• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : التفسير البنائي للقرآن الكريم ـ الجزء الثاني ، تأليف : الدكتور محمود البستاني .
                    • الموضوع : سورة الأنفال .

سورة الأنفال

                                            سورة الأنفال

 

______________________________________________________

الصفحة 79

 

تتناول سورة الأنفال موضوعاتٍ مختلفةً مثل غالبية سور القرآن الكريم، إلا أن العصب الفكري الذي ينتظم السورة يحوم على مفهوم (الجهاد)، بخاصة الجانب العسكري منه، ولعل بداية السورة ونهايتها ـ حيث تبدأ السورة بطرح ظاهرة (الأنفال) وتختتم بسمات المجاهدين، وينتظم وسطها رسمٌ للمعارك وحثٌ على الجهاد وصياغة لبعض مبادئه ـ أقول: لعل بداية السورة ووسطها ونهايتها بالنحو الذي أشرنا إليه تدلّنا إجمالاً على (فكرتها) المتصلة بظاهرة الجهاد، وأمّا سائر الموضوعات فتصاغ بنحو فني حيث تبرز في سياقات خاصة من خلال التداعيات التي نصدر عنها عند تمثلاتنا لمفهومات الجهاد المطروحة في النص، وهو أمر نبدأ الآن بتوضيحه وفق الشكل الذي ينتظم السورة، حيث بدأت السورة بالمقطع الآتي، هكذا:

(بسم الله الرحمن الرحيم يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين) [الأنفال: 1].

هذه البداية تكشف لنا عن عمارة السورة هندسياً، وإلى أنها سوف تتحدث أو لنقل: سوف تركّز على واحدٍ من الموضوعات ذات الصلة بالجهاد وهو (الأنفال).

وبالرغم من أنّ (الأنفال) تشمل الأرض المأخوذة بغير قتال، والأرض التي انجلى عنها أهلها، والأرض الموات، وقطائع الملوك وسواها مما يرتبط بالجانب الاقتصادي والسياسي، إلا أن ارتباطها بالجانب العسكري من الوضوح بمكان بخاصة فيما يتصل بالفتح ومستلزماته المختلفة.

 

______________________________________________________

الصفحة 80

 

لذلك سوف نجد أن الجانب العسكري سوف يحتل مساحة كبيرة من سورة الأنفال، تبعاً لهذه المقدمة التي بدأتها السورة وهو أمرٌ نتوقعه (من الزاوية الفنية) حتى لو قدّر لنا ألاّ نتابع تفصيلات السورة ما دمنا على يقين بأن كل سورة لابدّ أن ينتظمها هيكل فنيّ تتلاحم موضوعاتهُ وتتنامى وفق بناءات هندسية بالغة الإحكام.

المهم، ان نفس هذه البداية تدعنا نتوقع تركيزاً على الجانب العسكري من الجهاد، وإلى أن الجانب الاقتصادي والسياسي سوف يطرحان خلال ذلك: ما دامت (الأنفال) تشمل بمصطلحها الفقهي جميع الجوانب المُشار إليها.

 

* * *

 

والآن، لو اتجهنا إلى ملاحظة هذه البداية (الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين).

هذه المفردات التي طرحتها الآية التي استُهِلت بها سورة الأنفال لابدّ أن تتردد أصداؤها في تضاعيف النص بمعنى أن هذه البداية تشكل (تمهيداً) فنيّاً يبدأ بطرح الموضوعات إجمالاً، ثم تبدأ تفصيلاتها تدريجاً في الأجزاء اللاحقة من السورة، تبعاً لما نعرفه من أن طبيعة النص الفنّي تستتبع مثل هذا البناء الهندسي.

إننا لو انسقنا مع هذه البداية قبل أن نتجه إلى ملاحظة النصوص المفسّرة، ومنها: معرفة المناخ الذي نزلت فيه السورة، لأمكننا أن نستخلص إجمالاً بأن (الأنفال) التي صاغها النصُ ملكيةً عامة للدولة الإسلامية، إنما ارتبطت بوقائع خاصة. طالَبَ النص من خلالها بتقوى الله، وبإصلاح ذات البين، وبإطاعة الله ورسوله. وكما قلنا، فإن هذه المفردات الفكرية المطروحة في (البداية) سوف تأخذ تفصيلاتها في الأقسام اللاحقة من النص. لكن ينبغي

 

______________________________________________________

الصفحة 81

 

أن نقف ولو عابراً على النصوص المفسرة لها: بالرغم من أن ظاهر النص يفصح بنفسه عن مضمونه من زاوية التذوق الفني الخالص، أي: حتى بدون الرجوع إلى النصوص المفسرة: يمكن للملاحظ الفني (وليس المفسّر لها) أن يستخلص الخطوط العامة التي تنتظم النص، لأن خطورة النص الفنيّة تكمن في أن أي نصٍ فنيّ يظل مرشحاً بإمكان مختلف الاستيحاءات منه، كل ما في الأمر أن هذه الاستيحاءات تظل ذات طابع مُجمَل، يتعيّن بعد ذلك (بغية الوقوف على حقائق النص)، معرفة تفصيلاته من النصوص المفسرة الواردة عن أهل البيت عليهم السلام.

وأياً كان الأمر، فقد أوضح أهل البيت ـ عليهم السلام ـ أن (الأنفال) تشمل الموارد التي أشرنا إليها، كما أوضحوا أنّ الآية المتقدمة نزلت في معركة (بدر) عند اختلاف المقاتلين في قضية الغنائم. لكن ـ كما قلنا ـ أن النص يفرض لغته الفنيّة علينا. وما دام الأمر يتصل بدراسة الهيكل العماري للسورة وليس بدراسة الجانب الفقهيّ منه، حينئذٍ يحسن بنا أن نتجه إلى دراسة الجانب الجمالي المذكور، فنقول: بدأت السورة بطرح ظاهرة (الأنفال) وإلى أنها مِلك للدولة الإسلامية (الأنفال لله والرسول)، كما طالبت بتقوى الله وبإصلاح ذات البين وإطاعة الله والرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم ختمت ذلك بقولها: (إن كنتم مؤمنين) أي: إن كنتم مؤمنين، حينئذٍ فأطيعوا الله ورسوله، فضلاً عن إصلاح ذات بينكم.

لذلك نجد (من الزاوية العمارية) ـ أي من زاوية الخطوط الهندسية للسورة ـ أنّ النص يبدأ بعد ذلك بعرض سمات (المؤمنين) حيث ان مطالبته بإطاعة الله ورسوله، اتبعت بقوله تعالى: (إن كنتم مؤمنين) وهو يتطلب (من حيث البناء الفني) عرضاً لسمات (المؤمنين) الذين طالَبَ النصُ الالتزام منهم بالإطاعة لله تعالى وللرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم. من هنا، جاء المقطع الأول من السورة (بعد التمهيد بالآية المتقدمة) خاصاً بعرض مجموعة من الصفات التي تمثل

 

______________________________________________________

الصفحة 82

 

(المؤمنين)، أي جاء هذا الموضوع مستقلاً فكرياً وإن كان مرتبطاً بقضية عسكرية، طالما نعرف ـ كما كررنا ـ بأن الفنّ العظيم هو الذي يطرح موضوعات مختلفة من خلال (فكرة عامة) تتفرع عليها تلكم الموضوعات على نحو ما نبدأ بتفصيل الحديث عنه.

 

* * *

 

قال تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) [الأنفال: 2 ـ 3].

هذا هو المقطع الأول من سورة (الأنفال) التي استهلت بقوله تعالى (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين) [الأنفال: 1]. وها هو المقطع الجديد، يشرح لنا معنى قوله: (إن كنتم مؤمنين) فمن هم المؤمنون؟ لقد رسمهم النص وفقاً للسمات التالية: 1 ـ الخوف من الله إذا ذُكِرَ عندهم 2 ـ تعاظم إيمانهم به عندما تتلى عليهم آياته 3 ـ التوكل على الله 4 ـ إقامة الصلاة 5 ـ الإنفاق في سبيل الله.

هذه السمات تشكّل ـ بطبيعة الحال ـ جانباً من سلوك المؤمنين وليس جميع السلوك. لكن، بما أن النصّ القرآني الكريم في صدد الحديث عن (الأنفال) وفي صدد الحديث عن قضايا الجهاد والأنفال، فضلاً عن كون بعضها ذات طابع عام يشمل كل المواقف مثل: (الصلاة) التي تمثل المظهر البارز للشخصية الإسلامية، أما السمات الأخرى فبالرغم من أنها تشكل أيضاً مظاهر متميزة للشخصية الإسلامية إلا أنها تتجانس (فنياً) مع سياق الموضوع الذي تتحدث السورة عنه وهو (الأنفال) وما واكبه من طلب التقوى وإصلاح ذات البين وإطاعة الله ورسوله (كما تضمنت ذلك: الآية الأولى من السورة)

 

______________________________________________________

الصفحة 83

 

حينئذٍ يمكننا أن نلاحظ بأن عملية التجانس الفنيّ تتمثل في أنّ السمات التي ذكرها النص قد فرضها الموقف المذكور. لقد أوضح بأن المؤمنين: إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وأنهم يزدادون إيماناً حينما تتلى عليهم آيات الله، وأنهم يتوكلون عليه، وأنهم ينفقون أموالهم. وكل هذه السمات ذات صلة بقضية (الأنفال) وبقضية معركة (بدر) التي نزلت الأنفال فيها واستتبعت اختلاف الآراء حيث جاءت المطالبة بالخوف من الله، وبزيادة الإيمان، وبالتوكل، وبالإنفاق متجانسة مع هذا الموقف الذي بدأ النص القرآني الكريم في المقطع الثاني من السورة بتوضيحه قائلاً: (كما أخرجك ربّك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون * يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يُساقون إلى الموت وهم ينظرون) [الأنفال: 5 ـ 6] فالملاحظ هنا أن هذا المقطع الجديد من السورة يتصل بما قبله، كما أن ما قبله يتصل بمقدمة السورة التي استُهلت بالحديث عن الأنفال.

لقد قدم النص دليلاً ـ بطريقة فنيّة ـ على أن إخراج محمد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ من المدينة إلى معركة بدر على كراهية فريق من المؤمنين، إنما هو خيرٌ للإسلاميين، وكأنه يريد أن يقول: إن سمات المؤمنين المتمثلة في التوكل على الله، والخوف منه، وتعاظم الإيمان، والإنفاق، إنما يتطلبها الموقف المماثل لإخراج محمّد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ يجسّد خيراً للإسلاميين (وكان الإسلاميون قد خرجوا إلى معركة بدر كما هو واضح وجاء الاختلاف غبّ توزيع الغنائم)، كذلك، فإن جَعْلَ (الأنفال) لله والرسول دون المقاتلين، خيرٌ للإسلاميين، إذ ينبغي ألا تصدر أية كراهية حيال ذلك لأن سمات المؤمن هي: أنه يخاف الله وأنه يزداد إيماناً إذا تُليت عليه آياته، وها هي آيات الله تُتلى عليه مقررة بأن الأنفال لله والرسول، فيتعين الإيمان بذلك.

إذن، لننظر كيف أن النص القرآني الكريم سلك طرقاً فنيّة بالغة الإحكام

 

______________________________________________________

الصفحة 84

 

حينما جانس بين مقدمة السورة في (الأنفال)، ومقطعها الأول في سمات المؤمنين، ومقطعها الثاني في الاستدلال بمعركة بدر وكراهية جماعة لذلك، مع أن النصر كان من نصيب الإسلاميين، أي: أن النص وضع قضية النصر في معركة بدر ـ بطريقة فنية ـ أمام هؤلاء الذين اختلفوا فيما بينهم موضحاً لهم بطريقة غير مباشرة أنّ كل ما يقرره الله والرسول ينبغي أن يقترن بالقبول.

بعد هذا النمط من الصياغة الفنية للموقف، انتقل النص إلى معركة بدر نفسها ليتحدث عن المواقف التي واكبت المعركة المذكورة، وهي مواقف تتصل من جانبٍ بنفس السياق الخاص بالأنفال وتفريعاته، وتتصل من جانب آخر بطرح موضوعات جديدة تتصل بظاهرة (الجهاد في سبيل الله) حيث قلنا بأن السورة الكريمة (سورة الأنفال) تحوم فكرتها العامة على الظاهرة المذكورة.

وأول ما طرحه النص في هذا الصدد هو: أن فريقاً من الناس كانوا يجادلون النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في هذا الجانب بعد أن ظهر لهم الحق. وسواء أكان هذا الحق الذي ظهر يتمثل في نتائج معركة (بدر) أم كان يتمثل في مقدمات المعركة ففي الحالين، نستخلص بأن قضية الجدال ينبغي أن تحذف من سلوك الإسلاميين (إذا كانوا مؤمنين حقاً) كما أشارت الآية إلى ذلك.

هنا طرح النص تمثيلاً فنياً لبلورة السلوك المتقدم حيث قال عن هذا الفريق (كأنما يُساقون إلى الموت وهم ينظرون). والواقع أن هذه الصورة الفنية (السوق إلى الموت وهم ينظرون) تمثّل حصيلة السلوك المتردد الذي أفضى إلى المواقف المذكورة عند فريق من المؤمنين، فهؤلاء ـ كما تذكر بعض النصوص المفسرة ـ كانوا يجادلون النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في وقت الخروج إلى معركة بدر، أو يجادلونه في نتائج ما انتهت العركة إليها معاتبين إياه في عدم إخبارهم بذلك سلفاً، أو يجادلونه بعد المعركة في قضية الغنائم...الخ. وفي الحالات جميعاً يجسّد هذا الجدال مظهراً من مظاهر السلوك المتردد غير

 

______________________________________________________

الصفحة 85

 

المفعم بالإيمان الكامل، ولعل أوضح مصاديقه يتمثل في تلك الصورة التي شبّهت خروجهم إلى القتال وكأنه سوق حتميّ إلى الموت حيث توحي هذه الصورة بأن (الخوف من الموت) هو خوف من أية مصائر لا تفضي إلى إشباع حاجاتهم، سواء أكانت هذه الحاجات مجرد غنائم أم حاجة إلى الحياة بعامة من خلال التخوف من الموت.

وأيّاً كان، بعد أن يرسم النص القرآني الكريم قضية الأنفال وصلتها بالإيمان ثم إردافها بمعركة بدر من حيث الربط بين ضرورة الإيمان بما يقرره الله ورسوله والاطمئنان إلى كونه خيراً وبين نتائج معركة بدر التي انتهت إلى نصر الإسلاميين بصفته خيراً أيضاً.

بعد ذلك كله، يتجه النص القرآني الكريم إلى طرح المواقف والأحداث التي رافقت هذه المعركة.

 

* * *

 

قال تعالى: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودّون أنّ غير ذات الشوكة تكون لكم ويُريد الله أن يحق الحق بكلماته وَيَقْطَعَ دابر الكافرين * ليُحِقّ الحق ويُبْطِلَ الباطِلَ ولو كره المجرمون * إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنّي مُمِدُّكم بألفٍ من الملائكة مُرْدِفين * وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئنّ به قلوبكم وما النصر إلاّ من عندِ الله إنّ الله عزيز حكيم * إذ يُغَشِّيكُم النُعاسَ أَمَنَةً منه ويُنَزِّلُ عليكم من السماءِ ماءً لِيُطهّركم به ويُذْهِبَ عنكم رِجْزَ الشيطان ولِيَرْبِطَ على قلوبكم ويُثَبِّتَ بهِ الأقْدامُ * إذ يوحي ربُّكَ إلى الملائكة أنّي معكم فََثَبِّتُوا الذين آمنوا سَأُلقي في قلوب الذين كفروا الرُعبَ فاضربوا فوقَ الأَعْناقِ واضربوا منهم كلّ بنان...) [الأنفال: 7 ـ 12].

في هذا المقطع من سورة الأنفال يتحدث النص عن معركة بدر مذكّراً المؤمنين بأن فريقاً منهم كانوا يودّون أن يغنموا قافلة أبي سفيان بينا كان الله

 

______________________________________________________

الصفحة 86

 

يريد النصر على المشركين من خلال المعركة.

وهنا ينبغي ألاّ نغفل عن أهمية الصورة الفنيّة المتمثّلة في قوله: (وتودّون أن غير ذات الشوكة لكم) حيث ترمز (الشوكة) إلى (الشدة) التي لا تميل إليها تركيبة الآدميين غالباً، نظراً لإيثارهم الراحة، وحيث أشار النص إلى أنهم يودّون أن يغنموا بأموال القافلة دون خوض المعركة المسلحة، وهذه الإشارة ذات صلة (من الزاوية الفنية) ببناء السورة الكريمة حيث كان المقطع السابق من السورة يتحدث عن فريق من المؤمنين يجادلون الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في قراراته ومواقفه العسكرية وغيرها فيما كانوا كارهين لكل ما يقترن بانتخاب الموقف من شدّة نفسية أو بدنية أو ماليّة، فجاءت الصورة الفنية (تودون أنّ غير ذات الشوكة تكون لكم) تأكيداً للحقيقة المتقدمة.

ثم يبدأ النص بعد الصورة الفنية المتقدمة بتذكير الإسلاميين لمساعدة السماء للمقاتلين في المعركة (معركة بدر)، حيث أمدّ الله المقاتلين بجنود من الملائكة لكي يطمئنوا بالنصر، كما ذكّرهم بغلبة النعاس أماناً لهم من الخوف الذي يحتجز المقاتل من النوم عادةً، وذكّرهم بإنزال المطر عليهم بغية التطهير والارواء، وذكّرهم بعملية التثبيت لقلوب الإسلاميين من خلال الملائكة الذين أمرهم الله بذلك، وبضرب المشركين، رؤوسهم وأطرافهم وأيديهم، فضلاً عن إلقاء الرعب في نفوسهم.

إن عملية (التذكير) بهذه المعطيات لها إسهامها الموضوعي والفني في هذا المقطع من السورة من حيث بناؤها الهندسي وصلة أجزائها البعض بالآخر. فمن حيث مفردات التذكير بالنعم نلاحظ أنها تنطوي على جميع متطلبات الإمداد العسكري سواء أكان ذلك متصلاً بالطرف الإسلامي حيث يتطلب أمداداً خاصاً أم كان متصلاً بالطرف المشرك حيث يتطلب الموقف خذلاناً خاصاً أيضاً، فمن حيث الموقف: إسلامياً، نجد أن الإمداد قد تمّ

 

______________________________________________________

الصفحة 87

 

بجميع أشكاله: المادّي وهم جنود الملائكة، ثم، طريقة الضرب وهو قطع الرؤوس والأرجل والأيدي (فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان)، ثم النفسي، وهو تثبيت القلوب (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا)، ثم: إذهاب رجز الشيطان عنهم (وليربط على قلوبكم) حيث كان الماء مفقوداً في المعسكر الإسلامي فاحتجزهم عن التطهير من الحدث والجنابة بعكس المشركين الذين نزلوا على موقع من الماء، مما جعل ضعاف النفس يصدرون عن تشكيك بمساعدة السماء، لذلك أنزل الله المطر عليهم، تثبيتاً لقلوبهم. ثم إلقاء النعاس عليهم، وهو إمداد جسمي ونفسي، حيث يتطلب الأمر إشباع الحاجة إلى النوم من جانب كما يتطلب الموقف إشاعة جوّ من الأمن بغية تحقيق الإشباع المذكور من جانبٍ آخر، لذلك أمدّهم بالنعاس تحقيقاً للأمن (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه).

إذن، كل أشكال الإمداد الغيبي قد تمّ بواسطة السماء: المادي والنفسي والجسمي.

وهذا كله فيما يتصل بالمعسكر الإسلامي.

أما ما يتصل بمعسكر المنحرفين، فيكفي أنهم جوبهوا بجنود لم يتوقعوهم إطلاقاً حيث يذكر المؤرخون سماع البعض ومشاهدتهم لهياكل بيضاء ساهمت في المعركة، مضافاً إلى أهمّ خذلان وهو الرعب في قلوبهم (سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب)، حيث ندرك جميعاً بأن الإنهيار المعنوي يظل أشدّ الأشكال تعبيراً عن الهزيمة.

إذن، جاءت عملية التذكير بنعم الله على الإسلاميين، مقرونة بأهم ما يمكن تصوره في قضايا الإمداد الغيبي لهم، وقضية التذكير المتقدمة ليست مرتبطة بما تقدم من المواقف التي رسمها النص في قضية صياغة (الأنفال) وأنها لله ورسوله وإرتباط ذلك بضرورة إطاعة الله ورسوله فحسب، بل أنها

 

______________________________________________________

الصفحة 88

 

تنسحب على المواقف اللاحقة التي سنقف عليها في السورة المباركة، وهو أمرٌ ينبغي ملاحظته بدقة ما دمنا نستهدف أساساً أن نتناول الجانب العماري من سور القرآن الكريم، من حيث تلاحم الموضوعات فيما بينها وانصبابها في رافد فكري يوحّد بين الموضوعات المختلفة. لذلك نجد أن المقطع اللاحق من السورة الكريمة، يتجه إلى طرح موضوع جديد من موضوعات الجهاد المسلّح وهو قضية الفرار من المعركة، مطالباً بعدم الزحف مرتباً على ذلك آثاراً خطيرة من حيث الجزاء الأخروي، يقول النص: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولّوهم الأدبار * ومَن يولّهم يومئذٍ دُبَره إلا متحرّفاً لقتالٍ أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضبٍ من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) [الأنفال: 15 ـ 16].

وقبل أن نتحدث عن محتويات هذا المقطع، ينبغي أن ندرك بأنّ الموقع الهندسي له من السورة يتمثل في كونه قد رُسِمَ مترتّباً على الأفكار التي طرحت في مقطع سابق وهي: إمداد الله للإسلاميين، فمع ملاحظة الإمداد العسكري المتمثل في جنود الملائكة، حينئذٍ لا معنًى لأية عملية فرار من الزحف حتى لو كان العدو متفوّقاً على الإسلاميين عسكرياً.

إذن، جاء هذا المقطع الذي سنتحدث عنه مفصلاً، يحتل موقعاً هندسياً مهمّاً من عمارة السورة، أنه لم يقل لنا مباشرة: عليكم بعدم الفرار من المعركة، بل قال ذلك بنحو فنّي غير مباشر هو: كون هذا المقطع جاء بعد الحديث عن الإمداد الغيبي للإسلاميين، وهذه هي سمة الفن التي تتحدث بلغة غير مباشرة في تقرير الحقائق على النحو الذي تحدثنا عنه.

 

* * *

 

قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولّوهم الأدبار * ومن يولّهم يومئذٍ دُبره إلاّ متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء

 

______________________________________________________

الصفحة 89

 

بغضبٍ من الله ومأواه جهنم وبئس المصير * فَلَمْ تَقتلُوهم ولكن الله قَتَلهم وما رميتَ إذا رميتَ ولكنّ الله رمى وَلِيُبْلِيَ المؤمنين منه بلاءً حسناً إن الله سميع عليم * ذلكم وان الله موهنُ كيدِ الكافرين) [الأنفال: 15 ـ 18].

هذا المقطع يتحدث عن جانب من مبادئ الجهاد العسكري من الإسلام. أنه يتحدث عن عدم الفرار من المعركة نتيجة للجبن أو التفوق العسكري للعدد إلاّ لمتطلبات عسكرية مثل تبديل المواقع أو الإنتقال إلى مجموعة أخرى من المقاتلين (إلاّ متحرفاً لقتال أو متحيّزاً إلى فئة).

وقد عقّب النص على هذه الظاهرة بقوله تعالى: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى...).

هذا التعقيب يحتل موقعاً هندسياً مهمّاً من عمارة السورة الكريمة. فقد سبق أن لحظنا في مقطع سابق أن النص يتحدث عن معطيات الله للمقاتلين الإسلاميين في معركة بدر حيث أمدّهم بجنود من الملائكة وحيث أمدهم بأشكال متنوعة من التفوّق العسكري، ولحظنا أيضاً أن المقطع الجديد الذي يطالب بعدم الزحف إنما جاء متحدثاً بلغة فنية غير مباشرة ليقول لنا: لا يجوز الفرار من المعركة ما دام الله هو الذي يمدّكم بالنصر. وها هو المقطع الجديد نفسه يقدّم لنا بعد المطالبة بعدم الفرار، تفسيراً فنياً للمطالبة المذكورة، موضحاً بأن عملية القتل التي صدرت من الإسلاميين حيال المشركين إنما تمّت من قِبَل الله تعالى، وإلى أن الرمي قد تمّ من قِبَل الله تعالى وليس من قِبَل المقاتلين الإسلاميين فحينئذٍ كيف يسمح المقاتل لنفسه بأن يزحف مع علمه بأن النصر من الله وليس من المقاتل نفسه؟.

هذا النمط من الصياغة الفكرية للمقطع لم يجيء مباشرةً، بل صيغ ـ كما قلنا ـ بطريقة فنية توحي للمتلقّي بأن النص القرآني الكريم كأنه يريد أن يقول لنا (لا تفروا من المعركة) ما دام القتل والرمي لم يصدرا عنكم (أي: المقاتلين).

 

______________________________________________________

الصفحة 90

 

والسؤال هو: لقد ذكر النص أولاً معطيات السماء في معركة بدر، ثم قطع سلسلة الحديث عن معركة بدر ليتحدث عن قضية الفرار من المعركة، ثم عاد إلى قضية معركة بدر من جديد فحدثنا عنها من خلال الإشارة إلى أن القتل والرمي تمّ من قِبلَ الله تعالى، فما هو السر الفنيّ في ذلك؟؟

واضح، أن النصوص الفنيّة سواء أكانت ذات طابع قصصي أم طابع عام، عندما تستهدف إبراز ظاهرة فكرية محدّدة إنما تستثمر موقعاً من مواقع النص لتمرير الظاهرة المذكورة بحيث يتجانس مع ذلك، لذلك عندما تُقطَع سلسلةُ العرض القصصي أو العرض النثري العام بعرض طارئ إنما تُستخلص من ذلك أهمية هذا العرض الطارئ، وهذا ما نلحظه في المقطع الذي نتحدث عنه حيث قَطعَ النصُ سلسلة العرض القصصي المتصل بواقعة بدر بعرض طارئ هو الزحف من ساحة المعركة ثم واصل النصُ حديثه عن معطيات معركة بدر، لكن جاءت مواصلة العرض متجانسة تماماً مع ظاهرة الزحف، حيث ذكر النص أن القتل والرمي قد تمّا من قِبَل الله بينا ذكر قبل هذه الظاهرة أشكال الإمداد الغيبي دون تخصيصها بعملية القتل والرمي. سرّ ذلك أن القتل والرمي يرتبطان بالفرار وعدمه أشدّ من غيره، أي أن النص لم يذكر لنا قضية النعاس مثلاً حينما ألقته السماء على المقاتلين في معركة بدر، كما لم يذكر لنا قضية إنزال المطر للتطهير من الحدث والجنابة...الخ، بل شدّد على القتل والرمي بصفتهما يستدعيان الفرار وعدمه من ساحة المعركة.

وهذا جانب واحد من سمات التجانس الفنيّ بين مقاطع السورة الكريمة والتنامي العضوي بينها.

أما الجانب الآخر من البناء الفني للمقاطع المتقدمة فيتمثل في التجانس بين بداية السورة الكريمة التي قالت: (... وإنّ فريقاً من المؤمنينَ

______________________________________________________

الصفحة 91

 

لكارِهون * يجادلونك في الحقِ بعد ما تبيّنَ كأنما يُساقون إلى الموت وهم ينظرون)[الأنفال: 5ـ6].

إن هذه الصورة الفنية للسوق إلى الموت (حيث تحدثنا مفصلاً عن موقعها الهندسي من السورة) تعود الآن لتُبيّن لنا موقعاً جديداً لها في هذا المقطع من النص، أي ينبغي ملاحظة التجانس بين فريق من الناس كارهين للخروج إلى المعركة، كأنما يساقون إلى الموت وبين فريق يحاول الفرار من ساحة المعركة بعد دخوله فيها. ففي الحالتين عملية فرار منها سواء قبل دخول المعركة أم خلالها.

والآن، خارجاً عن التجانسين المذكورين، ينبغي أيضاً ألا نغفل عن جانب ثالث من سمات التجانس والتلاحم الفني في هذا المقطع من السورة، فقد لوحظ أن النص ذكر عمليتي (القتل) (والرمي)، أما القتل فواضح حيث تضمّن مقطع أسبق، ظاهرة تدخّل الملائكة في المعركة واستتباعه قطع الرؤوس والأرجل والأيدي، الخ، فضلاً عن القتل الذي سبّبه (الرمي) الذي نعتزم الإشارة إليه، إن عملية (الرمي) تتمثل ـ كما يذكر المفسّرون ـ في تناول النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قبضة من التراب ورميها أمام العدو وتسبيبها قتلهم وأسْرَهم. لذلك، ينبغي ملاحظة السرّ الفني وراء ذكر هذين النمطين من الهزيمة التي لحقت المشركين وتذكير الإسلاميين بها في سياق النهي، عن عدم الفرار من ساحة المعركة، بمعنى أن النص القرآني الكريم شدّد على كلّ ما له صلة بتسبيب الهزيمة للمشركين في معركة بدر تأكيداً أو تحقيقاً لتعميق عنصر (القناعة) الفنية لدى المتلقّي ومن ثم لتعميق القناعة الوجدانية لدى مَن يحاول الفرار من ساحة المعركة، فما دام القتل مسبّباً من قِبَل الله تعالى، وما دام الرمي (وهو ظاهرة إعجازية أخرى صدرت عن النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ حيث أعمى التراب أبصار المشركين وأزال توازنهم حينما دخل التراب أنوفهم وعيونهم أيضاً). أقول: ما دام القتل

 

______________________________________________________

الصفحة 92

 

والرمي بنحوهما المذكور قد تمّ من قِبَل الله تعالى وليس من قِبَل المقاتلين، حينئذٍ فإن عملية الفرار من ساحة المعركة، تشكّل سلوكاًَ لا مسوّغ له البتة، كما هو واضح.

 

* * *

 

قال تعالى: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خيرٌ لكم وإن تعودوا نعد ولن تُغنيَ عنكم فئتكُم شيئاً ولو كثُرت وأنّ الله معَ المؤمنين).

هذا المقطع من سورة (الأنفال) يتردّد المفسّرون في كونه خطاباً إلى المشركين أم الإسلاميين، وبما أن دراستنا للنص القرآني تنصبّ على الجانب الهندسي من السورة من حيث صلة أجزائها بعضاً بالآخر، حينئذٍ يعنينا أن نتعرف بناءَ هذه الآية وكونها متجهةً إلى مخاطبة المشركين أم الإسلاميين.

من حيث السياق الفكري، لا نستبعد أن يكون الخطاب موجهاً إلى الإسلاميين لأن السورة منذ بدايتها قد استهلّت الحديث عن الإسلاميين وموقفهم من (الأنفال) المتنازع عليها في معركة بدر، ثم مطالبتهم بإطاعة الله ورسوله وتذكيرهم بمعطيات النصر العسكري في المعركة المذكورة، لذلك عندما نواجه الآن خطاباً موجّهاً إلى الناس لا نستبعد ـ من الزاوية الفنية ـ أن يكون استمراراً لمخاطبة الإسلاميين، فيتحدّد دلالته حينئذٍ وفقاً لما يلي: (أيها الإسلاميون، ان تستفتحوا على أعدائكم فقد جاءكم الفتح من الله، وان تنتهوا عن النزاع في قضية الغنائم فهو خيرٌ لكم، وان تعودوا لنزاعكم نعد عليكم بالخذلان...الخ).

مثل هذه الدلالة مقبولةٌ دون أدنى شك إذا أخذنا بنظر الاعتبار ـ مضافاً للسياق الفكري ـ إن النص القرآني الكريم في معرض التنديد بفريق من الإسلاميين الذين كرهوا القتال في بادئ الأمر، وفي معرض تنازعهم، وفي معرض المطالبة بعدم الفرار من الزحف، وهنا أيضاً يظل النصُ في معرض

 

______________________________________________________

الصفحة 93

 

التنديد بهم في حالة عودتهم إلى السلوك السلبي. وأهمية هذه الدلالة ـ فكرياً ـ من الوضوح بمكان، طالما ندرك تماماً بأن قضية النصر وعدمه مرتبطة بأداء الوظيفة العبادية في الأرض، وقيام ذلك على عملية (إختبار) يفرز من خلالها أيّ الناس أحسن عملاً، لذلك جاء النص المتقدم يعرض لجانب من الاختبار المذكور من خلال التنديد حيناً والتذكير بالمعطيات حيناً آخر.

وأياً كان الأمر، ومن الممكن أيضاً أن يكون التنديد المذكور، متجهاً إلى المشركين بدلاً من المؤمنين بخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن بعض المفسرين ذهب إلى أن الآية الكريمة (من حيث النزول) ترتبط باستفتاح أحد قادة المشركين في معركة بدر وطلبه نصْرَ الحق بطرفي المعركة، إلا أن ذلك ـ كما احتملنا ـ يظل بعيداً عن السياق الفني (أي المبنى الهندسي) للسورة للأسباب الفنية التي تقدم ذكرها مضافاً إلى أن المقاطع اللاحقة من السورة تظل امتداداً فكرياً للدلالة التي احتملناها، أيضاً، بحيث يمكن ملاحظة جانبٍ هندسي آخر يقوم عليه بناء السورة جميعاً وهو صياغة الخطاب للمؤمنين في كل مقاطع السورة.

ولنتابع ـ إذن ـ المقطع اللاحق من النص. يقول تعالى ـ متابعاً مخاطبته للإسلاميين ـ: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون * ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون * إن شرّ الدواب عند الله الصّمُ البُكْمُ الذين لا يعقلون * ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لَتَولَّوا وهم مُعرضون) [الأنفال: 20 ـ 23].

هذا المقطع مثل المقاطع السابقة، يتجه بالخطاب إلى الإسلاميين، إلا أنّه يعرض للمنحرفين ضمناً بحيث تأخذ السورة الكريمة شكلاً خارجياً هو محاورة المؤمنين وتخليلها رسماً للسمات المنحرفة ثم الرسم للمنحرفين أيضاً.

 

______________________________________________________

الصفحة 94

 

والجديد في هذا المقطع هو إعادة المطالبة بإطاعة الله ورسوله حيث تشكل هذه المطالبة واحداً من أبنية الشكل الفني للسورة، ومن ثمّ ترتيب الآثار عليها في حالة عدم الالتزام بها. لذلك حذّر المقطع من نتائج ذلك قائلاً: (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون) وأهمية هذا التحذير هو (التشبيه) أو (الصورة الفنية) التي وصلت بين الإسلاميين الذين لم يلتزموا بالمبادئ وبين المشركين الذين يصرّون على مكابرتهم حيث وصمهم بعد ذلك بأنهم (صمّ بكم) لا يعقلون.

أي: أنّ الآثار المنعكسة من عدم الإلتزام الإسلامي بالمبادئ سوف تفضي إلى نتائج مماثلة لسلوك الكافرين، وهي نتائج تمثّل غاية الخطورة ما دام العنصر المشترك بين السلوكين: (الإسلامي المنحرف، والمشرك) هو الامتحان في ركوب (الذات) واللهاث وراء إشباع حاجاتها غير المشروعة.

هنا يتقدم النص إلى تقرير إحدى الحقائق النفسية المتصلة بتكييف السلوك وفقاً لمعرفة السماء سلفاً بالممارسات التي سوف يصدر المنحرفون عنها. لقد أكّد النص هذه الحقيقة حينما قال عن المنحرفين: (ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولّوا وهم معرضون). هذا يعني أن الله تعالى سلفاً قد أغلق أسماعَ الكافرين من تقبل الخير، أي طبع على أفئدتهم ومنعها من تمثّل الخير، لكن ليس على نحو السلوك (الجبري) بل بسبب أنهم لو أسمعهم الله الخير لكانوا هم يغلقون أسماعهم من تقبّله، لذلك قال عنهم: (ولو أسمعهم لَتَولّوا وهم معرضون) وبكلمة جديدة: يريد أن يقول النصُ لنا: لو أن الله تعالى أسمع الكافرين الخير، لتولّوا وهم معرضون، لذلك، لو عَلمَ فيهم خيراً لأسمعهم فعلاً، وبما أنهم كذلك، كيّف سلوكهم سلفاً بحيث يحجزهم مثلُ هذا التكييف عن تقبّل الخير، فهناك فرقٌ بين أن نقول: إن الله تعالى كيّف سلوك الكافرين سلفاً بحيث لا يوفقون إلى إستماع الخير وتقبّله

 

______________________________________________________

الصفحة 95

 

مطلقاً، وبين أن نقول ان التكييف المذكور جاء نظراً لأنهم لو قُدّر لهم أن يسمعوا لاختاروا الكفر.

هذه الحقيقة ينبغي أن ندركها بوضوح ما دامت متصلة بأهم حقائق التركيب النفسي للآدميين، حيث نجد أن البعض من القاصرين فكرياً يخلطون بين الظاهرة الفلسفية (الجبر) فيما يعني عدم توفّر (الإرادة) أو (الإختيار) في السلوك، وبين الظاهرة النفسية التي تكيّف سلوك الإنسان وفقاً لما سيختاره بملء إرادته من سلوك الخير أو الشرّ، فتوفّق سلفاً، أو يطبع عليها سلفاً تبعاً لعملية (الاختيار) الذي تصدر عنه.

المهمّ، أن النص القرآني الكريم صاغ الحقيقة النفسية المتقدمة في ضوء عَرْضِه لسلوك الإسلاميين الذين يصدرون حيناً عن ضعفٍ في السلوك محذّراً من نتائج الضعف المذكور في حالة استمراريتهم على ذلك.

 

* * *

 

قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون * واتّقوا فتنةً لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب * واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطّفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون) [الأنفال: 24 ـ 26].

هذا المقطع من السورة امتدادٌ لما سبقته من الآيات الكريمة التي انتظمها بناءٌ هندسيٌ خاص هو 1 ـ مخاطبة المؤمنين، 2 ـ تحذيرهم من السمات السلبية في السلوك 3 ـ التذكير بنعم الله عليهم.

هذه المفردات التي تظل عصباً فنيّاً لهيكل السورة من خلال طرح ظاهرة (الجهاد في سبيل الله) تواجهنا في كلّ مقطع بطرح جديد، والجديد في المقطع الذي نتحدث عنه هو ـ فضلاً عن المطالبة بطاعة الله ورسوله وهي

 

______________________________________________________

الصفحة 96

 

مطالبة تتكرر أيضاً في غالبية مقاطع السورة تجانساً مع المفردات الثلاث التي أشرنا إليها، إلاّ أنها تأخذ صياغة خاصة في كل مقطع ـ طرح جملة من ظواهر السلوك العبادي، منها قوله تعالى: (أنَّ الله يحول بين المرء وقلبه) ومنها (قضية الفتنة أو الامتحان الذي يصيب المؤمنين دون الكافرين).

لقد طالب النص أولاً بالاستجابة إلى الله ورسوله بالنسبة إلى (الجهاد في سبيل الله) وهو المحور الفكري الذي قلنا: أنّ موضوعات السورة جميعاً تحوم عليه، حيث رَمَزَ إلى (الجهاد) بأنه عملية (إحياء) للشخصية الإسلامية: ثم أوضح بأن (الله يحول بين المرء وقلبه) أي: يحجز القلب من أن يرى الباطل حقاً والحقّ باطلاً، وعملية الحجز المذكورة تشكّل ـ في ميدان السلوك العبادي ـ واحدةً من أهم عمليات الاختبار أو الامتحان للسلوك، فما دام الشخص يفرز بوضوح حدود كلٍ من الخير والشر أو الحق والباطل، حينئذٍ تتمّ الحجّةُ عليه ويتحمّل مسؤولية سلوكه في نهاية المطاف، عندما يُحشر إلى الله تعالى: (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون).

 

* * *

 

الطرح الآخر لهذا المقطع هو قوله تعالى: (واتقوا فتنةً لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة).

الفتنة ـ كما نعرف ذلك بوضوح ـ هي: المظهر أو المنبّه الخارجي للسلوك، وعندما يتمّ التحذير منها، حينئذٍ فإنّ إحالة الله بين المرء وقلبه ـ وهي الآية السابقة التي قررت بأن الله يحجز الشخص من رؤية الباطل حقاً أو العكس ـ تدلّنا على أن قضية الاختبار وتحمّلَ مسؤولية السلوك حيالها تظل أمراً لا مناص منه وإلى أن التحذير من سلبية السلوك يستكمل بها الله الحجة على الشخص حيث طَالَب تعالى بالإتقاء من الفتنة، بعد أن مَهّد لذلك بأنه تعالى يحول بين الشخص وقلبه، كما أشرنا.

 

______________________________________________________

الصفحة 97

 

بعد ذلك، يتجه النص إلى عملية (التذكير) بنعم الله تجانساً مع سائر المقاطع التي تقرن بين عمليتي (التحذير) و(التذكير)، (التحذير) من السلوك السلبي، و(التذكير) بنعم الله. التذكير هنا يجيء في سياق الظواهر المتصلة بالمعارك الإسلامية ما دام هدف السورة فكرياً هو (الجهاد) كما كرّرنا الإشارة إلى ذلك، وكما لحظنا ذلك في مقاطع سابقة أيضاً. المهم، أن (التذكير) بمعطيات الله هنا يتمثل في قوله تعالى: (واذكروا إذ أنتم قليلٌ مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس).

إنّ الإشارة إلى الاستضعاف والخوف تتداعى بالذهن إلى (مكة) من حيث بيئتها السياسية التي وُلِدَت في نطاقها رسالة الإسلام، وإلى أن النصر بدأ في بيئة (المدينة)، كما نعرف ذلك بوضوح. ومما لا شك فيه، أن عملية (الإيواء) و(النصر) (فآواكم وأيّدكم بنصره) ونقل الإسلاميين من صعيد الاستضعاف والخوف إلى النصر بشرياً وسياسياً وعسكرياً لم يكن مجرّد حادثة تأريخية بقدر ما يشكّل نقلة اجتماعية تناولت البناءَ الاجتماعي أساساً. لذلك، فإن التذكير بمثل هذه النعمة لا بدّ أن يتناسب (فنيّاً) مع ضخامة (التحذير) من السلوك السلبي أيضاً، أي: أن النص عندما طالبَ الإسلاميين بالاستجابة لله ورسوله في ممارسة (الجهاد)، وعندما حذّرهم من (الفتنة)، إنما يعني ذلك أهمية وخطورة مثل هذا التحذير من حيث انعكاساتها على السلوك العبادي.

وأياً كان، فإن النص تقدّم بعد عمليتي (التحذير) و(التذكير) بعرض واحدة من ظواهر السلوك السلبي المتصل بممارسة (الجهاد) قائلاً: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون * واعلموا إنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم) [الأنفال: 27 ـ 28].

هذا العرض لقضية (الخيانة)، والإشارة إلى (فتنة) الأموال والأولاد، ينطوي على سرٍّ فني يتصل ببناء السورة هندسياً، حيث يُمثل التحذير من

 

______________________________________________________

الصفحة 98

 

الخيانة لله والرسول تقابلاً فنيّاً بين المطالبة بإطاعة الله ورسوله في بداية المقطع، والتحذير من مقابلها وهي: خيانة الله ورسوله في نهاية المقطع. كما أن الإشارة إلى ظاهرة (الخيانة) تمثّل ـ حسب أقوال المفسرين ـ موقفاً للبعض من معارك أخرى، أو مطلق المواقف التي صدرت من بعضهم خلالها بعضُ التصرّفات التي تتعاطف مع المشركين والمنحرفين. كذلك، فإن الإشارة إلى (فتنة) الأموال والأولاد تمثل، تجسيداً عملياً للتحذير الذي طالب بالاتقاء من الوقوع في الفتنة.

إذن، (من زاوية البناء الفني للنص) لحظنا: أن هذا المقطع من السورة طَرحَ جملةً من المفهومات الجديدة من حيث (الأفكار)، مرتكناً (من حيث الصياغة) إلى خطوط متجانسة مع المقاطع السابقة (أي خطوط التحذير، والتذكير، ومخاطبة المؤمنين)، مضافاً إلى تجانس وتلاحم وتنامي الموضوعات المطروحة المتصلة بقضايا (الفتنة) و(الخيانة) وسواهما من الظواهر التي تحدثنا عنها.

 

* * *

 

قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعلْ لكم فرقاناً ويكفّرْ عنكم سيئاتكم ويغفِرْ لكم والله ذو الفضلِ العظيم) [الأنفال: 29].

هذه الآية تحتل موقعاً هندسياً من السورة هو: وصلُها بين مقطع سابق يطالب المؤمنين بطاعة الله ورسوله وبترك السلوك السلبي وبين مقطع لاحق يتحدث عن المعطيات المختلفة التي تترتب على الدلالة التي تفرزها هذه الآية التي تتحدث عنها.

لقد أوضحت الآية بأن الإسلاميين حينما يَتَّقُونَ الله، فسوف يجعلُ لهم فرقاناً أي قابليةً فكريةً يَسْتَطيعُونَ من خلالها أن يميزوا بين الباطل والحق. ويجب أن نتذكر أن القسم السابق من السورة قد استهلّه النص بالإشارة إلى أن

 

______________________________________________________

الصفحة 99

 

الله يحول بين المرء وقلبه أي يحول بين المرء وبين أن يرى الحق باطلاً والباطل حقاً. وها هو الآن في المقطع الذي نتحدث عنه يقدّم لنا جواباً ـ بطريقة فنية غير مباشرة ـ بأن المرء حينما يتقي الله حق تقاته حينئذٍ فإن الوقوع في الفتنة وغيرها من أنماط السلوك الذي حذّر النصُ المؤمنين منه في مقطع سابق، سوف لن يغلب على المرء ما دام قد اتقّى الله بالفعل، حيث يجعل له قابلية نفسية على اختيار الحق دون الوقوع في شَرَك الباطل، مضافاً إلى أنه تعالى سوف يكفّر عنه سيئاته الماضية.

هنا، بعد أن يقرّر النصُ هذه الحقيقة، يتقدم إلى طرح موضوعات جدية ينتقل خلالها من الحديث عن المؤمنين الذين اتجه الخطابُ إليهم في المقاطع السابقة، إلى الحديث عن الكافرين، إلا أن هذا يتمّ وفق نقلة فنيّة تبدأ من نفس الفكرة التي طبعت المقاطع المذكورة وهي عملية (التذكير) بنعم الله على الإسلاميين، بادئاً ـ في ذلك ـ بالحديث عن محمّد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ: (وإذ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَروا لِيُثْبِتُوكَ أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكرُ الله والله خيرُ الماكرين) [الأنفال: 30].

هذه الآية ذات طابع فنيّ ثنائي، أحَدها هو التذكير بنعم الله، والآخر التعريض بسلوك الكافرين الذين سوف يتكفل قسمٌ من السورة بالحديث عنهم حيث مهّد لذلك بالحديث عن مكرهم إلى أنه لا قيمة له بالقياس إلى تدخّل السماء في ذلك.

وها هو النص يعرض لنا جانباً من سلوكهم بعد التمهيد المتقدم: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ

 

______________________________________________________

الصفحة 100

 

الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الأنفال: 31 ـ 40].

هذه الآيات تتحدث جميعاً عن (الكافرين)، وقد خصص النصُ هذا القسم من السورة للحديث عن الفئة المشار إليها، موضحاً جملة من أنماط سلوكهم مثل قولهم عن القرآن الكريم انه من الأساطير، وطلبهم إنزال العذاب من السماء، وصدّهم المؤمنين عن المسجد الحرام، وشغبهم فيه مثل التصفير والتصفيق (مكاء وتصدية)، وإنفاقهم المال للصدّ عن سبيل الله.

ويلاحَظ أن النص طرح خلال حديثه عن الكافرين جملة من الظواهر التي تعني شؤون الإسلاميين وموقعهم من ذلك، فضلاً عن ظواهر عبادية تتصل بالجهاد الذي يشكّل العصبَ الفكريّ للسورة.

من ذلك مثلاً قوله تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون). فهذه الظاهرة تحدد خطورة القيمة التي خلعها الله على النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وعلى الإسلاميين بعامة، فهو لا يعذب الكافرين بإنزال الحجارة عليهم مثلاً كما كان شأن الأمم السالفة، نظراً لمكانة محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، كما لا يعذبهم لمكانة الإسلاميين الذين يستغفرون الله حيث تذكر النصوص المفسّرة أن هؤلاء البقية التي لم تهاجر إلى المدينة لتعذّر ذلك عليهم، تسبّب

 

______________________________________________________

الصفحة 101

 

وجودهم عدم إنزال العذاب لحرمتهم، مما يعني مدى الخطورة التي يخلعها الله على عباده المؤمنين.

المهمّ، أنّ الموقع الهندسي و الفني لهذا القسم من السورة يتمثل ليس من خلال مجرد طرح بعض الموضوعات المتصلة بالشخصية الإسلامية ومكانتها عند الله فحسب، بل انها تتجاوز ذلك للحديث عن مشروعية قتال الكافرين (في حالة استمرارية سلوكهم) حيث طالب النص ـ كما لحظنا ـ بمقاتلتهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين كلّه لله. وحيث نعرف بأن السورة أساساً تحوم فكرتها على الجهاد (في سبيل الله)، بصفة أن مقاتلتهم (بعد أن بيّن النص مشروعية ذلك) تجسّد المظهر العسكري لمفهوم (الجهاد) كما هو واضح.

لذلك، ما أن ينتهي النص من هذا القسم حتى يعود ـ بطريقة فنية ـ إلى الحديث عن الإسلاميين بنفس اللغة التي طبعت المقاطع السابقة من السورة، مع طرح موضوعات جديدة تتصل بهذا الجانب.

 

* * *

 

قال تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ) [الأنفال: 41 ـ 44].

 

______________________________________________________

الصفحة 102

 

هذا المقطع من السورة امتدادٌ للمقاطع السابقة التي تتحدث عن المؤمنين وتطالبهم بالطاعة وترك المعصية وتذكّرهم بنعم الله تعالى.

الجديد في هذا المقطع هو: طرح ظاهرة إقتصادية تتصل بالخُمس من حيث صلته بالغنيمة. وما دام الأمر (من الزاوية الفنيّة) يتصل بالجهاد العسكري وما يواكبه من مبادئ متنوعة، حينئذٍ فإن طرح ظاهرة الخمس تظل متجانسةً مع موضوعات السورة كما هو واضح، مضافاً إلى تجانسها مع بداية السورة التي استهلّت موضوعاتها عن (الأنفال) وصلة ذلك بنفس الدلالة المشار إليها.

بعد ذلك، تقدمت السورة بقضية تذكير الإسلاميين بنعم الله عليهم تجانساً مع قضايا التذكير السابقة، مذكرةً إيّاهم بمعركة بدر، مركزة على وضع تسمية خاصة لها في هذا المقطع هي تسميتها (بيوم الفرقان)، حيث تظل هذه التسمية ذات صلة فنية بمقطع أسبق قال فيه النص: (ان تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً) أي قابلية على فرز الحق من الباطل وفصل أحده عن الآخر. وها هو النص ـ يُجانس فكرياً بين مطالبته بالتقوى واستتباعها فرقاناً بين الحق والباطل وبين تذكيرهم بمعركةٍ استتبعت فرقاناً بين الحق (انتصار المسلمين) والباطل (هزيمة المشركين).

إذن، إطلاق تسميته (يوم الفرقان) في هذا المقطع من السورة، على معركة بدر يجسّد سمةً فنيّة تتصل بالهيكل الهندسي للسورة.

وإذا تجاوزنا ظاهرة التسمية المذكورة إلى معركة بدر ذاتها، لحظنا أن النص يذكّر الإسلاميين بجانبين عسكريين من المعركة المذكورة، أحدهما يتصل بطبيعة الساحة العسكرية التي تمّ القتال فيها، والآخر يتصل بعدد المقاتلين، حيث ذكّر النصُ الإسلاميين بأنهم كانوا بالعدوة الدنيا، وكان العدو بالعدوة القصوى، والركب (وهو القافلة التجارية التي أشعلت المعركة) أسفل منهم، بحيث يتعذر إحراز النصر لولا تدخل السماء في هذا الميدان.

 

______________________________________________________

الصفحة 103

 

وأما من حيث العدد فقد ذكر النص ظاهرة كون المشركين قد قلّلهم الله في أعين الإسلاميين بحيث ليتعذر أيضاً إحراز النصر لو لم يقلّلهم الله في أعينهم ولاستتبع الفشل والتنازع، كما صرّحت الآية الكريمة بذلك. كما أنه تعالى قد قلّل عدد الإسلاميين أمام المشركين لكي لا يكترثوا بهم فيقلّ ـ تبعاً لذلك ـ استعدادهم العسكري في مواجهة الإسلاميين فيما يترتب على ذلك إحراز النصر.

هنا ينبغي أن نقف أيضاً عند التفسير الفنّي لهذه المفردات من التذكير بنعم الله تعالى وملاحظة موقعها العماري من السورة. فالملاحظ أن النص ذكّر الإسلاميين في مقاطع سابقة من السورة بمعركة بدر أيضاً، وكان التذكير يتمثّل في إنزال الملائكة، والمطر، والنعاس... الخ، بينا يتمثّل التذكير في المقطع الذي نتحدث عنه في ظاهرة العدد وطبيعة الساحة العسكرية.

ترى، هل نستخلص من هذا أن عمليات (التذكير) ذات وظيفة فنية هي طرحها تدريجاً في مقاطع متنوعة بغض النظر عن تمييز مفرداتها واحدةً عن الأُخرى، أم أن طرح قسم منها في مقطع دون الآخر إنما ينطوي على دلالة فنية أيضاً؟؟.

لا شك أن الاستخلاص الأخير هو الذي يسم النص القرآني بصفته قائماً على إحكام هندسي بالغ الدلالة.

ويمكننا ملاحظة ذلك إذا تابعنا المقطع اللاحق من السورة فيما يتحدث عن ظاهرة الفشل والتنازع وهو نفس الظاهرة التي ذكّر النصُ الإسلاميين من خلالها بمعركة بدر حيث أوضح من حيث العدد قائلاً: (وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ) كما أوضح من حيث المكان قائلاً: (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد) لأنه في حالة رؤية الإسلاميين كثرة عدد المشركين يضطرّون حينئذٍ للتأخر عن المكان المذكور، فيختلف الميعاد المشار إليه.

 

______________________________________________________

الصفحة 104

 

إذن، يظل إنتخاب مفردات معينة من الممارسات العسكرية من حيث التذكير بها، ذا صلة فنيّة بطبيعة الموضوعات المطروحة في السورة وليست مجرد عرضٍ لها، وإن كان العرض نفسه يجسّد أداءً فنياً حتى لو كان مجرداً من الموقع العماري من السورة ما دام الهدف هو إيصال مجموعة من الأفكار إلى الآخرين، وهذا يتم إدراجُها في مقاطع متتابعة دون الحاجة إلى ملاحظة المزيد من التجانس بينها وبين الموضوعات.

المهم، يحسن بنا الآن أن نتابع المقطع اللاحق من السورة بعد أن أشرنا إلى صلته بهذا الجانب.

 

* * *

 

قال تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا إذا لقيتم فئةً فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون * وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا ان الله مع الصابرين * ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط) [الأنفال: 45 ـ 47].

هذا المقطع من السورة يظل امتداداً للمقاطع السابقة من حيث صلته بهيكل السورة وفكرتها العامة. لقد طالب النصُ أولاً بالثبات في ساحة المعركة وعدم الفرار منها، وهذه المطالبة سبق ذِكْرها في مقطع متقدم (إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار) [الأنفال: 15] إلا أنّ ذِكرها سابقاً تمَّ في سياقٍ خاص جديد هو المواقف التي يجوز للمقاتل أن يترك موقعه إلى موقع آخر، كأن يلتحق بجماعة أو موقع عسكري يتيح له مجالاً أفضل (إلا متحرفاً لقتالٍ أو متحيزاً إلى فئة). أمّا في المقطع الذي نتحدث عنه فإن المطالبة بالثبات في المعركة فتتم في سياقٍ جديد هو ذِكرُ الله أثناء القتال، والصبر، وعدم المنازعة (واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون * وأطيعوا الله ورسوله ولا

 

______________________________________________________

الصفحة 105

 

تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا).

 

هنا ينبغي أن نتذكّر أن سورة الأنفال بدأت بالمطالبة بإطاعة الله ورسوله. وها هو المقطع الذي نتحدث عنه يطالب بإطاعة الله ورسوله، كما بدأت بالمطالبة بعدم المنازعة في الغنائم، وها هو المقطع الذي نتحدث عنه يطالب أيضاً بعدم المنازعة لكن بنحوٍ عام وهذا هو الجديد في المقطع، كما يطالب بممارسات جديدة هي ذكر الله في أثناء القتال ثم الصبر عليه.

ولا نجدنا بحاجة إلى التذكير بأهمية مثل هذه الممارسات التي طالب النص بها ما دمنا نعرف بأن (الجهاد في سبيل الله) هو الفكرة التي تحوم عليها سورة الأنفال، وإلى أن عنصر (المنازعة) التي استُهلت به السورة هو المفردات التي ستحوم عليها مقاطع السورة فيما يطالب النصُ المؤمنين بعدم المنازعة ويذكّرهم بنتائجها السلبية، كما يذكرهم بنعم الله عليهم، مقرونةً بالحديث عن الكافرين الذين يجسّدون الطرف السلبي الذي يحذر النصُ المؤمنين من مفردات سلوكه.

لذلك، ما أن ينتهي النص من حديثه عن المطالبة بإطاعة الله ورسوله، والثبات في المعركة، وبذكر الله، وعدم المنازعة، حتى يتجه النص إلى الحديث عن الكافرين من خلال عنصر (المقارنة) فيقول: (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله).

إن التشديد على مفردات ثلاث من السلوك هي: الخروج بطراً، والرياء الاجتماعي، والصدّ عن سبيل الله، هذه المفردات التي تشكل سلوك الكافرين الذين صاغهم النص في سياق المقارنة، إنما تعني إمكانية أن يصدر بعضُ الإسلاميين عن أمثلة هذا السلوك. فالمنحرفون (وهم قريش حسب النصوص المفسرة) خرجوا من ديارهم (مكة) إلى (بدر) ليقيموا ثلاثاً فيها، حيث خرجوا معهم بالمعازف والقيان والخمور ليتباهوا أمام الآخرين وليعرضوا قواهم أمام

 

______________________________________________________

الصفحة 106

 

الإسلاميين. هذا الخروج بصفته مقروناً بالخمور والمعازف، يمثّل (بطراً) وليس عملاً جديّاً، كما أنه بصفته عرضاً اجتماعياً يمثل (رياءً)، وبصفته نشاطاً ضدّ القوى الإسلامية يمثّل (صدّاً عن سبيل الله).

إذن، عندما يعرض لنا النصُ مفرداتٍ من سلوك المنحرفين إنما يستهدف (من الزاوية الفنية) كما نحتمل ـ من خلال المقارنة بينها وبين المؤمنين الذين يحذّرهم النص من ذلك ـ إمكان أن يصدر بعض الإسلاميين عن أمثلة هذا السلوك، فالبَطَر (وهو الخروج بالمعازف والقيان) تعبير عن مظهر عدم الجديّة في السلوك وهو أمرٌ من الممكن تقع الشخصية فيه إذا لم يُتح لها وعيٌ حاد بمبادئ الله، يستوي في ذلك أن يكون السلوك المذكور مفردات محددّة كما ذكرها النص التفسيري عن قريش أو مطلق السلوك غير الهادف، كما أن (الرياء الاجتماعي) يظل في مقدمة ظواهر السلوك التي قد يصدر عنها بعض الإسلاميين الذين لا يمتلكون الوعي الجاد بمبادئ الله، كذلك الصدّ عن سبيل الله من الممكن أن يتخذ واجهاتٍ متنوعة عند الضعاف نفسياً... ففي الحالات جميعاً من الممكن أن يفضي السلوك المنهي عنه في هذا المقطع من السورة إلى الوقوع في سلوكٍ مماثل لسلوك الكافرين، حيث أوضح النص بنحو لا لبْسَ فيه: أن عدم الثبات في المعركة، وعدم إطاعة الله ورسوله، والمنازعة، وعدم الصبر سوف تفضي إلى الوقوع في ممارسات تُشير إلى ممارسات الكافرين (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله...) فهذا التشبيه أو التمثيل ليس مجرد عنصر فني صُوري بقدر ما يمثّل (واقعاً) بشرياً حذّر النصُ الإسلاميين منه، طالما نعرف أن النص القرآني الكريم حينما يعتمد (صورة فنية) فإنه يختلف تماماً عن الاستخدام البشري لها، فالاستخدام البشري لعنصر (الصورة الفنية) يظل خاضعاً لعمليات التخيّل والذاتية والمبالغة والتجريد، بينا يظل الاستخدام القرآني للصورة محكوماً بسمة (الواقع)، أي: حتميّة أن يفضي السلوك المنهيّ عنه عند

 

______________________________________________________

الصفحة 107

 

الإسلاميين إلى سلوك مماثل لسلوك الكافرين الذين تحدث النص عنهم عبر الاستشهاد بثلاث مفردات من سلوكهم بالنحو الذي تقدم الحديث عنه مفصلاً.

 

* * *

 

قال تعالى: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال: 48].

هذا المقطع أو الآية من سورة الأنفال يرتبط بالحديث عن الكافرين الذين حذّر الله المؤمنين من الوقوع في سلوكهم حينما خاطبهم قائلاً في مقطع سابق (ولا تكونُوا كالذين خَرَجُوا من ديارِهم بَطَراً ورِئاءَ الناس ويَصُدُّونَ عن سَبيلِ الله) [الأنفال: 47].

إن هؤلاء الكافرين الذينَ يخرجون بطراً ورياءً وصدّاً عن سبيل الله يقدّمهم النص الآن عبر سلوك عمليّ هو تزيين الشيطان لأعمالهم، متمثلاً في قوله لهم: (لا غالبَ لكم اليوم من النّاس وإنّي جارٌ لكم) [الأنفال: 48].

إننا ما دمنا نتحدث عن العبارة الفنية في القرآن الكريم من خلال الهيكل الهندسي للنص، يعنينا أن نتعرف سمات الفنّ في هذه الآية أو المقطع. فالملاحظ (من زاوية عمارة النص) ان هذه الآية تجسيدٌ لسلوك سبق أن أومأ إليه النص. فبالرغم من أن النصوص المفسرة ذكرت بأن هذا السلوك يرتبط بنشاط المشركين الذين خرجوا إلى (بدر) في قافلتهم، إلا أنّ أهمية الفن العظيم هي تجاوز الخاص إلى العام أي ترشّح النص بإيحاءات عامة يستخلصها المتلقّي حتى لو كان بمنأى عن نصوص التفسير، لذلك نجد أن النص لكي يدلّل فنيّاً على كون هؤلاء المشركين يخرجون بطراً ورئاءً وصدّاً عن سبيل الله، يقدم لنا نموذجاً من سلوكهم هو: تزيينُ الشيطان لأعمالِهم، حيث ينطبق هذا التزيين على سُلوكهم الذي ذكَرَهُ المفسّرون، كما ينطبق على السلوك الذي

 

______________________________________________________

الصفحة 108

 

سرده النص حينما ذكر جانباً من التزيين متمثلاً في قول الشيطان لهم ـ عبر معركة (بدر) نفسها ـ (لا غالبَ لكُم اليومَ) و(إنّي جازٌ لكم) حيث تعبّر هاتان الجملتان الحواريتان عن عملية الصدّ عن سبيل الله بما يستتبع هذا التزيين من سلوك عملي هو إقدام المشركين على قتال الإسلاميين. وبالفعل تقدم المشركون إلى المعركة، والتحم الطرفان. لكن بما أن النصر كان لصالح الإسلاميين حينئذٍ جاء رد الفعل للتزيين الشيطاني المذكور على هذا النحو (فلما تراءت الفئتان نكَصَ ـ أي الشيطان ـ على عَقِبيَه) قائلاً له: (إنّي بَريء منكم إنّي أرى ما لا ترون اني أخاف الله).

هذه العباراتُ الثلاث الصادرة عن الشيطان تمثّل نكُوصاً وارتداداً واضحاً عن تزيينه، فبَعْد أن أكد لهم بأنه (لا غالب لَكُم اليوم) وبعد أن قال لهم (إنّي جارٌ لكم)، إذا به يرتّد عن قوله السابق فيقول لهم (إني بريء منكم) (إني أرى ما لا تَرَون) (إني أخافُ الله).

والآن إذا دققنا النظر في هذا الموقف الارتدادي من الشيطان نجدُ أنّنا أمامَ نمطٍ له خطورتُه وإمتاعُه في حَقلِ التَعْبير عن الموقفِ المذكور، فأوّلاً نستخلصُ بأنّ عملية (التزييف) تشكّلُ مجرّد سلوكٍ لفظي لا واقع له في ميدان العمل بدليل أن الشيطان قد نكص على عقبيه وتخلّى عن نصرته المزعومة للمشركين. أكثر من ذلك، إنه لم يتخلّ عن نصرتهم فحسب بل تبرّأ منهم، ولم يقف الأمر عند مجرد البراءة منهم بل قدَّم لهم ما يزيدُ الموقف اشتعالاً في أعماقهم عندما قال لهم بأنّه يرى ما لا يَرون وإلى أنه يخافُ الله. وهنا ندرك قيمةَ هذا النمط من العبارةِ القرآنية الكريمة في رسمها لسلوكِ المشركين وتعميق القناعةِ بتفاهة سلوكهم وقيامه على (الوهم) وليس (الواقع). فليس أشدّ إيلاماً في النفس من أن يزيّن الشيطان أعمال الناس ثم يصدُر عنه سلوكٌ مخالفٌ كلَّ المخالفةِ لعملية التزيين. أنه يزيّن لهم عدم الخوف من الله عندما يدفعهم إلى

 

______________________________________________________

الصفحة 109

 

المعركة ويقول لهم لا تخافوا من الإسلاميينَ وأنه ناصرٌ لهم، بينا يرتدّ عن هذا الموقف مع أول المعركة فيقول لهم بأنه يخاف الله، وأنه يرى ما لا يرون.

 

إذن، جاء هذا النمط من الرسم القرآني الكريم لسلوك المشركين منطوياً على دلالات فنية بالغة القيمة من حيث الإثارة والإمتاع.

وهذا كلُّه من حيثُ الدلالةُ الفكريةُ أو النفسية للموقف. أما من حيث اللغة التي تمّت من خلالِها هذه العملية، فتتمثلُ في عنصرِ (الحوار) الفنيّ الذي رسمَه النصُّ القرآني الكريم، فالملاحظ أنّ النّص قد اعتمد (الحوار) القائم بينَ (الشيطان) و(المشركين) دون أن يعتمد مجردَ السردِ أو الوصفِ لسلوك المشركين. وسوء أكان (الشيطان) (إنسياً) أو (جنّياً) وسواء أكان الشيطان (رمزاً) للأفكار الفاسدة أو تجسيداً فعلاً في هيكل بشري (كما تذكُر نصوصُ التفسير) ففي الحالين نجدُ أن عملية (الحوار) بشكلها المذكور تمثّل أشدّ المواقف إثارةً دون أدنى شك. فإذا افترضنا أن (بشراً) جسّد الموقفَ الشيطاني أي تجسّد الأخيرُ في صورةِ شخص، أو إذا افترضنا أن الأفكار الفاسدةَ أوْحَتْ إلى المشركين بأنّهُ لا غالبَ لهم اليوم من الناس وإلى أنّه منتصرون، حينئذٍ ـ في الحالين ـ عندما يلتحم الطرفان فعلاً في معركة (بدر) أو مطلقِ المعارك ويواجهُ المشركونَ هزيمة منكرة، لا بدّ في الحالة المذكورة من أن يُصدَم المشركونَ حيالَ هذه الهزيمة وأن يُصابُوا بخيبةِ أملٍ مَريرة، عندما يجدونَ أنّ حساباتِهم أو تصوراتهم لا أساسَ لها من الواقع سواءً أكانت هذه التصورات تزييناً ذاتياً أم تزييناً من الشيطانِ المتجسّد في صورةِ شخصٍ (كما تؤكدُ النصوص المعتبرةُ ذلك). والمهم هو أن عنصرُ (الحوار) القائم على القول بأنه (لا غالبَ لكم) و(إنّي جارٌ لكم) ثم الارتداد عن هذا الموقفِ إلى القول (إنّي بريءٌ منكُم) (إني أرى ما لا ترون) (إني أخافُ الله)، هذا النمط من الحوارِ المباشر أو الخطابِ الموجّه إلى المشركين يَنْطوي على فاعليةٍ ملحوظةٍ

 

______________________________________________________

الصفحة 110

 

في تعميق القناعةِ بتفاهة سلوكِ المشركين وقيامِهِ أساساً على تصوراتٍ لا واقع لها بالنَحْو الذي فَصَّلْنا الحديث عنه.

 

* * *

 

قال تعالى: (إِذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غرّ هؤلاء دينُهم ومن يتوكّل على الله فإن الله عزيز حكيم) [الأنفال: 49].

هذه الآية أو المقطع تحتل من هيكل السورة الكريمة موقعاً هندسياً له قيمته الفكرية، فالسورة التي تكفلت بمخاطبة الإسلاميين وتحذير الضعاف نفسياً منهم، اتجهت إلى عنصر المقارنة مع الكافرين بنحو ما لحظناه سابقاً. هنا تتجه السورة إلى عرض فئة أخرى من الكافرين هي: الفئة المنافقة، إلا أنها تَلمّ عابراً بهم لتتحدث عنهم بنحوٍ مستقل في سورة كاملة هي (التوبة).

المهم، أن الإلمام العابر بالمنافقين والاكتفاء بعرض موقفٍ واحد من مواقفهم المنحرفة، ينطوي على قيمة عضوية في بناء النص، كما قلنا، والمهم أيضاً هو معرفة هذا الموقف أو السمة وصلته بالأفكار المطروحة في النص.

لقد عرض النص للمنافقين دون أن يسمهم بسمة نفسية خاصة إلا أنه أردف ذلك بقوله: (والذين في قلوبهم مرض)، أي: أنه عطف على المنافقين فئة أخرى وسَمَها بأنها ذات (مرض) في القلب، ومن البيّن ـ في حقل الصحة النفسية ومقابلها: المرض ـ إن المرض في القلب يعني عدم استواء الشخصية بغض النظر عن موقفها الفكري، مما يعني أن النص يدلنا أن المنحرفين الذين لا يؤمنون بالله إنما هم حفنة من المرضى قبل أن يكونوا أصحّاء نفسياً، كما يدلنا ـ بطريقة فنية ـ أن المنافقين هم في مقدمة هؤلاء المرضى، أنه لم يسمهم بأنهم مرضى مباشرةً بل عندما عطف عليهم فئة المرضى، حينئذٍ يستنتج المتلقي بأنهم مرضى أيضاً، لنستمع من جديد: (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض) أي: هناك سمة مشتركة بين الفئتين:

 

______________________________________________________

الصفحة 111

 

المنافقة وسائر الذين في قلوبهم مرض، السمة هي مرض النفس أو القلب كما وسمهم النص.

والآن، خارجاً عن هذا المنحى الفنيّ في صياغة المواقف أو تشخيص المنحرفين عبادياً، نتجه إلى الدلالة الفكرية التي عرضها النص عن المنافقين وسائر المرضى، فماذا نجد؟ قال المرضى عن الإسلاميين (غرّ هؤلاء دينهم)، هذه العبارة هي: الموقف الذي صدر عن المنافقين وسائر المرضى، والمهم هو تحليل العبارة المذكورة وصلتها بالمَرَض من جانب وبالسياق الفكري الذي وردت فيه، من جانب آخر.

لنتذكر أن النص كان في صدد تزيين الشيطان لأعمال المنحرفين، ومن قبلُ كان في صدد المقارنة بين الإسلاميين الذين حذّرهم النص من السلوك السلبي وبين المنحرفين الذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس وصدّاً عن سبيل الله. وها هو النص يقدم لنا نموذجاً من المواقف المتماثلة في انتسابها إلى مظهر اجتماعي هو: النظر إلى المجتمعات من خلال (الكم)، فالمنحرفون ـ كما لحظنا ذلك في مقاطع سابقة ـ قد احتشدوا في (بدر) بصفته واحداً من مواسم العرب لعرض قواهم، كما أن الشيطان الذي زيّن لهم أعمالهم، قال لهم: (لا غالب لكم اليوم من الناس)، مما يعني أن معيار (الكم) يحتل من نفوس المنحرفين موقعاً ذا قيمة، ولكن من البيّن أن تقويم الحقائق من خلال (الكم) وليس من خلال (الكيف) يظل إفصاحاً عن السذاجة من جانب والاضطراب النفسي من جانب آخر، لذلك حينما اتّهم المنافقون الإسلاميين بأنهم مغرورون في دينهم، إنما عبّروا في الواقع عن سذاجتهم واضطرابهم في هذه التهمة. لقد خُيّل إليهم أن الإسلاميين غرّهم دينُهم وهم قلة قبالة المشركين الذين يمثلون عدداً كبيراً في معاركهم المسلحة، دون أن يدركوا أو دون أن يسمحوا لأنفسهم بأن يقرّوا بأنّ ثقة الإسلاميين بالنصر العسكري في

 

______________________________________________________

الصفحة 112

 

معركة بدر أو غيرها إنما تنبع من ثقتهم بالله تعالى وليس من كثرة أو قلة عددهم. لذلك جاء تعقيب النص على قولهم المذكور بما يلي: (ومن يتوكّل على الله فإن الله عزيز حكيم)، مبيّناً بأن المعيار هو التوّكل على الله وليس كثرة أو قلة العدد.

إن طابع الاضطراب أو المرض ـ كما وصمهم النص بذلك ـ يتمثل في نمط التهمة التي ألصقها المنافقون بالإسلاميين ونعني بها (الغرور) وهي تهمة تمثّل ـ في الواقع ـ عملية (إسقاطية)، أي: أن المنافقين والذين في قلوبهم مرض، يحيون عادةً أو يصدرون في جانب من سلوكهم عن (الإغترار) بالذات الاجتماعية، بدليل المواقف السابقة التي شرحها النص، مثل الخروج إلى المواسم، والخروج إلى المعركة القائلة: لا غالب لكم ...الخ، لذلك (يسقطون) نفس هذه (الذات الاجتماعية) التي تطبعهم، (يسقطونها) على الإسلاميين معبّرين بذلك عن سمة يحيونها هم وليس سواهم، بصفة أن (الغرور) هو مظهرٌ ملتوٍ معبّرٌ عن تشابك العَقَدِ داخل النفس.

وأيّاً كان، فإن النص القرآني الكريم بعد أن يعرض لهذه الفئة (المنافقة وسائر المرضى) يعود إلى الحديث عن مطلق الكافرين الذين رسمهم في سياق المقارنة مع بعض الضعاف نفسياً ممّن اتّجهت السورةُ الكريمة إلى تحذيرهم وتذكيرهم، بغية عدم الوقوع في نفس المصائر التي ينتهي الكافرون إليها دنيوياً وأخروياً. أما أخروياً فقد عقّب النص على مصائرهم قائلاً: (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكةُ يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق) [الأنفال: 50]. وأما دنيوياً، فيذكّرهم النص بمصائر آل فرعون (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب * ذلك بأن الله لم يك مغيّراً نعمةً أنعمها على قومٍ حتى يُغيّرون ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم * كدأب آل فرعون والذين من قبلهم

 

______________________________________________________

الصفحة 113

 

كذّبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون، وكلٌ كانوا ظالمين) [الأنفال: 52 ـ 54].

 

* * *

 

قال تعالى: (إن شرّ الدّواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون * الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرّة وهم لا يتقون * فَإِمَّا تَثْقَفنَّهُم في الحرب فشرّد بهم مَن خَلْفَهُم لعلهم يذَّكرون) [الأنفال: 55 ـ 57].

هذا المقطع من السورة يشكّل موضوعاً جديداً يطرحه النص في سياق الهيكل الفكري لها، فالهيكل الفكري للسورة هو: (الجهاد في سبيل الله) كما هو معلوم، كما أنّ رسم بعض أنماط السلوك السلبي الذي واكب المجاهدين قد شكّل جانباً كبيراً من الهيكل المذكور، مضافاً إلى أن إدخال عنصر (الكفار) من خلال التحذير والتذكير شكّل جانباً آخر من عمارة هذا الهيكل الفكري. أما الآن فيتحدث النص عن الكفار أنفسهم وطريقة التعامل العسكري مع بعض فئاتهم، فبعد أن لمّح النص بمطلق الكافرين، ثم بفئة المنافقين، اتجه الآن إلى فئة ثالثة يبدو أنهم (اليهود) كما تذكر نصوص التفسير، وحتى خارجاً عن هذه النصوص فإن ما يعنينا هو: رسم نمط التعامل العسكري مع فئة تطبعها سمة (النقض) للعهود والمواثيق العسكرية. لقد رسمهم النص (أي: اليهود) بأنهم شرّ الدواب على وجه الأرض، وكون اليهود شر الدواب أمرٌ لا يحتاج إلى تعقيب طالما خبرتهم المجتمعاتُ قديماً وحديثاً بما طبع ممارساتهم من غدر وحقد وجبن وسائر السمات التي تطبع أشد الناس اضطراباً وتمزّقاً.

المهمّ لقد رسمهم النص هنا من خلال سمة واضحة من سلوكهم هو (الغدر) قائلاً عنهم: (الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون)، هذه الفئة الناقضة للعهد، طالب النصُ النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ والإسلاميين بأن يُنكَّل بهم حتى يعتبر من بعدهم (فشرّد بهم مَن خلفهم لعلهم يذكّرون) بصفة

 

______________________________________________________

الصفحة 114

 

أن هذا النمط من التعامل العسكري مع اليهود ـ وهم يتميّزون بطابع الخوف من جانب وكون تشريدهم يشكل ضرورة ملحّة بغية عدم إفسادهم في الأرض من جانب آخر ـ يتناسب مع تركيبتهم التي أشرنا إليها.

بعد ذلك يتجه النص إلى مبدأ عسكري آخر (في ميدان الجهاد حيال ناقضي العهود) موضحاً ذلك بقوله: (وامّا تخافنّ من قوم خيانةً فانبذ إليهم على سواء، انّ الله لا يحب الخائنين) [الأنفال: 58]، فطالما تظل سمة (نقض العهد) طابعاً للسلوك المنحرف، حينئذٍ فإن اتخاذ الموقف المحتاط يفرض ضرورته علي الإسلاميين، لذلك طالبهم النص بأن يلقي الإسلاميون ما بينهم وبين ناقضي العهود من مواثيق، قبل أن يباغتوهم بالنقض، إلا أنّ هذا المبدأ حَرَصَ المشرّعُ الإسلاميُّ على صياغته وفق دلالة إنسانية هي قوله تعالى: (فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين) أي: يجب إعلام العدوّ بهذا الأمر حتى يكون هذا الطرف وذاك على علم بعدم الالتزام، بغية عدم بدأهم بالقتال قبل إعلامهم بالموقف... ولا أدلّ على البعد الإنساني لهذا النمط من التعامل العسكري من قوله تعالى: (إن الله لا يحب الخائنين) أي: أن المبدأ الإسلامي لا يسمح لنفسه بأن يخون الإسلاميون أعداءهم من خلال مقاتلتهم قبل إعلامهم بذلك.

 

* * *

 

والآن، بعد أن عرض النص لمختلف فئات الكافرين ونمط التعامل العسكري مع هذه الفئة أو تلك، تقدّم إلى مبدأ عسكري آخر هو: الإعداد العسكري (وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل تُرهبون به عدوّ الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم...) [الأنفال: 60].

هذه المطالبة بإعداد القوى العسكرية أمرٌ لا يحتاج إلى التعقيب طالما نُدرك بوضوح أن المهمة العبادية تتطلب عملاً يتناسب مع الموقف الذي

 

______________________________________________________

الصفحة 115

 

يواجهه الإسلاميون، فما دام (الجهاد) يتطلب قوىً تقف حيال العدو المرتكن نفسه إلى قوىً يعتمدها، كذلك، فإن الإسلاميين يتعيّن عليهم إعداد أنفسهم عسكرياً بنحو يتناسب مع متطلبات المعركة.

بعد ذلك، يتجه النص إلى مبدأ آخر هو: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم * وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين)[الأنفال: 61 ـ 62] وهذا المبدأ يتمثّل في سياقات خاصة، يطلب العدوّ فيها الكفّ عن المقاتلة، لكن ينبغي ملاحظة ذلك بالقياس إلى نمط العدوّ حيث ذكر المفسرون أن المبدأ العسكري القائل: (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) مقابل المبدأ القائل: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، يجسّد الفارق بين عدو مشرك وعدوّ كتابيّ، بمعنى أن طبيعة الموقف السياسي هو الذي يحدد هذا المبدأ أو ذاك.

 

* * *

 

قال تعالى: (وألّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألّفت بين قلوبهم ولكن الله ألّف بينهم انه عزيز حكيم) [الأنفال: 63].

هذه الآية تشكل مقطعاً فكرياً يصل بين مقطع سابق ومقطع لاحق في السورة، المقطع السابق يتحدث عن العدو وخديعته للإسلاميين (وان يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله) [الأنفال: 62]. لذلك جاء المقطع الجديد ليدلّل ـ بطريقة فنية ـ بأن خديعة العدو لا قيمة لها، فالمهم الالتزام بمبادئ الله في عملية الجهاد المسلّح، وإذا كان للمعيار أو العنصر البشري قيمة ما ـ وهو كذلك ـ فإن هذا العنصر لم يتحرك من خلال إمكاناته بل من خلال الله تعالى، وتبعاً لذلك فإن عملية التأليف بين القلوب وتوحيد الكلمة فيما تشكل ـ في المعيار العسكري ـ قوة لها خطورتها، فإن هذا التأليف بين القلوب، قد تمّ من قبل الله تعالى، بحيث لو أُنفِق ما في الأرض جميعاً ما أُلّف بين قلوبهم إلا إذا

 

______________________________________________________

الصفحة 116

 

أراد الله ذلك، وهو ما تمّ بالفعل.

من هنا اتجه النص إلى تقرير حقيقة عسكرية هي: (يا أيها النبيّ حسبك الله ومَن اتّبعك من المؤمنين) [الأنفال: 64] هذه الحقيقة ترتّبت ـ كما هو واضح ـ على المقطع السابق الذي مهّد بالقول بأن الله هو الجامع لكلمة الإسلاميين، وإذا كان الأمر كذلك، فيكفي إن الله تعالى وتلك الجماعة التي تمّ التأليف بين قلوبها، يكفي أن يشكل ذلك قوة حيال العدو.

بعد ذلك يتقدم النص إلى المطالبة بالجهاد المسلّح، فيما تظل فكرةُ (الجهاد) كما كرّرنا هي الهيكل العام الذي تصبّ فيه موضوعات السورة.

يقول النص مخاطباً النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ: (يا أيها النبيّ حرّض المؤمنين على القتال، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون) [الأنفال: 65].

المطالبة بالقتال تجيء ـ من الزاوية الفنية ـ نتيجة للتمهيد السابق الذي قرّر بأن النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ: حسبه الله ومَن اتبعه من المؤمنين. بيد أن الملاحظ أن النص تقدم بعرض ظاهرة (الكم) مقرّراً بأنه إذا كان الإسلاميون عشرين مقاتلاً فسوف يغلبون مائتين من جند العدو، إذا كانوا مائة فسوف يغلبون ألفاً منهم.

طبيعياً، إن عرض الظاهرة العددية بهذا النحو يظل من الوضوح بمكان كبير من حيث البناء الهندسي للنص، فقد سبق أن ذكر النص بأنه يكفي لتحقيق النصر مَن اتبع النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ من المؤمنين، وجاء التمثيل بالعشرين مقابل المائتين، والمائة مقابل الألف، تجسيداً إيضاحياً للفكرة السابقة، وهي نسبة تحدد الواحد قبالة العشرة، بيد أن السؤال هو: لماذا تكرّر في النص: التمثيل بالعشرين والمائة قبالة المائتين والألف، مع أن الإقتصار على واحدٍ من التمثيليين كافٍ في تقرير الحقيقة؟ كان من الممكن أن يكتفي النص بقوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) دون أن يتبع ذلك بقوله أيضاً:

 

______________________________________________________

الصفحة 117

 

(وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً)، ترى ما هو السرّ الفنيّ وراء هذا التكرار بمثالين؟.

قد يقول قائل: بأن عملية التكرار تنطوي على فائدة نفسية لتعميق الحقائق وبلورة عنصر (الإقناع) عند المتلقّي أو المقاتل، وهذا صائب دون أدنى شك، إلا أنّ استكناه سرٍّ آخر وراء ذلك لابدّ أن يكون مشروعاً لدى المتذوق الفني إذا أدرك بوضوح بأن النص القرآني الكريم لا ينطوي على عنصر (التكرار) إلاّ إذا واكب ذلك سرٌّ فنّي آخر مضافاً إلى ما ذُكِر، ترى، ما هو هذا السرّ؟.

يمكن القول بأن التمثيل الأول وهو: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) مجرّد تجسيدٍ لأقلّ عدد من المقاتلين، وإلى أن التمثيل الآخر جاء إفصاحاً عن حقيقة أخرى هي أنه لو كثر العدد أيضاً، فإن النتيجة واحدة هي أن المقاتل الإسلامي الواحد يظل مقابلاً لعشرة مقاتلين من الأعداء.

خارجاً عن ذلك، يتقدم النص بتقرير حقيقة أخرى حينما يواجهنا بالآية الآتية: (الآن خفّف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين) [الأنفال: 66].

من هذه الآية نستكشف ـ مستعينين في ذلك بنصوص التفسير ـ ان ظاهرة العدد ليست مجرد التمثيل فحسب، بل تتضمن مضافاً لما تقدم، حكماً ـ في ميدان الفقه العسكري ـ هو: وقوف الواحد قبالة الاثنين وعدم جواز التخاذل عن ذلك. والمهم أن هذه الآيات أو المقاطع جاءت في سياق الفكرة العامة للسورة وهي ـ الجهاد في سبيل الله ـ لتقرر جملة من المبادئ المتصلة بهذا الجانب، إلا أن هذا كله يتم من خلال رسم هو: تنبيه الإسلاميين على بعض معالم السلوك الذي يواكبه الضعف النفسي في هذا الموقف أو ذاك، حيث لحظنا أن السورة الكريمة قد استهلت موضوعاتها بالحديث عن الغنائم المتنازع

 

______________________________________________________

الصفحة 118

 

عليها في معركة (بدر) كما أنها ألمحت إلى موقف آخر من السلوك المماثل، محذرةً الإسلاميين من نتائج ذلك مذكّرة إيّاهم بمساندة السماء معهم في معاركهم مع العدو، وهو أمرٌ يمكننا ملاحظته في الآيات أو المقاطع الختامية لسورة الأنفال، حيث تُختتم السورة الكريمة بطرح ظواهر مطبوعة بنفس السمات التي وقفنا عليها.

 

* * *

 

قال تعالى: (ما كان لنبيٍّ أنْ يكونَ له أسرى حتى يُثخِنَ في الأرضِ تُريدون عرضَ الدُّنيا والله يُريدُ الآخرةَ والله عزيزٌ حكيم * لولا كتابٌ منَ الله سبقَ لمَسَّكُمْ فيما أخذتُمْ عذابٌ عظيم * فكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حلالاً طيّباً واتّقوا الله إنَّ الله غفورٌ رحيمٌ * يا أيها النبيُّ قُلْ لِمَنْ في أيديكُمْ مِنَ الأسرى إنْ يَعلَمِ الله في قلوبِكُمْ خيراً يُؤتِكُمْ خيراً مِمّا أُخِذَ مِنكُمْ ويَغْفِرْ لكُمْ والله غفورٌ رحيم) [الأنفال: 67 ـ 70].

هذه الآيات تشكّل المقطع ما قبل الأخير من سورة الأنفال، وإذا كانت هذه السورة قد بدأت بالحديث عن غنائم الحرب، فإن الحديث عن الغنائم يظل خاتمة السورة أيضاً، إحكاماً لعمارة السورة التي تلاحمت موضوعاتها عضوياً بنحو ما تقدم تفصيل الحديث عنه. وقد لحظنا أن هذه السورة تشدّد على نمطٍ من السلوك العسكري الذي مارسه الإسلاميون في عملية (الجهاد في سبيل الله) حيث شدّدت على جوانب من السلوك السلبي الذي رافق ممارساتهم محذّرة الإسلاميين منه، بغية تعديل سلوكهم وجعله متساوياً مع مبادئ السماء. ولعل البحث عن الغنائم في غمرة الانتصار وجعْلها موضع الاهتمام يظل في مقدمة ما لحظناه في موضوعات هذه السورة التي حذّرت من ذلك.

من هنا جاء الحديث عن الغنائم في خاتمة السورة امتداداً لبدايتها ولكن من خلال طرح جديد لها هو: قضية (الأسرى). لقد حذّر النص من الرغبة في

 

______________________________________________________

الصفحة 119

 

أسر العدّو وأخذ الفدية قبل أن يبالغ الإسلاميون في مقاتلة العدو مستهدفين بذلك عَرَض الدنيا والله يريد منهم أن يستهدفوا الآخرة.

مقابل ذلك، اتجه النص إلى مخاطبة الأسرى من خلال (الفدية) التي أخذت منهم، مبيّناً لهم أنهم في حالة كونهم قد ندموا على سلوكهم المنحرف وتابوا إلى الله واخلصوا في إسلامهم، عندها، فإن الله تعالى سوف يعوضهم عن الفدية ويعطيهم خيراً مما أُخذ منهم.

المُلاحظ هنا، أن كلاً من الإسلاميين والأسرى قد توجه الخطابُ إليهم بلغة التحذير، فالإباحة، نظراً لتوفّر الإخلاص ـ من جانبٍ ـ لدى الطرفين، ولإمكانية صدورهم عن لحظات الضعف من جانبٍ آخر. أما الإخلاص فيتمثل عند الإسلاميين في كونهم قد مارسوا عملية (الجهاد) مع صدور بعضهم عن رغبة تتخلل سلوكهم نحو الغنيمة الدنيوية حيث أباح النص ذلك فيما بعد حينما قال لهم: (فكُلُوا مما غَنِمتُم حلالاً طيباً واتّقُوا الله إنّ الله غفورٌ رحيم) [الأنفال: 69] بمعنى أن النص حرص على أن يصدروا في سلوكهم عن أرفع درجات الإيمان بألاّ يتخلل ذلك أيّ عَرَض من متاع الحياة، وأما (الأسرى) فقد (ثمّن) النصُ (الفدية) التي يقدّمونها عن إخلاصٍ في الموقف وندم ما سلف منهم، واتجاهٍ إلى الإيمان برسالة الإسلام، حيث وَعَد بإعطائهم خيراً منها.

وحيث حذّر ـ في الوقت نفسه ـ بأن (الفدية) إذا كانت لهدف آخر غير الإيمان بالله كأن يعودوا إلى نفس السلوك السابق، عندها سوف يمكّن الله الإسلاميين منهم في معركة أخرى (وإن يُريدُوا خيانَتَكَ فقد خانُوا الله من قبْلُ فأمكَنَ منهم).

إذن، ثمة (تحذير) من جانب، يقابله تثمينٌ للسلوك الإيجابي بعامة، سواء أكان ذلك متصلاً بالإسلاميين أساساً أو بالأسرى الذين رغبوا في

 

______________________________________________________

الصفحة 120

 

الإسلام، وهو هدفٌ فكري عام طَبَع غالبية موضوعات السورة كما لحظنا.

 

* * *

 

والآن بعد أن ينتهي النص الكريم من صياغة الموضوعات المتصلة بالجهاد في سبيل الله بما واكبها من مواقف حذّر النصُ الإسلاميين منها، يتجه إلى ختام ذلك بعرض الآيات الآتية: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الأنفال: 72 ـ 75].

بالرغم من أن هذه الآيات تتحدث عن زمان ومكان خاصّين، تتصل بالمهاجرين، والأنصار، والأعراب، والكفار، عصرئذٍ، إلا أنها تشدّد على جملة من المفهومات العامة التي استبطنتها السورةُ الكريمة في طيّاتها مثل: ولاية الإسلاميين بعضهم لبعض والكفار بعضهم لبعض، والنصرة من أجل الدين حتى لو لم يتكافأ الطرف غير المهاجر إلاّ في حالة وجود مواثيق عسكرية تمنع من النصرة المذكورة...الخ.

ويُلاحَظ أن عنصر (الإرث)، تخلل هذا المقطع الذي خُتمت به السورةُ الكريمة، وسواء أكان هذا العنصر يتصل بالبعد الاقتصادي للموضوعات، أي ظاهرة (التوارث المالي) أم كان متصلاً بدلالات أخرى ذكرها بعضُ المفسرين، إلا أنّ عمارة النص (ونحن نتحدث عن الهيكل الهندسي للسورة)

 

______________________________________________________

الصفحة 121

 

تتساوق مع الاتجاه الأول ما دام البُعد الاقتصادي المذكور جاء في سياق (الجهاد في سبيل الله) وهو الفكرة العامة التي تطبع السورة الكريمة كما كررنا فيما تخلّلها ـ بطريقة فنية ـ موضوعات تتصل بالغنائم (وهو بُعد اقتصادي كما هو واضح) من خلال ممارسة (الجهاد) وكذلك (التوارث) من حيث الهجرة وعدمها نحو ساحة الجهاد، حيث يطرح المقطع واحداً من جوانب (ظاهرة الميراث) وهو أمرٌ لا يدخل في نطاق الدراسة الفنية لهيكل السورة بقدر ما يتصل بظاهرة (الأحكام فقهياً)، إلا أننا استهدفنا الإشارة إلى مجرد التناسق الفكري بين موضوعات السورة والطريقة الفنية التي سلكها النص في صياغة ذلك، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

 

______________________________________________________

الصفحة 123

 

 

 

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=532
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28