الصورة الإِعجازية كيف سيذرني وحيدة؟ فهل من المعقول أن لا يدافع عني في مقابل مثل هذا الإِتهام؟ أنا التي رأيت وجربت لطفه على الدوام، وأحسست بيد رحمته على رأسي.

وهناك بحث بين المفسّرين في مدّة حمل مريم، بالرغم من أنّه ذكر في القرآن بصورة مخفية ومبهمة، فبعضهم حسبه ساعة واحدة، وآخر تسع ساعات، وثالث ستة أشهر، ورابع سبعة، وآخر ثمانية، وآخر تسعة أشهر كسائر النساء، إِلاّ أن هذا الموضوع ليسَ له ذلك التأثير في هدف هذه القصّة. والرّوايات الواردة في هذا المجال مختلفة أيضاً.

وقد اعتقد الكثيرون أنّ المكان «القصي» هو مدينة «الناصرة» وربّما بقيت

[429]

في تلك المدينة بصورة دائماً وقلّما خرجت منها.

ومهما كان فقد انتهت مدّة الحمل، وبدأت لحظات تلاطم أمواج حياة مريم، وقد دفعها ألم الولادة الشديد الذي هاج فيها إِلى ترك الأماكن المعمورة والتوجه إِلى الصحاري الخالية من البشر، والقاحلة التي لا عشب فيها ولا ماء ولا مأوى.

ومع أن النساء يلجأن عادة في مثل هذه الحالة إِلى المعارف والأصدقاء ليساعدوهّن على الولادة، إِلاّ أن وضع مريم لما كان استثنائياً، ولم تكن تريد أن يرى أحد وضع حملها مطلقاً، فإِنّها اتّخذت طريق الصحراء بمجرّد أن بدأ ألم الولادة ويقول القرآن في ذلك: (فأجاءها المخاض إِلى جذع نخلة).

إِنّ التعبير بجذع النخلة، وبملاحظة أن الجذع يعني بدن الشجرة، يوحي بأنّه لم يبق من تلك الشجرة إِلاّ جذعها وبدنها، أي إِنّ الشجرة كانت يابسة(1).

في هذا الحال غمر كل وجود مريم الطاهر سيل من الغم والحزن، وأحسست بأنّ اللحظة التي كانت تخشاها قد حانت، اللحظة التي مهما أخفيت فإِنّها ستتضح هناك، وسيتجه نحوها سيل سهام الإِتهام التي سيرشقها بها الناس.

لقد كان هذا الإضطراب والصراع صعباً جدّاً، وقد أثقل كاهلها إِلى الحد الذي تكلمت فيه بلا إِرادة و (قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً).

إِنّ من البديهي أنّ الخوف من التهم في المستقبل لم يكن الشيء الوحيد الذي كان يعصر قلب مريم ويقلقها، وإِن كان هذا الموضوع يشغل فكر مريم أكثر من أية مسألة أُخرى، إِلاّ أنّ مشاكل ومصائب أُخرى كوضع الحمل لوحدها بدون قابلة وصديق ومعين في الصحاري الخالية، وعدم وجود مكان للإِستراحة، وعدم وجود الماء للشرب، والطعام للأكل، وعدم وجود وسيلة لحفظ المولود الجديد، وغير هذه الأُمور كانت تهزّها من الأعماق بشدّة.

قد يتساءل البعض باعتراض: كيف أنّ مريم المؤمنة والعارفة بالتوحيد

____________________________

1 ـ «جذع» على وزن «ذِبْح» في الأصل من مادة «جَذَع» على وزن «منع» بمعنى القطع.

[430]

حيث رأت كل ذلك اللطف والإِحسان الإِلهي، أجرت مثل هذه الجملة على لسانها وقالت: (ياليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً)، إلاّ أنّ هؤلاء  لم يدركوا أبداً حال مريم في تلك الساعة، ولو أنّهم أصابهم شيء قليل من هذه المشاكل فإِنّهم سينسون حتى أنفسهم.

إِلاَّ أنّ هذه الحالة لم تدم طويلا، فقد سطعت ومضة الأمل التي كانت موجودة دائماً في أعماق قلبها، وطرق سمعها صوت (فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربّك تحتك سريا) وانظري إِلى الأعلى كيف أن هذا الجذع اليابس قد تحول إِلى نخلة مثمرة (وهزي إِليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً فكلي واشربي وقري عيناً) بالمولود الجديد (فإِمّا ترين من البشر أحداً فقولي إِنّي نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إِنسياً). وهذا الصوم هو المعروف بصوم السكوت.

وخلاصة الأمر، إنّكِ لا تحتاجين إِلى الدفاع عن نفسك، فإِنّ الذي وهبك هذا الوليد قد تعهد بمهمّة الدفاع عنك أيضاً، وعلى هذا فليهدأ روعك من كل الجهات، ولا تدعي للهم طريقاً إِلى نفسك.

إِن هذه الحوادث المتلاحقة التي سطعت كالشرر المضيء الوهاج في الظلام الدامس، قد أضاءت كل أرجاء قلبها، وألقت عليها الهدوء والإِطمئنان.

* * *

بحوث

1 ـ ازدياد قوة مريم عند تراكم المشاكل

إِنّ الحوادث التي مرّت على مريم في هذه المدّة القصيرة، والمشاهد والمواقف التي تثير الإِعجاب، والتي حدثت لها بلطف الله، كانت تهيؤها وتعدها من أجل تربية نبي من أولي العزم، ولتستطيع أن تؤدي وظيفة الأُمومة من خلال

[431]

هذا الأمر الخطير على أحسن وجه.

إِنّ سير الأحداث صاحبها حتى آخر مرحلة، بحيث لم يبق بينها وبين الموت إِلاّ خطوة واحدة، لكن فجأة يرجع كل شيء إِلى وضعه، ويهّب كل شيء لمساعدتها، وتخطو في محيط هادىء مطمئن من كل الجهات.

جملة (وهزي إِليك بجذع النخلة) التي تأمر مريم بتحريك النخلة لتستفيد من ثمرها، أعطت درساً لها ولكل البشر، بأن لا يكفوا عن الجد والسعي حتي في أشد لحظات الحياة وأصعبها.

إِنّه جواب لاُولئك الذين يسألون عن الحاجة بأنّ مريم التي وضعت حملها لتوها تقوم وتهزّ النخلة، ألم يكن من الأُولى أن يرسل الله ـ الذي ـ بعث عين الماء العذب قرب مريم تلك الشجرة اليابسة ـ نسمة وريحاً تهزّ النخلة وتسقط الثمر قرب مريم؟ فما الذي حدث، حيث أن مريم عندما كانت سالمة صحيحة كانت تحضر الفاكهة جنب محرابها، أمّا الآن وقد ابتليت بكل هذه المشاكل فإِنّ عليها أن تقطف الثمر بنفسها؟

أجل، إِن هذا الأمر الإلهي لمريم يوضح أنّه لا بركة بدون حركة، وبتعبير آخر، فإِن على كل إِنسان أن يبذل قصارى جهده عند ظهور المشاكل، وما وراء ذلك فعلى الله.

2 ـ لماذا طلبت مريم الموت من الله؟

لا شك أن طلب الموت من الله عمل غير صحيح، إِلاّ أنّه قد تقع حوادث في حياة الإِنسان يصبح فيها طعم الحياة مرّاً، وخاصّة إِذا رأى الإِنسان أهدافه المقدسة أو شرفه وشخصيته مهددة بالخطر، ولا يملك قدرة الدفاع عن نفسه أمامها، وفي مثل هذه الظروف يتمنى الإِنسان الموت للخلاص من العذاب الروحي.

[432]

لقد خطرت في ذهن مريم في اللحظات الأُولى هذه الأفكار، وتصورت بأن كل وجودها وكيانها وماء وجهها مهدد بالخطر أمام هؤلاء الناس الجهلاء نتيجة ولادة هذا المولود، وفي هذه اللحظات تمنت الموت، وهذا بحد ذاته دليل على أنّها كانت تحب عفتها وطهارتها وتهتم بهما أكثر من روحها، وتعتبر حفظ ماء وجهها أغلى من حياتها.

إِلاّ أنّ مثل هذه الأفكار ربّما لم تدم إِلاّ لحظات قصيرة جدّاً، ولما رأت ذينك المعجزتين الإِلهيتين ـ إِنبعاث عين الماء، وحمل النخلة اليابسة ـ زالت كل تلك الأفكار عن روحها، وغمر قلبها نور الإِطمئنان الهدوء.

3 ـ سؤال وجواب

يسأل البعض: إِنّ المعجزة إِذا كانت مختصة بالأنبياء والأئمّة(عليهم السلام)، فكيف ظهرت مثل هذه المعجزات لمريم؟

وقد اعتبر بعض المفسّرين ـ حلا لهذا الإِشكال ـ هذه المعاجز جزءاً من معاجز عيسى تحققت كمقدمة، ويعبرون عن ذلك بالإِرهاص.

إِلاّ أنّه لا حاجة لجواب كهذا أبداً، لأنّه لا مانع مطلقاً من ظهور الأُمور الخارقة للعادة لغير الأنبياء والأئمّة، وهذا هو الذي نسميه بالكرامة.

إِنّ المعجزة هي عمل يقترن بالتحدي، وتكون مقترنة بادعاء النّبوة والإِمامة.

4 ـ صوم الصمت

يدل ظاهر الآيات أعلاه على أنّ مريم كانت مأمورة بالسكوت لمصلحة، وأن تمتنع عن الكلام بأمر الله في هذه المدّة المعينة، حيت تتحرك شفتا وليدها عيسى بالكلام ويدافع عن عفتها، وهذا أكثر تأثيراً من كل الجهات.

ويظهر من تعبير الآية أن نذر السكوت كان أمراً معروفاً في ذلك المجتمع،

[433]

ولهذا لم يعترضوا عليها على هذا العمل. غير أنّ هذا النوع من الصوم غير جائز في شريعتنا.

ورد عن علي بن الحسين(عليه السلام) في حديث: «صوم السكوت حرام»(1)، وذلك لاختلاف الظروف في ذلك الزمان عن ظروف زمن ظهور الإِسلام.

إِلاّ أن أحد آداب الصوم الكامل في الإِسلام أن يحفظ الإِنسان لسانه من التلوّث بالمعاصي والمكروهات خلال صيامه، وكذلك يصون عينه من الزلل والذنب، كما نقرأ ذلك في حديث عن الإِمام الصادق(عليه السلام): (إِنّ الصوم ليس من الطعام والشراب وحده، إِن مريم قالت: إِنّي نذرت للرحمن صوماً، أي صمتاً، فاحفظوا ألسنتكم، وغضوا أبصاركم، ولا تحاسدوا ولا تنازعوا»)(2).

5 ـ غذاء مولد للطاقة

إِستفاد المفسّرون ممّا جاء صريحاً في هذه الآيات، أنّ الله سبحانه قد جعل غذاء مريم حين ولادة مولودها الرطب، فهو من أفضل الأغذية للنساء بعد وضع الحمل، وفي الأحاديث الإِسلامية إِشارة صريحة إِلى ذلك أيضاً:

فيروي أمير المؤمنين علي(عليه السلام) عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «ليكن أول ما تأكل النفساء الرطب، فإِن الله عزَّ وجلّ قال لمريم(عليهما السلام): (وهزي إِليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً)(3).

ويستفاد من آخر الحديث أن تناول هذا الغذاء لا يؤثر ويفيد الأُم فقط، بل إِنّه سيؤثر حتى في لبنها، وحتى أن بعض الرّوايات تؤكّد على أن أفضل غذاء ودواء للحامل هو الرطب: «ما تأكل الحامل من شيء ولا تتداوى به أفضل من

____________________________

1 ـ وسائل الشيعة، الجزء 7، ص 390.

2 ـ من لا يحضره الفقيه، حسب نقل تفسير نور الثقلين، الجزء 3، ص 332.

3 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 330.

[434]

الرطب».(1)

إِلاّ أن من المسلّم أن الإِعتدال والتوسط في كل شيء يجب أن يراعى حتى في هذه المسألة، كما يستفاد ذلك من بعض الرّوايات الواردة في هذا المجال. ويستفاد أيضاً أنّ الرطب إِن لم يكن موجوداً، فلا بأس بأكل التمر المتعارف.

يقول علماء التغذية: إِنّ السكر الكثير الموجود في التمر من أصح السكريات وأسلمها، وحتى المبتلين بمرض السكر فإِنّهم يستطيعون تناول التمر.

ويقول هؤلاء العلماء: إنّ في التمر (13) مادة حيوية، واكتشفوا خمسة أنواع من الفيتامينات، جمعها التمر وأظهرها على هيئة مصدر غذائي غني(2)، ونحن نعلم أن النساء في مثل هذه الأوضاع بحاجة شديدة إِلى غذاء يولد الطاقة ومليء بالفيتامينات.

لقد ثبتت أهمية التمر بتقدم علم الطب، ففي التمر يوجد «الكالسيوم»، وهو عامل مهم في تقوية العظام، وكذلك يوجد «الفسفور» وهو من العناصر الأساسية في تكوين المخ، ويمنع من ضعف الأعصاب والتعب، وكذلك يوجد «البوتاسيوم» الذي يسبب فقدانه في قرحة المعدة(3).

* * *

____________________________

1 ـ المصدر السّابق.

2 ـ من كتاب أول جامعة وآخر نبي، الجزء 7، ص 65.

3 ـ المصدر السابق.

[435]

الآيات

فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يـمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئَاً فَرِيّاً(27)يـأُخْتَ هَـرُونَ مَا كَانَ أَبوُكِ امْرَأَ سَوْء وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً(28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِيّاً(29) قَالَ إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ ءَاتـنِىَ الْكِتـبَ وَجَعَلَنِى نَبِيّاً(30)وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصـنِى بِالصَّلـوةِ والزَّكَوةِ مَادُمْتُ حَيّاً(31) وَبَرَّاً بِولِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبّاراً شَقِيّاً(32)وَالسَّلمُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً(33)

التّفسير

المسيح يتكلم في المهد:

وأخيراً رجعت مريم(عليها السلام) من الصحراء إِلى المدينة وقد احتضنت طفلها (فأتت به قومها تحمله) فلمّا رأوا طفلا حديث الولادة بين يديها فغروا أفواههم تعجباً، فقد كانوا يعرفون ماضي مريم الطاهر، وكانوا قد سمعوا بتقواها وكرامتها، فقلقوا لذلك بشدّة، حيت وقع شك بعضهم وتعجّل آخرون في القضاء والحكم

[436]

وأطلق العنان للسانه في توبيخها وملامتها، وقالوا: إِن من المؤسف هذا الإِنحدار مع ذلك الماضي المضيء، ومع الأسف على تلوّث سمعه تلك الأسرة الطاهرة (قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً)(1).

والبعض الآخر واجهها، بالقول: (يا أخت هارون ما كان أبوك امرء سوء وما كانت أُمك بغياً) فمع وجود مثل هذا الأب والأُم الطاهرين، ما هذا الوضع الذي نراك عليه؟ فأي سوء رأيت في سلوك الأب وخلق الأُم حتى تحيدي عن هذا الطريق؟

قولهم لمريم: (يا أخت هارون) وقع مثار الإِختلاف بين المفسّرين، لكن يبدو أنّ الأصح هو أنّ هارون رجل طاهر صالح إِلى الدرجة التي يضرب به المثل بين بني إِسرائيل، فإذا أرادوا أن يصفوا شخصاً بالطهارة والنزاهة، كانوا يقولون: إِنّه أخو أو أخت هارون، وقد نقل العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان هذا المعنى في حديث قصير عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)(2).

وفي حديث آخر ورد كتاب سعد السعود، عن المغيرة، أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بعثه إِلى نجران لدعوتهم الى الإِسلام فقالوا (معترضين على القرآن): ألستم تقرؤون (يا أخت هارون) وبينهما كذا وكذا» (حيث تصوروا أنّ المراد هو هارون أخو موسى) فلمّا لم يستطع المغيرة جوابهم ذكر ذلك للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: «ألا قلت لهم: إِنّهم كانوا يسمّون بأنبيائهم والصالحين منهم»(3) أي ينسبون الاشخاص الصالحين منهم الى الأنبياء.

في هذه الساعة، سكتت مريم بأمر الله، والعمل الوحيد الذي قامت به، هو أنّها أشارت إِلى وليدها (فأشارت إِليه). إِلاَّ أنّ هذا العمل جعل هؤلاء يتعجبون

____________________________

1 ـ «فرياً» بناء على قول الراغب في المفردات ـ جاءت بمعنى العظيم أو العجيب، وفي الأصل من مادة فري، أي قص وقطع الجلد إِمّا لإِصلاحه أو إِفساده.

2 ـ نور الثقلين، الجزء 3، ص 333.

3 ـ المصدر السّابق.

[437]

أكثر، وربما حمل بعضها على السخرية، ثمّ غضبوا فقالوا: مع قيامك بهذا العمل تسخرين من قومك أيضاً؟ (قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً).

لقد بحث المفسّرون هنا وتناقشوا كثيراً في شأن كلمة «كان» الدالة على الماضي، إِلاَّ أنّ الظاهر هو أن هذه الكلمة تشير هنا إِلى ثبوت ولزوم وصف موجود، وبتعبير أوضح: إِنّ هؤلاء قالوا لمريم: كيف نكلم طفلا كان ولا يزال في المهد؟

والشاهد على هذا المعنى آيات أُخرى من القرآن، مثل (كنتم خير أُمة أخرجت للناس) سورة آل عمران / 110، فمن المسلم أن «كنتم» لا تعني الماضي هنا، بل هي بيان لثبوت واستمرار هذه الصفات للمجتمع الإِسلامي.

وكذلك بحثوا حول «المهد»، فإِنّ عيسى لم يكن قد وُضع في المهد، بل إِنّ ظاهر الآيات هو أن مريم بمجرّد أن حضرت بين الناس، وفي الوقت الذي كان عيسى على يديها، جرى هذا الحوار بينها وبينهم.

إِلاّ أنّ الإِلتفات إِلى معنى كلمة «المهد» في لغة العرب سيوضح جواب هذا السؤال، فإِنّ كلمة المهد تعني ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ المكان الذي يهيؤونه للطفل، سواء كان المهد، أو حجر الأم، أو الفراش، والمهد والمهاد ورد كلاهما في اللغة بمعنى: المكان الممهد الموطأ، أي: للإِستراحة والنوم.

على كل حال، فإِنّ الناس قلقوا واضطربوا من سماع كلام مريم هذا، بل وربما غضبوا وقالوا لبعضهم البعض ـ حسب بعض الرّوايات ـ : إِنّ استهزاءها وسخريتها أشدّ علينا من انحرافها عن جادة العفة!

إِلاَّ أنّ هذه الحالة لم تدم طويلا، لأن ذلك الطفل الذي ولد حديثاً قد فتح فاه وتكلم: (قال إِنّي عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً وجعلني مباركاً أينما كنت)، ومفيداً من كل الجهات للعباد (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً).

[438]

وكذلك جعلني مطيعاً ووفياً لأُمي (وبرّاً بوالدتي(1) ولم يجعلني جباراً شقياً).

كلمة «جبار» تطلق على الشخص الذي يعتقد بأنّ له كل الحق على الناس ولا يعتقد بأنّ لأحد عليه حقاً.

وكذلك يطلقونها على الذي يضرب الناس ويقتلهم إِذا غضب، ولا يتبع ما يأمر به العقل، أو أنّه يريد أن يسد نقصه ويغطيه بادعاء العظمة والتكبر، وهذه كلها صفات بارزة للطواغيت المستكبرين في كل زمان(2).

و«الشقي» تقال للشخص الذي يهيء أسباب البلاء والعقاب لنفسه، وبعضهم فسر ذلك بالذي لا يقبل النصيحة، ومن المعلوم أن هذين المعنيين لا ينفصلان عن بضعهما.

ونقرأ في رواية، أن عيسى(عليه السلام) يقول «قلبي رقيق وأنا صغير في نفسي»(3)وهو إِشارة إِلى أن هذين الوصفين يقعان في مقابل الجبار والشقي.

وفي النهاية يقول هذا المولود ـ أي المسيح ـ (والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً) وكما قلنا في شرح الآيات المتعلقة بيحيى(عليه السلام)، فإِنّ هذه الأيّام الثلاثة في حياة الإِنسان أيّام مصيرية خطرة، لا تتيسر السلامة فيها إِلاّ بلطف الله، ولذلك جاءت هذه الآية في حق يحيى(عليه السلام) كما وردت في شأن المسيح(عليه السلام)، مع الإِختلاف بأنّ الله هو الذي قالها في المورد الأوّل، أمّا في المورد الثّاني فإِنّ المسيح قد طلب ذلك.

* * *

____________________________

1 ـ البَر ـ بالفتح ـ بمعنى الشخص المحسن، في حين أن البِر ـ بالكسر ـ بمعنى صفة الإِنسان، وينبغي الإِلتفات إِلى أن هذه الكلمة في الآية عطف على (مباركاً) لا على الصلاة والزكاة، والمعنى في الواقع: جعلني برا بوالدتي.

2 ـ لزيادة التوضيح حول (جبار)، وجواب هذا السؤال، وهو أنّه كيف تكون إِحدى صفات الله سبحانه أنّه جبار؟ يراجع ذيل الآية (59) من سورة هود من هذا التّفسير.

3 ـ تفسير الفخر الرازي، آخر الآية.

[439]

بحوث

1 ـ أوضح تصوير عن ولادة عيسى (عليه السلام)

يمكن إِدراك فصاحة وبلاغة القرآن الكريم، وخاصّة في مثل هذه الموارد، وذلك عند ملاحظة طريقة طرحه لمسألة مهمّة اختلطت بكل تلك الخرافات، في عبارات قصيرة وعميقة، وحية، وغنية المحتوى، وناطقة تماماً، بحيث تطرح جانباً كل أنواع الخرافات.

الملفت للنظر أنّ الآيات المذكورة ذكرت «سبع صفات» ممتازة و«برنامجان» و«دعاء واحد».

فالصفات السبعة عبارة عن كونه «عبداً لله» وذكرها في بداية كل الصفات إِشارة إِلى أن أعلى وأكبر مقام يصله الإِنسان هو مقام العبودية.

وبعد ذلك، كونه «صاحب كتاب سماوي» ثمّ «مقام النبوة» (مع العلم أن مقام النبوة لا يقترن دائماً بالمجيء بكتاب سماوي).

وبعد مقام العبودية والإِرشاد، ذكر كونه «مباركاً» أي مفيداً لوضع المجتمع، وفي حديث عن الإِمام الصادق(عليه السلام) نقرأ أن معنى المبارك: «النفّاع»، أي كثير المنفعة.

ثمّ ذكرت الآيات كونه «باراً بأُمه» وفي النهاية أنّه «لم يكن جباراً شقياً» بل كان متواضعاً، عارفاً بالحق، وسعيداً.

ومن بين جميع البرنامج الالهي للإِنسان تؤكّد الآية على وصية الله سبحانه بالصلاة والزكاة، وذلك للأهمية الفائقة لهذين الأمرين، لأنّهما رمز الإِرتباط بالخالق والخلق، ويمكن تلخيص كل البرامج والأهداف الدينية والمذهبية فيهما، لأن أحدهما يشخصّ ارتباط الإِنسان بالخلق، والآخر يشخصّ ارتباطه بالخالق.

وأمّا الدعاء الذي دعاه لنفسه، ويرجوه فيه من ربّه في بداية عمره، فهو أن يجعل هذه الأيّام الثلاثة سلاماً عليه: يوم الولادة، ويوم الموت، واليوم الذي

[440]

يبعث فيه، وأن يمن عليه في هذه المراحل الثلاثة بالشعور بالأمن والطمأنينة!

2 ـ منزلة الأم

بالرغم من أنّ المسيح(عليه السلام) قد ولد بأمر الله النافذ من امرأة بدون زوج، إِلاَّ أنّ ما نقرأه في الآيات ـ محل البحث ـ عن لسانه، والذي يعدّ فيه «ضمن تعداده لميزاته وأوسمته» برّه بأُمه، دليل واضح على أهمية مقام الأم، وهي توضح بصورة ضمنية أنّ هذا الطفل الصغير ـ الذي نطق بالإِعجاز ـ كان عالماً ومطلعاً على أنّه ولد نموذجي بين البشر، وأنّه ولد من أمه فقط دون أن يكون للأب دخل في تكونه وولادته.

وعلى كل حال، فبالرغم من أنّ ثقافة العصر الحاضر فيها الكثير من الحديث عن مقام ومكانة الأُم، حتى أنّه خصص يوماً وسمي بـ (يوم الأم)، إِلاّ أن التطور الآلي ـ وللأسف الشديد ـ يقطع بسرعة علاقة الآباء والأمهات بالأولاد بحيث يلاحظ ضعف الروابط العاطفية بين هؤلاء في السنين المتقدمة من أعمارهم.

ولدينا في الإِسلام روايات تثير العجب والحيرة في هذا الباب، توصي المسلمين بالأم وتشيد بمكانتها الفائقة الأهمية، وتأمرهم أن يسعوا عملياً ـ وليسَ في الكلام وحسب ـ في برّ الوالدين، فنطالع في حديث عن الإِمام الصادق(عليه السلام): «إن رجلا أتى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: يا رسول الله، من أبرّ؟ قال: أُمك، قال: ثمّ من؟ قال: أُمك، قال: ثمّ من؟ قال: أُمك، قال: ثمّ من؟ قال: أباك»(1)!

وفي حديث آخر: أن رجلا أتى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) للجهاد ـ حيث لم يكن الجهاد واجباً عينياً ـ فقال: «ألك والدة»؟ قال: نعم، قال: «فألزمها فإنّ الجنّة تحت قدمها»(2).

____________________________

1 ـ وسائل الشيعة، الجزء 15، ص 207.

2 ـ جامع السعادات، ج 2، ص 261.

[441]

لا شك أنّنا إِذا لاحظنا ودققنا في المشقات والمتاعب التي تتقبلها وتتحملها الأُم من حين الحمل إِلى الوضع، وفي مرحلة الرضاعة إِلى أن يكبر الطفل، وكذلك العذاب والأتعاب والسهر في الليالي، والتمريض والرعاية، كل ذلك تقبلته بكل رحابة صدر وأنس في سبيل ولدها .. إِذا لاحظنا ذلك فسنرى أن الإِنسان مهما سعى وجدّ في هذا الطريق، فإِنّه سيبقى مديناً للام.

والجميل في الأمر نطالع في حديث، أن أُم سلمة قالت: يا رسول الله، ذهب الرجال بكل خير، فأي شيء للنساء؟ قال: النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «بلى، إِذ حملت المرأة كانت بمنزلة الصائم القائم المجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، فإِذا وضعت كان لها من الأجر ما لا يدري أحد ما هو لعظمه، فإِذا أرضعت كان لها بكل مصة كعدل عتق محرر من ولد إِسماعيل، فإِذا فرغت من رضاعه ضرب ملك كريم على جنبها وقال: استأنفي العمل فقد غفر لك»(1)! وكأن صحيفة عملك ستبدأ من جديد.

3 ـ إِنجاب البكر

من جملة الأسئلة التي تثيرها هذه الآيات، هو: هل يمكن من الناحية العلمية أن يولد ولد من دون أب؟ وهل أن مسألة ولادة عيسى(عليه السلام) دون أب تخالف تحقيقات العلماء في هذا المجال، أو لا؟

مما لا شك فيه أنّ هذه المسألة قد تمت عن طريق الإِعجاز، إِلاّ أنّ العلم اليوم لا ينفي إِمكان وقوع مثل هذا الأمر أيضاً، بل صرح بإِمكان ذلك، خاصّة وأن موضوع إِنجاب البكر قد لوحظ بين كثير من الحيوانات، وإِذا علمنا أن مسألة انعقاد النطفة لا تختص بالإِنسان، فإِنّ هذا يثبت إِمكان حدوث هذا الأمر بصورة عامّة.

____________________________

1 ـ الوسائل، الجزء 15، ص 175.

[442]

لقد كتب الدكتور «الكسيس كارل»، الفيزيائي وعالم الحياة الفرنسي المعروف، في كتاب «الإِنسان ذلك المجهول»، عندما نفكر في مقدار مساهمة كل من الأب والأم في تكوين أمثالهما، فيجب أن نتذكر تجارب (لوب) و (باتايون) بأنّه يمكن إِنتاج ضفدعة جديدة من بيضة ضفدعة غير ملقحة بدون تدخل الحيامن، بل بواسطة أساليب خاصّة.

وعلى هذا فإِنّ من الممكن أن يحل عامل كيمياوي أو فيزياوي محل حيمن الذكر، ولكن لابدّ على كل حال من وجود أحد العوامل كمادة ضرورية دائماً.

بناء على هذا، فإنّ المؤكّد من الناحية العلمية لتكوّن الجنين هو وجود نطفة الأُم (البيضة)، وإِلاّ فإنّ نطفة الذكر (الحيمن) يمكن أن يقوم مقامها عامل آخر، ولهذا فإِن مسألة حمل وولادة البكر من المسائل الواقعية التي يتقبلها ويعترف بها الأطباء في عالمنا المعاصر، وإِن كانت نادرة الحدوث.

وإِذا تجاوزنا ذلك، فإنّ هذه المسألة في مقابل قوانين الخلقة وقدرة الله، هي كما يصورها القرآن حيث يقول: (إِنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثمّ قال له كن فيكون)(1)، أي إنّ خرق العادة هذا ليس بأهم من خرق العادة الأوّل ذاك.

4 ـ كيف يتكلم الصبي؟

لا يخفى أنّ أي طفل حديث الولادة لا يتكلم في الساعات أو الأيّام الأُولى لولادته حسب الوضع الطبيعي المتعارف، فإنّ النطق يحتاج إِلى نمو المخ بالقدر الكافي، ثمّ تقوية عضلات اللسان والحنجرة، وانسجام أجهزة الجسم المختلفة

____________________________

1 ـ آل عمران، 59.

[443]

مع بعضها، وهذه الأُمور عادة تستغرق عدّة أشهر حتى تتهيأ تدريجياً عند الطفل.

إِلاّ أنّنا في المقابل لا نمتلك أي دليل علمي على استحالة هذا الأمر، غاية ما في الأمر أنّه خارق للعادة، وكل المعجزات تتصف بهذه الصفة، أي أنّها كلها خارقة للعادة، لا أنّها مستحيلة الوقوع، وقد ذكرنا تفصيل هذا الموضوع في بحث معجزات الأنبياء.

* * *

[444]

الآيتان

ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِى فِيهَ يَمْتَرُونَ(34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِن وَلَد سُبْحـنَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(35)

التّفسير

أيمكن أن يكون لله ولد!؟

بعد تجسيد القرآن الكريم في الآيات السابقة حادثة ولادة المسيح(عليه السلام)بصورة حية وواضحة جدّاً، انتقل إِلى نفي الخرافات وكلمات الشرك التي قالوها في شأن عيسى، فيقول: (ذلك عيسى بن مريم) خاصّة وأنّه يؤكّد على كونه «ابن مريم» ليكون ذلك مقدمة لنفي بنوته لله سبحانه.

ثمّ يضيف: (قول الحق الذي فيه يمترون)(1) وهذه العبارة في الحقيقة تأكيد على صحة جميع ما ذكرته الآيات السابقة في حق عيسى(عليه السلام) ولا يوجد أدنى ريب في ذلك.

____________________________

1 ـ لقد بحث المفسّرون في تركيب هذه الجملة كثيراً، إِلاّ أن أصحها على ما يبدو، من الناحية الأدبية، وبملاحظة الآيات السابقة، هو أنّ «قول الحق» مفعول لفعل محذوف، و (الذي فيه يمترون) صفة له، وكان التقدير هكذا: أقول قو الحق الذي فيه يمترون.

[445]

أمّا ما يذكره القرآن من أنّ هؤلاء في شك وتردد من هذه المسألة، فربّما كان إِشارة إِلى أنصار وأعداء المسيح(عليه السلام)، وبتعبير آخر: إِشارة إِلى اليهود والنصارى، فمن جهة شككت جماعة ضالة بطهارة أُمّه وعفتها، ومن جهة أُخرى شك قوم في كونه إِنساناً، حتى أنّ هذه الفئة قد انقسمت إِلى مذاهب متعددة، فالبعض اعتقد بصراحة أن ابن الله ـ الابن الروحي والجسمي الحقيقي لا المجازي! ـ ومن ثمّ نشأت مسألة التثليث والأقانيم الثلاثة.

والبعض اعتبر مسأله التثليث غير مفهومة وواضحة من الناحية العقلية، واعتقدوا بوجوب قبولها تعبداً، والبعض الآخر تخبط بكلام لا أساس له في سبيل توجيه المسألة منطقياً. والخلاصة : فإِنّ هؤلاء جميعاً لما لم يروا  الحقيقة ـ أو أنّهم لم يطلبوها ولم يريدوها ـ سلكوا طريق الخرافات والأساطير(1)!

وتقول الآية التالية بصراحة: (ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إِذا قضى أمر فإِنّما يقول له كن فيكون) وهذا إِشارة إِلى أن اتخاذ الولد ـ كما يظن المسيحيون في شأن الله ـ لا يناسب قداسة مقام الألوهية والربوبية، فهو يستلزم من جهة الجسمية، ومن جانب آخر المحدودية، ومن جهة ثالثة الإِحتياج، وخلاصة القول: تنزيل الله سبحانه من مقام قدسه إِلى إِطار قوانين عالم المادة، وجعله في حدود موجود مادي ضعيف ومحدود.

الله الذي له من القوّة والقدرة ما إِذا أراد فإِن آلاف العوالم كعالمنا المترامي الأطراف ستتحقق بأمر وإِشارة منه، ألا يعتبر شركاً وانحرافاً عن أصول التوحيد ومعرفة الله بأن نجعله سبحانه كإِنسان له ولد؟ وولد أيضاً الولد في مرتبة ودرجة الأب، ومن نفس طرازه!

____________________________

1 ـ من أجل زيادة الإِيضاح في مسألة تثليث النصارى، وما حاكوه ونسجوه من الخرافات حولها، راجع ذيل الآية (171) من سورة النساء.

[446]

إِنّ تعبير (كن فيكون) الذي جاء في ثمانية موارد من القرآن، تجسيد حي جدّاً عن مدى سعة قدرة الله، وتسلطه وحاكميته في أمر الخلقة، ولا يمكن تصور تعبير عن الأمر أقصر وأوجز من (كن) ولا نتيجة أوسع وأجمع من (فيكون)خاصّة مع ملاحظة «فاء التفريع» التي تعطي معنى الفورية هنا، فإِنّها لا تدل هنا على التأخير الزماني بتعبير الفلاسفة، بل تدل على التأخير الرتبي، أي تبيّن ترتب المعلوم على العلة. دققوا جيداً.

نفي الولد يعني نفي الإِحتياج عن الله:

لماذا تحتاج الكائنات الحية إلى الولد عادة؟ لأنّ عمرها محدود، ولكي  لا ينقرض نسلها، ومن أجل أن تستمر حياتها النوعية؟!

ومن الناحية الإِجتماعية، فإِنّ حاجة الأعمال الجماعية إِلى طاقة إِنسانية أكبر أدّت الى زيادة علاقة الإِنسان بالولد. إِضافة إِلى أنّ الحاجات العاطفية والنفسية، وإِزالة ودفع وحشة الوحدة، كلها تدعوه إِلى هذا العمل.

لكن، هل تتصور مثل هذه الأُمور في حق الله الأزلي الأبدي الذي لا تنتهي قدرته، ولا سبيل لمسألة الحاجة العاطفية إِلى ذاته المقدسة أبداً؟!

وهل تنج ذلك إِلاّ عن أن هؤلاء الذين يقولون: إِنّ لله ولداً، قد قاسوا الله سبحانه على أنفسهم، ورأوا فيه ما رأوا في أنفسهم؟ في حين أنّه (ليس كمثله شيء)(1).

ملاحظة تاريخية هامة حول الهجرة الأُولى

إِنّ أوّل هجرة وقعت في الإِسلام كانت هجرة مجموعة كبيرة من المسلمين ـ

____________________________

1 ـ لقد بحثنا في معنى (كن فيكون)، وأدلة نفي الولد عن الله المجلد الأوّل من هذا التّفسير، في ذيل الآيتين 116، 117 من سورة البقرة.

[447]

ضمت النساء والرجال ـ إِلى أرض الحبشة، فقد ترك هؤلاء مكّة للخلاص من قبضة مشركي قريش، وتنظيم أمرهم والتهيؤ بأقصى درجات الإِستعداد للبرامج والمشاريع الإِسلامية المستقبلية وكما توقعوا من قبل، فإِنّهم استطاعوا أن يعيشوا هناك في طمأنينة واستقرار، ويشتغلوا بتربّية أنفسهم وتزكيتها ونشر الدين الحنيف.

لقد طرق هذا الخبر أسماع زعماء قريش، فاعتبروا هذه القضية ناقوس خطر بالنسبة إِليهم، وأحسوا بأنّ الحبشة ستكون مأوى وملجأ للمسلمين، وربّما يرجعون إِلى مكّة بعد أن تقوى شوكتهم، وبالتالي سيخلقون للمشركين مشاكل وعراقيل عظيمة.

وبعد التشاور استقر رأيهم على انتخاب رجلين من رجال قريش النشيطين، وإِرسالهما إِلى النجاشي حتى يبيّنوا للنجاشي الأخطار التي تنجم عن وجود المسلمين هناك كي يطرد هؤلاء من هذه الأرض المطمئنة. فأرسلوا «عمرو بن العاص» و «عبد الله بن أبي ربيعة» مع هدايا كثيرة إِلى النجاشي وقواد جيشه.

تقول «أم سلمة» زوجة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): لما دخلنا أرض الحبشة رأينا حسن استقبال ومعاملة النجاشي، فلم نُمنع من شعائر ديننا، ولم يكن يؤذينا أحد، إِلاّ أنّ قريش بعد علمها بهذه المسألة، وإرسالها الرجلين مع الهدايا الكثيرة، كانت قد أمرت هؤلاء أن يلتقوا بقادة الحبشة قبل لقائه، وأن يسلموهم هداياهم، ثمّ يقدمون هدايا النجاشي إِليه، ويطلبون منه أن يسلم المسلمين إِليهم قبل أن ينبسوا ببنت شفة!

وقد نفذ هؤلاء هذه الخطة بدقة، وقالوا مقدماً لقواد وأمراء جيش النجاشي: إِنّ جماعة من الشباب الحمقى قد لجؤوا إِلى أرضكم، وقد ابتعد هؤلاء عن دينهم، ولم يعتنقوا دينكم أيضاً، وقد ابتدعوا ديناً جديداً لا نعرفه، ولا أنتم تعرفونه، وقد أرسلنا أشراف قريش إِليكم حتى نقطع شرّهم عن هذه البلاد، ونعيدهم إِلى

[448]

قومهم، فأخذوا من حاشية النجاشي عهداً بأنّهم متى ما استشارهم النجاشي فإنّه سيؤيدون هذه الفكرة ويقولون: إِن قوم هؤلاء أعلم بحالهم. ثمّ أدخلوا على الملك وكرروا ما توطئوا عليه.

لقد كانت هذه الخطة تسير خطواتها بدقة نحو الأمام، وقد أصبحت هذه الكلمات الخداعة، مع تلك الهدايا الكثيرة سبباً في أن تصدق حاشية النجاشي هؤلاء.

وبعد أن سمع النجاشي أقوالهم غضب وقال: لا والله، لا أسلم قوماً جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم وأسألهم عمّا يقول هذا، فإن كانا صادقين سلمتهم إِليهما، وإِن كانوا على غير ما يذكر هذان منعتهم وأحسنت جوارهم.

تقول أم سلمة: فبعث النجاشي إِلى المسلمين، فتشاوروا فيما بينهم فيما يقولون، واستقر رأيهم على أن يقولوا الحقيقة، ويشرحوا تعليمات النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وبرنامج الإِسلام، وليكن ما يكون!

لقد كان ذلك اليوم الذي عُيّن لهذه الدعوة يوماً عصيباً، فإنّ كبار النصارى وعلماءهم كانوا قد دعوا إِلى ذلك المجلس، وكانت الكتب المقدسة في أيديهم، فاستقبل النجاشي المسلمين وسألهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من الملل؟

فتصدى جعفر بن أبي طالب(عليه السلام) للجواب وقال:

«أيّها الملك كنّا أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منّا الضعيف حتى بعث الله إِلينا رسولا منّا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا لتوحيد الله وأن لا نشرك به شيئاً ونخلع ما كنّا نعبد من الأصنام وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور

[449]

وأكل مال اليتيم وأمرنا بالصلاة والصيام».

وعدد عليه أُمور الإِسلام قال: فآمنا به وصدقناه وحرمنا ما حرم علينا وحللنا ما أحل لنا فتعدى علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إِلى عبادة الأوثان فلمّا قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إِلى بلادك واخترناك على من سواك ورجونا أن لا نُظلم عندك أيّها الملك.

فقال النجاشي: هل معك ممّا جاء به عن الله شيء؟ قال: نعم، فقرأ عليه سطراً من «كهيعص».

فلمّا قرأ جعفر هذه الآيات بقراءته المؤثرة النابعة من صفاء القلب، أثرت في روح النجاشي وعلماء النصاري الكبار إِلى الحد الذي كانت تنهمر دموعهم على وجوههم بدون إرادة، فتوجه إِليهم النجاشي وقال: «إِن هذا والذي جاء به عيسى يخرج من مشكاة واحدة، انطلقا والله لا أسلمهم إِليكما أبداً».

ثمّ سعى رسولا قريش مساعي أُخرى لتغيير نظرة النجاشي تجاه المسلمين، إِلاَّ أنّها لم تؤثر في روحه السامية الواعية، فرجعا يائسين من هناك، وأرجعوا إِليهم هداياهم(1).

* * *

____________________________

1 ـ اُقتبس من سيرة ابن هشام، المجلد الأوّل، الصفحة 356 ـ 361.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=793
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18