• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الرابع) ، تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي .
                    • الموضوع : سورة الانعام من آية 29 ـ 53 من ( ص 255 ـ 302 ) .

سورة الانعام من آية 29 ـ 53 من ( ص 255 ـ 302 )

[255]

الآيات

وَقَالُوا إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ(29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَـذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ(30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَآءِ اللهِ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَـحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَسَآءَ مَايَزِرُونَ(31) وَمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الاَْخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(32)

التّفسير

في تفسير الآية الاُولى احتمالان:

الأوّل: أنّها إِستئناف لأقوال المشركين المعاندين المتصلبين الذين يتمنون ـ عندما يشاهدون أهوال يوم القيامة ـ أن يعودوا إِلى دار الدنيا ليتلافوا ما فاتهم، ولكن القرآن يقول إِنّهم إِذا رجعوا لا يتجهون إِلى جبران ما فاتهم، بل يستمرون على ما كانوا عليه، وأكثر من ذلك فإِنّهم يعودون إِلى إِنكار يوم القيامة (وقالوا إِن هي إِلاّ حياتنا الدّنيا وما نحن بمبعوثين)(1).

الاحتمال الثّاني: أنّ الآية تشرع بكلام جديد يخصّ نفراً من المشركين ممّن

_____________________________

1 ـ بحسب هذا الإِحتمال «وقالوا» معطوفة على «عادوا» وهذا ما يقول به صاحب تفسير «المنار».

[256]

كفروا بالمعاد كلياً، فقد كان بين مشركي العرب فريق لا يؤمنون بالمعاد، وفريق آخر يؤمنون بنوع من المعاد.

الآية التّالية تشير إِلى مصيرهم يوم القيامة، يوم يقفون بين يدي الله: (ولو ترى إِذ وقفوا على ربّهم قال أليس هذا بالحقّ)، فيكون جوابهم أنّهم يقسمون بأنّه الحقّ: (قالوا بلى وربّنا).

عندئذ: (قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) لا شك أنّ «الوقوف بين يدي الله» لا يعني إِنّ لله مكاناً، بل يعني الوقوف في ميدان الحساب للجزاء، كما يقول بعض المفسّرين، أو أنّه من باب المجاز، مثل قول الإِنسان عند أداء الصّلاة أنّه يقف بين يدي الله وفي حضرته.

الآية التي بعدها فيها، إِشارة إِلى خسران الذين ينكرون المعاد، فتقول: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله)، إِنّ المقصود بلقاء الله هو ـ كما قلنا من قبل ـ اللقاء المعنوي والإِيمان الشهودي (الشهود الباطني)، أو هو لقاء مشاهد يوم القيامة والحساب والجزاء.

ثمّ تبيّن الآية أنّ هذا الإِنكار لن يدوم، بل سيستمر حتى قيام يوم القيامة، حين يرون أنفسهم فجأة أمام مشاهده الرهيبة، ويشهدون بأعينهم نتائج أعمالهم، عندئذ ترتفع أصواتهم بالندم على ما قصروا في حق هذا اليوم: (حتى إِذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها).

و«الساعة» هي يوم القيامة، و«بغتة» تعني فجأة وعلى حين غرة، إِذ تقوم القيامة دون أن يعلم بموعدها أحد سوى الله تعالى، وسبب إِطلاق «الساعة» على يوم القيامة إمّا لأنّ حساب الناس يجري سريعاً فيها، أو للإِشارة إِلى فجائية حدوث ذلك، حيث ينتقل الناس بسرعة خاطفة من عالم البرزخ إِلى عالم القيامة.

و«التحسر» هو التأسف على شيء، غير أنّ العرب عند تأثرهم الشديد يخاطبون «الحسرة» فيقولون: «يا حسرتنا»، فكأنّهم يجسدونها أمامهم ويخاطبونها.

[257]

ثمّ يقول القرآن الكريم (وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم).

«الأوزار» جمع «وزر» وهو الحمل الثقيل، وتعني الأوزار هنا الذنوب، ويمكن أن تتخذ هذه الآية دليلا على تجسد الأعمال، لأنّها تقول إِنّهم يحملون ذنوبهم على ظهورهم، ويمكن أيضاً أن يكون الاستعمال مجازياً كناية عن ثقل حمل المسؤولية، إِذ أنّ المسؤوليات تشبه دائماً بالحمل الثقيل.

وفي آخر الآية يقول الله تعالى: (ألا ساء ما يزرون).

في هذه الآية جرى الكلام على خسران الذين ينكرون المعاد، والدليل على هذا الخسران واضح، فالإِيمان بالمعاد، فضلا عن كونه يعد الإِنسان لحياة سعيدة خالدة، ويحثه على تحصيل الكمالات العلمية والعملية، فان له تأثيراً عميقاً على وقاية الإِنسان من التلوث بالذنوب والآثام، وهذا ما سوف نتناوله ـ إِن شاء الله ـ عند بحث الإِيمان بالمعاد وأثره البناء في الفرد والمجتمع.

* * *

ثمّ لبيان نسبة الحياة الدنيا إِلى الحياة الآخرة، يقول الله تعالى: (وما الحياة الدنيا إِلاّ لعب ولهو) فهؤلاء الذين اكتفوا بهذه الحياة، ولا يطلبون غيرها، هم أشبه بالأطفال الذين يودون أن لو يقضوا العمر كلّه في اللعب واللهو غافلين عن كل شيء.

إِنّ تشبيه الحياة الدنيا باللهو واللعب يستند إِلى كون اللهو واللعب من الممارسات الفارغة السطحية التي لا ترتبط بأصل الحياة الحقيقية، سواء فاز اللاعب أم خسر، إِذ كل شيء يعود إلى حالته الطبيعية بعد اللعب.

وكثيراً ما نلاحظ أنّ الأطفال يتحلقون ويشرعون باللعب، فهذا يكون «أميراً» وذاك يكون «وزيراً» وآخر «لصاً» ورابع يكون «قافلة»، ثمّ لا تمضي ساعة حتى ينتهي اللعب ولا يكون هناك «أمير» ولا «وزير» ولا «لص» ولا

[258]

«قافلة»! أو كما يحدث في المسرحيات أو التمثيليات، فنشاهد مناظر للحرب أو الحبّ أو العداء تتجسد على المسرح، ثمّ بعد ساعة يتبدد كل شيء.

والدنيا أشبه بالتمثيلية التي يقوم فيها الناس بتمثيل أدوار الممثلين، وقد تجتذب هذه التمثيلية الصبيانية حتى عقلاءنا ومفكرينا، ولكن سرعان ما تسدل الستارة وينتهي التمثيل.

«لعب» على وزن «لزج» من «اللعاب» على وزن «غبار» وهو الماء الذي يتجمع في الفم ويسيل منه، فإِطلاق لفظة «اللعب» على اللهو والتسلية جاء للتشابه بينه وبين اللعاب الذي يسيل دون هدف.

ثمّ تقارن الآية حياة العالم الآخر بهذه الدنيا، فتقول: (وللدار الآخرة خير للذي يتقون أفلا تعقلون).

فتلك حياة خالدة لا تفنى في عالم أوسع وعلى أرفع، عالم يتعامل مع الحقيقة لا المجاز ومع الواقع لا الخيال، عالم لا يشوب نعمه الألم والعذاب، عالم كلّه نعمة خالصة لا ألم فيه ولا عذلب.

ولكن إدراك هذه الحقائق وتمييزها عن مغريات الدنيا الخداعة غير ممكن لغير المفكرين الذين يعقلون، لذلك إتجهت الآية إليهم بالخطاب في النهاية.

في حديث رواه هشام بن الحكم عن الامام موسى بن جعفر(عليه السلام) قال: «يا هشام إنّ اللّه وعظ أهل العقل ورغبهم في الآخرة فقال: (وما الحياة الدّنيا إلاّ لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذي يتقون أفلا تعقلون)(1)

غني عن القول أنّ هدف هذه الآيات هو محاربة الانشداد بمظاهر عالم المادة ونسيان الغاية النهائية، أمّا الذين جعلوا الدنيا وسيلة للسعادة فهم يبحثون ـ في الحقيقة ـ عن الآخرة، لا الدنيا.

* * *

_____________________________

1 ـ تفسير «نور الثقلين»، ج1، ص711.

[259]

الآيتان

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِى يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـكِنَّ الظَّـلِمِينَ بِأَيَـتِ اللهِ يَجْحَدُونَ(33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَـهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَـتِ اللهِ وَلَقَدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِى الْمُرْسَلِينَ(34)

التّفسير

المصلحون يواجهون الصعاب دائماً:

لا شك أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في نقاشاته المنطقية ومحاوراته الفكرية مع المشركين المعاندين المتصلبين، كان يواجه منهم المعاندة واللجاجة والتصلب والتعنت، بل كانوا يرشقونه بتهمهم، ولذلك كله كان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يشعر بالغم والحزن، والله تعالى في مواضع كثيرة من القرآن يواسي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ويصبّره على ذلك، لكي يواصل مسيرته بقلب أقوى وجأش أربط، كما جاء في هذه الآية: (قد نعلم أنّه ليحزنك الذي يقولون)، فاعلم أنّهم لا ينكرونك أنت، بل هم ينكرون آيات الله، ولا يكذبونك بل يكذبون الله: (فأنّهم لا يكذّبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون).

ومثل هذا القول شائع بيننا، فقد يرى «رئيس» أنّ «مبعوثه» إِلى بعض الناس عاد غاضباً، فيقول له: «هوّن عليك، فان ما قالوه لك إِنّما كان موجهاً إِليّ، وإِذا

[260]

حصلت مشكلة فأنّا المقصود بها، لا أنت» وبهذا يسعى إِلى مواساة صاحبه والتهوين عليه.

ثمّة مفسّرون يرون للآية تفسيراً آخر، لكن ظاهر الآية هو هذا الذي قلناه، ولكن لا بأس من معرفة هذا الاحتمال القائل بأن معنى الآية هو: إِنّ الذين يعارضونك هم في الحقيقة مؤمنون بصدقك ولا يشكون في صحة دعوتك، ولكن الخوف من تعرض مصالحهم للخطر هو الذي يمنعهم من الرضوخ للحق، أو أنّ الذي يحول بينهم وبين التسليم هو التعصب والعناد.

يتبيّن من كتب السيرة أنّ الجاهليين ـ بما فيهم أشدّ المعارضين للدّعوة ـ كانوا يعتقدون في أعماقهم بصدق الدعوة، ومن ذلك ما روي أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)لقي أبا جهل فصافحه أبو جهل، فقيل له في ذلك، فقال: والله إِني لأعلم أنّه صادق، ولكنا متى كنّا تبعاً لعبد مناف! (أي أنّ قبول دعوته سيضطرنا إِلى اتباع قبيلته).

وورد في كتب السيرة أنّ أبا جهل جاء في ليلة متخفياً يستمع قراءة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، كما جاء في الوقت نفسه أبو سفيان والأخنس بن شريق، ولا يشعر أحد منهم بالآخر فاستمعوا إِلى الصباح، فلمّا فضحهم الصبح تفرقوا، فجمعتهم الطريق، فقال كل منهم للآخر ما جاء به، ثمّ تعاهدوا أن لا يعودوا، لما يخافون من علم شبان قريش بهم لئلا يفتتنوا بمجيئهم، فلمّا كانت اليلة الثّانية جاء كل منهم ظاناً أنّ صاحبيه لا يجيئان لما سبق من العهود، فلمّا أصبحوا جمعتهم الطريق مرّة ثانية فتلاوموا، ثمّ تعاهدوا أن لا يعودوا، فلمّا كانت اللية الثالثة جاؤوا أيضاً، فلما أصبحوا تعاهدوا أن لا يعودا لمثلها، ثمّ تفرقوا فلمّا أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثمّ خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: اخبرني ـ يا أبا حنظلة ـ عن رأيك فيما سمعت من محمّد؟

قال: يا أبا ثعلبة، واللّه لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء، ما عرفت معناها ولا ما يراد بها.

قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به.

[261]

ثمّ خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمّد؟

قال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد المناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا (أي أعطوا الناس ما يركبونه) فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إِذا تجاثينا على الركب وكنّا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً، ولا نصدقه، فقام عنه الأخنس وتركه.

وروي أنّه التقى أخنس بن شريق وأبو جهل بن هشام فقال له: يا أبا الحكم، اخبرني عن محمّد أصادق هو أم كاذب، فإِنّه ليس ها هنا أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا، فقال أبو جهل: ويحك والله إِنّ محمّداً لصادق وما كذب قط، ولكن إِذا ذهب بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والندوة والنّبوة فماذا يكون لسائر قريش؟!(1)

يتبيّن من هذه الرّوايات وأمثالها أنّ كثيراً من أعداء رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الألداء كانوا في باطنهم يعترفون بصدق ما يقول، إِلاّ أنّ التنافس القبلي وما إِلى ذلك، لم يكن يسمح لهم بإعلان ما يعتقدون، أو لم تكن لديهم الشجاعة على ذلك.

إنّنا نعلم أنّ مثل هذا الإِعتقاد الباطني ما لم يصاحبه التسليم، لن يكون له أي أثر، ولا يُدخل الإِنسان في زمرة المؤمنين الصادقين.

الآية الثّانية تستأنف مواساة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وتبيّن له حال من سبقه من الأنبياء، وتؤكّد له أنّ هذا ليس مقتصراً عليه وحده، فالأنبياء قبله نالهم من قومهم مثل ذلك أيضاً: (ولقد كذّبت رسل من قبلك).

ولكنّهم صبروا وتحملوا حتى انتصروا بعون الله: (فصبروا على ما كذبوا واوذوا حتى أتاهم نصرنا) وهذه سنة إِلهية لا قدرة لأحد على تغييرها: (ولا مبدل لكلمات الله).

وعليه، فلا تجزع ولا تبتئس إِذا ما كذبك قومك وآذوك، بل اصبر على

_____________________________

1 ـ الرّوايات المذكورة مستقادة من تفسير «المنار» و«مجمع البيان» في ذيل الآية المذكورة.

[262]

معاندة الأعداء وتحمل أذاهم، واعلم أنّ الإِمدادات والألطاف الإِلهية ستنزل بساحتك بموجب هذه السنة، فتنتصر في النهاية عليهم جميعاً، وإِنّ ما وصلك من أخبار الأنبياء السابقين عن مواجهتهم الشدائد والمصاعب وعن ثباتهم وصبرهم وانتصارهم في النهاية، لهو شهادة بيّنة لك: (ولقد جاءك من نبأ المرسلين).

تشير هذه الآية ـ في الواقع ـ إِلى مبدأ عام هو أنّ قادة المجتمع الصالحين الذين يسعون لهداية الشعوب عن طريق الدعوة إِلى مبادىء وتعاليم بناءة، وبمحاربة الأفكار المنحطة والخرافات السائدة والقوانين المغلوطة في المجتمع، يواجهون معارضة شديدة من جانب فريق الإِنتهازيين الذين يرون في انتشار تلك التعاليم والمبادىء البناءة خطراً يتهدد مصالحهم، فلا يتركون وسيلة إِلاّ استخدموها لترويج أهدافهم المشؤومة، ولا يتورعون حتى عن التوسل بالتكذيب والإِتهام، والحصار الإِجتماعي، والإِيذاء والتعذيب، والسلب والنهب، والقتل، وبكل ما يخطر لهم من سلاح لمحاربة أُولئك المصلحين.

إِلاّ أنّ الحقيقة، بما فيها من قوة الجاذبية والعمق، وبموجب السنة الإِلهية، تعمل عملها وتزيل من الطريق كل تلك الأشواك، إِلاّ أنّ شرط هذا الإِنتصار هو الصبر والمقاومة والثبات.

تعبر هذه الآية عن السنن بعبارة «كلمات الله»، لأنّ الكلم والكلام في الأصل التأثير المدرك بإِحدى الحاستين، السمع أو البصر، فالكلام مدرك بحاسة السمع، والكلم بحاسة البصر، وكلمته: جرحته جراحة بان تأثيرها، ثمّ كان توسع في إِطلاق «الكلمة» على الألفاظ والمعاني وحتى على العقيدة والسلوك والسنة والتعاليم.

* * *

[263]

الآيتان

وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِىَ نَفَقَاً فِى الاَْرْضِ أَوْ سُلَّماً فِى السَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُم بِأَيَة وَلَوْ شَآءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَـهِلِينَ(35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ(36)

التّفسير

الأموات المتحركون:

هاتان الآيتان استمرار لمواساة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) التي بدأت في الآيات السابقة لقد كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يشعر بالحزن العميق لضلال المشركين وعنادهم، وكان يود لو أنّه استطاع أن يهديهم جميعاً إِلى طريق الإِيمان بأية وسيلة كانت.

فيقول الله تعالى: (وإن كان كبُر عليك اعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلّماً فتأتيهم بآية)(1). أي إِذا كان إعراض هؤلاء المشركين يصعب ويثقل عليك، فشق أعماق الأرض أو ضع سلّماً يوصلك إِلى السماء للبحث عن آية ـ إن استطعت ـ ولكن اعلم أنّهم مع ذلك لن يؤمنوا بك.

_____________________________

1 ـ جملة (إن استطعت ...) جملة شرطية جوابها محذوف، تقديره «إن استطعت ... فافعل ولكنّهم لا يمؤمنون».

[264]

«النفق» في الأصل «النقب» وهو الطريق النافذ، والسرب في الأرض النافذ فيها، ومنه النفاق، وهو الدخول في الشرع من باب والخروج عنه من باب، أي أنّ للمنافق سلوكاً ظاهراً وآخر خفياً.

في هذه الآية يخبر الله نبيّه بأن ليس في تعليماتك ودعوتك وسعيك أي نقص، بل النقص فيهم لأنّهم هم الذين رفضوا قبول الحقّ، لذلك فانّ أي مسعى من جانبك لن يكون له أثر فلا تقلق.

ولكن لكيلا يظن أحد أنّ الله غير قادر على حملهم على التسليم يقول: (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) أي لو أراد حملهم على الإِستسلام والرضوخ لدعوتك والإِيمان بالله لكان على ذلك قديراً.

غير أنّ الإِيمان الإِجباري لا طائل تحته، إنّ خلق البشر للتكامل مبني على أساس حرية الإِختيار والإِرادة، ففي حالة حرية الإِختيار وحدها يمكن تمييز «المؤمن» من «الكافر»، و«الصالح» من «غير الصالح» و«المخلص» من «الخائن» و«الصادق» من «الكاذب». أمّا في الإِيمان الإِجباري فلن يكن ثمّة اختلاف بين الطيب والخبيث، وعلى صعيد الإِجبار تفقد كل هذه المفاهيم معانيها تماماً.

ثمّ يقول سبحانه لنبيّه: (فلا تكونن من الجاهلين)، أي لقد قلت هذا لئلا تكون من الجاهلين، أي لا تفقد صبرك ولا تجزع، ولا يأخذك القلق بسبب كفرهم وشركهم.

وما من شك أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعلم هذه الحقائق ولكن الله ذكرها له من باب التطمين وتهدئة الروع، تماماً كالذي نقوله نحن لمن فقد إبنه: لا تحزن فالدنيا فانية، سنموت جميعاً، وأنت ما تزال شاباً ولسوف ترزق بابن آخر، فلا تجزع كثيراً.

فلا ريب أنّ فناء دار الدنيا، أو كون المصاب شاباً ليسا مجهولين عنده،

[265]

ولكنها أُمور تقال للتذكير.

على الرّغم من أنّ هذه الآية من الآيات التي تنفي الإِجبار والإِكراه، فإِنّ بعض المفسّرين كالرّازي، يعتبرها من الأدلة على «الجبر» ويستند إِلى (ولو  شاء ...) ويقول: يتّضح من هذه الآية أنّ الله لا يريد للكفار أن يؤمنوا! ولكنّه غفل عن أنّ الإِرادة والمشيئة في هذه الآية هما الإِجباريتان، أي أنّ الله لا يريد الناس أن يؤمنوا بالإِجبار والإِكراه، بل يريدهم أن يؤمنوا بإِختيارهم وإرادتهم، وعليه فانّ هذه الآية دليل قاطع يدحض مقوله «الجبريين».

في الآية التي تليها استكمال لما سبق ومزيد من المواساة للرسول الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم)، فتقول الآية (إِنّما يستجيب الذين يسمعون).

أمّا الذين هم في الواقع أشبه بالأموات فأنّهم لا يؤمنون حتى يبعثهم الله يوم القيامة: (والموتى يبعثهم الله ثمّ إِليه يرجعون)(1).

يومئذ، وبعد أن يروا مشاهد يوم القيامة يؤمنون، إِلاّ أنّ إيمانهم ذاك لا ينفعهم شيئاً، لأنّ رؤية مناظر يوم القيامة العظيمة تحمّل كل مشاهد على الإِيمان فيكون نوعاً من الإِيمان الإِضطراري.

ومن نافلة القول أنّ «الموتى» في هذه الآية لا تشير إِلى الموت الجسماني في الأفراد، بل الموت المعنوي، فالحياة والموت نوعان: حياة وموت عضويان، وحياة وموت معنويان، كذلك أيضاً السمع والبصر، عضويان ومعنويان فكثير ما نصف المبصرين السامعين الأحياء الذين لا يدركون الحقائق بأنّهم عمي أو صم أو حتى أموات، إِذ إِنّ رد الفعل الذي يصدر عادة من الإِنسان الحي البصير السامع إزاء الحقائق لا يصدر من هؤلاء.

أمثال هذه التعبيرات كثيرة في القرآن، ولها عذوبة، وجاذبية خاصّة، بل إِنّ

_____________________________

1 ـ من حيث الاعراب «الموتى» مبتدأ، و«يبعثهم الله» خبر، ومعنى ذلك هو أنّ هؤلاء لا يطرأ على حالهم أي تغيير حتى يبعثهم الله يوم القيامة فيرون الحقائق.

[266]

القرآن لا يعير أهمية كبيرة للحياة المادية البايلوجية التي تتمثل في «الأكل والنوم والتنفس» وإِنّما يعني أشد العناية بالحياة الإِنسانية المعنوية التي تتمثل في تحمل التكاليف والمسؤولية والإِحساس واليقظة والوعي.

لابدّ من القول أيضاً: إِنّ المعنوي من العمى والصمم والموت ينشأ من ذات الأفراد، لأنّهم ـ لإِستمرارهم في الإِثم وإِصرارهم عليه وعنادهم ـ يصلون إِلى تلك الحالة.

إِنّ من يغمض عينيه طويلا يصل إِلى حالة يفقد فيها تدريجياً قوة البصر، وقد يبلغ به الأمر إِلى العمى التام، كذلك الذي يغمض عين روحه عن رؤية الحقائق طويلا يفقد بصيرته المعنوية شيئاً فشيئاً.

* * *

[267]

الآية

وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ ءَايَةً وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ(37)

التّفسير

تشير هذه الآية إِلى واحد من الأعذار التي يتذرع بها المشركون، فقد جاء في بعض الرّوايات أنّه عندما عجز بعض رؤساء قريش عن معارضة القرآن ومقابلته، قالوا لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): كل هذا الذي تقوله لا فائدة فيه، إِذا كنت صادقاً فيما تقول، فأتنا بمعجزات كعصا موسى وناقة صالح، يقول القرآن بهذا الشأن: (وقالوا لولا نزل عليه آية من ربّه).

من الواضح أنّ أُولئك لم يكونوا جادين في بحثهم عن الحقيقة، لأنّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد جاء لهم من المعاجز بما يكفي، وحتى لو لم يأت بمعجز سوى القرآن الذي تحداهم في عدة آيات منه ودعاهم بصراحة إِلى أن يأتوا بمثله فعجزوا عن ذلك، لكان فيه الكفاية لإِثبات نبوته، غير أنّ هؤلاء المزيفين كانوا يبحثون عن عذر يتيح لهم إِهانة القرآن من جهة، والتملص من قبول دعوة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) من جهة أُخرى، لذلك كانوا لا يفتأون يطالبونه بالمعجزات، ولو أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إِستجاب لمطاليبهم لأنكروا كل ذلك بقولهم (هذا سحر مبين)،

[268]

كما جاء في آيات أُخرى من القرآن، لذلك يأمر الله رسوله أن: (قل إِنّ الله قادر على أن ينزل آية) إِلاّ أنّ في ذلك أمراً أنتم عنه غافلون، وهو أنّه إِذا حقق الله مطاليبكم التي يدفعكم إِليها عنادكم، ثمّ بقيتم على عنادكم ولم تؤمنوا بعد مشاهدتكم للمعاجز، فسوف يقع عقاب الله عليكم جميعاً، وتفنون عن آخركم، لأنّ ذلك سيكون منتهى الإِستهتار بمقام الأُلوهية المقدس وبمبعوثه وآياته ومعجزاته، ولهذا تنتهي الآية بالقول: (ولكن أكثرهم لا يعلمون).

إِشكال:

يتبيّن من تفسير «مجمع البيان» أنّ بعض مناوئي الإِسلام قد اتّخذوا من هذه الآية ـ منذ قرون عديدة ـ دليلا يستندون إِليه في الزعم بأنّه لم تكن لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أية معجزة، لأنّه كلما طلبوا منه معجزة كان يكتفي بالقول: إِنّ الله قادر على ذلك، ولكن أكثركم لا تعلمون، وهذا ما نهجه بعض الكتاب المتأخرين فأحيوا هذه الفكرة البالية مرّة أُخرى.

الجواب:

أوّلا: يبدو أنّ هؤلاء لم يمعنوا النظر في الآيات السابقة والتّالية لهذه الآية، وإِلاّ لأدركوا أنّ الكلام يدور مع المعاندين الذين لا يستسلمون للحق مطلقاً، وإِنّ موقف هؤلاء هو الذي منع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من إِجابة طلبهم، فهل نجد في القرآن أنّ طلاب الحقيقة سألوا الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحقق لهم معجزة فامتنع؟ الآية (111) من هذه السورة نفسها تتحدث عن أمثال هؤلاء فتقول: (ولو أننا نزلنا إِليهم الملائكة وكلّمهم الموتى وحشرنا عليهم كلّ شيء قبلا ما كان ليؤمنوا).

ثانياً: تفيد الرّوايات أنّ هذا الطلب تقدم به بعض رؤساء قريش، وكان هدفهم من ذلك إِهانة القرآن والإِعراض عنه، فمن الطبيعي أن لا يستجيب

[269]

رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لطلب يكون دافعه بهذا الشكل.

ثالثاً: إِنّ أصحاب هذا الإِشكال قد أغفلوا سائر آيات القرآن الأُخرى التي تصرّح بأنّ القرآن نفسه معجزة خالدة، وكثيراً ما دعت المخالفين إِلى معارضته، وأثبتت ضعفهم وعجزهم عن ذلك، كما أنّهم نسوا الآية الأُولى من سورة الإِسراء التي تقول بكل وضوح: إنّ الله أسرى بنبيّه من المسجد الحرام إِلى المسجد الأقصى في ليلة واحدة.

رابعاً: ليس من المعقول أن يكون القرآن مليئاً بذكر معاجز الأنبياء وخوارق عاداتهم ويدّعي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إِنّه خاتم الأنبياء وأرفعهم منزلة، وأنّ دينه أكمل من أديانهم ثمّ ينكص عن إِظهار معجزة إِستجابة لطلب الباحثين عن الحقّ والحقيقة، أفلا يكون هذا نقطة غامضة في دعوته في نظر المحايدين وطلاب الحقيقة؟

فلو لم تكن له أية معجزة، لكان عليه أن يسكت عن ذكر معاجز الأنبياء الآخرين لكي يتمكن من تمرير خطّته ويغلق طريق الإِعتراض والإِنتقاد عليه، ولكنّه لا يفتأ يتحدث عن إِعجاز الآخرين ويعدد خوارق العادات عند موسى بن عمران وعيسى بن مريم وإِبراهيم وصالح ونوح(عليهم السلام)، وهذا دليل بيّن على ثقته التامّة بمعاجزه، إِنّ كتب التّأريخ الإِسلامي والرّوايات المعتبرة ونهج البلاغة تشير بما يشبه التواتر إِلى خوارق عادات رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

* * *

[270]

الآية

وَمَا مِن دَآبَّة فِى الاَْرضِ وَلاَ طَـئِر يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَـبِ مِن شَىْء ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ(38)

التّفسير

لإِتساع البحث حول هذه الآية، سنبدأ بشرح ألفاظها، ثمّ نفسّرها بصورة إِجمالية، ثمّ نتناول سائر جوانبها بالبحث.

«الدّابة» من «دبّ» والدبيب المشي الخفيف، ويستعمل ذلك في الحيوان والحشرات أكثر، وقد ورد في الحديث «لا يدخل الجنّة ديبوب» وهو النمام الذي يمشي بين الناس بالنميمة.

«الطائر» كل ذي جناح يسبح في الهواء، وقد يوصف بها بعض الأُمور المعنوية التي تتقدم بسرعة واندفاع، والآية تقصد الطائر الذي يطير بجناحيه.

«أُمم» جمع أُمّة، وهي كل جماعة يجمعهم أمر ما، كالدين الواحد أو الزمان الواحد أو المكان الواحد.

«يحشرون» من «حشر» بمعنى «الجمع»، والمعنى الوارد في القرآن يقصد به يوم القيامة، وخاصة لأنّه يقول: (إِلى ربّهم).

[271]

هذه الآية تستأنف ما جاء في الآيات السابقة من الكلام مع المشركين وتحذيرهم من مصيرهم يوم القيامة، فتتحدث عن «الحشر» وبعث عام يشمل جميع الكائنات الحية والحيوانات، فتقول أولا: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إِلاّ أُمم أمثالكم).

يتّضح من هذا أنّ فصائل الحيوان والطيور أُمم مثل البشر، غير أنّ للمفسّرين أقوالا مختلفة بشأن وجه الشبه في هذا التمثيل.

بعض يقول: إِنّ التشابه يختص بأسرار خلقتها العجيبة التي تدل على عظمة الخالق سبحانه.

وبعض آخر يرى التشابه في حاجاتها الحياتية المختلفة وفي طرق سد تلك الحاجات وإِشباعها.

ومنهم من يعتقد أنّ التشابه كائن في تشابه الإِدراك والفهم والمشاعر، أي أنّ للحيوان والطير أيضاً ـ إِدراكه ومشاعره في عالمه الخاص، ويعرف الله ويسبح له ويقدسه بحسب طاقته، وإن تكن قوّة إِداركه أدنى ممّا في الإِنسان، ثمّ إِنّ ذيل هذه الآية ـ كما سيأتي بيانه ـ يؤيد هذا الرأي الأخير.

ثمّ تقول الآية: (ما فرطنا في الكتاب من شيء).

لعل المقصود بالكتاب هو القرآن الذي يضم كل شيء (ممّا يتعلق بتربية الإِنسان وهدايته وتكامله) يبيّنه مرّة بياناً عاماً، كالحث على طلب العلم مطلقاً، ومرّة بياناً تفصيلياً كالكثير من الأحكام الإِسلامية والقضايا الأخلاقية.

ثمّة إِحتمال آخر يقول: إِنّ المقصود بالكتاب هو «عالم الوجود» إِذ أنّ عالم الخليقة مثل الكتاب الضخم، يضم كلّ شيء ولا ينسى شيئاً.

ليس ثمّة ما يمنع من أن تشمل الآية كلا التّفسيرين، فالقرآن لم يترك شيئاً تربوياً إِلاّ وذكره بين دفتيه، كما أنّ عالم الخليقة يخلو من كل نقص وعوز.

وتختم الآية بالقول: (ثمّ إِلى ربّهم يحشرون).

[272]

يظهر أنّ ضمير (هم) يعود إِلى الدواب والطير على اختلاف أنواعها وأصنافها، أي أنّ لها ـ أيضاً ـ بعثاً ونشوراً، وثواباً وعقاباً، وهذا ما يقول به معظم المفسّرين، إِلاّ أنّ بعض المفسّرين ينكرون هذا، ويفسّرون هذه الآية والآيات المشابهة تفسيراً آخر، كقولهم: إِنّ معنى «الحشر إِلى الله» هو الموت والرجوع إِلى نهاية الحياة(1).

ظاهرالآية يشير ـ كما قلنا ـ إِلى البعث والحشر يوم القيامة.

من هنا تنذر الآية المشركين وتقول لهم: إِنّ الله الذي خلق جميع الحيوانات ووفر لها ما تحتاجه، ورعى كل أفعالها، وجعل لها حشراً ونشوراً، قد أوجد لكم دون شك بعثاً وقيامة، وليس الأمر كما تقول تلك الفئة من المشركين من أنّه ليس ثمّة شيء سوى الحياة الدنيا والممات.

* * *

ملاحظات

1 ـ هل هناك بعث للحيوانات؟

ما من شك أنّ الشّرط الاُوّل للمحاسبة والجزاء هو «العقل والإِدراك» ويستتبعهما (التكليف والمسؤولية».

يقول أصحاب هذا الرأي: إِنّ لديهم ما يثبت أن للحيوانات إِدراكاً وفهماً بمقدار ما تطيق، ومن ذلك أن حياة كثير من الحيوانات تجري وفق نظام دقيق ومثير للعجب، ويدلّ على إِرتفاع مستوى إدراكها وفهمها، فمن ذا الذي لم يسمع بالنمل والنحل وتمدّنها العجيب ونظامها المحير في بناء بيوتها وخلاياها، ولم يستحسن فهمها وإِدراكها؟ فعلى الرغم من أنّ بعضهم يعزوا ذلك كله إِلى نوع من

_____________________________

1 ـ نقل هذا الإِحتمال صاحب المنار عن ابن عباس.

[273]

الالهام الغريزي، فليس ثمّة دليل على أنّ هذه الأعمال تجري بصورة غريزية لا عقلية.

ما الدليل على أنّ هذه الأعمال ـ حسبما يدل ظاهرها ـ ليست ناشئة عن تعقل وإِدراك؟ كثيراً ما يحدث أنّ الحيوان يبتكر ـ إِستجابة لظرف من الظروف ـ شيئاً لم يسبق له أن مرّ به وجربه، فالشاة التي لم يسبق لها أن رأت ذئباً في حياتها تفزغ منه أوّل ما تراه وتدرك خطره عليها، وتتوسل بكل حيلة لدرء خطره عنها.

إِن العلاقة التي تتكون بين الحيوان وصاحبه تدريجياً دليل آخر على هذا الأمر، فكثير من الكلاب المفترسة الخطرة تعامل أصحابها ـ بل وحتى أطفالهم ـ كما يعاملهم الخادم العطوف.

ويحكى الكثير عن وفاء الحيوانات وعن تقديمها كثيراً من الخدمات الإِنسانية ولا شك أنّ هذه أُمور ليس من السهل اعتبارها ناشئة بدافع الغريزة، إِذ إِنّ الغريزة تنشأ عنها أعمال رتيبة من طراز واحد باستمرار، أمّا الأعمال التي تقع في ظروف خاصّة كردود فعل لحوادث طارئة غير متوقعة، فهذه تكون إِلى التعقل والإِدراك أقرب منها إِلى الغريزة.

نشاهد اليوم أنّ حيوانات مختلفة يجري تدريبها لأغراض متنوعة، فالكلاب البوليسية تدرب للقبض على المجرمين، والحمام الزاجل لنقل الرسائل، وحيوانات أُخرى ترسل لابتياع بعض الحوائج من السوق، وحيوانات أُخرى للصيد، وهي كلها تؤدي مهماتها بكل دقة وإِتقان (حتى أنّهم افتتحوا مؤخراً مدارس خاصّة لتعليم مختلف الحيوانات)!

فضلا عن ذلك كلّه، فإنّ هناك بعض الآيات التي تدل ـ بوضوح ـ على أنّ للحيوانات فهماً وإِدراكاً، من ذلك حكاية هروب النمل من أمام جيش سليمان، وحكاية ذهاب الهدهد إِلى منطقة سبأ باليمن ورجوعه بأخبار مثيرة لسليمان.

ثمّة أحاديث إِسلامية كثيرة حول بعث الحيوانات، من ذلك ما روي عن

[274]

أبي ذر قال: بيّنا أنا عند رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إِذ انتطحت عنزان، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)«أتدرون فيما انتطحتا؟» فقالوا: لا ندري، قال: «ولكن الله يدري وسيقضي بينهما»(1).

وفي رواية بطرق أهل السنة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير هذه الآية أنّه قال: «إِنّه يحشر هذه الأُمم يوم القيامة ويقتص من بعضها لبعض حتى يقتص للجماء من القرناء»(2).

وفي الآية (5) من سورة التكوير يقول سبحانه: (وإِذا الوحوش حشرت)وهي دليل آخر على ذلك.

* * *

2 ـ الحشر والتكليف:

تطرح هنا مسألة يتوقف فهم الآية عليها، وهي هل أن مقولة تكليف الحيوانات معقولة، مع أنّ من شروط التكليف العقل، ولهذا لا يكون الطفل والمجنون مكلّفين؟ فهل للحيوانات ذلك العقل الذي يؤهلها للتكليف؟ وهل يمكن أن نعتبر الحيوان أكثر عقلا وإِدراكاً من الصبي غير البالغ ومن الجنون؟ فإِذا لم يكن له مثل هذا العقل والإِدراك، فكيف يجوز أن يكلّف، وبأي تكليف؟

للجواب على هذه السؤال نقول: إِنّ للتكليف مراحل ودرجات، وكل مرحلة تناسب درجة معينة من العقل والإِدراك، وانّ التكاليف الكثيرة المفروضة في القوانين الإِسلامية على الإِنسان تتطلب مستوى رفيعاً من العقل والإِدراك لإِنجازها، ولا يمكن أن نفرض مثل تلك التكاليف على الحيوانات طبعاً، لأنّ الشرط المطلوب لإِنجازها غير متوفر في الحيوانات، إِلاّ أنّ مرحلة من التكاليف

_____________________________

1 ـ تفسير مجمع البيان، ونور الثقلين في تفسير الآية المذكورة.

2 ـ تفسير المنار، ذيل الآية، والجماء عكس القرناء: الحيوان الفاقد للقرن.

[275]

البسيطة التي يكفي لها ما يناسبها من الفهم والإِدراك يمكن تصورها وقبولها في الحيوان ولا يمكن إِنكارها، بل من الصعب أن نرفض كل تكليف بشأن الأطفال والمجانين القادرين على فهم بعض المسائل، فالصبي الذي لم يبلغ سن الرشد ـ كأن يكون عمره 14 سنة مثلا ـ لو ارتكب جريمة قتل، وهو عالم بكل أضرار هذا العمل، فلا يمكن اعتباره بريئاً، والقوانين الجزائية في العالم تضع عقوبات على بعض جرائم الأطفال غير البالغين، وإِن كانت العقوبات أخف طبعاً.

وعليه، فإِنّ البلوغ واكتمال العقل من شروط التكليف في المراحل العليا المتكاملة، أمّا في المراحل الأدنى، أي في الذنوب التي لا يخفى قبحها حتى على من هم أدنى مرتبة، فان البلوغ والتكامل العقلي ليسا شرطاً لازماً.

فإِذا أخذنا اختلاف مراحل التكليف واختلاف مراتب العقل بنظر الاعتبار، يمكن حل قضية الحيوانات أيضاً بهذا الشأن.

* * *

3 ـ هل تدل هذه الآية على التناسخ؟

من العجيب أن بعض مؤيدي فكرة «التناسخ» الخرافية يتخذون من هذه الآية دليلا على صحة فكرتهم، ويقولون: يفهم من الآية أنّ الحيوانات أُمم مثلكم، مع أنّنا نعلم أنّها ذاتياً ليست مثلنا، فيمكن إذن القول بأن أرواح البشر التي تفارق أبدانها تحل في أبدان الحيوانات، وبهذا الشكل تنال الأرواح المذنبة العقاب.

ولكن على الرغم من أنّ فكرة التناسخ تناقض «قانون التكامل» ولا تتفق مع منطق العقل، وتستوجب إِنكار «المعاد» (كما سبق شرحه في موضعه)، فانّ هذه الآية لا تدل على التناسخ مطلقاً، إِذ إِنّ المجتمعات الحيوانية ـ كما قلنا ـ تشبه المجتمعات البشرية، وهو شبه بالفعل لا بالقوّة، لأن للحيوانات نصيبها من الفهم

[276]

والإِدراك، ونصيبها من المسؤولية أيضاً، ومن ثمّ نصيبها من البعث والحساب، أنّها تشبه الإِنسان في هذه الحالات.

ينبغي أن نعرف أنّ التكاليف والمسؤوليات الملقاة على الحيوانات في مرحلة خاصّة لا تعني أنّ لها إماماً وقائداً وشريعة وديناً كما ذهب اليه بعض أصحاب التصوف، فهي لا يقودها سوى إدراكها الباطني، أي أنّها تدرك بعض الأُمور، فتكون مسؤولة عنها بقدر إدراكها لها.

* * *

[277]

الآية

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِأَيَـتِنَا صُمٌّ وُبُكْمٌ فِى الظُّلُمَـتِ مَن يَشَاءِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَط مُّسْتَقِيم(39)

التّفسير

الصّم والبُكم:

مرّة أُخرى يعود القرآن ليتطرق إِلى المنكرين المعاندين، فيقول: (والذين كذبوا بآياتنا صمّ وبُكم في الظّلمات) فهم لا يملكون آذاناً صاغية لكي يستمعوا إِلى الحقائق، ولا ألسناً ناطقةً بالحقّ توصل إِلى الآخرين ما يدركه الانسان من الحقائق، ولمّا كانت ظلمات الأنانية وعباده الذات والمعاندة والجهل تحيط بهم من كل جانب، فهم لا يستطيعون رؤية وجه الحقيقة، ولذلك فهم محرومون من النعم الثلاث التي تربط الإِنسان بالعالم الخارجي (أي السمع والبصر والنطق).

يرى بعض المفسّرين أنّ المقصود بالصمّ هم المقلِّدون الذين يتبعون قادتهم الضالين دون إِعتراض، ويصمون آذانهم عن سماع دعوات الهداة الإِلهيين، وإنّ المقصود بالبُكم هم أُولئك القادة الضالون الذين يدركون الحقائق جيداً، ولكنّهم حفاظاً على مصالحهم ومراكزهم الدنيوية ـ يكمون أفواههم، ولا ينطقون بالحقّ،

[278]

فكلا الفريقين غريقان في ظلمات الجهل وعبادة الذات(1).

وبعد ذلك يقول القرآن الكريم: (من يشاء الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم).

سبق أن قلنا إِنّ نسبة الهداية والضلالة إِلى مشيئة الله وإِرادته نسبة تفسرها آيات أُخرى في القرآن يقول سبحانه: (يضل الله الظّالمين) ويقول: (وما يضل به إِلاّ الفاسقين) وفي موضع آخر يقول: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)يتّضح من هذه الآيات وغيرها من الآيات القرآنية أنّ الهداية والضلالة اللتين تنسبان في هذه الحالات إِلى مشيئة الله إِنّما هما في الحقيقة ثواب الله وعقابه لعباده على أفعالهم الحسنة أو السيئة.

وبعبارة أُخرى: قد يرتكب الإِنسان أحياناً إِثماً كبيراً يؤدي به إِلى أن يحيط بروحه ظلام مخيف، فتفقد عينه القدرة على رؤية الحقّ، وتفقد أذنه القدرة على سماع صوت الحقّ، ويفقد لسانه القدرة على قول الحقّ.

وقد يكون الأمر على عكس ذلك، أي قد يعمل الإِنسان أعمالا صالحات كثيرة بحيث أن عالماً من النّور والضوء يشع في روحه، فيتسع بصره وبصيرته، وتزداد أفكاره إِشعاعا، ويكون لسانه ابلغ في إِعلان الحقّ، ذلكم هو مفهوم الهداية والضلالة اللتين تنسبان إِلى إِرادة الله ومشيئته.

* * *

_____________________________

1 ـ «الميزان»، ج 7، ص 84.

[279]

الآيتان

قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَـكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ(40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَآءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ(41)

التّفسير

التّوحيد الفطري:

يعود الكلام مرّة أُخرى إِلى المشركين، ويدور الاستدلال حول وحدانية الله وعبادة الواحد الأحد عن طريق تذكيرهم باللحظات الحرجة والمؤلمة التي تمر بهم في الحياة، ويستشهد بضمائرهم، فهم في مثل تلك المواقف ينسون كل شيء، ولا يجدون غير الله ملجأ لهم.

يأمر الله سبحانه نبيّه أن: (قل أرأيتكم إِن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إِن كنتم صادقين)(1).

_____________________________

1 ـ يقول علماء العربية: إنّ «ك» في «أرأيتك» و«كم» في «أرأيتكم» ليستا إسماً ولا ضميراً، ولكنّهما حرفا خطاب يفيدان التوكيد، والفعل في مثل هذه الحالات يكون مفرداً إنّما الافراد والتثنية والجمع تظهر على حرف الخطاب هذا، ففي «أرأيتكم» المخاطبون جماعة ولكن الفعل «رأيت» مفرد، و«كم» هو الذي يدل على أنّ المخاطبين جماعة، وقيل: أنّ هذا التعبير من حيث المعنى يساوي قولك: (أخبرني) أو (أخبروني)، ولكن الحقّ أنّ الجملة تحتفظ بمعناها الإِستفهامي، و(أخبروني) ملازم للمعنى، لا المعنى نفسه، والمعنى يساوي «أعلمتم»؟

[280]

الحالة النفسية التي تصوّرها هذه الآية لا تنحصر في المشركين، بل في كل إِنسان حين يتعرّض إِلى الشدة وحوادث الخطر وقد لا يلجأ الإِنسان في الحوادث الصغيرة والمألوفة إِلى الله، إِلاّ أنّه في الحوادث الرهيبة والمخيفة ينسى كل شيء وإن ظل في أعماقه يحس بأمل في النجاة ينبع من الإِيمان بوجود قوة غامضة خفية، وهذا هو التوجه إِلى الله وحقيقة التوحيد.

حتى المشركون وعبدة الأصنام لا يخطر لهم التوسل بأصنامهم، بل ينسونها في مثل هذه الظروف تماماً، فتقول الآية: (بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إِليه إِن شاء وتنسون ما تشركون).

* * *

بحوث

هنا يحسن الإِلتفات إِلى النقاط التّالية:

1 ـ إِنّ الإِستدلال المطروح في هاتين الآيتين هو الإِستدلال على التوحيد الفطري الذي يمكن الإِستفادة منه في مبحثين: الأوّل: في إِثبات وجود الله، والثّاني: في إِثبات وحدانيته، لذلك استشهدت الرّوايات الإِسلامية والعلماء المسلمون بهاتين الآيتين للرد على منكري وجودالله، وكذلك للردّ على المشركين.

2 ـ من الملاحظ أنّ الإِستدلال المذكور تطرق إِلى (قيام الساعة)، وقد يقال: إِنّ المخاطبين لا يؤمنون بالقيامة أصلا، فكيف يمكن طرح مثل هذا الإِستدلال أمام هؤلاء؟

[281]

نقول أوّلا: إِنّ هؤلاء لم يكونوا جميعاً ينكرون يوم القيامة، فقد كان فريق منهم يؤمنون بنوع من البعث.

وثانياً: قد يكون المعنى بالساعة هي ساعة الموت، أو الساعة الرهيبة التي تنزل فيها على الإِنسان مصيبة تضعه على شفا الهلاك.

وثالثاً: قد يكون هذا تعبيراً مجازياً عن الحوادث المخيفة، فالقرآن يكرر القول بأنّ يوم القيامة يقترن بسلسلة من الحوادث المروعة، كالزلازل والعواصف والصواعق وأمثالها.

3 ـ إنّنا نعلم أنّ يوم القيامة وما يصحبه من وقائع وأُمور حتمية الوقوع، ولا يمكن تغييرها إطلاقاً، فكيف تقول الآية: (بل إيّاه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء)؟ فهل القصد هو إظهار قدرة الله، أم أنّ هناك قصد آخر؟

في جواب هذا السؤال نقول: لا يعني هذا أنّ الله سوف يلغي بالدعاء البعث وقيام الساعة أصلا، بل الآية تقصد القول بأنّ المشركين ـ وحتى غير المشركين ـ عند مشاهدتهم الحوادث الرهيبة عند قيام الساعة وبالأهوال والعذاب الذي ينتظرهم، يستولي عليهم الفزع والجزع، فيدعون الله ليخفف عنهم تلك الأهوال، وينجيهم من تلك الأخطار، فدعاؤهم يكون لنجاتهم من أهوال يوم القيامة الرهيبة، لا لإِلغاء ذلك اليوم من الأساس.

* * *

[282]

الآيات

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى أُمَم مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَـهُم بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ(42) فَلَوْلاَ إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـنُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَبَ كُلِّ شَىْء حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَآ أُوتُوا أَخَذْنَـهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ(44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَـلَمِينَ(45)

التّفسير

مصير الذين لا يعتبرون:

تواصل هذه الآيات توجيه الكلام للضّالين والمشركين، ويتخذ القرآن فيها طريقاً آخر لإِيقاظهم وذلك بأن ينقلهم إِلى القرون السالفة والأزمان الماضية، يشرح لهم حال الأُمم الضالة والظالمة والمشركة، ويبيّن لهم كيف أُتيح لها جميع عوامل التربية والتهذيب والوعي، غير أنّ جمعاً منهم لم يلقوا بالا إِلى أي من تلك العوامل، ولم يعتبروا بما حاق بهم من (بأساء) و(ضراء)(1) (ولقد أرسلنا إِلى أُمم

_____________________________

1 ـ «البأساء» الشدّة والمكروه، وتطلق على الحرب أيضاً، وكذلك القحط والجفاف والفقر، أمّا «الضراء» فأكثر ما تعني العذاب الروحي، كالهم والغم والإِكتئاب والجهل، أو الآلام الناشئة عن الأمراض أو عن فقدان مال أو مقام.

ولعل الإِختلاف بين معنيي اللفظتين ناشىء عن أنّ «الباساء» تشير إِلى المكروه الخارجي و«الضراء» تشير إِلى المكروه الداخلي، النفسي أو الروحي، وعلى هذا تكون «الباساء» من عوامل إِيجاد «الضراء»، فتأمل بدقّة!

[283]

من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون).

أما كان من الأجدر بهؤلاء أن يستيقظوا عندما جاءهم البأس وأحاطت بهم الشدائد؟! (فلولا إِذ جاءهم بأسنا تضرعوا) أنّهم لم يستيقظوا، ولذلك سببان:

الأوّل: إِنّهم لكثرة آثامهم وعنادهم في الشرك زايلت الرحمة قلوبهم والليونة أرواحهم: (ولكن قست قلوبهم)

والثّاني: إنّ الشيطان قد استغل عبادتهم أهواءهم فزيّن في نظرهم أعمالهم، فكل قبيح ارتكبوه أظهره لهم جميلا، ولكل خطأ فعلوه جعله في عيونهم صواباً: (وزيّن لهم الشّيطان ما كانوا يعملون).

ثمّ تذكر الآية الثّانية أنّه لمّا لم تنفع معهم تلك المصائب والمشاكل والضغوط عاملهم الله تعالى بالعطف والرحمة، ففتح عليهم أبواب أنواع النعم، لعلهم يستيقظون ويلتفتون إِلى خالقهم الذي وهب لهم كل تلك النعم، ويشخصوا الطريق السوي: (فلمّا نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء).

إِلاّ أنّ هذه النعم كانت في الواقع ذات طابع مزدوج، فهي مظهر من مظاهر المحبّة التي تستهدف إِيقاظ النائمين، وهي كذلك مقدمة لنزول العذاب الأليم إِذا استمرت الغفلة، والذي ينغمس في النعمة والرفاهية، يشتد عليه الأمر حين تؤخذ منه هذه النعم فجأة، بينما لو أخذت منه بالتدريج، فلا يكون وقع ذلك عليه شديداً، ولهذا يقول إِنّنا أعطيناهم الكثير من النعم (حتى إِذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإِذا هم مبلسون)(1).

وهكذا استؤصلت جذور أُولئك الظلمة وانقطع نسلهم: (فقطع دابر القوم

_____________________________

1 ـ «الإِبلاس» الحزن المعترض من شدة التألم بسبب كثرة المنغصات المؤلمة، ومنها اشتقت كلمة «إِبليس»، وهي هنا تدل على شدة الغم والهم اللذين يصيبان المذنبين يومئذ.

[284]

الذين ظلموا).

و«الدابر» بمعنى المتأخر والتابع.

ولما كان الله قد وفر لهؤلاء كل وسائل التربية ولم يبخل عليهم بأي شيء منها، لذلك فانّ الحمد يختص بالله الذي يربي أهل الدنيا كافة (والحمد لله ربّ العالمين).

* * *

ملاحظات

لابدّ هنا من التنبه إِلى بضع نقاط:

1 ـ قد يبدو لبعضهم أنّ هذه الآيات تتعارض مع الآيات السابقة، فقد بيّنت الآيات السابقة أنّ المشركين إِذا هاجمتهم المصاعب والشدائد يتوجهون إِلى الله وينسون كل ما عداه، ولكن هذه الآيات تقول: إِنّ هؤلاء لا يستيقظون حتى بعد تعرضهم للمنغصات الشديدة.

هذا التباين الظاهري يزول إِذا انتبهنا إِلى النقطة التّالية، وهي أنّ اليقظة الخاطفة المؤقتة عند ظهور الشدائد لا تعتبر يقظة حقيقية، لأنّهم سرعان ما يعودون إِلى الغفلة السابقة.

في الآيات السابقة كان الكلام عن التوحيد الفطري، فكان التيقظ والتوجه العابر ونسيان كل شيء سوى الله في تلك اللحظات الحساسة ما يكفي لإِثبات ذلك، أمّا في هذه الآيات فالكلام يدور عن الإِهتداء والرجوع عن الضلال إِلى الطريق المستقيم، لذلك فانّ اليقظة العابرة المؤقتة لا تنفع شيئاً.

قد يتصور أنّ الاختلاف بين الموضعين هو أنّ الآيات السابقة تشير إِلى المشركين الذين عاصروا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، والآيات التي بعدها تشير إِلى الأقوام

[285]

السابقين، ولذلك لا تعارض بينهما(1).

ولكن من المستبعد جدّاً أن يكون المشركون المعاندون المعاصرون لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) خيراً من الضالين السابقين، وعليه فلا حلّ للإِشكال إِلاّ بما قلناه.

2 ـ نقرأ في هذه الآيات أنّه عندما لم يكن لإِبتلائهم بالشدائد تأثير في توعيتهم، فإِنّ الله يفتح أبواب الخيرات على أمثال هؤلاء الآثمين، فهل هذا ترغيب بعد المعاقبة، أم هو مقدمة لعقاب أليم؟ أي: هل هذه النعم نعم إِستدراجية، تغمر المتمرد تدريجياً بالرفاهية والتنعم والسرور ... تغمره بنوع من الغفلة، ثمّ ينتزع منه كل شيء دفعة واحدة؟

ثمّة قرائن في الآية تؤيد الإِحتمال الثّاني، ولكن ليس هناك ما يمنع من قبول الإِحتمالين، أي أنّه ترغيب وتحريض على الإِستيقاظ، فإِن لم يؤثر، فمقدمة لسلب النعمة ومن ثمّ إِنزال العذاب الأليم.

جاء في حديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «إِذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإِنّما هو إِستدراج) ثمّ تلى الآية (فلمّا نسوا ...)(2).

وفي حديث عن أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) قال: «يا ابن آدم، إِذا رأيت ربّك سبحانه يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره»(3).

وفي كتاب (تلخيص الأقوال) عن الإِمام الحسن العسكري(عليه السلام) قال: «إِنّ قنبر مولى أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) أدخل على الحجاج، فقال: ما الذي كنت تلي من علي بن أبي طالب؟ قال: كنت أوضيه، فقال له: ماذا يقول إِذا فرغ من وضوئه؟ فقال: كان يتلو هذه الآية: (فلمّا نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إِذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإِذا هم مبلسون، فقطع دابر القوم الذين ظلموا

_____________________________

1 ـ يشير الفخر الرازي في تفسيره إِلى هذا الإِختلاف في ج 12، ص 224.

2 ـ تفسير مجمع البيان وتفسير نورالثقلين، ذيل الآية.

3 ـ نهج البلاغه، الكلمة 25.

[286]

والحمد لله رب العالمين)، فقال الحجاج: أظنّه كان يتأولها علينا؟! قال: نعم»(1).

3 ـ يتّضح من هذه الآيات أنّ هدف الكثير من الحوادث المؤلمة هو الإِيقاظ والتوعية، وهذا جانب من فلسفة «المصائب والآفات» التي تحدثنا بشأنها في بحث التوحيد، ولكن الملفت للنظر هو أنّه يبدأ الموضوع بكلمة «لعل»، وذلك لأنّ نزول البلاء وحده لا يكفي للإِيقاظ، بل هو تمهيد للقلوب المستعدة (سبق أن قلنا أنّ «لعل» في كلام الله تستعمل حيثما تكون هناك شروط أُخرى).

هنالك أيضاً كلمة «تضرع» التي تعني أصلا نزول اللبن في الثدي واستسلامه للرضيع، ثمّ انتقل المعنى إِلى الإِستسلام مع الخضوع والتواضع، أي أنّ تلك الحوادث الشديدة تهدف إِلى إِنزالهم عن مطية الغرور والتمرد والأنانية، والإِستسلام لله.

4 ـ ممّا يلفت النظر إِختتام الآية بقول: (الحمد لله ربّ العالمين) وهذا دليل على أنّ استئصال جذور الظلم والفساد والقضاء على شأفة الذين يمكن أن يواصلوا هذا الأمر من الأهمية بحيث يستوجب الحمد لله.

في حديث ينقله فضيل بن عياض عن الإِمام الصادق(عليه السلام) يقول: «من أحبّ بقاء الظالمين فقد أحبّ أن يعصي الله، إِنّ الله تبارك وتعالى حمد بنفسه بهلاك الظلمة فقال: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمدلله ربّ العالمين).

* * *

_____________________________

1 ـ نور الثقلين، ج 1، ص 718.

[287]

الآيات

قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَـرَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَـهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الاَْيَـتِ ثمّ هُمْ يَصْدِفُونَ(46) قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَـكُمْ عَذَابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّـلِمُونَ(47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ ءَامَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَهُمْ يَحْزَنُونَ(48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِأَيَـتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ(49)

التّفسير

اعرفوا واهب النعم!

الخطاب ما يزال موجهاً إِلى المشركين.

في هذه الآيات حثّ إِستدلالي على إِيقاظهم ببيان آخر يعتمد غريزة دفع الضرر، فيبدأ بالقول: إِنّه إِذا سلب منكم الله النعم الثمينة التي وهبها لكم، مثل السمع والبصر، وأغلق على قلوبكم أبواب التمييز بين الحسن والسيء، والحقّ الباطل، فمن يا ترى يستطيع أن يعيد إِليكم تلك النعم؟ (قل أرأيتم إِن أخذ الله

[288]

سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إِله غير الله يأتيكم به).

في الواقع، كان المشركون أنفسهم يعتقدون أنّ الخالق والرازق هو الله، وكانوا يعبدون الأصنام للإِستشفاع بها عند الله.

والقرآن يحثّهم على الإِتجاه المباشر نحو الله مصدر كل الخيرات والبركات بدل الإِتجاه إِلى أصنام لا قيمة لها.

وإِضافة إِلى ما كان يحمله عبدة الأصنام من اعتقاد بالله، فإِنّ القرآن استجوب عقولهم هنا لإِبداء رأيها وحكمها في أمر أصنام لا تملك هي نفسها عيناً ولا أذناً ولا عقلا ولا شعوراً، فهل يمكنها أن تهب أمثال هذه النعم للآخرين؟!

ثمّ تقول الآية: اُنظر إِلى هؤلاء الذين نشرح لهم الآيات والدلائل بمختلف الوسائل، ولكنّهم مع ذلك يعرضون عنها: (اُنظر كيف نصرّف الآيات ثمّ هم يصدفون).

وفيما يتعلق بمعنى «ختم» وسبب ورود «سمع» بصيغة المفرد، و«أبصار» بصيغة الجمع في القرآن راجع المجلد الاُوّل من هذا التّفسير، (92).

«نصرف» من «التصريف» بمعنى «التغيير»، والكلمة هنا تشير إِلى مختلف الإِستدلالات في صور متنوعة.

و«يصدفون» من «صدف» بمعنى «الجانب» و«الناحية» أي أنّ المعرض عن شيء يدير وجهه إِلى جانب أو ناحية أُخرى.

وهذه الكلمة تستعمل بمعنى الإِعراض أيضاً، ولكنه «الإِعراض الشديد» كما يقول الراغب الأصفهاني.

تشير الآية الثّانية، بعد ذكر هذه النعم الثلاث «العين والأذن والإِدراك» التي هي منبع جميع نعم الدنيا والآخرة ـ إِلى إِمكان سلب هذه النعم كلها دفعة واحدة، فتقول: (قل أرأيتكم إِن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إِلاّ القوم

[289]

الظّالمون)(1).

«بغتة» بمعنى «فجأة» و«جهرة» بمعنى «الظاهر» والعلانية، والمألوف استعمال «سرّاً» في مقابل «جهرة» لا «بغتة»، ولكن لما كانت مقدمات العمل المباغت خافية غالباً، إِذ لولا خفاؤه لما كان مباغتاً، فإِن في «بغتة» يكمن معنى الخفاء والسرية أيضاً.

والقصد هو أنّ القادر على إِنزال مختلف العقوبات، وسلب مختلف النعم هو اللّه وحده، وإِنّ الأصنام لا دور لها في هذا أبداً، لذلك ليس ثمّة ما يدعو إِلى اللجوء إِليها، لكن الله لحكمته ورحمته لا يعاقب إِلاّ الظالمين.

ومن هذا يستفاد أنّ للظلم معنى واسعاً يشمل أنواع الشرك والذنوب، بل إِنّ القرآن يعتبر الشرك ظلماً عظيماً، كما قال لقمان لابنه: (لا تشرك بالله إِنّ الشرك لظلم عظيم)(2).

الآية الثالثة تشير إِلى مركز الأنبياء، فتقول: ليست الأصنام العديمة الروح هي وحدها العاجزة عن القيام بأي أمر، فإِن الأنبياء العظام والقادة الإِلهيين أيضاً لا عمل لهم سوى إِبلاغ الرسالة والإِنذار والتبشير، فكل ما هنالك من نعم إِنّما هي من الله وبأمره، وأنّهم إِن أرادوا شيئاً طلبوه من الله: (وما نرسل المرسلين إِلاّ مبشرين ومنذرين).

والإِحتمال الآخر في ربط هذه الآية بالآيات السابقة هو أنّ تلك الآيات كانت تتكلم عن البشارة والإِنذار، وهنا يدور القول على أنّ هذا هو هدف بعثة الأنبياء، فهم مبشرون ومنذرون.

ثمّ تقول: إِنّ طريق النجاة ينحصر في أمرين، فالذين يؤمنون ويصلحون

_____________________________

1 ـ شرحنا معنى «أرأيتكم» عند تفسير الآية 40 من هذه السورة وقلنا: ليس هناك ما يدعوا إِلى اعتبار المعنى «أخبروني» بل المعنى هو «أعلمتم»؟

2 ـ لقمان، 13.

[290]

أنفسهم (ويعملون الصالحات) فلا خوف عليهم من العقاب الإِلهي، ولا حزن على أعمالهم السابقة. (فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

أمّا أُولئك الذين لا يصدقون بآياتنا، بل يكذبون بها فإِنّ عقابهم على فسقهم وعصيانهم عذاب من الله: (والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون).

من الجدير بالإِنتباه أنّ الآية ذكرت عقاب الذين يكذبون بآيات الله بعبارة (يمسهم العذاب)، فكأنّ هذا العقاب يطاردهم في كل مكان حتى يشملهم بأشد ما يكون من العذاب.

كذلك ينبغي القول أنّ لكلمة «فسق» معنى واسعاً أيضاً، يشمل كل أنواع العصيان والخروج عن طاعة الله وعبوديته وحتى الكفر في بعضى الأحيان، وهذا المعنى هو المقصود في هذه الآية، لذلك لا محل للبحوث التي عقدها الفخر الرازي ومفسّرون آخرون بشأن معنى «الفسق» وشمولها الذنوب، ومن ثمّ الدفاع عن ذلك.

* * *

[291]

الآية

قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّى مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ مَايُوحَى إِلَىَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاَْعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ(50)

التّفسير

معرفة الغيب:

هذه الآية استمرار للردّ على إِعتراضات الكفار والمشركين المختلفة، والرد يشمل ثلاثة أقسام من تلك الإِعتراضات في جمل قصيرة:

الأوّل: هو أنّهم كانوا يريدون من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) القيام بمعجزات عجيبة وغريبة، وكان كل واحد يتقدم باقتراح حسب رغبته، بل إِنّهم لم يكونوا يقنعون بمشاهدة معجزات طلبها آخرون، فمرّة كانوا يطلبون بيوتاً من ذهب، ومرّة يريدون هبوط الملائكة، ومرّة يريدون أن تتحول أرض مكّة القاحلة المحرقة إِلى بستان مليء بالمياه والفواكه وغير ذلك ممّا كانوا يطلبونه من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ممّا سيأتي شرحه في تفسير الآية (90) من سورة الإِسراء.

ولعلهم بطلباتهم الغريبة تلك كانوا يتوقعون أن يروا للنبي مقام الألوهية وإِمتلاك الأرض والسماء، فللردّ على هؤلاء يأتي الأمر من الله: (قل لا أقول

[292]

لكم عندي خزائن الله).

«الخزائن» جمع الخزينة، بمعنى المكان الذي تخزن فيه الأشياء التي يراد حفظها وإِخفاؤها عن الآخرين، وإستناداً إِلى الآية: (وان من شيء إِلاّ عندنا خزائنه وما ننزله إِلاّ بقدر معلوم)(1) يتّضح أنّ «خزائن الله» تشمل مصدر ومنبع جميع الأشياء، وهي في الحقيقة تستقي من ذات الله اللامتناهية منبع جميع الكمالات والقدرات.

ثمّ تردّ الآية على الّذين كانوا يريدون من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكشف لهم عن جميع أسرار المستقبل، بل ويطلعهم على ما ينتظرهم من حوادث لكي يدفعوا الضرر ويستجلبوا النفع، فتقول: (ولا أعلم الغيب).

سبق أن قلنا إِنّه لا يكون أحد مطلعاً على كل شيء إِلاّ إِذا كان حاضراً وشاهداً في كل مكان وزمان، وهو الله وحده، أمّا الذي يكون وجوده محدداً بمكان وزمان معينين فلا يمكن بالطبع أن يطلع على كل شيء، ولكن ما من شيء يحول دون أن يمنح الله جزءاً من عمله هذا إِلى الأنبياء والقادة الإِلهيين لإِكمال مسيرة القيادة، حسبما يراه من مصلحة، وهذا بالطبع لا يكون علماً بالغيب بالذات، بل هو «علم بالغيب بالعرض» أي أنّه تعلم من عالم الغيب.

هنالك آيات عديدة في القرآن تدل على أنّ الله لا يظهر علمه هذا للانبياء والقادة الإِلهيين وحدهم، بل قد يظهره لغيرهم أيضاً، ففي الآيتين (26 و27) من سورة الجن نقرأ: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إِلاّ من ارتضى من رسول).

لا شك أنّ مقام القيادة، وخاصة القيادة العالمية العامة، يتطلب الإِطلاع على كثير من المسائل الخافية على عامّة الناس، فإِذا لم يطلع الله مبعوثيه وأولياءه على علمه، فإِنّ مراكزهم القيادية لن تكون كاملة (تأمل بدقّة).

_____________________________

1 ـ الحجر، 21.

[293]

وإِذا تجاوزنا ذلك، فإِنّنا نلاحظ أنّ بعض الكائنات الحيّة لابدّ لها أن تعلم الغيب للمحافظة على حياتها، فيهبها الله ما تحتاجه من علم، فنحن ـ مثلا ـ قد سمعنا عن بعض الحشرات التي تتنبأ في الصيف بما سيكون عليه الجو في الشتاء، أي أنّ الله قد وهبها هذا العلم بالغيب، لأنّ حياتها ستتعرض لخطر الفناء دون هذه المعرفة، وسوف نفصل هذه الموضوع أكثر إِن شاء الله عند تفسير الآية (188) من سورة الأعراف.

في الجملة الثّالثة ردّ على الذين كانوا يتصورون النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ملكاً، أو أن يصاحبه ملك، وان لا يتصف بما يتصف به البشر من تناول الطعام والسير في الطرقات، وغير ذلك، فقال: (ولا أقول لكم إِنّي ملك إِن أتبع إِلاّ ما يوحى إِليّ).

يتّضح من هذه الآية بجلاء أن كل ما عند رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من علم، وكل ما فعله كان بوحي من السماء، وإنّه لم يكن يفعل شيئاً باجتهاده ولا بالعمل بالقياس ولا بأي شيء آخر كما يرى بعض ـ وإِنّما كان يتبع الوحي في كل أمر من أُمور الدين.

وفي الختام يؤمر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ يقول لهم: هل يمكن للذين يغمضون أعينهم ويغلقون عقولهم فلا يفكرون أن ينظر إِليهم على قدم المساواة مع الذين يرون الحقائق جيداً ويتفهمونها؟ (قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون).

إِنّ ذكر هذه الجملة في أعقاب الجملات الثلاث السابقة قد يكون لأنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) سبق أن قال: (لا أقول لكم عندي خزائن الله) و(ولا أعلم الغيب)و(لا أقول لكم إِنّي ملك) بل (إن اتبع إِلاّ ما يوحى إِليّ)، ولكن هذا كلّه لا يعني إنّني مثلكم، أيّها المشركون، بل أنا إِنسان بصير بالواقع بينما المشرك أشبه بالأعمى، فهل يستويان؟

ثمّة إِحتمال آخر لربط هذه الجمل، وهو أن الأدلة والبراهين على التوحيد

[294]

وعلى صدق رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) واضحة جلية، ولكنّها تتطلب عيناً بصيرة لكي تراها، فإِذا كنتم لا تقبلونها فليس لأنها أدلة غامضة معقدة، بل لكونكم تفتقرون إِلى العين البصيرة، فهل يستوي الأعمى والبصير؟

* * *

[295]

الآية

وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(51)

التّفسير

في ختام الآية السابقة ذكر سبحانه عدم استواء الأعمى بالبصير، وفي هذه الآية يأمر نبيّه أن ينذر الذين يخشون يوم القيامة (وانذر به الذين يخافون أن يحشروا إِلى ربّهم) أي أن هؤلاء لهم هذا القدر من البصيرة بحيث يحتملون وجود حساب وجزاء، وفي ضوء هذا الإِحتمال والخوف من المسؤولية تتولّد فيهم القابلية على التلقّي والقبول.

سبق أن قلنا: إِنّ وجود القائد المؤهل والبرنامج التربوي الشامل لا يكفيان وحدهما لهداية الناس، بل ينبغي أن يكون لدى هؤلاء الناس الإِستعداد لتقبل الدعوة، تماماً مثل أشعة الشمس التي لا تكفي وحدها لتشخيص معالم الطريق، بل لابدّ من وجود العين الباصرة أيضاً، ومثل البذرة السليمة التي لا يمكن أن تنمو بغير وجود الأرض الصالحة للزراعة.

يتّضح من هذا أنّ الضمير في «به» يعود على القرآن، وهذا يتبيّن من القرائن، على الرغم من أنّ القرآن لم يذكر في الآيات السابقة صراحة.

[296]

كما أنّ المقصود من «يخافون» أي يحتملون وجود الضرر، إِذ يخطر ببال كل عاقل يستمع إِلى دعوة الأنبياء الإِلهيين، بأنّ من المحتمل أن تكون دعوة هؤلاء صادقة، وأنّ الإِعراض عنها يوجب الخسران والضرر، ويستنتج من ذلك أنّ من الخير له أن يدرس الدعوة ويطلع على الأدلة.

وهذا واحد من شروط الهداية، وهو ما يطلق عليه علماء العقائد اسم «لزوم دفع الضرر المحتمل» ويعتبرونه دليل وجوب دراسة دعوى من يدعي النّبوة، ولزوم المطالعة لمعرفة الله.

ثمّ يقول: إِنّ أمثال هؤلاء من ذوي القلوب الواعية يخافون ذلك اليوم الذي ليس فيه غير الله ملجأ ولا شفيع: (ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع).

نعم، أنذر أمثال هؤلاء الناس وادعهم إِلى الله، إِذ أنّ الأمل في هدايتهم موجود: (لعلهم يعقلون).

بديهي أنّ نفي «الشفاعة» و«الولاية» في هذه الآية عن غير الله لا يتناقض مع شفاعة أولياء الله وولايتهم، إِذ إِنّنا سبق أن أشرنا إِلى أنّ المقصود هو نفي الشفاعة والولاية بالذات، أي أنّ هذين الأمرين مختصان ذاتاً بالله، فإِذا كان لأحد غيره مقام الشفاعة والولاية فبإِذن منه وبأمره، كما يصرح القرآن بذلك: (من ذا الذي يشفع عنده إِلاّ بإِذنه)(1).

للمزيد من التوضيح بشأن الشفاعة عموماً، اُنظر المجلد الأوّل: ص 198، والمجلد الثّاني من هذا التّفسير.

* * *

_____________________________

1 ـ البقرة، 255.

[297]

الآيتان

وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَوَةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْء وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَىْء فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّـلِمِينَ(52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْض لِّيَقُولُوا أَهَـؤُلاَءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بالشَّـكِرِينَ(53)

سبب النّزول

ذكرت روايات عديدة في سبب نزول هاتين الآيتين، ولكنّها متشابهة، من ذلك ما جاء في تفسير «الدار المنثور»: مرّت جماعة من قريش بمجلس رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث كان «صهيب» و«عمار» و«بلال» و«خباب» وأمثالهم من الفقراء والعمال حاضرين فيه، فتعجبوا من ذلك (لأنّهم كانوا يحسبون أن شخصية المرء مرهونة بالثروة والجاه والمقام، ولم يستطيعوا إِدراك المنزلة المعنوية لهؤلاء الأشخاص، ولا ما سيكون لهم من دور بناء في إِيجاد المجتمع الإِسلامي والإِنساني الكبير) فقالوا: يا محمّد! أرضيت بهؤلاء من قومك، أفنحن نكون تبعاً لهم؟، أهؤلاء الذين منّ الله عليهم؟! اطردهم عنك، فلعلك إِن طردتهم اتّبعناك،

[298]

فأنزل الله الآية.

بعض مفسّري أهل السنة، مثل صاحب تفسير (المنار) يورد حديثاً أشبه بذاك، ثمّ يقول: إِنّ عمر بن الخطاب كان حاضراً واقترح على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقبل عرض هؤلاء الملأ من قريش، ليتبيّن مدى صدق قولهم؟ فنزلت الآيتان في رفض إقتراحه.

ينبغي ألاّ يغرب عن البال أنّ ذكر سبب نزول بعض آيات هذه السورة لا يتنافى مع نزول السورة كلها في مكان واحد، فقد سبق أن قلنا إِنّ من الممكن أن تقع حوادث مختلفة في أوقات مختلفة قبل نزول السورة، ثمّ تنزل السورة بشأن تلك الحوادث.

يلزم هنا أن نذكر أنّه جاء في رواية أنّ الملأ من قريش ـ حينما رفض رسول الله عرضهم ـ اقترحوا عليه شيئاً آخر، وقالوا له: لو نحيت هؤلاء حتى نخلو بك ... فإِذا انصرفنا، فإِذا شئت أعدتهم إِلى مجلسك، فأجابهم النّبي إِلى ذلك، فقالوا له: اكتب لنا بهذا على نفسك كتاباً، فدعا بصحيفة وأحضر علياً ليكتب، فنزل جبرائيل بالآية تنهى عن ذلك.

غير أنّ هذه الرواية، على الرغم من كونها لا تنسجم مع روح تعاليم الإِسلام التي رفضت دوماً المساومة في مثل هذه الحالات، وأكّدت باستمرار على وحدة المجتمع الإِسلامي، فإنّها لا تنسجم مع الآية السابقة: (إِن أتبع إِلاّ ما يوحى إِليّ)فكيف يمكن لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قبول الإِقتراح دون انتظار للوحي.

ثمّ إِنّ عبارة (ولا تطرد) في بداية الآية تدل على أنّهم قد طلبوا طرد أُولئك، لا التناوب معهم، والبون شاسع بين طلب الطرد وطلب التناوب، وهذا يدل على أنّ سبب نزول الآية هو ما أوردناه أوّلا.

* * *

[299]

مكافحة التّفكير الطّبقي:

في هذه الآية إِشارة إِلى واحد من إِحتجاجات المشركين، وهو أنّهم كانوا يريدون من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقرّ ببعض الإِمتيازات لطبقة الأغنياء ويفضلهم على طبقة الفقراء، إِذ كانوا يرون في جلوسهم مع الفقراء من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)منقصة لهم أي منقصة! مع أنّ الإِسلام كان قد جاء للقضاء على مثل هذه الإِمتيازات الزائفة الجوفاء، كانوا يصرون على هذا الطلب في طرد أُولئك عنه، غير أنّ القرآن ردّ هذا الطلب مستنداً إِلى أدلة حية، فيقول: (ولا تطرد الذين يدعون ربّهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه)(1).

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن لم يشر إِلى هؤلاء الأشخاص إِشارة خاصّة، بل اكتفى بصفتهم البارزة وهي أنّهم يذكرون الله صباح مساء، أي دائماً، وانّ ذكرهم الله هذا ليس فيه رياء، بل هو لذات الله وحده، فهم يريدونه وحده ويبحثون عنه، وليس ثمّة إِمتياز اسمى من هذا.

يتبيّن من آيات قرآنية مختلفة أنّ هذا لم يكن أوّل طلب من نوعه يتقدم به هؤلاء المشركون الأغنياء المتكبرون إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل لقد تكرر إِعتراضهم على النّبي بشأن إِجتماع الفقراء حوله، ومطالبتهم إِياه بطردهم.

في الحقيقة كان هؤلاء يستندون في طلبهم ذاك إِلى سنة قديمة خاطئة تقيم المرء على أساس ثروته، وكانوا يعتقدون أنّ المعايير الطبقية القائمة على أساس الثروة يجب أن تبقى محفوظة، ويرفضون كل دعوة تستهدف إِلغاء هذه القيم والمعايير.

في سيرة النّبي نوح(عليه السلام) نرى أنّ أشراف زمانه كانوا يقولون له: (وما نراك

_____________________________

1 ـ معنى «الوجه» في اللغة معروف، ولكنّ الكلمة قد تعني «الذات» كما في هذه الآية، وهناك شرح أوفى لذلك في المجلد الثّاني من هذا التّفسير.

[300]

إِتّبعك إِلاّ الذين هم أراذلنا بادي الرأي)(1) واعتبروا ذلك دليلا على بطلان رسالته.

إِنّ واحداً من دلائل عظمة الإِسلام والقرآن، وعظمة مدرسة الأنبياء عموماً، هو أنّها وقفت ثابتة لا تتزحزح في وجه أمثال هذه الطلبات، وراحت تحطم هذه الإِمتيازات الموهومة في كل المجتمعات التي تعتبر التمايز الطبقي مسألة ثابتة، لتعلن أنّ الفقر ليس نقصاً في أشخاص مثل سلمان وأبي ذر والخباب وبلال، كما أنّ الثروة ليست إِمتيازاً إِجتماعياً أو معنوياً لهؤلاء الأثرياء الفارغين المتحجرين المتكبرين.

ثمّ تقول الآية: إنّه ليس ثمّة ما يدعو إِلى إِبعاد هؤلاء المؤمنين عنك، لأنّ حسابهم ليس عليك، ولا حسابك عليهم: (ما عليك من حسابهم من شيء، وما من حسابك عليهم من شيء)، ولكنّك مع ذلك إِذا فعلت تكون ظالماً: (فتطردهم فتكون من الظّالمين).

يختلف المفسّرون في توضيح المقصود من «الحساب» هنا.

منهم من يقول: إِنّ المقصود هو حساب رزقهم، أي أنّهم وإِن كانوا فقراء فإِنّهم لا يثقلون عليك بشيء، لأن حساب رزقهم على الله، كما أنّك أنت أيضاً لا تحملهم ثقل معيشتك، إِذ ليس من حساب رزقك عليهم من شيء.

غير أنّ هذا الإِحتمال يبدو بعيداً، لأن الظاهر أن القصد من الحساب هو حساب الأعمال، كما يقول كثير من المفسّرين، أمّا لماذا يقول الله أن حساب أعمالهم ليس عليك، مع أنّهم لم يبدر منهم أي عمل سيء يستوجب هذا القول؟ فالجواب: إِنّ المشركين كانوا يتهمون أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الفقراء بالإِبتعاد عن الله بسبب فقرهم، زاعمين أنّهم لو كانت أعمالهم مقبولة عند الله لزمه الترفية والتوسعة عليهم في معيشتهم، بل كانوا يتهمونهم بأنّهم لم يؤمنوا إِلاّ لضمان

_____________________________

1 ـ هود، 27.

[301]

معيشتهم والوصول إِلى لقمة العيش.

فيرد القرآن على ذلك مبيناً أنّنا حتى لو فرضنا أنّهم كذلك، فان حسابهم على الله، مادام هؤلاء قد آمنوا وأصبحوا في صفوف المسلمين، فلا يجوز طردهم بأي ثمن، وبهذا يقف في وجه إِحتجاج أشراف قريش.

وشاهد هذا التّفسير ما جاء في حكاية النّبي نوح(عليه السلام) التي تشبه حكاية أشراف قريش، فأُولئك كانوا يقولون لنوح: (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون) فيرد عليهم نوح قائلا: (وما علمي بما كانوا يعملون إِنّ حسابهم إِلاّ على ربّي لو تشعرون، وما أنا بطارد المؤمنين)(1).

من هنا يجب على الأنبياء أن يتقبلوا كل امرىء يظهر الإِيمان بدون أي تمييز ومن أية طبقة كان فكيف بالمؤمنين الأطهار الذين لا يريدون إِلاّ وجه الله، وكل ذنبهم هو أنّهم فقراء صفر اليدين من الثروة، ولم يتلوثوا بالحياة الدنيئة لطبقة الأشراف!

إِمتياز كبير للإِسلام:

إِنّنا نعلم أنّ دائرة صلاحيات رجال الدين المسيحيين المعاصرين قد اتسعت إِتساعاً مضحكاً بحيث إِنّهم أعطوا أنفسهم حق غفران الذنوب، فبامكانهم طرد الأشخاص وتكفيرهم أو قبولهم لأتفه الأُمور.

إِلاّ أنّ القرآن، في هذه الآية وفي آيات أُخرى ينفي صراحة أن يكون لأحد الحقّ، بل ولا لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه في أن يطرد أحداً أظهر إِيمانه ولم يفعل ما يوجب إِخراجه من الإِسلام، وأن غفران الذنوب والحساب بيد الله وحده، ولا يحق لأحد التدخل في هذا أبداً.

والكلام هنا على «الطرد الديني» لا «الطرد الحقوقي» فلو كانت إِحدى

_____________________________

1 ـ الشعراء، الآيات 111 ـ 114.

[302]

المدارس وقفاً على طبقة خاصّة من الطلاب، وقبل أحدهم فيها لتوفر شروط القبول فيه، ثمّ فقد بعض تلك الشروط، فان طرده وإِخراجه من تلك المدرسة لا مانع فيه، كذلك لو أنّ مدير مدرسة أُعطيت له صلاحيات معينة لغرض إِدارة شؤونها، فله كل الحقّ في الإِستفادة من تلك الصلاحيات لحفظ النظام ورعاية مصالح المدرسة (فما ورد في حديث صاحب تفسير المنار عند تفسيره الآية ممّا يخالف هذا المعنى ناشي من الاشتباه بين الطرد الديني والطرد الحقوقي).

الآية الثّانية يحذر فيها القرآن أصحاب المال والثروة من أن هذه الأُمور إختبار لهم، فإِذا لم يجتازوا الإِمتحان فعليهم أن يتحملوا العواقب المؤلمة، فالله يمتحن بعضهم ببعض: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض).

«الفتنة» تعني هنا الإِمتحان(1) وأي إِمتحان أصعب ممّا يمر به الأغنياء الذين كانوا قد اعتادوا لسنوات طويلة على الترفع على الطبقات الدنيا، فلا يشاركونهم أفراحهم وأتراحهم، بل حتى أنّهم يبعدون قبور موتاهم عن قبورهم، أمّا الآن فيطلب منهم أن يتخلوا عن كل ذلك وأن يحطموا كل تلك العادات والسنن، ويكسروا القيود والسلاسل ليلتحقوا بدين طلائعه من الفقراء ومن يسمون بالطبقة الدنيا.

ثمّ تضيف الآية أنّ الأمر يصل بهؤلاء إِلى أنّهم ينظرون إِلى المؤمنين الصادقين نظرة احتقار (ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا)(2)؟!

ثمّ تجيب الآية على المعترضين مؤكدة أنّ هؤلاء الأشخاص أُناس شكروا نعمة التشخيص الصحيح بالعمل، كما أنّهم شكروا نعمة دعوة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)بقبولها، فأي نعمة أكبر، وأي شكر أرفع، ولذلك رسخ الله الإِيمان في قلوبهم: (أليس الله بأعلم بالشّاكرين).

* * *

_____________________________

1 ـ لمزيد من الشرح أُنظر المجلد الثّاني في تفسير الآيتين 191 و193 من سورة البقرة.

2 ـ أشرنا في تفسير الآية 164 من سورة آل عمران إلى أنّ «المنة» تعني في الأصل النعمة يهبها الله.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=733
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28