• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء التاسع) ، تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي .
                    • الموضوع : سورة الكهف من آية 83 ـ آخر السورة من ( ص 348 ـ 396 ) .

سورة الكهف من آية 83 ـ آخر السورة من ( ص 348 ـ 396 )

[348]

الآيات

وَيَسْئَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرَاً(83)إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأَْرْضِ وَءَاتَيْنـهُ مِن كُلِّ شَىْء سَبَباً(84) فَأَتْبَعَ سَبَباً(85) حَتَّى إِذَ بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْن حَمِئَةً وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يـذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَنْ تَتَّخِذَ فيهم حُسنَاً(86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوفَ نَعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَباً بَانُّكْراً(87) وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وعَمِلَ صـلِحاً فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً(88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً(89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوم لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّنْ دُونِهَا سِتْراً(90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً(91)

التّفسير

قصّة «ذو القرنين» العجيبة:

قُلنا في بداية حديثنا عن أصحاب الكهف: إِنَّ مجموعة مِن قريش قرَّرت

[349]

اختبار الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقامت هذه المجموعة بالتنسيق مع اليهود واستشارتهم بطرح ثلاث قضايا هى: تأريخ الفتية مِن أصحاب الكهف.

السؤال عن ماهية الروح، أمّا القضية الثّالثة فقد كانت حول «ذو القرنين».

وفي القرآن، جاءَ الردّ على قضية الروح في سورة الإِسراء، أمّا الإِجابة على السؤالين الآخرين فقد جاءت في سورة الكهف.

ونحنُ الآن بصدد قصّة «ذو القرنين»:

وأشرنا سابقاً إِلى أنَّ سورة الكهف أشارت إِلى ثلاث قصص تختلف في الظاهر عن بعضها، ولكنّها تشترك في جوانب معينة، والقصص الثلاث هي قصّة أصحاب الكهف، وموسى والخضر، وقصّة «ذو القرنين».

إِنَّ في القصص الثلاث هذه مضامين تنقلنا مِن حياتنا العادية إِلى أفق آخر، يكشف لنا أنَّ العالم في حقائقه وأسراره لا يُحَدُّ فيما ألفناه مِنهُ، وفيما يحيطنا مِنهُ، واعتدنا عليه.

إِنَّ قصة «ذو القرنين» تدور حول شخصية أثارت اهتمامات الفلاسفة والباحثين منذ القدم. وقد بُذلت جهود ومساعي كثيرة للتعرُّف على هذه الشخصية.

وسنقوم أوّلا بتفسير الآيات الست عشرة الخاصّة بذي القرنين حيث أن حياته مع قطع النظر عن جوانبها التاريخية بمثابة درس كبير ومليء بالعبر ، ثمّ ننتقل إِلى بحوث لمعرفة شخصية ذي القرنين نفسه مستفيدين في ذلك مِن الرّوايات الإِسلامية، وممّا أشار إِليه المؤرّخون في هذا الصدد.

بتعبير آخر: إِنَّ ما يهمنا أوّلا هو الحديث عن شخصية ذي القرنين، وهو ما فعلهُ القرآن، حيث يقول تعالى: (ويسئلونك عن ذي القرنين).

فيكون الجواب على لسان الرّسول المصطفى(صلى الله عليه وآله وسلم): (قل سأتلوا عليكم مِنهُ ذكراً).

[350]

ولأنَّ «السين» في (سأتلوا) تستخدم عادة للمستقبل القريب، والرّسول هنا يتحدَّث مُباشرة إِليهم عن ذي القرنين، فمن المحتمل أن يكون ذلك مِنهُ(صلى الله عليه وآله وسلم)احتراماً ومراعاة للأدب; الأدب الممزوج بالهدوء والتروي، الأدب الذي يعني استلهامه للعلم مِن الله تبارك وتعالى، ونقلهُ إِلى الناس.

إِنَّ بداية الآية تبيّن لنا أنَّ قصة «ذو القرنين» كانت متداولة ومعروفة بين الناس، ولكنّها كانت محاطة بالغموض والإِبهام، لهذا السبب طالبوا الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) الإِدلاء حولها بالتوضيحات اللازمة.

وفي إستئناف الحديث عن ذي القرنين يقول تعالى: (إِنَّا مكنّا لهُ في الأرض). أي منحناه سُبل القوة والقدرة والحكم.

(وآتيناه مِن كل شيء سبباً).

بالرغم من أنّ مفهوم (السبب) يعني الحبل المستخدم في تسلُّق النخيل، الاّ أن بعض المفسّرين يحصره في الوسائل المستخدمة في إِنجاز الأعمال، إِلاَّ أنَّ الواضح مِن مفهوم الآية أنَّ الكلمة المذكورة يُراد مِنها معناها ومفهومها الواسع، حيث أنَّ الله تبارك وتعالى منحَ «ذو القرنين» أسباب الوصول لكل الأشياء: العقل، العلم الكافي، الإِدارة السليمة، القوّة والقدرة، الجيوش والقوى البشرية، بالإِضافة إِلى الإِمكانات المادية. أي إِنَّهُ مُنحَ كل الأسباب والسبُل المادية والمعنوية الكفيلة بتحقيق الأهداف المنشودة.

ثمّ يشير القرآن بعد ذلك إِلى استفادة ذي القرنين مِن هذه الأسباب والسبل فيقول: (فأتبع سَبَباً).

ثمّ (حتى إِذا بلغ مغرب الشمس).

فرأي أنّها تغرب في بحر غامق أو عين ذات ماء آجن: (وجدها تغرب في عين حمئة)(1).

____________________________

1 ـ (حمئة) تعني في الأصل الطين الأسود ذا الرائحة الكريهة; أو الماء الآسن الموجود في المستنقعات. وهذا الوصف يُبَيِّن لنا بأنَّ الأرض التي بلغها «ذو القرنين» كانت مليئة بالمستنقعات، بشكل كان ذو القرنين يشعر معهُ بأنَّ الشمس كانت تغرب في هذه المستنقعات، تماماً كما يشعر بذلك مسافر البحر، وسكّان السواحل الذين يشعرون بأنَّ الشمس قد غابت في البحر أو خرجت مِنهُ!.

[351]

(ووجد عندها قوماً) أي مجموعة من الناس فيهم الصالح والطالح، هؤلاء القوم هم الذين خاطب الله ذا القرنين في شأنهم: ( قلنا يا ذا القرنين إِمّا أن تُعذَّب وإِمّا أن تتخَّذ فيهم حسناً)(1).

ويرى بعض المفسّرين في كلمة (قلنا) دليلا على نبوة ذي القرنين. ولكن مِن المحتمل أن يكون المقصود بهذا التعبير هو الإِلهام القلبي الذي يمنحهُ  الخالق جلَّ وعلا لغير الأنبياء أيضاً، هذا وليسَ بالإِمكان انكار أنَّ التعبير الآنف الذكر يشير بالفعل إِلى معنى النّبوة.

بعد ذلك تحكي الآيات جواب «ذي القرنين» الذي قال: (قال أمّا مَن ظلم فسوف نعذبه ثمّ يرد إِلى ربّه فيعذّبه عذاباً نكراً)(2). أي إِنَّ الظالمين سينالون العذاب الدنيوي والأخروي معاً.

(وأمّا مَن آمن وعمل صالحاً فلهُ جزاءً الحسنى).

(وسنقول لهُ مِن أمرنا يُسراً).

أي أنّنا سنتعامل معهُ بالقول الحسن، فضلا عن أنّنا سنخفف عنهُ ولا نجعلهُ يواجه المشاكل والصعاب، بالإِضافة إِلى أنّنا سوف لن نجبي مِنهُ ضرائب كثيرة.

والظاهر أنَّ ذا القرنين أراد مِن ذلك أن الناس سينقسمون مقابل دعوتي الى التوحيد والإِيمان والنهي عن الظلم والفساد إِلى مجموعتين، الأُولى: هي المجموعة التي سترحب ببرنامجه الإِلهي ودعوته للتوحيد والإِيمان وهذه ستجزى بالحسنى وستعيش حياة آمنة ومطمئنة. أمّا الثّانية: فستتخذ موقفاً عدائياً مِن دعوة ذي القرنين وتقف في الجبهة المناوئة، وتستمر في شركها

____________________________

1 ـ يظهر أن جملة (إِمّا أن تعذب ... ) إِستفهامية بالرغم من أنَّ ظاهرها أنّها جملة خبرية.

2 ـ «نكر» مُشتقة مِن «مُنكر» بمعنى الشيء المجهول; أي العذاب المجهول الذي لم يمكن تصوره.

[352]

وظلمها، وتواصل فسادها. وهي لذلك ستعاقب نتيجة موقفها هذا أشدّ العقاب.

وبمقارنة قوله: (مَن ظلم) وقوله: (مَن أمن وعمل صالحاً) يتبيّن لنا أنَّ الظلم يعني هنا الشرك والعمل غير الصالح الذي يُعدُّ مِن ثمار شجرة الشرك المشؤومة.

وعندما إنتهى «ذو القرنين» مِن سفره إِلى الغرب توجه إِلى الشرق حيثُ يقول القرآن في ذلك: (ثمّ أتَبَع سَبَاً) أي استخدم الوسائل والإِمكانات التي كانت بحوزته.

(حتى إِذا بلغ مطلع الشمس). وهنا رأى أنّها: (وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم مِن دونها ستراً). وفي اللفظ كناية عن أنَّ حياة هؤلاء الناس بدائية جدّاً، ولا يملكون سوى القليل مِن الملابس التي لا تكفي لتغطية أبدانهم مِن الشمس.

أمّا بعض المفسّرين فلم يستبعدوا افتقار هؤلاء الناس إِلى المساكن التي تحميهم مِن الشمس(1).

وهناك احتمال آخر يطرحه البعض، ويرى أن يكون هؤلاء القوم في أرض صحراوية تفتقر للجبال والأشجار والملاجيء، وأن ليسَ في تلك الصحراء ما يمكِّن هؤلاء القوم مِن حماية أنفسهم مِن الشمس مِن غطاء أو غير ذلك(2).

بالطبع ليسَ هناك تعارض بين التفاسير هذه، قوله تعالى: (كذلك وقد أحطنا بما لديه خُبراً). هكذا كانت أعمال «ذو القرنين» ونحن نعلم جيداً بإِمكاناته.

بعض المفسّرين قال: إِنَّ هذه الآية تُشير إِلى الهداية الإِلهية لذي القرنين في برامجه ومساعيه(3).

____________________________

1 ـ أشارت بعض الرّوايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) إِلى التّفسير الأوّل، فيما أشارت روايات أُخرى إِلى التّفسير الثّاني. وليسَ ثمّة تناقض بين الإثنين (يراجع نور الثقلين، ج 3، ص 306).

2 ـ تفسير في ظلال القرآن، والفخر الرازي أثناء تفسير الآية.

3 ـ الميزان، ج 13، ص 391.

[353]

* * *

[354]

الآيات

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً(92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا(93) قَالُوا يـذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِى الأَْرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدَّاً(94) قَالَ مَا مَكَّنِّى فِيهِ رَبِّى خَيْرٌ فَأَعِينُونِى بِقُوَّة أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُمْ رَدْماً(95) ءَاتُونِى زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ ءَاتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً(96) فَمَا اسْطَـعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطـعُوا لَهُ نَقْباً(97) قَالَ هـذَا رَحْمَةٌ مِّنْ رَّبِّى فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّى جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّى حَقَّاً(98)

التّفسير

كيف تمّ بناء سد ذي القرنين؟

الآيات أعلاه تشير إِلى سفرة أُخرى مِن أسفار ذي القرنين حيثُ تقول: (ثمّ أتبع سبباً).

[355]

أي بعد هذه الحادثة استفاد مِن الوسائل المهمّة التي كانت تحت تصرفه ومضى في سفره حتى وصل إِلى موضع بين جبلين: (حتى إِذا بلغَ بين السدين وجد مِن دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولا).

والآية إِشارة إِلى أنَّهُ وَصَل إِلى مَنطقة جبلية، وهناك وَجدَ أُناساً (غير المجموعتين اللتين عثر عليهما في الشرق والغرب) كانوا على مستوى دان مِن المدنية، لأنّ الكلام أحد أوضح علائم التمدُّن لدى البشر.

البعض احتمل أنَّ جملة (لا يكادون يفقهون قولا) لا تعني أنّهم لم يكونوا يعرفون اللغات، بل كانوا لا يفهمون محتوى الكلام، أي كانوا مُتخلفين فكرياً.

أمّا عن مكان الجبل والجوانب التأريخية والجغرافية لهذه الحادثة، وسنذكر في نهاية البحث التّفسيري، حديثاً مفصلا عن ذلك.

في هذه الأثناء اغتنم هؤلاء القوم مجيء ذي القرنين، لأنّهم كانوا في عذاب شديد مِن قبل أعدائهم يأجوج ومأجوج، لذا فقد طلبوا العون منهُ قائلين: (قالوا ياذا القرنين إِن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً).

قد يكون كلامهم هذا تمَّ عن طريق تبادل العلامات والإِشارات، لأنّهم  لا يفهمون لغة ذي القرنين، أو أنّهم تحدثوا معهُ بعبارات ناقصة لا يمكن الإِعتداد بها.

ويحتمل أن يكون التفاهيم بينهم تمَّ عن طريق المترجمين، أو بأُسلوب الإِلهام الإِلهي، مثل تحدّث بعض الطيور مع سليمان(عليه السلام).

في كل الأحوال، يمكن أن نستفيد مِن الآية الشريفة أنَّ تلك المجموعة مِن الناس كانت ذات وضع جيِّد مِن حيث الإِمكانات الإِقتصادية، إِلاَّ أنّهم كانوا ضعفاء في المجال الصناعي والفكري والتخطيطي، لذا فقد تقبلوا بتكاليف بناء هذا السد المهم، بشرط أن يتكفل ذو القرنين ببنائه وهندسته.

[356]

وفيما يخص يأجوج ومأجوج سنتحدث عنهم في نهاية هذا البحث إِن شاء الله.

أمّا ذو القرنين فقد أجابهم: (قال ما مكنّي فيه ربّي خير)، وأنّي لا أحتاج

إِلى مساعدتكم المالية وإِنّما: (فأعينوني بقوّة أجعل بينكم وبينهم ردماً).

كلمة «ردم» على وزن «طرد» وهي في الأصل تعني ملء الشق بالأحجار، إِلاّ أنّها فيما بعد أخذت معنىً واسعاً بحيث شملَ كل سد، بل وشمل حتى ترقيع الملابس.

يعتقد بعض المفسّرين أنَّ كلمة «ردم» تقال للسد القوي(1)، ووفقاً لهذا التّفسير فإِنَّ ذا القرنين قد وعدهم بأكثر ممّا كانوا ينتظرونه.

كما أنّه يجب الإِنتباه إِلى أنَّ «سد» على وزن «قد»، و«سُدّ» على وزن «قفل» هما بمعنى واحد، وهو الحائل الذي يفصل بين شيئين، إِلاَّ أنَّ البعض ـ كما يقول الراغب ـ وضع فرقاً بين الإِثنين، فالأوّل هو مِن صناعة الإِنسان، والثّاني هو الحائل الطبيعي.

ثمّ أمر ذو القرنين فقال: (آتوني زبر الحديد).

«زُبر» جمع «زُبرة» على وزن (غُرفة)، وتعني القطع الكبيرة والضخيمة مِن الحديد.

وعندما تهيأت قطع الحديد أعطى أمراً بوضع بعضها فوق البعض الآخر حتى غطّي بين الجبلين بشكل كامل: (حتى إِذا ساوى بين الصدفين).

«صدف» تعني هنا حافة الجبل، ويتّضح مِن هذا التعبير أنَّ هناك شقاً بين حافتي الجبل حيث كانَ يأجوج ومأجوج يدخلان منه، وقد صمم ذو القرنين ملأ هذا الشق.

الأمر الثّالث لذي القرنين هو طلبه مِنهم أن يجلبوا الحطب وما شابههُ،

____________________________

1 ـ «الآلوسي» في «روح المعاني»، والفيض الكاشاني في تفسير «الصافي»، والفخر الرازي في «التّفسير الكبير».

[357]

ووضعهُ على جانبي هذا السد، وأشعل النار فيه ثمّ أمرهم بالنفخ فيه حتى احمرَّ الحديد مِن شدة النّار: (قالَ انفخوا حتى إِذا جعلهُ ناراً).

لقد كان يهدف ذو القرنين مِن ذلك ربط قطع الحديد بعضها ببعض ليصنع منها سداً من قطعة واحدة، وعن طريق ذلك، قام ذو القرنين بنفس عمل «اللحام» الذي يُقام به اليوم في ربط أجزاء الحديد بعضها ببعض.

أخيراً أصدر لهم الأمر الأخير فقال: اجلبوا لي النحاس المذاب حتى أضعه فوق هذا السد: (قال آتوني أفرغ عليه قطراً).

وبهذا الشكل قام بتغطية هذا السد الحديدي بطبقة النحاس حتى لا ينفذ فيه الهواء ويحفظ مِن التآكل.

بعض المفسّرين قالوا: إِنَّ علوم اليوم أثبتت أنَّهُ عند إضافة مقدار مِن النحاس إِلى الحديد فإِنَّ ذلك سيزيد مِن مقدار مقاومته، ولأنَّ «ذا القرنين» كان عالماً بهذه الحقيقة فقد أقدم على تنفيذه.

إِنَّ المشهور في معنى «قطر» هو ما قلناه (أي النحاس المذاب)، إِلاَّ أنّ بعض المفسّرين فسَّر ذلك بـ «الخارصين المذاب» وهو خلاف المتعارف عليه.

وأخيراً، أصبح هذا السد بقدر مِن القوّة والإِحكام بحيث: (فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً).

لقد كان عمل ذي القرنين عظيماً ومهماً، وكانَ لهُ وفقاً لمنطق المستكبرين ونهجهم أن يتباهى بهِ أو يمنّ به، إِلاَّ أنَّهُ قال بأدب كامل: (قال هذا رحمة مِن ربّي)لأنَّ أخلاقهُ كانت أخلاقاً إِلهية.

إِنَّهُ أراد أن يقول: إِذا كنت أملك العلم والمعرفة وأستطيع بواسطتهما أن أخطو خطوات مهمّة، فإِنَّ كل ذلك إِنما كانَ مِن قبل الخالق جلَّ وعلا، وإِذا كُنت أملك قابلية الكلام والحديث المؤثِّر فذلك أيضاً مِن الخالق جلَّ وعلا.

وإِذا كانت مثل هذه الوسائل والأفكار في اختياري فإِنَّ ذلك مِن بركة الله

[358]

ورحمته الخالق الواسعة.

أراد ذو القرنين أن يقول: إِنّني لا أملك شيئاً مِن عندي كي أفتخر به، ولم أعمل عملا مهماً كي أَمُنّ على عباد الله.

ثمّ استطرد قائلا: لا تظنوا أنَّ هذا السد سيكون أبدياً وخالداً: (فإِذا جاء وعد ربّي جعلهُ دكاء).

(وكان وعد ربّي حقّاً).

لقد أشار ذو القرنين في كلامه هذا إِلى قضية فناء الدنيا وتحطِّم هيكل نظام الوجود فيها عند البعث.

لكن بعض المفسّرين اعتبر الوعد الإِلهي إشارة إِلى التقدم العلمي للبشر والذي بواسطته لا يبقى معنىً لسد غير قابل للإِختراق والعبور، فالطائرات وما شابهها تستطيع أن تعبر جميع هذه الموانع. ولكن هذا التّفسير بعيد حسب الظاهر.

* * *

بحوث

أوّلاً ـ الملاحظات التربوية في هذه القصة التأريخية

سنبحث فيما بعد ـ إِن شاء الله ـ ما يتعلق بذي القرنين; مَن هو؟ وكيف تمّ سفره للشرق والغرب; وأين كان السد الذي أنشأه؟ وغير ذلك، ولكن بصرف النظر عن الجونب التأريخية، فإِنَّ القصّة بشكل عام تحوي على دروس تربوية كثيرة من الضروري الإِلتفات إِليها والإِفادة مِنها، وفي الواقع أنّها هي الهدف القرآني مِن إيرادها. ويمكن تلخيص هذه الدروس بالشكل الآتي:

1 ـ إِنَّ أوّل درس تعلمنا إِيَّاه أنَّ عمل هذه الدنيا لا يتمّ دون توفير أسبابه، لذا فإِنَّ الله تبارك وتعالى وهَب الوسائل والأسباب لتقدم وانتصار ذي القرنين في علمه: (وآتيناه مِن كلّ شي سبباً). وفي نفس الوقت استفاد «ذو القرنين» مِن

[359]

هذه الأسباب والوسائل بأفضل وجه ممكن: (فأتبع سبباً).

لذلك فإِنَّ مَن يظن أنَّهُ سيحصل على النصر مِن دون تهيئة أسبابه ومقدماته، فإِنَّهُ لا يصل إِلى مرامه حتى لو كان ذا القرنين نفسه!

2 ـ بالرغم مِن أنَّ غروب الشمس في عين من ماء آسن سببهُ خطأ في الباصرة واشتباه مِنها، إِلاَّ أنَّ المعنى الذي نلمحهُ مِن هذا المثال هو إِمكان تغطية الشمس مع عظمتها بالعين الآسنة ومثلها في ذلك مثل ذلك الإِنسان العظيم الذي يسقط وينهار بسبب خطأ واحد فتغرب شخصيته من انظار الناس.

3 ـ لا تستطيع أي حكومة أن تنتصر بدون ترغيب الأنصار والأتباع، ومعاقبة المذنبين والمخطئين، وهذا هو نفس الأساس الذي اعتمد عليه ذو القرنين حيثُ قال: (قالَ أمّا مَن ظلم فسوف نعذّبه ... وأمّا مَن آمن وعمل صالحاً فلهُ جزاء الحسنى).

والإِمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام) بلور هذا المعنى في رسالته إِلى مالك الأشتر والتي هي برنامج كامل لإِدارة البلاد، إِذ يقول(عليه السلام): «ولا يكونن المحسن والمسيىء عندك بمنزلة سواء، فإِنَّ في ذلك تزهيداً لأهل الإِحسان في الإِحسان، وتدريباً لأهلِ الإِساءة على الإساءة»(1).

4 ـ التكليف الشاق والتصعُّب في الأُمور وتحميل الناس ما لا يطيقون، كل هذه الأُمور لا تناسب الحكومة الإِلهية العادلة أبداً، ولهذا السبب فإِنَّ ذا القرنين بعد أن صرّح بمعاقبة الظالمين وتشويق الصالحين، أضاف: (وسنقول لهُ مِن أمرنا يُسراً) حتى يمكن إِنجاز الأعمال عن شوق ورغبة.

5 ـ الحكومة الكبيرة ذات الإِمكانات الواسعة لا تتغاضى عن التفاوت والإِختلاف القائم في حياة الناس وتُراعى شرائط حياتهم المُختلفة، ولهذا السبب فإِنَّ «ذو القرنين» صاحب الحكومة الإِلهية والذي واجهته أقوام مُختلفة، كانَ

____________________________

1 ـ نهج البلاغة، الرسالة رقم 53.

[360]

يتعامل معَ كل مجموعة بما يُناسب حياتها الخاصّة، وبذلك كان الجميع منضوين تحت لوائه.

6 ـ إِنَّ «ذو القرنين» لم يستبعد حتى تلك المجموعة التي لم تكن تفهم الكلام، أو كما وصفهم القرآن: (لا يكادون يفقهون قولا) بل إِنَّهُ استمع إِلى مشاكلهم، ودأب على رفع احتياجاتهم بأي أُسلوب كان، وبنى لهم سداً محكماً بينهم وبين أعدائهم اللدودين (يأجوج ومأجوج) وقد قام بإِنجاز أُمورهم بدون أن يفرّق بينهم (رغم أنَّهُ كان يظهر أنَّ مثل هؤلاء الناس عديمي الفهم لا ينفعون الحكومة بأي شيء).

وفي حديث عن الإِمام الصادق(عليه السلام) نقرأ قوله: «إسماع الأصم مِن غير تصعرُّ صدقة هنيئة»(1).

7 ـ الأمن هو أوّل وأهم شرط مِن شروط الحياة الإِجتماعية السالمة، لهذا السبب تحمَّل «ذو القرنين» أصعب الأعمال وأشقها لتأمين أمن القوم مِن أعدائهم، وقد استفاد مِن أقوى السدود وأمنعها الذي أصبح مضرب الأمثال في التأريخ ورمزاً للإِستحكام والدوام والبقاء، حيث يقال لبناء القوي «إِنّه مثل سدّ الاسكندر» بالرغم من أن «ذو القرنين» غير الاسكندر.

وعادةً لا يسعد المجتمع مِن دون قطع الطريق على المفسدين، ولهذا فإِنَّ أوّل شيء طلبهُ إِبراهيم(عليه السلام) عند بناء الكعبة هو الأمن: (ربّ اجعل هذا البلد آمناً)(2).

ولهذا السبب أيضاً فإِنَّ الفقه الإِسلامي وضع أقسى العقوبات للذين يعرضون أمن المجتمع إِلى الخطر (راجع في ذلك تفسير الآية (33) مِن سورة المائدة).

____________________________

1 ـ سفينة البحار، ج 2، مادة «صمم».

2 ـ سورة إبراهيم، 35.

[361]

8 ـ الدرس الآخر الذي يمكن أن نتعلمهُ مِن هذه القصّة، هو أنَّ أصحاب المشكلة الأصليين معنيين بالدرجة الأُولى في الإِشتراك في الجهد المبذول لحل مُشكلتهم، لذا فإِنَّ «ذو القرنين» أعطى أمراً إِلى الفئة التي اشتكت إِليه أمر يأجوج ومأجوج بأن يجلبوا قطع الحديد، ثمّ أعطاهم الأمر بإِشعال النار في أطراف السد لدمج القطع فيما بينها، ثمّ أمرهم بتهيئة النحاس المذاب. وعادة فإن العمل الذي يتمّ بمساهمة وحضور الأطراف الأصليين في المشكلة يؤدي إِلى إِظهار استعداداتهم ويعطي قيمة خاصّة للنتائج الحاصلة منه، وللجهود المبذولة فيه، ومِن ثمّ يحرص الجميع للحفاظ عليه وإِدامته بحكم تحملهم لمجهودات إِنشائه.

كما يتّضح من هذه النقطة أن،َ المجتمع المتخلف والمتأخّر يستطيع أن يُنجز أعمالا مهمّة وعظيمة اذا تمتع ببرنامج صحيح وإِدارة مُخلصة.

9 ـ الزعيم الإِلهي والقائد الرّباني لا يلتفت إِلى الجزاء المادي والنفع المالي وإِنّما يقتنع بما حباه الله، لذا رأينا «ذو القرنين» عندما اقترحوا عليه الأموال قال: (ما مكّني فيه ربّي خير) وهذا النمط مِن السلوك يخالف أساليب السلاطين وولعهم العجيب بجمع الثروة والأموال.

وفي القرآن الكريم نقرأ مراراً في قصص الأنبياء أنّهم لم يكونوا يطلبون المال جزاءً لأعمالهم ودعواتهم.

ويمكن مُشاهدة هذاالموضوع في (11) مورداً مِن القرآن الكريم، سواء ما يخص نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) أو الأنبياء السابقين، ففي بعض الأحيان يذكر القرآن تعبير: (إِنّما أجري على الله). وفي أحيان أُخرى يضع القرآن محبّة أهل البيت(عليهم السلام)والذين هم ركن القيادة المستقبلية أساساً للجزاء فيقول: (قل لا أسئلكم عليه أجراً إِلاَّ المودّة في القربى).

10 ـ إِحكام الأُمور هو درسٌ آخر نستفيده مِن هذه القصّة، فذو القرنين استفاد مِن القطع الحديدية الكبرىْ في بناء السد، وقد وصلها بالنّار، ثمّ غطّاها

[362]

بالنحاس المذاب كي تمتنع عن التلف والصدأ إِذا تعرضت للهواء والرطوبة.

11 ـ مهما كان الإِنسان قوياً ومُتمكناً وصاحب قدرة واستطاعة في إِنجاز الأعمال، فعلية، أن لا يغتر بنفسه، وهذا هو درسٌ آخر نتعلمهُ مِن قصة «ذو القرنين». فقد اعتمد في جميع شؤونه على قدرة الخالق جلَّ وعلا، وقالَ بعد اتمام السد: (هذا رحمة مِن ربّي). وعندما اقترحوا عليه المساعدة المالية قال: (ما مكنّي فيه ربّي خير). وأخيراً عندما يتحدث عن فناء هذا السد المحكم، فإِنَّهُ لا ينسى أن ينسب موعد ذلك إِلى الله تعالى.

12 ـ كل شي إِلى زوال مهما كان محكماً وصلداً. هذا هو الدرس الأخير في هذه القصة، وهو درس للذين يتمنون أو يظنون خلود المال أو المنصب والجاه. إِنَّ سد ذي القرنين أمر هيِّن قياساً إِلى انطفاء الشمس وفناء الجبال الراسيات، إِذا فكيف بالإِنسان المعرَّض للأضرار أكثر من غيره!؟

ألا يكفي التفكير بهذه الحقائق حافزاً على الوقوف بوجه الإِستبداد؟

ثانياً: مَن هو ذو القرنين؟

ذكر المفسّرون كلاماً كثيراً عن شخصية ذي القرنين الوارد في القرآن الكريم، فمن هو؟ وعلى أي واحد من الشخصيات التأريخية المعروفة تنطبق أوصافه ويمكن أن نرجع الآراء إِلى ثلاث نظريات أساسية هي:

النظرية الأُولى: يرى البعض أنَّ «ذو القرنين» ليسَ سوى «الإسكندر المقدوني»، لذا فإنّهم يسمونه «الاسكندر ذو القرنين» ويعتقد هؤلاء بأنَّهُ سيطر بعد وفاة أبيه على دول الروم والمغرب والمصر، وبنى مدينة الإسكندرية، ثمّ سيطر بعد ذلك على الشام وبيت المقدس، ثمّ ذهب مِن هناك إِلى «أرمينيا»، وفتح العراق وبلاد فارس، ثمّ قصد الهند والصين، ومِن هناك رجع إِلى خُراسان، وقد بنى مدناً كثيرة، ثمّ جاءَ إِلى العراق ومَرِضَ في مدينة «زور» وتوفي فيها.

[363]

ويقول البعض: إِنَّهُ لم يُعمِّر أكثر مِن (36) سنة، أمّا جسده فقد ذهبوا بهِ إِلى الإِسكندرية ودفنوه هناك(1).

النظرية الثّانية: ويرى جمع مِن المؤرخين أنَّ «ذو القرنين» كان أحد ملوك اليمن (كان ملوك اليمن يسمّون بـ «تبّع» وجمع ذلك «تبابعه») وقد دافع عن هذه النظرية «الأصمعي» في تأريخ العرب قبل الإِسلام، و«ابن هشام» في تأريخه المعروف بسيرة ابن هشام، و«أبوريحان البيروني» في كتاب «الآثار الباقية».

ويمكن لنا أن نلمح في شعر شعراء (الحميرية) وهم مِن أقوام اليمن، وبعضاً مِن شعراء الجاهلية تفاخراً بكونِ «ذو القرنين» مِن قومهم(2).

وفقاً لهذه النظرية يكون سد ذو القرنين هو سد «مأرب» المعروف.

النظرية الثّالثة: وهي أحدث النظريات في هذا المجال وردت عن المفكر الإِسلامي المعروف (أبو الكلام آزاد) الذي شغل يوماً منصب وزير الثقافة في الهند. وقد أورد رأيه في كتاب حققه في هذا المجال.

وطبقاً لهذه النظريه فإِنَّ ذا القرنين هو نفسه (كورش الكبير) الملك الأخميني.

أمّا النظريتان الأُولى والثّانية فإِنّها لا تدعمها أدلة قوية، ومضافاً إِلى ذلك فإِنّ صفات الإِسكندر المقدوني أو ملوك اليمن لا تنطبق مع الصفات الذي ذكرها القرآن لذي القرنين.

مِن ناحية ثالثة فإِنَّ الإِسكندر لم يبنَ سداً معروفاً. أمّا سد مأرب في اليمن فإِنَّهُ لا يتطابق مع الصفات الواردة في سدّ «ذو القرنين». الذي بُني مِن الحديد والنحاس، وقد أُنشىء لصد هجوم الأقوام الهمجية، في حين أنَّ سد مأرب مُكَوَّن

____________________________

1 ـ يمكن ملاحظة ذلك في تفسير الفخر الرازي، والكامل لابن الأثير (الجملد الأوّل صفحة 287). ويعتقد البعض أن أوّل مَن قال بهذه النظرية هو الشيخ ابن سينا في كتابه الشفاء.

2 ـ الميزان، ج 13، ص 414.

[364]

مِن المواد العادية، ووظيفته خزن المياه ومنعها مِن الطغيان والفيضان، وقد ذكر القرآن شرحاً لذلك في سورة «سبأ».

لكل هذه الأسباب سنركز البحث على النظرية الثّالثة، ونرى مِن  الضروري ـ هنا ـ الإِنتباه بدقة إلى الأُمور التالية:

أ: لماذا سمي ذو القرنين بهذا الإِسم؟

البعض يعتقد أن سبب التسمية تعود إِلى وصوله للشرق والغرب، حيثُ يعبَّر العرب عن ذلك بقرني الشمس.

البعض الآخر يرى بأنَّهُ عاش قرنين أو أنَّهُ حَكَمَ قرنين، وأمّا ما مقدار القرن فهناك آراء مُختلفة في ذلك.

البعض الثّالث يقول: كان يوجد على طَرَفي رأسه بروز (قرن)، ولهذا السبب سَمَّي بذي القرنين.

وأخيراً فإِنَّ البعض يعتقد بأنَّ تاجهُ الخاص كان يحتوي على قرنين.

بالطبع هناك آراء آخرى في ذلك، إِلاَّ أنَّ ذكرها جميعاً يُطيل بنا المقام; وسوف نرى أنَّ مِبتكر النظرية الثّالثة (أبو الكلام آزاد) استفاد كثيراً مِن هذا اللقب لإِثبات نظريته.

ب: لو لاحظنا بدقة مِن آيات القرآن الكريم لاستفدنا أنَّ ذا القرنين كانت لهُ صفات ممتازة هي:

* هيّأَ لهُ الله جلَّ وعلا أسباب القوّة ومقدمات الإِنتصار، وجعلها تحت تصرفه وفي متناول يده.

* لقد جهز ثلاثة جيوش مهمّة: الأوّل إِلى الغرب، والثّاني إِلى الشرق; والثّالث إِلى المنطقة التي تضم المضيق الجبلي، وفي كل هذه الأسفار كان لهُ تعامل خاص معَ الأقوام المختلفة حيث ورد تفصيل ذلك في الآيات السابقة.

* كان رجلا مؤمناً تتجلى فيه صفات التوحيد والعطف، ولم ينحرف عن

[365]

طريق العدل، ولهذا السبب فقد شملهُ اللطف الإِلهي الخاص، إِذ كان ناصراً للمحسنين وعدوّاً للظالمين، ولم يكن يرغب أو يطمع بمال الدنيا كثيراً.

* كان مؤمناً بالله وباليوم الآخر.

* لقد صنع واحداً مِن أهم وأقوى السدود، السد الذي استفاد لصنعه مِن الحديد والنحاس بدلا مِن الطابوق والحجارة. (وإِذا كانت هناك مواد أُخرى مستخدمة فيه، فهي لا يعتبر شيئاً بالقياس الى الحديد والنحاس) أمّا هدفه مِن بنائه فقد تمثل في مساعدة المستضعفين في قبال ظلم يأجوج ومأجوج.

* كان شخصاً مشهوراً بين مجموعة مِن الناس، وذلك قبل نزول القرآن، لذا فإِنَّ قريش أو اليهود سألوا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عنه، كما يصرح بذلك الكتاب العزيز في قوله تعالى: (يسئلونك عن ذي القرنين).

ولا يمكن الإِستفادة بشيء مِن صريح القرآن للدلالة على أنَّهُ كان نبيّاً، بالرغم مِن وجود تعابير تُشعِر بهذا المعنى، كما مرَّ ذلك في تفسير الآيات السابقة.

ونقرأ في العديد مِن الرّوايات الإِسلامية الواردة عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة أهل البيت(عليهم السلام) أنَّهُ: «لم يكن نبيّاً بل عبداً صالحاً»(1).

ج: أساس القول في النظرية الثّالثة (في أنَّ ذا القرنين هو كورش الكبير) قائم على أصلين وهما:

الأصل الأوّل: وفق العديد مِن الرّوايات الواردة في سبب نزول هذه الآيات فإِنَّ الذي سأل عن «ذو القرنين» هم قوم مِن اليهود، أو أنَّ قريشاً قامت بالأمر بتحريض مِن اليهود، لذا يجب العثور على أصل هذا الموضوع في كتاب اليهود.

وَمِن الكتب المعروفة عند اليهود، هو كتاب «دانيال» حيث نقرأ في الفصل الثامن مِنهُ، ما يلي: «حينما ملك (بل شصّر) عُرضت لي وأنا دانيال رؤيا بعد الرؤيا الأُولى التي شاهدتها، وذلك حينما كنت أسكن قصر (شوشان) في بلاد (عيلام)

____________________________

1 ـ يراجع تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 294 و 295.

[366]

فقد رأيت وأنا في المنام بأنّي على مقربة مِن نهر (أولاي) وأن كبشاً يقف قرب النهر وكان لهُ قرنان طويلان، ووجدتهُ يضرب بقرنيه غرباً وشمالا وجنوباً، ولم يتقدم أحد أمامه، ولأنَّهُ لم يكن يوجد أحد أمامه، لذا فإِنَّهُ كان يتصرف وفقاً لما يرديد، وكان يكبر»(1).

وبعد ذلك نقل عن دانيال في هذا الكتاب قوله: «وقد تجلّى لهُ جبرائيل (أي لدانيال) وفسَّر منامه هكذا: إِنَّ الكبش ذا القرنين الذي رأيتهُ فإِنَّهُ مِن ملوك المدائن وفارس (أو ملوك ماد وفارس).

لقد استبشر اليهود مِن رؤيا دانيال وعلموا بأنَّ فترة عبوديتهم ستنتهي مِن قبضة البابليين.

ولم تمض مُدَّة طويلة حتى ظهر (كورش) على مسرح الحكم في إِيران ووحَّد بلاد (ماد وفارس) وشكَّل مِنهما مملكة كبيرة; وكما قالَ دانيال، فإِنَّ الكبش كان يضرب بقرنه الغرب والشرق، فإِنَّ كورش قامَ بالفتوحات الكبيرة في الجهات الثلاث، وحرَّر اليهود وسمح لهم بالعودة إِلى فلسطين.

والطريف ما نقرؤه في التوراة في كتاب «أشعيا» فصل (44) رقم (28): «ثمّ يقول بخصوص كورش: إِنَّهُ كانَ راعياً عِندي (أي عند الرب) وسيقوم بتنفيذ مشيئتي».

يجب الإنتباه إِلى أنَّ وصف كورش ورد في بعض تعبيرات التوراة على أنَّهُ «عقاب المشرق» والرجل المدبَّر الذي يأتي مِن مكان بعيد. (كتاب أشعيا فصل 46 رقم 11).

الأصل الثّاني: لقد تمَّ العثور في القرن التاسع عشر الميلادي على تمثال لكورش في طول إِنسان تقريباً، وذلك بالقرب مِن مدينة «اصطخر» بجوار نهر «المرغاب» ويظهر مِن هذا التمثال أنَّ لكورش جناحين مِن الجانبين يشبهان

____________________________

1 ـ كتاب دانيال، الفصل الثامن، الجمل 1 ـ 4.

[367]

جناح العقاب، وعلى رأسه تاج يُشاهد فيه قرنان يشبهان قرنا الكبش.

فضلا عمّا يطويه هذا التمثال مِن نموذج قيِّم لفن النحت القديم، فقد جلب انتباه العلماء، حتى أنَّ مجموعة مِن العلماء الألمان سافروا إِلى إِيران لأجل رؤيته فقط.

عند تطبيق ما ورد في التوراة على مواصفات التمثال تبلور في ذهن العلاّمة (أبو الكلام آزاد) احتمال في وجود اشتراك بين «ذو القرنين» وكورش، وأنَّ الأخير لم يكن سوى «ذو القرنين» نفسه. فتمثال كورش لهُ جناحان كجناحَىْ العُقاب، وهكذا توضحت شخصية «ذو القرنين» التأريخية لمجموعة مِن العلماء.

وممّا يؤيِّر هذه النظرية الأوصاف الأخلاقية المذكورة لكورش في التأريخ.

يقول «هرودوت»، المؤرخ اليوناني: لقد أعطى كورش أمراً إِلى قواته بألاّ يضربوا بسيوفهم سوى المحاربين، وأن لا يقتلوا أي جندي للعدوّ إِذا انحنى. وقد أطاع جيشهُ أوامره، بحيث أنَّ عامّة الناس لم تشعر بمصائب الحرب ومآسيها.

ويكتب عنهُ «هرودوت» أيضاً: لقد كان كورش ملكاً كريماً، وسخياً عطوفاً، ولم يكن مثل بقية الملوك في حرصهم على المال، بل كان حريصاً على إِفشاء العدل، وكان يتسم بالعطاء والكرم، وكان ينصف المظلومين ويحب الخير.

ويقول مؤرّخ آخر هو (ذي نوفن): لقد كانَ كورش ملكاً عادلا وعطوفاً، وقد اجتمعت فيه فضائل الحكماء، وشرف الملوك; فالهمة الفائقة كانت تغلب على وجوده، وكان شعاره خدمة الإِنسانية، وأخلاقه إِفشاء العدل، كما أنَّ التواضع والسماحة كانا يغلبان الكبر والعجب في وجوده.

الطريف في الأمر أنَّ هؤلاء المؤرّخين الذين ذكروا كورش في الأوصاف الآنفة الذكر، كانوا مِن كُتاب التأريخ الغرباء عن قوم كورش، ومِن غير أبناء وطنه، حيثُ كانوا مِن (اليونان)، والمعروف أنَّ أهل اليونان تعرضوا لهزيمة منكرة على يد كورش عندما فتح «ليديا»!

[368]

ثمّ إِنَّ أنصار هذا الرأي يقولون: إِنَّ الأوصاف المذكورة في القرآن الكريم حول «ذو القرنين» تتطابق مع الأوصاف التأريخية لكورش.

والأهم من ذلك أنَّ كورش قد سافر أسفاراً نحو الشمال والشرق والغرب، وقد وردت قصة هذه الأسفار مُفصَّلة في حياته، وهي تتطابق مع الأسفار الثلاثة لذي القرنين الوارد ذكرها في القرآن الكريم.

فأوّل جيش لهُ كانَ قد أرسله إِلى بلاد «ليديا» الواقعة في شمال آسيا الصغرى، وهذه البلاد كانت تقع غرب مركز حكومة كورش.

وعندما نضع خارطة الساحل الغربي لآسيا الصغرى أمامنا، فسوف نرى أنَّ القسم الأعظم مِن الساحل يغرق في الخلجان الصغيرة وخاصةً قرب «أزمير» حيثُ يكون الخليج بشكل يشبه شكل العين. والقرآن يبيّن أنَ «ذو القرنين» في سفره نحو الغرب أحسَّ بأنَّ الشمس غرقت في عين مِن اللجن.

هذا المشهد، هو نفس المنظر الذي شاهده «كورش» حينما تطمس الشمس في الخلجان الساحلية لتبدو لعين الناظر وكأنّها غارقة في تلك الخلجان الساحلية.

أمّا الجيش الثّاني فقد كان باتجاه الشرق، وفي وصفه يقول المؤرخ «هرودوت»: إنَّ هذا الهجوم الكورشي في الشرق كانَ بعد فتح «ليديا» وخاصّة بعد عصيان بعض القبائل الهمجية التي اجبرت بعصيانها كورش على هذا الهجوم.

وتعبير القرآن الذي يقول: (حتى إِذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم تجعل لهم مِن دونها ستراً) هو إِشارة إِلى سفر «كورش» إِلى أقصىْ الشرق حيث شاهدَ أنَّ الشمس تشرق على أناس لم يجعلوا لهم ما يظلّهم مِن حرّ الشمس، وهذه إِشارة إِلى أنَّ القوم كانوا مِن سكنة الصحارى الرحَّل.

أمّا الجيش الثّالث فقد أرسله نحو الشمال باتجاه جبال القوقاز حيثُ وصلَ إِلى المضيق المحصور بين الجبلين، وبنى هناك سدّاً محكماً بطلب من أهل

[369]

المنطقة، لكي يتحصنوا به عن هجمات القبائل الهمجية مِن قوم يأجوج ومأجوج.

المضيق يسمى في الوقت الحاضر مضيق «داريال» حيث يمكن مشاهدته في الخرائط المُنتشرة في الوقت الحاضر، ويقع بين «والادي كيوكز» و «تفليس» في نفس المكان الذي ما زال يظهر فيه حتى الآن الجدار الحديدي الأثري، والذي هو نفس السد الذي بناه «كورش»، إِذ ثمّة تطابق واضح بينهُ وبين ما ذكر القرآن مِن صفات وخصائص لسدَّ ذي القرنين.

هذه هي خلاصة الأدلة التي تدعم صحة النظرية الثّالثة حول شخصية «ذو القرنين»(1).

صحيح أنَّ ثمّة نقاطاً مُبهمة في هذه النظرية، إلاَّ أنّها في الوقت الحاضر تعتبر أفضل النظريات في تشخيص شخصية «ذو القرنين» وتطبيق مواصفاتها القرآنية على الشخصيات التأريخية.

ثالثاً: أين يقع سد ذي القرنين؟

بالرغم من محاولة البعض المطابقة بين سد ذي القرنين وبين جدار الصين الذي لا يزال موجوداً ويبلغ طوله مئات الكيلومترات، إِلاَّ أنَّ الواضح أنَّ جدار الصين لا يَدخل في بنائه الحديد ولا النحاس، ومضافاً إِلى ذلك لا يقع في مضيق جبلي ضيق، بل هو جدار مبني مِن مواد البناء العادية ويبلغ طول مئات الكيلومترات، وما زال موجوداً حتى الآن.

البعض يرى في سد ذي القرنين أنّه سد مأرب في اليمن، ولكن هذا السد برغم وقوعه في مضيق جبلي، إِلاَّ أنَّهُ أنشىء لمنع السيل ولخزن المياه، ولم يدخل النحاس والحديد في بنائه.

____________________________

1 ـ لمزيد مِن التفاصيل يمكن مُراجعة كتاب «ذو القرنين أو كورش الكبير».

[370]

ولكن بالإِستناد إِلى شهادة العلماء وأهل الخبرة فإِنَّ السد ـ كما أشرنا لذلك قبل قليل ـ يقع في أرض القوقاز بين بحر الخزر والبحر الأسود، حيث توجد سلسلة جبلية كالجدار تفصل الشمال عن الجنوب، والمضيق الوحيد الذي يقع بين هذه الجبال الصخرية هو مضيق «داريال» المعروف، ويشاهد فيه جدار حديدي أثري حتى الآن، ولهذه المرجحات يعتقد الكثيرون أنَّ سد «ذو القرنين» يقع في هذا المضيق، وأنَّ المتبقي مِن مواصفات آثاره دليل مؤيِّد لذلك.

الطريف في الأمر أنَّهُ يوجد نهر على مقربة من ذلك المكان يُسمى «سائرس» أي «كورش» إِذ كان اليونان يسمون كورش بـ (سائرس).

الآثار الأرمنية القديمة كانت تطلق على هذا الجدار اسم «بهاك كورائي» والتي تعني «مضيق كورش» أو «معبر كورش» وهذا دليل آخر على أنَّ كورش هو الذي بنى السد(1).

رابعاً: مَن هم يأجوج ومأجوج؟

ذكر القرآن الكريم يأجوج ومأجوج في سورتين، إِذ وردت المرّة الأُولى في الآيات التي نبحثها، والثّانية في سورة الأنبياء، آية (96).

الآيات القرآنية تؤيَّد بوضوح أنَّ هذين الاسمين هما لقبيلتين همجيتين كانتا تؤذيان سكان المناطق المحيطة بهم.

وفي كتاب «حزقيل» مِن التوراة، الفصل الثامن والثلاثين والتاسع والثلاثين، وفي كتاب رؤيا «يوحنا» الفصل العشرين، ذكرا بعنوان «كودك» و«ماكوك» التي تعني بعد التعريب يأجوج ومأجوج.

ويقول العلاّمة الطباطبائي، في تفسير الميزان: إِنَّهُ يستفاد مِن مجموع ما ذكر في التوراة أن مأجوج أو يأجوج ومأجوج هم مجموعة أو مجاميع كبيرة كانت

____________________________

1 ـ للمزيد مِن التفاصيل يراجع المصدرين السابقين.

[371]

تقطن أقصى نقطة في شمال آسيا، وهم أناس محاربون يغيرون عى الأماكن القربية منهم(1).

البعض يعتقد أنَّ هاتين الكلمتين عبريتين، ولكنهما في الأصل انتقلتا مِن اليونانية إِلى العبرية، إِذ كانتا تلفظان في اليونانية بـ«كاك» و«ماكاك» ثمّ انتقلتا على هذا الشكل إِلى كافة اللغات الأوروبية.

ثمّة أدلة تأريخية على أنَّ مَنطقة شمال شرقي الأرض في نواحي «مغولستان» كانت في الأزمنة السابقة كثيفة السكان، إِذ كانت الناس تتكاثر بسرعة، وبعد أن ازداد عددهم اتجهوا نحو الشرق أو الجنوب، وسيطروا على هذه الأراضي وسكنوا فيها تدريجياً.

وقد وردت مقاطع تأريخية مُختلفة لحركة هؤلاء الأقوام وهجراتهم، وقد تمَّت واحدة مِن هذه الهجمات في القرن الرابع الميلادي، بقيادة «آتيلا» وقد قضت هذه الهجمة على حضارة الأمبراطورية الرومانية.

وكان آخر مقطع تأيخي لهجومهم في القرن الثّاني عشر الميلادي بقيادة جنگيز خان، حيث هاجم شرق البلاد الإِسلامية ودمَّر العديد مِن المدن، وفي طليعتها مدينة بغداد حاضرة الخلافة العباسية، وفي عصر كورش في حوالي عام (500) قبل الميلاد قامت هذه الأقوام بعدة هجمات، لكن موقف حكومة «ماد وفارس» إِزاءهم أدّى إِلى تعتبر الأوضاع واستتباب الهدوء في آسيا الغربية التي نجت مِن حملات هذه القبائل.

وبهذا يظهر أنَّ يأجوج ومأجوج هُم مِن هذه القبائل الوحشية، حيث طلب أهل القفقاز مِن «كورش» عند سفره إِليهم أن ينقذهم مِن هجمات هذه القبائل، لذلك أقدم على تأسيس السد المعروف بسدَّ ذي القرنين(2).

* * *

____________________________

1 ـ يلاحظ المجلد 13، مِن تفسير الميزان، ص 411.

2 ـ لمزيد من التفاصيل يراجع كتاب (ذو القرنين أو كورش الكبير).

[372]

الآيات

وَتَرَكْنَا بَعضَهُمْ يَوْمَئِذ يَمُوجُ فِى بَعْض وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَجَمَعْنـهُمْ جَمْعاً(88) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذ لِّلْكَـفِرينَ عَرْضَاً(100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَآء عَنْ ذِكْرِى وَكَانُوا  لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً(101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِى مِن دُونِى أَوْلِيَآءَ إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَـفِرِينَ نَزُلا(102)

التّفسير

عاقبة الكافرين:

لقد تناولت الآية السابقة سد يأجوج ومأجوج وانهدامه عند البعث، وهذه الآيات تستمر في قضايا القيامة، فتقول أوّلا: إِنّنا سنترك في ذلك اليوم ـ الذي ينتهي فيه العالم ـ بعضهم يموج ببعض: (وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض).

إِنَّ استخدام كلمة «يموج» إِمّا بسبب الكثرة الكاثرة للناس في تلك الواقعة، وشبيه لهُ ما نقوله مِن أنَّ الناس في القضية الفلانية يموجون، كناية عن كثرتهم، أو بسبب الإِضطراب الخوف الذي يصيب الناس في ذلك اليوم، وكأنّما أجسادهم تهتز كأمواج الماء.

[373]

طبعاً لا يوجد تناقض بين المعنيين، ويمكن أن يشمل تعبير الآية كلا الحالتين.

بعد ذلك تضيف الآيات: (ونفخ في الصور فجمعناهم جمعاً) وبلا شك فإِنَّ كافة الناس سيجمعون في تلك الساحة ولن يستثنى مِنهم أحد، وتعبير (فجمعناهم جمعاً) إِشارة إِلى هذه الحقيقة.

مِن مجموع الآيات نستفيد أنَّ ثمّة تحولان عظيمان سيحصلان عند نهاية هذا العالم وبداية العالم الجديد:

الأوّل: فناء الموجودات والناس بشكل آني.

والثّاني: إِحياء الموتى بشكل آني أيضاً.

ولا نعلم مقدار الفاصل بين الحدثين، ولكنَّ القرآن يُعبِّر عن هذين التحوّلين بعنوان (نفخ الصور)، وسنشرح ما يعينه ذلك في نهاية الآية (68) مِن سورة الزمر إِن شاء الله.

وهناك رواية ينقلها «أصبغ بن نباتة» عن الإِمام الصادق(عليه السلام)، يبيّن فيها(عليه السلام) أنَّ المقصود مِن قوله تعالى: (وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض) هو يوم القيامة(1).

وقد يتصّور البعض أنّ هناك تعارضاً بين الرّواية وبين ما ذكرناه أعلاه في تفسير الآية، حيث قلنا: إِنّها تعني مرحلة فناء الدنيا، كما يظهر مِن الآيات التي تسبقها والتي تليها. لكن هذا التعارض سيزول إِذا التفتنا إِلى ملاحظة وهي أنَّهُ يتمّ استخدام يوم القيامة ـ في بعض الأحيان ـ بمعناه الواسع الذي يشتمل على المقدمات )أي مقدمات القيامة) ونحن نعرف: أنّ الفناء السريع للدنيا هو أحد المقدمات.

ثمّ تتناول الآيات تفصيل حال الكافرين، حيث توضح عاقبة أعمالهم،

____________________________

1 ـ تفسير العياشي، نقلا عن الميزان في تفسير الآية.

[374]

والصفات التي تقود إِلى هذه العاقبة، فتقول: (وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً).

إِنَّ جهنَّم ستظهر لهم، وتتضح لهم الأنواع المختلفة مِنَ عذابها، وهذا هو بحدّ ذاته عذاب أليم موجع، فكيف إِذا ولجوها!؟ مَن هُم الكافرون؟ ولماذا يُصابون بمثل هذه العاقبة؟

الآية تعرَّف هؤلاء بجملة قصيرة واحدة بقولها: (الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري) وبالرغم من أنّهم يمتكون آذاناً، إلاّ أنّهم يفقدون القدرة على السماع: (وكانوا لا يستطيعون سمعاً).

فهؤلاء أسقطوا في الواقع أهم وسيلة لمعرفة الحق وإِداركه، وأهملوا والوسيلة الهامة في شقاء أو سعادة الإِنسان، يعني أنَّهم غطّوا أعينهم وأسماعهم بحجاب وستار بسبب أفكارهم الخاطئة وتعصبهم وحقدهم وصفاتهم القبيحة الأُخرى.

الطريف في الأمر أنَّ الآية تقول فيما يخص العين: إِنّها كانت مُغطاة وبعيدة عن ذكري، وهذه إِشارة إلى أنّهم لم يستطيعوا أن يشاهدوا آثار الخالق جلَّ وعلا، لأنّهم كانوا في ستار وحجاب مِن الغفلة، ولأنّهم لم يشاهدوا الحقائق فقد اختلفوا الأساطير ونسوا الله.

نعم، إِنَّ الحق الواضح، وكل شيء في هذا الوجود يتحدث مع الإِنسان، والمطلوب أن تكون للإِنسان عين تنظر وأذن تسمع!

بعبارة أُخرى: إِنَّ ذكر الله ليسَ شيئاً يُمكن رؤيته بالعين، فما يشاهد هو آثاره، إِلاَّ أنَّ آثاره هي التي تذكّر الإِنسان بخالقه.

الآية التي بعدها تشير إِلى نقطة انحراف فكرية لدى هؤلاء هي أصل انحرافاتهم الأُخرى، فتقول: (أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي مِن دوني أولياء).

[375]

هل يملك هؤلاء المعبودون ـ كالمسيح والملائكة ـ شيئاً للدفاع عن الآخرين بالرغم مِن مكانتهم العالية، أو أنَّ الأمر بالعكس إِذ كل ما عندَ هؤلاء هو مِن الله، وأنّهم أنفسهم يحتاجون إِلى هدايته؟

إِنّ هذه حقيقة واضحة، ولكنَّ هؤلاء تناسوها وتورطوا في شراك الشرك.

في ختام الآية وللمزيد مِن التأكيد، تقول الآية: (إِنّا اعتدنا جهنم للكافرين نزلا).

«نزل» على وزن «رُسل» بمعنى الإِقامة، وتعني أيضاً الشيء الذي يُهَيَّأ لتقديمه للضيوف، وذهب البعض إِلى أن هذه الكلمة تطلق على أوّل شيء يقدم للضيف عند وروده كالفواكه والشراب.

* * *

[376]

الآيات

قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَْخْسَرِينَ أَعْمـلا(103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً(104) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِئَايـتِ رَبِّهِمْ وَلِقَآئِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمـلُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيـمَةِ وَزْناً(105) ذلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَُذُوا ءَايـتِى وَرُسُلِى هُزُواً(106) إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحـتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّـتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا(107) خـلِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا(108)

التّفسير

أخسر الناس:

هذه الآيات والآيات اللاحقة ـ إِلى نهاية السورة المباركة ـ في الوقت الذي تتحدَّث فيه عن صفات غير المؤمنين، فإِنّها تُعتبر نوعاً مِن التلخيص لكافة البحوث التي وردت في هذه السورة، خاصةً البحوث المتعلقة بقصة أصحاب الكهف وموسى والخضر وذي القرنين، وما بذلوه مِن جهود إِزاء معارضيهم.

[377]

فالآيات تكشف أوّلا عن أخسر الناس، ولكنّها ـ بهدف إِثارة حب الإَستطلاع لدى المستمع إزاء هذه القضية ـ تعمد إِلى إِثارتها على شكل سؤال مُوَّجه إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فتقول: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا).

ثمّ يأتي الجواب بدون أي توقف حتى لا يبقى المستمع في حيرة، فتقول: (الذين ضلَّ سعيهم في الحيوة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً).

مفهوم الخسران لا ينطبق على خسران الأرباح وحسب، بل إِنَّ الخسران الواقعي هو خسران أصل رأس المال، وهل هناك رأس مال أربح وأفضل وأحسن مِن العقل والذكاء والطاقات الإِلهية الموهوبة للإِنسان مِن عمر وشباب وصحة؟

إِنَّ نتاج كل هذه المواهب هي أعمال الإِنسان، وأعمال الإِنسان هي في الواقع انعكاس وتجسيد لطاقاتنا وقدراتنا.

عندما تتحوَّل هذه الطاقات إِلى أعمال مخرَّبة أو غير هادفة، فكأنّها قد فنيت أو ضاعت، فهي كمثل الإِنسان الذي يحمل ثروة عظيمة معهُ، ولكنَّهُ أثناء ذهابه إِلى السوق يفقد هذه الثروة ويعود بيد خالية.

وقد لا يكون الخسران خسراناً خطيراً عندما يتعلّم الإِنسان مِن فقدان الثروة دروساً كبيرة قد تكون في قيمتها مُساويه للثروة التي فقدها، أو أكثر قيمة مِنها في بعضِ الأحيان، فكأنّه لم يخسر شيئاً.

إِلاَّ أنَّ الخسران الحقيقي والمضاعف هو أن يفقد الإِنسان رأسماله المادي والمعنوي في مسالك خاطئة ومجالات منحرفة ويظن أنَّهُ أحسن العمل، فهو في هذه الحالة لم يحصل على ثمرة لعمله، وفي نفس الوقت لم يلتفت إِلى ما هو فيه، فيكرِّر العمل.

الجميل هنا، إِنَّ القرآن الكريم استخدم تعبير (الأخسرين أعمالا) في حين أنّ المفروض هو القول: «الأخسرين عملا» (لأنَّ التمييز مفرد عادة) ولكن لعل

[378]

هذه الصياغة القرآنية بسبب أنّهم لم يخسروا في عمل معين، بل إِنَّ جهلهم المركب كانَ سبباً للخسران في جميع البرامج الحياتية وفي جميع أعمالهم.

بعبارة أُخرى: إِنَّ الإِنسان قد يربح في تجارة معينة ويخسر في أُخرى، إِلاَّ أنَّ المحصلة في نهاية السنة هي أنَّهُ لا توجد خسارة كبيرة، ولكن مِن سوء حظ الإِنسان أن يخسر في جميع الأعمال التي اشترك فيها.

استخدم كلمة «ضلَّ» لعله إِشارة إِلى هذه الحقيقة; وهي أنَّ أعمال الإِنسان  لا تفني في هذا العالم بأى صورة مِن الصور، كما أنَّ المادة والطاقة تتبدّل وتتغيّر ولكنَّها لا تفنى، ولكن قد تختفي أحياناً، لأنَّهُ لا يمكن مشاهدة آثارها بالعين،  ولا يمكن الإِستفادة مِنها بأي شكل مِن الاشكال ومثلها في ذلك مثل رأس المال الضائع والذي لا هو في حوزتنا فنستفيد مِنهُ، ولا هو فان.

أمّا لماذا يُصاب الإِنسان نفسياً بمثل هذه الحالات؟ فهو أمرٌ سنبحث فيه مفصلا في فقرة البحوث.

الآيات الأُخرى تذكر صفات ومعتقدات هذه المجموعة مِن الخاسرين، حيث تبدأ بتلك الصفات التي تكون أساساً في مصائبهم فتقول: (أُولئك الذين كفروا بآيات ربّهم). إِنّهم كفروا بالآيات التي تفتح الأبصار والمسامع; الآيات التي ترفع حُجب الغرور وتجسَّد الحقائق أمام الإِنسان، وأخيراً فإِنّها آيات النور والضياء التي تخرج الإِنسان مِن ظُلمات الأوهام والتصورات الخاطئة وترشده إِلى عالم الحقائق.

ثمّ إِنّهم بعد ذلك نسوا الله وكفروا بالمعاد وبلقاء الله (ولقائه).

نعم، فما لم يكن الإِيمان بالمعاد إِلى جانب الإِيمان بالمبدأ، وما لم يحس الإِنسان بأنَّ هناك قوّة تراقب أعماله وتحتفظ بكل شيء إِلى لحظة انعقاد المحكمة الكبيرة الدقيقة والقاسية، فإِنَّ الإِنسان سوف لا يعير أهمية إِلى أعماله وسوف لا يصلح نفسه.

[379]

ثمّ تضيف الآية أنَّهم بسبب مِن كفرهم بالمبدأ والمعاد فإِنَّ أعمالهم قد حبطت وضاعت: (فحبطت أعمالهم). وغدت تماماً كالرماد في مقابل العاصفة الهوجاء.

ولأنّهم لا يملكون عملا قيماً ثميناً لذا: (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً).

لأنَّ الوزن يخص الأُمور الموجودة، أمّا هؤلاء فلا يملكون شيئاً مِن الأعمال، ولذلك ليسَ لهم وزن ولا قيمة؟ وفي إِطار بيان جزاء هؤلاء، تكشف الآية عن ثالث سبب في انحراف وخسران هؤلاء، وهو الاستهزاء بما انزل الله فتقول: (ذلك جزاؤهم جهنّم بما كفروا واتّخذوا آياتي ورسلي هزواً)(1).

وبذلك فإِنَّ هؤلاء انتهوا إِلى إِنكار الأصول الأساسية الثلاثة في الإعتقاد الديني (المبدأ، والمعاد، ورسالة الأنبياء) والأكثر مِن الإِنكار أنّهم استهزؤوا بهذه الأُمور!

والآن بعد أن عرفنا علامات الكفار والأخسرين أعمالا، وبعد أن انكشفت عاقبة أعمالهم، تتوجه الآيات إِلى المؤمنين فتبيِّن عاقبتهم، وبمقايسة بين الاثنين نستطيع تشخيص كل طرف بشكل كامل. تقول الآية: (إِنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا).

«الفردوس» بقول كبار المفسّرين (البستان) الذي يشتمل على كل النعم والمواهب اللازمة، وبذلك فالفردوس هو أفضل وأكمل البساتين في الجنّة.

وبما أنَّ كمال النعم بدوامها وأن لا تطالها يد الزوال، لذا فإِنَّ الآية تقول  بلا فصل: (خالدين فيها).

وبالرغم مِن أنَّ طبع الإِنسان قائم على التغيُّر والتنوّع، إِلاَّ أنَّ سكان الجنّة

____________________________

1 ـ هناك كلام بين المفسّرين حول تركيب جملة (ذلك جزاؤهم) فالبعض اعتبر «ذلك» مبتدأ و«جزاؤهم» خبراً و«جهنم» بدلا، في حين أنّ البعض الآخر اعتبر أنَّ المبتدأ محذوف و«ذلك» خبراً له، و«جزاؤهم جهنم» مبتدأ لخبر آخر تقديره: الأمر ذلك جزاؤهم جهنم. إِلاّ أنّهم يظهر أنَّ الرأي الأوّل أكثر تناسباً من غيره.

[380]

 لا يطلبون تغيير مكانهم أو حالهم أبداً: (لا يبغون عنها حولا). ذلك لأنّهم يجدون كل ما يطلبون حتى التنوع والتكامل كما سيأتي شرح ذلك.

* * *

بحوث

1 ـ مَن هم الأخسرون أعمالا؟

نلاحظ في حياتنا وحياة الآخرين، أنَّ الإِنسان عندما يقوم بعمل خاطىء ويعتقد أنَّهُ صحيح، فإِنَّ جهلهُ المركب هذا لا يدوم أكثر مِن لحظة أو موقف أو حتى سنة، أمّا أن يدوم على امتداد عمره فذلك هو سوء الحظ وهو الخسران المبين.

لهذا وجدنا القرآن الكريم يسمي مثل هؤلاء الأشخاص بالأخسرين، لأنَّ الذي يرتكب الذنب وهو يعلم بذلك، فإِنَّهُ سيضع حداً لما هو فيه ويعوّض عن الذنب بالتوبة والعمل الصالح، أمّا أُولئك الذين يظنون أن ذنوبهم عبادة وأعمالهم السيئة أعمالا صالحة، وانحرافهم استقامة، فإِنَّ مثل هؤلاء لا يستطيعون التعويض عن ذنوبهم، بل يستمرون فيما هُم فيه إِلى نقطة النهاية، فيكونون كما عبَّر عنهم القرآن: (بالأخسرين أعمالا).

وفي الرّوايات والأحاديث الإِسلامية تفاسير مُتعدِّدة للأخسرين أعمالا، وإِنَّ كل واحد مِنها إِشارة إِلى أحد المصاديق الواضحة لهذا المفهوم الواسع مِن دون أن تحدَّده، ففي حديث «أصبغ بن نباتة» أنّه سأل الإِمام علي(عليه السلام) عن تفسير الآية، فقال الإِمام: «كَفَرَة أهل الكتاب، اليهود والنصارى، وقد كانوا على الحق فابتدعوا في أديانهم وهم يحسبون أنّهم يحسبون صنعاً»(1).

وفي حديث آخر عن الإِمام علي(عليه السلام) أيضاً، قوله بعد ذكر الجواب الآنف:

____________________________

1 ـ يراجع نور الثقلين، ج 3، ص 311 ـ 312.

[381]

«وما أهل النهر مِنهم ببعيد» يعني(عليه السلام) الخوارج(1).

وفي حديث ثالث هنا إِشارة خاصّة إِلى الرهبان (الرجال والنساء الذين يتركون الدنيا) والمجاميع التي ابتدعت البدع مِن المسلمين(2).

وهناك قسم مِن الرّوايات تفسِّر الآية بـ (الذين يُنكرون ولاية أمير المؤمنين الإِمام علي(عليه السلام))(3).

أليسَ الرهبان الذي يعيشون كل عمرهم في زاوية مِن الزوايا (في الدير مثلا) ويعانون أنواع الحرمان، ويمتنعون عن الزواج والأكل والملابس الجيدة، ويفضلون سُكنى الدير على كل شيء وهم يظنون أنَّ هذه الحياة تقرّبهم إِلى الله، أليسَ هؤلاء مصداقاً واضحاً للاخسرين أعمالا؟!

هل هُناك مذهب أو دين إِلهي يمكن أن يدعو إِلى خلاف قانون العقل والفطرة، أي يدعو الإِنسان الإِجتماعي إِلى الإِبتعاد عن الحياة، ويعتبر هذا العمل مصدراً للتقرب إِلى الله تعالى؟!

إِنَّ الذين أوجدوا البدع في دين الله من قبيل التثليث في مقابل توحيد الله الواحد الأحد، واعتبروا المسيح بن مريم ابن الله، وأدخلوا خرافات أُخرى في دين الله، ظناً مِنهم بأنّهم يُحسنون صُنعاً، أليسَ هؤلاء وأمثالهم هم أخسر الناس؟!

ألا يُعتبر خوارج «النهروان» مِن أخسر الناس، وهم المجموعة الجاهلة التي ارتكبت أعظم الذنوب (مثل قتل الإِمام علي(عليه السلام)) ظناً مِنهم أنَّ هذا الأمر سيقربهم مِن الله، بل واعتبروا أنَّ الجنّة مخصوصة لهم؟!

الخلاصة: إِنَّ الآية لها مفهوم واسع، إِذ تشمل أقواماً كثيرين في السابق والحاضر والمستقبل.

____________________________

1 ـ المصدر السّابق.

2 ـ المصدر السّابق.

3 ـ المصدر السّابق.

[382]

والآن نصل إِلى هذا السؤال: ما هو مصدر هذا الإِنحراف الخطير؟

إِنَّ التعصب القوي والغرور والتكبر وحب الذات، هي مِن أهم العوامل التي تقود إِلى مثل هذه التصورات الخاطئة. وفي بعض الأحيان يكون التملق، أو الإِنطواء على النفس لفترة معينة سبباً لظهور هذه الحالة، حيث يتصوّر الإِنسان أنَّ كل أعماله الخاطئة المنحرفة هي أعمال جميلة، بحيث يشعر بالفخر والغرور والمباهاة بدلا مِن إِحساس الخجل والشعور بالعار بسبب أعماله القبيحة. يقول القرآن في مكان آخر واصفاً هذه الحالة: (أفمن زُين لهُ سوء عمله فرآه حسناً)(1) وفي آيات أُخرى، نقرأ أنَّ الشيطان هو الذي يُزيِّن للإِنسان سيئاته حسنات، ويمنيهم بالغلبة والنصر، كما في قوله تعالى: (وإِذ زيَّن لهم الشيطان أعمالهم وقالَ لا غالب لكم اليوم مِن الناس وإِنّي جار لكم)(2).

ويقول القرآن بعد قصّة برج فرعون المعروف: (وكذلك زين لفرعون سوء عمله). والآية تعليق على عمل فرعون عندما طلب مِن هامان أن يبني لهُ برجاً لِيطّلع بزعمه إِلى إِله موسى كما في الآيتين (36 ـ 37) مِن سورة غافر.

2 ـ ماذا يعني لقاء الله؟

بالرغم مِن أنَّ بعض أشباه العلماء يستفيدون مِن أمثال هذه الآيات إِمكانية رؤية الخالق جلَّ وعلا في العالم الآخر، ويفسّرون لقاء الله باللقاء الحسي، إِلاَّ أنَّهُ مِن المعلوم بداهة أنَّ اللقاء الحسي يقتضي تجسيم الخالق جلَّ وعلا، والتجسيم يقتضي التحديد والحاجة، والمحدود المحتاج يكون قابلا للفناء، والكل يعرف ويؤمن بأنَّ هذه الصفات لا تنطبق على الله تعالى.

لذا فإِنَّ القصد مِن اللقاء أو الرؤيا في الآيات القرآنية ليسَ الرؤية الحسية، بل

____________________________

1 ـ فاطر، 8.

2 ـ الأنفال، 48.

[383]

الرؤية الباطنية المعنوية.

يعني أنَّ الإِنسان في يوم القيامة يُشاهد آثار الخالق أكثر وأفضل مِن أي زمان، لذا فإِنَّهُ ينظر إِليه بوضوح، بعين القلب الواعي البصير. لهذا السبب ـ ووفقاً للآيات القرآنية ـ فإِنَّهُ حتى أشد الناس إِنكاراً للخالق وأكثرهم عناداً، سوف يقر يوم القيامة بوجود الخالق، وأنّه لا مجال لانكاره(1).

بعض المفسّرين اعتبر هذا المفهوم (لقاء الله) مشاهدة النعم والثواب، وأيضاً العذاب والعقاب الإِلهي وفي ذلك تكون كلمة الثواب والعقاب مقدّرة في الآية.

وبالرغم من أن هذان التّفسيران لا تعارض بينهما، إِلاَّ أنَّ التّفسير الأوّل يبدو أظهر وأوضح.

3 ـ وزن الأعمال

ليسَ بنا حاجة إِلى أن نفسّر قضية وزن الأعمال عن طريق تجسيم الأعمال والقول بأنَّ عمل الإِنسان سيتحوَّل هناك إِلى جسم وله وزن، ذلك لأنَّ الوزن لهُ معنى واسع يشمل أية مقايسة، فمثلا نقول للأشخاص عديمي الشخصية أنّهم أشخاص لا وزن لهم، أو أنّهم أشخاص خفيفون، ونعني بذلك ضعف شخصيتهم وليسَ القلّة في وزنهم الجسمي.

والجميل هنا أنَّ الاية تصف الأخسرين أعمالا بأنّنا لم نضع لهم يوم القيامة ميزاناً للقياس. ولكن هل تتعارض هذه الآية مع قوله تعالى في الآية (8) مِن سورة الأعراف: (والوزن يومئذ الحق

طبعاً لا، لأنَّ الوزن يخصّ الأشخاص الذين قاموا بأعمال تستحق الوزن، أمّا الشخص الذي لا يساوي وجوده وأعماله وأفكاره حتى جُناح بعوضة، فهل هو بحاجة إِلى الوزن؟!

____________________________

1 ـ يمكن مراجعة سورة المؤمنون، الآية 106 فما فوق.

[384]

لهذا السبب نقرأ في رواية معروفة عن النّبي قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنَّهُ ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن جناح بعوضة»(1).

لماذا؟ لأنَّ أعمال مثل هؤلاء وأفكارهم وشخصيتهم كانت في الحياة الدنيا عديمة الأهمية والفائدة.

ومِن هنا يتّضح أنَّ الناس هناك على عدَّة أنواع هي:

1 ـ مجموعة تكون مُثقلة بالحسنات والأعمال الصالحة بحيث لا تحتاج إِلى الوزن والحساب في أعمالها، بل تدخل الجنّة بدون حساب.

2 ـ مجموعة ثانية من الذين حبطت أعمالهم، أو ليسَ لهم أي عمل الصالح، وهذه لا تحتاج إِلى وزن أيضاً، بل تدخل النّار بدون حساب.

3 ـ أمّا المجموعة الثّالثة، فهي التي تملك السيئات والحسنات، وهذه يشملها الوزن والحساب. وقد يكون أكثر الناس مِن هذه الفئة.

4 ـ تفسير قوله تعالى: ( لا يبغون عنها حولا)

(حول) على وزن (علل) لها معنى مصدري وتعني التحوّل ونقل المكان، وكما قلنا في تفسير الآيات، فإِنَّ الفردوس بستان الجنة توجد فيه أفضل النعم والمواهب الإِلهية، ولهذا السبب فإِنّها تعتبر أفضل مناطق ذلك العالم، حيث أنَّ الساكنين فيها لا يتمنون أبداً الإِنتقال مِنها إِلى مكان آخر.

وقد يقول البعض: إِنَّ الحياة قد تكون هناك رتيبة وراكدة، وهذا بحد ذاته نقص وعيبٌ كبيرٌ فيها؟!

في الجواب نقول: ليس ثمة مانع مِن أن يكون التحوُّل والتكامل في نفس المكان، إِذا توافرت أسباب التكامل واجتمعت هناك، وهي ـ قطعاً ـ متوافرة. وفي ظل الأعمال التي قام بها الإِنسان في هذه الدنيا، فإِنَّ الإِنسان ـ مِن خلال

____________________________

1 ـ عن تفسير مجمع البيان، في تفسيره للآية.

[385]

المواهب الإِلهية هناك ـ سوف يستمر في طريق تكامله بشكل دائم ومستمر.

وسنقوم إِن شاء الله بشرح أفضل لتكامل الإِنسان حتى في الجنة، وذلك في نهاية الآيات التي تُناسب الموضوع.

5 ـ الفردوس لمن؟

قلنا: إِنَّ «الفردوس»(1) أفضل مناطق الجنة، ولا يسكنهُ سوى المؤمنين وذوي الأعمال الصالحة، إِذاً سيكون السؤال: مَن يسكن الأقسام الأُخرى في الجنة، إِذا كانت الجنة مكاناً للمؤمنين وحسب وممنوعة على غيرهم؟

في الجواب نقول: إِنَّ الفردوس لا تشمل كل مؤمن ذي عمل الصالح، بل هي لمن بلغ درجة عالية مِن الإِيمان والعمل الصالح، وهذه المرتبة هي المعيار للوصول إِلى الفردوس بالرغم مِن أنَّ ظاهر الآية مطلق، إِلاَّ أنَّ الإِنتباه إِلى معنى الفردوس يقيّد الإِطلاق المذكور.

لذلك عندما تتحدث سورة المؤمنون عن صفات ورثة الفردوس فإِنّها تبيّن الحد الأعلى لصفات المؤمنين والذي لا يكون موجوداً عند جميع الأفراد. وهذا دليل آخر على أنَّ سكنة الفردوس يملكون صفات ممتازة بالإِضافة إِلى شَرطي الإِيمان والعمل الصالح.

لذلك رأينا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث سابق، يعلمنا بأنّنا عندما نطلب الجنّة، فعلينا أن ندعو لنيل الفردوس بالخصوص، لأنّها أكمل وأفضل منازل الجنّة.

وهذه إِشارة إِلى ضرورة أن تنصرف همة المؤمن ـ في كل الأُمور ـ إِلى أعلى حد، وحتى في الجنة عليه أن لا يقنع بمراحلها الدنيا بالرغم ممّا في هذه المراحل

____________________________

1 ـ ذهب بعض إِلى أن هذه الكلمة مأخوذة من اللغة الرومية في الأصل، وذهب آخرون الى أن جذورها حبشية انتقلت الى العربية (تفسير الفخر الرازي وتفسير مجمع البيان).

[386]

مِن نعم ومواهب.

وطبيعي أنَّ الذي يطلب هذه المنزلة مِن الله لا بدَّ وأن يكون قد أعدَّ نفسهُ لها، وعليه أن يبذل كل سعيه وجهده لكسب أفضل الصفات وأرضى الأعمال.

ومن ذلك يعلم أن من يقول بأن المهم هو أن أدخل الجنة حتى في أدنى درجة منها هو شخص يفتقد للهمة العالية للمؤمنين الحقيقيين.

* * *

[387]

الآيتان

قُلْ لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمـتِ رَبِّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمـتُ رَبِّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً(109) قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَا إِلـهُكُمْ إِلـهٌ وحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَـلِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً(110)

سبب النّزول

عن ابن عباس قال: «قالت اليهود لما قال لهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) (وما أوتيتم مِن العلم إِلاَّ قليلا) قالوا: وكيف وقد أوتينا التوراة وَمَن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً؟ فنزل قوله تعالى: (قل لو كانَ البحر مِداداً لكلمات ربّي لنفد البحر).

وقيل أيضاً: قالت اليهود: إِنّك أوتيت الحكمة، ومَن أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، ثمّ زعمت ـ والمخاطب هنا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ أنّك لا علم لك بالروح؟ فأمره الله تعالى أن يجيبهم بأنّي وإِن أوتيت القرآن وأوتيتم التوراة فهي بالنسبة إِلى كلمات الله تعالى قليلة»(1).

____________________________

1 ـ تفسير القرطبي، المجلد11 ـ 12، صحفة 68 ـ 69. وكذلك تفسير الصافي أثناء الحديث عن الآية.

[388]

التّفسير

الذين يأملون لقاء الله:

الآيات أعلاه في نفس الوقت الذي تبحث بحثاً مستقلا، إِلاَّ أنّها متصلة مع بحوث هذه السورة، حيثُ أنَّ كل قصة مِن القصص الثلاث الواردة في السورة، تكشف الستار عن مواضيع جديدة وعجيبة، وكأنّما القرآن يريد أن يقول في هذه الآيات: إِنَّ الإِطلاع على قصّة أصحاب الكهف، وموسى والخضر، وذي القرنين، يعتبر لا شيء إِزاء علم الله غير المحدود، لأنَّ علمهُ سبحانه وتعالى ومعرفتهُ تشمل كافة الكائنات وعالم الوجود في الماضي والحاضر والمستقبل.

القرآن الكريم يخاطب الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في أوّل آية نبحثها بقوله: (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربّي لنفذ البحر قبل أن تنفد كلمات ربّي ولو جئنا بمثلهُ مدداً).

«مداد» تعني الحبر، أو أي مادة ملونة تساعد في الكتابة، وهي في الأصل مأخوذة مِن «مدَّ» بمعنى السحب، حيث تتوضح خطوط الكتابة بسحب القلم(1).

(كلمات) جمع كلمة، وهي في الأصل تعني الألفاظ التي يتمّ التحدّث بها، أو بعبارة أُخرى: الكلمة لفظ يدل على المعنى، وبما أنَّ كل موجود مِن موجودات هذا العالم هو دليل على علم وقدرة الخالق، لذا فإِنَّهُ يطلق في بعض الأحيان على كل موجود اسم (كلمة الله) ويختص هذا التعبير أكثر بالموجودات المهمّة العظيمة.،

فبالنسبة للمسيح عيسى(عليه السلام) يقول القرآن الكريم: (إِنّما المسيحُ عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إِلى مريم)(2).

____________________________

1 ـ نقل الفخر الرازي في معنى (مداد) إِضافة إِلى ما ذكر معنىٌ آخر، وهو «الزيت» الذي يوضع في المصباح ويكون سبباً للنور، والإِثنان يرجعان إِلى معنى واحد.

2 ـ النساء، 171.

[389]

وفي الآية التي نبحثها فإِنَّ (كلمة) قد استخدمت بهذا المعنى، أي إِشارة إِلى موجودات عالم الوجود التي تدل كل واحدة فيه على الصفات المختلفة لله تبارك وتعالى.

وفي الحقيقة إِن القرآن يُلفت أنظارنا في هذه الآية إِلى هذه الحقيقة وهي:  لا تظنّوا أنَّ عالم الوجود محدود بما تشاهدونه أو تعلمونه أو تحسّونه، بل هو على قدر مِن السعة والعظمة بحيث لو أنَّ البحار تتحول إِلى حبر، وتكتب صفاته وخصائصه، فإِنّها ـ أي البحار ـ ستجف قبل أن تحصي موجودات عالم الوجود.

ومِن الضروري الإِلتفات هنا إِلى أنَّ كلمة البحر يراد بها الجنس وكذلك كلمة (مثل) في قوله: (ولو جئنا بمثله مدداً) فإنّه يراد بها الجنس أيضاً، وهذه إِشارة إِلى أنّنا مهما أضفنا مِن أمثال هذه البحار إِليها فإِنَّ الكلمات الإِلهية لا تنتهي  ولا تنفد.

ولهذا السبب فليس ثمّة تعارض بين هذه الآية وما ورد في سورة لقمان حيث قوله تعالى في الآية (27): (ولو أنَّ ما في الأرض مِن شجرة أقلام والبحر يمده مِن بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله). يعني أنَّ هذه الأقلام ستتكسر والمحابر ستجف حتى آخر قطرة، ومع ذلك فإِنّ أسرار المخلوقات وحقائق عالم الوجود لا تنتهي.

وينبغي الإِنتباه هنا إِلى أنَّ الآية أعلاه في الوقت الذي تُجسِّد فيه سعة عالم الوجود اللامتناهية في الماضي والحاضر والمستقبل، فإِنّها تُوَضِّح ـ أيضاً ـ العلم المطلق وغير المحدود للخالق جلَّ وعلا، لأنّنا نعلم أنَّ الله سبحانه وتعالى يحيط علمه بما كان موجوداً في عالم الوجود، وبما سيكون موجوداً. وفي الوقت الذي يعتبر فيه علم الله تعالى «علماً حضورياً» فإِنّه لا يفترق عن وجود هذه الموجودات. (فدقق في ذلك).

إِذن نستطيع أن نقول: لو أنَّ جميع المحيطات وبحار الأرض تحولت إِلى

[390]

حبر ومداد، ولو أنَّ كافة الأشجار تحولت إِلى أقلام، فإِنَّ ذلك كُلّه لا يستطيع الإِحاطة بما موجود في عالم الخالق جلَّ وعلا.

توضيح لمفهوم اللانهاية:

يقوم القرآن الكريم بتجسيد العدد اللانهائي ويقرب معنى العلم المطلق غير المحدود لله تعالى، ويقرب سعة عالم الوجود العظيم إِلى أفكارنا. وقد استخدم القرآن في ذلك توضيحاً بليغاً للغاية، وذكر أرقاماً حيَّة وذات روح.

تُرى هل هناك أعداد حيَّة وأُخرى ميتة؟

نعم، ففي الرياضيات إِذا وُضعت الأصفار إِلى يمين العدد الصحيح فهي  لا تعبِّر في الواقع سوى عن أعداد ميتة لا تستطيع أن تجسِّد عظمة شيء معين.

الأشخاص الذين يهتمون بالقضايا الرياضية والحسابية يعرفون أنَّ العدد الواحد (كرقم واحد مثلا) لو وضع أمامهُ مِن الجهة اليمنى أصفاراً بطول كيلومتر واحد، فسيكون عدد عظيم جدّاً ومحيِّر ولا يمكن تصوّر عظمته، ولكن لمن؟ للاشخاص الرياضيين لا عامّة الناس الذين لا يستطيعون تصور العظمة في هذا الرقم.

العدد الحي هو العدد الذي تنشغل أفكارنا به، ويجسِّد الحقائق كما هي ويملك روحاً ولساناً وعظمة.

والقرآن الكريم بدلا مِن أن يقول: إِنَّ مخلوقات عالم الوجود تتجاوز في كثرتها الرقم الذي تقع على يمينه مئات الكيلومترات مِن الأصفار، يقول: إِذا تحولت جميع الأشجار إِلى أقلام، وكل البحار إِلى مواد وحبر، فإِنَّ الأقلام ستتكسر ومياه البحار ستنتهي، ولا تنتهي أسرار ورموز وحقائق عالم الوجود، هذه الأسرار التي يحيط بها جميعاً علم الله تعالى.

فكروا جيداً وتأملوا المقدار الذي يستطيع أن يكتبهُ القلم، ثمّ ما هو عدد

[391]

الأقلام التي يمكن صناعتها مِن غصن واحد صغير من شجرة معينة؟

ومعلوم أن باستطاعتنا صناعة آلاف بل حتى ملايين الأقلام مِن شجرة كبيرة عظيمة، ولنا أن نتصوّر الكمية من الاقلام التي يمكن صنعها مِن أشجار الأرض جميعاً وغاباتها!

من الجهة الثّانية لنا أن نتصوّر عدد الكلمات التي يمكن كتابتها مِن قطرة حبر واحدة، ثمّ علينا أن نتصوَّر ما نستطيع كتابته مِن حوض واحد، فبحيرة واحدة، فبحر واحد، فمحيط، ومِن ثمّ جميع بحار الأرض ومحيطاتها!

إِنَّ الحصيلة ـ بلا شك ـ ستكون رقماً عجيباً وخيالياً!!

وتتوضح عظمة المثال القرآني إِذا عرفنا أنَّ رقم (سبع) ليسَ للتحديد، بل هو إِشارة للكثرة، ومعنى هذا الكلام أنّنا لو أضفنا لهذا العدد أضعافه مِن البحار، فإِنَّ كلمات الله لا تنفد.

والآن لِنتصور الحيوية والروح الدافقة في هذا العدد، والشاهد الحي الذي يبغث اليقظة في روح الإِنسان، ويشغل فكره ويجعلهُ يفكِّر في آفاق اللانهاية!

إِنَّ العدد الذي يتضمنه المثال القرآني يحس بعظمته الجميع سواء كانوا رياضيين أو أميين.

نعم، إِنَّ علم الله تعالى هو أعلى وأوسع مِن هذا العدد.

علم غير محدود ولا مُتناهي.

علم يشمل كل الوجود، سابقاً وحاضراً ومستقبلا، وهو يضم في طياته كل الأسرار والحقائق!

الآية الثّانية في البحث والتي هي آخر آية في سورة الكهف، عبارة عن مجموعة مِن الأسس والأصول للإِعتقادات الدينية، التي تتركز في التوحيد والمعاد ورسالة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم). والآية في مضمونها إِشارة إِلى نفس المضمون الذي ورد في بداية السورة المباركة. ففي البداية تحدَّثت السورة عن الله والوحي

[392]

والجزاء والقيامة، والآية الأخيرة هي خلاصة لمجموع ما ورد في السورة، التي اشتملت في قسم مهم منها على الأصول الثلاثة الآنفة باعتبارها محاور للسورة.

ولأنَّ قضية النبوة قد اقترنت مع أشكال مِن الغلو والمبالغة على طول التأريخ، لذا فإِنَّ الآية تقول: (قل إِنّما أنا بشرٌ مِثلكم يوحى إِليّ).

وهذا التعبير القرآني نسف جميع الإِمتيازات المقرونة بالشرك التي تُخرج الإنبياء مِن صفة البشرية إِلى صفة الألوهية.

ثمّ تشير الآية إِلى قضية التوحيد مِن بين جميع القضايا الأُخرى في والوحي الالهي حيث تقول: (إِنما إِلهكم إِله واحد).

أمّا لماذا تمت الإِشارة إِلى هذه القضية؟ فذلك لأنَّ التوحيد هو خلاصة جميع المعتقدات، وغاية كل البرامج الفردية والإِجتماعية التي تجلب السعادة للإِنسان.

وفي مكان آخر، أشرنا إِلى أنَّ التوحيد ليسَ أصلا مِن أصول الدين وحسب، وإِنّما هو خلاصة لجميع أصول وفروع الإِسلام.

لو أردنا ـ على سبيل المثال ـ أن نشبِّه التعليمات الإِسلامية مِن الأصول والفروع على أنّها قطع مِن الجواهر، عندها نستطيع أن نقول: إِنَّ التوحيد هو السلك والخيط الذي يربط جميع هذه القطع إِلى بعضها البعض ليتشكَّل مِن المجموع قلادة جميلة وثمينة.

وإِذا أردنا أن نشبِّه التعليمات الإِسلامية أصولا وفروعاً بأعضاء الجسم، فإِنَّ التوحيد سيكون روح الإِنسان التي تهب الحياة لكافة الأعضاء.

وقد أثبتنا في بحوثنا حول المعاد والنبوة أنَّ هذين الأصلَيْن لا ينفصلان عن التوحيد. يعني: عندما نعرف الخالق بجميع صفاته، فإِنّنا نعلم أنَّ مثل هذا الخالق يجب أن يرسل الأنبياء، وتقتضي حكمته وعدالته أن توجد محكمة عادلة وأن يكون هناك بعثاً.

[393]

والمسائل الإِجتماعية، وكل المجتمع الإِنساني وما يرتبط به، ينبغي أن يكون فيه شعاع مِن التوحيد حتى يتوحد وينتظم ويستقر.

لهذا السبب نقرأ في الأحاديث القدسية إِن: «كلمة لا اله إلاّ الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي».

وكل منّا قد سمع أيضاً أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال في بداية الإِسلام: (قولوا لا إِله إِلاَّ الله تفلحوا).

الجملة الثّالثة في الآية الكريمة تشير إِلى قضية البعث وتربطها بالتوحيد بواسطة (فاء التفريع) حيث تقول: (فمن كان يرجوا لقاءَ ربّه فليعمل عملا صالحاً).

بالرغم مِن أن لقاء الله بمعنى المشاهدة الباطنية ورؤية الذات المقدسة بعين البصيرة هو أمرٌ ممكن في هذه الدنيا بالنسبة للمؤمنين الحقيقيين، إِلاَّ أنَّ هذه القضية تكتسب جانباً عاماً يوم القيامة بسبب مشاهدة الآثار الكبيرة والواضحة والصريحة للخالق تبارك وتعالى. لذا فإِنَّ القرآن استخدام هذا التعبير في خصوص يوم القيامة.

مِن جانب آخر، فإِنَّ الإِنسان الذي ينتظر أمراً معيناً، ويأمل شيئاً ما، فمن الطبيعي أن يُهيء نفسهُ ويعدّها لإِستقبال ذلك الأمر. أمّا الشخص الذي يدّعي  ولا يستعد، وينتظر ولا يعمل، فهو في الواقع مدع كاذب لا غير.

لهذا السبب فإِنَّ الآية أعلاه تقول: (فليعمل عملا صالحاً) وردت بصيغة الأمر; الأمر الذي يلازمه الرجاء والأمل بانتظار لقاء الله.

وفي آخر جملة ثمّة توضيح للعمل الصالح في جملة قصيرة، هي قوله تعالى: (ولا يشرك بعبادة ربّه أحداً).

بعبارة أُخرى: لا يكون العمل صالحاً ما لم تتجلى فيه حقيقة الإِخلاص.

فالهدف الإِلهي يعطي لعمل الإِنسان عمقاً ونورانية خاصّة، ويوجهه الوجهة

[394]

الصحيحة، وعندما نفقد الإِخلاص يكون العمل ذا جنبة ظاهرية حيث يشير إِلى المنافع الخاصّة، ويفقد عمقه وأصالته ووجهتهُ الصحيحة.

في الحقيقة إِنَّ العمل الصالح الذي ينبع مِن أهداف إلهية، ويمتزج بالإِخلاص ويتفاعل معه، هو الذي يكون جوازاً للقاء الله تبارك وتعالى.

وقد أشرنا سابقاً إِلى أنَّ العمل الصالح لهُ مفهوم واسع للغاية، وهو يشمل أي برنامج مفيد وبنّاء، فردي واجتماعي، وفي أي قضية مِن قضايا الحياة.

الإِخلاص أو روح العمل الصالح:

أعطت الرّوايات الإِسلامية مكانةً خاصّة لقضية «النية»، والإِسلام في العادة يقر بقبول الأعمال بملاحظة النية والهدف مِن العمل.

الحديث المشهور عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «لا عمل إِلاَّ بنية» بيانٌ واضح لهذه الحقيقة.

وبعد (النية) هناك (الإِخلاص)، فلو اقترن العمل بالإِخلاص فسيكون عملا ثميناً للغاية، وبدون الإِخلاص هو لا قيمة له. والإِخلاص هو أن تكون الدوافع الإِنسانية خالية مِن أي نوع مِن أنواع الشوائب، ويمكن أن نسمّي الإِخلاص  بـ «توحيد النية» يعني التفكير بالله وبرضاه في جميع الأُمور والحالات.

والطريف في الأمر هنا هو ما ورد في سبب نزول هذه الآية مِن أنَّ رجلا جاء إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إِنّي أتصدق وأصل الرحم، ولا أصنع ذلك إِلاَّ لله، فيذكر ذلك مِنّي، وأحمد عليه فيسرّني ذلك، وأعجب بهِ. فسكت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يقل شيئاً، فنزلت الآية: (... فمن كانَ يرجوا لقاء ربَّه فليعمل عملا صالحاً ولا يشرك بعبادة ربِّة أحداً)(1).

إِنَّ المقصود مِن هذه الرّواية ليسَ الفرح أو السرور اللاإِرادي، بل هي الحالة

____________________________

1 ـ مجمع البيان في تفسير الآية. وكذلك تفسير القرطبي.

[395]

التي يكون فيها الفرح والسرور هدفاً لعمل الإِنسان، أو الحالة التي تؤدي إِلى عدم خلوص النية.

فالعمل الخالص يعتبر مهماً في الإِسلام إِلى الحد الذي يقول فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «مَن أخلص لله أربعين يوماً فجّر الله ينابيع الحكمة مِن قلبه على لسانه»(1).

دعاء الختام:

إِلهي، اجعل نياتنا خالصة في جميع أعمالنا بحيث لا نفكّر بأحد سواك، ولا نعدوك إِلى غيرك ... واجعل ما نريده وما لا نريده تبعاً لطاعتك ورضاك ... آمين ربّ العالمين.

نهاية سورة الكهف

____________________________

1 ـ سفينة البحار، ج 1، ص 408.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=792
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 03