• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الخامس) ، تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي .
                    • الموضوع : سورة الاعراف من آية 44 ـ 79 من ( 50 ـ 104 ) .

سورة الاعراف من آية 44 ـ 79 من ( 50 ـ 104 )

[50]

الآيتان

وَنَادَى أَصْحَبُ الْجَنَّةِ أَصْحَـبَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهلْ وَجَدتُم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقَّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّلمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالاَْخِرَةِ كَـفِرُونَ(45)

التّفسير

بعد البحث في الآيات السابقة حول مصير أهل الجنّة وأهل النّار، أشار هنا إلى حوار هذين الفريفين في ذلك العالم، ويستفاد من ذلك أنّ أهل الجنّة وأهل النّار يتحادثون بينهم وهم في مواقعهم في الجنّة أو النّار.

فيقول أوّلا: (ونادى أصحابُ الجنّة أصحابَ النّار أن قد وجدنا ما وَعَدَنا ربُّنا حقّاً فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقاً).

فيجيبهم أهل النّار قائلين: نعم وجدنا كل ذلك. عين الحقيقة (قالوا: نعم).

ويجب الإِلتفات إلى أن (نادى) وإن كان فعلا ماضياً، إلاّ أنّه هنا يعطي معنى المضارع، ومثل هذه التعابير كثيرة في القرآن الكريم، حيث يذكر الحوادث التي تقع فى المستقبل حتماً بصيغة الفعل الماضي، وهذا يعدّ نوعاً من التأكيد، يعني أنّ

[51]

المستقبل واضح جدّاً، وكأنّه قد حدث في الماضي وتحقق.

على أنّ التعبير بـ «نادى» الذي يكون عادةً للمسافة البعيدة، يصوّر بُعد المسافة المقامية أو المكانية بين هذين الفريقين.

وهنا يمكن أن يطرح سؤال وهو: وما فائدة حوار هذين الفريقين مع أنّهما يعلمان بالجواب؟

وجواب هذا السؤال معلوم، لأنّ السؤال ليس دائماً للحصول على المزيد من المعلومات، بل قد يتّخذ أحياناً صفة العتاب والتوبيخ والملامة، وهو هنا من هذا القبيل. و هذه هي واحدة من عقوبات العصاة والظالمين الذين عندما كانوا يتمتعون بلذائذ الدنيا، حيث كانوا يؤذون المؤمنين بالعتابات المرّة، والملامات المزعجة، فلابدّ ـ في الآخرة ـ أن ينالوا عقاباً من جنس عملهم كنتيجة طبيعة لفعلهم، ولهذا الموضوع نظائر في سور القرآن المختلفة، منها ما في آخر سورة المطففين.

ثمّ يضيف تعالى بأنّه في هذا الوقت بالذات ينادي مناد بنداء يسمعه الجميع: أن لعنة الله على الظالمين (فأذّنَ مُؤَذِّن بينهم أن لعنة الله على الظالمين).

ثمّ يعرّف الظالمين ويصفهم بقوله: (الذين يصدّون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالآخرة كافرون)(1).

ومن الآية الحاضرة يستفاد مرّة أُخرى أنّ جميع الإنحرافات والمفاسد قد إجتمعت في مفهوم «الظلم» وللظالم مفهوم واسع يشمل جميع مرتكبي الذنوب، والآثام، وخصوصاً الضالون المضِلُّون.

_____________________________

1 ـ يبغونها عوجاً بمعنى يطلبونها عوجاً، أي أنّهم يرغبون ويجتهدون في أن يضلوا الناس بإلقاء الشبهات والدعايات المسمومة عن الطريق المستقيم. كما أنّ الراغب قال في «المفردات»: عَوج (بفتح العين) يعني الإعوجاج الحسي، وعوج بكسر العين يطلق على الإعوجاجات التي تدرك بالفكر والعقل، ولكن هذا التفصيل لا ينسجم مع ظاهر طائفة من الآيات القرآنية مثل الآية (107) من سورة طه (فتأمل بدقّة).

[52]

من هو المُؤذِّن! والمنادي؟

مَن هو هذا المؤذن الذي يسمعه الجميع؟ وفي الحقيقة له سيطرة وتفوق على جميع الفرقاء والطوائف؟

لا يستفاد من الآية شيء في هذا المجال، ولكن جاء في الأحاديث الإسلامية المفسّرة والموضّحة لهذه الآية، تفسير المؤذّن بأمير المؤمنين علي(عليه السلام).

روى الحاكم أبوالقاسم الحسكاني ـ الذي هو من علماء أهل السنّة بسنده عن «محمّد بن الحنفية» عن علي(عليه السلام) أنّه قال: «أنا ذلك المؤذّن».

وهكذا روى بسنده عن «ابن عباس» أنّ لعلّي(عليه السلام) أسماء في القرآن الكريم لا يعرفها الناس، منها «المؤذّن» في قول الله تعالى: (فأذن مؤذنُ بينهم) فهو الذي ينادي بين الفريفين أهل الجنّة وأهل النّار، ويقول: «ألا لعنة الله على الذين كذبوا بولايتي واستخفّوا بحقّي»(1).

ولقد رويت روايات وأحاديث متعددة مماثلة بطرق الشيعة، منها ما رواه الصّدوق(رحمه الله) بسنده عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنّ أميرالمؤمنين(عليه السلام) خطب بالكوفة منصرفه في نهروان، وبلغه أنّ معاوية يسبّه ويعيبه ويقتل أصحابه، فقام خطيباً (إلى أن قال): «وأنا المؤذن في الدنيا والآخرة، قال الله عزَّوجلَّ (فأذن مؤذن بينهم أن لعنة اللّه على الظالمين) أنا ذلك المؤذن، وقال: (وأذان من اللّه ورسوله) أنا ذلك الأذان»(2).

ونحن نرى أنّ السبب في انتخاب أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) مؤذناً ومنادياً في ذلك الوقت هو:

أوّلا: لأنّه كان له مثل هذا المنصب من قبل الله والنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في الدنيا أيضاً، فهو بعد فتح مكّة كلّف من جانب الله بأن يتلو الآيات الأُولى من سورة البراءة على

_____________________________

1 ـ مجمع البيان عند الآية المطروحة هنا.

2 ـ تفسير البرهان، المجلد الثّاني، الصفحة 17.

[53]

مسامع الناس بصوت عال في موسم الحج، تلك الآيات التي تبدأ بقوله: (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أنّ الله بريء من المشركين ورسوله)(1).

ثانياً: إنّ موقف الإمام علي(عليه السلام) طوال حياته الشريفة كان موقف المكافحة للظلم، والنضال ضدالظالمين، حتى أنّ دفاعه عن المظلوم وعداءه للظالم وخاصّة مع ملاحظة ظروف عصره لتسطع في الصفحات البارزة من تأريخه.

أفليست الحياة في العالم الآخر هي نوع من تجسم كبير وواسع ومتكامل لحياة البشر في هذا العالم؟ وكلاهما بالتالي وجهان لعملة واحدة.

فإذا كانت هذه حقيقة من الحقائق، لم يبق أي مجال لإستغراب أن يكون مؤذن ذلك اليوم، والذي يلعن الظالمين في مكان بين الجنّة والنّار، بأمر من الله والنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هو على(عليه السلام).

من هذا يتّضح الجواب والردّ على ما كتبه كاتب «المنار» الذي شكك في كون هذا المقام لعلي(عليه السلام) فضيلة، إذ يقول: ولو كنّا نعقل لإسناد هذا التأدين إليه كرم الله وجهه معنىً يعدُّ به فضيلة أو مثوبة عند الله تعالى لقبلنا الرّواية بما دون السند الصحيح.(2)

إذ يجب أن نقول له: كما أنّ النيابة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في إبلاغ سورة البراءة في موسم الحج تعتبر من أكبر فضائله(عليه السلام)، وكما أنّ مكافحته للظالمين والجائرين تعتبر من أبرز فضائله، يكون حمله لهذه المهمّة في القيامة والذي يعد استمراراً لنفس ذلك البرنامج فضيلة طاهرة له أيضاً.

كما يتّضح ممّا قلناه ـ أيضاً ـ الردّ على ما كتبه «الآلوسي» كاتب تفسير «روح المعاني» الذي قال: ورواية الإمامية عن الرضا وابن عباس أنّه علي كرم الله تعالى

_____________________________

1 ـ التوبة، 3.

2 ـ تفسير المنار، ج 8، ص 426.

[54]

وجهه ما لم يثبت من طريق أهل السنّة(1).

لأن هذا الحديث ـ كما أسلفنا ـ نقله علماء الفريقين السنة والشيعة كلاهما في كتبهم ومصنفاتهم، فلا مجال للتشكيك في صدوره.

* * *

_____________________________

1 ـ روح المعاني، ج 8، ص 123.

[55]

الآيات

وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الاَْعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَـبَ الْجَنَّةِ أَن سَلَـمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَـرُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَـبِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَومِ الظَّلِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحبُ الاَْعْرَافِ رِجَالا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَهُمْ قَالُوا مَآ أغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أقْسَمْتُمْ لاَ يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَة ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)

التّفسير

الأعراف معبر مهم إلى الجنّة:

عقيب الآيات السابقة التي بيّنت جانباً من قصّة أهل الجنّة وأهل النّار، تحدث في هذه الآيات حول «الأعراف» التي هي منطقة في الحد الفاصل بين الجنّة والنّار مع خصوصياتها.

[56]

وفي البداية يشير إلى الحجاب الذي أقيم بين أهل الجنّة وأهل النّار، إذ يقول: (وبينهما حجاب).

ويستفاد من الآيات اللاحقة أنّ الحجاب المذكور هو «الأعراف» وهو مكان مرتفع بين الفريقين يمنع من رؤية كل فريق الفريق الآخر، ولكن وجود مثل هذا الحجاب لا يمنع من أن يسمع كل منهما صوت الآخر ونداءه، كما مرّ في الآيات السابقة.

فلطالما رأينا جيرة يتحادثون من وراء الجدار، ويستجلي أحدهما حال الآخر دون أن يراه، على أنّ الذين يقفون على الأعراف، أي على الأقسام المرتفعة من هذا المكان المرتفع، يرون كلا الفريقين (تأملوا جيداً).

ويستفاد من بعض آيات القرآن الكريم، مثل الآيه (55) من سورة الصافات، أن أهل الجنّة ربّما تطّلعوا من أماكنهم وشاهدوا أهل النّار، ولكن مثل هذه الموارد الإستثنائية لا تنافي ما عليه وضع الجنّة والنّار أساساً، وإنّ ما قلناه آنفا يعكس ويصور الكيفية لهذين المكانين، وإن كان لهذا القانون ـ أيضاً ـ بعض الإستثناءات، فيمكن أن يشاهد بعض أهل الجنّة أهل النّار في شرائط خاصّة.

إنّ ما يجب أن نذكر به مؤكدين قبل الخوض في بيان كيفية الأعراف هو أن التعابير الواردة حول القيامة والحياة الأُخرى لا تستطيع ـ بحال ـ أن تكشف القناع عن جميع خصوصيات تلكم الحياة، بل للتعابير ـ أحياناً ـ صفة التشبيه والتمثيل.

وأحياناً تكشف بعض تلك التعابير عن مجرّد شبح في هذا المجال، لأنّ الحياة في ذلك العالم تكون في آفاق أعلى، وهي أوسع بمراتب كثيرة من الحياة في هذا العالم، تماماً مثل سعة الحياة الدنيا هذه بالقياس إلى عالم الرحم والجنين. وعلى هذا فلا عجب إذا كانت الألفاظ والمفاهيم المتداولة في هذا العالم لا تستطيع أن تعكس بصورة كاملة ومعبّرة تلك المفاهيم.

[57]

ثمّ إنّ القرآن الكريم يقول: (وعلى الأعراف رجال يعرفون كلاًّ بسيماهم)يرون كلاًّ من أهل الجنّة وأهل النّار ويعرفونهم بملامح وجوههم.

و «الأعراف» في اللغة جمع «عرف» بمعنى المحل والموضع المرتفع، ولهذا يطلق على شعر ناصية الفرس، والريش الموجود على عنق الديك لفظ العُرف، فيقال «عرف الفرس» أو «عرف الديك»، ومن هذا المنطلق يطلق على المكان المرتفع من البدن لفظ العرف أيضاً (وسوف نتحدث بتفصيل حول خصوصيات منطقة الأعراف التي جاء ذكرها في هذه الآية بعد الفراغ من تفسير الآيات).

ثمّ يقول: إنّ هؤلاء الرجال ينادون أهل الجنّة ويسلّمون عليهم، ولكنّهم لا يدخلون الجنّة وإن كانوا يرغبون في ذلك (ونادوا أصحاب الجنّة أن سلام عليكم. لم يدخلوها وهم يطمعون).

ولكن عندما ينظرون إلى الطرف الآخر ويشاهدون أهل النّار يصطلون فيها، يتضرعون إلى الله طالبين أن لا يجعلهم مع الظالمين (وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النّار قالوا ربّنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين)(1).

والجدير بالذكر أنّه استخدم في رؤية أهل النّار في الآية لفظة (وإذا صرفت أبصارهم) يعني عندما تعطف أبصارهم نحو جهنم لمشاهدة أهلها، وهذه إشارة إلى أنّهم يكرهون مشاهدة أهل النّار، وكأنّ نظرهم إليهم مقرون بالإكراه والإجبار.

وفي الآية اللاحقة يضيف: إنّ أصحاب الأعراف ينادون فريقاً من الجهنميين الذين يعرفونهم بملامح وجوههم ويلومونهم قائلين: أمّا ترون أنّ جمعكم للأموال والأفراد والتجبّر والتكبّر عن قبول الحق لم ينفعكم شيئاً، فأين تلك الأموال و أُولئك الأعوان؟ وماذا حصدتم من تلك المواقف والصفات السيّئة؟! (ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم، وما كنتم

_____________________________

1 ـ «تلقاء» في الأصل ـ حسب قول بعض المفسّرين وأهل الأدب ـ مصدر، وهو بمعنى المقابلة، ولكن استعمل فيما بعد في معنى ظرف المكان، أي في المكان المقابل والمحاذي.

[58]

تستكبرون).

ومرّة أُخرى يقولون موبخين ومعاتبين، وهم يشيرون إلى جمع من ضعفاء المؤمنين المستقرين فوق الأعراف: (أهؤلاء الذين اقسمتم لا ينالهم الله برحمة).

وفي المآل تشمل الرحمة الإلهية هذه الطائفة من ضعفاء المؤمنين، ويقال لهم (ادخلوا الجنّة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون).

من كل ما قلنا اتضح أنّ المراد من ضعفاء المؤمنين هم الذين آمنو وعملوا الصالحات، ولكنّهم بسبب تورطهم في بعض الذنوب كانوا موضع ازدراء من قبل أعداء الحق في الدنيا، وكانوا يركزون على هؤلاء ويقولون: كيف يمكن لمثل هؤلاء أن تشملهم الرحمة الإلهية؟ وكيف يمكن لمثل هؤلاء أن يسعدوا؟ ولكن روح الإيمان والحسنات التي كانت عندهم فعلت فعلتها ـ في المآل ـ وفي ظلّ اللطف الرّباني والرحمة الإلهية، فسعدوا ودخلوا الجنّة.

من هم أصحاب الأعراب:

«الأعراف» في الأصل ـ و كما أسلفنا ـ منطقة مرتفعة، ويتّضح في ضوء القرائن التي وردت في آيات القرآن وأحاديث أئمّة الإسلام، أنّه مكان خاص بين قطبي السعادة والشقاء، أي الجنّة والنّار. وهو كحجاب حائل بين هذين، أو كأرض مرتفعة فصلت بين هذين الموضعين بحيث يشرف من يقف عليها على الجنّة والنّار، ويشاهد كلا الفريقين، ويعرفهم بوجوههم المبيضة أو المسودة، المشرقة أو المظلمة المكفهرة.

والآن لنرى من هم الواقفون على الأعراف؟ ومن هم أصحاب الأعراف؟

إنّ دراسة الآيات الأربع المبحوثة هنا تفيد أنّه ذكر لهؤلاء الأشخاص نوعين متناقضين مختلفين من الصفات.

فقي الآية الأُولى والثّانية وصف الواقفون على الأعراف بأنّهم يتمنون أن

[59]

يدخلوا الجنّة، ولكنّ ثمّة موانع تحول دون ذلك، وعندما ينظرون إلى أهل الجنّة يحيونهم ويسلمون عليهم ويودون لو يكونون معهم، ولكنّهم لا يستطيعون فعلا أن يكونوا معهم، وعندما ينظرون إلى أهل النّار يستوحشون ممّا آلوا إليه من المصير، ويتعوذون بأنّه من ذلك المصير، ومن أن يكونوا منهم.

ولكن يستفاد من الآية الثّالثة والرّابعة بأنّهم أفراد ذوو نفوذ وقدرة، يوبخون أهل النّار ويعاتبونهم، ويساعدون الضعفاء في الأعراف على العبور إلى منزل السعادة.

وقد قسمت الرّوايات الواردة في هذا المجال أهل الأعراف الى هذين الفريقين المختلفين أيضاً.

ففي بعض الأحاديث الواردة عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) نقرأ: «نحن الأعراف»(1) أو عبارة: «آل محمّد هم الأعراف»(2) وما شابه هذه التعابير.

ونقرأ في طائفة أُخرى عبارة: «هم أكرم الخلق على الله تبارك وتعالى»(3) أو «هم الشهداء على الناس والنّبيون شهداؤهم»(4) وروايات أُخرى تحكي أنّهم الأنبياء والأئمّة والصلحاء والأولياء.

ولكن طائفة أُخرى مثلما ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) تقول: «هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فإن أدخلهم النّار فبذنوبهم، وإن أدخلهم الجنّة فبرحمته».(5)

وثمّة روايات متعددة أُخرى في تفاسير أهل السنة قد رويت عن «حذيفة» و «عبدالله بن عباس» و «سعيد بن جبير» وأمثالهم بهذا المضمون(6).

_____________________________

1 ـ تفسير البرهان، المجلد الثاني، الصفحة 17 و18 و19.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ المصدر السابق.

4 ـ نورالثقلين، المجلد الثّاني، الصفحة 33 و 34.

5 ـ تفسير البرهان، المجلد الثّاني، الصفحة 17.

6 ـ تفسير الطبري، المجلد 7، الصفحة 137 و 138 عند تفسير الآية.

[60]

ونرى في هذه التفاسير أيضاً مصادر تفيد أنّ أهل الأعراف هم الصلحاء والفقهاء والعلماء أو الملائكة.

وبالرغم من أنّ ظاهر الآيات وظاهر هذه الرّوايات تبدو متناقضة في بدو النظر، ولعله لهذا السبب أبدى المفسّرون في هذا المجال أراءً مختلفة، ولكن مع التدقيق والإمعان يتّضح أنّه لا يوجد أي تناقض ومنافاة، لا بين الآيات ولا بين الأحاديث، بل جميعها تشير إلى حقيقة واحدة.

وتوضيح ذلك: إنّه يستفاد من مجموع الآيات والرّوايات ـ كما أسلفنا ـالأعراف معبر صعب العبور على طريق الجنّة والسعادة الأبدية.

ومن الطبيعي أنّ الأقوياء الصالحين والطاهرين هم الذين يعبرون هذا المعبر الصعب بسرعة، أمّا الضعفاء الذي خلطوا عملا صالحاً وآخر سيئاً فيعجزون عن العبور.

كما أنّه من الطبيعي أيضاً أن تقف قيادات الجموع وسادة القوم عند هذه المعابر الصعبة مثل القادة العسكريين الذين يمشون في مثل هذه الحالات في مؤخرة جيوشهم ليعبر الجميع. يقفون هناك ليساعدوا ضعفاء الإيمان، فينجو من يصلح للنجاة ببركة مساعدتهم ومعونتهم ونجدتهم.

وعلى هذا الأساس، فأصحاب الأعراف فريقان: ضعفاء الإيمان والمتورطون في الذنوب الذين هم بحاجة إلى الرحمة، والأئمّة السادة الذين يساعدون الضعفاء في جميع الأحوال.

وعلى هذا فإن الطائفة الأُولى من الآيات والأحاديث تشير إلى الفريق الأوّل من الواقفين على الأعراف، وهم الضعفاء، والطائفة الثّانية منها تشير إلى الفريق الثّاني من أصحاب الأعراف، وهم السادة والأنبياء والأئمّة والصلحاء.

ونرى في بعض الرّوايات ـ أيضاً ـ شاهداً واضحاً وجلياً على هذا الجمع مثل الحديث المنقول عن الإمام الصّادق(عليه السلام) الذي قال فيه: «الأعراف كثبان بين الجنّة

[61]

والنّار، والرجال الأئمّة يقفون على الأعراف مع شيعتهم وقد سبق المؤمنون إلى الجنّة بلا حساب». ويقصد من الشيعة الذي يقفون مع الأئمّة على الأعراف العصاة منهم.

ثمّ يضيف قائلا: «فيقول الأئمّة لشيعتهم من أصحاب الذنوب: انظروا إلى إخوانكم في الجنّة قد سبقوا إليها بلا حساب، وهو قوله تبارك وتعالى: (سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون) ثمّ يقال: انظروا إلى أعدائكم في النّار، وهو قوله تعالى: (وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النّار قالوا ربّنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين)ثمّ يقولون لمن في النّار من أعدائهم: هؤلاء شيعتي وإخواني الذين كنتم أنتم تختلفون (تحلفون) في الدنيا أن لا ينالهم الله برحمة، ثمّ تقول الأئمّة لشيعتهم: ادخلوا الجنّة لا خوف عليكم وأنتم تحزنون(1).

ونظير هذا المضمون روي في تفاسير أهل السنة عن حذيفة عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)(2).

ونكرر مرّة أُخرى هنا أنّ الحديث حول تفاصيل وجزئيات القيامة وخصوصيات الحياة في العالم الآخر أشبه بما لو أننا أردنا أن نصف شبحاً من بعيد، في حين أنّ بين ذلك الشبح وبين حياتنا تفاوتاً واسعاً واختلافاً كبيراً، فما نفعله في هذه الصورة هو أنّنا نستطيع بألفاظنا المحدودة والقاصرة أن نشير إليه إشارة ناقصة قصيرة.

هذا، والنقطة الجديرة بالإلتفات هي أنّ الحياة في العالم الآخر مبتنية على أساس النماذج والعيّنات الموجودة في هذه الدنيا، فهكذا الحال بالنسبة إلى الأعراف، لأنّ الناس في هذه الدنيا ثلاث فرق: المؤمنون الصادقون الذين وصلوا إلى الطمأنينة الكاملة في ضوء الإيمان، ولم يدخروا وسعاً في طريق المجاهدة.

_____________________________

1 ـ تفسير البرهان، المجلد الثّاني، الصفحة 19 و 20.

2 ـ تفسير الطبري، ج8 الصفحة، 142 و 143.

[62]

والمعاندون وأعداء الحق المتصلبون المتمادون في لجاجهم الذين لا يهتدون بأية وسيلة. والفريق الثّالث هم الذين يقفون في هذا الممر الصّعب عبوره ـ في الوسط بين الفريقين، وأكثر عناية القادة الصادقين وأئمّة الحق موجهة إلى هؤلاء، فهم يبقون إلى جانب هؤلاء، ويأخذون بأيديهم لإنقاذهم وتخليصهم من مرحلة الأعراف ليستقروا في صف المؤمنين الحقيقيين.

ومن هنا يتّضح أن تدخّل الأنبياء والأئمّة في انقاذ هذا الفريق في الآخرة كتدخلهم لذلك في الدنيا لا ينافي أبداً قدرة الله وحاكميته على كل شيء، بل كل ما يفعلونه إنّما هو بإذن الله تعالى وأمره.

* * *

[63]

الآيتان

وَنَادَى أَصْحَـبُ النَّارِ أَصْحَـبَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ المَآءِ أَوْ ممّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَـفِرينَ(50)الَّذِينَ اتّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيوةُ الدُّنيَا فَالْيَوْمَ نَنَسـهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَـذَا وَمَا كَانُوا بِآيَـتِنَا يَجْحَدُونَ (51)

التّفسير

نِعَم الجنّة حرام على أهل النّار:

بعد أن استقر كل من أهل الجنّة وأهل النّار في أماكنهم ومنازلهم، تدور بينهم حوارات نتيجتها العقوبة الروحية والمعنوية لأهل النّار.

وفي البداية يبدأ الكلام من جانب أهل النّار: (ونادى أصحاب النّار أصحاب الجنّة أن أفيضوا علينا من الماء أو ممّا رزقكم الله). فهم يطلبون أن يجودوا عليهم بشيء من الماء أو من نِعم الجنّة.

ولكن أهل الجنّة يبادرون إلى رفض هذا المطلب (قالوا إنّ الله حرمهما على الكافرين).

[64]

بحوث

هنا عدّة نقاط يجب أن نتوقف عندها ونلتفت إليها:

1 ـ يبدأ القرآن الكريم بأحاديث أهل النّار مع أهل الجنّة بلفظة (ونادى) التي تستعمل عادة للتخاطب من مكان بعيد، وهذا يفيد بأنّ بين الفريقين فاصلة كبيرة ومع ذلك يتمّ هذا الحوار ويسمع كل منهما حديث الآخر، وهذا ليس بعجيب، فلو أن المسافه بلغت ملايين الفراسخ لأمكن أن يسمع كل واحد منهما كلام الآخر، بل ويرى ـ في بعض الأحيان ـ الطرف الآخر.

ولو كان القبول بهذا أمراً متعذراً أو متعسراً في الماضي، وكانت تشكل مشكلة بالنسبة إلى السامعين، فإنّه مع انتقال الصوت والصورة في عصرنا الحاضر من مسافات بعيدة جداً انحلّت هذه المشكلة، ولم تعد الآية موضع تعجب وغرابة.

2 ـ إنّ أوّل طلب يطلبه أهل النّار هو الماء، وهذا أمر طبيعي، لأنّ الشخص الذي يحترق في النّار المستعرة يطلب الماء قبل أي شيء حتى يبرد غليلة ويرفع به عطشه.

3 ـ إنّ عبارة (ممّا رزقكم الله) التي هي عبارة مجملة، وتتسم بالإبهام، تفيد أنّه حتى أهل النّار لا يمكنهم أن يعرفوا بشيء من حقيقة النعم الموجودة في الجنّة وأنواعها. وهذا الموضوع يتفق وينسجم مع بعض الأحاديث التي تقول: (إنّ في الجنّة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).

ثمّ إنّ عطف الجملة بـ «أو» يشير الى أنّ النعم الاخروية الأُخرى وخاصّة الفواكه يمكنها أن تحلّ محل الماء وتطفيء عطش الإنسان.

4 ـ إنّ عبارة (حرمهما الله على الكافرين) إشارة إلى أهل الجنّة بأنفسهم، ليسوا هم الذين يمتنعون عن إعطاء شيء من هذه النعم لأهل النّار، لأنّه لا يقلّ منها شيء بسبب الإعطاء، ولا أنّهم يحملون حقداً أو ضغينة على أحد في صدورهم، حتى بالنسبة إلى أعدائهم، ولكن وضع أهل النّار بشكل لا يسمح لهم أن يستفيدوا

[65]

من نعم الجنّة.

إنّ هذا الحرمان ـ في الحقيقة ـ نوع من «الحرمان التكويني» مثل حرمان كثير من المرضى من الأطعمة اللذيذة المتنوعة.

في الآية اللاحقة يبيّن سبب حرمانهم، ويوضح بذكر صفات أهل النّار أهل هذا المصير الأسود قد هيّأوه هم لأنفسهم، فيقول أوّلا: إنّ هؤلاء هم الذين اتخذوا دينهم لعباً (الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً).

وهذا إلى جانب أنّهم خدعتهم الدنيا واغتروا بها (وغرتهم الحياة الدنيا).

إنّ هذه الأُمور سببت في أن يغرقوا في وحل الشهوات، وينسوا كل شيء حتى الآخرة، وينكروا أقوال الأنبياء، ويكذبوا بالآيات الإلهية، ولهذا أضاف قائلا: (فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا، وما كانوا بآياتنا يجحدون).

ومن البديهي أنّ المراد من «النسيان» الذي نُسِبَ هنا إلى الله هو بمعنى أنّنا نعاملهم معاملة الناسي تماماً، مثل أن يقول شخص لصديقه: (كما أنّك نسيتني فسوف أنساك أن أيضاً) أي أنني سوف أعاملك معاملة المتناسي لشيء.

كما أنّه يستفاد من هذه الآية أنّ أوّل مرحلة من مراحل الإنحراف والضلال، هو أن لا يأخذ الإنسان قضاياه المصيرية بمأخِذ الجدّ، بل يتعامل معها معاملة المتسلّي والهازل، فتؤدي به هذه الحالة إلى الكفر المطلق، وإنكار جميع الحقائق.

* * *

[66]

الآيتان

وَلَقَدْ جِئْنَـهُم بِكِتَـب فَصَّلْنَـهُ عَلَى عِلْم هُدىً وَرَحْمَةً لِّقَوم يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأَتِى تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُوا لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)

التّفسير

هذه الآية إشارة ـ في الدرجة الأُولى ـ إلى أنّ حرمان الكفار ومصيرهم المشؤوم إنّما هو نتيجة تقصيراتهم أنفسهم، وإلاّ فليس هناك من جانب الله أي تقصير في هدايتهم وقيادتهم وإبلاغ الآيات إليهم وبيان الدروس التربوية لهم، لهذا يقول تعالى: إنّنا لم نألُ جهداً ولم ندخر شيئاً في مجال الهداية والإرشاد، بل أرسلنا لهم كتاباً شرحنا فيه كل شيء بحكمة ودراية (ولقد جئناهم بكتاب فصّلناه على علم).

وهو كتاب فيه رحمة وهداية، لا للمعاندين الأنانيين، بل للمؤمنين (هدى ورحمة لقوم يؤمنون).

[67]

الآية اللاحقة تشير إلى الطريقة الخاطئة في تفكير العصاة والمنحرفين في صعيد الهداية الإلهية فيقول: (هل ينظرون إلاّ تأويله) أي كأنّ هؤلاء يتوقعون أن يروا نتيجة الوعد والوعيد الإلهي بعيونهم (أي يروا أهل الجنّة وهم فيها، وأهل النّار وهم فيها) حتى يؤمنوا.

ولكنّه توقّع سخيف، لأنّه عندما تُترجم الوعود الإلهية على صعيد الواقع ينتهي الامر، ولم يعد هناك مجال للرجوع ولا طريق للعودة، وهناك سيعترفون بأنّهم قد تناسوا كتاب الله وتجاهلوا التعاليم الإلهية التي أنزلها على رسله بالحق، وكان قولهم حقّاً أيضاً: (يوم يأتي تأويله يقول الذين نَسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق).

سيغرقون في هذا الوقت في قلق واضطراب، ويفكرون في مخلص ينقذهم من هذه المشكلة ويقولون (فهل لنا من شفعاء فيشفعوا).

وإذا لم يكن هناك شفعاء لنا، أو إنّنا لا نصلح أساساً للشّفاعة، أفلا يمكن أن نرجع إلى الدنيا ونقوم بأعمال غير ما عملناه سابقاً، ونسلّم للحق والحقيقة (أو نردَّ فنعمل غير الذي كنّا نعمل).

ولكن هذا التنبيه جاء ـ وللأسف ـ متأخراً جداً، فلا طريق للعودة ولا صلاحية لهم للشفاعة، لأنّهم قد خسروا كل رؤوس أموالهم، وتورطوا في خسران جميع وجودهم (قد خسروا أنفسهم).

وسوف يثبت لهم أنّ أصنامهم ومعبوداتهم ليس لها أي دور هناك، وفي الحقيقة ضاعت ـ في نظرهم ـ جميعاً (وضلّ عنهم ماكانوا يفترون).

وكأنّ الجملتين الأخيرتين ردّ على طلبهم، يعني إذا كانوا يريدون شفعاء يشفعون فإنّ عليهم حتماً أن يتوسّلوا بأصنامهم التي كانوا يسجدون لها، في حين أنّ تلك الأصنام ولأوثان لا تكون مؤثرة هناك مطلقاً.

وأمّا عودتهم إلى الدنيا فإنّها ممكنة في ما لو بقي لديهم رأس مال، ولكنّهم قد

[68]

خسروا كل رؤوس أموالهم وفقدوا كل وجودهم.

من هذه الآية يستفاد أوّلا أنّ الإنسان حرّ مختار في أعماله، وإلاّ لما طلب العودة والرجوع إلى الدنيا لملافاة ما فات، وثانياً: إنّ العالم الآخر ليس مكان العمل واكتساب الفضائل والنجاة.

* * *

[69]

الآية

إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـوتِ وَالاَْرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّام ثمّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثَاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَات بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاَْمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَلَمِينَ (54)

التّفسير

في الآيات السابقة قرأنا أنّ المشركين يقفون يوم القيامة على خطأهم الكبير في صعيد انتخاب المعبود، والآية الحاضرة تصف المعبود الحقيقي مع ذكر صفاته الخاصّة حتى يستطيع الذين يطلبون الحقيقة وينشدونها أن يعرفوه بوضوح في هذا العالم وقبل حلول يوم القيامة، ويبدأ حديثه هذا بقوله: (إنّ ربّكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستّة أيام) أي أنّ المعبود لا يمكن أن يكون إلاّ من كان خالقاً.

هل خلق العالم في ستّة أيّام؟

لقد ورد البحث عن خلق العالم وتكوينه في ستّة أيّام، في سبعة موارد من

[70]

آيات القرآن الكريم(1)، ولكنّه في ثلاثة موارد أضيف إلى السماوات والأرض لفظة «وما بينهما» أيضاً. والتي هي في الحقيقة توضيح للجملة السابقة، لأنّ جميع هذه الأشياء تدخل في معنى السماوات والأرض، لأنّنا نعلم أنّ السماء تشمل جميع الأشياء التي توجد في الأعلى، والأرض هي النقطة المقابلة للسماء.

وهنا يتبادر هذا السؤال فوراً وهو: قبل أن تخلق السماوات والأرض لم يكن ليل ولا نهار ليقال: خلقت السماوات والأرض فيهما، لأنّ الليل والنهار ناشئان من دوران الأرض حول نفسها في مقابل الشمس.

هذا مضافاً إلى أنّ ظهور المجموعة الكونية في ستّة أيام ـ يعني أقل من اسبوع ـ يخالف العلم، لأنّ العلم يقول: لقد استغرق تكوّن الأرض والسماء حتى وصل الى الواضع الحالي ملياردات من السنوات والأعوام.

ولكن نظراً إلى المفهوم الواسع للفظة «يوم» وما يعادلها في مختلف اللغات، يكون جواب هذا السؤال واضحاً، لأنّه كثيراً ما يستعمل اليوم بمعنى الدورة، سواء استغرقت مدة سنة، أو مائة سنة، أو مليون سنة أو ملياردات السنين، والشواهد التي تثبت هذه الحقيقة، وتفيد أنّ أحد معاني اليوم هو الدورة، كثيرة:

1 ـ لقد استعملت لفظة اليوم والأيّام في القرآن الكريم مئات المرات، وفي كثير من الموارد لم تكن بمعنى الليل والنهار، مثلا يعبر عن عالم البعث بيوم القيامة، وهذا يشهد بأنّ مجموع عملية القيامة التي هي دورة طويلة الأمد والمدّة، تسمى يوم القيامة.

ويستفاد من بعض الآيات القرآنية أنّ يوم القيامة ومحاسبة أعمال الناس يستغرق خمسين ألف سنة (سورة المعارج الآية 4).

2 ـ نقرأ في كتب اللغة أيضاً أنّ اليوم ربّما يطلق على الزمن بين طلوع

_____________________________

1 ـ وهي: الآية المبحوثة هنا، و3 يونس، و 7 هود، و 59 الفرقان و 4 السجدة و 38 ق، و4 الحديد.

[71]

الشمس وغروبها، وربّما على مقدار من الزمان مهما كان قدره، قال الراغب في المفردات: «اليوم يعبّر به عن وقت طلوع الشمس إلى غروبها، وقد يعبّر عن مدة من الزمان أي مدّة كانت».

3 ـ جاء في روايات أئمّة الدين وأحاديثهم ـ كذلك ـ استعمال اليوم بمعنى الدهر، كما روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في نهج البلاغة أنّه قال: «الدّهر يومان: يوم لك، ويوم عليك».

ونقرأ في تفسير البرهان في تفسير هذه الآية، عن تفسير علي بن إبراهيم الإمام(عليه السلام) قال: «في ستة أيّام، أي في ستة أوقات»، أي في ست دورات.

4 ـ كثيراً ما نشاهد في المحاورات اليومية، وأشعار الشعراء في اللغات المختلفة، أنّ كلمة اليوم وما يعادلها قد استعملت بمعنى الدورة والعهد، مثلا نقول يوم كانت الكرة الأرضية حارة ومشتعلة، ويوم صارت باردة وظهرت فيها آثار الحياة، في حين أنّ فترة سخونة الأرض واشتعالها استغرقت ملياردات من الأعوام.

أو عندما نقول غصب آل أُمية الخلافة الإسلامية يوماً، وغصبها بنو العباس يوماً آخر. في حين أنّ فترة اغتصاب الأمويين للخلافة استغرقت عشرات السنين وفترة اغتصاب العباسيين لها استغرقت المئات.

من مجموع الحديث السابق نستنتج أنّ الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض في ست دورات متوالية، وإن استغرقت كل دورة من هذه الدورات ملايين أو ملياردات السنين، والعلم الحديث لم يبيّن أي أمر يخالف هذا الموضوع.

وهذه الدورات ـ احتمالا ـ هي على الترتيب:

1 ـ يوم كان الكون في شكل كتلة غازية الشكل، فانفصلت منها أجزاء بسبب دورانها حول نفسها، وتشكلت من المواد المنفصلة الكرات والأنجم.

[72]

2 ـ هذه الكرات قد تحولت تدريجاً إلى هيئة كتلة من المواد الذائبة المشعة أم الباردة القابلة للسكنى.

3 ـ في دورة أُخرى تألفت المنظومة الشمسية وانفصلت الأرض عن الشمس.

4 ـ في الدورة الرّابعة بردت الأرض وأصبحت قابلة للحياة.

5 ـ ثمّ ظهرت النباتات والأشجار على الأرض.

6 ـ وبالتالي ظهرت الحيوانات والإنسان فوق سطح الأرض.

وكل ما ذكرناه أعلاه من الأدوار الستة لعملية خلق وتكوين السماوات والأرض تنطبق على الآيات (8) إلى (11) من سورة فصلت التي سيأتي تفسيرها في المستقبل إن شاء الله.

لماذا لم يخلق الله العالم في لحظة واحدة؟

وهنا يطرح سؤال آخر نَفسَه وهو: لماذا خلق الله السماوات والأرض في دورات عديدة وطويلة، وهو القادر على خلقها في لحظة واحدة؟

إنّ جواب هذا السؤال يمكن الوقوف عليه بالإلتفات إلى نقطة واحدة، وهي أنّ الخلق لو تمّ في لحظة واحدة، لكان ذلك أقل دلالة على عظمة الخالق وقدرته وعلمه، ولكن لما تمّت عملية الخلق والتكوين في مراحل مختلفة وأشكال متنوعة، وفق برنامج منظم محسوب، كان لذلك دلالة أوضح على معرفة الخالق.

ففي المثل لو كانت النّطفة البشرية تتبدل في لحظة واحدة إلى وليد كامل، لمّا كان ذلك يحكي عظمة الخلق والتكوين، ولكن عندما ظهر الوليد خلال 9 أشهر، وضمن برنامج دقيق واتخذ في كل يوم وشهر شكلا خاصاً وصورة خاصّة، استطاعت كل واحدة من هذه المراحل أن تقدّم آية جديدة من آيات العظمة الإلهية، وتكون دليلا جديداً على قدرة الخالق.

[73]

ثمّ يقول القرآن الكريم: إنَّ الله تعالى بعد خلق السماوات والأرض أخذ زمام إدارتها بيده (أي ليس الخلق منه فقط، بل منه الإدارة والتدبير أيضاً) فقال تعالى: (ثمّ استوى على العرش).

وهذا جواب لمن يعتقد أنّ الكون محتاج إلى الله تعالى في الخلق والإيجاد دون البقاء.

ماهوالعرش؟

«العرش» في اللغة هو ما له سقف، وقد يطلق العرش على نفس السقف، مثل قوله تعالى: (أو كالذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها)(1).

وربّما يأتي بمعنى الأسرة الكبيرة المرتفعة، مثل أُسرة الملوك والسلاطين، كما جاء في قصة سليمان: (أيكم يأتيني بعرشها)(2).

وهكذا يطلق لفظ العرش على الأسقف التي يقيمها المزارعون لحفظ بعض الأشجار، وبخاصّة المتسلقة منها، كما نقرأ في القرآن الكريم (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات)(3).

ولكن عندما ينسب الى الله سبحانه وتعالى ويقال: عرش الله، يراد منه مجموعة عالم الوجود، الذي يعدّ في الحقيقة سرير حكومة الله تعالى.

وأساساً فإنّ عبارة (استوى على العرش) كناية عن سيطرة حاكم من الحكام على أُمور بلده، كما أنّ المراد من جملة «ثلّ عرشه» هو خروج زمام الأمر من يده وفقدان السيطرة عليه، وقد استعملت هذه الكناية في اللغة بكثرة إذ يقال: إنّ جماعة من الناس ثارت في البلد الفلاني، وأنزلت حاكمه من سريره وعرشه، في

_____________________________

1 ـ البقرة، 259.

2 ـ النمل، 28.

3 ـ الأنعام، 141.

[74]

حين من الممكن أن لا يكون لذلك الزعيم والحاكم تخت أصلا.

أو يقال: إنّ جماعة من الناس أيدوا فلاناً، وأجلسوه على العرش، فكل هذه كناية عن امتلاك السلطة أو فقدانها.

وعلى هذا تكون عبارة (استوى على العرش) كناية عن الإحاطة الكاملة لله تعالى وسيطرته على تدبير أمور الكون ـ سماءاً وأرضاً ـ بعد خلقها.

ومن هنا يتّضح أنّ الذين أخذوا هذه الجملة دليلا على «جسمانيّة الله» كأنّهم لم يلتفتوا إلى موارد استعمال هذه الجملة العديدة في هذا المعنى الكنائي.

وهناك معنى آخر للعرش، وهو أنّه قد ورد أحياناً في قبال «الكرسي» وفي مثل هذه الموارد يمكن أن يكون الكرسي (الذي يطلق عادة على المقعد القصير القوائم) كناية عن العالم المادي، والعرش كناية عن عالم ما فوق المادة (أي عالم الأرواح والملائكة) كما جاء في تفسير آية (وسع كرسيه السماوات والأرض)التي مرّت في سورة البقرة.

ثمّ يقول بأنّه تعالى هو الذي يلقي بالليل ـ كغشاء ـ على النهار، ويستر ضوء النهار بالأستار المظلمة (يُغشي الليلَ النهارَ).

والملفت للنظر أنّ العبارة المذكورة ذكرت في مجال الليل فقط، ولم يقل (ويغشي النهار الليلَ) لأنّ الغطاء والغشاء يناسب الظلمة فقط ولا يناسب النور والضوء.

ثمّ يضيف بعد ذلك قائلا: إنّ الليل يطلب النهارَ طلباً حثيثاً (يطلبه حثيثاً).

إنّ هذا التعبير ـ نظراً لوضع الليل والنهار في الكرة الأرضية ـ تعبير في غاية الروعة والجمال، لأنّه لو نظر أحد إلى كيفية حركة الكرة الأرضية من الخارج، وكيفية دورانها حول نفسها ووقوع ظلها المخروطي الشكل على نفسها، مع العلم أنّ الكرة الأرضية تدور بسرعة فائقة حول نفسها (أي في حدود 30 كيلومتراً في الدقيقة) لأحس أنّ غول الظلّ المخروطي الأسود يجري بسرعة كبيرة على هذه

[75]

الكرة خلف ضوء النهار.

ولكن هذا الأمر غير صادق بالنسبة إلى ضوء النهار، لأنّ ضوء الشمس منتشر في نصف الكرة الأرضية وفي جميع الفضاء المحيط بأطراف الأرض، ولا يتخذ لنفسه شكلا خاصاً، وإنّما ظلمة الليل فقط هي التي تدور مثل شبح غامض الأسرار حول الأرض.

ثمّ يضيف تعالى أنّه هو الذي خلق الشمس والقمر والنجوم، وهي خاضعة لأمره بعد خلقها: (والشمس والقمر والنجوم وهي مسخرات بأمره).

(وسوف نبحث حول تسخير الشمس والقمر والنجوم ومعاني ذلك في ذيل الآيات المناسبة بإذن الله تعالى).

ثمّ بعد ذكر خلق العالم ونظام الليل والنهار، وخلق الشمس والقمر والنجوم، قال مؤكّداً: اعلموا أنّ خلق الكون وتدبير أُموره كلّه بيده سبحانه دون سواه، (ألا له الخلق والأمر).

ماهو «الخلق» و «الأمر»؟

هناك كلام كثير بين المفسّرين حول المراد من «الخلق» و «الأمر» أنّه ما هو؟

ولكن بالنظر إلى القرائن الموجودة في هذه الآية ـ والآيات القرآنية الأُخرى يستفاد أنّ المراد من «الخلق» هو الخلق والإيجاد الأوّل. والمراد من «الأمر» هو السنن والقوانين الحاكمة على عالم الوجود بأسره بأمر الله تعالى، والتي تقود الكون في مسيره المرسوم له.

إن هذا التعبير ـ في الحقيقة ـ ردّ على الذين يتصورون أنّ الله خلق الكون ثمّ تركه لحاله وأهله، وجلس جانباً. أي إنّ العالم بحاجة إلى الله في وجوده وحدوثه، دون بقائه واستمراره.

إنّ هذه الجملة تقول: كلاّ، بل إنّ العالم كما يحتاج إلى حدوثه إلى الله، كذلك

[76]

يحتاج إليه في تدبيره واستمرار حياته وإدارة شؤونه إلى الله، ولو أنّ الله صرف عنايته ولطفه عن الكون لحظة واحدة لتبدد النظام وانهار وانهدم بصورة كاملة.

وقد مال بعض الفلاسفة إلى أن يفسّر عالم «الخلق» بعالم «المادة» وعالم «الأمر» بعالم «ما وراء المادة» لأنّ لعالم الخلق جانباً تدريجياً، وهذه هي خاصية المادة. ولعالم الأمر جانباً دفعياً وفورياً، وهذه هي خاصية عالم ما وراء المادة، كما نقرأ في قوله تعالى: (إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون)(1).

ولكن بالنظر إلى موارد استعمال لفظة الأمر في آيات القرآن، وحتى عبارة (والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره) الواردة في الآية المبحوثة يستفادالأمر يعني كل أمر إلهي سواء في عالم المادة أو في عالم ما وراء المادة (تأملوا رجاءً).

ثمّ في ختام الآية يقول: (تبارك الله رب العالمين).

في الحقيقة إنّ هذه الجملة ـ بعد ذكر خلق السماوات والأرض والليل والنهار والشمس والقمر والنجوم وتدبير عالم الوجود ـ نوع من الثناء على الذات الربوبية المقدسة، وقد سيق لتعليم العباد.

و «تبارك» من مادة البركة وأصلها «بَرْك» ومعناها صدر البعير، حيث أنّ الإبل عندما تستقر في مكان ما تلصق صدورها على الأرض، لهذا اتخذت هذه الكلمة تدريجياً معنى الثبوت والإستقرار والإستتباب، ثمّ وصفت وسمّيت كل نعمة مستقرة ودائمة، وكل كائن طويل العمر، ومستمر الآثار والخيرات، بأنّه موجود مبارك، ويقال أيضاً للمكان الذي يتجمع فيه الماء «بركة» لبقائه في ذلك المكان مدة طويلة.

من هنا يتّضح أنّ رأس المال «المبارك» هو الذي يتصف بالدوام، والكائن

_____________________________

1 ـ سورة يس، 82.

[77]

«المبارك» هو الموجود المستديم الآثار، ومن البديهي أنّ أليق وجود لهذه الصفة هو وجود الله تعالى، فهو وجود مبارك أزلي أبدي، وهو بالتالي منشأ جميع البركات والخيرات، ومنبع الخير المستمر (تبارك الله رب العالمين) (وسوف نتحدث في هذا المجال في تفسير الآية (92) من سورة الأنعام أيضاً).

* * *

[78]

الآيتان

ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(55)وَلاَتُفْسِدُا فِى الاَْرْضِ بَعْدَ إِصْلَـحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَريبٌ مِّنَ الُْمحْسِنينَ (56)

التّفسير

شروط استجابة الدعاء:

لقد أثبتت الآية السابقة ـ في ضوء ما أقيم من برهان واضح ـ هذه الحقيقة، وهي أنّ الذي يستحق للعبادة فقط هو الله، وفي عقيب ذلك ورد الأمر هنا بالدعاء، الذي هو مخ العبادة وروحها، يقول أوّلا: (ادعوا ربّكم تضرعاً وخفيةً).

و«التضرع» في الأصل من مادة «ضَرْع» بمعنى الثدي، وعلى هذا يكون فعل التضرع بمعنى حلب اللبن من الضرع، وحيث إنّه عند حلب اللبن تتحرك الأصابع على حلمة الثدي من جهاتها المختلفة استداراً للحليب، لهذا استعملت هذه الكلمة في من يظهر حركات خاصّة إظهاراً للخضوع والتواضع.

وعلى هذا فإنّ الآية المبحوثة، وعبارة (ادعو ربّكم تضرّعاً) تحثّنا على أن نقبل على الله بمنتهى الخضوع والخشوع والتواضع، بل يجب أن تنعكس روح

[79]

الدعاء في أعماق روحه، وعلى جميع أبعاد وجوده، ويكون اللسان مجرّد ترجمانها، ويتحدث نيابة عن جميع أعضائه.

وأمره تعالى ـ في الآية الحاضرة ـ بأن يدعى الله «خفية» وفي السّر، لأنّه أبعد عن الرياء، وأقرب إلى الإخلاص، ولأجل أن يكون الدعاء مقروناً بتمركز الفكر وحضور القلب.

ونحن نقرأ في حديث أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لما كان في إحدى غزواته، ووصل جنود الإسلام إلى واد رفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير قائلين: «لا إله إلاّ الله» و «الله أكبر» فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «يا أيّها الناس اربعوا على أنفسكم، أمّا إنّكم لا تدعون أصمّ ولا غائباً، إنّكم تدعون سميعاً قريباً، إنّه معكم»(1).

كما ويحتمل في هذه الآية أيضاً أن يكون المراد من «التضرع» هو الدعاء الظاهر العلني، والمراد من «الخفية» الدعاء الخفي السّري، لأنّ لكل مقام اقتضاءً خاصاً، فقد يقتضي أن يكون الدعاء علناً، وربّما يقتضي خفية وسراً، وهناك رواية وردت في ذيل هذه الآية تؤيد هذا الموضوع.

ثمّ قال تعالى في ختام الآية: (إنّه لا يحبّ المعتدين) أي أنّ الله لا يحب المعتدين.

ولهذه العبارة معنى وسيع يشمل كل نوع من أنواع العدوان والتجاوز، سواء الصراخ ورفع الصوت عالياً جداً حين الدعاء، أو التظاهر وممارسة الرياء، أو التوجه إلى غير الله حين الدعاء.

وفي الآية اللاحقة يشير تعالى إلى حكم هو في الحقيقة شرط من شروط تأثير الدعاء، إذ قال: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها).

ومن المسلم أنّ الأدعية إنّما تكون عند الله أقرب إلى الإجابة إذا تحققت فيها

_____________________________

1 ـ مجمع البيان، المجلد الرابع، الصفحة 429.

[80]

الشرائط اللازمة، ومن جملة ذلك أن يكون الدعاء مقترنا بالجوانب البناءة والعملية في حدود المستطاع، وأن تراعى حقوق الناس، وأن تلقي حقيقة الدعاء بأنوارها وظلالها على وجود الإنسان الداعي بأسره، ولهذا فلا تستجاب أدعية المفسدين والعصاة، ولا تنتهي إلى أية نتيجة مرجوّة.

والمراد من «الفساد بعد الإصلاح» يمكن أن يكون الإصلاح من الكفر أو الظلم أو كليهما، جاء في رواية عن الإمام الباقر(عليه السلام): (إنّ الأرض كانت فاسدة فأصلحها نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم)»(1).

ومرّة أُخرى يعود إلى مسألة الدعاء ويذكر شرطاً آخر من شرائطه فيقول: (وادعوه خوفاً وطمعاً).

أي لا تكونوا راضين معجبين بأفعالكم بحيث تظنون أنّه لا توجد في حياتكم أية نقطة سوداء، إذ أنّ هذا الظن هو أحد عوامل التقهقر والسقوط، كما لا تكونوا يائسين إلى درجة أنّكم لا ترون أنفسكم لائقين للعفو الإِلهي ولإجابة الدعاء، إذ أنّ هذا اليأس والقنوط هو الآخر سبب لإنطفاء شعلة السعي والإجتهاد، بل لابد أن تعرجوا نحوه تعالى بجناحي (الخوف) و (الأمل) الخوف من المسؤوليات والعثرات، والأمل برحمته ولطفه.

وفي خاتمة الآية يقول تعالى للمزيد من التأكيد على أسباب الأمل بالرحمة الإِلهية (إنّ رحمة الله قريب من المحسنين).

ويمكن أن تكون هذه العبارة إحدى شرائط إجابة الدعاء، يعني إذا كنتم تريدون أن لا تكون أدعيتكم خاوية، ومجرّد لقلقة لسان، فيجب أن تقرنوها بعمل الخير والإحسان، لتشملكم الرحمة الإلهية بمعونة ذلك وتثمر دعواتكم، وبهذا تكون الآية قد تضمنت الإشارة إلى خمسة من شرائط قبول الدعاء وإجابته، وهي

_____________________________

1 ـ مجمع البيان، المجلد الرابع، الصفحة 429.

[81]

باختصار كالتالي:

1 ـ أن يكون الدعاء عن تضرّع وخفية.

2 ـ أن لا يتجاوز حدّ الإعتدال.

3 ـ أن لا يكون مقروناً بالإفساد والمعصية.

3 ـ أن يكون مقروناً بالخوف والاصل المعتدلين.

4 ـ أن يكون مقروناً بالبرّ والإحسان، وفعل الخيرات.

* * *

[82]

الآيتان

وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالا سُقْنَـهُ لِبَلَد مَّيِّت فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الَّثمَرَتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الاَْيَتِ لِقَوْم يَشْكُرُونَ (58)

التّفسير

لابد من المربي والقابليّة:

في الآيات الماضية مرّت إشارات عديدة إلى مسألة «المبدأ» أي التوحيد ومعرفة الله، من خلال الوقوف على أسرار الكون، وفي هذه الآيات ضمن بيان طائفة من النعم الإلهية وردت الإشارة إلى مسألة «المعاد» والبعث، ليكمل هذان البحثان أحدهما الآخر.

وهذه هي سيرة القرآن الكريم ودأبه في كثير من الموارد، حيث يقرن بين «المبدأ» و «المعاد»، والملفت للنظر أنّه يستعين لمعرفة الله، وكذا لتوجيه الأنظار إلى أمر المعاد معاً بالإستدلال بالأسرار الكامنة في خلق موجودات هذا العالم.

[83]

فيقول تعالى أولا: (وهو الّذي يرسل الرياح بشرىً بين يدي رحمته).

ثمّ يقول: إنّ هذه الرياح التي تهب من المحيطات تحمل معها سحباً ثقيلة مشبّعة بالماء (حتى إذا أقلّت سحاباً ثقالا).

ثمّ يسوق تلك السحب إلى الأراضي الظامئة اليابسة، ويكلفها بأن تروي تلك العطاشي (سقناه لبلد ميت).

وبذلك ينهمر ماء الحياة في كل مكان (فأنزلناه به الماء).

وبمعونة هذا الماء نخرج للبشر أنواعاً متنوعة من الثمار والفواكة (وأخرجنا به من كل الثمرات).

نعم، إنّ الشمس تسطع على المحيطات والبحار، فيتبخر الماء ويتصاعد البخار إلى الأعلى، وهناك في الطبقات العالية الباردة من الجو يتراكم البخار ويشكل كتلا ثقيلة من السحب، ثمّ تحمل الرياح كتل السحاب العظيمة على ظهرها، وتتوجه إلى الأراضي التي كُلِفت بسقيها، فتجري بعض هذه الرياح قدام كتل السحاب، وتكون مزيجة بشيء من الرطوبة الخفيفة، فتحدث نسيماً مريحاً تستشم منه رائِحة المطر اللذيذة الباعثة للحياة والنشاط.

إنّها ـ في الحقيقة ـ المبشرات بنزول المطر، ثمّ تُرسل كتل الغيم العظيمة حبات المطر من بين ثناياها، لكنّها ليست بالكبيرة جدّاً فتتلف الزروع والأراضي، ولا بالصغيرة جدّاً فتضيع في الفضاء ولا تصل إلى الأرض، ثمّ تحط هذه الحبات على الأرض برفق وهدوء، وتنفذ في ترابها شيئاً فشيئاً، فتنبت البذور والحبات. وتبدل الأرض المحترقة بالجفاف، والتي كانت أشبه شيء بمقبرة مظلمة وساكنة وهامدة، إلى مركز فعّال نابض بالحياة والحركة، وتنشأ الجنائن الخضراء الغنية بالأزاهير والثمار.

ثمّ عقيب ذلك يضيف فوراً (كذلك نخرج الموتى) ونلبسهم حلّة الوجود والحياة مرّة أُخرى.

ولقد أتينا بهذا المثال لأجل أن نريكم أنموذجاً من المعاد في هذه الدنيا،

[84]

الذي يتكرر أمام عيونكم كل يوم (لعلكم تذكّرون).

وفي الآية اللاحقة ـ وحتى لا يظن أحد أن نزول المطر على نمط واحد يدل على أنّ جميع الأراضي تصير حيّة على نمط واحداً أيضاً، وحتى يتّضح أنّ القابليات والإستعدادات متفاوته تسبّبت في أن تتفاوت حالات الإستفادة والإنتفاع بالمواهب الإلهية يقول: (والبلد الطيب يُخرج نباتُه بإذن ربّه) أي أنّ الأرض الصالحة هي التي تستفيد من المطر، وتثمر خير إثمار بإذن ربّها.

أمّا الأراضي السبخة والخبيثة فلا تثمر إلاّ بعض الأعشاب غير النافعة (والذي خبث لا يخرج إلاّ نكداً).(1)

هكذا يكون الأمر بالبعث، وإن كان سبباً لعودة الحياة إلى جميع أفراد البشر، إلاّ أنّ جميع الناس لا يحشرون على نمط واحد وهيئة واحدة، إنّهم مختلفون متفاوتون في ذلك مثل تفاوت الأرض الحلوة، والأرض المالحة، نعم يتفاوتون، ويكون هذا التفاوت ناشئاً من الأعمال والعقائد والنيات.

ثمّ في ختام الآية يقول تعالى: إنّ هذه الآيات نبيّنها لمن يشكرونها، ويستفيدون من عِبَرها ومداليلها، ويسلكون في ضوئها سبيل الهداية (كذلك نصرّف الآيات لقوم يشكرون).

إن الآية الحاضرة ـ في الحقيقة ـ إشارة إلى مسألة مهمّة تتجلى في هذه الحياة وفي الحياة الأُخرى في كل مكان، وهي أنّ فاعلية الفاعل وحدها لا تكفي للإثمار والإنتاج الصحيح المطلوب، بل لابدّ من «قابلية القابل» فهي شرط للتأثير والإثمار. فإنّه ليس هناك شيء ألطف وأكثر بعثاً للحياة والنشاط من حبات المطر، ولكن هذا المطر نفسه الذي لا شك في لطافة طبعه، يورق ويورد في مكان، وينبت الشوك والحنظل في مكان آخر.

* * *

_____________________________

1 ـ النّكد: هو البخيل الممسك الذي يتعذر أخذ شيء منه بسهولة، ولو أنّه أعطى لأعطى الشيء اليسير الحقير. ولقد شبهت الأراضي المالحة السبخة غير المساعدة للزرع بمثل هذا الشخص.

[85]

الآيات

لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَـقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَه غَيْرُهُ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْم عَظِيم (59) قَالَ الْمَلاَُ مِن قَومِهِ إِنَّا لَنَرَيكَ فِى ضَلَـل مُّبِين (60) قَالَ يَـقَوْمِ لَيْسَ بِى ضَلَـلَةٌ وَلَـكِنِّى رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَـلَمِينَ (61)أُبَلِّغُكُمْ رِسَـلَـتِ رَبِّى وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (62)أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُل مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَـهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِى الْفُلْكِ وَأَعْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِأيَـتِنآ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ(64)

التّفسير

رسالة نوح أوّل الرّسل من أولي العزم:

تقدم أنّ هذه السورة ـ بعد ذكر سلسلة من القضايا الجوهرية والعامّة في صعيد معرفة الله والمعاد والهداية الإلهية للبشر، ومسألة الشعور بالمسؤولية ـ تشير

[86]

إلى قصص ثلة من الأنبياء الكرام والرسل العظام مثل «نوح» و«هود» و«صالح» و«شعيب» وبالتالي «موسى بن عمران»(عليهم السلام) أجمعين، كي تقدم أمثلة حية لهذه الأبحاث وبصورة عملية في ثنايا تاريخهم الحافل بالحوادث والعبر.

فيبدأ سبحانه من قصة نوح النّبي، ويستعرض قسماً من حواراته مع قومه الوثنيين المعاندين.

وقد وردت قصة نوح في سور قرآنية متعددة، مثل سورة هود، الأنبياء، والمؤمنون، الشعراء، كما أنّ هناك سورة قصيرة في القرآن الكريم باسم «سورة نوح» وهي السورة الحادية والسبعون من سور الكتاب العزيز.

وسوف يأتي شرح ودراسة جهود هذا النّبي العظيم، وكيفية صنعه للسفينة، والطوفان الرهيب، وغرق قومه الأنانيين الفاسدين والوثنيين بإسهاب في السور المذكورة، وهنا أكتفي ـ فقط ـ بإعطاء فهرست عن ذلك ضمن ست آيات هي:

يقول أوّلا: (لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه).

إنّ أوّل شيء ذكّرهم به هو إلفات نظرهم إلى حقيقة التوحيد، ونفي أي نوع من أنواع الوثنية (فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره).

إنّ شعار التوحيد ليس شعار نوح وحده، بل هو أوّل شعار عند جميع الأنبياء والمرسلين الإلهين، ولهذا يشاهد في آيات متعددة من هذه السورة ـ وغيرها من السور القرآنية ـ أنّ أوّل ما يفتتح أكثر الأنبياء دعواتهم به هو هذا الشعار: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) (راجع الآيات 65، و 73 و 85 من نفس هذه السورة).

من هذه العبارات يستفاد جيداً أنّ الوثنية كانت أسوأ مانع في طريق سعادة البشرية جمعاء، وأنّ حملة غصون التوحيد هؤلاء كانوا أوّل ما يفعلونه لغرس هذه الغصون في مزرعة الحياة البشرية وتربية أنواع الورود الزاهية والأشجار المثمرة فيها، هو أنّهم يشمرون عن ساعد الجدّ ليطهروا الحياة البشرية بمنجل تعاليمهم

[87]

البناءة من الأشواك، أشواك الوثنية والشرك والعبودية لغير الله تعالى.

ويستفاد من الآية (23) في سورة نوح خاصّة أنّ الناس في زمن النّبي نوح(عليه السلام) كانوا يعبدون أصناماً متعددة تدعى «ودّ» و«سواع» و«يغوث» و«يعوق» و«نسر»، التي سيأتي الحديث عنها عند تفسير تلك الآية بإذن الله.

وبعد أن أيقظ نوح ضمائرهم وفطرتهم الغافية، حذّرهم من مغبة الوثنية وعاقبتها المؤلمة إذ قال: (إنّي أخاف عليكم عذاب يوم عظيم).

والمراد من (عذاب يوم عظيم) يمكن أن يكون الطوفان المعروف بطوفان نوح، الذي قلّما شوهد مثله في العقوبات في العظمة والسِعة، كما ويمكن أن يكون إشارة إلى العقوبة الإلهية في يوم القيامة، لأنّ هذا التعبير قد ورد في معنيين من القرآن الكريم. فإنّنا نقرأ في سورة الشعراء الآية (189): (فأخذهم عذاب يوم الظلّة إنّه كان عذاب يوم عظيم) الآية وردت حول العقوبة التي نزلت بقوم شعيب في هذه الدنيا بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، ونقرأ في سورة المطففين الآية (5): (ألا يظن أُولئك أنّهم مبعوثون ليوم عظيم)(1).

إنّ عبارة «أخاف» (أي أخشى أن تصيبكم هذه العقوبة، بعد ذكر مسألة الشرك في الآية المبحوثة، يمكن أن تكون لأجل أن نوحاً يريد أن يقول لهم: إذا لم تتيقنوا وقوع هذه العقوبة، فعلى الأقل ينبغي أن تخافوا منها، ولهذا لا يجيز العقل أن تسلكوا ـ مع هذا الإحتمال ـ هذا السبيل الوعر، وتستقبلو عذاباً عظيماً أليماً كهذا.

ولكن قوم نوح بدل أن يستقبلوا دعوة هذا النّبي العظيم الإصلاحية، المقرونة بقصد الخير والنفع لهم، فينضوون تحت راية التوحيد ويكفون عن الظلم والفساد، قال جماعة من الأعيان والأثرياء الذين كانوا يحسون بالخطر على مصالحهم بسبب يقظة الناس وانتباههم، ويرون الدين مانعاً من عبثهم ومجونهم وشهواتهم،

_____________________________

1 ـ كلمة عظيم في الآية أعلاه صفة «ليوم» لا للعذاب.

[88]

قالوا لنوح بكل صراحة وقحة: نحن نراك في ضلال واضح (قال الملأ من قومه إنّا لنراك في ضلال مبين).

و«الملأ» تطلق عادة على الجماعة التي تختار عقيدة وفكرة واحدة، ويملأ اجتماعها وجلالها الظاهري عيون الناظرين، لأن مادة «الملأ» أصلا من «الملء»، وقد استعملها القرآن على الأغلب في الجماعات الأنانية المستبدة ذات المظهر الأنيق والباطن الفاسد الملوث بالأوضاد والشرور، والذين يملأون ساحات المجتمع المختلفة بوجودهم.

ولقد جابه نوح(عليه السلام) تعنتهم وخشونتهم بلحن هاديء ولهجة متينة تطفح بالمحبّة والرحمة، فقال في معرض الردّ عليهم: أنا لست بضال، بل ليست فيّ أية علامة للضلال، ولكنّي مرسل من الله (قال ياقوم ليس بي ضلالة ولكنّي رسول الله من ربّ العالمين).

وهذه إشارة إلى أنّ الارباب التي تعبدوها وتفترضون لكل واحد منها مجالا للسيادة والحاكمية، مثل إله البحر، إله السماء، إله السلام والحرب، وما شاكل ذلك، كله لا أساس لها من الصحة، ورب العالمين ما هو إلاّ الله الواحد الذي خلقها جميعاً وأوجدها من العدم.

ثمّ إنّ هدفي إنّما هو إبلاغ ما حمّلت من رسالة (أبلغكم رسالات ربّي).

ولن آلو جهداً في تقديم النصح لكم، وقصد نفعكم، وإيصال الخير إليكم (وانصح لكم).

«أنصح» من مادة «نُصْح» يعني الخلوص والغلو عن الغش وعن الشيء الدخيل، لهذا يقال للعَسل الخالص: ناصح العسل، ثمّ أطلقت هذه اللفظة على الكلام الصادر عن سلامة نية، وبقصد الخير، ومن دون خداع ومكر.

ثمّ أضاف تعالى (وأعلم من الله ما لا تعلمون).

إنّ هذه العبارة يمكن أن يكون لها جانب تهديد في مقابل معارضاتهم

[89]

ومخالفتهم، وكأنّه يريد أن يقول: أنا أعلم بعقوبات إلهية أليمة تنتظر العصاة لا تعلمون شيئاً عنها، أو تكون إشارة إلى لطف الله ورحمته، وتعني أنّكم إذا أطعتم اللّه، وكففتم عن تعنتكم، فإنّي أعلم مثوبات عظيمة لكم لا تعلمونها ولم تقفوا لحدّ الآن على سعتها. أو تكون إشارة إلى أنّني إذا كنت قد كلفت بهدايتكم فإنّني أعلم أُموراً عن الله العظيم وعن أوامره لا تعرفونها، ولهذا يجب أن تطيعوني وتتبعوني. ولا مانع من أن تكون كل هذه المعاني مقصودة ومجتمعة في مفهوم الجملة الحاضرة.

وفي الآية اللاحقة نقرأ لنوح كلاماً آخر قاله في مقابل استغراب قومه من أنّه كيف يمكن لبشر أن يكون حاملا لمسؤولية إبلاغ الرسالة الإلهية، إذ قال: (أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربّكم على رجل منكم لينذركم، ولتتقوا ولعلكم ترحمون).

يعني: أيّ شيء في هذه القضية يدعو إلى الإستغراب والتعجب، لأنّ الانسان الصالح هو الذي يمكنه أن يقوم بهذه الرسالة أحسن من أي كائن آخر. هذا مضافاً إلى أنّ الإنسان هو القادر على قيادة البشر، لا الملائكة ولا غيرهم.

ولكن بدل أن يقبلوا بدعوة مثل هذا القائد المخلص الواعي كذبه الجميع، فأرسل الله عليهم طوفاناً فغرق المكذبون ونجا في السفينة نوح ومن آمن (فكذبوه فأنجيناه والذين معه فى الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا).

وفي خاتمة الآية بين دليل هذه العقوبة الصعبة، وأنّه عمى القلب الذي منعهم عن رؤية الحق، وأتباعه (إنّهم كانوا قوماً عمين(1)).

وهذا العمى القلبي كان نتيجة أعمالهم السيئة وعنادهم المستمر، لأنّ التجربة أثبتت أنّ الإنسان إذا بقي في الظلام مدة طويلة، أو أغمض عينيه لسبب من

_____________________________

1 ـ «عمين» جمع عمي، وهو يطلق عادة على من تعطلت بصيرته الباطنية، ولكن الأعمى يطلق على من فقد بصره الظاهري، وكذلك يطلق على من فقد بصيرته الباطنية أيضاً (وعَمْي حينما يدخل عليها الإعراب تتبدل إلى عم).

[90]

الأسباب وامتنع عن النظر مدة من الزمن، فإنّه سيفقد قدرته على الرؤية تدريجاً وسيصاب بالعمى في النهاية.

وهكذا سائر أعضاء البدن إذا تركت الفعالية والعمل مدّة من الزمن يبست وتعطلت عن العمل نهائياً.

وبصيرة الإنسان هي الأُخرى غير مستثناة عن هذا القانون، فالتغاضي المستمر عن الحقائق، وعدم استخدام العقل والتفكير في فهم الحقائق والواقعيات بصورة مستمرة، يضعف بصيرة الإنسان تدريجاً إلى أن تعمى عين القلب والعقل في النهاية تماماً.

هذه لمحة عن قصة نوح، وأمّا بقية هذه القصّة وكيفية وقوع الطوفان وتفاصيلها الأُخرى، فسوف نشير إليها في السور التي أشرنا إليها في مطلع هذا البحث.

* * *

[91]

الآيات

وَإِلَى عَاد أَخَاهُمْ هُودَاً قَالَ يَـقَومِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـه غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلاَُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إنَّا لَنَريكَ فِى سَفَاهَة وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَـذِبينَ (66) قَالَ يَـقَوْمِ لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ وَلَـكِنِّىَ رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَـلَمِينَ (67)أُبَلِّغُكُمْ رِسَـلَتِ رَبِّى وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلى رَجُل مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ واذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَومِ نُوح وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَصطَةً فاذْكُرُوا ءَالآءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـدِقينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّنْ رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَدِلُنَنى فِى أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ مَّا نَزَّلَ اللهَ بِهَا مِن سُلْطن فَانتَظِرُوا إِنِّى مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ(71) فَأَنْجَيْنهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَة مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِأيَـتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤمِنينَ(72)

[92]

التّفسير

لمحة عن قصّة قوم هود:

عقيب ذكر رسالة نوح والدروس الغنية بالعبر الكامنة فيها، عمد القرآن الكريم إلى إعطاء لمحة سريعة عن قصّة نبي آخر من الأنبياء العظام، وهو النّبي هود(عليه السلام)، وذكر ما جرى بينه وبين قومه.

وهذه القصّة ذكرت في سور أُخرى من القرآن الكريم مثل سورة «الشعراء» وسورة «هود» التي تناولت هذه القصّة بشيء من التفصيل، وأمّا في الآيات الحاضرة فقد ذكر شيء مختصر عمّا دار بين هود والمعارضين له ونهايتهم.

يقول تعالى أوّلا: ولقد أرسلنا إلى قوم عاد أخاهم هوداً (وإلى عاد أخاهم هوداً).

وقوم «عاد» كانوا أُمّةً تعيش في أرض «اليمن» وكانت أُمّة قوية من حيث المقدرة البدنية والثروة الوافرة التي كانت تصل إليهم عن طريق الزراعة والرعي، ولكنّها كانت متخمة بالانحرافات الإعتقادية وبخاصّة الوثنية والمفاسد الأخلاقية المتفشية بينهم.

وقد كُلِّف «هود» الذي كان منهم ـ وكان يرتبط بهم بوشيجة القربى ـ من جانب الله بأن يدعوهم إلى الحق ومكافحة الفساد، ولعل التعبير بـ «أخاهم» إشارة إلى هذه الوشيجة النسبية بين هود وقوم عاد.

ثمّ إنّه يحتمل أيضاً أن يكون التعبير بـ «الأخ» في شأن النّبي هود، وكذا في شأن عدّة أشخاص آخرين من الأنبياء الإلهيين مثل نوح(عليه السلام) (سورة الشعراء الآية 106) وصالح (سورة الشعراء الآية 142) ولوط (سورة الشعراء الآية 161) وشعيب (سورة الأعراف الآية 85) إنّما هو لأجل أنّهم كانوا يتعاملون مع قومهم في منتهى الرحمة، والمحبّة مثل أخ حميم، ولا يألون جهداً في إرشادهم وهدايتهم ودعوتهم إلى الخير والصلاح.

[93]

إنّ هذه الكلمة تستعمل في من يعطف على أحد أو جماعة غاية العطف، ويتحرق لهم غاية التحرق، مضافاً إلى أنّها تحكي عن نوع من التساوي ونفي أي رغبة في التفوق والزعامة، يعني أن رسل الله لا يحملون في نفوسهم أية دوافع شخصية في صعيد هدايتهم، إنما يجاهدون فقط لإنقاذ شعوبهم وأقوامهم من ورطة الشقاء.

وعلى كل حال، فإنّ من الواضح والبيّن أنّ التعبير بـ «أخاهم» ليس إشارة إلى الأخوة الدينية مطلقاً، لأنّ هؤلاء الأقوام لم تستجب ـ في الأغلب ـ لدعوة أنبيائها الإصلاحية.

ثمّ يذكر تعالى أنّ هود شرع في دعوته في مسألة التوحيد ومكافحة الشرك والوثنية: (قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون).

ولكن هذه الجماعة الأنانية المستكبرة، وبخاصّة أغنياؤها المغرورون المعجبون بأنفسهم، والذين يعبّر عنهم القرآن بلفظة «الملأ» باعتبار أنّ ظاهرهم يملأ العيون، قالوا لهود نفس ما قاله قوم نوح لنوح(عليه السلام) (قال الملأ الذين كفروا من قومه إنّا لنراك في سفاهة وإنّا لنظنّك من الكاذبين).

«السفاهة» وخفة العقل كانت تعني في نظرهم أن ينهض أحد ضد تقاليد بيئته مهما كانت تلكم التقاليد خاوية باطلة، ويخاطر حتى بحياته في هذا السبيل.

لقد كانت السفاهة في نظرهم ومنطقهم هي أن لا يوافق المرء على تقاليد مجتمعه وسننه البالية، بل يثور على تلك السنن والتقاليد، ويستقبل برحابة صدر كل ما تخبئه له تلك الثورة والمجابهة.

ولكن هوداً ـ وهو يتحلى بالوقار والمتانة التي يتحلى بها الأنبياء والهداة الصادقون الطاهرون ـ من دون أن ينتابه غضب، أو تعتريه حالة يأس (قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكنّي رسول من ربّ العالمين).

ثمّ إنّ هوداً أضاف: إنّ مهمته هي إبلاغ رسالات الله إليهم، وإرشادهم إلى ما

[94]

فيه سعادتهم وخيرهم، وانقادهم من ورطة الشرك والفساد، كل ذلك مع كامل الإخلاص والنصح والأمانة والصدق (أبلغكم رسالات ربّي وأنا لكم ناصح أمين).

ثمّ إنّ هوداً أشار ـ في معرض الردّ على من تعجب من أن يبعث الله بشراً رسولاً ـ إلى نفس مقولة نوح النّبي لقومه: (أو عجبتم أن جاءكم ذِكرٌ من ربّكم على رجل منكم لينذركم) أي هل تعجبون من أن يرسل الله رجلا من البشر نبيّاً، ليحذركم من مغبة أعمالكم، وما ينتظركم من العقوبات في مستقبلكم؟

ثمّ إنّه إستثارةً لعواطفهم الغافية، وإثارة لروح الشكر في نفوسهم، ذكر قسماً من النعم التي أنعم الله تعالى بها عليهم، فقال: (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح)، فقد ورثتم الأرض بكل ما فيها من خيرات عظيمة بعد أن هلك قوم نوح بالطوفان بسبب طغيانهم وبادوا.

ولم تكن هذه هي النعمة الوحيدة، بل وهب لكم قوة جسدية عظيمة (وزادكم في الخلق بصطة).

إنّ جملة (زادكم في الخلق بصطة) يمكن أن تكون ـ كما ذكرنا ـ إشارة إلى قوة قوم عاد الجسدية المتفوقة، لأنّه يستفاد من آيات قرآنية عديدة، وكذا من التواريخ، أنّهم كانوا ذوي هياكل عظمية قوية وكبيرة، كما نقرأ ذلك من قولهم في سورة «فصلت» الآية 15 (من أشدّ منا قوة) وفي الآية (7) من سورة الحاقة  نقرأ ـعند ذكر ما نزل بهم من البلاء بذنوبهم ـ (فترى القوم فيها صرعى كأنّهم أعجاز نخل خاوية) حيث شبه جسومهم بجذوع النخل الساقطة على الأرض.

ويمكن أن تكون إشارة ـ أيضاً ـ إلى تعاظم ثروتهم وإمكانياتهم المالية، ومدنيتهم الظاهرية المتقدمة، كما يستفاد من آيات قرآنية وشواهد تاريخية أُخرى، ولكن الإحتمال الأوّل أنسب مع ظاهر الآية.

وفي خاتمة الآية يذكّر تلك الجماعة الأنانيّة بأن يتذكروا نعم الله لتستيقظ

[95]

فيهم روح الشكر فيخضعوا لأوامره، علّهم يفلحون (فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون).

ولكن في مقابل جميع المواعظ والإرشادات المنطقية، والتذكير بنعم الله ومواهبه، انبرت تلك الثلة من الناس الذين كانوا يرون مكاسبهم المادية في خطر، وقبول دعوة النّبي تصدّهم عن التمادي في أهوائهم وشهواتهم، انبرت إلى المعارضة، وقالوا بصراحة،: إنّك جئت تدعونا إلى عبادة الله وحده وترك ما كان أسلافنا يعبدون دهراً طويلا، كلاّ، لا يمكن هذا بحال (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبُدُ آباؤنا)؟

لقد كان مستوى تفكير هذه الثّلة منحطاً جدّاً ـ كما تلاحظ ـ إلى درجة أنّهم كانوا يستوحشون من عبادة الله وحده، بينما يعتبرون تعدّد الآلهة والمعبودات مفخرةً من مفاخرهم.

والجدير بالتأمل أنّ دليلهم في هذا المجال لم يكن إلاّ التقليد الأعمى لما كان عليه الآباء والأسلاف، وإلاّ فكيف يمكن أن يبرروا خضوعهم لقطعات من الصخور والأخشاب؟!

وفي النهاية، ولأجل أن يقطعوا أمل هود فيهم تماماً، ويقولوا كلمتهم الأخيرة قالوا: إذا كان حقاً وواقعاً ما تنذرنا به من العذاب، فلتبادر به، أي أنّنا لا نخشى تهديداتك أبداً (فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين).

وعندما بلغ الحوار إلى هذه النقطة، وأطلق أُولئك المتعنتون كلمتهم الأخيرة الكاشفة عن رفضهم الكامل لدعوة هود، وأيس هود ـ هو الآخر ـ من هدايتهم تماماً، قال: إذن ما دام الأمر هكذا فسيحلّ عليكم عذاب ربّكم (قال قد وقع عليكم من ربّكم رجس وغضب).

و«الرّجس» في الأصل بمعنى الشيء غير الطاهر، ويرى بعض المفسّرين أنّ لأصل هذه اللفظة معنى أوسع، فهو يعني كل شيء يبعث على النفور والتقزز

[96]

والقرف، ولهذا يطلقُ على جميع أنواع الخبائث والنجاسات والعقوبات لفظ «الرجس» لأنّ جميع هذه الأُمور توجب نفور الإنسان، وابتعاده.

وعلى كل حال فإنّ هذه الكلمة في الآية المبحوثة يمكن أن تكون بمعنى العقوبات الإِلهية، ويكون ذكرها مع جملة «قد وقع» التي هي بصيغة الفعل الماضي إشارة إلى أنّكم قد أصبحتم مستوجبين للعقوبة حتماً وقطعاً، وأن العذاب سيحل بكم لا محالة.

كما يمكن أن يكون بمعنى النجاسة وتلوث الروح، يعني أنّكم قد غرقتم في دوّامة الإنحراف والفساد إلى درجة أنّ روحكم قد دفنت تحت اوزار كثيفة من النجاسات، وبذلك استوجبتم غضب الله، وشملكم سخطه.

ثمّ لأجل أن لا يبقى منطق عبادة الاوثان من دون ردّ أضاف قائلا: (أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وأباءكم ما نزل الله بها من سلطان) فهذه بُراء، وجئتم تجادلونني في عبادتها في حين لم ينزل بذلك أي دليل من جانب الله.

وفي الحقيقة، أنّ هذه الأصنام لا تملك من الألوهية إلاّ أسماء من دون مسمّيات، وهي أسماء من نسج خيالكم وخيال أسلافكم، وإلاّ فهي كومة أحجار وأخشاب لا تختلف عن غيرها من أحجار البراري وأخشاب الغابات.

ثمّ قال: فإذا كان الأمر هكذا فلننتظر جميعاً، انتظروا أنتم أن تنفعكم أصنامكم ومعبوداتكم وتنصركم، وأنتظر أنا أن يحلّ بكم غضب الله وعذابه الأليم جزاء تعنتكم، وسيكشف المستقبل أي واحد من هذين الإنتظارين هو الأقرب إلى الحقيقة والواقع (فانتظروا إنّي معكم من المنتظرين).

وفي نهاية الآية بيّن القرآن مصير هؤلاء القوم المتعنتين في عبارة قصيرة موجزة: (فأنجيناه والذين معه برحمة منّا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين) أجل، لقد أنجى الله هوداً ومن اتبعه من القوم بلطفه ورحمته، وأمّا الذين كذبوا بآيات الله، ورفضوا الإنضواء تحت لواء دعوته، والإنصياع للحق، فقد

[97]

أبيدوا نهائياً.

و«دابر» في اللغة بمعنى آخر الشيء ومؤخرته، وبناء على هذا المفهوم يكون معنى الآية: أنّنا أبدنا هؤلاء القوم إبادة كاملة واستأصلنا شأفتهم.

(وسوف نبحث بالتفصيل حول قوم عاد وبقية خصوصيات حياتهم وكيفية عقوبة الله لهم والعذاب الذي نزل وحلّ بهم عند تفسير سورة هود بإذن الله).

* * *

[98]

الآيات

وَإِلى ثَمُودُ أَخَاهُمْ صَـلِحاً قَالَ يَـقَوم اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـه غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَـذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ ءَايَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللهِ وَلاَتَمَسُّوهَا بِسُوء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) واذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَاد وَبَوَّأَكُمْ فِى الاَْرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا ءَالاَءَ اللهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِى الاَْرْضِ مَفْسِدينَ (74) قَالَ الْمَلاَُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَومِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَـلِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلُ بِهِ مُؤمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِى ءَامَنتُم بِهِ كَـفِرُونَ(76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَـصَـلِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ(77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِى دَارِهِمْ جَـثِمِينَ (78)فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَـقَومِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَـكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّـصِحِينَ (79)

[99]

التّفسير

قصة قوم صالح وما فيها من عبر

في هذه الآيات جاءت الإشارة إلى قيام «صالح» النّبي الإلهي العظيم في قومه «ثمود» الذين كانوا يسكنون في منطقة جبلية بين الحجاز والشام، وبهذا يواصل القرآن أبحاثه السابقة الغنية بالعبر حول قوم نوح وهود.

وقد أُشير إلى هذا القصة أيضاً في سورة: «هود» و«الشعراء» و«القمر» و«الشمس» وجاءت بصورة أكثر تفصيلا في سورة «هود» أمّا هذه الآيات فقد اُوردت ما دار بين صالح(عليه السلام) وقومه قوم ثمود، وعن مصيرهم، وعاقبة أمرهم بصورة مختصرة.

فيقول تعالى في البداية: (وإلى ثمود أخاهم صالحاً).

وقد مر بيان العلة في إطلاق لفظة «الأخ» على الأنبياء عند تفسير الآية (65) من نفس هذه السورة في قصة هود.

ولقد كانت أوّل خطوة خطاها نبيّهم صالح في سبيل هدايتهم، هي الدعوة إلى التوحيد، وعبادة الله الواحد (قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من آله غيره).

ثمّ أضاف: إنّه لا يقول شيئاً من دون حجة أو دليل، بل قد جاء إليهم ببيّنة من ربّهم (قد جاءتكم بيّنة من ربّكم هذه ناقة الله لكم آية).

و«النّاقة» أنثى الإبل، وقد أشير إلى ناقة صالح في سبعة مواضع من القرآن الكريم(1).

وأمّا حقيقه هذه الناقة، وكيف كانت معجزة صالح الساطعة، وآيته المفحمة لقومه، فذلك ما سنبحثه في سورة هود، في ذيل الآيات المرتبطة بقوم ثمود بإذن الله.

_____________________________

1 ـ قال الطبرسي في المجمع: الناقة أصلها من التوطئة والتذليل يقال بعير منوق أي مذلل موطأ، ولعل إطلاقها على اُثنى الإبل لكونها أكثر ذلولا للإمتطاء والركوب.

[100]

على أنّه ينبغي الإلتفات إلى أنّ إضافة «الناقة» إلى «الله» في الآيات الحاضرة من قبيل الإضافة التشريفية ـ كما هو المصطلح ـ فهي إشارة إلى أنّ هذه الناقة المذكورة لم تكن ناقة عادية، بل كانت لها ميزات خاصّة.

ثمّ إنّه يقول لهم: اتركوا الناقة تأكل في أرض الله ولا تمنعوها (فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم).

وإضافة الأرض إلى «الله» إشارة إلى أنّ هذه الناقة لا تزاحم أحداً، فهي تعلف من علف الصحراء فقط، ولهذا يجب أن لا يزاحموها.

ثمّ يقول في الآية اللاحقة (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوّأكم في الأرض) أي من جانب لا تنسوا نعم الله الكثيرة، ومن جانب آخر انتبهوا إلى أنّه قد سبقكم أقوام (مثل قوم عاد) طغوا فحاق بهم عذاب الله بذنوبهم وهلكوا.

ثمّ ركز على بعض النعم الإِلهية كالأرض فقال: (تتخذون من سهولها قصوراً، وتنحنون الجبال بيوتاً)، فالأرض قد خُلِقَت بنحو تكون سهولها المستوية والمزودة بالتربة الصالحة لإقامة القصور الفخمة، كما تكون جبالها صالحة لأن تنحت فيها البيوت القوية المحصنة لفصل الشتاء والظروف الجوية القاسية.

ويبدو للنظر من هذا التعبير هو أنّهم كانوا يغيرون مكان سكناهم في الصيف والشتاء، ففي فصل الربيع والصيف كانوا يعمدون إلى الزراعة والرعي في السهول الواسعة والخصبة، ولهذا كانت عندهم قصور جميلة في السهول، وعند حلول فصل البرد والإنتهاء من الحصاد يسكنون في بيوت قوية منحوتة في قلب الصخور، وفي أماكن آمنة تحفظهم من خطر السيول والعواصف والاخطار.

وفي ختام الآية يقول تعالى: (فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين)(1).

_____________________________

1 ـ «تعثوا» مشتقة من مادة «عثى» معنى إيجاد الفساد، غاية ما هنالك أنّ هذه المادة تستعمل في الأغلب في المفاسد الأخلاقية والمعنوية، في حين تطلق مادة «عبث» على المفاسد الحسية، وبناء على هذا يكون كلمة «المفسدين» بعد جملة «لا تعثوا» لغرض التأكيد، لأنّ كليهما يعطيان معنىً واحداً.

[101]

ثمّ إنّنا نلاحظ أيضاً أنّ جماعة الأغنياء والمترفين ذوي الظاهر الحسن، والباطن القبيح الخبيث، الذين عبر عنهم بالملأ أخذوا بزمام المعارضة لهذا النّبي الإِلهيّ العظيم، وحيث أنّ عدداً كبيراً من أصحاب القلوب الطيبة والافكار السليمة كانت ترزح في أسر الأغنياء والمترفين، قد قبلت دعوة النّبي صالح واتبعته، لهذا بدأ الملأ بمخالفتهم لهؤلاء المؤمنين.

فقال الفريق المستكبر من قوم صالح للمستضعفين الذين آمنوا بصالح: هل تعلمون يقيناً أنّ صالحاً مرسَل من قبل الله (قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أنّ صالحاً مرسَل من ربّه).

على أنّ الهدف من هذا السؤال لم يكن هو تحري الحق، بل كانوا يريدون بإلقاء هذه الشبهات زعزعة الإيمان في نفوس من آمن، وإضعاف معنوياتهم، وظناً منهم بأن هذه الجماهير ستطيعهم وتكف عن متابعة صالح وحمايته، كما كانت مطيعة لهم يوم كانت تحت سيطرتهم ونفوذهم.

ولكن سرعان ما واجهوا ردّ تلك الجموع المؤمنة القاطع، الكاشف عن إرادتها القوية وعزمها على مواصلة طريقها، حيث قالوا: إنّنا لسنا نعتقد بأنّ صالحاً رسول من قبل الله فحسب، بل نحن مؤمنون أيضاً بما جاء به (قالوا إنّا بما أرسل به مؤمنون).

ولكن هؤلاء المغرورين المتكبرين لم يكفوا عن عملهم، بل عادوا مرّة أُخرى إلى إضعاف معنوية المؤمنين (قال الذين استكبروا إنّا بالذي آمنتم به كافرون). وكانت هذه محاولة منهم لجرّ هؤلاء المستضعفين الى صفوفهم مرّة أُخرى.

كانوا المقدّمين في المجتمع والأُسوة للآخرين على الدوام بما كانوا يتمتّعون

[102]

به من قوة وثراء، لهذا كانوا يظنون أنّهم بإظهار الكفر سيكونون أسوة للآخرين أيضاً، وأن الناس سوف يتبعونهم كما كانوا يفعلون ذلك من قبل، ولكنّهم سرعان ما وقفوا على خطأهم، وعلموا أنّ الناس قد اكتسبوا بالإيمان بالله على شخصيّة حضارية جديدة واستقلال فكري، وقوة إرادة.

والجدير بالإنتباه أنّ الأغنياء والملأ وُصِفُوا في الآيات الحاضرة بالمستكبرين، ووصفت الجماهير الكادحة المؤمنة بالمستضعفين، وهذا يفيدالفريق الأوّل قد وصلوا بشعورهم بالتفوق، وغصب حقوق الناس واستغلالهم إلى مرتبة ما يسمى في لغة العصر بـ «الطبقة المستغلّة»، والفريق الآخر بالطبقة المستغلَّة.

عندما يئس الملأ والأغنياء المستكبرون من زعزعة الإيمان في نفوس الجماهير المؤمنة بصالح(عليه السلام)، ومن جانب آخر رأوا أنّ وساوسهم وشائعاتهم لا تجدي نفعاً مع وجود «الناقة» التي كانت تُعَدّ معجزة صالح(عليه السلام)، لهذا قرّروا قتل الناقة، مخالفين بذلك أمر ربّهم(فعقروا النّاقة وعتوا عن أمر ربّهم)(1).

ولم يكتَفوا بهذا أيضاً، بل أَتَوا إلى صالح نفسه وبصراحة (قالو يا صالح أئتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين).

يعني أنّنا لا نخاف تهديداتك مطلقاً، وأن هذه التهديدات جميعها لا أساس لها ... والحقيقة أنّ هذا الكلام نوع من الحرب النفسية ضد صالح(عليه السلام)، بهدف إضعاف روحيته وروحية المؤمنين به.

وعندما وصل المعارضون بطغيانهم وتمرّدهم إلى آخر درجة، وأطفأوا في نفوسهم آخر بارقة أمل في الإيمان، حلّت بهم العقوبة الإِلهية طبقاً لقانون انتخاب الأصلح، وإهلاك ومحو الكائنات الفاسدة والمفسدة (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا

_____________________________

1 ـ المراد من العقر هو قطع عصب خاص خلف رجل الناقة أو الفرس هو سبب حركتها، فإذا قطع سقط الحيوان، وفقد القدرة على الحركة، والتنقل.

[103]

في دارهم جاثمين).

إنّها كانت زلزلة و رجفة عظيمة تهاوت على أثرها قصورهم وبيوتهم القوية، واندثرت حياتهم الجميلة، حتى أنّه لم يبق منهم إلاّ أجساد ميتة... هكذا أصبحوا.

و«جاثم» في الأصل مشتق من مادة «جثم» بمعنى القعود على الركب، والتوقف في مكان واحد، ولا يبعد أن يكون هذا التعبير إشارة إلى أنّ الزلزلة والرجفة جاءتهم وهم في حالة نوع هنيئة، فجلسوا على أثرها فجأة، وبينما كانوا قاعدين على ركبهم لم تمهلهم الرجفة، بل ماتوا وهم على هذه الهيئة، إمّآ خوفاً، وإمّا بسبب إنهيار الجدران عليهم، وإمّا بفعل الصاعقة التي رافقت الزلزال!!

بأيّ شيء اُهلِكَ قوم ثمود:

وهنا يطرح سؤال وهو: يستفاد من الآية الحاضرة أنّ الشيء الذي أهلك هؤلاء المتمردون كان هو الزلزال، ولكن يظهر من الآية (13) من سورة فصلت أنّه كان الصاعقة، بينما نقرأ في الآية (15) من سورة الحاقة (أمّا ثمود فاهلكوا بالطاغية)يعني أنّ قوم ثمود اُهلكوا بشيء مدمّر، فهل هناك تناقض بين هذه التعابير؟

إنّ الجواب على هذا السؤال يمكن أن يلخص في جملة واحدة، وهي جميع هذه العبارات ترجع إلى معنى واحد، أو أنّه يلازم بعضها بعضاً، فكثيراً ما تحدث الرجة الأرضية في منطقة ما بفعل صاعقة عظيمة، أي أنّه تحدث صاعقة أوّلا، ثمّ تحدث على أثرها رجة أرضية.

وأمّا «الطاغية» فهي بمعنى كائن تجاوز عن حدّه، وهذا ينسجم مع الزلزلة وكذا مع الصاعقة، ولهذا فلا يوجد أي تناقض بين الآيات.

وفي آخر آية من الآيات المبحوثة يقول: (فتولّى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربّي ونصحت لكم ولكن لا تحبّون الناصحين) أي بعد هذه القضية

[104]

تولى صالح وهو يقول: لقد أديت رسالتي إليكم، ونصحت لكم ولكنّكم لا تحبّون من ينصحكم.

وهنا يطرح سؤال آخر، وهو: هل كلام صالح هذا كان بعد هلاك المتمردين من قومه، أو أنّ هذا الكلام هو الحوار الأخير الذي جرى بينه وبين قومه قبيل هلاك القوم وموتهم، أي بعد إتمام الحجّة عليهم... ولكن ذكر في عبارة القرآن بعد قضية هلاكهم وموتهم بالرجفة؟

هناك احتمالان: والحقيقة أنّ الإحتمال الثّاني أنسب مع ظاهر الخطاب، لأنّ الحديث مع قوم ثمود يفيد أنّهم كانوا أحياء. ولكن الإحتمال الأوّل هو أيضاً غير بعيد، لأنّه كثيراً ما تتم محادثة أرواح الموتى بمثل هذا الكلام ليعتبر الباقون الحاضرون، تماماً كما نقرأ نظير ذلك في تاريخ الإمام علي(عليه السلام) فإنّه(عليه السلام) وقف ـ بعد معركة الجمل ـ عند جسد طلحة وقال: «ويل أُمّك، طلحة! لقد كان لك قدم لو نفعك، ولكن الشيطان أضلك فأزلك، فعجلك إلى النّار».(1)

كما نقرأ ـ أيضاً ـ في أواخر نهج البلاغة أنّ الإمام علياً(عليه السلام) عندما عاد من معركة صفّين وقف عند مدخل الكوفة والتفت إلى مقابر الموتى، فسلّم على أرواح الماضين أوّلا، ثمّ قال: «أنتم السابقون ونحن اللاحقون».

* * *

_____________________________

1 ـ شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، ج1، ص248.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=741
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 16