• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء التاسع) ، تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي .
                    • الموضوع : سورة الكهف من آية 25 ـ 46 من ( ص 234 ـ 285 ) .

سورة الكهف من آية 25 ـ 46 من ( ص 234 ـ 285 )

[234]

الآيات

وَلَبِثُوا فِى كَهْفِهِمْ ثَلـثَ مِاْئَة سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعاً(25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمـوتِ وَالأَْرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِّنْ دُونِهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ يُشْرِكُ حُكْمِهِ فِى أَحَداً(26) وَاتْلُ مَآ أَوحِىَ إِلَيكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَمُبَدِّلَ لِكَلِمـتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً(27)

التّفسير

نوم أصحاب الكهف:

مِن القرائن الموجودة في الآيات السابقة نفهم إِجمالا أنَّ نوم أصحاب الكهف كان طويلا جدّاً. هذا الموضوع يُثير غريزة الاستطلاع عند كل مستمع، إِذ يريد أن يعرف كم سنة بالضبط استمرَّ نومهم؟

في المقطع الأخير مِن مجموعة الآيات التي تتحدث عن أصحاب الكهف، تُبعد الآيات الشك عن المستمع وتقول له: (ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين

[235]

وازدادوا تسعاً)(1).

ووفقاً للآية فإِنَّ مجموع نومهم وبقائهم في الكهف هو (309) سنة. والبعض يرى أن ذكر ثلاثمائة وتسعة مفصولة بدلا عن ذكرها في جملة واحدة، يعود إِلى الفرق بين السنين الشمسية والسنين القمرية حيثُ أنّهم ناموا (300) سنة شمسية، وبالقمري تعادل (309). وهذا مِن لطائف التعبير حيث أوجز القرآن بعبارة واحدة صغيرة، حقيقة كبيرة تحتاج إِلى شرح واسع(2).

ومِن أجل وضع حد لأقاويل الناس حول مكثهم في الكهف تؤكّد الآية: (قل الله أعلم بما لبثوا) لماذا؟ لأن: (لهُ غيب السماوات والأرض).

والذي يعرف خفايا وظواهر عالم الوجود ويُحيط بها جميعاً، كيف لا يعرف مدّة بقاء أصحاب الكهف: (أبصر به وأسمع)(3) ولهذا السبب فإِنَّ سكان السماوات والأرض: (ما لهم مِن دونه مِن ولي).

أمّا مَن هو المقصود بالضمير (هم) في (مالهم) فقد ذكر المفسّرون أقوالا كثيرة، إِذا يعتقد البعض أنّها اشارة إلى سكان السماوات والأرض، أمّا البعض الآخر فيعتقد أن الضمير إِشارة إِلى أصحاب الكهف، بمعنى أنَّ أصحاب الكهف  لا يملكون ولياً مِن دون الله، فهو الذي تولاهم في حادثة الكهف، وقام بحمايتهم.

ولكن بالنظر إلى الجملة التي قبلها، يكون التّفسير الأوّل أقرب.

وفي نهاية الآية يأتي قوله تعالى: (ولا يُشرك في حكمه أحداً). هذا الكلام هو في الحقيقة تأكيد على الولاية المطلقة للخالق جلَّوعلا، إِذ ليسَ هُناك قدرة

____________________________

1 ـ طبقاً للقواعد النحوية يجب أن تأتي كلمة (سنة) والتي هي مفرد بدلا من (سنين) التي هي جمع، ولكن بما أن النوم كان طويلا للغاية، وعدد السنوات كثيراً، لذا ذكرت الكلمة بصيغة الجمع حتى توضَّح الموضوع وتبيّن كثرته.

2 ـ الفرق بين السنة الشمسية والقمرية هو (11) يوم تقريباً، فإِذا ضربنا ذلك (300) وقسمنا الناتج على عدد أيّام السنة القمرية أي على (354) يكون العدد (9) طبعاً يبقى باق قليل، أهمل لأنّه لا يصل إِلى السنة الكاملة.

3 ـ جملة (أبصر به واسمع) هي صيغة تعجُّب، تُبيِّن لنا عظمة علم الخالق جلَّوعلا، والمعنى أنَّهُ بصير سميع بحيث أنَّ الإِنسان يعجب من ذلك.

[236]

أُخرى لها حق الولاية المطلقة على العالمين، ولا يوجد شريك له تعالى في ولايته، يعني ليس ثمّة قدرة أُخرى غير الله لها حق الولاية في العالم،  لا بالإِستقلال ولا بالإِشتراك.

وفي آخر آية يتوجَّه الخطاب إِلى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ويقول الله له: (واتل ما أوحي إِليك مِن كتاب ربّك). أي لا تُعِر أية أهمية إِلى أقوال الآخرين المخلوطة بالكذب والخرافة والوضع، يجب أن يكون اعتمادك في هذه الأُمور على الوحي الإِلهي فقط. لأنَّهُ لا يوجد شيء يستطيع أن يُغيِّر كلامه تعالى: (لا مبدَّل لكلماته). فكلام الله تعالى وعلمه ليس مِن سنخ علم الإِنسان الذي يخضع يومياً للتغيُّر والتبديل بسبب الإِكتشافات الجديدة والمعرفة الحديثة. لذلك لا يمكن الإِعتماد عليها والركون إِليها مائة في المائة، ولهذه الأسباب: (ولن تجد مِن دونه ملتحداً).

«ملتحد» مُشتقّة مِن «لحد» على وزن «مهد» وهي الحفرة التي يميل وسطها إلى أحد الأطراف (كاللّحد الذي يحفر لقبر الإِنسان).

ولهذا السبب يقال للمكان الذي يميل إِليه الإِنسان (ملتحد)، ثمّ استخدمت بعد ذلك بمعنى «ملجأ».

ومِن المهم أن نلاحظ أنَّ الآيتين الأخيرتين بينتا إِحاطة علم  الخالق جلَّوعلا بجميع كائنات الوجود، وذلك مِن خلال عِدَّة طرق.

* في البداية تبيّن الآيات: أنَّ غيب السماوات والأرض مِن عنده، ولهذا فهو تعالى محيط بها جميعاً.

* ثمّ تضيف: إِنَّهُ سميع وبصير لأقصى حد ولأبلغ غاية.

* مرّة أُخرى تقول: إِنَّهُ الولي المطلق، وإِنَّهُ أعلم الجميع.

* ثمّ تضيف مرّة أُخرى: لا يُشاركه أحد في حكمه حتى يتحدَّد علمه أو معرفته.

[237]

* ثمّ تقول: لا يتغيَّر ولا يتبدّل علمه وكلامه.

* وفي آخر جملة تقول الآية: أنّه تعالى هو الملجأ الوحيد في الوجود  لا سواه نعلمه محيط بكُلِّ اللاجئين إليه سبحانهُ وتعالى.

* * *

بحوث

1 ـ قصّة أصحاب الكهف في الرّوايات الإِسلامية

هُناك روايات كثيرة في المصادر الإِسلامية حول أهل الكهف، ولكن بعضها لا يُعتمد عليها لضعف في سندها، والبعض الآخر تتضاد وتختلف فيما بينها.

ومِن الرّوايات المختلفة اخترنا رواية علي بن إِبراهيم القمي التي ينقلها في تفسيره، وقد لاحظنا في هذه الرّواية أنّها الأفضل مِن حيث المتن والمضمون الذي يتناسق مع الآيات القرآنية.

في رواية علي بن إِبراهيم عن الإِمام الصادق(عليه السلام) قال: «إِنَّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا في زمن ملك جبّار عات، وكانَ يدعو أهل مملكته إلى عبادة الأصنام فمن لم يجبه قتله، وكانوا هؤلاء قوماً مؤمنين يعبدون الله عزَّ وجلّ، ووكل الملك بباب المدينة وكلاء ولم يدع أحداً يخرج حتى يسجد للأصنام، فخرج هؤلاء بعلة الصيد، وذلك أنّهم مرّوا براع في طريقهم فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم وكان مع الراعي كلب، فأجابهم الكلب وخرج معهم، فقال الصادق(عليه السلام): لا يدخل الجنة مِن البهائم إِلا ثلاثة حمار بلعم بن باعور، وذئب يوسف(عليه السلام) وكلب أصحاب الكهف.

فخرج أصحاب الكهف مِن المدينة بعلّة الصيد هرباً مِن دين ذلك الملك، فلمّا أمسوا دخلوا إِلى ذلك الكهف، والكلب معهم فألقى الله عزَّوجلّ عليهم النعاس، كما قال الله تبارك وتعالى: (فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً) فناموا حتى أهلك الله عزَّوجلّ الملك وأهل مملكته وذهب ذلك الزمان، وجاء زمان آخر وقوم

[238]

آخرون ثمّ انتبهوا، فقال بعضهم لبعض: كما نمنا ها هنا فنظروا إِلى الشمس قد ارتفعت فقالوا: نمنا يوماً أو بعض يوم. ثمّ قالوا لواحد مِنهم: خذ هذه الورق وادخل في المدينة مُتنكراً لا يعرفوك فاشتر لنا، فإِنّهم إن علموا بنا وعرفونا قتلونا أو ردّونا في دينهم، فجاء ذلك الرجل فرأى المدينة بخلاف الذي عهدها، ورأى قوماً بخلاف أُولئك لم يعرفهم ولم يعرفوا لغته، ولم يعرف لغتهم، فقالوا له: مِن أنت ومِن أين جئت، فأخبرهم فخرج ملك تلك المدينة مع أصحابه، والرجل معهم حتى وقفوا على باب الكهف، فأقبلوا يتطلعون فيه فقال بعضهم: هؤلاء ثلاثة ورابعهم كلبهم، وقال بعضهم: هم خمسة وسادسهم كلبهم، وقال بعضهم: هُم خمسة وسادسهم كلبهم، وقال بعضهم: هُم سبعة وثامنهم كلبهم، وحجبهم الله عزَّوجلّ بحجاب مِن الرعب فلم يكن أحد يقدم بالدخول عليهم غير صاحبهم فإِنَّهُ لمّا دخل عليهم وجدهم خائفين أن يكون أصحاب [الملك ]«دقيانوس» شعروا بهم، فأخبرهم صاحبهم أنّهم كانوا نائمين هذا الزمن الطويل، وأنّهم آية للناس، فبكوا وسألوا الله تعالى أن يعيدهم إِلى مضاجعهم نائمين كما كانوا، ثمّ قالَ الملك: «ينبغي أن يُبنى هُنا مسجد ونزوره، فإِنَّ هؤلاء قوم مؤمنون».

وهنا أضاف الإِمام(عليه السلام): فلهم في كل سنة نقلة، نقلتان، ينامون ستة أشهر على جنبهم الأيمن، وستة أشهر على جنبهم الأيسر، والكلب معهم قد بسط ذراعيه بفناء الكهف»(1).

وفي رواية أُخرى عن الإِمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) ورد حديث مُفصَّل عن قصّة أصحاب الكهف مفاده ما يلي:

لقد كان هؤلاء في الأصل ستة نفر اتّخذهم (ديقيانوس) وزراءه، فأقام ثلاثة عن يمينه وثلاثة عن يساره، واتّخذ لهم عيداً في كل سنة مَرَّة، فبينا هُم ذات يوم في عيد والبطارقة عن يمينه والهراقلة عن يساره، إِذ أتاه بطريق فأخبرهُ أنَّ

____________________________

1 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 247 ـ 248.

[239]

عساكر الفرس قد غشيته، فاغتمَّ لذلك حتى سقط التاج عن رأسه، فنظر إِليه أحد الثلاثة الذين كانوا عن يمينه ويقال لهُ (تلميخا) فقالَ في نفسه: لو كان (ديقيانوس) إِلهاً كما يزعم إِذاً ما كانَ يغتم وما كان يبول ولا يتغوَّط، وما كان ينام، وليس هذا مِن فعل الإله.

وقد كانَ هؤلاء الوزراء الستة يجتمعون كل يوم عندَ أحدهم، وكانوا ذلك اليوم عندَ (تلميخا) فاتّخذ لهم مِن طيِّب الطعام ثمّ قال لهم: يا إِخوتاه، قد وقع في قلبي شيء منعني الطعام والشراب والمنام. قالوا: وما ذاك يا تلميخا؟ قال: أطلت فكري في هذه السماء فقلت مَن رفع سقفها محفوظة بلا عمد ولا عُلاقة مِن فوقها، ومَن أجرى فيها شمساً وقمراً، آيتين مُبصرتين، ومن زيّنها بالنجوم! ثمّ أطلت الفكر في الأرض فقلت: مَن سطحها على صميم الماء الزخّار، ومَن حبسها بالجبال أن تميد على كل شيء؟ وأطلت فكري في نفسي من أخرجني جنيناً مِن بطن أُمي ومَن غذَّاني ومَن ربّاني؟ إِنَّ لها صانعاً ومدبراً غير (ديقيانوس الملك)، وما هو إِلاَّ ملك الملوك وجبّار السماوات.

فانكب الفتية (الوزراء) على رجليه يُقبلونها وقالوا: بك هدانا الله تعالى مِن الضلالة إِلى الهدى فأشر علينا. وهنا وثب (تمليخا) فباعَ تمراً مِن حائط له بثلاثة آلاف درهم وصرَّها في ردائه وركبوا خيولهم وخرجوا مِن المدينة، فلما ساروا ثلاثة أميال قالَ لهم تمليخا: يا إِخوتاه جاءت مسكنة الآخرة وذهب ملك الدنيا، انزلوا عن خيولكم وامشوا على أرجلكم لعلَّ الله أن يجعل لكم مِن أمركم فرجاً ومخرجاً، فنزلوا عن خيولهم ومشوا على أرجلهم سبعة فراسخ في ذلك اليوم، فجعلت أرجلهم تقطر دماً.

وهنا استقبلهم راع، فقالوا: يا أيّها الراعي هل مِن شربة لبن أو ماء؟ فقال الراعي: عندي ما تحبّون، ولكن أرى وجوهكم وجوه الملوك، وما أظنُّكم إِلاَّ هُرَّاباً مِن «ديقيانوس» الملك.

[240]

قالوا: يا أيّها الراعي لا يحلّ لنا الكذب أفينجينا منك الصدق؟ فأخبروه بقصّتهم، فانكب الراعي على أرجلهم يقبلها ويقول: يا قوم لقد وقع في قلبي ما وقعَ في قلوبكم، ولكن أمهلوني حتى أردّ الأغنام على أربابها وألحق بكم، فتوقفوا له، فردَّ الأغنام، وأقبل يسعى يتبعهُ الكلب ... فنظر الفتية (الوزراء) إلى الكب وقال بعضهم: إِنّا نخاف أن يفضحنا بنباحه، فألحّوا عليه بالحجارة، فأنطق الله تعالى جلَّ ذكره، الكلب [قائلا]: ذروني حتى أحرسكم مِن عدوّكم.

فلم يزل الراعي يسير بهم حتى علا بهم جبلا، فانحطَّ بهم على كهف يُقال لهُ (الوصيد) فإِذا بفناءالكهف عيون أشجار مثمرة فأكلوا مِن الثمر، وشربوا مِن الماء، وجنَّهُم الليل، فآووا إلى الكهف وربض الكلب على باب الكهف ومدَّ يديه عليه، فأوحى الله تعالى إلى ملك الموت بقبض أرواحهم. (فأنامهم الله نوماً طويلا وعميقاً)(1).

وفيما يخص ديقيانوس قال بعض المفسّرين: إِنَّهُ كان امبراطور الروم وحكم مُنذ عام 249 ـ 251 ميلادي، وقد كانَ عدواً شديداً للمسيحيين، وكانَ يؤذيهم ويعذبهم، وذلك قبل اعتناق ملك الروم لدين المسيحية.

2 ـ أين كانَ الكهف؟

للمفسّرين والعلماء كلام كثير حول أصحاب الكهف، أين كانتَ مَنطقتهم؟ وأين يقع الكهف الذي مكثوا فيه؟

وهنا ينبغي أن نلاحظ أنَّهُ بالرغم مِن أنَّ العثور على المكان الدقيق لهذه الحادثة لا يؤثِّر كثيراً على أصل القصّة ودروسها التربوية وأهميتها التأريخية، وبالرغم مِن أنَّ هذه القصّة ليست الوحيدة التي نعرف أصلها ولا نعرف بعض جزئياتها وتفصيلاتها، إِلاَّ أنَّ معرفة محل الحادث يُساعدنا حتماً في فهم أكثر

____________________________

1 ـ سفينة البحار، ج 2، ص 382 مادة فكر.

[241]

لخصوصيات هذه القصّة.

على أيةِ حال هُناك قولان راجحان مِن بين الإِحتمالات الكثيرة المطروحة عن مكان الكهف، يمكن أن نجملهما بما يلي:

أوّلا: إِنَّ هذه الحادثة وقعت في مدينة (أفسوس) وهذا الكهف كان يقع بالقرب مِنها.

ويمكن في الوقت الحاضر مُشاهدة خرائب هذه المدينة بالقرب مِن مدينة (أزمير) التركية، وبالقرب مِن قرية (أياصولوك) في جبال (ينايرداغ) حيثُ يوجد كهف لا يبتعد كثيراً عن (أفسوس).

إِنَّ هذا الكهف هو غار وسيع، ويقال بأنَّهُ يمكن في داخله مشاهدة آثار مئات القبور، ويعتقد الكثيرون بأنَّ هذا الغار هو غار أصحاب الكهف.

وقد نقل من شاهد الكهف أنَّ فتحة الغار باتجاه الشمال الشرقي، وقد كان هذا الموقع سبباً في ترجيح شك بعض المفسّرين الكبار بِكونَ هذا المكان هو غير غار أصحاب الكهف، في حين أنَّ هذا الوضع يؤيد صحة الموضوع ويرجح كون الغار هو الكهف المقصود لأنَّ دلالة أن تكون الشمس عند الشروق على يمين الغار، وعند الغروب على يساره، هو أن تكون فتحة الغار باتجاه الشمال أو تميل قليلا نحو الشمال الشرقي.

بالطبع لا يقلِّل مِن صحة الموضوع عدم وجود مسجد أو معبد إِلى جانبه، حيثُ يمكن أن تكون آثاره قد اندثرت بعد مرور حوالي (17) قرن على الحادث.

ثانياً: يقع الغار بالقرب مِن (عمّان) عاصمة الأردن، وبالقرب مِن قرية تسمّى «رجيب».

ويمكن مشاهدة آثار صومعة فوق الغار تعود ـ وُفقاً لبعض القرائن ـ إِلى القرن الخامس الميلادي، حيث تحوَّلت إلى مسجد ذي محراب ومئذنة بعد

[242]

سيطرة المسلمين على ذلك المكان.

3 ـ الجوانب التربوية لقصّة أهل الكهف

هذه القصّة التأريخية العجبية التي يذكرها القرآن خالية مِن أي خرافة أو وضع، وفيها العديد مِن الدروس التربوية البنّاءة، تماماً كما في قصص القرآن الأُخرى، وإِذا كُنّا قد أشرنا إلى هذه الدروس ضمن تفسير الآيات، فإِنّنا نرى مِن الضروري الآن أن نشير إِليها بشكل مجمل حتى نقترب أكثر مِن الهدف الأساس للقرآن، وفيما يلي أبرز هذه الدروس:

أ: إِنَّ أول دروس هذه القصّة هو تحطيم حاجز التقليد، والإِبتعاد عن التلوّن بلون المجتمع الفاسد. فهؤلاء الفتية حافظوا ـ كما لاحظنا ـ على استقلالهم الفكري في قبال الأكثرية المنحرفة المحيطة بهم، وهذا الأمر أصبح سبباً في نجاتهم وتحرُّرهم.

وينبغي للإِنسان أن يكون له تأثير بناء على مجتمعه لا أن يكون مسايراً له.

ب: الهجرة مِن الأوساط المنحرفة درس آخر في هذه القصّة ذات العبر، فهم قد تركوا بيوتهم وحياتهم المرفَّهة المليئة بألوان النعم المادية، وتركوا مَناصبهم، ورضوا بأنواع الصعوبات وأشكال الحرمان ـ في الغار الذي كان يفتقد كل شيء ـ لكي يحفضوا إِيمانهم، ولا يكونوا من عوامل وأعوان جهاز الظلم والجور والكفر والشرك(1).

ج: التقية بمعناها البنّاء درس آخر نستفيده مِن هذه القصّة، لقد كانوا يصرون على عدم اطّلاع أهل المدينة على حالهم وخبرهم، واحتاطوا ليبقى أمرهم وحالهم مخفياً، حتى لا يخسروا أنفسهم بدون سبب، وكي يتجنبوا أن يُجبروا

____________________________

1 ـ مِن أجل المزيد مِن التفاصيل حول مسألة الهجرة وفلسفتها في الإِسلام يمكن مُراجعة ما جاء في تفسير الآية (100) مِن سورة النساء مِن تفسيرنا هذا.

[243]

على الرجوع إِلى المحيط المنحرف الذي تخلّصوا منهُ.

ونحنُ نعرف أنَّ التقية لسيت سوى أن يتكتم الإِنسان على حقيقة أمره في الأماكن والمواقف التي لا يرتجي منها فائدة في ذكر الحقيقة، بل تكون سبباً للضرر. والتقية وقاية للنفس واحتفاظ بقوّة الإِنسان لوقت جهاد العدو حيث  لا تقية(1).

د: عدم وجود تفاوت بين الناس وهم في طريق الله، فالوزير كانَ إِلى جانب الراعي، بل كان الاثنان إلى جانب الكلب كان يقوم بالحراسة. وهذا درس آخر يتّضح مِن خلاله أنَّ إِمتيازات الدنيا المادية، والمناصب المُختلفة ليسَ لها أدنى نصيب أو تأثير على تصنيف الناس مِن أهل الحق وسالكية، إِذ الكل فيه سواء .. إِنَّ طريق الحق هو طريق التوحيد، وطريق التوحيد هو طرق وحدة جميع الناس.

هـ : الإِمدادات الإِلهية العجيبة عند ظهور المشاكل، هي نتيجة أُخرى يجب الاعتبار بها، فقد رأينا كيف قامَ الخالق جلَّوعلا بإنامة أصحاب الكهف كل تلك المدّة الطويلة، مِن أجل إِنقاذهم مِن تلك الظروف الإِجتماعية الصعبة التي كانت تحيط بهم.

وقد أيقضهم جلَّ وعلا في الوقت المناسب، أي في الوقت الذي أصبحوا رمزاً مِن رموز التوحيد، وقد رأينا ـ كشكل مِن أشكال العناية ـ كيف أنَّ الله تعالى حفظ أجسادهم خلال هذه المدَّة مِن تأثيرات الأحداث والعوامل المختلفة، وجعل مِن الرعب والخوف أُسلوباً للحفاظ عليهم في قبال أعدئهم.

و: لقد تعلَّمنا مِن أصحاب الكهف قيمة (طهارة الطعام) حتى في أصعب الظروف وأدقّها، لأنَّ طعام الإِنسان لهُ آثار عميقة في روحه وفكره وقلبه، وعندما يختلط الطعام بالحرام والنجاسة، يبتعد الإِنسان عن طريق الله; طريق

____________________________

1 ـ حول كون التقية أُسلوباً للدفاع والوقاية، يُمكن مُراجعة ما ذكرناه لدى تفسير الآية (62) من سورة يونس من تفسيرنا هذا، وكذلك ملاحظة الملاكات الفقهية لهذه المسألة في كتابنا «القواعد الفقهية».

[244]

التقوى.

ز: ضرورة الاعتماد على مشيئة الله وطلب العون مِن لطفه تعالى: وقول (إن شاء الله) في كل ما يتعلق بأُمور المستقبل .. درس آخر نتعلمه مِن قصّة أصحاب الكهف.

ح: لقد رأينا أنَّ القرآن سمّاهم: بـ (الفتية) في حين أنّهم ـ طبقاً للرّوايات ـ لم يكونوا شباباً مِن حيث العمر، وإِذا عرفنا أنّهم كانوا في البداية وزراء الملك الجبار، يتأكد لنا أنّهم لم يكونوا صغاراً مِن حيث العمر. ولكن تسمية القرآن لهم  بـ (الفتية) للدلالة على صفات الشهامة والرشد والطُهر والفتوة العفو والتسامح.

ط: ضرورة النقاش المنطقي مع المعارضين درسٌ آخر نستفيده مِن قصّة أصحاب الكهف، حيثُ إِنّهم عندما أرادوا دحض الشرك الذي عليه مجتمعهم، ذكروا أدلة مَنطقية قرأنا نماذج لها في الآيات (15 ـ 16) مِن هذه السورة.

إِنَّ أساس عمل جميع الأنبياء والقادة الإِلهيين مع أعدائهم ومعارضين يستند ـ في العادة ـ إِلى قاعدة الحوار المنطقي والنقاش الحر. أمّا استخدام القوة لأجل القضاء على الفتنة فهو أمرٌ يُلجأ إليه عندما تفشل الحجة في أداء وظيفتها، أو عندما يقوم الخصم بعرقلة النقاش المنطقي.

ي: وأخيراً، فإِنَّ إمكانية المعاد الجسماني وعودة الناس إلى الحياة مرّة أُخرى عند البعث، يُعتبر عاشر وآخر درس نستفيدهُ مِن هذه القصّة، وسنقرأ عنهُ تفصيلا في بحوث قادمة إِن شاء الله تعالى.

إِنّنا لا نستطيع القول بأنَّ الدروس التربوية في قصّة أصحاب الكهف تقتصر على ما ذكرناه، ولكنّا نعتقد أنَّهُ حتى لو كان هُناك درس واحد نستفيده مِن هذه القصة لكفانا ذلك، فكيف بِنا وأمامنا هذه الدروس الكثيرة؟!

على أيةِ حال، إِنَّ هدف القرآن ليس قص القصص لغرض التسلية، بل بناء الناس المقاومين المؤمنين الشجعان الواعين، وأحد الطرق لذلك هو ذكر نماذج أصيلة مما حدث طوال التأريخ البشري المليء بالحوادث والمواقف.

[245]

4 ـ هل أنَّ قصّة أصحاب الكهف علمية؟

مِن المسلَّم به أنَّ قصّة أصحاب الكهف لم تكن مذكورة في أي مِن الكتب السماوية السابقة (سواء الكتب الأصلية أو المحرّفة الموجودة الآن) ويجب أن  لا تذكر، لأنَّ الحادثة ـ طبقاً للتأريخ العام ـ كانت قد وقعت في القرون التي تلت ظهور المسيح عيسى(عليه السلام).

إِنَّ حادثة أصحاب الكهف وقعت في زمان «دكيوس» (التي تُعرَّب بديقيانوس) حيثُ تعرّض المسيحيون في عصره إِلى تعذيب شديد.

ويقول المؤرخون الأوربيون: إِنَّ هذه الحادثة وقعت في الفترة مِن 49 ـ 251 ميلادي، وبذلك يَرى هؤلاء المؤرخون أنَّ مدّة نوم أصحاب الكهف لم تستغرق سوى (157) سنة، ويطلقون عليهم لقب (النائمون السبعة لأفسوس) في حين أنّهم يُعرفون بيننا بأصحابِ الكهف(1).

والآن لنتعرف أين تقع (أفسوس) هذه؟ وَمَن أوّل عالم كتب كتاباً عن قصّة هؤلاء السبعة النائمين؟ وفي أي قرن حصلَ ذلك؟

(أفسوس) أو (أفسس) بضم الألف والسين، هي واحدة مِن مدن آسيا الصغرى (تركيا الحالية التي هي جزء مِن مملكة الروم الشرقية القديمة) وتقع بالقرب مِن نهر (كاستر) وعلى بعد (40) ميلا تقريباً جنوب شرقي (أزمير) حيثُ كانت عاصمة الملك (الونى).

وقد اشتهرت (أفسوس) بسبب معبدها الوثني المعروف بـ «أرطاميس» الذي يُعتبر أحد عجائب الدنيا السبع(2).

ويقولون: إِنَّ قصة أصحاب الكهف شُرحت لأول مرّة في رسالة باللغة السريانية كتبها عالم مسيحي يسمى (جاك) الذي كان رئيساً للكنيسة السورية،

____________________________

1 ـ اعلام القرآن، ص 153.

2 ـ الكلام مُقتبس مِن كتاب «قاموس الكتاب المقدّس»، ص 87.

[246]

وذلك في القرن الخامس الميلادي، ثمّ شخص آخر يسمّى «جوجويوس» بترجمة تلك الرسالة إلى اللاتينية وسمّها بـ «جلال الشهداء»(1). وهذا الامر يُبيِّن أنَّ الحادثة كانت معروفة بين المسيحيين قبل قرن أو قرنين مِن ظهور الإِسلام، وكانت الكنائس تهتم بها.

بالطبع بعض أحداث هذه القصّة ـ مثل مدّة نوم أصحاب الكهف ـ تختلف عمّا ورد في المصادر الإِسلامية، فالقرآن يقول ـ وبصراحة ـ بأنَّ نومهم كان (309) سنة.

مِن جانب ثان وطبقاً لما ينقلهُ ياقوت الحموي في معجم البلدان (المجلد الثّاني ص 806) وطبقاً لما ينقلهُ «ابن خردادبه» في كتاب «المسالك والممالك» (صفحة 106 ـ 110) وطبقاً ـ أيضاً ـ لما يقوله ابو ريحان البيروني في الصفحة (290) مِن كتاب «الآثار الباقية»: إِنَّ مجموعة مِن السوّاح القدماء قد وجدوا غاراً في مدينة (آبس) فيه بعض الإجساد المتيبسة، وقد احتملوا أن هذه الآثار تتعلق بقصّة أصحاب الكهف.

مِن سياق الآيات القرآنية في سورة الكهف، وأسباب النّزول المذكورة في المصادر الإِسلامية، نستفيد أنَّ الحادثة كانت أيضاً معروفة بين علماء اليهود، وأنّها كانت عندهم حادثة تأريخية مشهورة. وبذلك يتّضح ـ بدقة ـ أنَّ قصّة النوم الطويل لأصحاب الكهف وردت في المصادر التأريخية للأقوام المختلفة(2).

وهنا قد يشك البعض في طول المدة التي قضاها أصحاب الكهف في نومهم، ويعتبر أنَّ ذلك لا ينطق مع المعايير العلمية، لذلك يضعها في قسم الأساطير والقصص الخرافية (!!) والذرائع التي يستند إليها هؤلاء هي:

أوّلا: إِنَّ هذا العمر الطويل أمرٌ غير مألوف في حياة الأشخاص العاديين

____________________________

1 ـ أعلام القرآن، ص 154.

2 ـ المعاد والعالم بعد الموت، ص 163 ـ 165.

[247]

المستيقظين، فكيف يصح تصوره لناس نيام؟!

ثانياً: إِذا اقتنعنا بهذا العمر الطويل بالنسبة للأشخاص العاديين الذين يُمارسون الحياة بشكل طبيعي، فإِنَّ ذلك غير ممكن بالنسبة للنائمين، لأنَّ هُناك مُشكلة الطعام والشراب، إِذ كيف يمكن للإِنسان أن يبقى طيلة هذه المدّة بدون طعام أو شراب، وإِذا افترضنا مثلا أنَّ الإِنسان يحتاج يومياً إلى كيلو غرام واحد مِن الطعام أو لتر واحد مِن الماء، فإِنَّ أصحاب الكهف كانوا بحاجة، أثناء نومهم، إلى (100) طن مِن الطعام و(100000) لتر مِن الماء، ومِن الطبيعي أنَّ الجسم  لا يستطيع خزن كل هذه الأحجام والكميات مِن الماء والطعام.

ثالثاً: إِذا تجاوزنا كل الأُمور السابقة، فسوف تكون أمامنا مُشكلة جديدة، وهي أن جسم الإِنسان لا يستطيع أن يبقى كل هذه الفترة الطويلة مِن دون أن تتأثَّر أجهزته وتتضرّر بأضرار فادحة.

إِنَّ هذه الأُمور قد تبدو للوهلة الأُولى مانعاً مِن التصديق بقصّة أصحاب الكهف، في حين أنَّ الأمر ليسَ كذلك، إِذ يُمكن مُناقشة الأُمور السابقة وفقاً لما يلي:

أوّلا: لا تعتبر قضية العمر الطويل قضية غير علمية، حيثُ أنّنا نعلم أنَّ طول عمر أي كائن حي ليسَ لها مِن الوجهة العلمية ميزان ثابت مِن حيث المدّة والعمر، بحيث يكون موت الكائن عندَ هذا الحد المُفترض أمراً حتمياً.

بعبارة أُخرى: صحيح أنَّ الطاقة الجسمية للإِنسان مهمّا بلغت فهي محدودة ولا بدَّ أن تنتهي، إِلاّ أنّ هذا الكلام لا يعني أنَّ جسم الإِنسان ـ أو أي كائن حي آخر ـ ليست لهُ قابلية البقاء أكثر مِن المقدار المألوف والمتعارف عليه.

أي إن المسألة ليست كالقوانين الطبيعية، فمثلا الماء يغلي في درجة حرارة (100) مئوية ويتجمد في درجة الصفر المئوي، فكذلك الإِنسان إذا وصل إلى عمر المائة سنة أو المائة وخمسين سنة فإِنَّ قلبه سيتوقف عن العمل.

[248]

إِنَّ المسألة ليست على هذه الشاكلة، بل إنَّ ميزان طول عمر الكائنات الحية يرتبط ارتباطاً كبيراً بوضعهم المعيشي، فعندما تتغيَّر الظروف بالكامل تكون الموازين قابلة للتغيير هي الأُخرى.

والدليل على ما نقول، هو أنّنا لم نَر أحداً مِن علماء العالم قد حدَّدَ ميزاناً معيناً لمعر الإِنسان، ومِن جانب ثان استطاعوا مِن خلال تجارب مختبرية مِن زيادة عمر بعض الكائنات إلى الضعفين، أو الثلاثة في بعض الأحيان، واستطاعوا في أحيان أُخرى أن يفعلوا ذلك بنسبة (12) مرّة أو أكثر قياساً للعمر المألوف.

واليوم فإنَّ هؤلاء العلماء يأملون بأن الإِنسان يمكنهُ ـ في المستقبل ومع ظهور أساليب علمية جديدة ـ أن يعيش عدَّة أضعاف عمره الطبيعي.

هذا فيما يخص أصل قضية طول العمر.

ثانياً: أمّا فيما يخص الطعام والشراب أثناء فترة النوم الطويل، فنقول: إنَّ نوم أصحاب الكهف لو كان عادياً وطبيعياً فنستطيع عندها أن نقبل بالإِشكالات والإِعتراضات السابقة. أمّا مِن الوجهة العلمية فإنَّ الأصول العلمية تقول: إنَّ حاجة الجسم إلى الطاقة الغذائيه أثناء النوم أقل مِن حاجته إليها اليقظة، إلاَّ أنَّ الجسم مع ذلك لا يستطيع أن يدَّخر ما يلزمه مِن طاقة غذائية لنوم طويل كنوم أصحاب الكهف.

وهنا ينبغى الإِلتفات إلى أنَّ هناك أنواعاً مِن النوم في عالم الطبيعة تكون فيها حاجة الجسم إلى الغذاء قليلة للغاية، كما في حالة السُبات مثلا.

حالة السُبات:

هناك العديد من الأحياء تنام في فصل الشتاء ويسمّى نومها علمياً  بـ «السُبات».

في هذا النوع مِن النوم تتوقف فعاليات الحياة تقريباً، وتكون بأضعف حالة.

[249]

فالقلب يتوقف عن العمل تقريباً، وبعبارة أصح تكون ضرباته قليلة للغاية بحيث لا يمكن الإِحساس بها أبداً.

في هذه الحالات يُمكن تشبيه الجسم بالفرن العظيم الذي لا تبقى فيه بعد انطفائه سوى شُعلة أو شمعة صغيرة دائبة الإِشتغال. وواضح أنَّ الطاقة التي تحتاجها هذه الأفران (من النفط أو غير) للإِشتعال الطبيعي يُعادل ما تحتاجه الشمعة الصغيرة مِن طاقة للإِشتعال، لعشرات أو مئات السنين. (يمكن أن نطبِّق المثال على ما نحنُ فيه فتكون حالة اشتعال الفرن الطبيعي في شبيهة بحالة اليقظة، أمّا حاله اشتعال الفرن على الشعلة الصغيرة فقط فهي شبيهة بحالة السُبات والنوم الطويل).

مِن جهة أُخرى يقول العلماء عن سُبات بعض الأحياء: إِنّنا إِذا أخرجنا إِحدى الزواحف وهي في حالة سبات، فسوف نراها وكأنّها ميتة، فلا هواء في رئتيها، وضربات القلب ضعيفة بحيث لا يمكن الإِحساس بها. ومن بين الحيوانات ذات الدم البارد نستطيع أن نعدِّد الفراشات والحشرات والحلزون والزحافات وكلها تقوم بحاله السُبات. كما أنَّ بعض الحيوانات ذات الأثدية (ذات الدم الحار) تقوم بالسبات أيضاً. وفي فترة السبات تكون الفعاليات الحياتية ضعيفة للغاية، وتقوم الحيوانات السابتة باستهلاك المواد الدهنية المخزونة بالجسم بالتدريج»(1).

المقصود مِن كل هذا العرض هو أن نقول: إِنَّ هناك نوعاً مِن النوم تكون الحاجة فيه إلى الطعام قليلة جدّاً، وقد تصل النشاطات الحياتية في مثل هذه الحالة إلى درجة الصفر.

وبالمناسبة، نذكر هُنا أنَّ هذا الأمر يُساعد في منع تلاشي أعضاء الجسم أو تضرُّر الأجهزة الجسمية، ويعين ـ أيضاً ـ على طول عمر الكائن الحي.

____________________________

1 ـ إِقتباس عن دائرة المعارف الفارسية الجديدة، مادة (سُبات).

[250]

إِنَّ السُبات بالنسبة للحيوانات التي لا تستطيع الحصول على غذائها فرصة ثمينة للغاية لكي تُديم حياتها عن هذا الطريق.

نموذج آخر: دفن المرتاضين

فيما يخص المرتاضين يُشاهد أنَّ بعضهم يتمّ وضعهُ بالتابوت ويدفن أحياناً تحت التراب لمدّة أسبوع، وذلك أمام عيون المشاهدين الحيارى التي لا تكاد تصدَّق ما ترى، وبعد أن تنتهي المدَّة المقرَّرة يتمّ إخراجه ويجري لهُ التدليك والتنفس الإصطناعي حتى يعود إلى حالته الطبيعية.

وحتى لو افترضنا أن حاجة أجسادهم إلى الطعام غير ملحّة، فإِنَّ الحاجة إلى الأوكسجين حاجة مهمّة للغاية ولا يمكن للجسم التخلّي عنها، إذا نعرف هُنا أنَّ حساسية الخلايا المخية للاوكسجين وحاجتها إليه كبيرة للغاية، بحيث إذا حُرِمت مِنها لبضعة دقائق فإنّها ستتلف.

والآن يتساءل: كيف يتحمَّل الشخص المرتاض قلّة الأوكسجين مثلا لمدّة قد تصل إلى حدود الأسبوع؟

الجواب على هذا السؤال ـ ومع مُراعاة ما ذكرناه قبل قليل ـ ليسَ بالأمر الصعب، ففي هذه المدَّة تتوقف (تقريباً) الفعاليات الحياتية لجسم المرتاض، لذا فإِنَّ حاجة الخلايا للأوكسجين واستهلاكها لها ستقل بشدَّة، بحيث أنَّ الهواء الموجود في فضاء التابوت يكفي في هذه المدَّة لتغذية الخلايا.

تجميد جسم الإِنسان وهو حي:

اليوم ثمّة نظريات كثيرة حول تجميد جسم الأحياء بما فيهم الإِنسان (لزيادة العمر) وقد تمَّ تنفيذ قسم مِن هذه النظريات في الوقت الحاضر.

طبقاً لهذه النظريات، فإِنَّه عند وضع جسم الإِنسان أو أي حيوان في درجة

[251]

حرارة تحت الصفر ـ بأُسلوب خاص ـ فإِنَّ حياته ستتوقف بدون أن يموت. وبعد مُدَّة معينة يوضع الكائن في درجة حرارية معينة حيثُ يرجع إلى الحالة العادية.

وقد تمَّ اقتراح مجموعة حالات مِن هذه الحالة للإِفادة منها في الرحلات الفضائية إلى الكواكب البعيدة التي يستغرق الوصول إليها مئات أو آلاف السنين، حيثُ يتمّ تجميد أجسام روّاد الفضاء في محفظة خاصّة، وبعد سنين طويلة، وعند الإِقتراب مِن الكواكب المعنية ترجع الحرارة العادية إلى تلك المحفظة بشكل أوتوماتيكي، وعندها سيعود هؤلاء الروّاد إلى حالتهم العادية دون أن يحدث أي ضرر لهم.

ذكرت إحدى المجلات العلمية أنَّ كتاباً صدر مُؤخراً حولَ تجميد جسم الإِنسان بهدف إِطالة عمره بقلم «روبرت نيلسون» وكانَ لهذا الكتاب صدىً واسعاً في عالم المعرفة. ففي المقالة التي نشرتها تلك المجلة في هذا المجال، ذكر الكاتب أنَّهُ تمَّ أخيراً إضافة فرع علمي جديد إلى الفروع العلمية الأُخرى، يتكفل التخصص في هذا المجال.

ونقرأ في تلك المقالة أيضاً: «لقد كانت الحياة الأبدية ـ على طول التأريخ ـ حُلماً مِن الأحلام الذهبيه والقديمة للإِنسان، وفي الوقت الحاضر فقد تحقق هذا الحلم، والسبب يعود إلى التقدُّم العجيب لعلم حديث يسمّى (كريونيك) وهو علم يرسل الإِنسان إلى عوالم الإِنجماد، ويحفظهُ على شكل جسد مُنجمد على أمل أن يستطيع العلماء إعادته يوماً إلى الحياة مرّة أُخرى.

هل يمكن تصديق هذا الكلام؟ هُناك العديد مِن العلماء البارزين الذين يقومون بالتفكير في هذا الأمر مِن جوانبه المختلفة. وهناك نشريات كثيرة تقوم ببحث هذا الموضوع مثل (لايف) و(اسكواير) والصحف العالمية في مُختلف أنحاء العالم. والأهم مِن ذلك أنَّ هُناك برنامج في هذا المجال هو قيد التنفيذ في

[252]

الوقت الحاضر(1).

لقد أعلنت الصحف قبل مُدَّة عن اكتشاف سمكّة مُنجمدة بين ثلوج القطب الشمالي يعود عمرها إلى آلاف السنين، كما تبيَّن ذلك مِن طبقات الثلج القشرية، وبعد أن وُضعت السمكّة في ماء معتدل عادت إلى حياتها الطبيعيه وبدأت بالحركة وسط دهشة الجميع.

ويتّضح مِن ذلك أنَّ الأجهزة الحياتية لا تتوقف بالكامل في حالات الإِنجماد، ولكن في هذه الظروف التي لا يمكن معها ممارسة الحياة الطبيعية يصبح عمل تلك الأجهزة بطيئاً للغاية.

ومن مجموع هذه الأحاديث يتبيّن أنَّهُ بالإِمكان إيقاف الحياة أو تعويق حركتها بشدة والبحوث العلمية دعمت إِمكانية ذلك من جوانب مختلفة. وفي مثل هذه الحالة يصل استهلاك البدن للطعام لدرجة الصفر تقريباً، وبذا يكفيه المخزون القليل المُدَّخر في الجسم لإِدامة الحياة البطيئة لسنوات طويلة.

ويجب أن لا يُفَسَّر كلامنا هذا بأنّنا نستهدف انكار الجانب الإِعجازي في نوم أصحاب الكهف، بل نريد أن نقرِّب الأمر للأذهان من وجهة نظر العلم. إذ من المحتم أنَّ نوم أصحاب الكهف لم يكن نوماً عادياً كمنامنا في الليل، لقد كان نومهم ذا جنبة إِستثنائية، لذلك فلا عجب في نوم هؤلاء هذه المدّة الطويلة (بإِرادة الله) من دون أن يكونوا بحاجة إلى الشراب والطعام، ومن دون أن تتضرَّر أجسامهم وأجهزتهم الحيويه.

والطريف في الأمر أنّنا نستفيد من آيات سورة الكهف أنَّ طبيعة نومهم كانت تختلف عن النوم العادي: (وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود ... لو اطلعت عليهم لوليَّت منهم فراراً ولملئت مِنهم رُعباً)(2). إِنَّ هذه الآية تدل على أن نومهم لم

____________________________

1 ـ مجلة «دانشمند»، عدد 47، ص 4.

2 ـ الكهف، 18.

[253]

يكن نوماً عادياً، بل هو أشبه ما يكون بحالة الميت. (ذي العيون المفتوحة).

إِضافة إلى ذلك تفيد آيات السورة أنَّ نور الشمس لم يكن يشع داخل كهفهم، ولأنَّهُ من المحتمل أن يكون الكهف في جبال آسيا الصغرى، وفي منطقة باردة، فإنَّ ذلك يعدّ مؤشراً على الحالة الإِستثنائية لنومهم، ومِن جانب آخر فإِنَّ القرآن يقول: (ونُقلبهّم ذات اليمين وذات الشمال)(1).

ومِن الآية يتبيّن أنّهم لم يكونوا على حالة واحدة، وأنَّ هناك عوامل وقوى غيبية خفية غير واضحة لنا كانت تقلبهم نحو اليمين واليسار (احتمالا في كل سنة مرَّة واحدة) حتى لا تتضرَّر أجسامهم.

والآن وبعد أن اتّضحت الجوانب العلمية في هذا البحث، فإِنَّ المعاد لم يعد يحتاج إلى كلام كثير، لأنَّ اليقظة بعد ذلك النوم الطويل تشبه الحياة بعد الموت وتقرّب إِلى الأذهان قضية المعاد(2).

* * *

____________________________

1 ـ الكهف، 18.

2 ـ لتفاصيل أكثر يُراجع كتاب: المعاد والحياة بعد الموت.

[254]

الآيات

وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَوةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً(28) وقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلظَّلِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَآء كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوُجُوهَ بِئْسَ الْشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً(29) إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحـتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا(30) أُوْلـئِكَ لَهُمْ جَنَّـتُ عَدْن تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأَْنْهـرُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَب وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُس وَإِسْتَبْرَق مُّتَّكئِينَ فِيهَا عَلَى الأَْرَآئِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً(31)

[255]

سبب النّزول

يروي المفسّرون في سبب نزول الآيات الأُولى في هذا المقطع من سورة الكهف المباركة (واصبر نفسك مع الذين يدعون ...) أنَّ مجموعة من أشراف قريش ومِن المؤلّفة قلوبهم جاؤوا إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا له: يا رسول الله، إن جلست في صدر المجلس ونحّيت عنّا هؤلاء وروائح صنانهم (كانت عليهم جباب الصوف)(1) جلسنا نحُن إِليك، وأخذنا عنك، لأنَّهُ لا يمنعنا مِن الدخول عليك إِلاَّ هؤلاء.

لقد كان هؤلاء الأشراف والمؤلفة قلوبهم يقصدون في كلامهم المستضعفين والفقراء مِن أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مِن أمثالِ سلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري وصهيب وعمّار بن ياسر وخباب وغيرهم ممن كان على شاكلتهم، إِذ كان هؤلاء ممن التفَّ حول رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ممن قربه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إِليه.

لذلك اشترط الأشراف على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يطرد أمثال هؤلاء الفقراء عن مجلسه ونعتوهم بشتى النعوت.

وهنا نزلت الآية الكريمة على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربَّهم بالغداة والعشي يُريدون ... ) فلمَّا نزلت الآية قامَ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)يلتمسهم فأصابهم في مُؤَخَّر المسجد يذكرون الله عزَّوجلّ، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «الحمد الله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي معَ رجال مِن أمتي. معكم المحيا ومعكم الممات».

التّفسير

الحفاة الأطهار!

مِن الدروس التي نستفيدها مِن قصّة أصحاب الكهف أنَّ مقياس قيمة البشر

____________________________

1 ـ هذه الصفات أطلقها أشراف قريش والمؤلفة قلوبهم على المستضعفين مِن أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كأبي ذر وغيره.

[256]

ليست بالمنصب الظاهري أو بالثروة، بل عندما يكون المسير في سبيل الله يتساوى الوزير والراعي، والآيات التي نبحثها تؤكّد هذه الحقيقة المهمّة وتعطي للرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) هذا الأمر: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربَّهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) إِنَّ استخدام تعبير (اصبر نفسك) هو إِشارة إلى حقيقة أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كانَ قد تعرَّض إلى ضغط الأعداء المستكبرين والمشركين حتى يُبعد عنهُ مجموع المؤمنين الفقراء، لذلك جاءه الأمر الإِلهي بالصبر والإِستقامة أمام هذا الضغط المتزايد وأن لا يستسلم له. إِنَّ استخدام تعبير (الغداة والعشي)إشارة إلى أنّهم كانوا دائماً وأبداً يذكرون الله.

أمّا استخدام مصطلح (يُريدون وجهه)(1) فهو دليل على إِخلاصهم وإشارة إلى أنّهم يعبدون الله لذاته لا طمعاً بالجنة (بالرغم مِن نعمها الكبيرة والثمينة)  ولا خوفاً مِن الجحيم وعذابه (بالرغم مِن شدّة عذابها) بل يعبدون الله لأجل ذاته المُنزَّهة، وهذه أعلى مرتبة في الطاعة والعبودية والحبّ والإِيمان بالله تعالى.

ثمّ تستمر الآيات مُؤكّدة خطابها للرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم): (ولا تعدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدّينا)(2) فلا تنظر إلى هؤلاء المستكبرين بدل المستضعفين من أجل بهارج الدنيا وزخارفها.

ثمّ مِن أجل التأكيد مجدداً يقول تعالى: (ولا تُطع مَن أغفلنا قلبه عن ذكرنا).

(واتبع هواه) والمطيع لاهوائه النّفسية، والمفرط في أفعاله دائماً (وكانَ

____________________________

1 ـ فيما يخص معنى (وجه) وأنّها تأتي في بعض الأحيان بمعنى (الذات) وأحياناً بمعنى (وجه الإِنسان) وفي سبب انتخاب ذلك في هذه الموارد .. فيما يخصُ كل ذلك يُمكن مُراجعة ما كتبناه مُفصلا لدى تفسير الآية (272) من سورة البقرة في تفسيرنا هذا.

2 ـ (لا تعد) مأخوذة مِن كلمة «عدا يعدو و ...» وهي بمعنى تجاوز الشيء وبذا يصبح مفهوم الجملة (لا تبعد عينيك عنهم كي تنظر إلى الآخرين).

[257]

أمره فرطاً)(1).

الطريف هُنا أنَّ القرآن وضع هاتين المجموعتين في مقابل بعضهما مِن حيث الصفات، وكانَ الأمر كما يلي:

مؤمنون حقيقيون إِلاَّ أنّهم فقراء، ولهم قلوب مملوءة بحبّ الله، يذكرونه باستمرار ويسعون إليه.

الأغنياء المستكبرون الغافلون عن ذكر الله، والذين لا يتبعون سوى هواهم، وخارجون عن حدَّ الإِعتدال في كل أُمورهم ويُفرطون ويُسرِفون.

إِنَّ الموضوع ـ أعلاه ـ مِن الأهمية بمكان، بحيث أنَّ القرآن يقول للرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ بصراحة ـ في الآية التي بعدها: (وقل الحق مِن ربِّكم فمن شاء فليؤمن ومَن شاء فليكفر).

ولكن اعلموا أنَّ هؤلاء عباد الدنيا الذين يسخرون مِن الألبسة الخشنة التي يرتديها أمثال سلمان وأبي ذر خاصَّة، والذين يعيشون حياة مُرفهة باذخة ومليئة بالزينة، ستنتهي عاقبهم إلى سوء وظلام وعذاب: (إِنا اعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها).

نعم، إِنّهم كانوا اعطشوا في هذه الدّنيا كان الخدم يجلبون لهم أنواع المشروبات، ولكنَّهم عندما يطلبون الماء في جهنَّم يؤتي إليهم بماء كالمهل: (وإِن يستغيثوا يُغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه)(2).

(بئسَ الشراب).

ثمّ (وساءت مُرتفقاً)(3).

____________________________

1 ـ «فرط» تعني التجاوز عن الحد، وكل شيء يخرج عن حدّه ويتحول إلى إسراف يُقال لهُ (فُرط).

2 ـ «مُهل» على وزن «قفل» وهي تعني كما يقول الراغب في المفردات: هي المقدار المترسب من الدهن والذي يكون عادة مُلوثاً بأشياءِ وسخة ورديئة الطعم، إِلاَّ أنَّ بعضاً آخر مِن المفسّرين يقولون بأنّها تعني أي معدن مُذاب. والظاهر أنَّ تعبير (يشوي الوجوه) يُرجِّح المعنى الثّاني.

3 ـ «مُرتفق» مِن كلمة «رَفق ورفيق» بمعنى محل اجتماع الأصدقاء.

[258]

تصوروا هل يمكن شرب الماء الذي إِذا اقترب مِن الوجه فإنَّ حرارته ستشوي الوجه؟ إن ذلك بسبب أنّهم شربوا في الدنيا أنواع المشروبات المُنعشة والباردة، في حين أنّهم أجّجوا في قلوب المحرومين نيراناً، إِنَّ هذه النار هي نفسها التي تجسدت في الآخرة بهذا الشكل.

والطريف في أمر هؤلاء أنَّ القرآن ذكر لهم بعض «التشريفات» وهُم في جهنَّم. لقد كان لهؤلاء في حياتهم الدنيا (سرادق) عالية وباذخة ليسَ فيها نصيب للفقراء، وهذه السرادق ستتحوَّل إِلى خيام عظيمة مِن لهيب نار جهنَّم!

وفي هذه الدنيا تتوفر لديهم أنواع المشروبات التي تحضر بين أيديهم بمجرّد مُناداة الساقي، وفي جهنَّم يوجد أيضاً ساق وأشربة، أمّا ما هو نوع الشراب؟ إِنَّهُ ماء كالمعدن المذاب! حرارته كحرارة دموع اليتامى وآهات المستضعفين والفقراء الذين ظلمهم هؤلاء الأغنياء! نعم، إِنَّ كل ما هو موجود هُناك (في الآخرة) هو تجسيد لما هو موجود هنا (في الدنيا).

وبما أنَّ أُسلوب القرآن أُسلوب تربوي وتطبيقي، فإنَّهُ بعدما بيّن أوصاف وجزاء عبيد الدنيا، ذكر حال المؤمنين الحقيقيين وجوائزهم الثمينة الغالية التي تنتظرهم جزاء ما فعلوا. لقد أجملت الآية كل ذلك بشكل مُختصر، ثمّ بشكل تفصيلي نوعاً ما.

ففي البدء قال تعالى: (إِنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنّا لا نضيع أجر مَن أحسن عملا) أي إِنّنا لا نضيع أعمال العاملين قليلة كانت أو كثيرة، كُلية أو جزئية، ومَن أي شخص وفي أي عُمر كان:

(أُولئك لهم جنات عدن) (الجنات الخالدة).

(تجري مِن تحتهم الأنهار) (من تحت الأشجار والقصور).

(يُحلون فيها مَن أساور مِن ذهب)(1).

____________________________

1 ـ «أساور» جمع «أسورة» على وزن «مشورة» وهي بدورها جمع (سوار) على وزن (غبار) و(كتاب) وهي في الأصل مأخوذة مِن كلمة فارسية عُرِّبت واشتقت مِنها الأفعال العربية.

[259]

(ويلبسون ثياناً خضراً مِن سندس وإستبرق) (من حرير ناعم وسميك).

(مُتكئين فيها على الأرائك)(1).

(نعم الثواب).

(وحسنت مُرتفقاً) (وحسنت مجمعاً للاحبّة).

* * *

بحوث

1 ـ الرّوح الطبقية مُشكلة اجتماعية كبيرة

ليست الآيات الآنفة الذكر ـ وحدها ـ تحارب تقسيم المجتمع إلى مجموعتين مِن الأغنياء والفقرء، بل إِنّنا نجد الكثير مِن الآيات القرآنية الأُخرى، ممّا ذكرنا سابقاً أو سنذكرها لاحقاً، تؤكّد جمعها على هذا الموضوع.

إنَّ المجتمع الذي تكون فيه مجموعة (وهي أقلية في الغالب) مُرفهة وغارقة في الإِسراف والتبذير وملوَّثة بأنواع المفاسد، سيكون في مقابل هؤلاء مجموعة أُخرى، هم الأكثرية التي لا تملك أبسط وسائل الحياة الإِنسانية. ومثل هذا المجتمع يرفضه الإِسلام وليسَ مجتمعاً إِنسانياً.

مثل هذا المجتمع سوف لا يرى الإِستقرار أبداً، وسوف يلقي الإِستعمار والإِستكبار وأشكال الظلم والعبودية بضلال عليه. وغالباً ما تقوم الحروب الدامية في مثل هذه المجتمعات ولا تنتهي الإِضطربات فيها أبداً.

ومِن الطبيعي أن يتساءل المرء عن أسباب تُكدُّس النعم الإِلهية بيد حفنة معدودة مِن الناس وبدون سبب، بينما الأكثرية تعيش الفقر والألم والعذاب

____________________________

1 ـ «أرائك» جمع «أريكة» وتطلق على السرير الذي تكون جوانبه جميعاً مغطاة، وهي في الأصل ـ كما يقول الراغب ـ مأخوذة مِن (أراك) وهي شجرة معروفة كان العرب يصنعون مِنها مظلّة; أو مِن (أروك) بمعنى الإِقامة والتوّقف.

[260]

والمرض؟

إِنَّ مثل هذا المجتمع يكون مملوءاً ـ حتماً ـ بالكراهية والحسد والكبر والعداء والغرور والظلم والتكُّبر، وكل عوامل الفساد الأُخرى.

ولو دَققنا النظر في تأريخ النّبوات لرأينا أنّ الأنبياء(عليهم السلام) بأجمعهم، وخصوصاً رسول الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) واجهوا هذا النظام المنحرف والظالم ورموزه مِن الأغنياء الظالمين مِن أجل تأمين عوامل الإِستقرار داخل المجتمع.

في مثل هذه المجتمعات الطبقية تكون جلسات واجتماعات المترفين مُنفصلة عن مجالس الفقراء، وأماكنهم، وكذا الحال بالنسبة لمراكز الترفيه وما إلى ذلك. (هذا إذا كان الفقراء يملكون في الأصل مراكز للترفيه). ثمّ إنَّ العادات والتقاليد تختلف بين المجموعتين تماماً.

إنَّ هذا الإِنفصال المجافي للروح الإنسانية، وروح كل القوانين السماوية، لن يتحملها أي رجل إلهي. وقد كان مثل هذا الوضع حاكماً بشدَّة في المجتمع العربي الجاهلي، حتى كان هؤلاء يعتبرون التفاف الفقراء مِن أمثال سلمان وأبو ذر حول رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مِن أكبر العيوب (!!) ولكن لم يعلم هؤلاء الأغنياء أن قلوب الفقراء هؤلاء مملوءة بحب الله والإِيمان وبصفات الشهامة والإثيار.

في المجتمع الجاهلي الذي عاصر النّبي المصلح نوح(عليه السلام)، قال المترفون مِن الملأ عبيد الدنيا مخاطبين نوحاً(عليه السلام): لماذا اتبعك الذين هم أراذلُنا (على حدِّ قولهم) ولقد حكى القرآن اعتراضهم هذا في الآية (27) مِن سورة هود في قوله تعالى: (فقال الملأ الذين كفروا مِن قومه ما نراك إلاَّ بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلاَّ الذين هم أراذلنا).

وهكذا نرى أنَّ عبيد الدنيا وأتباع الهوى هؤلاء يرفضون الجلوس - حتى للحظات ـ قرب الفقراء المؤمنين!

ولاحظنا ـ أيضاً ـ كيف أن رسول الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) بطرده للمجموعة الأُولى

[261]

(الأغناء المترفين) وتقريبه للمجموعة الثّانية (الفقراء المؤمنين) شكَّل مجتمعاً توحيدياً بمعنى الكلمة، مجتمعاً تفجَّرت فيه الطاقات الكامنة، وأصبحت فيه معايير الشخصية والقيم والنبوغ، هي التقوى والعلم والإِيمان والجهاد والعمل الصالح.

واليوم ما لم نسعَ لبناء مِثل هذا المجتمع والإقتداء بالنموذج الإِسلامي الذي شيَّدَهُ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في عهده، وبدون نبذ الفكر الطبقي مِن العقول عن طريق التعليم والتربية وتدوين القوانين الصحيحة والسهر على تنفيذها بدقّة ـ بالرغم مِن رفض الإِستكبار العالمي وتعويقه لذلك ـ فسوف لن نملك مجتمعاً إِنسانياً سليماً أبداً.

2 ـ المقارنة بين الحياة في هذا العالم وعالم الآخرة:

لقد قُلنا مراراً: إِنَّ تجسُّد الأعمال هو من أهم القضايا المرتبطة بالمعاد. يجب أن نعلم أنَّ ما هو موجود في ذلك العالم هو انعكاس واسع ومُتكامل لهذا العالم، فأعمالنا وأفكارنا وأساليبنا الإِجتماعية وصفاتنا الأخلاقية المختلفة سوف تتجسَّم وتتجسّد أمامنا في ذلك العالم وستبقى قرينة لنا دائماً.

الآيات ـ أعلاه ـ دليل حي على هذه الحقيقة، فالمترفون الظالمون الذين كانوا يعيشون في هذه الدنيا في ظل سُرادق عالية، وكانوا سُكارى بهواهم، وسعوا إلى فصل كل شيء يخصّهم عن المؤمنين الفقراء، هؤلاء يملكون في ذلك العالم أيضاً (سُرادق) ولكنّها مِن النار الحارقة، لأنَّ الظلم في حقيقته نار حارقة تحرق الحياة وتذروا آمال المستضعفين المظلومين.

هُناك يشربون من شراب يُجسِّد باطن شراب الدنيا، وهو بالنسبة للظالمين الطغاة شراب من دماء قلوب المحرومين، ومثل هذا الشراب يُقدَّم للظالمين في ذلك العالم، وهو لا يحرق أمعاءهم وأحشاءهم فحسب، بل يكون كالمعدن

[262]

المذاب الذي يشوي الوجوه قبل شربه مِن شدَّة حرارته.

وعلى العكس مِن ذلك أُولئك الذين تركوا الشهوات في سبيل حفظ طهارة وجودهم ورعاية أُصول العدالة، والذين اقتنعوا بحياة بسيطة، وتحمَّلوا كل الصعوبات والمنفصات في هذه الدنيا مِن أجل تنفيذ أُصول العدالة .. هؤلاء تنتظرهم هُناك بساتين الجنّة مع الأنهار الجارية، وأفضل أنواع الزينة وأفخر الألبسة، وأحبّ المجالس. وهذا في الواقع تجسيد لنياتهم النزيهة حيث كانوا يريدون كل الخير لجميع عباد الله.

3 ـ العلاقة بين عبادة الهوى والغفلة عن الله

الروح الإِنسانية تخضع إِمّا لله تعالى أو للأهواء، حيثُ لا يمكن الجمع بين الإِثنين، فعبادة الأهواء أساس الغفلة عن الله وعبادة الله; عبادة الهوى هي سبب الإِبتعاد عن جميع الأُصول الأخلاقية; وأخيراً فإنَّ عبادة الهوى تُدْخل الإِنسان في ذاته وتبعده عن جميع حقائق العالم.

إنَّ الإِنسان الذي يعبد هواه لا يفكِّر إلاَّ في إِشباع شهواته، ولا يوجد لديه معنى للفتوّة والعفو والإِثيار والتضحيه والشيم المعنوية الأُخرى.

وقد اوضحت الآيات محل البحت الربط والعلاقة بين الإِثنين بشكل جلي في قوله تعالى: (ولا تُطع مَن أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فُرطا).

لقد طرحت الآية أوّلا (الغفلة) عن الله تعالى، ثمّ ذكرت بعدها (أتباع الهوى)، والطريف أنّ نتيجة هذا الأمر هو الإِفراط وبالشكل المطلق الذي ذكرته الآية.

لماذا يكون عابد الهوى مُصاباً بالإِفراط دائماً؟

قد يكون السبب أنَّ الطبيعة الإِنسانية تتجه في الملذات المادية نحو الزيادة دوماً، فالذي كان يشعر بالنشوة بمقدار معين مِن المخدرات، لا يكفيه نفس

[263]

المقدار في اليوم التالي لبلوغ نفس درجة النشوة، بل عليه زيادة الكمية بالتدريج، والشخص الذي كان يكفيه في السابق قصر واحد مجهَّز بجميع الإِمكانات وبمساحه عدة آلاف بين الأمتار، يصبح اليوم إِحساسه بهذا القصر عادياً، فينشد الزيادة. وهكذا فى جميع مصاديق الهوى والشهوة حيث أنّها دائماً تنشد الزيادة حتى تهلك الإِنسان نفسه.

4 ـ ملابس الزينة في العالم الآخر

قد يطرح البعض هذا السؤال: لقد ذمَّ الله تعالى الزينة والتزيُّن في القرآن بالنسبة لهذه الحياة، إِلاَّ أنَّهُ يعد المؤمنين بمثل هذه الأُمور في ذلك العالم، إِذ تنص الآيات على الذهب وملابس الحرير والإِستبرق والسرر المساند الجميلة؟

قبل الإِجابة على هذا السؤال ينبغي أن نوضَّح بأنّنا لا نوافق على توجيه هذه الكلمات على أنّها كناية عن مفاهيم معنوية ويفسِّرون الآيات على هذا الأساس، لقد تعلمنا مِن القرآن الكريم أنَّ المعاد ذو جانبين: معاد روحاني ومعاد جسماني. وعلى هذا الأساس، فإِنَّ لذات ذلك العالم يجب أن تكون موجودة في المجالين، واللذات الروحية - طبعاً ـ لا يمكن مقايستها باللذات الجسمية. ولكن لابدّ من الاعتراف بإنّنا لا نعرف مِن نعم ذلك العالم سوى أشباح بعيدة، ونسمع كلاماً يشير إِليها.

لماذا؟ .. لأنّ نسبة ذلك العالم إلى عالمنا هذا كنسبة عالمنا إلى عالم الجنين في بطن الأُم، فإِذا قدَّر للأُم أن تقيم رابطة بينها وبين الجنين، فلا يسعها إِلاَّ أن توضح للجنين بالإِشارات جمال هذه الدنيا بشمسها الساطعة وقمرها المنير، والعيون الفوّارة، والبساتين والورود وما شابهها، حيثُ لا توجد ألفاظ كافية لتبيان كل هذه المفاهيم للجنين في رحم الأُم كي يفهمها ويستوعبها.

كذلك فإِنَّ النعم المادية والمعنوية لعالم الآخرة لا يمكن توضيحها لنا بشكل

[264]

كامل ونحن محاصرون في أبعاد رحم هذه الدنيا.

ومع وضوح هذه المقدمة نجيب على السؤال ونقول: إن ذم الله عز اسمه لحياة الزينة والترف في هذه الدنيا يعود إلى أن محدودية هذا العالم تسبب أن تقترن الزينة والترف مع أنواع الظلم والإِنحراف الذي يكون بدوره سبباً للغفلة والإِنقطاع عن الله.

إِنَّ الإِختلافات التي تبرز خلال هذا الطريق ستكون سبباً للحقد والحسد والعداوة والبغضاء، وأخيراً إِراقة الدماء والحروب.

أمّا في ذلك العالم اللامحدود من جميع الجهات، فإِنَّ الحصول على هذه الزينة لا يُسبَّب مُشكلة ولا يكون سبباً للتمييز والحرمان، ولا للحقد والنفرة،  ولا يبعد الإِنسان عن الله في ذلك المحيط المملوء بالمعنويات حيث لا حسد  ولا تنافس ولا كبر ولا غرور تؤدي إِبتعاد خلق الله عن الله، كما في زينة الحياة الدنيا.

فإِذا كان الحال كذلك فلماذا يُحرم أهل الجنة من هذه المواهب والعطايا الإِلهية التي هي لذّات جسمية إلى جانب كونها مواهب معنوية كبيرة!

5 ـ الإِقتراب مِن الأثرياء بسبب ثروتهم:

الدرس الآخر الذي نتعلمهُ من الآيات الآنفة، هو أنَّهُ يجب علينا أن لا نمتنع عن إِرشاد وتوجيه هذه المجموعة ـ أو تلك ـ بسبب كونها ثرية أو ذات حياة مُرَّفهة، بل إِنَّ الشيء المذموم هو أن نذهب لهؤلاء لأجل ثروتهم ودنياهم المادية، ونصبح مصداقاً لقوله تعالى: (تريد زينة الحياة الدنيا) أمّا إِذا كان الهدف هو الهداية والإِرشاد، أو حتى الإِستفادة مِن إِمكانياتهم مِن أجل تنفيذ النشاطات الإِجابية والمهمّة إِجتماعياً، فانَّ مثل هذا الهدف لا يعتبر غير مذموم وحسب، بل هو واجب.

* * *

[265]

الآيات

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَِحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنـبِ وَحَفَفْنـهُمَا بِنَخْل وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً(32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ ءَاتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مَّنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلـلَهُمَا نَهَراً(33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصـحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَاْ أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَراً(34)وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هـذِهِ أَبَداً(35) وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآئِمَةً ولَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رّبِّى لأََجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً(36)

التّفسير

تجسيد لموقف المستكبرين مِن المستضعفين:

في الآيات السابقة رأينا كيف أنَّ عبيد الدنيا كانوا يُحاولون الإِبتغاد في كل شيء عن رجال الحق وأهله المستضعفين، ثمّ عرَّفتنا الآيات جزاءهم في الحياة الأُخرى.

الآيات التي نبحثها تُشير إلى حادثة اثنين مِن الأصدقاء أو الإِخوة الذين

[266]

يُعتبر كل واحد مِنهم نموذجاً لإِحدى المجموعتين، ويوضحان طريقة تفكير وقول وعمل هاتين المجموعتين.

في البداية تخاطب الآيات الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) فتقول: (واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين مِن أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً).

البستان والمزرعة كانَ فيهما كل شيء: العنب والتمر والحنطة وباقي الحبوب، لقد كانت مزرعة كاملة ومكفية مِن كل شيء: (كلتا الجنتين أتت أكلها ولم تظلم منهُ شيئاً).

والأهم مِن ذلك هو توفّر الماء الذي يُعتبر سر الحياة، وأمراً مهمّاً لا غنى للبستان والمزرعة عنه، وقد كانَ الماء بقدر كاف: (وفجرنا خلالهما نهراً).

على هذا الأساس كانَت لصاحب البستان كل أنواع الثمار: (وكانَ لهُ ثمر).

ولأنَّ الدنيا قد استهوته فقد أصيب بالغرور لضعف شخصيته ورأي أن الإِحساس العميق بالأفضلية والتعالي على الآخرين، حيث التفت وهو بهذه الحالة إِلى صاحبه: (فقال لصاحبه وهو يُحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفراً).

بناءاً على هذا فأنا أملك قوّة إِنسانية كبيرة وعندي مالٌ وثروة، وأنا أملك ـ أيضاً ـ نفوذاً وموقعاً إِجتماعياً، أمّا أنت (والخطاب لصاحبه) فماذا تستطيع أن تقول، وهل لديك ما تتكلم عنه؟!

لقد تضخَّم هذا الإِحساس ونما تدريجياً ـ كما هو حاله ـ ووصلَ صاحب البستان إلى حالة بدأ يظن معها أنَّ هذه الثروة والمال والجاه والنفوذ إِنّما هي أُمور أبديّة، فدخل بغرور إلى بستانه (في حين أنَّهُ لا يعلم بأنَّهُ يظلم نفسه) ونظر إلى أشجاره الخضراء التي كادت أغصانها أن تنحني مِن شدَّة ثقل الثمر، وسمع صوت الماء الذي يجري في النهر القريب من البستان والذي كان يسقي أشجاره، وبغفلة قال: لا أظن أن يفنى هذا البستان، وبلسان الآية وتصوير القرآن الكريم: (ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قالَ ما أظن أن تبيد هذه أبداً).

[267]

بل عمدَ إِلى ما هو أكثر مِن هذا، إِذ بما أنَّ الخلود في هذا العالم بتعارض مع البعث والمعاد، لذا فقد فكَّر في إِنكار القيامة وقال: (وما أظن الساعة قائمة)وهذا كلام يعكس وهم قائلة وتمنياته!

ثمّ أضاف! حتى لو فرضنا وجود القيامة فإِنّي بموقعي ووجاهتي سأحصل عند ربّي ـ إذا ذهبت إليه ـ على مقام وموقع أفضل. لقد كان غارقاً في أوهامه (ولئن رددت إلى ربّي لأجدنَّ خيراً مِنها مُنقلباً).

لقد أخذ صاحب البستان ضمن الحالة النفسية التي يعيشها والتي صورها القرآن الكريم، يضيف إلى نفسه في كل فترة وهماً بعد آخر مِن أمثال ما حكت عنهُ الآيات آنفاً، وعندَ هذا الحد انبرى لهُ صديقه المؤمن وأجابه بكلمات يشرحهما لنا القرآن الكريم.

* * *

[268]

الآيات

قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَاب ثُمَّ مِن نُّطْفَة ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا(37) لَّـكِنَّاْ هُوِ اللَّهُ رَبِّى وَلآَ أُشْرِكُ بِرَبِّى أَحَداً(38) وَلَولآَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ اللَّهُ لاَقُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالا وَوَلَداً(39) فَعَسَى رَبِّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّن السَّمَآءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً(40) أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً(41)

التّفسير

جواب المؤمن:

هذه الآيات هي ردّ على ما نسجهُ من أوهام ذلك الغني المغرور العديم الإِيمان، نسمعها تجري على لسان صاحبه المؤمن.

لقد بدأ الكلام بعد أن ظلَّ صامتاً يستمع إلى كلام ذلك الرجل ذي الأفق الضيق والفكر المحدود، حتى ينتهي مِن كلامه، ثمّ قال له: (قالَ لهُ صاحبهُ وهو

[269]

يحاوره أكفرت بالذي خلقك مِن تراب ثمّ مِن نطفة ثمّ سواك رجلا).

وهُنا قد يُثار هذا السؤال، وهو: إِنَّ كلام ذلك الرجل المغرور المتكبر الذي مرَّ ذكره في الآيات الآنفة، لم يصرّح فيه بإِنكار الحق جلَّ وعلا، في حين أنَّ جواب الإِنسان المؤمن ركزَّ فيه أوّلا على إِنكاره للخالق!؟ لذلك فإِنَّهُ وجَّه نظره أوّلا إلى قضية خلق الإِنسان التي هي من أبرز أدلة التوحيد والتوجّه نحو الخالق العالم القادر. الله الذي خلق الإِنسان مِن تراب، حيثُ امتصت جذور الأشجار المواد الغذائية الموجودة في الأرض، والأشجار بدورها أصبحت طعاماً للحيوانات، والإِنسان إِستفاد مِن هذا النبات ولحم الحيوان، وانعقدت نطفته مِن هذه المواد، ثمّ سلكت النطفة طريق التكامل في رحم الأُم حتى تحوَّلت إلى إِنسان كامل، الإِنسان الذي هو أفضل مِن جميع موجودات الأرض، فهو يُفكِّر ويُصَمِّم ويُسَخِّر كلَّ شيء لأجله.

نعم، إِنَّ هذا التراب عديم الأهمية يتحوَّل إلى هذا الموجود العجيب، مع هذه الأجهزة المعقدة الموجودة في جسم الإِنسان وروحه، وهذا مِن الدلائل العظيمة على التوحيد.

وفي الجواب على السؤال المُثار ذكر المفسّرون تفاسير مُعتدَّدة نجملها فيما يلي:

1 ـ قالت مجموعة مِنهم: بما أنَّ هذا الرجل المغرور أنكر بصراحة المعاد والبعث أو شكَكَ فيه، فإِنَّهُ يلزم من ذلك إنكار الخالق، لأنَّ مُنكر المعاد الجسماني يُنكر في الواقع قدرة الله، ولا يصدّق بأنَّ هذا التُراب المتلاشي سوف تعود لهُ الحياة مرّة أُخرى، لذا فإِنَّ الرجل المؤمن مع ذكره للخلق الأوّل مِن تُراب، ثمّ من نطفة، ثمّ بإِشارته للمراحل الأُخرى ـ أراد أن يُلفت نظره إلى القدرة غير المتناهية للخالق حتى يعلم بأنَّ قضية المعاد يُمكن مشاهدتها هُنا وتمثَّلها بأعيننا في واقع هذه الأرض.

[270]

2 ـ وقال آخرون: إنَّ شركهُ وكفرهُ كانا بسبب ما رَآه لِنفسه مِن إستقلال في المالكية وما تصوره مِن دوام وأبدية هذه الملكية.

3 ـ الإِحتمال الثّالث أنّه لا يبعد أن يكون الرجل قد أنكر الخالق في بعض كلامه ولم يذكر القرآن هذا المقطع من كلامه. وقد يتوضح الأمر بقرينة جواب الرجل المؤمن، لذا نرى في الآية التي بعدها أنَّ الرجل المؤمن قالَ لصاحب البستان ما مضمونه: إن كنت أنكرت وجود خالقك وسلكت طريق الشرك، إِلاَّ أنّني لا أفعل ذلك أبداً.

على أي حال، ثمّة علاقة واضحة تربط بين الإِحتمالات الثلاثة، ويُمكن أن يكون كلام الرجل المؤمن المُوَحِّد إشارة الى هذه الإِحتمالات جميعاً.

ثمّ عَمِد الرجل الموحِّد المؤمن إِلى تحطيم كُفر وغرور ذلك الرجل (صاحب البستان) فقال: (لكنّا هو الله ربّي)(1). وإنّي أفتخر بهذا الإِعتقاد وأتباهى به، إنّك تفتخر بأنّك تملك بستاناً ومزرعة وفواكه وماءاً كثيراً; إِلاَّ أنّني أفتخر بأنَّ الله ربّي، إِنَّهُ خالقي ورازقي; إِنّك تتباهى بدنياك وأنا أفتخر بعقيدتي وإِيماني وتوحيدي: (ولا أشرك بربّي أحداً).

وبعد أن أشار إِلى قضية التوحيد والشرك اللذين يُعتبران مِن أهم المسائل المصيرية، جدَّد لومه لصاحبه قائلا: (ولولا إِذ دَخلت جنتك قلت ما شاء الله)(2).

فلماذا لا تعتبر كل هذه النعم مِن الخالق جلَّ وعلا، ولماذا لم تشكره عليها. ولماذا لم تقل: (لا قوة إِلاَّ بالله).

فإِذا كُنت قد هيَّأت الأرض وبذرت البذور وزرعت الغرس وربيت الأشجار، وفعلت كلَّ شيء في وقته المناسب حتى وصل الأمر إلى ما وصل إِليه;

____________________________

1 ـ كلمة (لكنّا) في الأصل كانت (لكن إنَّ) ثمّ دمجت وأصبحت هكذا.

2 ـ جمله (ما شاء الله) لها محذوف إِذ تكون مع التقدير: ما شاء الله كان، أو: ما شاء الله، فإِنَّ هذا هو الشيء الذي يريدهُ الله.

[271]

فإنَّ كل هذه الأُمور هي مِن قدرة الخالق جلَّوعلا، وقد وَضع سبحانه وتعالى الوسائل والإِمكانات تحت تصرفك، حيث أنّك لا تملك شيئاً من عندك، وبدونه تكون لا شيء!

ثمّ يقول له: ليسَ مِن المهم أن أكون أقل مِنك مالا وولداً: (إِن ترن أنا أقل منك مالا وولداً).

(فعسى ربّي أن يُؤتين خيراً مِن جنتك).

وليسَ فقط أن يُعطيني أفضل ممّا عندك، بل ويرسل صاعقة من السماء على بُستانك، فتصبح الأرض الخضراء أرض محروقة جرداء: (ويرسل عليها حسباناً مِن السماء فتصبح صعيداً زلقاً).

أو أنَّهُ سبحانه وتعالى يُعطي أوامره إلى الأرض كي تمنعك الماء: (أو يصبح ماؤها غوراً فلن تستطيع لهُ طلباً).

«حُسبان» على وزن «لقمان» وهي في الأصل مأخوذة مِن كلمة «حساب»، ثمّ وردت بعد ذلك بمعنى السهام التي تُحَسب عندَ رميها، وتأتي أيضاً بمعنى الجزاء المرتبط بحساب الأشخاص، وهذا هو ما تشير إليه الآية أعلاه.

«صعيد» تعني القشرة التي فوق الأرض. وهي في الأصل مأخوذة مِن كلمة صَعود.

«زلق» بمعنى الأرض الملساء بدون أي نباتات بحيث أنَّ قدم الإِنسان تنزلق عليها (الطريف ما يقوم به الإِنسان اليوم حيث تتمّ عملية تثبيت الأرض والرمال المتحركة، ومنع القرى مِن الإِندثار تحت هذه الرمال عند هبوب العواصف الرملية، وذلك مِن خلال زراعتها بالنباتات والأشجار، أو ـ كما يُصطلح عليه ـ إِخراجها مِن حال الزلق والإِنزلاق).

في الواقع، إِنَّ الرجل المؤمن والموحِّد حذَّر صديقه المغرور أن لا يطمأن لهذه النعم، لأنَّها جميعاً في طريقها إلى الزوال وهي غير قابلة للإِعتماد.

[272]

إِنَّهُ أراد أن يقول لصاحبه: لقد رأيت بعينيك ـ أو على الأقل سمعت بأذنك ـ كيف أنَّ الصواعق السماوية جعلت مِن البساتين والبيوت والمزروعات ـ وخلال لحظة واحدة ـ تلاًّ مِن التراب والدمار وأصبحت أرضهم يابسة عديمة الماء والكلأ.

وأيضاً سمعت أو رأيت بقيام هزة أرضية تطمس الأنهار وتُجفِّف العيون، بحيث تكون غير قابلة للإِصلاح والترميم.

وبمعرفتك لكل هذ الأُمور فَلِمَ هذا الغرور؟!

أنت الذي شاهدت أو سمعت كل هذا، فَلِمَ هذا الإِنشداد للأرض والهوى؟

ثمّ لماذا تقول: لا أعتقد أن تزول هذه النعم وأنّها باقية وخالدة; فلماذا هذا الجهل والبلاهة!!!؟

* * *

[273]

الآيات

وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يـلَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّى أَحَداً(42)وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهُِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً(43)هُنَالِكَ الْوَلـيَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً(44)

التّفسير

العاقبة السوداء:

أخيراً إنتهى الحوار بين الرجلين دون أن يُؤثر الشخص الموحِّد المؤمن في أعماق الغني المغرور، الذين رجع إلى بيته وهو يعيش نفس الحالة الروحية والفكرية، وغافل أنَّ الأوامر الإِلهية قد صدرت بإِبادة بساتينه ومزروعاته الخضراء، وأنَّهُ وَجَبَ أن ينال جزاء غروره وشركه في هذه الدنيا، لتكون عاقبته عبرة للآخرين.

ويحتمل أنَّ العذاب الإِلهي قد نزلَ في تلك اللحظة مِن الليل عِندما خيَّم الظلام، على شكل صاعقة مميتة أو عاصفة هوجاء مخيفة، أو على شكل زلزال مخرِّب ومدمِّر. وأيّاً كان فقد دُمِّرت هذه البساتين الجميلة والأشجار العالية

[274]

والزرع المثمر، حيثُ أحاط العذاب الإِلهي بتلك المحصولات مِن كل جانب: (وأحيط بثمره).

«أحيط» مُشتقّة مِن «إِحاطة» وهي في هذه الموارد تأتي بمعنى (العذاب الشامل) الذي تكون نتيجته الإِبادة الكاملة.

وعند الصباح جاء صاحب البستان وتدور في رأسه الأحلام العديده ليتفقد ويستفيد من محصولات البستان، ولكنَّهُ قبل أن يقترب منه واجههُ مَنظر مُدهش وموحش، بحيث أنَّ فمهُ بقي مفتوحاً مِن شدة التعجُّب، وعيناه توقفتا عن الحركة والإِستدارة.

لم يكن يعلم بأنَّ هذا المنظر يشاهده في النوم أم في اليقظة! الأشجار جميعها ساقطة على التراب، النباتات مُدَمَّرة، وليسَ ثمّة أي أثر للحياة هُناك!

كان الأمر بشكل وكأنَّهُ لم يكن هُناك بستان ولا أراضي مزروعة، كانت أصوات (البوم) ـ فقط ـ تدوي في هذه الخرائب، قلبه بدأ ينبض بقوّة، بهت لونه، يَبَسَ الماء في فمه، وتحطَّم الكبرياء والغرور اللذان كانا يثقلان نفسه وعقله.

كأنَّهُ صحا مِن نوم عميق: (فأصبح يُقلِّب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها).

وفي هذه اللحظة ندم على أقواله وأفكاره الباطلة: (ويقول يا ليتني لم أشرك بربّي أحداً).

والأكثر حزناً وأسفاً بالنسبة لهُ هو ما أصبح عليه مِن الوحدة في مقابل كل هذه المصائب والإِبتلاءات: (ولم تكن لهُ فئة ينصرونه مِن دون الله).

ولأنَّهُ فقد ما كان يملكهُ مِن رأس المال ولم يبقي لديه شيء آخر، فإِنَّ مصيره: (وما كان منتصراً).

لقد إنهارت جميع آماله وظنونه الممزوجة بالغرور، لقد أدت الحادثة إلى انتهاء كل شيء، فهو مِن جانب كانَ يقول: إِنّي لا أصدق بأنَّ هذه الثروة العظيمة

[275]

مِن الممكن أن تفنى، إِلاَّ أنّني رأيت فناءها بعيني!

ومِن جانب آخر فقد كان يتعامل مع رفيقه المؤمن بكبر ويقول: إِنّني أقوى مِنك وأكثر أنصاراً ومالا، ولكنَّهُ بعد هذه الحادثة اكتشف أن لا أحد ينصره!

ومِن جانب ثالث فإِنَّهُ كان يعتمد على قوته وقدرته الذاتية، ويعتقد بأنَّ غير قدرته محدودة، لكنَّهُ بعدَ هذه الحادثة، وبعد أن لم يكن بمقدوره الحصول على شيء، انتبه إلى خطئه الكبير، لأنَّهُ لم يعد يتملك شيئاً يعوضه جانباً مِن تلك الخسارة الكبرى.

وعادةً، فإنَّ الأصدقاء الذين يلتفون حولَ الإِنسان لأجلِ المال والثروة مثلهم كمثل الذباب حول الحلوى، وقد يُفكِّر الإِنسان أحياناً بالإِعتماد عليهم في الأيّام الصعبة، ولكن عندما يُصاب فيما يملك يتفرق هؤلاء الخلاّن مِن حوله، لأنَّ صداقتهم له لم تكن لرابط معنوي، بل كانت لأسباب مادية، فاذا زالت هذه الأسباب انتفت الرفقة!

وهكذا انتهي كل شيء ولا ينفع الندم، لأنّ مِثل هذِه اليقظة الإِجبارية التي تحدث عندَ نزول الإِبتلاءات العظيمة يُمكن ملاحظتها حتى عندَ أمثال فرعون ونمرود، وهي بلا قيمة، لهذا فإِنّها لا تؤثِّر على حال مَن ينتبه.

صحيح أنَّهُ ذكر عبارة (لم أشرك بربّي أحداً) وهي نفس الجملة التي كانَ قد قالها لهُ صديقه المؤمن، إِلاَّ أنَّ المؤمن قالها في حالة السلامة وعدم الإِبتلاء، بينما ردَّدها صاحب البستان في وقت الضيق والبلاء.

(هُنالك الولاية لله الحق) نعم، لقد أتضح أنَّ جميع النعم مِنهُ تعالى، وأنَّ كل ما يريده تعالى يكون طوع إِرادته، وأنَّهُ بدون الإِعتماد على لُطفه لا يمكن إِنجاز عمل: (هو خيرٌ ثواباً وخير عقباً).

إِذن، لو أراد الإِنسان أن يحب أحداً ويعتمد على شيء ما، أو يأمل بهديه مِن

[276]

شخص ما، فمن الأفضل أن يكون الله سبحانه محط أنظاره، وموقع آماله، ومِن الأفضل أن يتعلق بلطفه تعالى وإِحسانه.

* * *

بحثان

1 ـ غرور الثروة

في هذه القصّة نشاهد تجسيداً حياً لما نطلق عليه اسم غرور الثروة، وقد عرفنا أنَّ هذا الغرور ينتهي أخيراً إلى الشرك والكفر. فعندما يصل الأفراد الذين يعيشون حياتهم بلا غاية وهدف إِيماني إلى منزلة معينة مِن القدرة المالية أو الوجاهة الإِجتماعية، فإِنّهم في الغالب يُصابون بالغرور. وفي البداية يسعون إلى التفاخر بإِمكاناتهم على الآخرين ويعتبرونها وسيلة تفوّق، ويرون مِن التفاف أصحاب المصالح حولهم دليلا على محبوبيتهم، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله: (أنا أكثر منك مالا وأعز نفراً).

ويتبدّل حبّ هؤلاء للدنيا تدريجياً بفكرة الخلود فيها: (ما أظن أن تبيد هذه أبداً).

إِنَّ ظنَّهم بخلود ثرواتهم المادية يجعلهم يُنكرون المعاد للتضاد الواضح بين ما هم فيه وبين مبدأ البعث والمعاد، فيكون لسان حالهم: (وما أظن الساعة قائمة).

والأنكى مِن ذلك هو أنّهم يعتبرون مقامهم ووجاهتهم في هذه الدنيا دليلا على قرب مقامهم من محضر القدس الإِلهي، فيقولون: (وَلئن رُددتُ إلى ربّي لأجدنَّ خيراً مِنها مُنقلباً).

هذه المراحل الأربع نجدها واضحة في حياة أصحاب القدرة من عبيد الدنيا، مع فوارق نسبية فيما بينهم، فيبدأ مسيرهم الانحرافي مِن الإِغترار بما

[277]

لديهم مِن قوة وقدرة، ويتصاعد انحرافهم إلى الشرك وعبادة الأصنام والكفر وإِنكار المعاد، لأنّهم يعبدون القدرة المادية ويجعلونها صنماً دون سِواها.

2 ـ دروس وعبر

هذا المصير المقترن بالعبرة والذي ذُكِرَ هُنا بشكل سريع يتضمّن بالإِضافة إلى الدرس الآنف، دروساً أُخرى ينبغي أن نتعلمها، وهذه الدروس هي:

أ: مهما كانت نعم الدنيا المادية كبيرة وواسعة، فإِنّها غير مُطمئنة وغير ثابتة، فصاعقة واحدة تستطيع في ليلة أو في لحظات معدودة أن تُبيد البساتين والمزارع التي يكمن فيها جهد سنين طويلة مِن عمر الإِنسان، وتحيلها إلى تل مِن تراب ورماد وأرض يابسة زلقة.

إِنَّ زلزلة واحدة خفيفة يمكن أن تقضي على العيون الفّوارة التي هي الأصل في هذه الحياة، بالشكل الذي لا يمكن معهُ ترميمها أبداً.

ب: إِنَّ الأصدقاء الذين يلتفون حول الإِنسان بغرض الإِفادة مِن إِمكاناته المادية هم بدرجة من اللامبالاة وعلى قدر مِن الغدر والخيانة بحيث أنّهم يتخلّون عنهُ في نفس اللحظة التي تزول فيها إِمكاناته المادية ويتركونهُ وحيداً لهمومه: (ولم تكن لهُ فئة ينصرونه مِن دون الله).

هذا النوع مِن الأحداث الذي طالما سمعنا ورأينا لهُ نماذج تُبرهن على أنَّ الإِنسان لا يملك سوى التعلق بالله وحده، وأنَّ الأصدقاء الحقيقيين والأوفياء للإِنسان هم الذين تصنعهم الروابط والعلائق المعنوية، إِذ يستمر ودُّ هؤلاء في حال الفقر والثروة، في الشباب والشيبة، في الصحة والمرض، في العز والذلة، بل وتستمر مودّة هؤلاء إلى ما بعد الموت!

ج: لا فائدة من الصحوة بعد نزول البلاء:

لقد أشرنا مِراراً إلى أنَّ اليقظة الإِجبارية لدى الإِنسان ليست دليلا على يقظة

[278]

داخلية حقيقية هادية، وليست علامة على تغيير مسير الإِنسان، أو ندمه على أعماله السابقة وعلى ما كان فيها مِن معصية وانحراف، بل كل ما في الأمر هو أنَّ الإِنسان عندما ينزل بساحته البلاء أو يرى عمود المشنقة، أو تحيط به أمواج البلاء والعواصف، فهو يتأثر للحظات لا تتعدى مدة البلاء ويتخذ قراراً بتغيير مصيره، ولكن لأنَّهُ لا يملك أساساً متيناً في أعماقه، فإِنَّهُ بانتهاء البلاء يغفل عن صحوته هذه ويعود إلى خطّة ومسيره الأوّل.

لو تأملنا الآية (18) مِن سورة النساء لرأينا مِن خلالها أنَّ أبواب التوبة تغلق أمام الإِنسان عند رؤية علائم الموت، وسبب هذا الأمر هو ما ذكرناه أعلاه.

وفي الآيات (90 ـ 91) مِن سورة يونس يقول القرآن حول فرعون عندما صارَ مصيره إلى الغرق وعصفت بهِ الأمواج، فإِذا به يصرخ ويقول: (آمنت أنّه  لا إله إِلاّ الذي آمنت به بنو إِسرايئل) إِلاَّ أنَّ هذه التوبة تُرد عليه ولا تقبل منهُ: (الآن وقد عصيت)!

د: لا الفقر دليل الذلة ولا الثروة دليل العزة:

وهذا درس آخر نتعلمهُ مِن الآيات أعلاه، طبيعي أنَّ المجتمعات المادية والمذاهب النفعية غالباً ما تتوهم بأنَّ الفقر والثروة هما دليل الذلة والعزة، لهذا السبب لاحظنا أنَّ مُشركي العصر الجاهلي يعجبون مِن يتمّ رسول الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)وفقره ويقولون: (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل مِن القريتين عظيم)(1).

هـ : أسلوب تحطيم الغرور:

عندما تبدأ بواعث الغرور تقترب مِن الإِنسان وتناجي أعماقه بسبب المال والمنصب، فيجب عليه أن يقطع تلك الوسوسة مِن جذورها، عليه أن يتذكر ذلك اليوم الذي كانَ فيه تراباً لا قيمة له; وذلك اليوم الذي كان فيه نطفة لا قيمة لها، عليه أن يعي اللحظة التي كان فيها وليداً ضعيفاً لا يقدر على الحركة.

____________________________

1 ـ الزخرف، 31.

[279]

لاحظنا القرآن في الآيات الآنفة كيف يعيد مِن خلال خطاب الرجل المؤمن، صاحب البستان إِلى وضعه العادي: (أكفرت بالذي خلقك مِن تراب ثمّ مِن نطفة ثمّ سوّاك رجلا).

و: درسٌ مِن عالم الطبيعة:

القرآن عندما يصف البساتين المثمرة يقول: (ولم تظلم منهُ شيئاً) ولكنَّهُ عندما يتحدث عن صاحب البستان يقول: (ودخل جنته وهو ظالم لنفسه).

يعني: أيّها الإِنسان، أنظر إلى الوجود مِن حولك، ولاحظ أنَّ هذه الأشجار المثمرة والزراعة المباركة كيف آتت كل ما عندها بأمانة وقدمته لك، فلا مجال عندها للإِحتكار والحسد والبخل، فعالم الوجود هو ساحة للإِيثار والبذل والعفو، فما تمتلكهُ الأرض تقدمهُ بإِيثار إلى الحيوانات والنباتات، وتضع الأشجار والنباتات كل ثمارها ومواهبها في إِختيار الإِنسان والأحياء الأُخرى، وقرص الشمس يضعف يوماً بعد آخر وهو يشع النور والدفء والحرارة; الغيوم تمطر والرياح تهب، لتتسع أمواج الحياة في كل مكان.

هذا هو نظام الوجود، ولكنّك أيّها الإِنسان تريد أن تكون سيد الوجود ومع ذلك تسحق قوانينه الثابتة البيِّنة. فتكون رقعة نشاز غير متناسقة في عالم الوجود تريد أن تستحوذ على كل شيء وتصادر حقوق الآخرين!

* * *

[280]

الآيتان

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا كَمَآء أَنْزَلْنـهُ مِنَ السَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَْرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الْرِّيـحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْء مُّقْتَدِراً(45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَالْبـقَيـتُ الصَّـلِحـتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وخَيْرٌ أَمَلا(46)

التّفسير

بداية ونهاية الحياة في لوحة حيَّة:

الآيات السابقة تحدَّثت عن عدم دوام نعم الدنيا، ولأنَّ إِدراك هذه الحقيقة لعمر بطول (60 ـ80) سنة يُعتبر أمراً صعباً بالنسبة للأفراد العاديين، لذا فإِنَّ القرآن قد جسَّدَ هذه الحقيقة مِن خلال مثال حي ومُعبِّر كي يستيقظ الغافلون المغرورون مِن غفلتهم ونومهم عندما يشاهدون تكرار هذا الأمر عدّة مرّات خلال عمرهم.

يقول تعالى: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه مِن السماء) هذه القطرات الواهبة للحياة تسقط على الجبال والصحراء، وتعيد الحياة للبذور

[281]

المستعدة الكامنة في الأرض المستعدَّة بدورها، لتبدأ حركتها التكاملية.

إِنَّ الطبقة الخارجية السميكة للبذور تلين قبال المطر، وتسمح للبراعم في الخروج منها، وأخيراً تشق هذِ البراعم التراب وتخترقه، الشمس تشع، النسيم يهب، المواد الغذائية في الأرض تقدِّم ما تستطيع، تتقوى البراعم بسبب عوامل الحياة هذه ثمّ تُواصل نموها، بحيث ـ بعد فترة ـ نرى أن نباتات الأرض تتشابك فيما بينها: (فاختلط به نبات الأرض).

الجبل والصحراء يتحولان إلى قوّة حياتية دافعة، أمّا البراعم والفواكه والأوراد فإِنّها تزيِّن الأغصان، وكأنَّ الجميع يضحك، يصرخون صُراخ الفرح; يرقصون فرحاً!

لكن هذا الواقع الجذّاب لا يدوم طويلا، حيث تهب رياح الخريف وتلقي بغبار الموت على النباتات، يبرد الهواء، وتشح المياه، ولا تمضي مدّة حتى يمسى ذلك الزرع الجميل الأخضر ذو الأغصان المورقة، ميتاً ويابساً:(فأصبحَ هشيماً)(1).

تلك الأوراق التي لم تتمكن العواصف الهوجاء مِن فصلها عن الأغصان في فصل الربيع، قد أصبحت ضعيفة بدون روح بحيث أنَّ أي نسيم يهب عليها يستطيع فصلها عن الأغصان ويرسلها إلى أي مكان شاء: (تذروه الرياح)(2).

نعم: (وكانَ الله على كل شيء مُقتدراً).

الآية التي بعدها تذكر وضع المال والثروة والقوة الإِنسانية اللذين يعتبران ركنين أساسيين في الحياة الدنيا، حيثُ تقول: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا).

إِنَّ هذه الآية ـ في الحقيقة ـ تُشير إلى أهم قسمين في رأسمال الحياة حيثُ ترتبط الإشياء الأُخرى بهما، إِنّها تشير إلى (القوّة الإِقتصادية) و (القوّة الإِنسانية)

____________________________

1 ـ «هشيم» مِن «هشم» بمعنى محطَّم، وهي هُنا تطلق على النباتات المتيبسة والمتحطِّمة.

2 ـ «تذوره» مِن «ذرو» وتعني التشتيت.

[282]

لأنَّ وجودهما ضروري لتحقيق أي هدف مادي، خاصّة في الأزمنة السابقة إِذ كان من يملك أبناء أكثر يعتبر نفسهُ أكثر قوة، لأنَّ الأبناءهم رُكن القوّة، وقد وجدنا في الآيات السابقة أنَّ صاحب البستان الغني كان يتباهى بأمواله وأعوانه على الآخرين ويقول: (أنا أكثر منك مالا وأعز نفراً).

لذا فإِنّهم كانوا يعتمدون على «البنين» جمع (ابن) والمقصود به الولد الذكر، حيث كانوا يعتبرون الولد رأسمال القوّة الفعّالة للإِنسان، وبالطبع ليسَ للبنات نفس المركز أو المقام.

المهم أنَّ (المال والبنون) بمثابة الورد والبراعم الموجودة على أغصان الشجر، إِنّها تزول بسرعة ولا تستمر طويلا، وإِذا لم تستثمر في طريق المسير إلى (الله) فلا يُكتب لها الخلود، ولا يكون لها أدنى اعتبار.

ورأينا أنَّ أكثر الأموال ثباتاً ودواماً والمتمثلة في البستان والأرض الزراعية وعين الماء قد أبيدت خلال لحظات.

وفيما يخص الأبناء; فبالإِضافة إلى أنَّ حياتهم وسلامتهم معرَّضة للخطر دائماً، فهم يكونون في بعض الأحيان أعداءً بدلا مِن أن يكونوا عوناً في إِجتياز المشاكل والصعوبات.

ثمّ يُضيف القرآن: (والباقيات الصالحات خيرٌ عِندَ ربِّك ثواباً وخيرٌ أملا).

بالرغم مِن أنَّ بعض المفسّرين أرادوا حصر مفهوم (الباقيات الصالحات) في دائرة خاصّة مِثل الصلوات الخمس أو ذكر: سبحان الله والحمد لله ولا إِله إِلاّ الله والله أكبر، وأمثال هذه الأُمور، إِلاَّ أنَّ الواضح أنَّ هذا التغيير هو مِن السعة بحيث يشمل كل فكره وقول وعمل صالح تدوم وتبقى آثاره وبركاته بين الأفراد والمجتمعات.

فإِذا رأينا في بعض الرّوايات أنّ الباقيات الصالحات تفسّر بصلاة الليل، أو مودة أهل البيت(عليهم السلام)، فإِن الغرض مِن ذلك هو بيان المصداق البارز، وليسَ تحديد

[283]

المفهوم ، خاصّة وإِن بعض هذه الرّوايات استخدمت فيها كلمة (من) التي تدل على التبعيض.

فمثلا في رواية عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنَّهُ قال: «لا تستصغر مودّتنا فإِنّها مِن الباقيات الصالحات».

وفي حديث آخر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) نقرأ قوله: «لا تتركوا التسبيحات الأربع فإنّها مِن الباقيات الصالحات».

وحتى الأموال المتزلزلة أو الأبناء الذين يكونون احياناً فتنة وإِختباراً، إذ استخدمت في مسير الله تبارك وتعالى فإِنّها ستكون من الباقيات الصالحات، لأنَّ الذات المقدسة الإِلهية ذات أبدية، فكل ما يرتبط بها ويسير نحوها سيكتب له البقاء والابدية.

* * *

بحوث

1 ـ المغريات

مرّة أُخرى توظّف الآيات أعلاه دور المثال في تجسيد المعاني واستيعابها. إِنَّ القرآن ـ من خلال مثل واحد ـ يعكس مجموعة مِن الحقائق العقلية التي قد يكون مِن الصعب دركها مِن قبل الكثير مِن الناس.

يقول للناس: إِنَّ دورة حياة النبات وموته تتكرَّر أمّا أعينكم في كل سنة مرَّة، فإِذا كان عمر الإِنسان (60) سنة فإِنَّ هذا المشهد يتكرر أمامكم (60) مرَّة.

إِذا ذهبتم في الربيع إلى الصحراء فستشاهدون تلك المناظر الجميلة والتي يدل كل ما فيها على الحياة، ولكن لو ذهبتم في الخريف إلى نفس تلك الأماكن فسوف ترون الموت ينشر أجنحته في كل مكان.

إِنَّ مثل الإِنسان في حياته كمثل النبتة، فهو في يوم كان طفلا كالبرعم، ثمّ

[284]

أصبح شاباً كالوردة المملوءة طراوة، ثمّ يُصبح كهلا ضعيفاً كالنبتة الذابلة اليابسة ذات الأوراق الصفراء، ثمّ إِنَّ عاصفة الموت تحصد هذا الإِنسان لينتشر بعد فترة تراب جسده المتهريء ـ بواسطة العواصف ـ إلى مُختلف الإِتجاهات والأماكن.

ولكن قد تنتهي دورة الحياة بصورة غير طبيعية، بمعنى أنّها لا ترتقي إلى نهاية شوطها، إِذ مِن الممكن أن تنتهي في مُنتصف الشوط بواسطة صاعقة أو عاصفة كما في قوله تعالى في الآية (24) مِن سورة يونس: (إِنّما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه مِن السماء فاختلطَ بهِ نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إِذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظنَّ أهلها أنّهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس).

وفي بعض الأحيان لا تكون الحوادث سبباً لفناء الحياة في مُنتصف دورة الحياة، بل يستمر السير الطبيعي حتى النهاية، أي وصولا إلى مرحلة الذبول والتشتت والفناء كما أشارت إلى ذلك الآية التي نبحثها.

في كل الأحوال تنتهي الحياة الدنيا ـ سواء في الطريق الطبيعي أو غير الطبيعي ـ إلى الفناء الذي يحل بساحة الإِنسان عاجلا أم آجلا.

2 ـ عوامل تحطيم الغرور

قُلنا: إِنَّ الكثير مِن الناس عندما يحصلون على الإِمكانات المادية والمناصب يُصابون بالغرور، وهذا الغرور هو العدو اللدود لسعادة الإِنسان، وفي الآيات السابقة رأينا كيف أنَّ الغرور يؤدي إلى الشرك والكفر.

ولأنَّ القرآن كتاب تربوي عظيم، فهو يستفيد مِن عدة طرق لتحطيم الغرور.

ففي بعض الأحيان يجسِّد لنا أنَّ الفناء هو نهاية الثروات المادية كما في الآيات أعلاه.

وفي أحيان أُخرى يُحذِّر مِن إِمكانية تحوُّل الثروات والاولاد إلى عدو

[285]

للإِنسان (كما في الآية 55 مِن سورة التوبة).

وفي مرّات يحذِّر الناس ويوقظ فيهم حسهم الوجداني، عندما يستعرض أمامهم عاقبة المغرورين في التأريخ مِن أمثال فرعون وقارون.

وقد رأينا القرآن يعالج إِحساس الإنسان بالغرور مِن خلال تذكيره بماضيه، عندما كان نطفة عديمة الأهمية أو تراباً لا يُذكر، ثمّ يُجسِّد لهُ مستقبلهُ وما هو صائر إليه كي يعرف أنَّ الغرور بين حَدِّي الضعف هَذين يُعتبر عملا جنونياً (كما في الآية 6 مِن سورة الطارق، والآية 8 مِن سورة السجدة، والآية 38 مِن سورة القيامة).

وبهذه الصورة حاول القرآن توظيف أي أُسلوب ووسيلة لمعالجة عوامل الغرور في شخصية الإِنسان، هذه الصفة الشيطانية التي هي مصدر الكثير مِن الجرائم في طول التأريخ.

ولكن مِن المسلَّم به أنَّ المؤمنين الحقيقيين لا يُصابون بهذه الخصلة القبيحة عند الوصول إلى مَنصب أو ثروة، ليسَ هذا وحسب، بل ترى أنَّهُ لا يحدث أدنى تغيير في برنامج حياتهم، إِذ يعتبرون كل هذه الأُمور عبارة عن زينة عابرة، وبضاعة زائلة، ومصيرها إلى فناء عندما تهب أدنى عاصفة.

* * *


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=790
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18