• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : التفسير البنائي للقرآن الكريم ـ الجزء الثاني ، تأليف : الدكتور محمود البستاني .
                    • الموضوع : سورة الأعراف .

سورة الأعراف

التفسير البنائي للقرآن الكريم

الدكتور محمود البستاني

الجزء الثانی

 

 

فهرس المطالب

v   سورة الأعراف

v   سورة الأنفال

v   سورة التوبة

v   سورة يونس

v   سورة هود

v   سورة يوسف

v   سورة الرعد

v   سورة إبراهيم

v   سورة الحجر

v   سورة النحل

 

 

______________________________________________________

الصفحة 1

 

التفسيرُ البنائي للقرآن الكريم

الجزء الثاني

تأليف: الدكتور محمود البستاني

 

______________________________________________________

الصفحة 5

 

سورة الأعراف

 

______________________________________________________

الصفحة 7

 

بدأت سورة الأعراف على هذا النحو: بسم الله الرحمن الرحيم (المص * كتاب أُنزل إليك فلا يكن في صدرك حرجٌ منه لِتُنذر بهِ وذكرى للمؤمنين * اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إليكم من ربّكُم ولا تتبعوا مِنْ دونه أولياءَ قليلاً ما تَذَكَّرُونَ) [الأعراف: 1 ـ 3].

الأفكار المطروحة في هذه المقدمة تتمثّل في عمليتين: إحداهما تتصل بشخصية المبلّغ وهي: الالتزام بعملية التبليغ دون أي إحراج، لتقوم الحجةُ به على الآخرين، في حالة عدم التزامهم بذلك، وليكون نموذجاً للمؤمن يفيد منه في سلوكه العبادي.

أما العملية الأخرى فتتصل بالأشخاص المُبلغين، حيث طالبهم النصُ بأن يلتزموا بمبادئ الله وحذّرهم من أن يتخذوا دونه وليّاً، ثم عقّب على هذا التحذير بقوله (قليلاً ما تَذَكَّرُون) أي: أن القلة من الناس هم الذي يسترشدون بذلك أو أن الإفادة من ذلك: لقليلة.

إذن، من خلال هذه الأفكار المطروحة يمكننا أن نتابع السورة الكريمة لنجد كيفيّة تنامي هذه الأفكار فنيّاً من حيث انعكاساتها على موضوعات السورة.

فلنتابع: (وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسُنا بيَاتاً أو هم قائلون * فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنّا كنا ظالمين) [الأعراف: 4 ـ 5].

وهذا هو أوّل حادث يعرضه النص بالنسبة إلى الجزاء الدنيوي المترتّب على عدم الالتزام بمبادئ الله، وهو الإبادة الشاملة للمنحرفين، ثم ردّ فعلهم حيال ذلك حيث يقرّون (إنا كنا ظالمين)، حيث نستخلص من هذا العرض

 

______________________________________________________

الصفحة 8

 

المُجمل للجزاء الدنيوي أن الانحراف سوف يقرّ به أصحابه، لكن بعد فوات الأوان، وهو أمرٌ يعمّق من قناعة المتلقّي بأحقيّة رسالة السماء وبطلان ما سواها مما يدفعه إلى ممارسة الوظيفة التي أُوكلت إليه.

بيد أن النص لا يكتفي بعرض الجزاء الدنيوي (وهو جزاء حسّي وقعَ فعلاً) بل يردفه بعرض الجزاء الأخروي أيضاً لتتعمّق القناعةُ بحادثٍ لم يقع بعد أن مُهّدَ له بالحادث الحسّي المذكور، فقال: (فلنسألنّ الذين أرسِل إليهم ولنسألن المرسلين * فلنقصّنّ عليهم بعلمٍ وما كنا غائبين * والوزنُ يومئذٍ الحقُ فمن ثَقُلت موازينُهُ فأولئك هم المفلحون * ومن خفّت موازينُهُ فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون) [الأعراف: 6 ـ 9]. فهنا عرض للجزاء الأخروي أيضاً بما في ذلك قضيةُ المحاسبَة لكلٍ من المبلِّغ والمبلَّغ. فبما أنّ النّص استهل السورة بضرورةِ التبليغِ وعدم الحَرَجِ منه لسببٍ وآخر، حينئذٍ جاء السؤالُ بالنسبة إلى المبلّغِ (ولنسألن المرسلين) في اليوم الآخر متجانساً فنيّاً مع مطالبتِهِ في الحياة الدنيا بممارسة التبليغ. كما أنّ السؤال بالنسبة إلى المبلّغين (فلنسألن الذين أُرسل إليهم) يظل متجانساً مع مطالبتِهِ ـ في مقدمةِ السورة ـ باتباع ما أُنزل إليهم.

بعد هذا التمهيد الذي طالب المبلّغين بإيصال أصواتهم إلى الآخرين دون حرج وبعد التلويح للآخرين بالجزاءات الدنيوية والأخروية التي تترتّب على الالتزام بالمطالبة المذكورة أو عدمه. بعد ذلك يتقدّمُ النصُ بطرح أفكار متنوعة تتنامى من خلالِها ما سبَقَ أن طَرَحهُ النّصُ في المقدمةِ، وما أجملَهُ من الجزاءات، فيتقدمُ أولاً إلى عَرْضِ البيئة الدنيوية التي أتاحها الله للإنسان بخاصةٍ ما يتصلُ بالمعائش بصفتها الوسائل التي يتوكأُ عليها في ممارسة عمله العبادي.

يقول النص: (ولقد مكّناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلاً ما

 

______________________________________________________

الصفحة 9

 

تشكرون) [الأعراف: 10]. هنا ينبغي أن نتذكّر بأن النص ذَكَرَ في مقدمة السورة التي طالب فيها باتباع ما أُنزل من الله وعدم اتّباع سواه بأن الناس قليلاً ما يتذكرون. وها هو الآن في حديثه، من أنّ الله مكّن الآدميين في الأرض وجعَلَ لهم فيها معائش قد عقّب عليه بنفس الدلالة قائلاً: (قليلاً ما تشكرون). فكما أنّ الآدميين قليلاً ما يتذكّرون بالنسبة إلى الالتزام بمبادئ الله كذلك فإنهم قليلاً ما يشكرون نعمَ الله وهي (المعائش) التي أتاحها الله للناس في الأرض.

هذا يعني أن النص ونحن نتحدث عن بنائِهِ الفنّي المتلاحِم قد قابَلَ بين هاتين المفردتين من السلوك (قلّة التذكّر) و(قلة الشكر) في موضوعين مختلفين، إلا أنّهُما يَصُبّانِ في رافدٍ فكري موحّدٍ، ومن ثمّ فإن هذا سوف ينعكس بدورِهِ على وقائع ومواقف لاحقة من السورة (بالنحو الذي سنتحدث عنه لاحقاً إن شاء الله..).

 

* * *

 

قال تعالى: (ولقد خلقناكم ثم صوّرناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس لم يكن من الساجدين) [الأعراف: 11].

في هذا المقطع عرضٌ قصصي لنشأة الكائن البشري وتحديد وظيفته، وأهمية هذا العرض القصصي تتمثل ـ من زاوية عمارة السورة ـ في كونه يتحدث عن الكائن الآدمي من حيث كونه قد مهِّد له في بداية السورة بضرورة التبليغ لرسالة الله، فقد لحظنا أن بداية السورة خاطبت النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قائلة: (كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتُنذر به وذكرى للمؤمنين) [الأعراف: 2]. وها هي عملية التبليغ وإيصالها إلى الآخرين ثم موقف الآخرين منها حيث خاطبتهم البداية قائلة: (اتّبعوا ما أنزِل إليكم) [الأعراف: 3]. ها هي عملية المبلّغ والمبلَّغ تأخذ الآن صورة تفصيلية من خلال الحديث

 

______________________________________________________

الصفحة 10

 

عن نشأة الكائن الآدمي وتحديد وظيفته.

وأول ما يطالعنا في هذا الصدد هو أن المقطع أكسب العنصر الآدميّ خطورة في غاية الأهمية هي مطالبة الله للملائكة بأن يسجدوا لآدم. فعملية السجود تعبير واضحٌ عن خطورة الكائن الآدمي: مما تعني خطورة الوظيفة العبادية التي أوكلت به.

وبعد أن أوضح النصُ قيمة الكائن الآدمي ـ من حيث صلتها بعملية التبليغ التي عرضتها مقدمة السورة. يتقدم النص بعرض قصصي لإبليس من حيث كونه قد امتنع عن السجود خلافاً للملائكة، موضحاً سبب امتناعه عن ذلك من خلال الحوار الآتي:

(قال ما منعك ألاّ تَسْجُدَ إذْ أمَرْتُكَ قال أنا خيرٌ منه خلقتني من نارٍ وخلقته من طين)[الأعراف: 12].

إن هذا الحوار له صلة فنية ببناء السورة التي طرحت مقدمتُها قضية التبليغ، وطرحت في الوقت نفسه قضيّة أنّ الناس (قليلاً ما يتذكرون) (قليلاً ما يشكرون)، بمعنى أن عنصر (المعصية) يبدأ من شخصية (إبليس) بحيث تقع الغالبيةُ تحت تأثيره إلا القليل. هذه الدلالة سوف تتضح تماماً حينما نواصل متابعة القصة. لكننا الآن حسبنا أن نشير إلى أن امتناع إبليس من السجود ينطوي على دلالة ستنعكس أصداؤها على مجموع السورة، كما أنها ـ في هذا المقطع الجزئي ـ تنطوي على دلالة يوحي بها النص وهي: قضية (التكبّر) من خلال التمسك بالأصل، حيث امتنع إبليس عن السجود لمجرد كونه ينتسب إلى (النار) وإلى إنّ (آدم) ينتسب إلى الطين.

والآن بعد أن نفهم هذه الدلالة، يتقدم النص إلى النتائج المترتبة على عملية الامتناع وانعكاساتها ـ من ثم ـ على مجمل السلوك البشري الذي قالت عنه مقدمة السورة بأنه (قليلاً ما يتذكر) و(قليلاً ما يشكر).

 

______________________________________________________

الصفحة 11

 

إذاً، فلنتابع القصة: (قال فاهبِطْ منها فما يكونُ لكَ أنْ تتكبَّرَ فيها فاخرج إنك من الصاغرين) [الأعراف: 13].

إن إشارة المقطع إلى أن (الشيطان) من (الصاغرين) هو جواب فني مقابل كونه من المتكبرين. لنلاحظ ـ للمرة الجديدة ـ هذا التقابل بين (التكبر) الذي منع الشيطان من السجود وبين (الذل) الذي لحقه، أي: أن النتيجة كانت على الضد تماماً من الباعث على التكبر، فإذا كان الامتناع عن السجود ينطلق من دافع (التكبّر) فإن (الذل) وهو ضد التكبر سوف يلحق الشخصية المتكبّرة.

إذاً، كم كان المقطع مُحكماً فنيّاً حينما رتب أثراً مضاداً للتكبر وهو الذلّ حتى يتحسس الآدميون بأنّ (المعصية) تفضي إلى نتائج مضادة للدافع إلى (المعصية)، وهو أمرٌ له أهميته الكبيرة في ميدان السلوك وتعديلاته.

والآن، لنتابع الحوار.

(قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأعراف: 14 ـ 18].

لنتذكّر ـ ونحن نتحدث عن البناء الفنّي للسورة ـ أن مقدمتها قالت عن الآدميين بأنهم (قليلاً ما يشكرون) وها هو المقطع الذي ينقل لنا محاورة إبليس من خلال قوله: (ولا تجد أكثرهم شاكرين). ها هو المقطع يلتقط من إبليس هذه العبارة لكي تتجانس مع مقدمة السورة، مقدمة السورة تقول: (قليلاً ما تشكرون)، ووسط السورة يقول: (ولا تجد أكثرهم شاكرين). إذاً، هناك تجانس أو تلاحُم عضوي تتواشج من خلاله موضوعات السورة بهذا النحو الذي أوضحناه.

المهم، أن المحاورة المذكورة سوف تنعكس أصداؤها على المواقف

 

______________________________________________________

الصفحة 12

 

والأحداث اللاحقة المتصلة بتجربة الإنسان، وهو ما نبدأ بتوضيحه لاحقاً.

 

* * *

 

قال تعالى: (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ) [الأعراف: 19 ـ 22].

هذا هو القسم الثاني من قصة الميلاد البشري، حيث كان القسم الأول من القصة يتحدث عن امتناع الشيطان من السجود لآدم وانعكاسات ذلك على شخصية الشيطان.

وها هو القسم الجديد من القصة يلقي إنارةً على قسمها الأول حينما يرتّب الآثار على سلوك إبليس. وها هي أولى تحركاته السوداء حيث ألقى الشبهة على آدم وحواء (بعد أن أبلغا بعدم الاقتراب من الشجرة) فاغترّا بيمينه ـ وهما يستبعدان أن يكذب أحد على الله تعالى ـ فذاقا الشجرة.

هذه هي ـ إذاً ـ أول معصية من الشيطان يمارسها حيال العنصر البشري تبعاً لما أخذه على نفسه من الحجج باغواء الآخرين: في القسم الأول من القصة.

لكن، ما هي الانعكاسات المترتبة على خديعة إبليس لآدم وحواء؟.

القسم الثالث من القصة يتكفل بسرد ذلك، فلنقرأ رد الفعل من آدم

 

______________________________________________________

الصفحة 13

 

وحواء (قالا ربنا ظلمنا أنفُسَنَا وإنْ لم تغفِرْ لنا وتَرْحَمْنا لَنكُونَن من الخاسرين) [الأعراف: 23].

ترتب على ذلك، ان الله تعالى: (قال اهبِطُوا بعضُكم لِبَعْضٍ عدوٌ ولكم في الأرضِ مُستَقرّ ومَتاع إلى حين * قال فيها تَحْيَونَ وفيها تَموتُون ومِنْها تخْرجُون) [الأعراف: 24 ـ 25].

إذاً، القسم الثالث من القصة صاغ حقيقة التجربة البشرية وموقعها من التحرّك في الأرض.

الحقيقة هي: أن (العدوان) سوف يطبع السلوك الآدمي (بعضكم لبعض عدو)، وان الأرض أو الحياة الدنيا مرحلة خاصة تمتد إلى حين من الزمان ثم يعقبها الموت، ثم الانبعاث (وفيها تموتون ومنها تخرجون).

هذه الحقائق المتصلة بالتجربة البشرية صاغها النصُ من خلال العنصر القصصي: بدلاً من مجرد الإخبار.

والمهمّ بعد ذلك، أن نتوقع رسماً للمبادئ التي ينبغي أن يتعامل الآدميون من خلالها بعد أن يكون الشيطان قد اختط لسلوكه: إضلال الآدميين.

يقول النص في مقطع جديد من السورة الكريمة: (يا بني آدم قَدْ أنْزَلْنَا عليكم لِباساً يُواري سوآتِكُمْ ورِيشاً ولِباسُ التقوى ذلك خير ذلِكَ مِن آياتِ الله لعلهم يَذكّرُون). لا نغفل، إن مقدمة سورة الأعراف، طرحت المقولة المخاطبة للإنسان (قليلاً ما تَذَكّرُون)، وها هو النص الآن يربط بين هذه المقولة وبين مقولة جديدة هي (لعلّهم يذكّرون)، انه طرح على الآدميين مقوّمات البيئة التي ينبغي أن يكيّفوا أنفسهم حيالها، فهيّأ لهم ما يحتاجون إليه من لباس وأثاث ونحوهما، مضافاً إلى (التقوى) التي هي (خيرٌ) كما عبّر النصُّ عن ذلك.

 

______________________________________________________

الصفحة 14

 

هذا يعني أن النص القرآني الكريم قد أوضح للآدميين ما ينبغي أن يختطوه لأنفسهم حينما أشار إلى البيئة التي يتحرك الإنسان من خلالها والمقوّمات التي أتاحتها السماء في هذا الميدان. إلا أن النص، عقّب على ذلك بأنه (لعلهم يذكّرون). مما يعني: أن هناك تحفّظاً حيال ما سوف يسلكه الإنسان من ممارسات، وإلى أنها ـ أي الممارسات ـ لن تأخذ الوجهة المطلوبة من السلوك، بخاصة أن مقدمة السورة أشارت إلى ذلك بقولها: (قليلاً ما تذكّرون) وأن القصة أشارت بدورها إلى (العدوان)، فضلاً عن تبجّح إبليس القائل من خلال الحوار المنقول عنه: (ولا تجد أكثرهم شاكرين).

كلّ هذه المواقف المتشابكة أو المتجانسة (وهي ذات سمة فنيّة من حيث عمارة السورة) توحي بأن التجربة الآدمية التي ستواجه المحيط الجديد سوف تكتسب عند غالبية الناس سمة السلب، وهو ما حذّر النص منه حينما عقّب على القصة المذكورة بقوله مخاطباً الناس: (يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: 27]. في هذا التعقيب جملة من الدلالات. أولاً: ثمة حقائق طرحها النص مثل: كون الشيطان غير مرئي، بل يتجسّد في أفكار سوداء تغمر الشخص، مضافاً إلى كونه ذا قبيل، أي: قوى أخرى يستعين بها الشيطان في مهمته السوداء. ثانياً: ثمة حقيقة أخرى هي: إن اغواء الشيطان سوف ينحصر في الذين لا يؤمنون، علماً بأن مقدمة السورة حذّرت أيضاً دون أن تحدّد الجهة: (ولا تتبعوا من دونه ـ أي الله ـ أولياء)، بينا أوضحتها الآن حينما حددت ذلك متمثلةً في الشيطان وقبيله.

إذاً، أمكننا الآن أن نتعرف جانباً من البناء الهندسي للسورة، كما أمكننا أن نتعرّف جانباً من الحقائق المتصلة بسلوك الشيطان حيال الآدميين من حيث

 

______________________________________________________

الصفحة 15

 

كونه يتجسّد في (أفكار) وليس في وجود حسّي، ومن حيث كونه لا يمتلك فاعلية إلا في نطاق الأشخاص غير المؤمنين.

 

* * *

 

قال تعالى: (وإذا فعلوا فاحشةً قالوا وَجَدْنا عليها آباءَنا والله أَمَرَنا بها قل إن الله لا يأمُرُ بالفحشاءِ أتقولون على الله ما لا تعلمون * قل أمَرَ ربّي بالقسطِ وأقيمُوا وُجُوهَكم عند كلِّ مسجدٍ وادعوهُ مخلصين له الدينَ كما بَدَأكم تَعَودون * فريقاً هدى وفريقاً حقَّ عليهم الضلالة إنهُمُ اتخذوا الشياطينَ أولياءَ من دونِ الله ويَحسبون أنّهم مُهتدون) [الأعراف: 28 ـ 30].

في هذا المقطع من السورة: جملة من الدلالات الفكرية تظل مرتبطة بالهيكل الفكري العام للسورة، فالسورة منذ بدايتها تطالب باتباع ما أنزل الله وعدم اتخاذ الأولياء من دونه. وها هو المقطع يؤكد هذا الجانب من جديد لكن في ساق آخر. أنه يتحدث عن فريق من الناس (اتخذوا الشياطين أولياءَ من دون الله) علماً بأن المقطع الأسبق من السورة ارتكن إلى قصة إبليس وإضلاله الآخرين، كما أنه حذّر منه قائلاً: (إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون) [الأعراف: 27].

إذاً، قضية اتخاذ المنحرفين الشيطان وليّاً لهم تظل متكررة في أكثر من مقطع، تعبيراً عن التلاحم الفنيّ بينها من حيث خضوع المقاطع لدلالات عامة يشدّد النص عليها تحقيقاً لهدف فكري خاص في هذا الميدان.

وقد طرح المقطع أيضاً، دلالة فكرية أخرى عند المنحرفين وهي سلوك خاص كانوا يمارسونه في الطواف بنحوٍ غير لائق أخلاقياً، قائلين بأنهم وجدوا آباءهم يمارسون ذلك وأن الله أمرهم به. حيث ردّ النص القرآني عليهم بأن الله لا يأمر بالقبيح من الأعمال، بل أنه يأمر بالقسط.

إن التشددّ على عرض هذه المفردة من سلوك المنحرفين، إنما هو تعبيرٌ

 

______________________________________________________

الصفحة 16

 

عن خطورتها دون أدنى شك، كما أن النص ـ وفقاً لأيّ شكل فنيّ ـ لا بدّ أن يطرح جملة من الأفكار ضمن الخط الفكري العام للسورة، فهو عندما يعرض لأحد مظاهر الطواف حول الكعبة إنما يمنح الكعبة أهميةً خاصة في الممارسات العبادية، كما أنه يمنح المساجد بعامة أهمية خاصة بصفتها محالاً للتوجّه إليه، لذلك عقّب على السلوك الجاهلي الذي أشرنا إليه، عقّب على ذلك: مخاطباً المؤمنين: (وأقيموا وجوهَكم عند كلِ مسجد) ثمّ عرّج على قضية طرحَها في المقدمة من السورة، كما طرحها ضمن قصة آدم وحواء ونزولهما إلى الأرض وهي قوله: (فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون) أي: الخروج من الأجداث عند القيامة، حيث عرّج على هذا الجانب من جديد حينما أضاف قائلاً: (وادعوهُ مخلصين له الدينَ كما بدأكم تعودون).

وهذا يعني أن النص يُعنى بالخط الفكري العام للسورة، يظل حائماً عليه من حين لآخر ولكن في سياقات جديدة يستهدف توصيلها إلى المتلقي.

وأياً كان الأمر، فإن المقطع الذي نتحدث عنه، طَرحَ ـ في جملة ما طرحه ـ قضية المسجد (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد)، وواصل الحديث عنه في مقطع جديد عندما قال: (خُذُوا زينتكم عند كلِ مسجد) والزينة هنا هي دلالة فكرية جديدة، وسواء أكانت تعني لبس الجيّد من الثياب في المسجد، أم ترمز إلى الستر من الألبسة، خلافاً لما قلناه من أن الجاهليين كانوا لا يتسترون في ألبستهم عند الطواف، مدّعين أنهم وجدوا آباءهم على ذلك وأن الله أمرهم به، ففي الحالين يمكننا أن نتبين الموقع الهندسي لهذه المطالبة بالزينة، فإذا كانت الزينة يُقصد بها (الستر) من الملابس فهذا إما يتجانس فنياً مع المقطع الأسبق الذي تحدث عن عدم الستر عند الجاهليّين في طوافهم، وامّا إذا قُصِد بالزينة لبس الجيّد من الثياب، فهذا يعني أن النص يستهدف طرح دلالة فكرية جديدة هي: إباحة الزينة بل ندبيّتها بالنسبة إلى

 

______________________________________________________

الصفحة 17

 

الصلاة وهو أمرٌ يتجانس فنيّاً مع ما يطرحه النصُ لاحقاً من قضية تتصل بالطيبات وموقعها من الإباحة.

يقول النص: (خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) [الأعراف: 31]. فالنص هنا ربط بين الزينة وبين (الأكل والشرب) بصفتهما يخضعان لإمكانية الأكل والشرب بقدر الحاجة، والأكل والشرب على نحو الزائد على الحاجة، فهو أباح قضية الطعام والشراب، لكن منع من الإسراف فيهما، لاعتبارات نفسية وبدنية. أمّا البدنيّة فمن الوضوح بمكان ما دمنا نعرف أن غالبية الأمراض ترتبط بالإسراف في الأكل والشرب، وأما الاعتبارات النفسية فمن الواضح أيضاً أن العناية الزائدة بالأكل والشرب تنأى بالشخص عن الصفاء والشفافية وتدعه معنيّاً بذاته وبإشباعاتها فحسب، كما أن النصوص الواردة عن أهل البيت ـ عليهم السلام ـ طالما أشارت إلى أن الله يبغض المعنيّين ببطونهم وأنهم أبعد ما يكونون عن الله تعالى.

والمهم، أن النص طرح في تضاعيف الخط الفكري العام للسورة، أفكاراً ثانوية جديدة منها: قضية الزينة عند الصلاة، ومنها قضية الاعتدال في الأكل والشرب، كما أنه سوف يطرح فكرة عامة عن مفهوم (الزينة) وموقف المشرّع الإسلامي منها (بالنحو الذي سنتحدث عنه لاحقاً).

 

* * *

 

قال تعالى: (قل مَن حرّمَ زينةَ الله التي أخرجَ لعبادِهِ والطيّبات من الرزقِ قل هي للذين آمنوا في الحياةِ الدنيا خالصةً يومَ القيامةِ كذلك نفصلُ الآيات لقومٍ يعلمون * قل إنّما حرّم ربي الفواحشَ ما ظَهَر منها وما بطَنَ والإثمَ والبغيَ بغيرِ الحقِ وأَنْ تُشرِكُوا بالله ما لم يُنزّلْ به سُلطاناً وأَنْ تقُولُوا على الله ما لا تعلمون) [الأعراف: 32 ـ 33].

 

______________________________________________________

الصفحة 18

 

هذا المقطع من السورة امتدادٌ لمقطع سابق كان يتحدث عن الزينة عند كل مسجد، وعن الأكل والشرب بغير إسراف. وها هو الآن يحدثنا عن مبدأ عام في المباحات المتصلة بالملبس والمأكل. ومن الواضح أن هناك حاجات ثانوية مثل الملبس (من حيث كونه زينةً) والمأكل (من حيث كونه طيّباً) لم يحرمها الله بقدر ما قدم توصيات حيالها تطالب بعدم الإسراف فيها أو بعدم التهافت عليها، وهو أمرٌ لا يضادّ اتخاذهما زينةً وطيّبات تحقق إشباعاً خاصاً للشخصية، فالحاسة الذوقية الجمالية إلى تذوّق الطيب من الأكل وانتخاب الجميل من الثياب سمح المشرّع الإسلامي بإشباعها في الحدود التي لا يترتب ضرر عليها، كما لو أسرف من ذلك مثلاً، والمهمّ أن من معطيات الله على المؤمنين أن أباح لهم هذا الحجم من الطيبات في الدنيا، وأضاف إلى ذلك تدفّقها يوم القيامة عليهم خالصةً، بعكس الشخصية الكافرة التي تنعم بطيّبات الله في نطاق الحياة العابرة فحسب. والمهم أيضاً، أن المقطع بعد أن أوضح ظاهرة الإباحة في التنّعم بمعطيات الله من ملبس ومأكل، بدأ يوضح المحرّم من السلوك حيث سرد لنا جملة من المحظورات، تأكيداً عليها مثل: (إنما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وان تُشركوا بالله ما لم يُنزّل به سلطاناً وان تقولُوا على الله ما لا تعلمون..) [الأعراف: 33].

واضح، أن سرد هذه النماذج لا يعني (الحصر) بل يطرحها النص في تضاعيف حديثه عن بعض المباح والمحظور كما هو دأبه الفنّي في نصوص القرآن الكريم.

وأياً كان، فإن طرح هذه الظاهرة جاء في سياق التجربة الآدمية على الأرض حيث بدأ النص يتحدث عن نزول آدم وحواء إلى الأرض وموقع الشيطان من ذلك، وتحذير الآدميين منه، وتذكيرهم بما هيأته السماء للآدميين من مقوّمات البيئة التي تواجههم. وخلال حديثه عن البيئة الآدمية: يطرح

 

______________________________________________________

الصفحة 19

 

النص بين حين وآخر مجموعة من المبادئ التي ينبغي الالتزام بها في غمرة الوظيفة العبادية الموكلة إلى الآدميين، كما يطرح مجموعة من الحقائق المتصلة بالكون، والمصائر البشرية، وغيرها. لذلك، ما أن انتهى النص من حديثه عن الطيّبات في الرزق وغيره، حتى بدأ يطرح واحدة من الظواهر الاجتماعية وهي قوله تعالى: (ولكلِّ أمّةٍ أجلٌ فإذا جاء أجَلُهُم لا يَستأخِرون ساعةً ولا يستقدمون) [الأعراف: 34]. هنا يتحدث النص عن مبدأ اجتماعي وليس عن مبدأ فردي، المبدأ الاجتماعي هو: أن كل مجتمع من المجتمعات البشرية محدود بأجل معيّن لا يستأخر عنه ولا يستقدم. وأهميّة هذا الأجل هو استثماره للممارسة العبادية دون أدنى شك. لذلك عقّب النص على المبدأ المذكور بقوله متحدثاً عن صلة ذلك برُسُل الله الذين أرسلتهم السماء لممارسة وظيفتهم الإصلاحية:

(يا بني آدَم إمّا يأتينكُمْ رُسُلٌ منكم يقُصّون عليكم آياتي فمن اتقّى وأَصلَحَ فلا خوفٌ عليهم ولا هُم يحزنون * والذين كذّبوا بآياتِنا واستكبرُوا عنها أوليك أصحابُ النارِ هم فيها خالدون) [الأعراف: 35 ـ 36]. إذاً، نستخلص من هذا أنّ المقطع استهدف من ذكر الأجل الاجتماعي لكلّ أمّة من أنه محدود بمساحة زمنية معيّنة، استهدف استثمار ذلك من خلال الإفادة من تعليمات الرُسل الذين أرسلهم الله لهذا الهدف العبادي، مبشراً المؤمنين بأنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون في اليوم الآخر، بعكس المكذّبين الذين سيلحقهم الجزاء السلبي.

وقد عقّب النص على المكذبين، بهذا النحو الذي نستكشف من خلاله أنهم كانوا يتخذون غير الله أولياء لهم: (حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ) [الأعراف: 37]. إن هذا المقطع يتضمن عدة دلالات فنية، منها: ما

 

______________________________________________________

الصفحة 20

 

يتصل بالجانب الهندسي من السورة، حيث لحظنا أن مقدمة السورة ووسطها قد شدّد على قضية التوحيد وحذّر من اتخاذ ما دون الله أولياء (ولا تتبعوا من دونه أولياء) [الأعراف: 3]. (إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون) [الأعراف: 27]. وها هو الآن: يقصّ علينا أحد مواقف الموت أو اليوم الآخر حيث يخاطب الملائكة أوليك المكذّبين: (قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله) فيجيب المكذّبون: (قالوا ضلّوا عنا) أي لا أثر لهم أمامنا الآن. وهذا يعني ـ من الزاوية الفنية ـ من خلال إيحاءٍ غير مباشرٍ، بأنّ اتخاذ ما دون الله وليّاً سوف لن يعود بأية فائدة للمنحرفين عند مواجهتهم اللحظة الحاسمة، كما أنه يشكّل تفصيلاً لما أجملته المقدمة والوسط حينما طالبتا بعدم اتخاذ ما دون الله وليّاً حيث جاء الجواب بأنّ اتخاذ ذلك سوف ينعكس على المصائر الأخروية بالنحو الذي أشرنا إليه.

 

* * *

 

قال تعالى: (قال ادخلوا في أممٍ قد خَلَتْ من قَبلِكُمْ من الجِن والإنسِ في النارِ كُلّما دَخَلَتْ أمةٌ لعنت أُختَها حتى إذا ادّاركوا فيها جميعاً قالت أُخراهم لأُولاهُم ربّنا هؤلاء أضلّونا فآتِهِم عذاباً ضعفاً من النار قال لكلٍّ ضعفٌ ولكن لا تعلمون * وقالت أُولاهُم لأُخراهُم فما كان لكُمْ علينا من فضلٍ فذُوقوا العذاب بما كنتم تكسبون) [الأعراف: 38 ـ 39].

هذا المقطع امتداد لمقطع سابق كان يتحدث عن مبدأ اجتماعي هو: أنّ لكل أمّة أجلاً وانّ الرسل جاءتهم بالبيّنات. هنا، ينقل النصُ لنا بيئة خاصة من اليوم الآخر فيقصّ لنا حكاية أو أقصوصة عن البيئة المذكورة مما تتصل بموقف المكذّبين للرسل. إن هذا القص يتميّز بكونه مُدهشاً من الزاوية الفنية، فهو يقتطع شريحة من الزمن ويفصلها عن تسلسلها الموضوعي الذي كان يتحدث فيه عن أجلِ كل أمّة، وينقلها إلى زمانٍ لاحق (لم يحدث بعد) موضحاً ذلك

 

______________________________________________________

الصفحة 21

 

من خلال الحوار القصصي الآتي:

(قال: ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار...)، المتحدّث هنا هو (الله تعالى)، فيقول لهذا المجتمع المكذّب برسالة الإسلام: ادخل أيها المجتمع المنحرف في النار مع أمم سالفة من الجن والإنس. فهنا نواجه منحىً فنياً في غاية الأهمية، المنحى الفني هو أن الله يعرض خلال محاورته مع المكذبين، يعرض حقائق كونية أخرى هي: أن مجتمعات من (الجن) أيضاً سوف تواجه نفس المصير الكسيح الذي يواجهه مكذّبو الإنس.

بعد ذلك، ينقل لنا المقطع حقائق عن هذه المجتمعات (من الجن والإنس)، فهذه المجتمعات ـ يقول عنها النص (كلما دخلت أمةٌ لعنت أختها) أي: أن كل مجتمع منحرف عندما يدخل النار، يلعن المجتمع الذي سبقه إلى النار بصفته مجتمعاً يشاركه في الإنحراف، وسبب اللعن هو أن المنحرف ينتبه في ذلك الموقف على خطاياه فيمتلكه الأسى والندم والتمزق، ويجد نفسه تلقائياً مشحوناً بعواطف الكراهية حيال أي مجتمع يشاركه في الانحراف، نظراً للهول الذي يواجهه آنئذٍ.

المهم، إن هذا المرأى أو المشهد الذي نقله النص من أنّ كل أمة تلعن أختها عند دخولها النار، قد تابع عرضهُ قائلاً: (حتى إذا ادّاركوا فيها جميعاً) أي: عندما تجتمع كل الأمم المنحرفة في النار، حينئذٍ سوف تتكون لديهم ـ من خلال الإيحاء الجمعي ـ انطباعاتٌ جماعية يستوحونها من التجمّع المنحرف المذكور. هذه الانطباعات أو الاستجابات أو ردود الفعل تتمثل في الحوار الآتي بينهم: (قالت أُخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فاتهم عذاباً ضعفاً من النار) وهذا ما يقوله الاتباع الذين إنقادوا لرؤسائهم فيجيبهم الله (لكلٍّ ضعفٌ ولكن لا تعلمون). فالاتباع من شدة انفعالاتهم بالموقف المدمر

 

______________________________________________________

الصفحة 22

 

الذي واجهوه، يخاطبون الله قائلين: إن هؤلاء الرؤساء الذين اتبعناهم قد أضلّونا، فضاعف اللهم عليهم العذاب!! فيجيبهم الله: لكلٍ ضعفٌ، أي: لكم ولهم عذابٌ مضاعف.

لنلاحظ، كيف أن النص رسم الموقف في أشد الحالات تمزقاً للنفس المنحرفة، فالمنحرفون نظراً لشدة تمزقهم يطالبون الله بأن يضاعف العذاب على رؤسائهم حتى يخفّفوا عن أنفسهم حدّة الأزمة التي يعانون منها، إلا أنّ الله يأبى أن يخفف عنهم الأزمة بل يضاعفها عليهم حينما يقول لهم: إن العذاب سوف يضاعف عليهم بالفعل، ولكن سوف يضاعف عليكم أنتم ـ أيها الاتباع ـ أيضاً، وليس على الرؤساء فحسب.

للمرة الجديدة، ينبغي للمتلقي أن يتأمل بدقة هذا النمط من التعبير الفني المُدهش الذي يجعل المنحرف في أشد حالاته تمزقاً، جزاءً لانحرافه.

والآن بعد أن لحظنا كيف أن الاتباع من المنحرفين يواجههم الله بإجابةٍ تزيد من تمزقهم بدلاً من التخفيف عنها، نتجه إلى الرؤساء من المنحرفين فنجدهم يخاطبون الاتباع قائلين:

(فما كان لكم علينا من فضلٍ فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون) من خلال هذا الحوار الفني المدهش نستكشف حقيقة فنية أخرى، مضافاً لما تقدم، وهي: إن النص بدلاً من أن يقول لنا انه لا فرق بين الرؤساء والاتباع من حيث كونهم جميعاً يصدرون عن الانحراف، جعل المنحرفين أنفسهم يكشفون عن هذه الحقيقة ليكون الحوار أشدّ غنىً وحيويةً ومتعةً.

فالاتباع خيّل إليهم أنهم أقل جريمة من رؤسائهم حينما خاطبوا الله مطالبين بأن يضاعف على رؤسائهم العذاب.

وأما الرؤساء فقد أجابوهم بعبارة زادتهم تمزقاً أيضاً، بعد أن أجابهم الله بعبارة مزقتهم كل ممزق وهو قوله تعالى: (لكلٍ ضعف) أي: لكم ـ أيها

 

______________________________________________________

الصفحة 23

 

الاتباع ـ ولهم (الرؤساء)، ولكن لماذا؟ جاء الجواب الفنيّ على لسان الرؤساء أنفسهم حينما قالوا للاتباع (فما كان لكم علينا من فضلٍ فذُوقوا العذابَ بما كنتم تكسبون)، أي: أنتم، أيها الأتباع الذين طالبتم بأن يضاعف العذاب علينا، نحن الرؤساء، لا تفترقون عنّا في درجة الانحراف والكفر، حتى تطالبوا المضاعفة من العذاب علينا، بل نحن وأنتم في صعيد واحد من الانحراف، فذوقوا العذاب نتيجةً لانحرافكم أيضاً.

إن المتلقي الذي يمتلك خبرة فنيّة في تذوّق النصوص، يدرك أهمية هذا النمط الفني من الحوار الذي رسمه النصُ القرآني الكريم في هذا المقطع الذي يرسم مواقف المنحرفين في أشد حالاتهم تمزقاً وأسفاً وندماً وتوتّراً وانسجاماً وألماً. بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

 

* * *

 

قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) [الأعراف: 40 ـ 41].

هذا المقطع يتحدث عن بيئة يوم القيامة بالنسبة إلى المنحرفين. وكان المقطع الأسبق يتحدث عن نفس هذه البيئة، إلا أنه نَقَل لنا المحاورات التي جرت بين المنحرفين (أتباعاً ورؤساء) وهم في جهنم. أما الآن فيتحدث المقطع عن نفس جهنم بعد أن انتهى من عرض مواقفهم أثناء دخولهم فيها. فماذا قال؟ قال النصُ عنهم بأنه لا أمل البتة في إنقاذهم من النار التي دخلوها، وقدّم صورة فنيّة للتعبير عن الحقيقة المتقدمة وهي أنهم لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط، أي: لا يدخل المنحرفون الجنّة حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة مثلاً. أهمية هذا التشبيه تتمثل في كونه مستقىً من واقع البيئة

 

______________________________________________________

الصفحة 24

 

التي خبرها المعاصرون لرسالة الإسلام، فالجمل هو أكبر الحيوانات المألوفة في خبرات الناس آنئذٍ، كما أن الإبرة أصغر الظواهر سعة، فكما أنه من الممتنع تماماً أن يدخل البعير في ثقب الإبرة، فإنه من المستحيل أن يُسمح للكافر ذات يوم أن يدخل الجنة، وهذا ـ كما نعرف ـ منتهى ما يمكن أن يُعبّر عنه في رسم اليأس والقنوط.

وهنا يجب أن نتذكر بأن هذا المقطع المتضمن للتشبيه المذكور إنما جاء في سياق الحديث عن المنحرفين وكيف أنهم ينشطرون إلى رؤساء واتباع، وإن كلاً من الرؤساء والاتباع قد طالب الله تعالى بأن يضاعف العذاب على صاحبه، الاتباع طالبوا بذلك لأنهم وجدوا أن الرؤساء هم السبب في انحرافهم، والرؤساء طالبوا بذلك لأنهم وجدوا أن الاتباع لا يفترقون عنهم في درجة الانحراف، وهذا ما يزيدهم تمزقاً كما أشرنا سابقاً.

والآن، يضيف النص إلى تمزقاتهم مثيراً جديداً هو أشدّ من سابقه إثارةً، فإذا كان المنحرفون قد تيقنوا سابقاً بأن لهم عذاباً ضعفاً (رؤساء واتباعاً)، فإنهم الآن قد وصلوا إلى يقين ثابت هو: أنهم لا أمل لهم البتة في الإنقاذ، أي: ليس أنهم سوف يضاعف عليهم العذاب فحسب، بل أن العذاب سوف يستمر إلى الدرجة التي لا أمل في التخلص منه.

إذاً، كم كان النص مدهشاً ـ من الزاوية الفنية حينما أحكم البناء العماري أو الهندسي، فجعلَ مقاطعه تتنامى من درجة لأخرى وفق تدرّج فني في رسم المنحنيات النفسية للمنحرفين، حيث وصفهم أولاً بأنهم ممزّقون فحسب حينما لعنت كل أمّةٍ أختها في الانحراف عند دخولهم النار أول مرة، ثم وصفهم بحالةٍ من التمزق أشدّ من سابقتها حينما أوضح بأن لهم عذاباً ضعفاً، ثم نقلهم إلى درجة اليأس حينما أوضح لهم بأنهم سوف لن يدخلوا الجنة أبداً إلا إذا دخل البعيرُ ثقب الإبرة.

 

______________________________________________________

الصفحة 25

 

للمرة الجديدة ينبغي ألاّ نغفل عن هذا البناء الهندسي المُحكم الذي صاغه النص وفقاً للمنحنيات النفسية التي سوف يواجهها المنحرفون عن مبادئ الله.

والآن، ينتقل النص إلى رسم مصائر المؤمنين مقابل المنحرفين فيقول: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف: 42 ـ 43].

إننا ما دمنا نعنى بالبناء الهندسي للسورة، ينبغي أن نتذكر بأن المقطع هنا يتحدث عن أصحاب الجنة ويقول انه قد نُزع من صدورهم الحقد، هذا التعبير لم يجئ لمجرد ذكر الحقيقة النفسية التي تطبع أصحاب الجنة فحسب، بل جاء في سياق هندسي يقابل أصحاب النار الذين تقدم الحديث عنهم، حيث وصفهم النص بأنهم في أشد حالات الحقد.

لقد لحظنا كيف أن الاتباع طالبوا الله تعالى بأن يضاعف العذاب على رؤسائهم المنحرفين، ولحظنا كيف أن الرؤساء طالبوا بنفس الشيء بالنسبة إلى اتباعهم، أي أن النص رسمهم في قمة (الحقد) الذي يكنّه بعضهم للآخر، وهذا على العكس تماماً من أصحاب الجنة حيث رسمهم في قمة (الحب) قائلاً عنهم: (ونزعنا ما في صدورهم من غلّ).

إذاً، جاء الرَسم المتصل بكون أصحاب الجنة بلا حقد، جاء مقابلاً فنياً لأصحاب النار الذين يملؤهم الحقد كما رأينا. وهذا ما يشكل قمة الإمتاع الفني من حيث عمارة النص.

ولو تابعنا سائر ما ورد في المقطع من أفكار، لوجدنا أن هذه الدلالات

 

______________________________________________________

الصفحة 26

 

سوف تكون لها منعكساتها في مقطع لاحق من السورة يتحدث عن أصحاب الجنة وأصحاب النار من خلال ظاهرة (الأعراف) كما سنتحدث عن ذلك.

والمهم هو، أن النص رسم أولاً ظاهر التكليف بما في وسع الإنسان وليس تحميله أكثر من طاقتهِ (والذين آمنوا وعمِلوا الصالحات لا نُكَلِّفُ نفساً إلاّ وُسْعَها أولئكَ أصْحابُ الجنة) أي أن أصحاب الجنة إنما دخولها فلأنهم التزموا بمبادئ الله وهي مبادئ لا تتجاوز طاقتهم بمعنى أنهم لم يكلّفوا أنفسهم جهداً يدخلون الجنة من أجله هو فوق طاقتهم، بعكس المنحرفين الذين أضاعوا أمثلة هذا السلوك الذي لم يكلّفهم جهداً فوق طاقتهم فاستحقّوا بذلك العقاب المذكور.

هذه الحقيقة طرحها النص في سياق المقارنة بين أصحاب الجنة والنار، من خلال منحىً فني غير مباشر، بغية توصيلها إلى المتلقي والإفادة منها في تعديل سلوكه. وبعد أن طرح هذه الحقيقة (عدم تكليف الإنسان أكثر من طاقته) إتجه النص إلى مواصلة رسمه لمواقف يوم القيامة التي بدأها برسم الداخلين إلى النار، ثم رسم بيئة النار، وما واكبها من المحاورات القائمة بين المنحرفين، ثم رسم بيئة الجنة، ثم رسم بيئة جديدة يواجهها المنحرفون والمؤمنون حيث سنواجه رسماً جديداً فيها مصحوباً بحقائق جديدة، بالنحو الذي سنقف عنده.

 

* * *

 

قال تعالى: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ) [الأعراف: 44 ـ 45].

هذا المقطع امتداد لمقاطع سابقة بدأت بالحديث عن أولى مراحل اليوم

 

______________________________________________________

الصفحة 27

 

الآخر (الموت) ثم الموقف وما واكبه من مناقشات بين أصحاب النار (رؤساء وتابعين) ثم (الجحيم) وكيفية دخولهم فيها.

أما الآن فيتحدث النص عن مرحلة رابعة من مراحل اليوم الآخر وهي مرحلة الجحيم مقابلاً للجنة من حيث المواقف التي يصدر عنها كل من أصحاب الجنة وأصحاب النار عبر المحاورات التي تجري بين الفريقين، وأهمية هذه المحاورات تتمثل في كونها وسيلة قصصية تنقل لنا حقائق جديدة عن الإيمان، والحياة، والمبادئ، يستهدف النص توصيلها إلى المتلقي للإفادة منها في تعديل سلوكه.

إذاً، لنتقدم إلى هذا المرأى أو ما يُسمّى في اللغة القصصية بالمشهد أو الموقف، فماذا نجد؟.

أولاً: ينقل لنا النص مرأىً مسرحياً هو: بيئة الجنة وبيئة النار متقابلين، يطلّ أصحاب الجنة على أصحاب النار فيقولون لهم: (قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً) فيجيبهم أصحابُ النار بكلمة (نَعَمْ)، وهنا يتدخّل عنصر ثالث (فأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُم) فَيُعَقِّبُ على قولِ أهلِ النار قائلاً: (أن لعنةُ الله على الظالمين * الذين يصدّون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالآخرة كافرون). إذاً، وظيفة العنصر الثالث هي (من الزاوية الفنية) تقرير الحقيقة المتصلة بشرح أسباب دخول المنحرفين النار، حيث وصفهم بأنهم (يصدّون عن سبيل الله) (ويبغونها عوجاً) و(هم بالآخرة كافرون).

ثم يتقدم النص بعرض المرأى أو المشهد المذكور، متابعاً سائر الجوانب المتصلة به، فيقول: (وبينهما حجابٌ وعلى الأعرافِ رجالٌ يَعرِفُون كلاًّ بسيماهُم) [الأعراف: 46].

هنا نواجه عرضاً جديداً ينقل لنا إحدى حقائق الموقف الأخروي، وهو أنّ بين الجنة والنار (سوراً)، ويقف على هذا السور رجالٌ يعرفون كلاً من

 

______________________________________________________

الصفحة 28

 

الناس بسيماهم، وهؤلاء الرجال ـ حَسَب النصوص المفسّرة ـ هم المصطفون من البشر (أنبياء وأئمة) يعرفون أفراد مجتمعاتهم (مؤمنين ومنحرفين). حيث ينادون أصحابَ الجنة بعبارة (سلام عليكم) تهنئةً لهم بالفوز (ونادَوْا أصحاب الجنةِ أنْ سَلامٌ عليكم).

وهذا بالنسبة لأصحاب الجنة وموقف الرجال المصطفين منهم، وأمّا بالنسبة لموقفهم من أصحاب النار، فهو كما تنقله القصة:

(وإذا صُرِفَتْ أبصارُهُمْ تلقاءَ أصحابِ النارِ قالوا ربّنَا لا تَجْعَلْنا مع القومِ الظالمين) [الأعراف: 47]. بمعنى أنهم مشفقون من المصائر الكسيحة التي انتهى المنحرفون إليها. وهنا نواجه جانباً جديداً من الموقف، تشرحه القصةُ على هذا النحو.

(وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) [الأعراف: 48 ـ 49]، فمن هذا الحوار الحيّ نستخلص حقيقة اجتماعية هي أن المنحرفين كانوا معتقدين جازمين بأن المؤمنين برسالة الله لا تنالهم الرحمة، لذلك يخاطبهم أصحابِ الأعراف متسائلين: (أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة) ثم إمعاناً في ردّ مقولتهم السابقة يخاطبون المؤمنين: (ادخلوا الجنة). ولا يخفى على المتلقي مدى أهمية هذا النمط من السلوك حيال المنحرفين من حيث الإيلام النفسي الذي يترتب على المنحرفين.

وقد سبق أن لحظنا في المقاطع السابقة من هذه القصة كيف أن النص شدّد على الأسلوب النفسي في التعامل مع الكافرين في اليوم الآخر، بحيث يدعهم متمزقين في أشد حالات الإيلام، فهو يردّ على الضعفاء الذين انقادوا إلى رؤسائهم حينما طالبوا بمضاعفة العذاب عليهم، يردّ على ذلك بأن

 

______________________________________________________

الصفحة 29

 

مضاعفة العذاب سوف تشملكم وتشمل رؤساءكم أيضاً، كما يؤيسهم من دخول الجنة جميعاً حينما يؤكد بأن استحالة دخولهم مثل استحالة دخول البعير من ثقب الإبرة، كما يجعلهم ـ وهم طوائف اجتماعية متنوعة ـ بأن تلعن كلّ طائفةٍ أختها من الإنحراف، وها هو الآن يتابع نفس الأسلوب النفسي في الإيلام حينما يجعل أصحاب الأعراف يردّدون عليهم بهذا النمط من الردّ حيث يسخر أصحابُ الأعراف منهم حينما يقولون لهم: أصحيح أن هؤلاء المؤمنين الذين أقسمتم بأنهم لن تنالهم الرحمة، أصحيح أنهم كذلك؟ ثم يقولون للمؤمنين ادخلوا الجنة رغماً على هؤلاء المنحرفين.

إذاً، أمكننا الآن أن نقدّر هذا النمط من التجانس الفني بين مقاطع السورة بالنسبة لواحد من عناصر القص، وهو أمرٌ سوف نلحظه أيضاً بالنسبة للجزء الأخير من القصة.

 

* * *

 

قال تعالى: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) [الأعراف: 50 ـ 53].

هذا هو القسم الأخير من قصة (الأعراف) حيث يتحدث عن جانبٍ جديدٍ من الحقائق المتصلة بالعلاقة بين أصحاب الجنة وأصحاب النار.

إن أصحاب النار يطالبون أهل الجنة بأن يفيضوا عليهم شيئاً من الشرب

 

______________________________________________________

الصفحة 30

 

والأكل، إلا أن أهل الجنة يردّون عليهم بالقول بأن الله حرمهما على الكافرين. هذا هو الحوار القائم بين الفريقين: الفريق المنحرف المُطالب بشيء من الشرب والأكل، والفريق المؤمن الذي يجيبه بأن ذلك محرّم على الكافرين.

وأهمية هذا الحوار تتمثل في كونه يكشف أولاً: عن أن الحواجز بين الفريقين تُرفع ولو في نطاق محدد، وثانياً: أن شخصيات المنحرفين بالرغم من كونها تحيا أشدّ آلام العذاب إلا أنها تمنح فرصة التعبير عن جزائها الذي لحقها، أو لنقل: تتحسّس ذلك دون أن يحتجزها العذاب من التعبير عنه لفظياً أو حركياً. والأهم من ذلك أن المؤمنين عندما يخاطبون أهل النار بأن الله حرّم الأكل والشرب على الكافرين، حينئذٍ لا يتقدمون بأيّ تعقيب آخر على هذا الحكم بل يتركون ذلك الله تعالى حيث يعقّب على ذلك بأنهم (اتخذوا دينهم لهواً ولعباً) وهذا يعني أن المنحرفين لا ينحصرون في الجاحد بالله تعالى فحسب، بل حتى أولئك الذين يتخذون من الدين وسيلة لهو ولعب مثل تحريفهم لكلام الله مثلاً أو عدم التزامهم بمبادئه... الخ. كما أن النص يضيف إلى ذلك ظاهرة عامة هي (وغرَّتْهُم الحَيَاةُ الدنيا) حيث يشمل غرور الحياة كل أنواع الانحراف كفراً كان أم فسقاً (أي عدم الالتزام بمبادئ الله). أخيراً، عقّب النص على ذلك جميعاً بقوله: (فَاليَومَ نَنْسَاهُمْ كما نَسُوا لِقاءَ يَومِهِمْ هذا). إن هذه المعادلة بين نسيان المنحرفين ليوم الحساب في غمرة اهتمامهم بشؤون الحياة الدنيا، وبين نسيان الله إيّاهم في اليوم الآخر، تُعدّ في قمة الحقائق التي ينبغي أن يقف المتلقّي عندها للإفادة منها في تعديل السلوك، فعملية النسيان المتبادل قائمة على مسوغاتٍ لا سبيل إلى الترديد فيها، ما دام أحد الأطراف هو الذي اختار ملء إرادته نسيان الله حيث يظل الطرف المذكور هو الخاسر دون أدنى شك.

ودليل الخسران، يتقدم النصُ بتوضيحه من خلال منحىً فنيّ غير مباشر

 

______________________________________________________

الصفحة 31

 

حينما يواصل النص تعقيبه على سلوك المنحرفين المذكور قائلاً: (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاء).

إذاً، يتساءل المنحرفون بمرارة: (هل لنا من شفعاء). لنتأمل من جديد هذه العبارة التي رسمَ بها النصُ ظاهرة نسيان المنحرفين لكتاب الله (يقول الذين نَسُوهُ مِنْ قَبْل). ماذا يقول هؤلاء؟ (فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا؟) ويقولون أيضاً: (أو نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الذِي كُنَّا نَعْمَل).

إذاً، من خلال تمنيهم بأن يكون لهم شفعاء، ومن خلال تمنّيهم بأن يردّوا من جديد إلى الأرض فيغيروا سلوكهم. من خلال ذلك نفهم بوضوح أن طرف المعادلة (وهو المنحرف عن الله ومبادئه) هو الخاسر في عملية النسيان الذي ذكرها النص من أن المنحرفين بما أنهم نسوا مبادئ الله (في الحياة الدنيا) حينئذٍ أهملهم الله تعالى في الحياة الآخرة.

وأياً كان، فإن هذه القصة (قصة الأعراف) بما تضمنتها من عنصر الحوار الحيّ الذي لحظناه مفصلاً في هذا القسم وفي الأقسام السابقة من السورة، وُظفت فنيّاً لإنارة أكثر من جانبٍ يتصل بعمارة السورة، حيث لحظنا أن قصة سابقة هي قصة الميلاد البشري ثم قصة إبليس المتداخلة في القصة المذكورة قد طرحت مفهومات عن الطاعة والمعصية وانعكاسهما على الحياة الأخرى: فيما جاءت القصة الثالثة (قصة الأعراف) بمثابة إنارة للانعكاس المذكور، مع تطعيمها بحقائق جديدة يستهدفها النص، ما دمنا نعرف بأن هدف القصة ـ أو أي نص فنّي آخر ـ لا ينحصر في فكرة عامة فحسب بل في أفكار ثانوية أيضاً، وهو ما لحظناه في القصة المذكورة التي طرحت حقائق من الجنة والنار وما يواكب ذلك من العلاقات بين المؤمنين والمنحرفين عبر مواقف خاصة، وموقع

 

______________________________________________________

الصفحة 32

 

(الأنبياء والمعصومين) من ذلك (وعلى الأعراف رجال يعرفون كلاً بسيماهم). كل أولئك تشكّل حقائق جديرة بالوقوف عندها، وهي حقائق تمّ تقديمها من خلال عنصر (القص) بدلاً من مجرد السرد، بغية إحداثها التأثير على المتلقي بنحو أشدّ، وهو هدف النصوص الفنية كما هو واضح.

 

* * *

 

قال تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) [الأعراف: 54 ـ 58].

هذا المقطع من سورة الأعراف جاء وسط عنصرٍ قصصي بَدَأ بقصة المولد البشري، فقصة الأعراف ثم قصص الأقوام البائدة التي سنقف عليها فيما بعد.

وعندما يأتي مقطعٌ خاص يخترق سلسلة الموضوعات القصصية، فهذا يعني أهميته أولاً، وكونه ذا ارتباط بخيوط العنصر القصصي، وهو أمرٌ ينبغي أن نتبيّنه ما دمنا نُعنى أساساً بالحديث عن عمارة السورة القرآنية.

أما كون هذا المقطع متسماً بأهمية دلالته أولاً، فأمرٌ يمكننا معرفته إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن قضية الإبداع الكوني تظل في مقدمة الدلائل والحجج التي تستاق الشخصية إلى الإيمان أو تعميقه. من هنا قطَعَ النصُ السلسلة

 

______________________________________________________

الصفحة 33

 

القصصيّة من السورة، وضمنها المقطع الذي نتحدث عنه، أنه يذكر الظواهر الإبداعية في خلق السماء والأرض، واستوائه على العرش، وتعاقب الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر والنجوم بأمره. وهي ظواهر إبداعية ألفت النصُ نظرنا إليها معقّباً على ذلك بقوله تعالى: (له الخلق والأمر) مؤكداً بهذا التعقيب بأن فاعلية الوجود عائدة إلى الله فحسب. ثم طالب النصُ بالدعاء تضرعاً وخفية، وطالب بعدم الإفساد في الأرض، وطالب بأن يكون الدعاء خوفاً وطمعاً. إن هذه النماذج من المطالبة تشكل أنماطاً مختلفة من السلوك، بعضها يتصل بالتعامل الوجداني مع الله وتحديد مستوياته من حيث كونه ينشطر إلى ما هو علني وما هو خفي، ثم إلى دعاء مقرون بالخوف من العقاب ومقترنٍ بالطمع بالثواب.

كما أن بعضها يتصل بالسلوك الخارجي وهو عدم الإفساد في الأرض بعد أن أصلحها الله بمبادئه التي طالبنا بالالتزام بها.

بعد ذلك يتقدم النص إلى عرض ظاهرة إبداعية خاصة هي ظاهرة المطر من حيث إحياؤه الأرض وإخراجُها الثمرات. وهنا ينبغي ألاّ نغفل بأن النصّ في مقدمة السورة قد طرح موضوع الأرض وإلى أن الله قد جعلها (معايش) للناس (ولقد مَكَّنَّاكُم في الأرضِ وجَعَلْنا لكُمْ فيها مَعَايِشَ)، وهذا يعني ـ من زاوية عمارة النص وارتباط المقطع بسابقه ـ أن تخصيص الأرض بهذا الحديث من حيث إخراجها للثمرات (فأنْزَلْنَا بِهِ الماءَ فأخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثّمَرات) حيث تعدّ الثمرات هي المادة الرئيسة للعيش، إنما جاء هذا التخصيص مرتبطاً بمقدمة السورة، وإلى أن هذا التفصيل إنما هو إنماءٌ لمقدمتها.

وهذا من حيث ارتباط المقطع بسابقه.

أمّا من حيث ارتباطه بالقصص اللاحقة فأمر سنوضحه في حينه.

أخيراً، أنهى النصُ حديثه عن الظواهر الإبداعية المذكورة بهذه الآية:

 

______________________________________________________

الصفحة 34

 

(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ). هنا يجب أن نتذكر من جديد بأنّ مقدمة السورة التي أشارت إلى أن الله جعل في الأرض (معايش) للناس: عقّب على ذلك بقوله: (قليلاً ما تشكرون) وها هو الآن يطالب بالشكر حينما يعقّب على الأرض الطيّبة بقوله: (كذلك نُصرِّفُ الآيات لِقومٍ يَشْكُرون).

إذاً، من حيث تلاحم موضوعات السورة ثمة إحكام عماري لحظناه بنحوه المتقدم، لكن ينبغي أن نتبيّن أيضاً مدى علاقة هذه الآية المتحدثة عن الأرض الطيبة وأنها تخرج نباتها بإذن الله وإن الأرض الخبيثة لا تخرج إلا نكداً، ينبغي أن نتبيّن علاقتها بفكرة النص. في تصورنا الفنّي، إن الآية ما دامت تتحدث عن الشُكر وعدمه مقابل نِعَم الله حيث أوضحت الآية بأن تصريف ذلك إنما هو لقوم يشكرون، حينئذٍ فإن المقارنة بين أرض صالحة للزراعة وأرض سبخة تظل عنصراً (رمزياً) يستوحي المتلقي منه أن البشر مطبوعٌ بنفس السمة والمنشطر إلى طيّب وخبيث، حيث نجد الطّيب (شاكراً) لله تعالى: (كذلك نصرّف الآيات لقومٍ يشكرون) بعكس الخبيث، أو لنقل: أن الطيّب سوف يلتزم بمبادئ الله وأنّ الخبيث ينحرف عنها.

ومن الممكن أيضاً أن نفسّر الآية بظاهرها وهو كون الأرض الطيبة التي يخرج نباتها بإذن الله (من خلال المطر الذي أنزله الله) مقابل الأرض السبخة، إنما يستدعي التأمل بحيث يستاق الشخصية إلى تقدير هذا العطاء أو كما قال النص: (كذلك نصرّف الآيات لقوم يشكرون) ـ نعم الله ـ بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

 

* * *

 

قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ

 

______________________________________________________

الصفحة 35

 

فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ) [الأعراف: 59 ـ 64].

هذا المقطع من سورة الأعراف وما يليه يشكّل عنصراً قصصياً في السورة. وقد سبق أن لحظنا قصّتين في السورة أيضاً هما قصة المولد البشري ثم قصة الأعراف في اليوم الآخر. أما الآن فنواجه نمطاً قصصياً ثالثاً هو قصة المجتمعات البائدة التي إنحرفت عن الله فرتّب عليهم جزاءً دنيوياً هو إبادتهم. طبيعياً، أن قصص المجتمعات البائدة تتكرر في سور متنوعة، غير أن لكل سورةٍ سياقها الخاص بحيث ينتقي النصُ من أحداث القصة ومواقفها ما يتناسب وأفكار السورة.

هنا نواجه في قصة نوح شريحة خاصة من الأحداث والمواقف، هذه الشريحة تتناسب مع مقدمة السورة التي طرحت مفهوم (التبليغ) و(الإنذار). وها هي القصة تؤكد على لسان نوح هذه الدلالة (أُبلغكم رسالات ربّي وأنصح لكم) (أو عجبتم ان جاءكم ذكر من ربكم على رجلٍ منكم لينذركم)...الخ.

إذاً، التبليغ والإنذار هما العصب الفكري الذي امتدّ في هيكل القصة متجانساً مع مقدمة السورة. خلال ذلك يطرح النص ـ بطبيعة الحال ـ أفكاراً جديدة تتصل بنمط التبليغ وردود الفعل حياله والجزاء المترتّب على ذلك. أما نمط التبليغ فيتمثّل في لغةٍ مُسالمة مُشفقة على القوم (إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) (وأنصح لكم واعلم من الله ما لا تعلمون) (ولتتقوا ولعلكم تُرحمون).

 

______________________________________________________

الصفحة 36

 

لكن، ردود الفعل حيال ذلك جاءت مضادة تماماً للغة نوح فقد أجابوه بقولهم: (إنا لنراك في ضلالٍ مبين) وهو جواب يضادّ تماماً لغة النصيحة التي صدرت عن نوح عليه السلام. وأمّا الجزاء المترتّب على ذلك، فلا بدّ أن يتّسم بكونه مجانساً للغة تكذيبهم وهو إغراقهم في حادثة الطوفان، كما أن الجزاء المترتب على نوح ومن آمن برسالته لا بدّ أن يكون مضاداً لجزاء المنحرفين وهو النجاة (فكذبّوه فأَنْجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ في الفُلْكِ وأَغْرَقْنا الذِين كذّبوا بآياتنا...الخ).

 

* * *

 

بعد قصة نوح، نواجه قصة جديدة هي قصة هود عليه السلام. فماذا نجد فيها؟.

نجد فيها أولاً تجانساً في الهيكل القصصي كما نجد ثانياً طرحاً جديداً، وهما (أي التجانس والطرح الجديد) المادة الفنية لأي شكلٍ أدبي يتناول موضوعات مختلفة من تجارب الحياة. أمّا التجانس فيتمثل في توافق اللغة المبلّغة لرسالة الله، فكما أن نوحاً قال لقومه: (اعبُدُوا الله ما لكم مِنْ إلهٍ غيْرُهُ) [الأعراف: 59]، كذلك قال هود لقومه: (يا قوم اعبُدوا الله ما لكم من إلهٍ غيرُه) [الأعراف: 65].

وكما أن جواب قوم نوح كان متمثلاً في قولهم: (إنا لنراك في ضلالٍ مبين) [الأعراف: 60] كذلك كان جواب قوم هود إلاّ أنهم وسموه بالسفاهة بدلاً من الضلال (إنّا لنَراكَ في سَفَاهةٍ وإنّا لنظنُّكَ مِنَ الكاذِبين) [الأعراف: 66]. وكما ردّ عليهم نوح بأنه ليس في ضلال كذلك قال هود لقومه: (يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين) [الأعراف: 67]، وكما أن نوحاً قال لقومه بأنه ناصح لهم ومبلّغ رسالة الله، كذلك قال هود لقومه: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) [الأعراف: 68]، وكما قال نوح لقومه في تساؤل مرير (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ) [الأعراف: 63] كذلك جاء تساؤل هود ـ عليه السلام ـ بنفس العبارة (أو عجبتم

 

______________________________________________________

الصفحة 37

 

أن جاءكم ذِكر مِن ربّكم على رجلٍ منكم ليُنْذِرَكُم) [الأعراف: 69]. وكما أن الجزاء الذي رتّبه الله على نوح والمؤمنين معه (وهو النجاة) مقابل الإبادة التي رتبها الله على المنحرفين، فكذلك جاء الجزاء بنمطيه مرتّباً في قصة هود (فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا) [الأعراف: 72].

إذاً، لحظنا مدى هذا التجانس الضخم المتسم بجمالية فائقة بين الأحداث والمواقف التي رسمتها القصّتان عن مجتمعي نوح وهود حيث صيغتا أيضاً بنفس اللغة أو العبارة القصصية وهو مما يزيدهما جمالاً فنيّاً دون أدنى شك.

وهذا كله فيما يتصل بالعنصر الفنّي الأول وهو (التجانس) بين القصتين.

وأمّا ما يتصل بالطرح الجديد في قصة هود (وهذا هو العنصر الفني الآخر) فيتمثل في جملة من المواقف والأحداث التي تخص قوماً دون آخرين، فمثلاً: ما دام قوم نوح هم أول مجتمع يتعرض للإبادة الجماعية حينئذٍ نتوقع (من الزاوية الفنية) أن يتحدث النص عند رسمه لقصة هود عن حادثة الإبادة المتقدمة والتذكير بها، لذلك عندما تساءل هود ـ عليه السلام ـ عن إمكانية أن يتعجب قومه من أن يجيئهم ذكرٌ من ربهم على رجل منهم لينذرهم، عقّب على ذلك قائلاً (واذكروا إذْ جَعَلَكم خلفاءَ مِنْ بعدِ قومِ نُوحٍ وزادَكُم في الخلق بَسْطة) [الأعراف: 69].

إذاً، الطرح الجديد هنا فرض ذاته من خلال طبيعة البيئة الزمنية التي اكتنفت قوم هود عليه السلام. ويلاحظ أن الطرح الجديد لم ينحصر في البعد الزمني فحسب، بل في أبعاد مختلفة منها: البُعد الجسمي الذي أشارت القصة إليه بقولها: (وزادكم في الخلق بسطة) وهي حقيقة جديدة تتصل بمعرفتنا لتراكيبهم الجسمية التي اتّسمت بالطول مثلاً بما يستتبعه هذا من فوائد تعود

 

______________________________________________________

الصفحة 38

 

عليهم حيث أشارت القصة إليها بعامة عندما قالت (فاذْكُروا آلاء الله لعلّكم تُفْلِحُون) [الأعراف: 69].

ولا نغفل أن مقدمة السورة قد طرحت موضوع (التذكّر) (قليلاً ما تذكّرون) [الأعراف: 3]، وها هي القصة تشير إلى هذا الجانب أيضاً، لتتجانس مع أفكار السورة أيضاً.

إذن أمكننا أن نقف على جملة من الأسرار الفنية في هذه القصة من حيث تجانسها مع سابقتها (قصة نوح) وتجانسها مع مقدمة السورة (الهيكل العام للنص)، ثم ما طرحته من أفكارٍ جديدة يستهدف النص توصيلها إلى المتلقي بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

 

* * *

 

قال تعالى: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف: 73 ـ 79].

هذه هي القصة الثالثة من قصص المجتمعات البائدة التي وردت في سورة الأعراف: قصة نوح، هود، صالح. إنها (من حيث العمارة الفنية)

 

______________________________________________________

الصفحة 39

 

تتجانس مع سابقتها في كونها تتحدث بنفس اللغة المبلّغة التي صدرت عن نوح وهود (يا قومِ اعبُدُوا الله ما لكُمْ مِنْ إلهٍ غيرُهُ) [الأعراف: 59 ـ 65] وبنفس اللغة الناصحة (لقد أَبْلَغْتُكمْ رسالةَ ربِّي ونصحتُ لكم)، كما أنها تفترق عنهما في طبيعة الأحداث والمواقف التي واكبت صالح عليه السلام. بيد أن هذا الإفتراق يتم من خلال ما يسمى ـ في اللغة الفنية ـ بـ(التضاد من خلال التماثل)، كما أن التماثل بينها وبين سابقتها يتمّ عن طريق (التماثل من خلال التضاد).

تفصيل ذلك، إن هذه القصة تخاطب مجتمع صالح ـ عليه السلام ـ وهو المجتمع الذي جاء من بعد هود (واذْكُروا إذْ جَعَلكُم خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَاد)، وهذه المخاطبة نفسها تمّت في قصة سابقة (قصة هود) حيث ذكّرت مجتمعه بمصائر السابقين، قوم نوح (واذكُرُوا إذْ جعلَكُم خُلفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نوح) فهنا عملية تذكير قوم هودٍ بقوم نوح، وقوم صالح بقوم هود. وهذا العنصر الزمني من حيث التسلسل الموضوعي للزمن له قيمته الكبيرة في هيكل القصة وصلتها بأجزاء النص الأخرى، حيث يتم الإحكام الهندسي للنص من خلال العنصر الزمني المذكور، والمهم هو أن هذه العبارة تقوم على كلّ من (التضاد من خلال التماثل) و(التماثل من خلال التضاد) فالقصتان: قصة هود وصالح تتماثلان في لغة التبليغ، والنصيحة، والجزاء المترتّب على تكذيب قومي هود وصالح لهما، ولكنهما تتضادان في الأحداثِ والمواقف بعامة من خلال تماثل خاص، فعملية التذكير مثلاً بنعم الله وردت في القصتين (فاذْكرُوا آلاءَ الله) وهو (تماثل) لكنه من خلال بيئتين مختلفتين، فقوم هود ذكرهم الله تعالى بالبسطة في أجسامهم، أما قوم صالح فذكرهم عن الأرض (تتخذون من سهولها قصوراً وتنحتون الجبال بيوتاً فاذكروا آلاء الله).

إذاً، هناك عملية (تذكير) متماثلة. لكن من خلال بيئتين مختلفتين: البيئة الجسمية والبيئة السكنية... كما أن هناك حادث (أصنام) لدى مجتمع هود

 

______________________________________________________

الصفحة 40

 

(أتجادلونني في أسماءٍ سميتموها) [الأعراف: 71]، مقابل حادثة أخرى لدى مجتمع صالح (حادثة عقر الناقة) وهما حادثتان أو موقفان مختلفان لكنهما متماثلان من حيث البواعث.

والأمر كذلك، حينما نقارن هاتين القصتين بما سبقتهما من قصة نوح عليه السلام، حيث تظل القصص الثلاث متجانسةً لغةً ودلالة.

لكننا حين نتجه إلى القصة الرابعة وهي قصة لوط سنجد أنها متميزة عن القصص الثلاث، لا تشاركها في اللغة والدلالة إلاّ في جانبٍ محدّد، وهي على العكس من قصة خامسة هي قصة (شعيب) حيث سنجدها متجانسةً مع القصص الثلاث، فما هو السرّ الفني وراء ذلك؟

لنقرأ أولاً قصة لوط ـ عليه السلام ـ:

(وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ * وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) [الأعراف: 80 ـ 84].

لعل لتفرّد السلوك الذي عرضه النص عن المجتمع المذكور، صلة باستقلال هذه القصة نسبياً عن سائر القصص، بدليل أن النص نفسه أشار إلى شذوذ السلوك بقوله: (ما سبقكم بها من أحدٍ من العالمين) بينا كان الشذوذ الفكري لدى كل المجتمعات التي عرضتها القصص متماثلاً وهو التكذيب برسالات السماء.

إذاً، من المحتمل فنياً أن نفسّر تفرّد القصة المذكورة عن سائر القصص، بتفرّد السلوك الذي عرضه النص عن مجتمع لوط من حيث إشارة النص إلى تفرّد المجتمع بسلوكه الشاذ.

 

______________________________________________________

الصفحة 41

 

لكن مع ذلك، ثمة تجانس فنيّ بين هذه القصة وما سبقها من حيث الاستجابة السلبية التي صدرت عن المجتمع المنحرف المذكور، ومن حيث الجزاء الذي رتّبه الله على ذلك وهو نجاة لوط وأهله، وإبادة الآخرين، وهما (أي: الاستجابة السلبية والجزاء الإيجابي للمؤمنين والسلبي للمنحرفين) طبعاً القصص السابقة جميعاً.

إذاً، في هذه القصة ـ كما هو طابع سائر القصص ـ عنصر تجانس مع القصص السابقة عليها، مضافاً إلى عنصر (التفرّد) الذي يطبعها، وهما سمة الفن القصصي بعامة حيث تلحظ في التفرد طرحاً جديداً من الأفكار، كما نلحظ في التجانس تنظيماً للأفكار المذكورة، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

 

* * *

 

قال تعالى: (وإلى مدينَ أخَاهُم شُعيباً قالَ يا قومِ اعْبُدوا الله ما لكُم مِنْ إلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتكم بيّنةٌ من ربّكُم...) [الأعراف: 85].

هذه هي القصة الخامسة من قصص سورة الأعراف، وقد سبقتها قصص نوح وهود وصالح ولوط، حيث لحظنا أن كل قصة تتقدّمها الفكرة أو العبارة القائلة: (اعبُدوا الله ما لَكُمْ من إلهٍ غيرُه) مما يعني أن جميع القصص تشدّد على مفهوم التوحيد في المقام الأول، ثم تعرض لأفكار ثانوية أخرى، ليتكامل من خلالها بناء هندسي خاص تشترك القصص في خطوطه العامة، وتفترق كل واحدة عن الأخرى في خطوط خاصة تفرضها طبيعة البيئة التي تتحرك أحداثُ القصة ومواقفها من خلال ذلك.

والآن، بعد أن لحظنا العمارة العامة للقصص، ينبغي أن نقف عند الخطوط الخاصة لهذه القصة: قصة شعيب فماذا نجد؟.

لنقرأ من جديد: (وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم

 

______________________________________________________

الصفحة 42

 

من إلهٍ غيره قد جاءتكم بيّنة من ربكم فأَوفوا الكيلَ والمِيزانَ ولا تَبخَسُوا الناسَ أَشْياءَهُمْ ولا تُفْسِدُوا في الأَرْضِ بَعْدَ إصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمنين) [الأعراف: 85].

يجب أن نتذكر هنا، أن الفقرة الأخيرة القائلة: (ولا تُفْسِدُوا في الأَرْضِ بَعد إصلاحِها) هذه الفقرة وردت ضمن مقطع خاص في سورة الأعراف سبقت العنصر القصصي، وهذا يعني (من زاوية البناء الهندسي للسورة) أن المقطع المذكور يحتلّ موقعاً هندسياً بالنسبة لأجزاء السورة بحيث تتسرب أفكاره في تضاعيف الأجزاء الأخرى من السورة ومنها قصة شعيب، كما وردت في قصة صالح أيضاً في سياق خاص تقدم الحديث عنه.

والآن خارجاً عن المبنى الهندسي المذكور يعنينا أن نعرض للأفكار الواردة في هذه القصة حيث تتمثل أولاً في ظاهرةٍ خاصة هي: (إيفاء الكيل والميزان وعدم بخس الناس أشياءهم).

لا شك أن قضية بخس الناس أشياءهم أي إنقاص حقوقهم من خلال عدم إيفاء الكيل والميزان تظل قضية ذات أهمية خاصة في السلوك من حيث كونها تعاملاً اقتصادياً قائماً على جذور نفسية هي (العدوان) على الآخرين من خلال عدم إعطائهم الحقّ العائد لهم، لذلك طرحها النص في سياق حديثه عن التوحيد نظراً لأهميتها المذكورة.

بعد ذلك اتجه النص إلى طرح ظاهرة أخرى من السلوك السلبي الذي طبع مجتمع شعيب، وهو قوله: (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) [الأعراف: 86].

إن هذه الشريحة من القصة إمتدادٌ لشريحة سابقة هي السلوك العدواني، فإذا كان التعامل الاقتصادي الذي لحظناه قبل قليل قائماً على العدوان المالي،

 

______________________________________________________

الصفحة 43

 

فإنّ الشريحة الجديدة تقدّم نمطاً آخر من العدوان هو: جلوس القوم على الطريق مهدّدين المؤمنين بقتل شعيب.

إذاً، هناك تجانسٌ فنيّ في مفردات السلوك التي سردها النص في قصة شعيب وهي: السلوك العدواني، إلاّ أن النص في الآن ذاته جانس أيضاً بين السلوك الخاص لمجتمع شعيب وبين الأفكار الواردة في القصص جميعاً وهي عملية تذكير القوم بآلاء الله... ففي قصة هود ذكّرهم النص بآلاء الله من خلال إكسابهم بسطةً في الجسم، وفي قصة صالح ذكّرهم النص بآلاء الله من خلال تنعمّهم بالقصور والبيوت، وها هو الآن في قصة شعيب يذكّرهم الله بِآلائِه مِنْ خِلالِ تكْثيرَهم (واذْكُرُوا إِذْ كُنْتُم قَليلاً فَكَثَّرَكُمْ).

إذاً، ثمة تجانس فني آخر يضاف إلى الخطوط الهندسية المتجانسة في النص بالنحو الذي لحظناه سابقاً.

والآن لنتابع سائر الأفكار الواردة في القصة.

يقول النص: (وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) [الأعراف: 87].

هذا الكلام يوجّهه شعيباً لمجتمعه، وهو كلام نستخلص منه أن طائفة منهم قد آمنت (علماً بأن النص قد مهّد بذلك فنيّاً حينما ذكر بأن القوم كانوا يقعدون بكل طريق يصدّون عن سبيل الله مَن آمن به)، ومع هذا التلميح، نستخلص فكرة أخرى هي: ظاهرة (الصبر) سواء أكانت متصلة بالمؤمنين أم بالمنحرفين، فالمؤمنون لا بدّ لهم من الصبر مؤقتاً حتى يحكم الله بعد ذلك، والمنحرفون سوف يدفعون ثمن إنحرافهم عندما يصبرون لحين مواجهتهم عاقبة الإنحراف.

بيد أن هذا التذكير بالحقيقة المذكورة لم يصرف المنحرفين عن المكابرة حيث أجابوه بقولهم: (....لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ

 

______________________________________________________

الصفحة 44

 

قَرْيَتِنَا) [الأعراف: 88]، وأجابوا المؤمنين بخاصة: (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ) [الأعراف: 90]. ونتيجة لهذا الموقف نتوقع فنيّاً أن يعاقبهم الله على هذه المكابرة، وبالفعل جاءت الفقرة التالية تحدّثنا عن الجزاء الذي لحقهم: (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارِهم جاثمين) [الأعراف: 91] وهو نفس المصير أو الجزاء الذي لحق مجتمعات نوح وهود وصالح ولوط، حيث نلحظ تجانس المصائر مفصحة عن تجانس الخطوط الفنية التي تحكم النص.

 

* * *

 

قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [الأعراف: 94 ـ 95].

هذا المقطع من سورة الأعراف جاء بعد مجموعة قصصية تتحدث عن أقوامِ نوحٍ وهودٍ وصالحٍ ولوطٍ وشعيب، كما أن قصة أخرى مفصلة سوف تعقب هذا المقطع هي قصةُ موسى مع مجتمع فرعون.

والسؤال هو: لماذا قطع النصُ السلسلةَ القصصيةَ بهذا المقطع؟.

قبل أن نجيب فنيّاً عن هذا السؤال، نعرِض للأفكار التي طُرِحت فيه، لقد ذكر النص أنّ الشدائد التي لحقت المجتمعاتِ البائدة كانت بمثابةِ تنبيه لعلّهم يضّرّعون، كما ذكَرَ بأنّ الله أعقبَ الشدائد المذكورةَ برخاءٍ، لكنّ المجتمعات المذكورة لم تتعظ بهذه الشدّة والرّخاء، وفسّروا نُزُول الشدائد بأنّها سُنّة قد مَسّت آباءَهُم مِنْ قَبْلُ أيضاً. ونتيجةً لهذا التفسير أخذَهُم، ثم لحقها الجزاءُ المُترتّبُ على الإنحراف وهو الإبادةُ الجماعية لهم، وبهذا قد ربط النص بين المجتمعات البائدة وبينَ المجتمع المعاصِر أو المُمْتدَّ لرِسَالةِ الإسلام حيث ينبغي ألاّ تأمن هذه المجتمعات من مصائر مماثلة لمصائر

 

______________________________________________________

الصفحة 45

 

السابقين فيأتِيَهُمُ العذابُ ليلاً أو نهاراً، ومع أنّ نصوصاً إسلامية خاصة لوّحت بأن الأمة الإسلامية ـ إكراماً لمحمّد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ـ سوف يرفع عنها الجزاءُ الدنيوي، إلاّ أنّ النصّ بتهديدهِ الأمّة بأنه ينبغي ألاّ يأمن مكر الله أحدٌ من الناس أو المجتمعات، إنما يستهدف تذكيرهم بأن مسألة الجزاء أمرٌ لا مناص منه حيث ينبغي الإتعاظ به من خلال المصائر التي لحقت البائدين، لذلك عقّب على التهديد المذكور بقوله:

(أولم يَهْدِ للَّذِين يَرِثُونَ الأَرْضُ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهم ونَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُون) [الأعراف: 100]، وهذا يعني أن رفع العذاب لم يكن تكريماً للمجتمعات المنحرفة بقدر ما كان للسبب الذي ذكرناه، وأن قضية العذاب خاضعة للإمكان (وهو ما حدث فعلاً في بعض البيئات المعاصرة لرسالة الإسلام فيما تحدثت عنها نصوص قرآنية أخرى). المهم أنّ النص ذكر هذه الحقيقة وهي أن الله تعالى لو يشاء لأصاب هذه المجتمعات بنفس العذاب (لو نشاء أصبناهم بذنوبهم) وأنه لو يشاء لطبع على قلوبهم كما طبع على قلوب البائدين (ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون).

إذاً، مسألة العذاب أو الجزاء الدنيوي تظل خاضعة لإمكان الوقوع بغض النظر عن الأسباب الخاصة التي استتلت عدم وقوعه، فيما لا تعني إستثناءً خاصاً لهذا المجتمع أو ذاك بقدر ما تعني إن رفع العذاب المؤقت لا يجرّ للمنحرفين أي نفع، بل على العكس من الممكن أنْ يعوّض عنه بعذاب أشد في الحياة الآخرة. وأياً كان الأمر، فإن التذكير بمصائر الماضين أعاده النص من جديد حينما خاطب محمّد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ (تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ) [الأعراف: 101]. فهذا التذكير يفسّر ما سبق أن أكّده

 

______________________________________________________

الصفحة 46

 

النص حينما استهدف منه حَمْلَ المجتمعات المعاصرة لرسالة الإسلام على الإتعاظ بالمصائر البائدة وتَرَكَ المجال لهم بتعديل السلوك، دون أن يعني ذلك: بأنّ رفْعَ العذاب المؤقّت هو نمط من التعبير عن مشروعية ما يمارسه المنحرفون مثلاً.

إذاً، أمكننا الآن أن ندرك جانباً من السرّ الفنيّ الكامن وراء هذا المقطع الذي يجسّد عملية تذكير بمصائر البائدين، بعد أن عرض النص مفصلاً جملة من القصص المتصلة بهذا الجانب.

 

* * *

 

قال تعالى: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآياتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلأِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائيلَ....) [الأعراف: 103 ـ 105].

نواجه هنا قِصّةً جديدةً في سياقِ قصص البائدين هي قصةُ موسى مَعَ مجتمع فرعون. وهذه القصةُ أخذت موقعاً مستقلاً من النص فلم تجئ في السلسلة القصصية البادئة بقصةِ نوح والمنتهية بقصةِ شعيب بل فُصِلَ بينها بجملةٍ مِنَ الأفكار.

ولعل التفسيرَ الفنيّ لهذا الاستقلال القصصي عائد إلى أنّ هذه القصة تتضمّن أحداثاً ومواقف متنوعة لها أهميتها الخاصة التي يستهدف النصُ توصيلها إلى المتلقّي بحيث تتجانس مع مجموعة الأفكار العامة التي ينتظمها النثر غير القصصي في السورة.

ولكي نتبيّن ذلك تفصيلاً يحسن بنا أن نتابع هذه القصة في أقسامها جميعاً بنحوٍ يتضح من خلاله الموقع الهندسي لها بالنسبة إلى هيكل السورة.

 

______________________________________________________

الصفحة 47

 

لقد بدأت القصة بالحديث عن إرسال موسى إلى فرعون ومجتمعه حاملاً معه بيّنةً من الله على كونه رسولاً، مطالباً (فرعون) بتحرير الناس الذين استعبدهم.

إلى هنا فإن الدلالة المنتثرة في القصة تتجسّد في قضية إجتماعية خطيرة هي: عدم إستعباد الناس. ونحن لا نحتاج إلى التعقيب على خطورة هذه القضية، إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن رسالات السماء تُعنى بالإنسان وإكسابه القيمة الخاصة بكيانه، وما دام هدف العرض القصصي هو تنبيه المتلقّي على الدلالات الخاصة التي يعتزم توصيلها إليه: بخاصة أن العنصر القصصي موظّف لإنارة رسالة الإسلام، حينئذٍ نتوقّع ـ فنيّاً ـ أن يستخلص المتلقّي إنسانية الرسالة من خلال طرح القصة قضية تحرير الإنسان من عبوديّة الآخرين.

المهم، أن القصة عندما طرحت هذه القضية على لسان موسى في محاورته مع فرعون، مهّدت لها بمقدمة تتضمن الدليل المسوّغ للمطالبة المذكورة وهو كون موسى قد جاء ببيّنةٍ من الله أي بحجّةٍ أو بدليلٍ يدعم به صحة إضطلاعه برسالة من الله. ولذلك طالبه فرعون بتقديم الدليل: (قال إنْ كُنتَ جِئْتَ بآيةٍ فأْتِ بِها إِنْ كُنتَ مِنَ الصادقين) [الأعراف: 106].

هنا، يتقدّم موسى ـ بطبيعة الحال ـ بعرض البيّنة: (فأَلْقى عَصَاهُ فإذَا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ * ونَزَعَ يَدَهُ فإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ للنَّاظِرِينَ) [الأعراف: 107 ـ 108].

لا نريد أن نفصّل الحديث عن المنحى الفنّي لهذه القصة بقدر ما نعتزم توضيح موقعها الهندسي من السورة، إلا أنّ ذلك لا يمنعنا من الإشارة ـ ولو عابراً ـ إلى بعض السمات الفنية في هذا الصدد، وفي مقدمتها: طريقة العرض القصصي من خلال عنصري (الحوار) و(السرد)، فالحوار قام بمهمّة عرض الدليل اللفظي وهو قول موسى: (قد جِئْتُكُم بِبيّنةٍ مِنْ رَبّكم) وجواب فرعون:

 

______________________________________________________

الصفحة 48

 

(فأتِ بِها إنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِين)، في حين تكفّل (السرد) بعرض الدليل العملي (فألقى عصاه) (ونزع يده).

فالمُلاحَظ أن (السرد) قد اختزل الحَدَث (العصا واليد) فلم يُشر إليهما في بدء المقابلة بين موسى وفرعون بل استخدم عنصري (التشويق) و(المباغتة) في تقديم الحَدَث. (التشويق) يتمثل في تلويح موسى بأنه قد جاء بـ(بيّنة) حيث نتطلع إلى معرفة ذلك، و(المباغتة) تتمثل في كون موسى قد ألقى عصاه ونزع يده مباشرةً فإذا بالثعبان وبالنور يلفّان الموقف.

المهم، إن (فرعون) وحاشيته عندما بوغتوا بهذين الحادثين، كان ردّ فعلهم بهذا النحو: (... إنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أرْضِكُم فماذا تأْمُرون) [الأعراف: 109 ـ 110]. نَفْهَمُ (الاختزال الفنّي) للحوار السابقِ أنّ حاشية فرعون وَجَّهَتِ الخِطاب لِفرْعَونَ بدليل الجواب الآتي: ثم كان الجواب: (.... أرْجِهِ وَأَخَاهُ وأَرْسل في المَدَائنِ حاشِرْينَ يأتوكَ بكلِّ ساحِرٍ عَليم) [الأعراف: 111 ـ 112]. كما نفهم (من خلال نفس السمة الفنية التي أشرنا إليها قبل قليل) أن (هارون) أخا موسى كان الشخص الآخر مع أخيه في اضطلاعهما بمهمة الرسالة، فعبارة (أرجه وأخاه) تكشف من خلال الاختزال القصصي عن بطل آخر في القصة لم يكشف النصُ النقاب عنه إلاّ في الفقرة الأخيرة من الحوار، وهو نمط مثيرٌ للدهشة الفنية دون أدنى شك، حيث قام (الحوار) في هذا القسم من القصة، و(السرد) في القسم السابق لها بمهمة متجانسة من حيث الكشف (المباغت) للأحداث والابطال، أي حادثتي (العصا واليد) والبطل (هارون).

وأياً كان، فإن القسم اللاحق من السورة تحدث عن السحرة وانهزامهم، ثم إيمانهم في نهاية المطاف، ويعنينا من هذه الحادثة هو: كونها مفصحة عن مستويات الإدراك العقلي للمنحرفين (فرعون وبطانته والسحرة) ثم إمكانية

 

______________________________________________________

الصفحة 49

 

تعديل السلوك (إيمان السحرة) ثم مستويات التعامل العدواني للطغاة، ثم صلاته بالموقف الذي صدر عنه التائبون.

إذاً، فلنتجه إلى ملاحظة هذا المقطع بمستوياته المشار إليها بغية تحديد موقعها الفني من عمارة النص عنه.

 

* * *

 

قال تعالى: (وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) [الأعراف: 113 ـ 122].

هذا المقطع يتحدث عن قصة موسى وهارون مع فرعون وحاشيته، حيث لحظنا سابقاً أن فرعون وحاشيته اقترحوا تجمع السحرة ليردّوا بذلك على الإعجاز الذي قدّمه موسى متمثلاً في العصا واليد البيضاء.

وجاء السحرة فعلاً، وطالبوا فرعون بالأجر على ذلك في حالة الغلبة، ووافقهم على طلبهم. ولما ألقوا السحرَ، سحروا أعين الناس فعلاً واسترهبوهم، لكن ما أن ألقى موسى العصا حتى ابتلعت ما موهوه على الناس.

والمهم في هذه الحادثة جملة من الحقائق التي يستهدف النص توصيلها إلى المتلقي، منها أن السحر لا قيمة له البتة، ومنها أن رسالة السماء هي القيمة الحقة حيث أبطلت السحر، ومنها (وهذا هو الأهم) أن السحرة أنفسهم (آمنوا) بالله حينما وجدوا أن عملهم باطلٌ وان الله هو الحق.

 

______________________________________________________

الصفحة 50

 

إن أهمية هذا الموقف للسحرة لا تنحصر في كونها موقفاً عَرَضياً بقدر ما يكشف عن حقيقة عبادية عامة هي: أن الأشخاص المخلصين في تفكيرهم (أي: الأشخاص الذين لا ينطلقون في مواقفهم من مصلحة ذاتية أو شذوذٍ نفسي أو عقلي) سوف ينصاعون لرسالة السماء، ولا أدلّ على ذلك من شخوص (السحرة) الذين كانوا في غفلة من سلوكهم، وما أن واجههم منبهٌ جديد (وهو عصا موسى) حتى انتبهوا من غفلتهم وأذعنوا للحق. حيث يكشف هذا الموقف عن أن مطلق المنحرفين (ومنهم: هؤلاء الذين يخاطبهم القرآن في زمن رسالة الإسلام) عندما لا يذعنون لهذه الرسالة إنما ينطلقون في ذلك من موقف غير محايد، أي: امّا أن (الذات) تسيطر عليهم، فلا يسمحون للحقيقة بأن تلج أعماقهم، وامّا أن يلفّهم شذوذ نفسي (كما لو كان هناك مرض عميق يحتجزهم من الانفتاح على معرفة الحق) أو يغلّفهم شذوذ عقلي (كما لو كانوا قاصرين مثلاً).

إذاً، قضية السحرة الذين آمنوا بالله: تمثّل تجسيداً لحقيقة عبادية ضخمة في ميدان السلوك الآدمي العام، كما أنها (من حيث البناء الهندسي للسورة) تحتل موقعاً فنيّاً من النص يلقي إنارته على الأفكار المنتثرة في السورة.

على أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى الموقف الصلب الذي اتخذه السحرةُ حيال فرعون، فمع أنهم (قبل مرحلة الإيمان) كانوا مشدودين إلى متاع الحياة فحسب بحيث طالبوا بالأجر على عملية السحر، مع ذلك عندما أدركوا حقيقة الموقف، انقلبت معاييرهم إلى النمط الرفيع الذي ينبغي أن تختطه الشخصيةُ العباديةُ لها، وهو: الاتجاه إلى الله حتى لو كلفها ذلك التضحية بالنفس، ولنقرأ:

(قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ

 

______________________________________________________

الصفحة 51

 

لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقلِبُونَ * وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) [الأعراف: 123 ـ 126].

إن هذا الموقف لا يكشف عن قضية (الإيمان) فحسب وإلى أنه يتطلب تضحية بالنفس فحسب، بل يكشف عن الموقف المقابل لفرعون، ففرعون بالرغم من كونه واجَه نفس المنبّه الجديد (وهو عصا موسى التي أبطلت السحر) إلاّ أنّه بدلاً من أن يؤمن بالله كما آمن السحرة إذا به يستكبر أي: ينطلق ـ كما أشرنا قبل قليل ـ من شذوذ نفسي هو: نظرته المريضة عن (ذاته) حيث لحظ نفسه مسيطراً على بقعة جغرافية ضخمة، مسيطراً على مجموعة بشرية ضخمة، حينئذٍ لا تسمح له نفسه بالتنازل عن كبريائه بل يمعن في الاستكبار إلى الدرجة التي لا يقف عندها في نطاق السكوت مثلاً، بل هدّدهم بقطع أيديهم وأرجلهم.

إن هذا الموقف العدواني من فرعون يفسّر لنا جميع أنماط السلوك الذي يصدر عنه طغاة الأرض قديماً وحديثاً، وهو أنهم ينزعون إلى العدوان في أحط مستوياته بغية الاحتفاظ بعروشهم الدنيوية.

وأياً كان الأمر، فإن قضية السحرة (من حيث الإيمان) وموقفهم من فرعون، ثم موقف الأخير منهم، تكشف لنا عن جملة من الحقائق العبادية والاجتماعية والنفسية التي أشرنا إليها.

والمهم بعد ذلك، إن حاشية فرعون، وهم الأذلاء الذين يعوّضون الإحساس بالنقص لديهم (من حيث كونه خاضعين لفرعون) يعوضونه بإيذاء مَن هم دونهم، حيث يقترحون على فرعون بأن يعاقب موسى ومَن آمن معه:

(وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ)

 

______________________________________________________

الصفحة 52

 

[الأعراف: 127]. إن هذا الموقف لحاشية فرعون يكشف عن أن المنحرفين متماثلون في صدورهم عن الانحراف: في المواقف الشاذة، فهم من جانبٍ يعوّضون ـ كما أشرنا ـ عن ذلّتهم لفرعون يعوضون النقص بتحريضه على إلحاق الأذى بالمؤمنين، كما أنهم من جانبٍ آخر يصدرون عن نفس الشذوذ الذي غلّف رئيسهم فرعون من حيث كونهم يؤثرون متاع الحياة الدنيا (من حيث احتلالهم موقعاً سياسياً ضخماً) حيث يحتجزهم الشذوذ (ومعهم فرعون) من الانصياع لرسالة الحق، على العكس من السحرة الذين نفضوا عنهم كل آثار الانحراف الذي طبعهم جهلاً، ثم أدركوا الحقيقة وعدّلوا من سلوكهم، دون أن يحتجزهم عائق نفسي أو ذهني من الإيمان برسالة الله تعالى.

 

* * *

 

قال تعالى: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [الأعراف: 128 ـ 129].

في هذا المقطع من قصة موسى عليه السلام، ظاهرة جديدة من السلوك المتصل بمجتمعي مُوسى وفرعون. (ففي مقطعٍ أسْبق) قَرَّرَ فِرعونُ وحاشيتُه إلحاقَ الأذى بموسى وقومِهِ بعد فشلِهم في عملية السحر.

وها هو المقطع الجديد من القصة، يُشير إلى أن الأذى قد لحق قومَ موسى فعلاً، أنّهُم قَدْ أُوذوا مِن قبل (أي: عندما كانَ فِرعونُ يَسْتبعدهم) وهم الآن عرضةٌ للأذى أيضاً بصفتهم آمنوا بموسى (قالوا أُوذينا من قبلِ أن تأتينا ومِن بعدِ أنْ جِئتَنَا).

بيد أنّ ما ينبغي لفت النظر إليه هو: جملة من الحقائق الفنيّة المتصلة بعمارةِ القصةِ ودلالاتِها.

 

______________________________________________________

الصفحة 53

 

فمِن حيثُ الدلالاتُ الفكريةُ التي يستهْدِفُ النصُّ توصيلَها إلى المتلقي أُمورُ مِنْها (الاستعانةُ بالله) و(الصبر) و(وِراثةُ الأرض لله) و(هَلاكُ العَدُوّ).

أما الاستعانة والصبر فنمطان من السلوك العام الذي ينبغي أن يطبع السلوك البشري في كل منحنياته الفردية والاجتماعية.

وأمّا هلاك العدو ووراثةُ الأرض فيُجَسِّدانِ سُلُوكاً اجتماعيّاً أو سياسياً يَرْسُمَهُ النّصُّ هُنا (ليسَ بصفتِهِ خاصّاً بِمُجتمعٍ مُحَدَّد هُو مجتمعُ مُوسى) بل يتجاوزُهُ إلى مطلقِ المجتمعاتِ بخاصةٍ مجتمعنا الإسلامي الذي تتّجهُ القصّةُ إليه. فالأرض يرثها عباد الله الصالحون في نهاية المطاف، وأعداء الله مصيرُهم إلى الزوال لا محالة، بدليل المبدأ الاجتماعي المذكورِ الذي رَسَمَهُ الله تعالى.

بيد أنّ ما يَلْفِتُ النظر حقاً في هذا المقطع من القصة هو ما يتصل بعمارة النص أي: هيكل الأحداث التي ستجيء فيما بعد حيث أرهص بها النصُ فنيّاً حينما قال أولاً ـ على لسان موسى مخاطباً قومه الذين قالوا له: (أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد أن جئتنا) حيث قال لهم موسى: (عَسَى ربُّكم أن يُهْلِكَ عدُوَّكُمْ ويَسْتَخْلِفَكُم في الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كيفَ تعملون). إن قول موسى: عسى ربّكم أن يُهْلك عدوّكم ويستخلِفَكُم في الأرض هو تنبؤ فنيٌّ مِنْ حَيْثُ الفَنُّ القصصيُّ القائم على فسح المجال للمتلقي بأن يتنبّأ بالأحداثِ مِنْ خلالِ رموزِ القصة، فقولُه عسى ربُّكُمْ أنْ يُهْلِكَ عدُوَّكُم يعني: أن فرعون وحاشيته سوف يهلكون (وهذا ما يحدث فعلاً عندما نُواصِلُ الأجزاء اللاحقة مِنَ القصة)، إلا أن الأهَمَّ من هذا كلّه أنّ مُوسى قال لهم أيضاً: (فيَنْظر كيفَ تعملون) أي قال لقومِهِ إنّ الله بعد أن يهلك فرعون ويستخلفكم في الأرض، سوف ينظر إليكم كيف تعملون، كيف تسلكون.

 

عندما نتابعُ الأجزاءَ اللاحقة مِنَ القصةِ نجِدُ قومَ موسى سوفَ يُفْسِدُون في الأرضِ كما أَفْسَدَ فِرعونَ من قبلهم، وهذا يعني ـ من زاوية البناءِ الهندسي

 

______________________________________________________

الصفحة 54

 

للقصة ـ أن قولَ موسى المذكور، يَحْتلُّ موقعاً هندسياً من القصة، هو أن قومَهُ سوفَ يعملون شيئاً وَيَنْظُرُ اللهُ إليه، ولكِنّهُ عملٌ فاسِدٌ كما سنرى، وهذا يكشفُ لنا عن بعدٍ فنيّ آخَرَ مِنْ عُنْصُرِ (التنبُؤ) فِي القِصة، فإذا كانَ عُنْصُرُ (التنبؤ) الأول، وهو هلاك فرعون سيتحقق بشكل واضح لأن النص قال بصراحة: (عسى ربكم أن يهلك عدوّكم) أي: أن النص أوحى للمتلقي بأن الهلاك سوف يتحقق، بينما جاء عنصر (التنبؤ) الآخر ملفعاً بالغموض، لا يستطيع المتلقي أن يتنبأ به، فقوله تعالى: (فينظر كيف تعملون) من الممكن أن يكشف عن أن العمل الذي سيقوم به مجتمع موسى صالحاً، ومن الممكن أن يكشف ذلك عن أن العمل سوف يكون مفسداً (وهذا نحوٌ آخر من عنصر التنبؤ) الفني في الشكل الأدبي للقصة، لكن، عندما نتابع القصة، نجد أن (التنبؤ) سوف يكون مائلاً إلى جهته السلبية، بدليل أن قوله (فينظر ماذا تعملون) لو كان ناظراً إلى الجهة الإيجابية من السلوك لما احتاج إلى مثل هذا التعقيب وإبرازه في عبارة خاصة، وهذا بعكس ما إذا كان ناظراً إلى الزاوية السلبية من السلوك، لذلك يتوقع القارئ (إذا كان ممتلكاً لشيء من الحاسة التذوقية في الأدب القصصي)، يتوقع أن يجد انعكاس هذا القول (فينظر ماذا تعملون) على الأجزاء اللاحقة في القصة بحيث تتحدث فصولها عن قوم موسى بصفتهم لم يتمثلوا مبادئ السماء التي أوصلها موسى ـ عليه السلام ـ إليهم، بل تمردوا عليها وفقاً للتفصيلات التي سنتفق عندها في حينه...

وأياً كان، فهنا (تنبؤان) فنيّان، نستخلصهما من عبارة موسى لقومه (عسى ربكم أن يهلك عدوكم) وعبارته (فينظر ـ أي الله ـ ماذا تعملون)... أما العبارة الأولى فستنعكس أصداؤها على القسم الآتي مباشرة من القصة: حيث سيتناول النص قضية الهلاك الذي سيلحقهم، وأما العبارة الأخرى: فستنعكس أيضاً أصداؤها على القصة حيث ستتناول تفصيلاً غالبية السلوك السلبي الذي صدر عنه مجتمع موسى عليه السلام، (بالنحو الذي سنقف عليه).

 

______________________________________________________

الصفحة 55

 

قال تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ * وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ).

هذا القسم من قصة موسى: يمثل شريحة قصصية تتصل بسلوك مجتمع فرعون حيال موسى ومَن آمن به... فبعد أن آمن السحرة برسالة موسى هدد فرعونُ وقومُه: المؤمنين (وآذَوْهُمْ فِعلاًَ) بِحَسَبِ المقولةِ التي نَقَلَتها القصة عنهم بقولِهِم لموسى (أوذينا من قَبْلِ أنْ تأْتِينَا ومِنْ بَعْدِ ما جِئتَنَا)، إذ أجابَهُمْ موسى قائلاً (عسى ربُّكُم أنْ يُهلِكَ عدوَّكُم ويَستخلِفَكُم فِي الأرض فينظُرَ كيفَ تعملون) وها هو النص الآن يُحدِّثُنا عنْ هلاكِ الفراعنةِ إذ عاقبَهُم الله أولاً بِالقَحطِ والجَدب (لعلّهم يذّكّرون) ومقدمة سورةِ الأعرافِ طَرحَتْ هذا المفهوم وهو (التذكّر) وها هي الآن تُرَدّدُ هذِهِ المقولة في قصّةِ مُوسى عند حديثها عن مجتمع فرعون: ليتلاحم النصُ هندسياً وتتواشج أقسامه: بعضاً بالآخر...

المهم، أن هلاك الفراعنة بدأ مع ظاهرة الجدب، وجاء هذا الجدب بمثابة إنذار لتتمّ الحجة عليهم فلعلهم يتذكرون،... إلا أن هؤلاء لم تنفعهم التجربة حيث كانوا يفسّرون قضية الجدب بأنها سوء الطالع بالنسبة لموسى وقومه، وعندما يغمرهم الخصب ينسبونه لأنفسهم... كما أنهم أصروا على

 

______________________________________________________

الصفحة 56

 

موقفهم المستكبر من الإيمان بالله، حيث فسّروا الإعجاز الذي لحظوه عند موسى ـ عليه السلام ـ بأنه سحر، فبالرغم من أن العصا أبطلت السحر الذي هيأوه وخابوا،نجدهم يقولون: (مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ)...

إن هذا الإصرار يفصح عن أن القوم لم يمارسوا أية فاعلية عقلية أو موضوعية لمدارسة الموقف بل انصاعوا لذواتهم بحيث أصروا على أن الإعجاز هو سحرٌ وأنهم لن يؤمنوا برسالة السماء...

نتيجة لذلك: نتوقع أن تعاقبهم السماء بجزاء أشد من السابق وهو: الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم: وعندما شاهدوا هذه الآيات طلبوا من موسى أن ينقذهم من ذلك بدعائه إلى الله، ففعل، واستجيب له... لكنهم عادوا إلى نفس الموقف المنحرف... وعندها غرمهم الجزاء الماحق وهو: الغرق في البحر بالنحو الذي نعرفه جميعاً...

إن هذه الأقصوصة التي رسمت مصير آل فرعون، تظل جواباً فنياً لمقولة موسى ـ عليه السلام ـ في مقطع أسبق: حيث قال لهم (عسى ربُّكم أَنْ يُهْلِك عَدُوَّكُمْ ويَسْتَخْلِفَكُمْ في الأرض) وها هو الهلاك يتحقق فعلاً...

وأمّا استخلاف قوم موسى، فقد أوضحه النص في قسم لاحق من القصة حيث قال: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الخ)...

لكنَّ عملية الاستخلاف تظل مشروطةً بإفادةِ القوم مِنْ تجاربِ الماضي وبالتزام مبادئ الله، فهل التزم قومُ موسى بذلك أو لا؟.

إن المقطع الأسبق من القصة أو من المقولة التي لحظناها قبل قليل وهي قول موسى لقومه (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينْظُر كيْفَ تعملون) قد لوحت بعبارة (فينظُر كيفَ تعملون) إلى أن قوم موسى سوف يتعرّضون لتجربة عبادية في السلوك، بحيث يمكن أن نتبين منها أنهم

 

______________________________________________________

الصفحة 57

 

ناجحون أو مخفقون في تجاوز التجربة المذكورة...

ونحن حين نتابع الأجزاء اللاحقة من القصة، سنجد أن قوم موسى لم يلتزموا بمبادئ الله وأنهم مارسوا ألواناً من الفساد بالنحو الذي سنقف عليه لاحقاً... غير أنّ ما يعنينا أن نؤكده الآن ونكرّر ما سبق أن أوضحناه قبلاً هو: إن البناء الهندسي للقصة قد أُحكم بنحوٍ بالغ الدهشة حينما نمعن النظر في تلك المقولة التي كررنا ذكرها ونعني بها قول موسى لقومه: (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون).

فهذه، المقولة تتضمن ثلاثة أمور: الأول: هلاك العدو، وقد شرح النص هلاكهم مفصلاً، الثاني: استخلاف قوم موسى وقد أشار فعلاً إلى ذلك بقوله (وأَوْرَثْنَا القوم الذي كانوا يستضعفون الخ)، الثالث: النظر إلى كيفية السلوك الذي سيختطّه قوم موسى، وهو ما سوف تشرحه القصة في مقاطع لاحقة، حيث قلنا: ان عملهم سوف يتجسّد في عمليات الإفساد في الأرض بدلاً من الإصلاح، والمهم (من زاوية البناء الهندسي) هو أن المقولة السابقة لموسى ينبغي أن نضعها في الاعتبار من حيث أهمية الموقع الفني الذي احتلته من القصة نظراً لانعكاساتها على الأجزاء اللاحقة من القصة بالنحو الذي تم الحديث عنه.

 

* * *

 

قال تعالى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) [الأعراف: 138 ـ 141].

 

______________________________________________________

الصفحة 58

 

هذا المقطع من قصة موسى، يمثل قسماً جديداً من أقسام القصة التي يتناول كل جزءٍ منها جانباً من الحوادث والمواقف. والجديدُ هنا هو: عَرْضٌ لسلوك الإسرائيليين الذين أنقذهم الله مِنْ فِرعون كما قالَ لَهُمْ موسى: (عسى ربكم أن يُهلك عدوَّكُم ويستخلِفَكُم فِي الأرضِ فينظرَ كيف تَعْمَلُون) [الأعراف: 129]، وقد أُهلِكَ العدُو بالفعل، واستُخلف الإسرائيليون، وجاءت المرحلة الثالثة وهي قوله (فينظُرَ كيفَ تَعْمَلُون)، وجاءَت الشريحةُ الجديدةُ من القصة معبّرة عن انعكاسات الفقرة المذكورة، أي: مبيّنةً كيف أن الإسرائيليين سوف يُمارسون السلوكَ الذي تنبّأ بِهِ مُوسى، السلوك الملتوي الذي أوضحته القصة بأنّ الإسرائيليين عندما عبروا البحر وغرق فرعون وقومه واجهوا في طريقهم قوماً يعبدون الأصنام، فطلبوا حينئذٍ من موسى أن يجعل لهم أصناماً أيضاً. إذن: هذه الأحداث الثلاثة تشكّل (نمواً عضوياً) للفقرات الثلاث التي نطق بها موسى عن توقعه أن يهلك عددهم، ويستخلفون في الأرض، وينظر الله فيما يفعلون، حيث جاء الفعل سلبياً كما لحظنا.

إن هذه التجربة هي أول سلوك شاذ يصدر الإسرائيليون عنه، فالمفروض أن يتعظ الإسرائيليون بمصير فرعون وقومه، وأن يُقدّروا عطاء الله الذي أنقذهم من فرعون، ويسر لهم طريق البحر بنحو إعجازي، لكن بدلاً من أن تتصاعد هذه الفئة بسلوكها نحو الأفضل، إذا بها تنحدر مباشرة إلى أحط أنماط السلوك وهو عبادة الأصنام.

لا شك، أن المتلقي سوف يستخلص سريعاً بأن الإسرائيليين يجسّدون أحطّ المستويات البشرية تفكيراً، وإلاّ فمن غير المعقول أن يستفتحوا حياتهم الجديدة مع موسى باقتراح لعبادة الأصنام بينا كان المفروض أن يطالبوه بالمبادئ الجديدة المتصلة بالتعامل مع الله.

وأياً كان، فإن موسى عبْر صدمته بهذا الموقف الهزيل من الإسرائيليين،

 

______________________________________________________

الصفحة 59

 

خاطبهم بقوله: (انكم قوم تجهلون)، كما ألفت نظرهم إلى بطلان مقولتهم ودعاهم إلى توحيد الله، وذكّرهم بنعمه تعالى عليهم، وإنقاذهم من آل فرعون الذين كانوا يقتلون أبناءهم ويستحيون نساءهم.

المهم، أن هذا الموقف الإسرائيلي يظل إرهاصاً بمواقف مشينة لاحقة تحدثنا القصة عنها، بعد أن ترسم البيئة العبادية التي واكبت المواقف المنحرفة للإسرائيليين. ولنقرأ: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بِعَشْر فتمّ مِيقاتُ ربّهِ أربعِينَ ليلةً وقالَ موسى لأخِيهِ هارون واخْلُفِني في قومِي وأَصْلحْ ولا تَتَّبعْ سَبِيلَ المُفْسِدِين) [الأعراف: 142].

ففي هذا المقطع الذي يقدّم لنا بطريقة فنية البيئة العبادية التي تنتظر مكالمة موسى مع السماء من حيث المبادئ التي سيبشّر بها موسى قومه. في هذا المقطع إرهاص آخر بما سوف يصدر عن الإسرائيليين من سلوك منحرف، حيث أن توصية موسى لهارون بأن يخلفه في قومه، وبأن يُصلح، وبأن لا يتْبع سبيل المفسدين، هذه التوصية تتنبّأ لنا بنحو فنيّ أن هناك عملية (إفساد) من الإسرائيليين حين طالبه بعدم اتباع سبيلهم. لكن، سوف نلاحظ أن المواقف المنحرفة اللاحقة التي ستصدر عن الإسرائيليين، قد سبقتها مواقف خاصة بموسى ـ عليه السلام ـ تتصل بتكليمه مع الله تعالى، وبنزول الألواح عليه، ومطالبته بتوصيلها إلى الآخرين.

تقول القصة: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ: لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) [الأعراف: 143].

هذه الحادثة الخاصة بموسى تظل ذات صلة بالإسرائيليين أيضاً، حيث تذكر النصوص المفسرة بأنهم طلبوا من موسى ذلك من أجل أن يؤمنوا.

 

______________________________________________________

الصفحة 60

 

والمهم هو أن القصة تستهدف تقرير الحقيقة الذاهبة إلى أن الله تعالى ليس جسماً حتى تتحقق الرؤية المقترحة على موسى، كما تستهدف تقرير الحقائق الأخرى التي أوضحت بأن الجبل قد دُكَّ، وأن موسى قد خرّ صعقاً، تأكيداً على امتناع الرؤية المشار إليها، ولذلك ما أن أفاق موسى من صعقته حتى طلب من الله المغفرة قائلاً: (سبحانك تبتُ إليك وأنا أوّل المؤمنين).

لا شك، أن هذه الشريحة من الموقف المتصل بالتوبة لا تنحصر في شخصية موسى فحسب، بل ان دلالتها تنسحب على مجمل الموقف المتصل بالإسرائيليين أنفسهم، حيث أن إشارته بأنه (أوّل المؤمنين) إنما تنسحب على الآخرين الذين يستهدف النصُ توصيل الدلالات الفكرية إليهم بالنحو السليم، وإلغاء الأفكار المنحرفة التي صدر الإسرائيليون عنها في تعاملهم مع موسى، مع تقديم المبادئ العامة التي ينبغي أن يتمّ الالتزام بها، ثم التهديد بالجزاء الذي سوف يلحق المنحرفين في حالة عدم الالتزام بذلك.

 

* * *

 

قال تعالى: (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ * وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ * سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف: 144 ـ 147].

هذه الآيات امتدادٌ لمقطع سابق من قصة موسى عليه السلام، إذ ذَهَبَ لميقاتِ ربّه لِتسلُّم رسالةِ النُور فخَاطَبَهُ الله سبحانَهُ بأنّه قد اصطفاه ويَأمرهُ أنْ يَحْمِلَ

 

______________________________________________________

الصفحة 61

 

الرسالةَ التفصيلية وأنْ يُوصِلَها بقوةٍ وحزمٍ إلى الآخرين.

ولا نغفل (ونحن نتحدث عن عمارة السورة القرآنية) ان مقدمة السورة طَرَحَتْ مبدأ على المبلّغ هُوَ: (كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [الأعراف: 2]. هذا المبدأ الإسلامي في التبليغ، يَطْرَحُهُ النصُ الآنَ، مُحقّقاً بذلك عنصر (التلاحم الهندسي) بين أجزاء السورة حيث يربط (المتلقي بين هذه القصة الآمرة ـ في حينه ـ موسى، بأن يأخذ الرسالة بقوة ويأمر بها قومه وبين الأمر الذي وجهه الله تعالى إلى محمد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في مقدمة السورة بأن يأخذ رسالة الإسلام وينذر بها ويذكّر بها دون أن يكون حرج من ذلك، أي: دون تردّدٍ في ذلك. كما أن التلويح بالجزاء الأخروي للمنحرفين يأخذ نفس الطابع هنا من حيث الموازنة بين حديث النص عن المعاصرين لرسالة موسى والمعاصرين لرسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

والمهم، أن القصة وهي تتحدث عن موسى، وتوحي فنيّاً بعملية الربط بين البيئة التي يتحرك مجتمعه من خلالها، والبيئة الإسلامية،... هذه القصة تواصل رسمها لمجتمع موسى، أو لنقل: لسلوك الإسرائيليين الذين لحظنا أنهم ما أن هلك فرعون حتى انحرفوا من جديد عن مبادئ الله، حيث طالبوا موسى بعد عبور البحر باتخاذ الأصنام آلهة لهم، كما أن موسى وهو يتقدم إلى ميقات ربّه لتسلّم رسالة السماء، ويخلّف أخاه هارون على القوم ويحذره من اتّباع سبيل المفسدين، إذا به يواجه الحادثة الانحرافية الكبيرة التالية:

(واتَّخَذَ قومُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُليِّهِمْ عِجلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ...) [الأعراف: 148]. هذه هي الحادثة الثانية التي رسمها النص بالنسبة إلى سلوك الإسرائيليين، ويبدو ـ من الوجهة الفنيّة ـ ان هذه الحادثة صدًى لموقف سابق هو: مطالبة قوم موسى (بعد أن رأوا في طريقهم من البحر عبادة بعض الأقوام للأوثان) بأن يتخذ لهم أوثاناً مماثلة، بمعنى أنّ رؤية الأوثان سحبتهم

 

______________________________________________________

الصفحة 62

 

إلى ممارسة عملية هي حادثة العجل الذي تقدّمت الإشارة إليه.

بيد أن القصة وهي تختزل بطريقة فنية تفصيلات الحادث المذكور تُحسّس المتلقي بأن موسى قد رجع إلى القوم، وأنه عندما وجدهم في الحالة المنحرفة السابقة ووبخهم على ذلك، وأنهم قد اكتشفوا ضلالتهم في الموقف المذكور.

نفهم ذلك كله من خلال الآية الآتية: (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 149].

لكن ينبغي أن نضع في الاعتبار أن قضية اكتشاف القوم لانحرافهم، ثم ندمهم على ذلك سوف ينعكس على الأجزاء اللاحقة من القصة بحيث يستخلص المتلقي بأن ممارسة الانحراف المذكور قد اقترنت حينئذٍ باكتشافه عند الإسرائيليين أنفسهم، وهو أمرٌ يشكّل إدانةً لأي سلوك لاحقٍ يصدر الإسرائيليون عنه. لذلك سوف نرى أن النص يهدد أولئك الذين اتخذوا العجل (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَبذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) [الأعراف: 152]. إلا أنه يُلاحظ أن هذا التهديد سبقه مقطع يتحدث عن رجوع موسى غضبان أسفاً حيث أخذ برأس أخيه هارون يجرّه إليه، كما لحقه مقطع يتحدث عن أن موسى عندما سكن غضبُه (أخذ الألواح وفي نسختها هدىً ورحمة).

والسؤال هو: لماذا قطعت القصةُ سلسلةَ الحَدث (قضية العجل) وخلّلته موقفَ الغضب عند موسى، وإلقائه الألواح، وجرّه لرأس أخيه هارون؟.

في تصوّرنا الفنيّ، أن الاستجابة أو ردّ الفعل حيال عمل منحرفٍ غير متوقّع مثل عبادة العجل: بخاصة أن موسى قد خلّف أخاه للسيطرة على أي موقف محتمل، وأنه قد اتّجه بحماسة بالغة الشدة إلى الله متعجلاً تسلّم

 

______________________________________________________

الصفحة 63

 

الرسالة. أقول: في سياق مثل هذه الحماسة عندما يواجه البطل موقفاً غير متوقّع من مجتمعه حينئذٍ لابدّ أن يصدر عن البطل ردّ فعلٍ حادٍّ شديد يتناسب مع حجم حماسته من جانب ومع خطورة المثير الذي واجهه من جانب آخر.

من هنا عندما يقطع النصُ سلسلة الحدث لينبّه المتلقّي على استجابة موسى، إنما يحسّسنا بحيويّة وواقعيّة الموقف من حيث ملازمته لأمثلة هذا الردّ من الفعل، لأنّ عدم المبالاة مطلقاً قد لا يتوافق مع الرغبة أو الحرص على تطبيق مبادئ الله، بخاصة في مرحلة انتقالية تخللتها بعض المواقف المنحرفة، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

 

* * *

 

قال تعالى: (واختار موسى قومَه سبعين رجلاً لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منّا إن هي إلاّ فتنتك تضلّ بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت وليّنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين * واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنّا هُدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كلَّ شيء فسأكتبها للذين يتقّون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون * الذين يتّبعون الرسول النبي الأمّي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطيّبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) [الأعراف: 155 ـ 157].

هذا المقطع امتدادٌ لقصة موسى عليه السلام، والملاحَظ ان قضية اختيار موسى من قومه سبعين رجلاً للذهاب إلى الميقات ومشاهدتهم لتكليم الله موسى ونزول الألواح عليه ليكونوا شهداء له عند القوم، هذه الحادثة إذا أخضعناها للتسلسل الزمني، حينئذٍ كان الموقع الذي ينبغي أن تحتله هو المقطع الأسبق

 

______________________________________________________

الصفحة 64

 

الذي تحدث عن موسى وطلبه أن ينظر إلى الله ثم الصعقة التي أصابته نتيجة لذلك. فلماذا قطع النص سلسلة العرض المذكور واعترضها بالحديث عن الصعقة قبل الحديث عن الرجفة التي أصابت السبعين رجلاً؟.

من الممكن أن تكون حادثة الرجفة قضية جديدة غير مواكبة لقضية الصعقة، ومن الممكن أن تكون مواكبة لها، إلاّ أنه في الحالة الأولى يكون التسلسل الموضوعي للزمن متحكماً في هذا الموقف، كما أنه في الحالة الثانية يمكن تفسير ذلك فنياً بأن القصة استهدفت أولاً موسى ـ عليه السلام ـ بصفته بطل الحادثة ثم قومه بصفتهم أبطالاً ثانويين. وفي الحالتين ثمة أهمية فكرية لصياغة هذه الحادثة حيث استثمرها النص لتقديم أفكار جديدة تربط بين قوم موسى وبين رسالة الإسلام التي ندبَ النصُ القوم المذكورين إليها، وهذا ما نلحظه بوضوح في جواب الله تعالى لموسى عندما سأله الرحمة حيث أجابه الله بقوله: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ).

إذاً (ونحن نتحدث عن عمارة النص) نلحظ أن القصة التي كان بطلها موسى لم تُسرد لمجرّد المعرفة التاريخية بل وظّفت فنياً من أجل رسالة الإسلام حيث لحظنا كيف أن النص انتقل من الحديث عن الرحمة لمطلق الناس إلى خاصتهم المعنيّين بالخطاب، وهم الكتابيون الذين يجدون في كتبهم التبشير برسالة الإسلام بصفتهم قوم موسى الذين حامت القصةُ عليهم. كما أن النص انتقل مباشرة من الحديث عن القوم المذكورين، إلى الحديث عن المجتمع الإسلامي بخاصة، تأكيداً لرسالة الإسلام التي قلنا أن القصة موظفة من أجل لفت الانتباه إلى الرسالة المذكورة، يقول النص: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ

 

______________________________________________________

الصفحة 65

 

فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [الأعراف: 158].

إذاً، لحظنا كيف أن قصة موسى قد خُطِطّ لها بحيث أفضت ـ في نهاية المطاف ـ إلى الإيمان برسالة الإسلام.

غير أن القصة لم تنته في الواقع بقدر ما تمَّ رسمُ جملةٍ من الحوادث والمواقف التي واكبت سلوك الإسرائيليين، حيث وجدناهم يصدرون عن أكثر من مفارقة في السلوك، بخاصة مطالبتهم موسى بأن يُهيّئ لهم أصناماً عندما عبروا النهر بعد حادثة غرق فرعون، ثم عبادتهم العجل.

وها هو النص يتابع الحديث عن مواقف أخرى للإسرائيليين سنقف عندها لاحقاً، إلا أننا نعتزم هنا أن نشير إلى عمارة النص هندسياً، حيث يمكن القول بأن قصة موسى قد استهدفت أقسامُها الأولى عَرْضَ السلوك الإسرائيلي في المراحل الانتقالية الأولى وهي مراحل إنقاذهم من فرعون، وعبورهم النهر، ومعايشتهم لموسى ـ عليه السلام ـ عبر الميقات الأول الذي انتُظر من خلاله نزول المبادئ وتعرّفها، حيث جاءت الاستجابات الإسرائيلية معاكسةً تماماً لما ينبغي أن يكونوا عليه، إذ كانت حادثة الأصنام، والعجل، وغيرهما استجاباتٍ شاذّة كل الشذوذ عبر تلكم المرحلة الانتقالية الخطيرة.

وأياً كان، فإن النص بعد أن ربط بين هذه الحوادث وبين إفضائها إلى الإيمان ـ في نهاية المطاف ـ برسالة الإسلام، كما أشرنا، حينئذٍ تابع النصُ المراحل المتنوعة التي واكبت سلوك الإسرائيليين بنحوها السلبي الذي سنقف عليه في الأجزاء اللاحقة من القصة.

 

* * *

 

(وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ * وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ

 

______________________________________________________

الصفحة 66

 

فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[الأعراف: 159ـ 160].

في هذا المقطع تتَحدَّثُ قِصَّةُ موسى عن مجتمعه الذي كشفت عَنِ التواءاته المُبكِّرةِ المطالبةِ بِجَعْلِ الأصنام، وعبادةِ العِجْلِ وغيرهما. تتَناول القصةُ هُنا إلتواءاتِ المجتمع الإسرائيلي الممتدة طوالَ فترَة مُوسى عليه السلام، فأَشارَتْ في البَدْء إلى أنّ الفئة الخَيِّرةِ مِنَ المجتمع المذكور أو بتعبير القصة: (ومن قومِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُون بالحقِ وبِهِ يَعْدِلُون) وهذه الفئةُ انعزلَتْ عَنْ مجتمع الإسرائيليين ـ كما تقول النصوص المفسِّرة ـ نظراً لمشاهدتها هَولَ الجرائمِ التي صدر الإسرائيليونَ عنها، وأما سائرُ الفِئاتِ التي ينتظمُها مجتمعُ الإسرائيليينَ تَظَلُّ مطبوعةً بسماتِ السلوكِ المنحرفِ حيث خَتَمَ المقطعُ حديثَهُ عن ذلك بقولِه: (وما ظلمونَا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) أي أَنَّ هناك فئةً مؤمِنة مِنْ قوم موسى والمجتمع الإسرائيليّ هو مجتمع ظالم، وأنّهُ بانحرافهِ وظلمِه لم يَضُرَّ إلاّ نفْسَه. ثم بدأتِ القِصَّةُ بِسَرْدِ جانب جديد من الانحراف الذي طَبَعَ الإسرائيليينَ: (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزَيِدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ) [الأعراف: 161 ـ 162].

ففي هذا الاختبار الذي يكشف عَنْ مدى إيمان أو انحرافِ الإسرائيليين أوضحتِ القصةُ أنهم تمرّدوا على ما أُمِرُوا بِهِ مِنْ دُخُولٍ إلى بيت المقدسِ ساجدين ومستغفرين حيث بَدَّلُوا ذَلِك بِمُمارسَات تَنْتَسِبُ إلى الاسْتِهزاءِ والسخرية وهو ما اسْتَتْبَعَ نُزولَ الرِّجزِ عليهم مِنَ السّماء جَزَاءً بِما كانُوا يَظْلِمُون.

 

______________________________________________________

الصفحة 67

 

ثمّ قدّمت القِصّةُ حادثةً جديدةً أخرى مِنْ مواقفِ الإسرائيليينَ المُنْحرِفة: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [الأعراف: 163].

فهذه الحادثة تجربةٌ اختباريةٌ جديدةٌ أُمِروا فيها بعدم الصيدِ في السبت فخالَفُوا ذلك الأمر وترتّب على تلكم المخالفةِ جزاءٌ آخرُ تُوضِحُهُ القصةُ على هذا النحو: (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ).

إذاً، مسخ الإسرائيليين قردةً، جزاءً لانحرافهم، وهو جزاء رهيب يكشف عن خطورة الانحراف الذي طبع الإسرائيليين.

مضافاً إلى الجزاء المذكور، ترتب جزاء استمراريٌ آخر هو، كما يقول النص: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ) [الأعراف: 167].

وهذا الجزاء لعلّه أشدّ الجزاءات إيلاماً للشخصية الإسرائيلية حيث جعلها الله عرضةً لأشدّ العذاب في حياتها الدنيوية، أي طيلة التاريخ الإسرائيلي وهو ما لحظناه فعلاً في مختلف أدوار التاريخ.

ثم جاء جزاءٌ من نمطٍ آخر هو تفرقهم إلى أُمم أو مجتمعات مختلفة، منها: ما هو صالح وما هو دون ذلك: (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف: 168]، وهذا الجزاء ـ كما قالت القصة ـ بمثابة فتح صفحة جديدة أو تجربة جديدة (وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون) حيث نستخلص منها أن فتْحَ هذه الصفحة الجديدة هي إفساح المجال لعمليات التعديل في السلوك، لكن ـ كما يقول النص ـ: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى... الخ) [الأعراف: 169]، حيث

 

______________________________________________________

الصفحة 68

 

تشير هذه الآية إلى أن الإسرائيليين تشبثوا بمتاع الحياة الدنيا، وهي إشارة إلى نمطٍ ثقافي خاصٍ منهم هم: الحكّام أو القضاة ـ وفقاً للنصوص المفسرة ـ فيما تذكر بأنهم كانوا يرتشون ويحكمون بالجور.

وهنا لا نحتاج إلى التعقيب على ظاهرة الانحراف حتى في الشخوص الفوقية التي ورثت الكتاب، حيث جَرَفها متاع الحياة الدنيا أيضاً، مع أنه، كما يقول النص: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ).

إذاً، ينبغي أن نقف عند مدى الانحراف الذي شدّدت القصة على رسمه لدى الإسرائيليين ـ عاديين وخاصة ـ بالرغم من إفساح المجال لهم بتعديل السلوك، وبالرغم من أخذ المواثيق عليهم بألاّ يعملوا إلاّ بموجب المبادئ المرسومة لهم في كتابهم، وبالرغم من إضفاء النِعَم عليهم، بالرغم من كل ذلك، تظل الشخصية الإسرائيلية ذات تاريخ ملحوظ من الانحراف، سردت القصة جانباً منه، كما أنها لا تزال تعرض جوانب أخرى منه.

 

* * *

 

قال تعالى: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأعراف: 171].

في هذا المقطع حادثة جديدة عن الإسرائيليين الذين مرّ علينا جانب من قصصهم المتصلة بنعم الله عليهم وانحرافهم عن الله، ومِنْها قضيةُ رفعِ الجبل فوقهم ومطالبَتُهُم بالالتزامِ بمبادئ الله التي أُنْزِلت إليهم.

هنا يستثمر النص هذه الحادثة من حيث صِلَتُها بالعهودِ والمواثيق التي أُخذت منهم بالعمل بموجبها حَيْث انْتَقل النص من حادثةٍ خاصّةٍ: (المواثيقِ والعهودِ المتصلةِ بالإسرائيليين) إلى مطلق العهودِ والمواثيق المتصلة بالآدميين جميعاً حيث يقول النص: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا

 

______________________________________________________

الصفحة 69

 

كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) [الأعراف: 172].

 

هذه الحقيقةُ العباديةُ العامّةُ لها خُطورَتُها في ميدانِ السلوكِ البَشَري، وهي حقيقةُ كونِ الآدميّين قد فَطَرَهُم الله على التوحيد. ومِنَ المَعْلوم أنّ النَّصوصَ الفنيةَ تتَسم بكونها ذاتَ طابعٍ عامٍّ حتّى لو كان منطلقُها قضيةً خاصةً كما هو شأنُ هذا المقطع، والمهم هو أن القضية الخاصة ذاتَها مِثل قضيةِ أخذِ المواثيق مِن الإسرائيليين إنّما (تُوظَّفُ) في الواقعِ من أجلِ الإفادةِ منها وتجاوُزِها إلى إدراك الحقائقِ العامةِ المُتّصلةِ بالآدميينَ جميعاً.

إذاً، من حيث البناء الهندسي للنص، أمكننا أن نُدرك أهميةَ هذا المقطعِ الذي وَصَلَ بين قضيةٍ خاصةٍ وقضيةٍ عامة. لذلك ما إنِ انتهى المقطعُ مِن تقريرِ هذِهِ الحقيقةِ حتّى عادَ إلى الحديثِ عَنِ الإسرائيليينَ مِنْ جديد، فقدَّمَ لَنَا شريحةً جديدةً مِنْ سُلوكِهم، يقول النص: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف: 175 ـ 176].

بهذه الشريحة القصصية ينتهي العُنْصُر القَصَصيُ الذي تحدَّث عَنْ سلوكِ الإسرائيليين. تتَحَدَّثُ هذِهِ الأُقصوصةُ عنِ أحَدِ الأشخاصِ الذين آمَنُوا ثم ارتَدُّوا إيثاراً لمتاعِ الحياةِ الدنيا، وسواء أكانت هذه الشخصية التي اختلف المفسرون في تحديد زمانها ومكانها من حيث كونها إسرائيلية أو غيرها، ومن حيث كونها من البائدين أو المعاصرين لرسالة الإسلام، ففي الحالات جميعاً يعنينا منها ونحن نتحدث عن عمارة النص أنها وُظّفت من أجل هدف فكري خطير هو: إن متاع الحياة الدنيا هو السبب في جعل الأشخاص الذين خبروا حقيقة مبادئ الله، أن ينسلخوا عنها لمجرد إيثار المتعة العابرة. وقد قدّم

 

______________________________________________________

الصفحة 70

 

النص تشبيهاً لافتاً للنظر لتقرير هذه الحقيقة حينما ربط بين أمثلة هذه الشخصية وبين أمثلة الكلاب الذين يلهثون في الحالات جميعاً سواء تُركوا أو طردوا، حيث ان أمثلة هؤلاء الأشخاص الذين خبروا الحقائق ثم لم يعملوا بها يبقون على ضلالهم في حالة إيثارهم متاعَ الحياةِ الدُّنيا فَهُم ضالّون، سواء وُعِظُوا أم لَمْ يُوْعَظُوا، ففي الحالتين هم مشدودون إلى ذَوَاتِهم ومحاولةِ إشباعها بأيَّ ثمنٍ كان.

ومهما يكن، فإنَّ الأُقصوصةَ أو الحكايةَ المذكورة، خُتِمَ بها العُنْصُرُ القصصيُّ الذي تحدَّثَ عَنْ سلوكِ الإسرائيليين، كما يُمكنُ القولُ بأنَّ هذه الحكايةَ عُنْصُرٌ مُسْتَقِلٌّ قدَّمَهُ النّصُّ بعدَ انتِهائه مِنَ الحَديثِ عنِ الإسرائيليينَ وانتقالِهِ إلى دلالةٍ فكريةٍ جديدةٍ في السُّورة بحيث تكون قضية العهودِ والمواثيقِ التي أخذها الله على الإسرائيليين هي خاتمة العُنْصُر القصصي والانتقالُ إلى المواثيقِ التي أخَذَها الله على مُطْلََقِ الآدميين هو العُنْصُرَ الفكريَّ الجديدَ الذي تتجه السورة إليه.

والمهم هو، أن سورة الأعراف تبدأ الآن بالحديث عن ظواهر السلوكِ العبادي بعامة، وسَتُخْتَمُ بهذِهِ الظواهِرِ على نَسَقِ البِدَايةِ التي افتُتحت السورةُ بها، حيث كان الحديث عن الإسرائيليين، مجرد عنصر قصصي (موظّف) لإنارة هذه الظواهر العبادية، وسنرى أن هذه الظواهر تظل حائمةً على الإيمان بالله وما يضاده من السلوك المنحرف، حيث يتخلّلها طرحٌ جديدٌ لمجموعة من الدلالات الفكرية التي يستهدفها النص وهي دلالاتٌ تتجانس مع مقدمة السورة التي بدأت بطرح مفهوم التبليغ الإسلامي وضرورة تحمّل مسؤوليته مهما كلّف ذلك من ثمن. ثم المطالبة بالإلتزام بمبادئ الله وعدم إتخاذ مَن هو دون الله وليّاً، ثم التذكير بمعطيات الله، ثم التلويح بالجزاء المترتب على السلوك دنيوياً وأخروياً. كل أولئك سنجد إنعكاساتها على خاتمة السورة، مما يكشف عن

 

______________________________________________________

الصفحة 71

 

المزيد من التلاحم الفني بين أجزاء السورة الكريمة.

 

* * *

 

قال تعالى: (سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ * مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف: 177 ـ 181].

في هذا المقطع جملة من الحقائق العبادية المرتبطة بالهيكل العام للسورة إلاّ أنها تصبّ في رافدٍ فكري خاص هو: إنشطار الآدميين إلى مؤمنين ومنحرفين، فالآية الأخيرة مثلاً: (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ) مؤشّرٌ واضح إلى أنّ مِن الآدميين مَن يبلغ رسالة الله، وهي نفس المقدمة التي افتُتحت بها سورة الأعراف عندما طالبت بعملية التبليغ لرسالة الله، يقابل ذلك، اممٌ أخرى يسمها طابع الانحراف، وهذه الأمم أو الأفراد لم يتركهم النصُ دون أن يُدلّل على تخلّفهم النفسي والفكري حتى يُسقطهم تماماً عن الحساب فلا تبقى لهم أية قيمة اجتماعية في نظر المتلقّي، لقد وصفهم النص بثلاث سمات هي كونهم (لهم قلوب لا يفقهون بها) (لهم أعين لا يبصرون بها) (لهم آذان لا يسمعون بها). وإذا افتقد الشخصُ كلاً من القلب والبصر والسمع حينئذٍ لا يبقى من شخصيته غير الهيكل الحيواني، وهو ما أكّده النص بوضوح حينما ربط بين أمثلة هذا الشخص وبين الحيوانات (الأنعام) حتى أنه جعل أمثلة هذا الشخص أشد تفاهة من الأنعام (أولئك كالأنعام بل هم أضلّ).

بعد ذلك تقدّم النصُ بطرح دلالات أخرى تحوم على نفس الفكرة

 

______________________________________________________

الصفحة 72

 

المذكورة عبْر ربطها بالمجتمع المعاصر لرسالة الإسلام وهو الهدف الرئيسي بطبيعة الحال: يقول النص: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ...الخ) [الأعراف: 185].

لقد انتقل النص من الحديث عن المنحرفين بعامة إلى المنحرفين في زمن رسالة الإسلام حيث ذكّرهم بسويّة شخصية محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبظواهر الإبداع الكوني. طبيعياً، إن الربط بين شخصية صاحب الرسالة والإبداع الكوني يظل من الإحكام الفني بمكان، إذا أخذنا بنظر الاعتبار (وحدة) الفاعلية الكونية: حيث أن الذهن يتداعى من مشاهدته لظواهر حسيّة، إلى الظواهر الفكرية مثل: الإيمان برسالة الإسلام.

ثم، يُواصل النصُ القرآني الكريمُ الحديث عن هؤلاء المنحرفين المشكّكين برسالة الإسلام منتقلاً من تشكيكهم بما هو (حاضر) ـ وهي الرسالة ـ إلى ما هو (غيبيّ): (يسألونك عن الساعة أيّان مُرساها قل إنما علمها عند ربّي لا يجلّيها لوقتها إلاّ هو).

واضحٌ أنّ النص في نفس الوقت الذي ينقل من خلاله سلوكَ المنحرفين، من خلال سؤالهم المتقدم عن الساعة، يتجه إلى عرض الحقيقة الكونية العامة عن قيام الساعة، فيحدد دلالتها للآدميين جميعاً، مبيّناً أنها تنتسب إلى الغيب، وفقاً لحكمة الله تعالى. لذلك، ما أن انتهى النص من تقرير هذه الحقيقة الكونية المتصلة بالغيب حتى وَصَلَ بينها وبين حقيقة غيبية أخرى،إلا أنها لا تتصل بما هو كوني بل بما هو فردي:

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ...) [الأعراف: 188].

هذه الحقيقة الفردية تقول: إن الآدميين يجهلون أسرار الغيب وإلاّ لو

 

______________________________________________________

الصفحة 73

 

كانوا على معرفة كاملة بذلك، لاختطوا من السلوك ما يجتذب إليهم الخير أيّاً كان، وهذا يعني (من خلال الإيحاء غير المباشر) ان الشخصية الإسلامية ينبغي أن تلتزم بمبادئ الله تعالى، دون أن تدرك بالضرورة منابع الحكمة الكامنة وراء هذه الظاهرة أو تلك.

بعد ذلك انتقل النص إلى قضية المولد البشري، وهي القضية التي طرحتها السورة في مقدمتها، كما لحظنا، إلا أنه الآن ربط بين هذه القضية وبين حصيلتها التي واكبها الانحراف.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الأعراف: 189 ـ 190]. لا نغفل، ان مقدمة السورة التي تحدثت عن المولد البشري، أشارت إلى أن الناس قليلاً ما يشكرون، كما أشارت إلى أن الشيطان الذي زيّن الخطيئة للآدميين لوّح أيضاً ـ من خلال محاورته مع الله تعالى ـ بأنه لا تجد أكثرهم شاكرين. وهذا يعني أن هذا المقطع يشكل إنماءً عضوياً لدلالة فكرية سابقة طُرِحت في مقدمة السورة.

وأياً كان، فإن هذا الربط بين مقدمة السورة وخاتمتها، يظل مواكباً لنماذج أخرى من الربط وقفنا عليها، كما سنقف على نماذج أخرى في خاتمة السورة الكريمة..

 

* * *

 

قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ

 

______________________________________________________

الصفحة 74

 

كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) [الأعراف: 194 ـ 196].

هذا المقطع وما بعده يمثل خاتمة سورة الأعراف، وهو يتحدّث عنِ المُنْحرفين الذين يَدعُون مَنْ دُونَ الله. علماً بأنّ مقدمة السُّورةِ طالَبَتْ بِعَدَمِ اتّخاذِ مَنْ دُونَ الله أولياء، وها هو المقطع يتحدث عن نفس الفكرة ولكن بعد إنمائها بهذه الصورة الاستدلالية (إن الذين تدعون من دون الله عبادٌ أمثالكم) وهذا يعني أنهم لن يستطيعوا ممارسة أية فاعلية. والدليل على ذلك هو: (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا... الخ).

مقدمةُ السورةِ قالت: (لا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أولياء) [الأعراف: 3] وهذه مطالَبَةٌ مُجْمَلة، فَصَّلَتْها خاتِمةُ السورةِ بالنحو الذي لحظناه حيثُ استدلّتْ على عدمِ فائدةِ مَن يُتَخّذُ دُونَ الله وَلِيّاً فليسَ لهم أرجلٌ أو أيد أو أعينٌ أو آذَانٌ ترشح الفاعليةُ من خلالها.

وقد يَسْأَل المُتَلقّي: لماذا يتمُّ الاستدلالُ بهذا النحو المفصّلِ الذي يتَحدَّثُ عن الأرجلِ والأيدي والأبصار والأسماع؟ الحق: إنّ النص عندما تَحدّثَ في مقطعٍ سابقٍ عَنْ أنّ المنحرفينَ ليسَ لهم قلوبٌ يَفْقَهُونَ بِها ولا أعينٌ يُبْصِرون بها ولا آذان يَسْمَعُون بها، حينئذ لا بُدَّ أنْ يُقَدِّمَ النّصُ في الاستدلالِ على موضوعٍ ما يتجانَسُ مَعَ التّفْصِيلِ المتقدمِ عن سماتِ المنحرفينَ... والمهمّ، عندما يُطالِبُ النّصُ بعدمِ اتخاذِ مَنْ دونَ الله ولياً ويُنكِرُ على المنحرفينَ سُلوكَهُمْ المضادّ، حينئذٍ يتقدم إلى المؤمنين الذِين اتَّخَذُوا الله ولياً ـ على سبيلِ التقابل ـ مُوضّحاً ذَلِك مِنْ خِلالِ الفقرةِ الآتية:

(إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) ... وحين يتخذُ المؤمنون الله وليّاً لهُم، وَهُوَ يَتَولاّهُمْ حينئذٍ لا سبيلَ لأَحَدٍ عليهم مهما كانت فاعلياته، وهذا ما يستتبع سلوكاً ينبغي أن يتسم بالتّسامُحِ حِيالَ المُنْحَرِفين

 

______________________________________________________

الصفحة 75

 

الذِين اتّخَذُوا مَنْ دونَ الله أولياء لهم حيث طالَبَ الله النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بالسمة الأخلاقية الآتية: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199] لكن، ولأنَّ المؤمنَ قَدْ تنتابُه لحظاتٌ مِنَ الضعفِ، رسَمَ النصُّ لَهُ مبادئ كفيلة بِمَسْح لحظاتِ الضعفِ المذكورة قائلاً له: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف: 200 ـ 201]. لا نغْفلُ عمّا طرحَتْهُ مقدمة سورةِ الأعرافِ من سمة للمنحرفين وهي أن الذين يتبعون من دون الله أولياء، هؤلاء خاطبتهم مقدمة السورة بأنكم (قليلاً ما تَذَكّرُون) وهذا يعني (مِنْ زاويةِ البِنَاء الهندسي) أن المؤمنين ينبغي أن تطبعهم سمة مضادة لتلكم السمة، حيث أنهم (يتذكرون) إذا مسهم طائف من الشيطان (إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ).

إذاً، ينبغي ألاّ نغفل عن هذا التقابل الفنيّ بين مقدمة السورة وخاتمتها: مضافاً إلى أنماط التقابل الأخرى بينهما...

أخيراً، طَالَب النصُ المؤمنين بالتعامل مع الله بنحو أشد تصاعداً من خلال ثلاثة أنماط من السلوك، هي (1) الانصات للقرآن أو المبادئ بعامة (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف: 204]. (2) ذِكر الله (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ...) [الأعراف: 205]. (3) ممارسة التقويم أو المعرفة أو التثمين المطلوب للمبدع (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) [الأعراف: 206]. وبهذه الآية تُختم سورة الأعراف التي بدأت مقدمتُها بالمطالبة بتبليغ رسالة الله دون توقف، فاتباع مبادئ الله، وعدم اتخاذ مَن دونه أولياء، (المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ

 

______________________________________________________

الصفحة 76

 

أَوْلِيَاءَ...) [الأعراف: 1 ـ 3] وهذه الأفكار المطروحة في المقدمة إجمالاً أنمتها خاتمةُ السورة بهذا التفصيل الذي وقفنا عليه، كما أن وسط السورة التي تضمنت بخاصة عنصراً قصصياً هو قصص موسى والإسرائيليين في أوسع الحَيواتِ الطولية لهما، هذا الوسط كما لحظناه قد (وُظّف) لإنارة الأفكار التي طرحتها مقدمة السورة وخاتمتها، مما يقتادنا إلى إعادة التذكير بالأهمية الفنية لسور القرآن الكريم ومنها (سورة الأعراف) حيث لحظنا كيفية تلاحم مقدمة السورة ووسطها وخاتمتها، وهو تلاحمٌ لا تنحصر جماليته في البناء الهندسي للسورة فحسب بل بما يتركه التجانس بين الأفكار من أثر نفسي في عملية التلقّي من حيث تعميق الدلالات التي يستهدفها النص، ومن ثم محاولة تعديل السلوك من خلال الفن، بالنحو الذي وقفنا عليه متصلاً.

 

* * *

 

______________________________________________________

الصفحة 77


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=531
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29