• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء التاسع) ، تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي .
                    • الموضوع : سورة الكهف من آية 47 ـ 82 من ( ص 286 ـ 347 ) .

سورة الكهف من آية 47 ـ 82 من ( ص 286 ـ 347 )

[286]

الآيات

وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرى الأَْرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنـهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً(47) وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ صَفَّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنـكُمْ أَوَّلَ مَرَّةِ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً(48)وَوُضِعَ الْكِتـبُ فَتَرى الُْمجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يـوَيْلَتَنَا مَالِ هـذَا الْكِتـبِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرةً إِلآَّ أَحْصَـهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً(49)

التّفسير

يا ويلتاه مِن هذا الكتاب!

تعقيباً لما كانت تتحدث به الآيات السابقة عن غرور الإِنسان وإِعجابه بنفسه، وما تؤدي إليه هذه الصفات مِن إنكار للبعث والمعاد، يَنصب المقطع الراهن مِن الآيات التي بين أيدينا على تبيان المراحل المُمَهِدَة للقيامة وفق الترتيب الآتي:

1 ـ مرحلة ما قبل بعث الإنسان.

2 ـ مرحلة البعث.

[287]

3 ـ قسم مِن مرحلة ما بعد البعث.

الآية الأُولى تذكّر الإِنسان بمقدمات البعث والقيامة فتقول: إِنَّ إِنهيار معالم الشكل الراهن للعالم هي أوّل مقدمات البعث، وسيتمّ هذا التغيير لشكل العالم مِن خلال مجموعة مظاهر، في الطليعة مِنها تسيير الجبال الرواسي وكل ما يُمسك الأرض ويبرز عليها، حتى تبدو الأرض خالية مِن أيّ مِن المظاهر السابقة: (ويوم نسيّر الجبال وترى الأرض بارزة).

هذه الآية تشير إلى حوادث قبيل البعث، وهي حوادث كثيرة جدّاً. والملاحظ أنَّ السور القصار تتحدث عنها بشكل بارز في إِطار حديثها عمّا بات يُعرف اصطلاحاً بـ «أشراط الساعة».

إنَّ المستفاد مِن مجموعة تلك السور أنَّ وجه العالم الراهن يتغيِّر بشكل كُليّ حيثُ تتلاشي الجبال، وتنهار الأبنية والأشجار، ثمّ تضرب الأرض سلسلة مِن الزلازل، وتنطفيء الشمس، ويخمد نور القمر، وتظلم النجوم. وعلى حطام كل ذلك تظهر إِلى الوجود سماء جديدة، وأرض جديدة، ليبدأ الإِنسان حينئذ حياته الأُخرى في مرحلة البعث والحساب.

بعد ذلك تضيف الآية قوله تعالى: (وحشرناهم فلم نغادر مِنهم أحداً).

«نغادر» مِن «غدر» بمعنى الترك. ولذلك يقال للذي يُخلف الوعد والميثاق ويتركه بأنَّهُ «غدر» ويقال لمياه الامطار المتجمعة في مكان واحد بـ «الغدير» لأنّها قد تركت هناك.

في كل الأحوال، تؤكّد الآية الآنفة الذكر على أنَّ المعاد هو حالة عامّة  لا يستثنى مِنها أحد.

الآية التي بعدها تتحدَّث عن كيفية بعث الناس فتقول: (وعرضوا على ربّك صفاً). إِنَّ استخدام هذا التعبير قد يكون إِشارة إلى حشر كل مجموعة مِن الناس تتشابه في أعمالها في صف واحد; أو أنَّ الجميع سيكونون في صف واحد دون

[288]

أية إِمتيازات أو تفاوت، وسوف يقال لهم: (لقد جئتمونا كما خلقناكم أوَّل مرَّة).

فليسَ ثمّة كلام عن الأموال والثروات، ولا الذهب والزينة، ولا إِلامتيازات والمناصب المادية، ولا الملابس المختلفة، وليسَ هُناكَ ناصر أو معين، ستعودون كمثل الحالة التي خلقناكم فيها أوَّل مرَّة، بالرغم مِن أنّكم كُنتم تتوهمون عدم امكان ذلك: (بل زعتم ألن نجعل لكم موعداً).

وذلك في وقت سيطرت فيه حالة الغرور عليكم بما أوتيتم مِن إِمكانات مادية غفلتم معها عن الآخرة، وأصبحتم تفكرون في حياتكم الدنيا وخلودها، وغفلتم عن نداء الفطرة فيكم.

ثمّ تشير الآيات إلى مراحل أُخرى مِن يوم البعث والمعاد فتقول: (ووضع الكتاب). هذا الكتاب الذي يحتوي على أحوال الناس بكل تفصيلاتها: (فترى المجرمين مُشفقين ممّا فيه). وذلك عندما يطّلعون على محتواه فتتجلى آثار الخوف والوحشة على وجوههم.

في هذه الأثناء يصرخون ويقولون: (ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب  لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة إِلاَّ أحصاها).

الجميع مدعوون للحساب عن كل شيء مهما دنا وَصَغُر، إِنَّهُ موقف موحش.. لقد نسينا بعض أعمالنا وكأن لم نفعلها، حتى كُنّا نظن بأنّنا لم نقم بعمل مُخالف، لكن نرى اليوم أنَّ مسؤوليتنا أصبحت ثقيلة جدّاً ومصيرنا مظلم.

بالإِضافة إلى الكتاب المكتوب ثمة دليل آخر: (ووجدوا ما عملوا حاضراً). وجدوا الحسنات والسيئات; الظلم والعدل، السلبيات والخيانات، كل هذه وغيرها وجدوها مُتجسِّدة أمامهم.

في الواقع إِنّهم يُلاقون مصير أعمالهم: (ولا يظلم ربّك أحداً). الذي سيشملهم هُناك ، هو ـ لا مُحالة ـ ما قاموا به في هذه الحياة الدنيا، لذلك  فلا يلومون أحداً سوى أنفسهم.

* * *

[289]

بحوث

1 ـ سر إِنهدام الجبال

قلنا: إِنَّهُ في يوم الحشر والنشور سيتغير نظام العالم المادي، وقد وردت صياغات مُختلفة حول إِنهدام الجبال في القرآن الكريم، يمكن أن تقف عليها مِن خلال ما يلي:

في الآيات التي نبحثها قرأنا تعبير (نسيِّر الجبال) وإِنَّ نفس هذه الصيغة التعبيرية يمكن ملاحظتها في الآية (20) مِن سورة النبأ. والآية (3) مِن سورة التكوير.

ولكنّنا نقرأ في الآية (10) مِن سورة المرسلات قوله تعالى: (وإِذا الجبال نُسفت).

في حين أنّنا نقرأ في الآية (14) مِن سورة الحاقة قوله تعالى: (وحملت الأرض والجبال فَدُكتا دكةً واحدة).

وفي الآية (14) مِن سورة المزمَّل قوله تعالى: (يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيباً مهيلا).

وفي الآية (5) مِن سورة الواقعة قوله تعالى: (وبست الجبال بساً فكانت هباءاً مُنبثاً).

أخيراً نقرأ قوله تعالى في الآية (5) مِن سورة القارعة: (وتكون الجبال كالعهن المنفوش).

ومِن الواضح أن ليس هُناك تناف أو تضاد بين مجموع الآيات أعلاه، بل هي صيغ لمراحل مُختلفة لزوال جبال العالم ودمارها، هذه الجبال التي تعتبر أكثر أجزاء الأرض ثباتاً واستقراراً، حيث تبدأ العملية مِن نقطة حركة الجبال حتى نقطة تحوّلها إلى غبار وتُراب بحيث لا يرى في الفضاء سوى لونها!

ترى ما هي أسباب هذه الحركة العظيمة المخفية؟

[290]

إِنّها غير معلومة لدينا، إِذ قد يكون السبب في ذلك هو الزوال المؤقت لظاهرة الجاذبية حيثُ تكون الحركة الدورانية للأرض سبباً في أن تتصادم الجبال فيما بينها ثمّ حركتها باتجاه الفضاء. وقد يكون السبب هو الإِنفجارات الذرية العظيمة في النّواة المركزية للأرض، وبسببها تحدث هذه الحركة العظيمة والموحشة.

وعلى كل حال، فهذه الأُمور تدلَّ على أنَّ حالة البعث والنشور هي ثورة عظيمة في عالم المادة الميت، أيضاً في تجديد حياة الناس، حيث تكون كل هذه المظاهر هي بداية لعالم جديد يكون في مستوى أعلى وأفضل، إِذ بالرغم مِن أنَّ الروح والجسم هما اللذان يحكمان طبيعة ذلك العالم، إِلاَّ أنَّ جميع الأُمور ستكون أكمل وأوسع وأفضل.

إِنَّ التعبير القرآني يتضمَّن هذه الحقيقة أيضاً، وهي أنَّ عملية فناء عيون الماء ودمار البساتين هي أُمور سهلة في مقابل الحدث الأعظم الذي ستتلاشى عندهُ الجبال الراسيات، ويشمل الفناء كل الموجودات بما في ذلك أعظمها وأشدّها.

2 ـ صحيفة الأعمال

يرى العلاّمة الطباطبائي في تفسير (الميزان) أنَّ في يوم القيامة ثلاثة كُتب، أو ثلاثة أنواع مِن صحف الأعمال:

أوّلا: كتاب واحد يوضع لحساب أعمال جميع البشر، ويشير لذلك قوله تعالى في الآية التي نحنُ بصددها (ووضع الكتاب).

الثّاني: كتاب يختص بكل أُمّة، إِذ لكل أمة كتاب قد كُتب فيه أعمالها كما يصرّح بذلك قول الحق سبحانه وتعالى في الآيتين 28، 29 مِن سورة الجاثية في قوله تعالى: (كل أمّة تُدعى إلى كتابها).

الثّالث: كتاب لكل انسان بصورة مستقلة كما ورد في سورة الأسراء: الآية (13) (وكل انسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً ... ).

[291]

وطبيعي أنَّهُ لا يوجد أي تعارض بين هذه الآيات، لأنَّهُ ليسَ ثمّة مانع مِن أن تُدَوَّن أعمال الإِنسان في عدّة كُتب، كما نشاهد نظير ذلك في برامج دنيا اليوم، إِذ مِن أجل التنظيم الدقيق لتشكيلات دولة ما، هناك نظام وحساب لكل قسم، ثمّ إِنَّ هذه الأقسام وفي ظل أقسام أكبر لها حسابٌ جديد.

ولكن يجب الإِنتباه إلى أنَّ صحيفة أعمال الناس في يوم القيامة لا تشبه الدفتر والكتاب العادي في هذا العالم، فهي مجموعة ناطقة غير قابلة للنكران، وقد تكون الناتج الطبيعي لأعمال الإِنسان نفسه.

في كل الأحوال، نرى أنَّ الآيات التي نبحثها تُظهر أنَّهُ علاوة على تدوين أعمال الناس في الكتب الخاصّة، فإِنَّ نفس الأعمال ستتجسَّد هُناك وستحضر: (ووجدوا ما عملوا حاضراً).

فالأعمال التي تكون شكل طاقات مُتناثرة في هذا العالم وتكون محجوبة عن الأنظار وتبدو وكأنّها قد تلاشت وانتهت، هي في الحقيقة لم تنته (وقد أثبت العلم اليوم أنَّ أي مادي أو طاقة لا يُمكن أن تفنى، بل يتغير شكلها دائماً).

ففي ذلك اليوم تتحوَّل هذه الطاقة الضائعة بإِذن الله إلى مادة، وتتجسَّد على شكل صور مناسبة، فالأعمال الحسنة على شكل صور لطيفة وجميلة، والأعمال السيئة على شكل صور قبيحة، وهذه الأعمال ستكون معنا، ولهذا السبب نرى أنَّ آخر جملة في الآيات أعلاه تقول: (ولا يظلم ربّك أحداً) لأنَّ الثواب والعقاب يترتبان على نفس أعمال الإِنسان.

بعض المفسّرين اعتبر جملة (ووجدوا ما عملوا حاضراً) تأكيداً على قضية صحيفة الأعمال، وقالوا: إِنَّ معنى الجملة هو أنّنا سنجد جميع أعمالنا مُدَوَّنة في ذلك الكتاب(1).

البعض الآخر اعتبر كلمة (جزاء) في هذه الآية مُقدَّرة وقالوا: إِنَّ المعنى هو

____________________________

1 ـ الفخر الرازي في التّفسير الكبير، والقرطبي في التّفسير الجامع.

[292]

أنّهم في ذلك اليوم «سيشاهدون جزاء أعمالهم جاهزاً»(1).

إِلاَّ أنَّ التّفسير الأوّل أكثر ملاءمة مع ظاهر الآيات.

أمّا فيما يخص تجسُّد الأعمال فقد ذكرنا شرحاً مفصلا لذلك في نهاية الآية (30) مِن سورة آل عمران، وسنبحثه أكثر مرّة أُخرى أثناء الحديث عن الآيات التي تُناسب الموضوع.

3 ـ الإِيمان بالمعاد ودوره في تربية الناس

حقّاً إِنَّ القرآن كتاب تربوي عجيب، فعندما يذكر للناس جانباً مِن مشاهد القيامة يقول: إِنَّ الجميع سيعرضون على محكمة الخالق العادلة على شكل صفوف مُنظمة، في حين أن تشابه عقائدهم وأعمالهم هو المعيار في الفرز بين صفوفهم! إنَّ أيديهم هناك فارغة مِن كل شيء، فقد تركوا كل مُتعلقات الدنيا، فهم في جمعهم فُرادى، وفي فرديتهم مجموعين، تُعرض صحائف أعمالهم.

هناك يُذكر كل شيء، صغائر وكبائر الناس، والأكثر مِن ذلك أنَّ الأعمال والأفكار نفسها تحيا .. تتجسَّد .. تحيط الأعمال المتجسِّدة بأطراف كل شيء، فالناس مشغولون بأنفسهم بحيث أنَّ الأم تنسى ولدها، والابن ينسى الأب والأُم بشكل كامل.

هذه المحكمة الإِلهية ـ والجزاء العظيم ـ التي تنتظر المسيئين، ستلقي بظلها الثقيل والموحش على جميع الناس، حيث تحبس الأنفاس في الصدور، وتتوقف العيون عن الحركة! تُرى ما مقدار ما يعكسهُ الإِيمان بهذا اليوم ـ بهذه المحكمة بكل ما تتخلله مِن مشاهد ومواقف ـ على قضية تربية الإِنسان ودفعه لمسك زمام شهواته!؟

في حديث عن الإِمام الصادق نقرأ وصفهُ(عليه السلام) لهذا اليوم: «إِذا كانَ يوم القيامة

____________________________

1 ـ المصدر السّابق.

[293]

دُفع للإِنسان كتاب، ثمّ قيل له: اقرأ» قلت: فيعرف ما فيه؟ فقال: «إِنَّهُ يذكره، فما مِن لحظة ولا كلمة ولا نقل قدم ولا شيء فعلهُ إِلاَّ ذكره، كأنَّهُ فعلهُ تلك الساعة، ولذلك قالوا: يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة إِلاَّ أحصاها»(1).

مِن هُنا يتّضح الدور المؤثر للإِيمان بالقيامة في تربية الإِنسان، وإِلاَّ فهل يمكن أن يجمع الإِنسان بين الذنب، وبين إِيمانه ويقينه بهذا اليوم!؟

* * *

____________________________

1 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 267.

[294]

الآيات

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـئِكَةِ اسْجُدُوا لأَِدَمَ فَسَجَدُوا إِلآَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِدُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّـلِمِينَ بَدَلا(50) مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمـوتِ وَالأَْرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً(51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَآءِىَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعُوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَّوْبِقاً(52)وَرَءَا الُْمجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً(53)

التّفسير

لا تتخذوا الشياطين أولياء:

لقد تحدثت الآيات مرّات عدَّة عن خلق آدم وسجود الملائكة له، وعدم انصياع إِبليس. وقد قلنا: إِنَّ هذا التكرار يطوي دروس مُتعدِّدة، وفي كل مقطع مكرَّر هناك دروس وعبرٌ جديدة.

[295]

بعبارة أُخرى نقول: إِنَّ للحادثة المهمّة عدَّة أبعاد، وفي كل مرَّة تذكر فيها يتجلى واحد مِن أبعادها.

ولأنَّ الآيات السابقة ذكرت مثالا واقعياً عن كيفية وقوف الأثرياء المستكبرين والمغرورين في مقابل الفقراء المستضعفين وتجسُّد عاقبة عملهم، ولأنَّ الغرور كانَ هو السبب الأصلي لإِنحراف هؤلاء وانجرارهم إلى الكفر والطغيان، لذا فإِنَّ الآيات تعطف الكلام على قصة إِبليس وكيف أبى السجود لآدم غروراً مِنهُ وعلواً، وكيف قاده هذا الغرور والعلو إلى الكفر والطغيان.

إِضافة إلى ذلك، فإِنَّ هذه القصّة توضّح أنَّ الإِنحرافات تنبع مِن وَساوس الشيطان، كم تكشف أنَّ الإِستسلام إلى وساوس الشيطان الذي أصرَّ على عناده وعداوته للحق تعالى يعدّ غاية الجنون والحمق.

في البداية تقول الآيات: تذكروا ذلك اليوم الذي فيه: (وإِذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدَم فسجدوا إِلاَّ إِبليس). هذا الإِستثناء يمكن أن يوهمنا بأنَّ إِبليس كانَ مِن جنس املائكة، في حين أنَّ الملائكة معصومون، فكيف سلك  إِبليس ـ إِذاً ـ طريق الطغيان والكفر إِذا كانَ مِن جملتهم؟

لذلك فإِنَّ الآيات ـ منعاً لهذا الوهم ـ تقول مُباشرة إِنَّهُ: (كانَ مَن الجن ففسق عن أمر ربّه).

إِنَّهُ إِذاً لم يكن مِن الملائكة، لكنَّهُ ـ بسبب عبوديته وطاعته  للخالق جلَّوعلا ـ قُرِّب وكانَ في صف الملائكة، بل وكان معلماً لهم، إِلاَّ  أنَّهُ ـ بسبب لحظة مِن الغرور والكبر ـ سقط سقوطاً بحيث أنَّهُ فقد معهُ كل ملاكاته المعنوية، وأصبح أكثر الموجودات نفرة وابتعاداً عن الله تبارك وتعالى.

ثمّ تقول الآية: (أفتتخذونه وذريته أولياء مِن دوني).

والعجب أنّهم: (وهم لكم عدوّ).

وهذا العدو، هو عدوّ صعب مُصَمِّم على ضلالكم وأن يوردكم سوء العاقبة،

[296]

وقد أظهر عدوانه مُنذ اليوم الأوّل لأبيكم آدم(عليه السلام).

فاتّخاذ الشيطان وأولاده. بدلا مِن الخالق المتعال أمرٌ قبيح: (بئس للظالمين بدلا)(1).

حقّاً إِنَّهُ لأمر قبيح أن يترك الإِنسان الإِله العالم الرحيم العطوف ذا الفيوضات والرحمات والألطاف، ويتمسك بالشيطان وأصحابه، إِنَّهُ أقبح إِختيار، فأي عاقل يقبل أن يتخذ مِن عدوّه الذي ناصبهُ العداء ـ مُنذ اليوم الأوّل ولياً وقائداً ودليلا ومعتمداً؟!

الآيه التي بعدها هي دليل آخر على إِبطال هذا التصوّر الخاطيء، إِذ تقول: عن إِبليس وابنائه أنّهم لم يكن لهم وجود حين خلق السماوات والأرض، بل لم يشهدوا حتى خلق أنفسهم: (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم). حتى نطلب العون مِنهم في خلق العالم، أو نطلعهم على أسرار الخلق.

لذا فإِنَّ الشخص الذي ليسَ له أي دور في خلق العالم، وحتى في خلق مَن يقع على شاكلته ومَن هو مِن نوعه، ولا يعرف شيئاً مِن أسرار الخلق، كيف يكون مستحقاً للولاية، أو العبادة، وأي قدرة أو دور يملك؟

إِنَّهُ كائن ضعيف وجاهل حتى بقضاياه الذاتية، فكيف يستطيع أن يقود الآخرين، أو أن ينقذهم مِن المشاكل والصعوبات؟

ثمّ تقول: (وما كنت مُتخذ المضلّين عضداً).

يعني أنّّ الخلق قائم على أساس الصدق والصحة والهداية، أمّا الكائن الذي يقوم منهج حياته على الإِضلال والإِفساد، فليس لهُ مكان في إِدارة هذا النظام، لأنَّه يسير في إِتجاه معاكس لنظام الخلق والوجود; إِنَّهُ مخرَّب ومدمِّر وليسَ مُصلحاً متكاملا.

آخر آية مِن الآيات التي نبحثها، تحذّر مرَّة أُخرى، وتقول: تذكروا يوماً يأتي

____________________________

1 ـ «بدلا» من حيث التركيب اللغوي، تمييز. وفاعل «بئس» هو الشيطان وعصابته، أو عباد الشيطان وعصابته.

[297]

فيه النداء الإِلهي: (ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعتم).

لقد كُنتم تنادونهم عمراً كاملا، وكنتم تسجدون لهم، واليوم وبعد أن أحاطت بكم أمواج العذاب في ساحة الجزاء، نادوهم ليأتوا لمساعدتكم ولو لساعة واحدة فقط.

هناك ينادي الأشخاص الذين لا تزال ترسبات أفكار الدنيا في عقولهم: (فدعوهم فلم يستجيبوا لهم). فلم يجيبوا على ندائهم، فكيف بمساعدتهم وانقاذهم!!

(وجعلنا بينهم موبقاً)(1).

ثمّ تقول الآية التي بعدها موضحة عاقبة الذين اتبعوا الشيطان والمشركين: (ورأى المجرمون النار).

لقد انكشفت لهم النّار التي لم يكونوا يُصدِّقون بها أبداً، وظهرت أمام أعينهم، وحينئذ يشعرون بأخطائهم، ويتيقنون بأنّهم سيدخلون النّار وستدخلهم: (فظنوا أنّهم مُواقعوها).

ثمّ يتيقنون أيضاً أنَّ لا منقذ لهم مِنها: (ولم يجدوا عنها مصرفاً).

فلا تنقذهم اليوم مِنها لا معبوداتهم ولا شفاعة الشفعاء، ولا الكذب أو التوَسُّل بالذهب والقوّة، إِنَّها النّار التي يزداد سعيرها بسبب أعمالهم.

ينبغي الإِلتفات هنا إِلى أنَّ جملة «ظنّوا» بالرغم مِن أنّها مُشتقّة مِن «الظن» إِلاَّ أنّها في هذا المورد، وفي موارد أُخرى تأتي بمعنى اليقين، لذا فإِنَّ الآية (249) مِن سورة البقره تستخدم نفس التعبير بالرغم مِن أنّها تتحدث عن المؤمنين الحقيقيين والمجاهدين المرابطين الذين كانوا مع طالوت لقتال جالوت الجبّار الظالم، إِذ تقول: (قالَ الذين يظنون أنّهم مُلاقوا الله كم مِن فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإِذن الله).

____________________________

1 ـ «موبق» مِن «وبوق» على وزن «نبوغ» وهي تعني الهلاك، وَ(موبق) تقال للمهلكة.

[298]

فإِنَّ كلمة «موقعوها» مُشتقّة مِن «مواقعة» بمعنى الوقوع على الآخرين، وهي إِشارة إلى أنّهم يقعون على النّار، وأنَّ النّار تقع عليهم; فالنّار تنفذ فيهم وهم ينفذون في النّار، وقد قرأنا في الآية (24) مِن سورة البقره قوله تعالى: (فاتقوا النّار التي وقودها الناس والحجارة).

* * *

بحثان

1 ـ هل كانَ الشيطان مَلَكاً؟

كما نعلم أنّ الملائكة أطهار ومعصومون كما صرّح بذلك القرآن الكريم: (بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعلمون)(1).

ويعود سبب عدم وجود التكبر والغرور ودوافع إرتكاب الذنوب لدى الملائكة، إلى أن العقل لا الشهوة يتحكم في أعماقهم.

من ناحية ثانية، يتداعى إلى الذهن من خلال استثناء إِبليس في الآيات المذكورة أعلاه (وآيات أُخرى في القرآن الكريم) أنَّهُ من صنف الملائكة، بأنّه كان منهم. وهنا يرد على عصيانه وتمرده والإِشكال التالي: كيف تصدر ذنوب كبيرة عن مَلَكَ من الملائكة؟ وقد جاء في نهج البلاغة «ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشراً بأمر أخراج به منها مَلكاً»(2).

الآيات المذكورة تحل لنا رموز هذه المشكلة حينما تقول: (إِنّه كان من الجن)، والجن كائنات خفية عن أنظارنا لها عقل وإِحساس وغضب وشهوة، ومتى ما وردت في القرآن كلمة «الجن» فإِنّها تعني هذه الكائنات ... لكن مَنْ يعتقد مِنَ المفسّرين بأن إِبليس كان من الملائكة، فإِنّما يفسر الآية المذكورة آنفاً

____________________________

1 ـ الأنبياء، 26 ـ 27.

2 ـ نهج البلاغة الخطبة (192) «الخطبة القاصعة».

[299]

بمفهومها اللغوي، ويقول: إِنّه يفهَمْ من عبارة (كان مِن الجن) أنّه كان خفياً عن الأنظار كسائر الملائكة، وهذا المعنى خلاف الظاهر تماماً.

ومن الدلائل الواضحة التي تؤكّد ما ذهبنا إليه من المعنى، أنّ القرآن الكريم يقول في الآية (15) من سورة الرحمن: (وخلق الجان من مارج من نار) أي من نيران مختلطة ومن جانب آخر كان منطق إِبليس عندما امتنع عن السجود لآدم: (خلقتني من نار وخلقته من طين)(1).

هذا بالإِضافة إلى أن الآيات الشريفة أعلاه أشارت إلى أن لإِبليس (ذرية) في حين أن الملائكة لا ذرية لهم.

إِن ما ذكرناه آنفاً، مضافاً إِليه التركيبة الجوهرية للملائكة تثبت أن إِبليس  لم يكن مَلَكاً، لكن آية السجود لآدم شملته ـ أيضاً ـ لانضمامه إلى صفوف الملائكة، وكثرة عبادته لله وطموحه للوصول إلى منزلة الملائكة المقربين.

وإِنّما بيَّن القرآن امتناع إِبليس عن السجود بشكل استثنائي، وأطلق عليه الأمام عليّ(عليه السلام) في الخطبة القاصعة في نهج البلاغة كلمة (المَلَكْ) كتعبير مجازي. وجاء في كتاب (عيون الأخبار) عن الإِمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام): «إِنّ الملائكة معصومون ومحفوظون من الكفر بلطف الله تعالى» قالا: قلنا له: فعلى هذا لم يكن ابليس أيضاً ملكاً؟، فقال: «لا، بل كان من الجن، أما تسمعان الله تعالى يقول: (وإِذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إِلا إِبليس كان من الجن)فأخبر عزّوجل أنّه من الجن،...»(2)

وفي حديث آخر نقل عن الإِمام الصادق(عليه السلام)، بأن أحد أصحابه المخلصين وهو جميل بن دراج قال: سألته عن اِبليس كان من الملائكة وهل كان يلي من أمر السماء شيئاً؟ قال: «لم يكن من الملائكة ولم يكن يلي من السماء شيئاً، أنّه

____________________________

1 ـ الأعراف، 12.

2 ـ نور الثقلين، ج 3 ، ص 267.

[300]

كان من الجن وكان مع الملائكة، وكانت الملائكة تراه أنّه منها، وكان الله يعلم أنَّه ليس منها، فلمّا أمر بالسجود كان منه الذي كان»(1).

وعندما صدر أمر السجود تحقق الشيء الذي نعرفه (كشفت الأستار واتضحت ماهية إِبليس).

وهناك بحوث تفصيلية ذكرناها حول إِبليس والشيطان بشكل عام في ذيل الآيات (11 ـ 18) من سورة الأعراف، وفي ذيل الآية (112) من سورة الأنعام، وفي ذيل الآية (34) من سورة البقرة.

2 ـ لا تستعينوا بالضاليّن

مع أن هذه الآيات، صادرة عنه تعالى وتنفي وجود عضد له من الضالين، ونعلم أنّه تعالى ليسَ بحاجة إِلى من يعينه سواء كان المعين ضالا أم لم يكن، لكنها تقدم لنا درساً كبيراً للعمل الجماعي، حيث يجب أن يكون الشخص المنتخب للنصرة والعون سائراً على منهج الحق والعدالة ويدعو إِليها، وما أكثر ما رأينا أشخاصاً طاهرين قد ابتلوا بمختلف أنواع الإِنحرافات والمشاكل وأصيبوا بالخيبة وسوء الحظ جراء عدم الدقّة في انتخاب الأعوان، حيث التفّ حولهم عدد من الضالّين والمضلّين حتى تلفت أعمالهم، وكانت خاتمة أمرهم أن فقدوا كل ملكاتهم الإِنسانيه والإِجتماعية.

إِنّنا نقرأ في تاريخ كربلاء أن سيد الشهداء الإِمام الحسين(عليه السلام) قام يتمشى إلى (عبيد الله بن الحر الجعفي) وهو في فسطاطه حتى دخل عليه وسلم عليه، فقام ابن الحر وأخلى له المجلس، فجلس ودعاه إلى نصرته، فقال عبيد اللّه بن الحر: واللّه ما خرجت من الكوفة إلاّ مخافة أن تدخلها، ولا اُقاتل معك، ولو قاتلت لكنت أوّل مقتول، ولكن هذا سيفي وفرسي فخذهما...

____________________________

1 ـ المصدر السّابق.

[301]

فأعرض الإِمام عنه بوجهه فقال: «إذا بخلت علينا بنفسك فلا حاجة لنا في مالك، وتلا الآية (وما كنت متخذ المضلين عضدا)(1).

إشارة إِلى أنّك ضال ومضل، ولا تستحق أن تكون نصيراً.

وعلى أية حال، فإِن البقاء دون نصير ومعين أفضل من طلب معونة الأشخاص الملوثين والضالين واتّخاذهم عضداً.

* * *

____________________________

1 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 268.

[302]

الآيات

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هـذَا الْقُرْءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَل وَكَانَ الإِْنسـنُ أَكْثَرَ شَىْء جَدَلا(54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَْوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا(55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيَجـدِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبـطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا ءَايـتِى وَمَآ أُنذِرُوا هُزُواً(56)

التّفسير

في انتظار العقاب:

تنطوي هذه الآيات على تلخيص واستنتاج لما ورد في الآيات السابقة، وهي تُشير ـ أيضاً ـ إلى بحوث قادمة.

الآية الأُولى تقول: (ولقد صرَّفنا في هذا القرآن للناسِ من كل مثل).

لقد ذكرنا نماذج مِن تأريخ الماضين المليء، بالإِثارة، وقد أوضحنا للناس الحوادث المرَّة للحياة واللحظات الحلوة في التأريخ، وقد قلّبنا بيان هذه الأُمور بحيث تتقبلها القلوب المستعدّة للحق، وتكون الحجة على الآخرين تامّة،

[303]

 ولا يبقى ثمّة مجال للشك.

ولكن بالرغم مِن هذا فإِنَّ مجموعة عُصاة لم يؤمنوا أبداً: (وكانَ الإِنسانُ أكثر شيء جدلا).

«صرّفنا» مِن «تصريف» وتعني التغيير والتحوَّل من حال إلى حال. الهدف مِن هذا التعبير في الآية أعلاه هو أنّنا تحدثنا مع الناس بكل لسان يمكن التأثير به عليهم.

«جدل» تعني محادثة الآخرين على أساس المُنازعة وإِظهار نزعة التسلَّط على الآخرين. ولهذا فإِنَّ (المجادلة) تعني قيام شخصين بإِطالة الحديث في حالة مِن التشاجر، وهذه الكلمة في الأصل مأخوذة ـ وكما يقول الراغب في المفردات ـ مِن (جدلت الحبل) أي ربطت الحبل بقوّة، وهي كناية عن أنَّ الشخص المجادل يستهدف مِن خلال جدله أن يحرف الشخص الآخر ـ بالقوّة ـ عن أفكاره.

وقال آخرون: إنَّ أصل (الجدال) هو بمعنى المصارعة وإِسقاط الآخر على الأرض. وهي تستعمل أيضاً في الدلالة على الشجار اللفظي.

في كل الأحوال، يكون المقصود بالناس في الآية هُم تلك الفئة التي لا تقوم في وجودها وممارساتها على أُصول التربية الإِسلامية وقواعدها، وقد أكثر القرآن في استعمال هذه التعابير، وقد شرحنا هذه الحالة مفصلا في نهاية الحديث عن الآية (12) مِن سورة يونس.

الآية التي بعدها تقول: إِنَّهُ بالرغم من كل هذه الأمثلة المختلفة والتوضيحات المثيرة والأساليب المُختلفة التي ينبغي أن تنفذ إلى داخل الإِنسان المستعد لقبول الحق، فإِنَّ هناك مجموعة كبيرة من الناس لم تؤمن: (وما منع الناس أن يؤمنوا إِذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربّهم إِلاَّ أن تأتيهم سنة الأولين) أي مصير الاُمم السالفة: (أو يأتيهم العذاب قُبلا)(1) فيرونه بامّ أعينهم.

إِنَّ هذه الآية ـ في الحقيقة ـ إِشارة اِلى أنَّ هذه المجموعة المعاندة والمغرورة

____________________________

1 ـ (قبل) تعني (التقابل، بمعنى مُشاهدة العذاب الإِلهي بالعين، بعض المفسّرين كالطبرسي في مجمع البيان، وأبي الفتوح في روح الجنان، والآلوسي في روح المعاني احتملوا أن تكون (قبل) جمع (قبيل) وهي إِشارة إلى الأنواع المختلفة مِن العذاب، إِلاَّ أنَّ المعنى الأوّل أقرب حسب الظاهر.

[304]

لا تؤمن بإرادتها وبشكل طبيعي أبداً، بل هُم يؤمنون في حالتين فقط:

أوّلا: عندما يُصيبهم العذاب الأليم الذي نزل مثلهُ في الأقوام والأُمم السابقة.

ثانياً: عندما يُشاهدون العذاب الإِلهي بأعينهم على الاقل وقد أشرنا مراراً إلى أنَّ مثل هذا الإِيمان هو إِيمان عديم الفائدة.

ومِن الضروري الإِنتباه هُنا إلى أنَّ مثل هؤلاء الناس لم يكونوا ينتظرون مثل هذه العاقبة أبداً، أمّا لأنَّ هذه العاقبة كانت حتمية بالنسبة لهم وهي الشيء الوحيد الذي ينتهي إليه مصيرهم، لذا نرى القرآن قد طرحها على شكل إِنتظار، وهذا نوع من الكناية اللطيفة. ومثلهُ أن تقول للشخص العاصي: إِنَّ أمامك ـ فقط ـ أن تنتظر لحظة الحساب، بمعنى أنَّ الحساب والعقاب أمرٌ حتمي بالنسبة له، وهو بذلك يعيش حالة انتظار للمصير المحتوم.

إِنَّ بعض حالات العصيان والغرور التي يُصاب بها الإِنسان قد تتسلّط عليه بحيث لا يؤثّر فيه لا الوحي الإِلهي، ولا دعوات الإنبياء الهادية، ولا رؤية دروس وعبر الحياة الإِجتماعية، ولا مطالعة تأريخ الأمم السابقة. إِنَّ الذي ينفع مع هذه الفئة مِن الناس هو العذاب الإِلهي الذي يعيد الإِنسان إِلى رشده، ولكن عند نزول العذاب تُغلق أبواب التوبة، ولا يوجد ثمّة طريق للرجعة والإِستغفار.

ومِن أجل طمأنة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في مقابل صلافة وعناد أمثال هؤلاء، تقول الآية: (وما نرسل المرسلين إِلاَّ مُبشرين ومُنذرين).

ثمّ تقول الآية: إِنَّ هذه القضية ليست جديدة، بل إِنَّ مِن واقع هؤلاء الأشخاص المعارضة والإِستهزاء بآيات الله: (ويُجادل الذين كفروا بالباطل

[305]

ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزواً)(1).

وهذه الآية تشبه الآيات (42 ـ 45) مِن سورة الحج التي تقول: (وإِن يكذبوك فقد كذَّبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود ... ) إلى آخر الآيات.

ويحتمل في تفسير الآية أنَّ الله تبارك وتعالى يريد أن يقول: إِنَّ عمل الإنبياء لا يقوم على الإِجبار والإِكراه، بل إِنَّ مسؤوليتهم التبشير والإِنذار، والقرار النهائي مرتبط بنفس الناس كي يُفكروا بعواقب الكفر والإِيمان معاً، وحتى يؤمنوا عن تصميم وإِرادة وبيِّنة، لا أن يلجأوا إلى الإِيمان الإِضطراري عند نزول العذاب الإِلهي.

لكن، مع الأسف أن يُساء استخدم حرية الإِختيار هذه والتي هي وسيلة لتكامل الإِنسان ورقيِّه، عندما يقوم أنصار الباطل بالجدال في مقابل أنصار الحق، إِذ يُريدون القضاء على الحق عن طريق الإِستهزاء أو المغالطة. ولكن هناك قلوباً مستعدة لقبول الحق دوماً والتسليم له، وإِنَّ هذا الصراع بين الحق والباطل كان وسيبقى على مدى الحياة.

* * *

____________________________

1 ـ (يدحضوا) مُشتقة مِن (إِدحاض) بمعنى الإِبطال والإِزالة، وهي في الأصل مأخوذة مِن كلمة (دحض) بمعنى الإِنزلاق.

[306]

الآيات

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِايـتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرَاً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً(57)وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُوا الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ العَذَابَ بَلْ لَّهُمْ مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلا(58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنـهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمُهْلِكِهِم مَّوْعِداً(59)

التّفسير

لا استعجال في العقاب الإِلهي:

الآيات السابقة كانت تتحدَّث عن مجموعة مِن الكافرين المُتعصبين والمظلمة قلوبهم; والآيات التي بين أيدينا تستمر في نفس البحث.

ففي البداية قوله تعالى: (ومَن أظلم ممن ذكّر بآيات ربَّه فأعرضَ عنها ونسي ما قدَّمت يداه).

إِنّ استخدم تعبير (ذكّر) يوحي إِلى أنَّ تعليمات الأنبياء(عليهم السلام) هي بمثابة التذكير بالحقائق الموجودة بشكل فطري في أعماق الإِنسان، وإِنَّ مهمّة الأنبياء

[307]

هي رفع الحجب عن نقاء وشفافيه هذه الفطرة.

هذا المعنى ورد في الخطبة الأُولى مِن خطب نهج البلاغة حيث يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام): «ليَسْتَأدُوهُم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا إِليهم بالتبليغ، ويُثيروا لهم دفائن العقول».

الطريف في الأمر أنَّ الآية الكريمة رسمت ثلاثة مسالك ليقظة هؤلاء وإِعادتهم إلى نور الهداية، هي:

أوّلا: إِنَّ هذه الحقائق تلائم بشكل كامل ما هو مكنون في فطرتكم ووجدانكم وأرواحكم.

ثانياً: إِنّها جاءت مِن قبل خالقكم.

ثالثاً: عليكم أن لا تنسوا أنّكم اقترفتم الذنوب، وأنَّ مِنهاج عمل الأنبياء هو فتح باب التوبة مِن الذنوب والهداية للصواب.

لكن هذه الفئة مِن الناس لم تؤمن برغم كل ذلك: (إِنَّا جعلنا على قلوبهم أكنةً أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً)(1) وبذلك لا تنفع معهم دعوتك: (وإِن تدعهم إلى الهوى فلن يهتدوا إذاً أبداً).

ولا نعتقد أننا بحاجة إلى أن نوضح أن سبب إِنعدام قابلية التشخيص والقدرة والإِحساس والسمع لدى هؤلاء، إِنّما كانَ مِن عندَ الله، ولكن بسبب (ما قدّمت يداه) وبسبب الأعمال التي قاموا بها سابقاً، وهذا هو الجزاء المباشر لأعمالهم ولما كسبت أيديهم. بعبارة أُخرى: إِنَّ الأعمال القبيحة السيئة والمخزية تحوَّلت إِلى ستار وثقل، أي (كنان ووقر) على قلوبهم وآذانهم، وهذه الحقيقة تذكرها

____________________________

1 ـ كما قُلنا سابقاً (أكنة) جمع (كنان) على وزن كتاب، وتعني الستار أو الحجاب و(وقر) تعني ثقل الأذن عن السماع.

[308]

الكثير مِن الآيات القرآنية، إِذ نقرأ على سبيل المثال قوله تعالى في الآية (155) مِن سورة النساء: (بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إِلاَّ قليلا).

ولكن هناك مَن يتذَرَّع بشتى الحجج والذرائع لإِثبات فكرة الجبر ودعم مذهبه في ذلك، دون أن يأخذ بنظر الاعتبار بقية هذه الآية، وسائر الآيات القرآنية الأُخرى التي تفسرها، بل يعتمد على ظواهر ألفاظ الآيات ويتخذها سنداً لإِثبات مقولة الجبر، في حين أنَّ الجواب على ذلك ـ كما أسلفنا ـ واضح بدرجة كبيرة.

إِنَّ البرانامج التربوي للخالق جلَّوعلا هو أن يُعطي لعباده الفرصة بعد الأُخرى، وهو جلَّوعلا لا يُعاقب بشكل فوري مِثل الجبارين والظالمين، بل إِنَّ رحمته الواسعة تقتضي دوماً إِعطاء أوسع الفرص للمذنبين، لذا فإِنّ الآية التي بعدها تقول: (وربّك الغفور ذو الرحمة).

(لو يُؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب). فاذا كانت الإِرادة الإلهية تقتضي انزال العذاب بسبب ارتكابهم للذنبوب لتحقّق ذلك فوراً.

(بل لهم موعدٌ لن يجدوا مِن دونه موئلا)(1).

فغفرانه تعالى يقضي أن يرحم التوابين، ورحمته تقضي أن لا يعجّل عذاب غيرهم، إِذ مِن المحتمل أن يلتحق بعضهم بصفوف التوابين، إِلاَّ أن عدالته تعالى تقتضي مجازاة المذنبين العاصين الظالمين عندما يصل طُغيانهم وتمردهم إلى أقصى درجاته، وعندما يكون بقاء مثل هؤلاء الأفراد الفاسدين المفسدين الذين لا يوجد أمل في إصلاحهم، عبثاً وبدون فائدة، لذا ينبغي تطهير الأرض منهم، ومِن لوث وجودهم.

____________________________

1 ـ (موئل) مِن كلمة (وئل) وتعني الملجأ ووسيلة النجاة.

[309]

وأخيراً تنتهي هذه المجموعة مِن الآيات إلى توجيه التحذير الأخير مِن خلال التذكير بالعاقبة المؤلمة المرَّة لِمن ظَلَمَ مِن السابقين ليكون مصيرهم عبرة لمن يسمع، فتقول: إِنَّ هذه المدن والقرى أمامكم، ولكم أن تشاهدا خرائبها والدمار والذي حلَّ فيها، وقد أهلكنا أهلها بما ارتكبوا مِن ظلم، في نفس الوقت الذي لم نعجّل فيه لهم العذاب، بل جعلنا موعداً لِمهلكهم: (وتلك القرى أهلكناهم لمّا ظلموا وجعلنا لِمهلكهم موعداً).

* * *

[310]

الآيات

وَإِذْ قَاكَ مُوسَى لِفَتَئـهُ لآَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِىَ حُقُباً(60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلهُ فِى الْبَحْرِ سَرَباً(61) فَلَمَّا جَاوَزَوا قَالَ لِفَتَهُ ءَاتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـذَا نَصَباً(62) قَالَ أَرَءَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَـنِيهُ إِلاَّ الشَّيْطـنُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ عَجَباً(63) قَالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى ءَاثَارِهِمَا قَصَصاً(64)

التّفسير

لقاءِ موسى والخضر (عليهما السلام):

ذكر المفسّرون في سبب نزول هذه الآيات أنَّ مجموعة مِن قريش جاؤوا إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وسألوه عن عالم كان موسى(عليه السلام) مأموراً باتباعه، وفي الجواب على ذلك نزلت هذه الآيات.

لقد ذكرت في سورة الكهف ثلاث قصص متناسقة وهذه القصص هي: قصّة

[311]

أصحاب الكهف التي إنتهينا مِنها; وقصّة موسى والخضر(عليهما السلام); وقصّة ذي القرنين التي سنقف على ذكرها فيما بعد.

هذه القصص الثلاث تخرجنا مِن الأفق المحدود في حياتنا وما تعدونا عليه وألفناه، وتبيّن لنا أن حدود العالم لا تنحصر في نطاق ما نرى وما نُشاهد، وأنَّ الشكل العالم للحوادث والأحداث ليسَ هو ما نفهمهُ مِن خلال النظرة الأُولى.

وإِذا كانت قصّة أصحاب الكهف تتحدث عن فتية تركوا كلّ شيء مِن أجل أن يحافظوا على إِيمانهم، وقد أدى بهم ذلك إلى حوادث عظيمة ذات أبعاد تربوية لجميع الناس، فإِنَّ قصّة موسى والخضر لها أبعاد عجيبة أُخرى. ففي القصّة يُواجهنا مشهد عجيب نرى فيه نبيّاً مِن أولي العزم بكل وعيه ومكانته في زمانه يعيش محدودية في علمه ومعرفته مِن بعض النواحي، وهو لذلك يذهب إلى معلم (هو عالم زمانه) ليدرس ويتعلم على يديه، ونرى أنَّ المعلم يقوم بتعليمه دروساً يكون الواحد مِنها أعجب مِن الآخر. ثمّ إنَّ هذه القصّة تنطوي ـ كما  سنرى ـ على ملاحظات مهمّة جدّاً.

في أوّل آية نقرأ قوله تعالى: (وإِذ قالَ موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقباً).

إِنَّ المعنى بالآية هو بلا شك موسى بن عمران النّبي المعروف مِن أولي العزم، بالرغم ممّا احتمله بعض المفسّرين مِن أنَّ موسى المذكور في الآية هو غير موسى بن عمران(عليه السلام)، وسوفَ نرى ـ فيما بعد ـ أنَّ اعتماد هذا الرأي كان بسبب عدم استطاعتهم حل بعض الإِشكالات الواردة في القصّة، في حين أنّه كلما ورد اسم (موسى) في القرآن فالمراد به موسى بن عمران.

أمّا المعني مِن (فتاه) فهو كما يقول أكثر المفسّرين; كما تُشير إلى ذلك العديد مِن الرّوايات: يوشع بن نون، الرجل الشجاع الرشيد المؤمن مِن بني اِسرائيل. واستخدام كلمة (فتى) في وصفه قد يكون بسبب هذه الصفات البارزة، أو بسبب

[312]

خدمته لموسى(عليه السلام) ومرافقتهُ له.

(مجمع البحرين) بمعنى محل التقاء البحرين، وهناك كلام كثير بين المفسّرين عن اسم هذين البحرين، ولكن ـ بشكل عام ـ يمكن إِجمال الحديث بثلاثة إِحتمالات هي:

أوّلا: المقصود بمجمع البحرين هو محل اتصال «خليج العقبة» مع «خليج السويس» (إِذا المعروف أنَّ البحر الأحمر يتفرع شمالا إلى فرعين: فرع نحو الشمال الشرقي حيث يشكّل خليج العقبة، والثّاني نحو الشمال الغربي ويسمى خليج السويس، وهذان الخليجان يرتبطان جنوباً ويتصلان بالبحر الأحمر).

ثانياً: المقصود بمجمع البحرين هو محل إِتصال المحيط الهندي بالبحر الأحمر في منطقة «باب المندب».

ثالثاً: محل إِتصال البحر المتوسط (الذي يسمّى ـ أيضاً ـ ببحر الروم والبحر الأبيض) مع المحيط الأطلسي، يعني نفس المكان الذي يطلق عليه اسم (مضيق جبل طارق) قرب مدينة «طنجة».

الإِحتمال الثّالث مُستبعد بحكم بعد مكان موسى(عليه السلام) عن جبل طارق الذي يبعد عنهُ مسافة كبيرة جدّاً، قد تصل فترة وصوله(عليه السلام) إِليه عدَّة أشهر إِذا انتقل بالوسائل العادية.

أمّا الإِحتمال الثّاني، فمع أنَّ المسافة ما بينهُ وبين مكان موسى(عليه السلام) أقرب، إِلاَّ أنَّهُ مستبعد ـ أيضاً ـ بحكم الفاصل الكبير بين الشام وجنوب اليمن.

يبقى الإِحتمال الأوّل هو الأقرب مِن حيث قربه إلى مكان موسى(عليه السلام). وما يرحج هذا الرأي هو ما نستفيده مِن الآيات ـ بشكل عام ـ مِن أنَّ موسى(عليه السلام) لم يسلك طريقاً طويلا بالرغم مِن أنَّهُ كان مستعداً للسفر إلى أي مكان لأجل الوصول إلى مقصوده (فدقق في ذلك).

وفي بعض الرّوايات إِشارة إلى هذا المعنى أيضاً.

[313]

كلمة «حقب» تعني المدّة الطويلة والتي فسَّرها البعض بثمانين عاماً، وغرض موسى(عليه السلام) مِن هذه الكلمة، هو أنّني سوف لا أترك الجهد والمحاولة للعثور على ما ضيعتهُ ولو أدّى ذلك أن أسير عِدَّة سنين.

ومِن مجموع ما ذكرنا أعلاه يتبيّن لنا أن موسى(عليه السلام) كان يبحث عن شيء مهم وقد أقام عزمه ورسّخ تصميمه للعثور على مقصوده وعدم التهاون في ذلك إِطلاقاً.

إنّ الشيء الذي كان موسى(عليه السلام) مأموراً بالبحث عنه لهُ أثرٌ كبير في مستقبله، وبالعثور عليه سوف يفتتح فصلٌ جديدٌ في حياته.

نعم، إِنَّهُ(عليه السلام) كان يبحث عن عالم يزيل الحجب مِن أمام عينيه ويُريه حقائق جديدة، ويفتح أباب العلوم أمامه، وسنعرف سريعاً أنَّ موسىْ(عليه السلام) كان يملك علامة للعثور على محل هذا العالم الكبير، وكانَ(عليه السلام) يتحرك باتجاه تلك العلامة.

قوله تعالى: (فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما) أي السمكّة التي كانت معهما، أمّا العجيب في الأمر فإِنّ الحوت: (فاتّخذ سبيله في البحر سرباً)(1).

وهناك كلام كثير بين المفسّرين عن نوعية السمك الذي كان معداً للغذاء ظاهراً هل كانت سمكّة مشوية، أو مملّحة أو سمكّة طازجة حيث بعثت فيها الحياة بشكل اعجازي وقفزت الى الماء وغاصت فيه، هناك كلام كثير بين المفسّرين.

وفي بعض كتب التّفسير نرى أنَّ هُناك حديثاً عن عين تهب الحياة، وأنّ السمكة عندما أصابها مقدار مِن ماء تلك العين عادت إِليها الحياة.

وهناك احتمال آخر وهو أن السمكّة كانت حيَّة، بمعنى أنّها لم تكن قد ماتت بالكامل، حيث يوجد بعض أنواع السمك يبقى على قيد الحياة فترة بعد إِخراجه

____________________________

1 ـ (سَرَب) على وزن (جَرَب) كما يقول الراغب في مفرداته، وهي تعني السير في الطريق المنحدر، وَ(سرب) على وزن (حرب) تعني الطريق المنحدر.

[314]

مِن الماء، ويعود إلى الحياة الكاملة إِذا أعيد في هذه الفترة إلى الماء.

وفي تتمة القصّة، نقرأ أنَّ موسى وصاحبه بعد أن جاوزا مجمع البحرين شعرا بالجوع، وفي هذه الأثناء تذكَّر موسى(عليه السلام) أنَّهُ قد جلب معهُ طعاماً، وعند ذلك قالَ لصاحبه: (فلمّا جاوزا قالَ لفتاه آتنا غدائنا لقد لقينا مِن سفرنا هذا نصباً).

(غداء) يقال للطعام الذي يتمّ تناوله في أوّل اليوم أو في منتصفه. ولكنّا نستفيد مِن التعابير الواردة في كُتب اللغة أنّهم في الأزمنة السابقة كانوا يطلقون كلمة (غداء) على الطعام الذي يتمّ تناوله في أوَّل اليوم (لأنّها مأخوذة مِن كلمة «غدوة» والتي تعني بداية اليوم) في حين أنَّ كلمة «غداء» و «تغدّى» تطلق اليوم على تناول الطعام في وقت الظهيرة.

على أي حال، إِنَّ هذه الجملة تُظهر أنَّ موسى ويوشع قد سَلَكا طريقاً يُمكن أن نسميه بالسفر، إِلاَّ أنَّ نفس هذه التعابير تفيد أنَّ هذا السفر لم يكن طويلا.

وفي هذه الأثناء قالَ لهُ صاحبهُ: (قالَ أرأيت إِذ أوينا إلى الصخرة فإِنّي نسيت الحوت وما أنسانيه إِلاَّ الشيطان أن أذكره وأتّخذ سبيلهُ في البحر عجباً)(1).

ولأنَّ هذا الحادث والموضوع ـ بشكل عام ـ كان علامة لموسى(عليه السلام)، لكي يصل مِن خلاله إِلى موقع (العالم) الذي خرجَ يبحث عنهُ، لذا فقد قال: (قال ذلك ما كُنّا نبغي).

وهُنا رجعا في نفس الطريق: (فارتدّا على آثارهما قصصاً).

وهنا قد يُطرح هذا السؤال: هل يمكن لنبي مثل موسى(عليه السلام) أن يُصاب بالنسيان حيث يقول القرآن (فنسيا حوتهما) ثمّ لماذا نَسَبَ صاحب موسى(عليه السلام)

____________________________

1 ـ إِن جملة (وما انسانيه إِلاّ الشيطان أن أذكره) جملة اعتراضية تقع في وسط الكلام، ولأنَّ هذه الجملة  تذكرـ في الواقع ـ سبب النسيان، لذا فقد وقعت في وسط الكلام، وهذا الأسلوب شائع خصوصاً للأشخاص الذين يكونون موضع عتاب شخص أكبر، حيث أنّهم يذكرون العلة الأصلية ضمن الكلام بشكل اعتراضي، حتى يكون الاعتراض عليهم أقل.

[315]

نسيانهُ إلى الشيطان؟

في الجواب نقول: إِنَّهُ لا يوجد ثمّة مانع مِن الإِصابة بالنسيان في المسائل والموارد التي لا ترتبط بالأحكام الإِلهية والأُمور التبليغية، أي في مسائل الحياة العادية (خاصّة في المواقع التي لها طابع اختبار، كما هو الحال في موسى هنا، وسوف نشرح ذلك فيما بعد).

أمّا ربط نسيان صاحبه بالشيطان، فيمكن أن يكون ذلك بسبب أن قضية السمكة ترتبط بالعثور على ذلك الرجل العالِم، وبما أنَّ الشيطان يقوم بالغواية، لذا فإِنَّه أراد مِن خلال هذا العمل (النسيان) أن يصلا مُتأخِرَينَ إِلى ذلك العالم، وقد تكون مقدمات النسيان قد بدأت مِن (يوشع) نفسهُ حيثُ أنَّهُ لم يُدقق ويهتم بالأمر كثيراً.

* * *

[316]

الآيات

فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ ءَاتَيْنـهُ رَحْمَةً مِّنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنـهُ مِنْ لَّدُنَّا عِلْماً(65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً(66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً(67)وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً(68) قَالَ سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِراً ولآَ أَعْصِى لَكَ أَمْراً(69) قَالَ فَإِن اتَّبَعْتَنِى فَلاَ تَسْئَلْنِى عَنْ شىْء حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً(70)

التّفسير

رؤية المعلم الكبير:

عندما رجع موسى(عليه السلام) وصاحبه إِلى المكان الأوّل، أي قرب الصخرة وقرب (مجمع البحرين)، فجأة: (فوجدا عبداً مِن عبادنا آتيناهُ رحمة مِن عندنا وعلمناه مِن لدنا علماً).

إِنَّ استخدام كلمة «وجدا» تفيد أنّهم كانوا يبحثون عن نفس هذا الرجل العالم، وقد وجداه أخيراً.

أمّا استخدام عبارة (عبداً مِن عبادنا) فهي تبيّن أن أفضل فخر للإِنسان هو

[317]

أن يكون عبداً حقيقياً للخالق جلَّ وعلا، وإِنَّ مقام العبودية هذا يكون سبباً في شمول الإِنسان بالرحمة الإِلهية، وفتح أبواب المعرفة والعلم في قلبه.

كما أنَّ استخدام عبارة (مِن لدنا) تبيّن أنَّ علم ذلك العالم لم يكن علماً عادياً، بل كان يعرف جزءاً مِن أسرار هذا العالم، وأسرار الحوادث التي لا يعلمها سوى الله تعالى.

أمّا استخدام (علماً) بصيغة النكرة فهو للتعظيم، ويتبيّن مِن ذلك أنَّ ذلك الرجل العالم قد حصَلَ مِن علمه على فوائد عظيمة.

أمّا ما هو المقصود مِن عبارة (رحمة مِن عندنا) فقد ذكر المفسّرون تفاسير مختلفة، فقال بعضهم: إِنّها إِشارة إِلى مقام النبوة، والبعض الآخر اعتبرها إِشارة للعمر الطويل. ولكن يُحتمل أن يكون المقصود هو الإِستعداد الكبير والروح الواسعة، وسعة الصدر التي وهبها الله تعالى لهذا الرجل كي يكون قادراً على استقبال العلم الإِلهي.

أمّا ما ذكر مِن أنَّ هذا الرجل اسمهُ (الخضر) وفيما إِذا كانَ نبيّاً أم لا، فسوف نبحث كل ذلك في البحوث القادمة.

في هذه الأثناء قالَ موسى للرجل العالِم باستفهام وبأدب كبير: (قالَ لهُ موسى هل اتبعك على أن تعلمن مما علمت رُشداً).

ونستفيد مِن عبارة «رشداً» أنَّ العلم ليس هدفاً، بل هو وسيلة للعثور على طريق الخير والهداية والصلاح، وأنَّ هذا العلم يجب أن يُتعَلَّم، وأن يفتخر به.

في معرض الجواب نرى أنَّ الرجل العالِم مع كامل العجب لموسى(عليه السلام) (قالَ إِنّك لن تستطيع معي صبراً).

ثمّ بيَّن سبب ذلك مُباشرة وقال: (وكيف تصبر على ما لم تحط بهِ خبراً).

وكما سنرى فيما بعد، فإِنَّ هذا الرجل العالم كانَ يُحيط بأبواب مِن العلوم التي تخص أسرار وبواطن الأحداث، في حين أنَّ موسى(عليه السلام) لم يكن مأموراً

[318]

بمعرفة البواطن، وبالتالي لم يكن يعرف عنها الكثير، وفي مثل هذه الموارد يحدث كثيراً أن يكون ظاهر الحوادث يختلف تمام الاختلاف عن باطنها، فقد يكون الظاهر قبيحاً أو غير هادف في حين أنَّ الباطن مفيد ومقدَّس وهادف لأقصى غاية.

في مثل هذه الحالة يفقد الشخص الذي ينظر إلى الظاهر صبره وتماسُكهُ فيقوم بالإعتراض وحتى بالتشاجر.

ولكن الأستاذ العالِم والخبير بالأسرار بقي ينظر إِلى بواطن الأعمال، واستمر بعملهِ ببرود، ولم يعر أي أهمية إِلى اعتراضات موسى وصيحاته، بل كان في انتظار الفرصة المناسبة ليكشف عن حقيقة الأمر، إِلاَّ أنَّ التلميذ كانَ مستمراً في الإِلحاح، ولكنَّهُ ندمَ حين توضحت وانكشفت لهُ الأسرار.

وقد يكون موسى(عليه السلام) اضطرب عندما سمعَ هذا الكلام وخشي أن يُحرم مِن فيض هذا العالم الكبير، لذا فقد تعهد بأن يصبر على جميع الحوادث وقال: (قال ستجدني إِن شاءَ اللَّهُ صابراً ولا أعصي لك أمراً).

مرّة أُخرى كشف موسى(عليه السلام) عن قمة أدبه في هذه العبارة، فقد اعتمد على خالقه حيث لم يقل للرجل العالم: إِنّي صابر، بل قال: إِن شاء الله ستجدني صابراً.

ولأنَّ الصبر على حوادث غريبة وسيئة في الظاهر والتي لا يعرف الإِنسان أسرارها، ليسَ بالامرالهيّن، لذا فقد طلب الرجل العالم مِن موسى(عليه السلام) أن يتعهد لهُ مرّة أُخرى، وحذَّره: (قال فإِن اتبعتني فلا تسئلني عن شيء حتى أحدث لك مِنهُ ذِكراً)(1). وقد أعطى موسى العهد مجدداً وانطلق مع العالم الأستاذ.

* * *

____________________________

1 ـ إِن عبارة (أحدث لك منهُ ذكراً) يكون مفهومها بعد الأخذ بنظر الإِعتبار كلمة (أحدث) هو: إِنّي أنا الذي أبدأ بالكلام وأكشف للمرّة الأُولى; أمّا أنت فلا تتكلم.

[319]

الآيات

فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً(71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً(72) قَالَ لاَتُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْراً(73) فَانَطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلـماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسَاً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْس لَّقَد جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً(74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً(75) قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيء بَعْدَهَا فَلاَ تُصـحِبْنِى قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّى عُذراً(76) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَة اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً(77) قَالَ هـذا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بَتَأوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبراً(78)

[320]

التّفسير

المعلم الإِلهي والأفعال المنكرة!!

نعم، لقد ذهب موسى وصاحبهُ وركبا السفينة: (فانطلقا حتى إِذا ركبا في السفينة).

من الآن فصاعداً نرى القرآن يستخدم ضمير المثنّى في جميع الموارد، والضمير إِشارة إلى موسى والعالم الرّباني، وهذه إِشارة إِلى إِنتهاء مهمّة صاحب موسى(عليه السلام) (يوشع) ورجوعه، أو أنَّهُ لم يكن معنياً بالحوادث بالرغم مِن أنَّهُ قد حضرها جميعاً. إِلاَّ أنَّ الإحتمال الأوّل هو الأقوى.

عندما ركبا السفينة قام العالم بثقبها: «خرقها».

«خرق» كما يقول الراغب في المفردات: الخرق، قطع الشيء على سبيل الافساد بلا تدبّر ولا تفكر حيث كان ظاهر عمل الرجل العالِم على هذا المنوال.

وبحكم كَوْن موسي(عليه السلام) نبيّاً إِلهياً كبيراً فقد كان مِن جانب يرى أن من واجبه الحفاظ على أرواح وأموال الناس، وأن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، ومِن جانب آخر كان وجدانه الإِنساني يضغط عليه ولا يدعهُ يسكت أمام أعمال الرجل العالِم التي يبدو ظاهرها سيئاً قبيحاً، لذا فقد نسيَ العهد الذي قطعهُ للخضر (العالم) فاعترض وقال: (قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إِمراً).

لا ريب إِنَّ هدف العالم (الخضر) لم يكن إِغراق مَن في السفينة، ولكنَّ النتيجة النهائية لخرق السفينة لم يكن سوى غرق مَن في السفينة، لذا فقد استخدم موسى(عليه السلام) (اللام الغائية) لبيان الهدف.

مثل ذلك ما نقوله للشخص الذي يأكل كثيراً، عندما نقول لهُ: أتريد أن تقتل نفسك؟!

بالطبع مِثل هذا لا يريد قتل نفسه بكثرة الطعام، إِلاَّ أنَّ نتيجة عمله قد تكون هكذا.

[321]

«إِمر» على وزن «شمر» وتطلق على العمل المهم العجيب أو القبيح للغاية.

وحقاً، لقد كان ظاهر عمل الرجل العالِم عجيباً وسيئاً للغاية، فهل هُناك عمل أخطر مِن أن يثقب شخص سفينة تحمل عدداً مِن المسافرين!

وفي بعض الرّوايات نقرأ أنَّ أهل السفينة انتبهوا إلى الخطر بسرعة وقاموا بإِصلاح الثقب (الخرق) مؤقتاً، ولكن السفينة أصبحت بعد ذلك معيبة وغير سالمة.

وفي هذه الأثناء نظر الرجل العالِم إلى موسى(عليه السلام) نظرة خاصّة وخاطبه: (قال ألم أقل إِنّك لن نستطيع معي صبراً).

أمّا موسى الذي ندم على استعجاله، بسبب أهمية الحادثة، فقد تذكَّر عهده الذي قطعة لهذا العالِم الأستاذ، لذا فقد التفت إِليه قائلا: (قَال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني مِن أمري عسراً). يعني لقد اخطئت ونسيت الوعد  فلا تؤاخذني بهذا الإشتباه.

«لا ترهقني» مُشتقّة مِن «إِرهاق» وتعني تغطية شيء ما بالقهر والغلبة، وتأتي في بعض الأحيان بمعنى التكليف، وفي الآية ـ أعلاه ـ يكون معناها: لا تصعِّب الأُمور عليَّ، ولا تقطع فيضك عنّي بسبب هذا العمل.

لقد انتهت سفرتهم البحرية وترجلوا مِن السفينة: (فآنطلقا حتى إِذا لقيا غلاماً فقتله)، وقد تمَّ ذلك بدون أي مقدمات!

وهنا ثار موسى(عليه السلام) مرّة أُخرى حيث لم يستطع السكوت على قتل طفل بريء بدون أي سبب، وظهرت آثار الغضب على وجههِ وملأَ الحزن وعدم الرضا عينيه ونسي وعده مرّةً أُخرى، فقام للإِعتراض، وكان اعتراضه هذه المرَّة أشد مِن اعتراضه في المرّة الأُولى، لأنَّ الحادثة هذه المرَّة كانت موحشة أكثر من الأُولى، فقال(عليه السلام): (قال أقتلت نفساً زكيةً بغير نفس). أي إنّك قتلت انساناً بريئاً من دون أن يرتكب جريمة قتل، (لقد جئت شيئاً نكراً).

[322]

كلمة «غلام» تعني الفتى الحدث، أي الصبي سواء كان بالغاً أو غير بالغ. وبين المفسّرين ثمّة كلام كثير عن الغلام المقتول، وفيما إِذا كان بالغاً أم لا، فالبعض استدل بعبارة (نفساً زكية) على أنَّ الفتى لم يكن بالغاً. والبعض الآخر اعتبر عبارة (بغير نفس) دليلا على أنَّ الفتى كانَ بالغاً، ذلك لأنَّ القصاص يجوز بحق البالغ فقط، ولكن لا يمكن القطع في هذا المجال بالنسبة لنفس الآية.

«نكر» تعني القبيح والمنكر، وأثرها أقوى مِن كلمة «إِمر» التي وردت في حادثة ثقب السفينة، والسبب في ذلك واضح، فالأمر الأوّل قد أوجد الخطر لمجموعة مِن الناس، إِلاَّ أنّهم تداركوه بسرعة، لكن ظاهر العمل الثّاني يدل على إِتكاب جريمة.

ومرّة أُخرى كرَّر العالم الكبير جملته السابقة التي اتسمت ببرود خاص، حيث قالَ لموسى(عليه السلام): (قال أَلم أقل لك إِنّك لن تستطيع معي صبراً).

والاختلاف الوحيد مع الجملة السابقة هو إضافة كلمة «لك» التي تفيد التأكيد الأكثر; يعني: إِنّني قلت هذا الكلام لشخصك!

تذكر موسى تعهده فانتبه إلى ذلك وهو خجل، حيث أخلَّ بالعهد مرَّتين ـ ولو بسبب النسيان ـ وبدأ تدريجياً يشعر بصدق عبارة الأستاذ في أنَّ موسى  لا يستطيع تحمّل أعماله، لذا فلا يطيق رفقته كما قالَ لهُ عندما عرض عليه موسى الرفقة، لذا فقد بادر الى الاعتذار وقال: إِذا اعترضت عليك مرّة أُخرى فلا تصاحبني وأنت في حل منّي: (قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت مِن لدني عذراً). صيغة العذر هنا تدل على انصاف موسى(عليه السلام) ورؤيته البعيدة للأُمور، وتبيّن أنَّهُ(عليه السلام) كانَ يستسلم للحقائق ولو كانت مرّة; بعبارة أُخرى: إنّ الجملة توضح وبعد ثلاث مراحل للإِختبار أنَّ مهمّة هذين الرجلين كانت مُختلفة.

بعد هذا الكلام والعهد الجديد: (فانطلقا حتى إِذا أتيا أهل قرية استطعما

[323]

أهلها فأبوا أن يضيفوهما).

لا ريب، إِنَّ موسى وصاحبه لم يكونا ممّن يلقي بكلّه على الناس ولكن يتّضح أنَّ زادهم وأموالهم قد نفدت في تلك السفرة، لذا فقد رغبا أن يضيفهما أهل تلك المدينة (ويحتمل أنَّ الرجل العالم تعمد طرح هذا الإِقتراح كي يعطي موسى درساً بليغاً آخر).

ويجب أن نلتفت إلى أنَّ (قرية) في لغة القرآن تنطوي على مفهوم عام، وتشمل المناطق السكنية في الريف والمدينة، أمّا المقصود مِنها في الآية فهو المدينة لا القرية، كما تصرح بعد ذلك الآيات اللاحقة.

وذكر المفسّرون نقلا عن ابن عباس أنَّ المقصود بهذه المدينة، هو (أنطاكية)(1).

وذكر آخرون: إِنَّ المقصود مِنها هو مدينة «أيلة» التي تسمى اليوم ميناء (أيلات) المعروف والذي يقع على البحر الأحمر قرب خليج العقبة. أمّا البعض الثّالث فيرى بأنّها مدينة (الناصرة) الواقعة شمال فلسطين، وهي محل ولادة السيّد المسيح(عليه السلام). وقد نقل العلاّمة الطبرسي حديثاً عن الإِمام الصادق(عليه السلام) يدعم صحة هذا الإِحتمال.

ورجوعاً إلى ما قلناه في المقصود مِن (مجمع البحرين) إِذ قلنا: إِنَّهُ كناية عن محل التقاء خليج العقبة وخليج السويس، يتّضح أنَّ مدينة (الناصرة) أو ميناء (أيلة) أقرب إِلى هذا المكان من انطاكية.

المهم في الأمر، أنّنا نستنتج مِن خلال ما جرى لموسى(عليه السلام) وصاحبه مِن أهل هذه المدينة أنّهم كانوا لئاماً دنيئي الهمّة، لذا نقرأ في رواية عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)

____________________________

1 ـ أنطاكية مِن المدن السورية القديمة التي تقع على بعد (96) كم مِن حلب، و(59) كم عن الإِسكندرونة، تشتهر المدينة بالحبوب الغذائية، والحبوب الدهنية، فيها ميناء يسمى «سويدية» ويبعد عن مركزها (27) كيلومتر. (يراج في ذلك دائرة فريد وجدي، ج 1، ص 835).

[324]

قوله في وصف أهل هذه المدينة: «كانوا أهل قرية لئام»(1).

ثمّ يضيف القرآن: (فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه)(2) وقد كان موسى(عليه السلام) يشعر بالتعب والجوع، والأهم مِن ذلك أنَّهُ كان يشعر بأنَّ كرامته وكرامة أستاذه قد أهينت مِن أهل هذه القرية التي أبت أن نضيفهما; ومِن جانب آخر شاهد كيف أنَّ الخضر قام بترميم الجدار بالرغم مِن سلوك أهل القرية القبيح إِزاءهما، وكأنَّهُ بذلك أراد أن يجازي أهل القرية بفعالهم السيئة; وكان موسى يعتقد بأنّ على صاحبه أن يُطالب بالأجر على هذا العمل حتى يستطيعا أن يُعدّا طعاماً لهما.

لذا فقد نسي موسى(عليه السلام) عهده مرّة أُخرى وبدأ بالإِعتراض، إِلاَّ أنَّ اعتراضه هذه المرَّة بدا خفيفاً فقال: (قال لو شئت لاتّخذت عليه أجراً).

وفي الواقع فإِنَّ موسى يعتقد بأنَّ قيام الإِنسان بالتضحية في سبيل أناس سيئين عمل مجاف لروح العدالة; بعبارة أُخرى: إِنَّ الجميل جيِّد وحسن، بشرط أن يكون في محلّه.

صحيح أنَّ الجزاء الجميل في مقابل العمل القبيح هو مِن صفات الناس الإِلهيين، إِلاَّ أنَّ ذلك ينبغي أن لا يكون سبباً في دفع المسيئين للقيام بالمزيد مِن الأعمال السيئة.

وهنا قالَ الرجل العالم كلامه الأخير لموسى، بأنّك ومِن خلال حوادث مُختلفة، لا تستطيع معي صبراً، لذلك قرَّر العالم قراره الأخير: (قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً).

موسى(عليه السلام) لم يعترض على القرار ـ طبعاً ـ لأنَّهُ هو الذي كان قد اقترحهُ عندَ

____________________________

1 ـ مجمع البيان في تفسير الآية.

2 ـ إِنَّ نسبة (الإرادة» إِلى الجدار هو استخدام مجازي، ومفهوم ذلك أنَّ الجدار كان ضعيفاً للغاية وهو على مشارف الإِنهيار.

[325]

وقوع الحادثة السابقة، وهكذا ثبت لموسى أنَّهُ لا يستطيع الإستمرار مع هذا الرجل العالم. ولكن برغم كل ذلك، فإِنَّ خبر الفراق قد نزل بوقع شديد على قلب موسى(عليه السلام)، إِذا يعني فراق أستاذ قلبه مملوء بالأسرار، ومفارقة صُحبة مليئة بالبركة، إِذ كان كلام الأستاذ دَرساً، وتعاملهُ يتسّم بالإِلهام; نور الله يشع مِن جبينه، وقلبه مخزن للعلم الإِلهي.

إِنّ مفارقة رجل بهذه الخصائص أمرٌ صعب للغاية، لكن على موسى(عليه السلام) أن ينصاع لهذه الحقيقة المُرَّة.

المفسّر المعروف أبو الفتوح الرازي يقول: ورد في الخبر، أنَّ موسى(عليه السلام)عندما سُئِلَ عن أصعب ما لاقى مِن مُشكلات في طول حياته، أجاب قائلا: لقد واجهت الكثير مِن المشاكل والصعوبات (إِشارة إِلى ما لاقاه(عليه السلام) مِن فرعون، وما عاناه مِن بني إِسرائيل) ولكن لم يكن أيّاً مِنها أصعب وأكثر ألماً على قلبي مِن قرار الخضر في فراقي إِيَّاه»(1).

«تأويل» مَن «أول» على وزن «قول» وتعني الإِجاع، لذا فإِنَّ أي عمل أو كلام يُرجعنا إِلى الهدف الأصلي يُسمّى «تأويل» كما أنَّ رفع الحجب عن أسرار شيء هو نوع مِن التأويل.

اطلاق كلمة (التأويل) على تفسير الاحلام يعود لهذا السبب بالذات، كما ورد في سورة يوسف (هذا تأويل رؤياي)(2)(3).

* * *

____________________________

1 ـ أبو الفتوح الرازي في (روح الجنان)، ج 3، أثناء تفسير الآية.

2 ـ للتوضيح أكثر يمكن مراجعة الآية (7) مِن سورة آل عمران.

3 ـ يوسف، 100.

[326]

الآيات

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِـمَسـكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ فَأَرَدْتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُمْ مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَة غَصْباً(79) وَأَمَّا الْغُلـمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَينِ فَخَشِينَآ أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيـناً وَكُفْراً(80) فَأَرَدْنَآ أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكوةً وَأَقْرَبَ رُحْماً(81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَـمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُما صَـلِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا ويَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً(82)

التّفسير

الأسرار الداخلية لهذه الحوادث:

بعد أن أصبح الفراق بين موسى والخضر(عليهما السلام) أمراً حتمياً، كانَ مِن اللازم أن يقوم الأستاذ الإِلهي بتوضيح أسرار أعماله التي لم يستطع موسى أن يصبر عليها، وفي الواقع فإِنَّ استفادة موسى مِن صُحبته تتمثل في معرفة أسرار هذه الحوادث

[327]

الثلاثة العجيبة، والتي يمكن أن تكون مفتاحاً للعديد مِن المسائل، وجواباً لكثير من الأسئلة.

ففي البداية ذكر قصّة السفينة وقال: (أمّا السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكانَ وراءهم ملك يأخذ كل سفنية غصباً).

وبهذا الترتيب كان ثمّة هدف خيِّر وراء ثقب السفينة الذي بدأ في حينه عملا مشيناً سيئاً، والهدف هو نجاتهم مِن قبضة ملك غاصب، وكان هذا الملك يترك السفينة المعيبة ويصرف النظر عنها. إِذاً خلاصة المقصود في الحادثة الأُولى هو حفظ مصالح مجموعة مِن المساكين.

كلمة «وراء» لا تعني هُنا الجانب المكاني، وإِنّما هي كناية عن الخطر المحيط بهم (خطر الملك) بدون أن يعلموا به، وبما أنَّ الإِنسان لا يحيط بالحوادث التي سوف تصيبهُ لاحقاً، لذا استخدمت الآية التعبير الآنف الذكر.

إِضافة إِلى ذلك فإنَّ الإِنسان عندما يخضع لضغط فرد أو مجموعة فإِنَّهُ يستخدم تعبير (وراء) كقوله مثلا: الدّيانون ورائي ولا يتركوني; وفي الآية (16) مِن سورة إِبراهيم نقرأ قوله تعالى: (مِن ورائه جهنَّم ويسقى مِن ماء صديد)وكأنَّ جهنَّم تلاحق وتتبع المذنبين، لذا فقد استخدمت كلمة وراء(1).

ويفيد استخدام كلمة (مسكين) أنَّ «المسكين» ليسَ هو الشخص الذي  لا يملك شيئاً مطلقاً، بل هي وصف يُطلق على الأشخاص الذين يملكون أموالا وثروة لكنَّها لا تفي بحاجاتهم.

ويحتمل أيضاً أن يكون السبب في إِطلاق وصف (المساكين) عليهم ليسَ بسبب الفقر المالي، بل بسبب افتقارهم للقوّة والقدرة، وهذا التعبير يستخدم في لغة العرب، كما وأنَّهُ يتلاءم مع الجذور الأصلية لمعنى مسكين لغوياً، والذي يعني السكون والضعف.

____________________________

1 ـ في معنى (وراء) يمكن مراجعة البحث الوارد في ذيل الآية (16) مِن سورة إِبراهيم في تفسيرنا هذا.

[328]

وفي نهج البلاغة نقرأ قول أمير المؤمنين(عليه السلام): «مسكين ابن آدم .. تؤلمهُ البقة، وتقتله الشرقة، وتنتنهُ العرقة»(1).

بعد ذلك ينتقل العالم إلى بيان سر الحادثة الثّانية التي قتل فيها الفتى فيقول: (وأمّا الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً).

تحتمل مجموعة منِ المفسّرين أنَّ المقصود مِن الآية ليسَ ما يتبيّن مِن ظاهرها مِن أنَّ الفتى الكافر والعاصي قد يكون سبباً في انحراف أبويه، وإِنّما المقصود أنَّهُ بسبب مِن طغيانه وكفره يؤذي أبويه كثيراً(2); ولكن التّفسير الأوّل أقرب للصحة.

في كل الأحوال، فإِنَّ الرجل العالم قامَ بقتل هذا الفتى، واعتبر سبب ذلك ما سوف يقع للأب والأم المؤمنين في حالِ بقاء الابن على قيد الحياة.

وسوف نجيب في فقرة البحوث على شبهة (القصاص قبل الجناية) التي ترد على أعمال الخضر هذه.

كلمة (خشينا) تستبطن معنىً كبيراً، فهذا التعبير يوضح أنَّ هذا الرجل العالم كان يعتبر نفسهُ مسؤولا عن مستقبل الناس، ولم يكن مستعداً لأن تصاب أم أو أب مؤمنان بسوء بسبب انحراف ابنهم.

كما إِنَّ تعبير (خشينا) جاء هُنا بمعنى: لم نكن نرغب، وإِلاَّ لا معنى للخوف في هذه الموارد بالنسبة لشخص بهذا المستوى مِن العلم والوعي والقدرة.

وبعبارة أُخرى، فإِنَّ الهدف هو الإِتقاء مِن حادث سيء نرغب أن نقي الأبوين مِنهُ على أساس المودّة لهما.

ويحتمل أن يكون التعبير بمعنى (علمنا) كما ينقل عن ابن عباس، يعني أنّنا

____________________________

1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار الجملة رقم 419.

2 ـ وفق التّفسير الأوّل يكون الفعل «يرهق» مُتعدياً إِلى مفعولين: الأوّل (هما)، والمفعول الثّاني (طغياناً)، أمّا وفق التّفسير الثّاني فإِن (طغياناً) و (كفراً) يكونان مفعولا لأجله.

[329]

كُنّا نعلم أنَّ الفتى ـ في حال بقائه ـ سوف يكون سبباً لأحداث أليمة تقع لأبيه وأُمه في المستقبل.

أمّا لماذا استخدم ضمير المتكّلم في حالة الجمع، بينما كان المتكلِّم فرداً واحداً، فإِنَّ سبب ذلك واضح، حيث أنّها ليست المرّة الأُولى التي يستخدم القرآن هذه الصيغة، ففي كلام العرب عندما يتحدث الأشخاص الكبار عن أنفسهم فإِنّهم يستخدمون ضمير الجمع. والسبب في ذلك أنَّ هؤلاء الأشخاص يملكون أشخاصاً تحت أيديهم ويعطونهم الأوامر لتنفيذ الأعمال، فالله يعطي الأوامر للملائكة، والإِنسان يعطي الأوامر للذين هم تحت يديه.

ثمّ تحكي الآيات على لسان العالم قوله: (فأردنا أن يُبدلهما ربّهما خيراً منهُ زكاة وأقرب رحماً).

إِنَّ تعبير (أردنا) و (ربّهما) يطوي معاني كبيرة سوف نقف عليها بعد قليل.

(زكاة) هنا بمعنى الطهارة والنظافة، ولها مفهوم واسع حيث تشمل الإِيمان والعمل الصالح، وتتسع للأُمور الدينية والمادية، وقد يكون في هذا التعبير ما هو جواب على اعتراض موسى(عليه السلام) الذي قال: (أقتلت نفساً زكية ....) فقالَ لهُ العالم في الجواب: إِنَّ هذه النفس ليست زكية، وأردنا أن يُبدلهما ربّهما ابناً طاهراً بدلا عن ذلك.

وفي روايات عديدة نقرأ «أبدلهما الله به جارية ولدت سبعين نبيّاً»(1).

في آخر آية مِن الآيات التي نبحثها، كشف الرجل العالم عن السر الثّالث الذي دعاه إِلى بناء الجدار فقال: (وأمّا الجدار فكانَ لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحتهُ كنزٌ لهما وكانَ أبوهما صالحاً).

(فأراد ربّك أن يبلغا أشدّهما ويستخرجا كنزهما).

(رحمةً مِن ربّك).

____________________________

1 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 286 و 287.

[330]

وأنا كُنت مأموراً ببناء هذا الجدار بسبب جميل وإحسان أبوي هذين اليتيمين، كي لا يسقط وينكشف الكنز ويكون معرّضاً للخطر.

وفي خاتمة الحديث، ولأجل أن تنتفي أي شبهة محتملة، أو شك لدى موسى(عليه السلام)، ولكي يكون على يقين بأنَّ هذه الأعمال كانت طبقاً لمخطط وتوجيه أعلى خاص، قال العالم: (وما فعلتهُ عن أمري) بل بأمر مِن الله.

وذلك سر ما لم يستطع موسى(عليه السلام) صبراً، إذ قال: (ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً).

* * *

بحوث

1 ـ هل كانت مهمّة الخضر في اِطار النظام التشريعي أم التكويني!؟

إِنَّ هذه الحوادث الثّلاث شغلت عقول العلماء الكبار، وأثارت بينهم الكثير من الكلام والاستفهامات.

والسؤال الأوّل هو: هل يمكن إِتلاف جزء مِن أموال شخص بدون إِجازته بذريعة أنَّ هُناك غاصباً يريد أن يُصادرها؟

وهل يمكن معاقبة فتى بذريعة الأعمال التي سيقوم بها في المستقبل؟

ثمّ هل هُناك ضرورة للعمل المجاني بهدف الحفاظ على أموال شخص معين؟

لقد رأينا مِن سياق القصّة القرآنية أنَّ موسى اعتراض على الرجل العالم، ولكنَّهُ بعد أن استمع للتوضيحات وأحاط ببواطن الأُمور عاد واقتنع.

أمّا نحن فأمامنا طريقان للإِجابة على الأسئلة، نعرضها بالتفصيل الآتي:

الطريق ا لأوّل: أن نطابق الحوادث وتصرفات الرجل العالم مع الموازين الفقهية، وقوانين الشرع، وقد قامت مجموعة مِن المفسّرين بسلوك هذا الطريق.

[331]

فالحادثة الأُولى اعتبروها مُنطبقة مع قانون الأهم والمهم; وقالوا بأنَّ حفظ مجموع السفينة عمل أهم حتماً مِن الضرر الجزئي الذي لحقها بالخرق; وبعبارة أُخرى، فإِنّ الخضر قام هُنا (بدفع الأفسد بالفاسد) خاصّة وأنَّهُ كان يُمكن تقدير الرضا الباطني لأهل السفينة فيما إِذا علموا بهذه الحادثة. (أي أنَّ الخضر قد حصل مِن وجهة الإحكام والقواعد الشرعية على إِذن الفحوى).

وفيما يتعلق بالغلام فقد أصرَّ المفسّرون ممن سلك هذا الطريق، على أنَّ الفتى كانَ بالغاً وأنَّهُ كان مرتداً أو مفسداً، وبسبب أعماله الفعلية فإِنَّهُ مِن الجائز أن يُقتل.

وأمّا حديث الخضر عن جرائم الغلام المستقبلية، فإِنَّهُ بذلك أراد أن يقول بأن جرائم هذا الغلام لا تقتصر على إِفساده الراهن وجرائمه الحالية، بل سيقوم بالمستقبل بجرائم أكبر، لذا فإِنَّ قتله طبقاً للموازين الشرعية وبسبب ما اقترفه من جرائم فعلية يكون جائزاً.

أمّا ما يخص الحادثة الثّالثة، فلا أحد يستطيع أن يعترض على الآخرين فيما لو قاموا بالتضحية والإِيثار مِن أجل الآخرين، ومِن أجل أن لا تضيع أموالهم دون أن يتقاضوا أجراً على أعمالهم، وهو بالضبط ما قام بهِ الخضر، وقد لا تصل هذه الافعال إِلى حدّ الوجوب، إِلاَّ أنّها تعتبر ـ حتماً ـ مِن السلوك الحسن.

بل قد يُقال مِن الوجهة الفقهية أنّ الإِيثار والتضحية في بعض الموارد مِن الأُمور الواجبة، مثل أن تكون أموال كثيرة لطفل يتيم معرضة للتلف، ويمكن المحافظة عليها بجهد قليل فلا يستبعد وجوب بذل الجهد.

الطريق الثّاني: تتمّ فيه مناقشة بعض عناصر الإِستدلال الفقهية التي وردت في الطريق الأوّل، فإِذا كانت التوضيحات الآنفة مُقنعة فيما يخص الكنز والحائط، إِلاَّ أنّها في قضية قتل الغلام لا تتلاءم مع ظاهر الآية، الذي اعتبر علّة قتل الغلام هو ما سيقوم بهِ مِن أعمال في المستقبل، وليسَ أعماله الفعلية.

[332]

أمّا الدليل الوارد حول خرق السفينة، فهو أيضاً لا يخلو من تأمل فهل نستطيع مثلا ـ ومِن الوجهة الفقهية ـ أن نتلف جزءاً مِن أموال أو بيت شخص معين بدون علمه لا نقاذها مِن خطر ما، حتى لو علمنا وتيقنا بأنَّهُ سيتمّ غصب تلك الأموال في المستقبل ... تُرى هل يسمح الفقهاء بمثل هذا الحكم؟!

وعلى هذا الأساس يجب علينا أن نسلك طريقاً آخر:

الطريق الثّالث: إِنَّ في هذا العالم ثمّة نظامان هما: «النظام التكويني،والنظام التشريعي»، وبالرغم مِن أنَّ هذين النظامين مُتناسقين فيما بينهما في الأصول الكلية، ولكنها قد ينفصلان ويفترقان في الجزئيات.

على سبيل المثال، يقوم الله سبحانه وتعالى ومِن أجل اختبار العباد، بابتلائهم بالخوف ونقص في الأموال والثمرات وموت الأعزّة وفقدانهم حتى يتبيّن الصابر مِن غيره تجاه هذه الحوادث والبلاءات.

والسؤال هنا هو: هل يستطيع أي فقيه أو حتى نبي أن يقوم بهذا العمل، أي ابتلاء العباد بنقص الأموال والثمرات وفقدان الأعزة، وفقدان الأمن والإِستقرار بهدف اختبار الناس وابتلائهم؟

ونرى أنَّ الله سبحانهُ وتعالى يقوم بتحذير وتربية بعض أنبيائه وعباده الصالحين، وذلك بابتلائهم بمصائب بسبب تركهم للأولى، مثل ما ابتلى بهِ يعقوب(عليه السلام) بسبب قلّة توجهه إِلى المساكين، أو ما ابتلى بهِ يونس(عليه السلام) بسبب تركه الأُولى مِن بعض الأُمور ولو لفترة قصيرة ... فهل يا ترى يحق لأحد أن يقوم بهذه الأعمال بعنوان الجزاء والعقاب لهؤلاء الرسل الكرام والعباد الصالحين؟

ونرى أنَّ الله سبحانه وتعالى يقوم في بعض الأحيان، بسلب النعمة مِن الإِنسان بسبب عدم شكره، كأن تغرق أمواله في البحر ـ مثلا ـ يخسر هذه الأموال، أو يُصاب بالمرض بسبب عدم شكره لربِّه على نعمة السلامة ...

والسؤال هنا: هل يستطيع أحد مِن الناحية الفقهية والتشريعية أن يسلب

[333]

النعمة مِن الآخرين، أو ينزل الضرر بسلامتهم وصحتهم بسبب عدم شكرهم وبدعوى ابتلائهم؟

إِنَّ أمثال هذه الأُمور كثيرٌ للغاية، وهي تُظهر ـ بشكل عام ـ أنَّ عالَم الوجود، وخصوصاً خلق الإِنسان، قد قام على النظام الأحسن، حيث وضعَ الله تعالى مجموعة مِن القوانين والمقررات التكوينية حتى يسلك الإِنسان طريق التكامل، وعندما يتخلف عنها فسيُصاب بردود فعل مُختلفة.

ولكنّا مِن وُجهة قوانين الشرع وضوابط الأحكام لا نستطيع أن نصنِّف الأُمور في إِطار هذه القوانين التكوينية.

على سبيل المثال نرى أنّ الطبيب يستطيع أن يقطع إصبع شخص معين بحجّة عدم سراية السم إِلى قلبه، ولكن هل يستطيع أي شخص أن يقطع إِصبع شخص آخر بحجّة تربيته على الصبر أو عقاباً لهُ على كفرانه للنعم؟ (بالطبع الخالق يستطيع القيام بذلك حتماً لأنَّهُ يُلائم النظام الأحسن).

والآن بعد أن ثبت وتوضح أنّ في العالم نظامان (تكويني وتشريعي)، وأنَّ الله هو الحاكم والمسيطر على هذين النظامين، لذا فلا مانع في أن يأمر تعالى مجموعة بأن تطبّق النظام التشريعي، بينما يأمر مجموعة مِن الملائكة أو بعض البشر (كالخضر مثلا) بأن يطبقوا النظام التكويني.

ومِن وجهة النظام التكويني لا يوجد أي مانع في أن يبتلي الله طفلا غير بالغ بحادثة معينة، ثمّ يموت ذلك الطفل بسبب هذه الحادثة، وذلك لعلم الله تعالى بأنَّ أخطاراً كبيرة كامنة لهذا الطفل في المستقبل كما أنَّ وجود مثل هؤلاء الأشخاص وبقاءهم يتمّ لمصلحة معينة كالإِمتحان والإِبتلاء وغير ذلك.

وأيضاً لا مانع في أن يبتليني الله اليوم بمرض صعب يقعدني الفراش لعلمه تعالى بأنَّ خروجي مِن البيت لو تمّ فسأتعرض لحادثة خطيرة لا أستحقها، لذا فهو تعالى يمنعني مِنها.

[334]

بعبارة أُخرى: إِنَّ مجموعة مِن أوليائه وعباده مكلّفون في هذا العالم بالبواطن، بينما المجموعة الأُخرى مكلّفون بالظواهر. والمكلّفون بالبواطن لهم ضوابط وأصول وبرامج خاصّة بهم، مثلما للمكلّفين بالظواهر ضوابطهم وأصولهم الخاصّة بهم أيضاً.

صحيح أنَّ الخط العام لهذين البرنامجين يوصل الإِنسان إِلى الكمال; وصحيح أنَّ البرنامجين متناسقين مِن حيث القواعد الكلية، إِلاَّ أنّهما يفترقان في التفاصيل والجزئيات كما لاحظنا ذلك في الأمثلة.

بالطبع لا يستطيع أحد أن يعمل كما يحلو له ضمن هذين الخطين، بل يجب أن يحصل على إِجازة المالك القادر الحكيم الخالق جلَّ وعلا، لذا رأينا الخضر (العالم الكبير) يوضح هذه الحقيقة بصراحة قائلا، (ما فعلتهُ عن أمري) بل إِنّي خطوت الخطوات وفقاً للبرنامج الإِلهي والضوابط التي كانت موضوعة لي.

وهكذا سيزول التعارض والتضاد وتنتفي الأسئلة والمشكلات المثارة حول مواقف الخضر في الحوادث الثلاث.

وسبب عدم تحمّل موسى(عليه السلام) لأعمال الخضر يعود إِلى مهمّة موسى التي كانت تختلف عن مهمّة الخضر في العالم، لذا فقد كان موسى(عليه السلام) يبادر إِلى الإِعتراض على مواقف الخضر المخالفة لضوابط الشريعة بينما كان الخضر مستمراً في طريق ببرود، لأنَّ وظيفة كل مِن هذين المبعوثين الإِلهيين تختلف عن وظيفة الآخر ودوره المرسوم لهُ إِلهياً، لذلك لم يستطيعا العيش سوية، لذا قال الخضر لموسى(عليه السلام): (هذا فراق بيني وبينك).

2 ـ مَن هو الخضر؟

لقد رأينا القرآن الكريم يتحدَّث عن العالم مِن دون أن يسميّه بالخضر وقد عبَّر عن معلّم موسى(عليه السلام) بقوله: (عبداً مِن عبادنا آتيناه رحمة مِن عندنا وعلمناه

[335]

مِن لدنا علماً) والآية توضح المقام الخاص للعبودية والعلم والمعرفة، لذا فإِنّنا غالباً ما نصفه بالرجل العالم.

أمّا الرّوايات الإِسلامية وفي مختلف مصادرها عرَّفت هذا الرجل باسم (الخضر) ومِن بعض هذه الرّوايات نستفيد بأنَّ اسمه الحقيقي كان (بليا بن ملكان) أمّا الخضر فهو لقب له، حيث أنَّهُ أينما كان يَطأ الأرض فإِنَّ الأرض كانت تخضر تحت قدميه.

البعض احتمل أنَّ اسم الرجل العالم هذا هو (إِلياس) ومن هنا ظهرت فكرة أن الياسُ والخضر هما اسمان لشخص واحد.

ولكن المشهور المعروف بين المفسّرين والرواة هو الأوّل.

وطبيعي أن نقول: إِنَّ اسم الرجل العالم أيّاً كان فهو غير مهم لا لمضمون القصّة ولا لقصدها، إِذ المهم أن نعرف أنَّهُ كان عالماً إِلهياً، شملتُه الرحمة الإِلهية الخاصّة، وكان مُكلّفاً بالباطن والنظام التكويني للعالم، ويعرف بعض الأسرار، وكان معلّم موسى بن عمران بالرغم مِن أنَّ موسى(عليه السلام) كانَ أفضل مِنهُ مِن بعض الجوانب.

وهناك أيضاً آراء وروايات مُختلفة فيما إِذا كان الخضر نبيّاً أَم لا.

ففي المجلد الأوّل مِن أصول الكافي وردت روايات عديدة تدل على أنَّ هذا الرجل لم يكن نبيّاً، بل كان عالماً مِثل (ذوالقرنين) و (آصف بن برخيا)(1).

في حين نستفيد مِن روايات أُخرى أنَّهُ كان نبيّاً، وظاهر بعض الآيات أعلاه يدل على هذا المعنى، لأنّها تقول على لسانه: (وما فعلته عن أمري). وفي مكان آخر قوله: (فأردنا أن يبدلهما ربّهما خيراً منه ... ).

ونستفيد من روايات أُخرى أنَّ الخضر عمَّر طويلا.

وهُنا قد يُطرح هذا السؤال: هل ذكرت قصّة موسى وهذا العالم الكبير في

____________________________

1 ـ أصول الكافي، المجلد الأوّل، باب «إِنّ الأئمّة بمن يشبهون فيمن مضى»، ص 210.

[336]

مصادر اليهود والمسيح؟

في الجواب نقول: إِذا كان المقصود هو كتب العَهدين (التوراة والإِنجيل) فإِنَّ ذلك غير مذكور فيهما، أمّا بعض كتب علماء اليهود التي تمَّ تدوينها في القرن الحادي عشر الميلادي، ففيها قصّة تشبه إِلى حد كبير حادثة موسى(عليه السلام) وعالم زمانه، بالرغم مِن أنّها تذكر أنَّ أبطال تلك القصّة هما (إِلياس) و (يوشع بن لاوي) وهما مِن مفسّري (التلمود) في القرن الثّالث الميلادي، وتختلف مِن خلال عدّة أُمور عن قصّة موسى والخضر، والقصة هذه هي:

«وهو (اي يوشع) يطلب من الله أن يلقى الياس، وبمجردّ أن يستجاب دعاؤه ويحظى بلقاء الياس فإِنَّه يرجوه أن يطلعه على بعض الأسرار. فيجيبه الياس: إِنّك لا طاقة لك على تحمّل ذلك، إلاَّ أن يوشع يصّر ويلحّ في طلبه فيستجيب له الياس مشترطاً عليه أن لا يسأل عن أيّ شيء يراه، وإِذا تخلّف يوشع عن هذا الشرط فإنَّ الياس حرّ في الإنفصال عنه وتركه، وعلى أساس هذا الاتّفاق يترافق يوشع والياس في السفر.

وأثناء سفرهما يدخلان إِلى بيت فيستقبلهما صاحب البيت أحرّ استقبال ويكرم وفادهما. وكان لإهل ذلك البيت بقرة هي كلّ ما يملكون من حطام الدنيا حيث كانوا يوفّرون لأنفسهم لقمة العيش من بيع لبنها. فيأمر الياس صاحب البيت أن يذبح تلك البقرة، ويستولي على يوشع العجب والإستغراب من هذا التصّرف ويدفعه ذلك لأن يسأله عن المبرّر لهذا الفعل. فيذكّره الياس بما اتّفقا عليه ويهددّه بمفارقته له فيصمت يوشع ولا ينبس بكلمة.

ومن هناك يواصلان سفرهما إِلى قرية أُخرى فيدخلان إِلى بيت شخص ثريّ وينهض الياس إِلى جدار في ذلك البيت يشرف على السقوط فيرمّمه ويقيمه. وفي قرية أُخرى يواجهان عدداً من سكان تلك القرية مجتمعين في مكان معيّن ولا يعيرون هذين الشخصين بالا ولا يواجهونهما باحترام. فيقوم

[337]

الياس بالدعاء لهم أن يصلوا جميعاً إِلى الرئاسة. وفي قرية رابعة يواجههما سكّانها باحترام فائق فيدعو لهم الياس بأن يصل شخص واحد منهم فحسب إِلى الرئاسة. وبالتالي فإِنّ يوشع بن لاوى لا يطيق الصبر فيسأل عن الوقايع الأربع، ويجيبه الياس: بأنّه في البيت الأوّل كانت زوجة ربّ الدار مريضة ولو أنَّ تلك البقرة لم تذبح بعنوان الصدقة فإِنّ تلك المرأة تموت ويصاب صاحب الدار بخسارة أفدح من الخسارة التي تلحقه نتيجة لذبح البقرة، وفي البيت الثّاني كان هناك كنز ينبغي الاحتفاظ به لطفل يتيم، وأمّا إِنَّهُ قد دعوت لأهل القرية الثّالثة بأن يصلوا إِلى الرئاسة جميعاً فذلك لكي تضطرب أُمورهم ويختلّ النظام عندهم. على العكس من أهل القرية الرّابعة فإِنّهم إِذا أسندوا زمام أُمورهم إِلى شخص واحد فإِنّ أُمورهم سوف تنتظم وتسير على ما يرام»(1).

ويجب عدم التوَّهم أنّنا نرى بأنَّ القصتين هما قصة واحدة، بل إِنَّ غرضنا الإِشارة إِلى أنَّ القصة التي يذكرها علماء اليهود يمكن أن تكون قصة مُشابهة أو محرّفة لما حصل أصلا لموسى(عليه السلام) والخضر، وقد تغيرت بسبب طول الزمان وأصبحت على هذا الشكل.

3 ـ الأساطير الموضوعة

إِنَّ الأساس في قصّة موسى والخضر(عليهما السلام) هو ما ذكر في القرآن، ولكن معَ الأسف هناك أساطير كثيرة قيلت حول القصّة وحول رمزيها (موسى والخضر) حتى أنَّ بعض الإِضافات تعطي للقصّة طابعاً خرافياً. وينبغي أن نعرف أنَّ مصير كثير مِن القصص لم يختلف عن مصير هذه القصة، إِذ لم تنجُ قصة مِن الوضع والتحريف والتقوُّل.

مقياسنا في واقعية القصّة هو أن نضع الآيات الثلاث والعشرون أعلاه كمعيار

____________________________

1 ـ ما ورد أعلاه منقول عن كتاب (أعلام القرآن)، ص 213.

[338]

أمامنا، وحتى بالنسبة للأحاديث والرّوايات فإِنّنا نقبلها في حال كونها مُطابقة للآيات، فإِذا كان هُناك حديث لا يطابق الآيات فسنرفضه حتماً ومن حسن الحظ لم يرد في هذه الأحاديث حديث معتبر.

4 ـ هل يمكن أن يُصاب الأنبياء بالنسيان؟

لقد واجهتنا ـ أعلاه، ولعدّة مرّات ـ قضية نسيان موسى(عليه السلام)، فمرَّة في قضية تلك السمكّة المعدَّة لطعامهم; وثلاث مرّات أُخرى خلال الحوادث الثلاث التي وقعت عندَ مُرافقته للخضر، حينما نسي تعهده!

إِذن، نحنُ أمام هذا السؤال: هل يقع النسيان بالنسبة للأنبياء؟

البعض يعتقد بصدور ووقوع مثل هذا النسيان بالنسبة للأنبياء، لأنَّهُ لا يرتبط بأساس دعوة النّبوة ولا بفروعها ولا بتبليغ الدعوة، بل يقع في قضية عادية تخص الحياة اليومية، فالمسَلَّم به أنَّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يُصاب بالنسيان في أصل دعوة النّبوة، ولا يخطأ أو يشتبه في التبليغ، حيث أن عناية الله تعصمهُ في مثل هذه الأُمور.

ولكن ما المانع أن ينسى موسى(عليه السلام) طعامه، خصوصاً وأن هذا النسيان أمر طبيعي عندما يكون موسى مُتوجهاً بحواسه في البحث عن الرجل العالم؟

ثمّ ما المانع مِن أن يُصاب بالهيجان بحيث ينسى تعهد الذي قطعهُ مع صاحبه العالم، وذلك عندما شاهد هذه الحوادث العظيمة التي مرَّت به كقتل الفتى وخرق السفينة وبناء الجدار في مدينة البخلاء؟

إِنَّ موارد النسيان هذه لا تتعارض مع مقام العصمة، ولا هي مستبعدة عن أي نبي.

بعض المفسّرين احتملوا أن يكون النسيان هنا بمعنى مجازي، ويعني الترك، لأنَّ الإِنسان عندما يترك شيئاً فهو كمن قد نسيه; أمّا لماذا ترك موسى طعامه، فقد

[339]

يعود ذلك إِلى عدم اهتمامه بمثل هذا الأمر. وفيما يتعلق بتعهده اتجاه صاحبهِ العالم، فذاك منهُ لأنَّهُ كان ينظر إِلى ظواهر الأُمور، إِذ مِن غير المألوف أن يعرَّض أحد أرواح وأموال الناس إِلى الضرر، فضلا عن أن يكون ذلك الشخص هو العالم الكبير، لذا فإِنَّ موسى(عليه السلام) كان يعتبر نفسهُ مُكلفاً بالإِعتراض، وكان يعتقد بأنَّ هذا الأمر لا يُقيَّد بالتعهد.

لكن مِن الواضح أنَّ هذه التفاسير والآراء لا تتسق مع ظواهر الآيات.

5 ـ لماذا ذهب موسى لرؤية الخضر؟

في حديث عن ابن عباس قال: أخبرني أبي بن كعب قال: خطبنا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: «إِنّ موسى(عليه السلام) قام خطيباً في بني إِسرائيل، فسئل أي الناس أعلم؟ قال: أنا.

فعتب الله عليه إِذ لم يرد العلم إليه. فأوحى إِليه: إِنَّ لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم مِنك.

قال موسى: يا ربّ فكيف لي به؟

قال: تأخذ معك حوتاً...»(1) إِلخ الرّواية حيثُ أرشد تعالى نبيّه موسى للوصول إِلى الرجل العالم.

كما روي ما يشابه هذا الحديث عن الإِمام الصادق(عليه السلام)(2).

إِنَّ مفاد هذه الواقعة هو تحذير لموسى(عليه السلام) حتى لا يعتبر نفسه ـ برغم علمه ومعرفته ـ أفضل الأشخاص.

ولكن هنا يثار هذا السؤال: ألا يجب أن يكون النّبي ـ وهو هنا مِن أولي العزم وصاحب رسالة ـ أعلم أهل زمانه؟

____________________________

1 ـ مجمع البيان، ج 3، ص 481.

2 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 275.

[340]

في معرض الجواب نقول: نعم، ينبغي أن يكون أعلم فيما يتعلق بمهمّته، يعني الأعلم بالنظام التشريعي، وموسى(عليه السلام) كان كذلك. أمّا الرجل العالِم (الخضر) فهو كما قلنا سابقاً، كانت لهُ مهمّة تختلف عن مهمّة موسى(عليه السلام) ولا ترتبط بعالم التشريع. بعبارة أُخرى: إِنَّ الرجل العالم كان يعرف مِن الأسرار ما لا تعتمد عليه دعوة النّبوة.

وفي حديث جاء عن الإِمام الصادق(عليه السلام) قوله(عليه السلام): «كان موسى أعلم مِن الخضر»(1). أي أعلم مِنهُ في علم الشرع.

وهنا نلاحظ أنَّ هذه الشبهة وقضية نسيان موسى(عليه السلام) هما اللتان دفعتا البعض إِلى القول أنَّ موسى المذكور في القصة ليسَ هو موسى بن عمران، بل هو شخص آخر. لكن مع حل هاتين المشكلتين لا يبقى مجال لهذا الكلام.

وفي حديث عن الإِمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) نرى إِشارة صريحة إِلى أن مهمّة ووظيفة كلّ مِن موسى والخضر كانت تختلف عن الآخر، فقد كتب أحدهم إِلى الإِمام الرضا(عليه السلام) يسأله عن العالم الذي أتاه موسى، أيّهما كان أعلم؟ فكان ممّا أجاب به الإِمام قوله(عليه السلام): «أتى موسى العالم فأصابه في جزيرة مِن جزائر البحر إِمّا جالساً وإِمّا مُتكئاً فسلَّم عليه موسى، فأنكر السلام، إِذ كانت الأرض ليسَ بها سلام. قال: مَن أنت؟ قال: أنا موسى بن عمران. قال: أنت موسى بن عمران الذي كلمه الله تكليماً؟ قال: نعم، قال: فما حاجتك؟ قال: جئت لتعلمني ممّا علمت رشداً. قال: إِنّي وكلت بأمر لا تطيقه، وَوُكِلتَ بأمر لا أطيقه»(2).

وَمِن المناسب هُنا أن نختم هذه الفقرة بما رواه صاحب «الدر المنثور» عن «الحاكم» النيسابوري مِن أنَّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «لما لقي موسى الخضر، جاء طير فألقى منقاره في الماء، فقال الخضر لموسى: تدري ما يقول هذا الطائر؟ قال: وما

____________________________

1 ـ تفسير الميزان، ج 13، ص 356.

2 ـ مجمع البيان، ج 6، ص 480. والميزان، ج 13، ص 356.

[341]

يقول؟ قال: يقول: ما علمك وعلم موسى في علم الله إِلاَّ كما أخذ مِنقاري مِن الماء»(1).

6 ـ ماذا كان الكنز؟

مِن الأسئلة التي تُثار حول هذه القصّة، هي عن ماهية الكنز الوارد في الآية، ماذا كان؟ ولماذا كان صاحب موسى يصر على إِخفائه؟ ولماذا قام الرجل المؤمن، يعني أبا الأيتام يتجميع هذا الكنز وإِخفائه؟

يرى بعض المفسّرين أن الكنز يرمز إِلى شيء معنوي، قبل أن يكون لهُ مفهوم مادي.

إِذ أنَّ هذا الكنز ـ طبقاً لروايات عديدة تُنقل مِن طرق السنة والشيعة ـ لم يكن سوى لوح منقوش عليه مجموعة مِن الحكم.

أمّا ما هي هذه الحكم؟ فثمة كلام كثير للمفسّرين في ذلك.

ففي كتاب الكافي نقلا عن الإِمام حيث قال في جوابه على سؤال يتعلق بماهية الكنز: «أمّا إِنَّهُ ما كان ذهباً ولا فضة، وإِنّما كان أربع كلمات: لا إِله إِلاَّ الله، مَن أيقن بالموت لم يضحك، ومَن أيقن بالحساب لم يفرح قلبه، ومَن أيقن بالقدر لم يخش إِلاَّ الله»(2).

وفي روايات أُخرى، ورد أنَّ اللوح كان مِن ذهب. الظاهر أنّه ليس هُناك تعارض بين الاثنين، لأنَّ هدف الرّواية الأُولى أن تبيّن أنَّ الكنز لم يكن دراهم ودنانير.

ولو فرضنا أنّنا التزمنا المعنى الظاهر لكلمة كنز، وفسرناه على أنَّهُ كمية مِن الذهب، فإِنّنا لا نواجه مُشكلة أيضاً، لأنّ الكنز المحرم شرعاً هو أن يقوم الإِنسان

____________________________

1 ـ الدر المنثور ومصادر أُخرى طبقاً لما نقله صاحب الميزان في ج 13، ص 356.

2 ـ نور اليقلين، ج 3، ص 287.

[342]

بتجميع وادخار أموال وثروة كبيرة لمدّة طويلة في حين أن المجتمع بحاجة إِليها، ولكن لو قام أحد الاشخاص بدفن ماله ليوم أو عدّة أيّام (كما هو المتعارف في الازمنة السابقة بسبب عدم الأمن) ثمّ توفي هذا الشخص بسبب حادثة، فلا يوجد أي إشكال في مثل هذا الكنز.

7 ـ دروس هذه القصّة

هناك جملة دروس يمكن أن نستفيدها مِن القصّة، ويمكن لنا أن ندرجها كما يلي:

أ: أهمية العثور على قائد عالِم والإِستفادة مِن علمه، بحيث رأينا أنَّ نبيّاً مِن أُولي العزم مِثل موسى(عليه السلام) يسلك هذا الطريق الطويل، وقد بذل ما بذل لتحقيقة. وهذا درس لجميع الناس مهما كان علمهم وفي أي عمر كانوا.

ب: جوهرة العلم الإِلهي تنبع مِن العبودية لله تعالى، كما قرأنا في الآيات أعلاه في قوله تعالى: (عبداً مِن عبادنا علمناه مِن لدنا علماً).

ج: يجب تعلم العلم للعمل، كما يقول موسى(عليه السلام) لصاحبه (ممّا علمت رشداً)أي علمني عملا يقربني مِن هدفي ومقصدي، فأنا لا أطلب العلم لنفسه، بل للوصول إِلى الهدف.

د: يجب عدم الإِستعجال في الأعمال، إِذ العديد مِن الأُمور تحتاج إِلى الفرص المناسبة (الأُمور مرهونة بأوقاتها) خاصّة في القضايا المهمّة، ولهذا السبب، فإِنَّ الرجل العالم قد ذكر سرّ أعماله لموسى في الفرصة المناسبة.

هـ: الظاهر والباطن مِن المسائل المهمّة الأُخرى التي نتعلمها مِن القصة، إِذ يجب علينا أن لا نصدر أحكاماً سريعة تجاه الحوادث التي تقع في مجرى حياتنا مما قد لا يعجبنا. إِذ ما أكثر الحوادثِ التي نكرهها، ولكن يتّضح بعد مدَّة أنَّ هذه الحوادث لم تكن سوى نوع مِن الألطاف الخفية الإِلهية. والقرآن يصرّح بمضمون

[343]

هذه الحقيقة في قوله تعالى: (عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌلكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون)(1).

إِنَّ المستفاد مِن هذه القضية أن لا يُصاب الإِنسان باليأس عندما تهجم عليه الحوادث، وفي هذا الصدد نقرأ في حديث طريف ينقلهُ عبد الله بن المحدَّث والفقية المعروف زرارة بن أعين، ويقول فيه عبد الله: قالَ لي أبو عبد الله(عليه السلام): «اقرأ مِني على والدك السلام، وقل له: إِنّي إِنّما أعيبك دفاعاً مِنّي عنك، فإِنَّ الناس والعدوّ يُسارعون إِلى كلَّ مَن قرَّبناه وحمدنا مكانه لإِدخال الأذى في مَن نحبه ونقرّبه، ويرمونه لمحبتنا لهُ وقربه ودنوه مِنّا، ويرون إِدخال الأذى عليه وقتله ويحمدون كل مَن عبناه نحن، فإِنّما أعيبك لأنّك رجلٌ اشتهرت مِنّا، وبميلك إِلينا، وأنت في ذلك مذموم عندَ الناس غير محمود الأثر بمودّتك لنا ولميلك إِلينا، فأحببت أن أعيبك ليحمدوا أمرك في الدين بعيبك ونقصك، ويكون بذلك مِنّا دافع شرَّهم عنك. يقول الله عزَّ وجلّ: (أمّا السفينة لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً) هذا التنزيل مِن عند الله، صالحة، لا والله ما عابها إِلا لكي تسلم مِن الملك، ولا تعطب على يديه، ولقد كانت صالحة ليسَ للعيب فيها مساغ والحمد لله، فافهم المثل يرحمك الله، فإِنّك والله أحبّ الناس إِليّ، وأحبّ أصحاب أبي حياً وميتاً. فإنّك أفضل سفن ذلك البحر القمقام الزاخر، وإِن مِن ورائك ملكاً ظلوماً غصوباً يرقب عبور كل سفينة صالحة ترد بحر الهدى ليأخذها غصباً، ثمّ يغصبها وأهلها ورحمة الله عليك حياً ورحمته ورضوانه عليك ميتاً»(2).

و: مِن دروس القصة الإِعتراف بالحقائق واتخاذ المواقف المطابقة لها، فعندما تخلف موسى ثلاث مرّات عن الوفاء بالتزامه لصاحبه العالِم، عرف أنَّهُ

____________________________

1 ـ البقرة، 216.

2 ـ معجم رجال الحديث، ج 7، ص 226.

[344]

 لا يستطيع الإِستمرار معهُ في الصحبة، وبالرغم مِن أنَّ فراق هذا الأستاذ كان أمراً صعباً على موسى(عليه السلام)، إِلاَّ أنَّهُ(عليه السلام) لم يُكابر وأنصف العالم بإِعطائه الحق، وفارقة عن اِخلاص بعد أن حصل على حقائق عظمية وكنوز معنوية كبيرة مِن هذه الصحبة القصيرة.

يجب على الإِنسان أن لا يستمر إِلى آخر عمره في اختبار نفسه، بحيث تتحوَّل حياته إِلى مُختبر للأمور المستقبلية التي قد لا تحصل أبداً، اذ عليه عندما يختبر موضوعاً ما عدَّة مرّات، أن يلتزم العمل بنتائج الإِختبار وأن يقتنع به.

ز: تأثير إِيمان الآباء على الأبناء

لقد تحمّل الخضر مسؤولية حماية الأبناء في المقدار الذي كانَ يستطيعه، وذلك بسبب الأب الصالح المُلتزم. بمعنى أنَّ الابن يستطيع أن يسعد في ظل الإِيمان وأمانة والتزام الأب، وإِنَّ نتيجة العمل الصالح الذي يلتزمه الأب تعود على الابن أيضاً.

وفي بعض الرّوايات نقرأ أنَّ ذلك الرجل الصالح لم يكن الأب المباشر لليتامى، بل هو مِن أجدادهم البعيدين جداً. (وهكذا يكون للعمل الصالح تأثيره)(1). وإِنَّ مِن علائم صلاح هذا الأب هو ما تركهُ مِن الكنوز المعنوية، ومِن الحِكَمْ لأبنائه.

ح: قصر العمر بسبب إيذاء الوالدين

عندما يطال الموت الابن بسبب ما يلحقه مِن أذى بوالديه في مستقبل حياته، وبسبب ما يرهقهما به مِن أذىً وطغيان وكفر، قد يحرفهم بهِ عن الطريق الإِلهي، كما رأينا ذلك في القصّة التي بين أيدينا، فإِنَّ الرّوايات الإِسلامية تربط

____________________________

1 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 289.

[345]

بين قصر العمر وترك صلة الرحم (وبالأخص أذية الوالدين وعقوقهما) وقد أشرنا إِلى بعضها في نهاية الحديث عن الآية (23) مِن سورة الإِسراء.

وينبغي هنا أن نستوعب الدرس على صعيد هذا الجانب مِن القصة، إِذا كانَ الولد يُقتل لما يلحقه بأبويه مِن ضرر وأذى في مستقبل حياته، تُرى فما حال الذي يمارس الأذى فعلا بحق والديه ويرهقهما بالعقوق؟

ط: الناس أعداء ما جهلوا

قد يحدث أن يقوم شخص بالإِحسان إِلينا، إِلاَّ أنّنا نتصوره عدوّاً لنا، لأنّنا  لا نعرف بواطن الأُمور، ونتسرع ونفقد الصبر، خصوصاً إِزاء الأحداث والأُمور التي نجهلها ولا نحيط بأسبابها علماً. مِن الطبيعي أن يفقد الإِنسان صبره إزاء ما لا يحيط به علماً مِن الأحداث والقضايا، إِلاَّ أنَّ الدرس المستفاد مِن القصّة هو أن  لا نتسرع في إصدار الأحكام على مثل هذه القضايا حتى تكتمل لدينا الرؤية التي نحيط مِن خلالها بجوانب وزوايا الموضوع المختلفة.

ففي حديث عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، نقرأ قوله(عليه السلام): «الناس أعداء ما جهلوا»(1)، لذا فإنّه كُلّما يرتفع الوعي لدى الإِنسان فإنَّ تعامله يكون أكثر منطقية، وبعبارة أُخرى إِنَّ أساس الصبر هو الوعي.

وكان لانزعاج موسى(عليه السلام) ـ بالطبع ـ ما يبرره، إِذ كانَ يرى تجاوزاً عن حدود الشرع في الأحداث التي وقعت على يد صاحبه بحيث تعرض القسم الاعظم للشريعة الى الخطر، ففي الحادثة الأُولى تعرضت مصونية أموال الناس إِلى الخطر; وفي الثّانية تعرضت أرواحهم إِلى خطر، أمّا في الثّالثة، فكان اعتراضه ينصب على ضرورة التعامل المنطقي معَ حقوق الناس، لذلك فقد اعترض ونسي

____________________________

1 ـ نهج البلاغة ـ الحكمة رقم 438.

[346]

عهده الذي قطعه لصاحبه العالم، ولكن ما إن اطلّعَ على بواطن الأُمور هدأ وكفَّ عن الإِعتراض. وهذا الأمر يدل على أنَّ عدم الإِطلاع هو أمرٌ مقلق بحدَّ ذاته.

ى: أدب التلميذ والأستاذ

ثمّة ملاحظات لطيفة حول أُدب التلميذ والأستاذ ظهرت في مقاطع الحديث بين موسى(عليه السلام) والرجل الرّباني العالم، فمن ذلك مثلا:

1 ـ اعتبار موسى(عليه السلام) لنفسه تابعاً للخضر قوله: (أتبعك).

2 ـ لقد أعلن موسى(عليه السلام) هذا الإِتباع على شكل استئذان فقال: (هل أتبعك).

3 ـ اقراره(عليه السلام) بعلم أستاذه وبحاجته للتعلّم فقال: (على أن تعلمن).

4 ـ وللتواضع فقد اعتبر علم أستاذه كثيراً، وهو يطلب جانباً مِن هذا العلم، فقال: (ممّا).

5 ـ يصف علم أستاذه بأنَّهُ علم إِلهي فيقول: (علمت).

6 ـ يطلب مِن أستاذه الهداية والرشاد فقال(عليه السلام): (رشداً).

7 ـ يقول لأستاذه بشكل لطيف خفي، بأنَّ الله قد تلطَّف عليك وعلَّمك، فتلطَّف أنت عليَّ، وحيث قال(عليه السلام): (تعلمن ممّا علمت).

8 ـ إِنَّ جملة (هل أتبعك) تكشف حقيقة أن يكون التلميذ في طلب الأستاذ، وفي أتباعه، إذ ليسَ مِن وظيفة الأستاذ اتباع تلميذه إِلاَّ في حالات وموارد خاصّة.

9 ـ برغم ما كان يتمتع موسى(عليه السلام) بمنصب كبير (حيث كان نبيّاً مِن أولي العزم وصاحب رسالة وكتاب) إِلاَّ أنَّهُ تواضع، وهذا يعني أنّك ومهما كنتُ وفي أي مقام أصبحت، يجب عليك أن تتواضع في مقام طلب العلم والمعرفة.

10 ـ إِنَّ موسى(عليه السلام) لم يذكر عبارة جازمة في معرض تعهده لأستاذه، بل قال: (ستجدني إِن شاء الله صابراً) وهذه الصيغة في التعبير مملوءة أدباً إِزاء

[347]

 الخالق جلَّ وعلا، واتجاه الأستاذ أيضاً، حتى إِذا تخلّف عنها لا يكون ثمّة نوع مِن هتك الحرمة إِزاء الأستاذ.

وضروري أن نذكر في خاتمة هذا الحديث أنَّ العالِم الرباني قد استخدم إِزاء موسى(عليه السلام) مُنتهى الحُلم في مقام التعليم والتربية، فعندما كان موسى(عليه السلام) ينسى تعهده وتثور ثائرته ويعترض عليه، يجيبه الأستاذ بهدوء وبرود، ولكن على شكل استفهام: (ألم أقل لك إنّك لن تستطيع معي صبراً).

* * *


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=791
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29