فَهَدىَ ٧ وَ وَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنىَ ٨ فَأَمَّا اَلْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ ٩ وَ أَمَّا اَلسَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ ١٠ وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ١١﴾
(بيان)
قيل: انقطع الوحي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أياما حتى قالوا: إن ربه ودعه فنزلت السورة فطيب الله بها نفسه، و السورة تحتمل المكية و المدنية.
قوله تعالى: ﴿وَ اَلضُّحىَ وَ اَللَّيْلِ إِذَا سَجىَ﴾ إقسام، و الضحى على ما في المفردات، انبساط الشمس و امتداد النهار و سمي الوقت به، و سجو الليل سكونه و هو غشيان ظلمته.
قوله تعالى: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ مَا قَلىَ﴾ التوديع الترك، و القلى بكسر القاف البغض أو شدته، و الآية جواب القسم، و مناسبة نور النهار و ظلمة الليل لنزول الوحي و انقطاعه ظاهرة.
قوله تعالى: ﴿وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ اَلْأُولىَ﴾ في معنى الترقي بالنسبة إلى ما تفيده الآية السابقة من كونه (ص) على ما هو عليه من موقف الكرامة و العناية الإلهية كأنه قيل: أنت على ما كنت عليه من الفضل و الرحمة ما دمت حيا في الدنيا و حياتك الآخرة خير لك من حياتك الدنيا.
قوله تعالى: ﴿وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى﴾ تقرير و تثبيت لقوله: ﴿وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ اَلْأُولى﴾ و قد اشتمل الوعد على عطاء مطلق يتبعه رضي مطلق.
و قيل: الآية ناظرة إلى الحياتين جميعا دون الحياة الآخرة فقط.
قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى﴾ الآية و ما يتلوها من الآيتين إشارة إلى بعض نعمه تعالى العظام عليه (ص) فقد مات أبوه و هو في بطن أمه ثم ماتت أمه و هو ابن سنتين ثم مات جده الكفيل له و هو ابن ثمان سنين فكفله عمه و رباه.
و قيل: المراد باليتيم الوحيد الذي لا نظير له في الناس كما يقال: در يتيم، و المعنى أ لم يجدك وحيدا بين الناس فآوى الناس إليك و جمعهم حولك.
قوله تعالى: ﴿وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدىَ﴾ المراد بالضلال عدم الهداية و المراد بكونه (ص) ضالا حالة في نفسه مع قطع النظر عن هدايته تعالى فلا هدى له (ص) و لا لأحد من الخلق إلا بالله سبحانه فقد كانت نفسه في نفسها ضالة و إن كانت الهداية الإلهية ملازمة لها منذ وجدت فالآية في معنى قوله تعالى: ﴿مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا اَلْكِتَابُ وَ لاَ اَلْإِيمَانُ
﴾: الشورى: ٥٢، و من هذا الباب قول موسى على ما حكى الله عنه: ﴿فَعَلْتُهَا إِذاً وَ أَنَا مِنَ اَلضَّالِّينَ ﴾: الشعراء: ٢٠ أي لم أهتد بهدى الرسالة بعد.
و يقرب منه ما قيل: إن المراد بالضلال الذهاب من العلم كما في قوله: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا اَلْأُخْرى﴾: البقرة: ٢٨٢، و يؤيده قوله: ﴿وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ اَلْغَافِلِينَ﴾: يوسف: ٣.
و قيل المعنى وجدك ضالا بين الناس لا يعرفون حقك فهداهم إليك و دلهم عليك.
و قيل: إنه إشارة إلى ضلاله في طريق مكة حينما كانت تجيء به حليمة بنت أبي ذؤيب من البدو إلى جده عبد المطلب على ما روي.
و قيل: إشارة إلى ما روي من ضلاله في شعاب مكة صغيرا.
و قيل: إشارة إلى ما روي من ضلاله في مسيره إلى الشام مع عمه أبي طالب في قافلة ميسرة غلام خديجة.
و قيل: غير ذلك و هي وجوه ضعيفة ظاهرة الضعف.
قوله تعالى: ﴿وَ وَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنى﴾ العائل الفقير الذي لا مال له و قد كان (ص) فقيرا لا مال له فأغناه الله بعد ما تزوج بخديجة بنت خويلد (عليه السلام) فوهبت له مالها و كان لها مال كثير، و قيل المراد بالإغناء استجابة دعوته.
قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا اَلْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ﴾ قال الراغب: القهر الغلبة و التذليل معا و يستعمل في كل واحد منهما، انتهى.
قوله تعالى: ﴿وَ أَمَّا اَلسَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ﴾ النهر هو الزجر و الرد بغلظة.
قوله تعالى: ﴿وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ التحديث بالنعمة ذكرها قولا و إظهارها فعلا و ذلك شكرها، و هذه الأوامر عامة للناس و إن كانت موجهة إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .
و الآيات الثلاث متفرعة على الآيات الثلاث التي تسبقها و تذكر نعمه تعالى عليه كأنه قيل: فقد وجدت ما يجده اليتيم من ذلة اليتيم و انكساره فلا تقهر اليتيم باستذلاله في نفسه أو ماله، و وجدت مرارة حاجة الضال إلى الهدى و العائل إلى الغنى فلا تزجر سائلا يسألك رفع حاجته إلى هدى أو معاش، و وجدت أن ما عندك نعمة أنعمها عليك ربك بجوده و كرمه و رحمته فاشكر نعمته بالتحديث بها و لا تسترها.
(بحث روائي)
في تفسير القمي، ":في قوله تعالى: ﴿وَ اَلضُّحىَ﴾ قال: إذا ارتفعت الشمس ﴿وَ اَللَّيْلِ إِذَا سَجىَ﴾ قال: إذا أظلم.
و فيه،" :في قوله تعالى ﴿وَ مَا قَلىَ﴾ قال: لم يبغضك.
و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: ﴿وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضىَ﴾:
أخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا ﴿وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضىَ﴾.
و فيه، أخرج العسكري في المواعظ و ابن لآل و ابن النجار عن جابر بن عبد الله قال : دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على فاطمة و هي تطحن بالرحى و عليها كساء من حلة الإبل فلما نظر إليها قال: يا فاطمة تعجلي فتجرعي مرارة الدنيا لنعيم الآخرة غدا فأنزل الله ﴿وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى﴾.
أقول: تحتمل الرواية نزول الآية وحدها بعد نزول بقية آيات السورة قبلها ثم الإلحاق و تحتمل نزولها وحدها ثانيا.
و فيه، أخرج ابن المنذر و ابن مردويه و أبو نعيم في الحلية من طريق حرب بن شريح قال : قلت لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين: أ رأيت هذه الشفاعة التي يتحدث بها أهل العراق أ حق هي؟ قال: إي و الله حدثني عمي محمد بن الحنفية عن علي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: أشفع لأمتي حتى يناديني ربي: أ رضيت يا محمد؟ فأقول: نعم يا رب رضيت.
ثم أقبل علي فقال: إنكم تقولون يا معشر أهل العراق، إن أرجى آية في كتاب الله:
﴿يَا عِبَادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلىَ أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً﴾ قلت: إنا لنقول ذلك، قال: فكلنا أهل البيت نقول: إن أرجى آية في كتاب الله ﴿وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى﴾ الشفاعة.
و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن ابن الجهم عن الرضا (عليه السلام) في مجلس المأمون قال: قال الله تعالى لنبيه محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) : ﴿أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى﴾ يقول: أ لم يجدك وحيدا فآوى إليك الناس؟ ﴿وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ﴾ يعني عند قومك ﴿فَهَدىَ﴾ أي هداهم إلى معرفتك؟ ﴿وَ وَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنىَ﴾ يقول: أغناك بأن جعل دعاءك مستجابا؟ فقال
المأمون: بارك الله فيك يا ابن رسول الله.
و فيه، عن البرقي بإسناده عن عمرو بن أبي نصر قال : حدثني رجل من أهل البصرة قال: رأيت الحسين بن علي (عليه السلام) و عبد الله بن عمر يطوفان بالبيت فسألت ابن عمر فقلت: قول الله تعالى: ﴿وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ قال: أمره أن يحدث بما أنعم الله عليه.
ثم إني قلت للحسين بن علي (عليه السلام): قول الله تعالى: ﴿وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ قال: أمره أن يحدث بما أنعم الله عليه من دينه.
و في الدر المنثور، عن البيهقي عن الحسن بن علي في قوله: ﴿وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ قال: إذا أصبت خيرا فحدث إخوانك.
و فيه، أخرج أبو داود عن جابر بن عبد الله عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال : من أبلى بلاء فذكره فقد شكره و من كتمه فقد كفره، و من تحلى بما لم يعط فإنه كلابس ثوب زور.
(٩٤) سورة أ لم نشرح مكية أو مدنية و هي ثمان آيات (٨)
[سورة الشرح (٩٤): الآیات ١ الی ٨ ]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ١ وَ وَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ٢ اَلَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ٣ وَ رَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ٤ فَإِنَّ مَعَ اَلْعُسْرِ يُسْراً ٥ إِنَّ مَعَ اَلْعُسْرِ يُسْراً ٦ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ٧ وَ إِلىَ رَبِّكَ فَارْغَبْ ٨﴾
(بيان)
أمر بالنصب في الله و الرغبة إليه توصل إليه بتقدمة الامتنان و السورة تحتمل المكية و المدنية و سياق آياتها أوفق للمدنية.
و في بعض الروايات عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) أن الضحى و أ لم نشرح سورة
واحدة، و يروى ذلك أيضا عن طاووس و عمر بن عبد العزيز قال الرازي في التفسير الكبير بعد نقله عنهما و الذي دعاهما إلى ذلك هو أن قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ﴾ كالعطف على قوله: ﴿أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً﴾ و ليس كذلك لأن الأول كان نزوله حال اغتمام الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) من إيذاء الكفار فكانت حال محنة و ضيق صدر، و الثاني يقتضي أن يكون حال النزول منشرح الصدر طيب القلب فأنى يجتمعان انتهى.
و فيه أن المراد بشرح صدره (ص) في الآية جعله بحيث يسع ما يلقى إليه من الحقائق و لا يضيق بما ينزل عليه من المعارف و ما يصيبه من أذى الناس في تبليغها كما سيجيء لا طيب القلب و السرور كما فسره.
و يدل على ذلك- ما رواه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : لقد سألت ربي مسألة وددت أني لم أسأله قلت: أي رب أنه قد كان أنبياء قبلي منهم من سخرت له الريح و منهم من كان يحيي الموتى. قال: فقال: أ لم أجدك يتيما فآويتك؟ قال: قلت: بلى قال: أ لم أجدك ضالا فهديتك؟ قال: قلت:
بلى أي رب. قال: أ لم أشرح لك صدرك و وضعت عنك وزرك؟ قال: قلت: بلى أي رب، و للكلام تتمة ستوافيك في تفسير سورة الإيلاف إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ قال الراغب: أصل الشرح بسط اللحم و نحوه يقال: شرحت اللحم و شرحته و منه شرح الصدر أي بسطته بنور إلهي و سكينة من جهة الله و روح منه قال تعالى: ﴿رَبِّ اِشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ ﴿أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ ﴿فَمَنْ شَرَحَ اَللَّهُ صَدْرَهُ﴾ انتهى.
و ترتب الآيات الثلاث الأول في مضامينها ثم تعليلها بقوله: ﴿فَإِنَّ مَعَ اَلْعُسْرِ يُسْراً﴾ الظاهر في الانطباق على حاله (ص) في أوائل دعوته و أواسطها و أواخرها ثم تكرار التعليل ثم تفريع آيتي آخر السورة كل ذلك يشهد على كون المراد بشرح صدره (ص) بسطه بحيث يسع ما يلقى إليه من الوحي و يؤمر بتبليغه و ما يصيبه من المكاره و الأذى في الله، و بعبارة أخرى جعل نفسه المقدسة مستعدة تامة الاستعداد لقبول ما يفاض عليها من جانب الله تعالى.
قوله تعالى: ﴿وَ وَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ اَلَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ﴾ الوزر الحمل الثقيل، و إنقاض الظهر كسره بحيث يسمع له صوت كما يسمع من السرير و نحوه عند استقرار شيء ثقيل
عليه، و المراد به ظهور ثقل الوزر عليه ظهورا بالغا.
و وضع الوزر إذهاب ما يحس من ثقله و جملة: ﴿وَ وَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ﴾ معطوفة على قوله: ﴿أَ لَمْ نَشْرَحْ﴾ إلخ لما أن معناه قد شرحنا لك صدرك.
و المراد بوضع وزره (ص) على ما يفيده السياق و قد أشرنا إليه إنفاذ دعوته و إمضاء مجاهدته في الله بتوفيق الأسباب فإن الرسالة و الدعوة و ما يتفرع على ذلك هي الثقل الذي حمله إثر شرح صدره.
و قيل: وضع الوزر إشارة إلى ما وردت به الرواية أن ملكين نزلا عليه و فلقا صدره و أخرجا قلبه و طهراه ثم رداه إلى محله و ستوافيك روايته.
و قيل: المراد بالوزر ما صدر عنه (ص) قبل البعثة، و قيل: غفلته عن الشرائع و نحوها مما يتوقف على الوحي مع تطلبه، و قيل: حيرته في بعض الأمور كأداء حق الرسالة، و قيل: الوحي و ثقله عليه في بادئ أمره، و قيل: ما كان يرى من ضلال قومه و عنادهم مع عجزه عن إرشادهم، و قيل: ما كان يرى من تعديهم و مبالغتهم في إيذائه، و قيل: همه لوفاة عمه أبي طالب و زوجه خديجة، و قيل: الوزر المعصية و رفع الوزر عصمته، و قيل: الوزر ذنب أمته و وضعه غفرانه.
و هذه الوجوه بعضها سخيف و بعضها ضعيف لا يلائم السياق، و هي بين ما قيل به و بين ما احتمل احتمالا.
قوله تعالى: ﴿وَ رَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ رفع الذكر إعلاؤه عن مستوى ذكر غيره من الناس و قد فعل سبحانه به ذلك، و من رفع ذكره أن قرن الله اسمه (ص) باسمه فاسمه قرين اسم ربه في الشهادتين اللتين هما أساس دين الله، و على كل مسلم أن يذكره مع ربه كل يوم في الصلوات الخمس المفروضة، و من اللطف وقوع الرفع بعد الوضع في الآيتين.
قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ اَلْعُسْرِ يُسْراً﴾ لا يبعد أن يكون تعليلا لما تقدم من وضع الوزر و رفع الذكر فما حمله الله من الرسالة و أمر به من الدعوة و ذلك أثقل ما يمكن لبشر أن يحمله كان قد اشتد عليه الأمر بذلك، و كذا تكذيب قومه دعوته و استخفافهم به و إصرارهم على إمحاء ذكره كان قد اشتد عليه فوضع الله وزره الذي حمله بتوفيق الناس لإجابة دعوته و رفع ذكره الذي كانوا يريدون إمحاءه و كان ذلك جريا على سنته تعالى في الكون من الإتيان باليسر بعد العسر فعلل رفع الشدة عنه (ص) بما أشار إليه من
سنته، و على هذا فاللام في «العسر» للجنس دون الاستغراق و لعل السنة سنة تحول الحوادث و تقلب الأحوال و عدم دوامها.
و عن الزمخشري في الكشاف، أن الفاء في ﴿فَإِنَّ مَعَ اَلْعُسْرِ﴾ إلخ فصيحة و الكلام مسوق لتسليته (ص) بالوعد الجميل.
قال: كان المشركون يعيرون رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين بالفقر و الضيقة حتى سبق إلى ذهنه الشريف أنهم رغبوا عن الإسلام لافتقار أهله و احتقارهم فذكره سبحانه ما أنعم به عليه من جلائل النعم ثم قال: ﴿إِنَّ مَعَ اَلْعُسْرِ يُسْراً﴾ كأنه قال: خولناك ما خولناك فلا تيأس من فضل الله فإن مع العسر الذي أنتم فيه يسرا.
و ظاهره أن اللام في العسر للعهد دون الجنس و أن المراد باليسر ما رزقه الله المؤمنين بعد من الغنائم الكثيرة.
و هو ممنوع فذهنه الشريف (ص) أجل من أن يخفى عليه حالهم و أنهم إنما يرغبون عن دعوته استكبارا على الحق و استعلاء على الله على أن القوم لم يرغبوا في الإسلام حتى بعد ظهور شوكته و إثراء المؤمنين و قد أيأس الله نبيه من إيمان أكثرهم حيث قال: ﴿لَقَدْ حَقَّ اَلْقَوْلُ عَلىَ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ إلى أن قال ﴿وَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾: يس: ١٠ و الآيات مكية و قال: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾: البقرة: ٦ و الآية مدنية.
و لو حمل اليسر بعد العسر على شوكة الإسلام و رفعته بعد ضعته مع أخذ السورة مكية لم يكن به كثير بأس.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَعَ اَلْعُسْرِ يُسْراً﴾ تكرار للتأكيد و التثبيت و قيل: استئناف و ذكروا أن في الآيتين دلالة على أن مع العسر الواحد يسران بناء على أن المعرفة إذا أعيدت ثانية في الكلام كان المراد بها عين الأولى بخلاف النكرة كما أنه لو قيل: إذا اكتسبت الدرهم أو درهما فأنفق الدرهم كان المراد بالثاني هو الأول بخلاف ما لو قيل:
إذا اكتسبت درهما فأنفق درهما و ليست القاعدة بمطردة.
و التنوين في ﴿يُسْراً﴾ للتنويع لا للتفخيم كما ذكره بعضهم، و المعية معية التوالي دون المعية بمعنى التحقق في زمان واحد.
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَ إِلىَ رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) متفرع ـ
على ما بين قبل من تحميله الرسالة و الدعوة و منه تعالى عليه بما من من شرح الصدر و وضع الوزر و رفع الذكر و كل ذلك من اليسر بعد العسر.
و عليه فالمعنى إذا كان العسر يأتي بعده اليسر و الأمر فيه إلى الله لا غير فإذا فرغت مما فرض عليك فأتعب نفسك في الله بعبادته و دعائه و ارغب فيه ليمن عليك بما لهذا التعب من الراحة و لهذا العسر من اليسر.
و قيل: المراد إذا فرغت من الفرائض فانصب في النوافل، و قيل: إذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء، و ما يتضمنه القولان بعض المصاديق.
و قيل: المعنى إذا فرغت من الغزو فاجتهد في العبادة و قيل: المراد إذا فرغت من دنياك فانصب في آخرتك و قيل غير ذلك و هي وجوه ضعيفة.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن أبي بن كعب أن أبا هريرة قال: يا رسول الله ما أول ما رأيت من أمر النبوة؟ فاستوى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) جالسا و قال: لقد سألت أبا هريرة إني لفي صحراء ابن عشرين سنة و أشهرا إذا بكلام فوق رأسي و إذا رجل يقول لرجل: أ هو هو؟ فاستقبلاني بوجوه لم أرها لخلق قط، و أرواح لم أجدها في خلق قط و ثياب لم أجدها على أحد قط فأقبلا إلي يمشيان حتى أخذ كل واحد منهما بعضدي لا أجد لأحدهما مسا.
فقال أحدهما لصاحبه: أضجعه فأضجعني بلا قصر و لا هصر فقال أحدهما: أفلق صدره فحوى أحدهما إلى صدري ففلقه فيما أرى بلا دم و لا وجع فقال له: أخرج الغل و الحسد فأخرج شيئا كهيئة العلقة ثم نبذها فطرحها فقال له: أدخل الرأفة و الرحمة فإذا مثل الذي أخرج شبه الفضة ثم هز إبهام رجلي اليمنى و قال: اغد و أسلم فرجعت بها أغدو بها رقة على الصغير و رحمة للكبير. أقول: و في نقل بعضهم كما في روح المعاني، ابن عشر حجج مكان قوله: ابن عشرين سنة و أشهرا، و في بعض الروايات نقل القصة عند نزول سورة اقرأ باسم ربك و في بعضها كما في صحيح البخاري و مسلم و الترمذي و النسائي نقل القصة عند إسراء النبي.
و القصة على أي حال من قبيل التمثل بلا إشكال، و قد أطالوا البحث في توجيه ما
تتضمنه على أنها واقعة مادية فتمحلوا بوجوه لا جدوى في التعرض لها بعد فساد أصلها.
و فيه، أخرج أبو يعلى و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن حبان و ابن مردويه و أبو نعيم في الدلائل عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال : أتاني جبرئيل فقال:
إن ربك يقول: تدري كيف رفعت ذكرك؟ قلت: الله أعلم قال: إذا ذكرت ذكرت معي.
و فيه، أخرج عبد الرزاق و ابن جرير و الحاكم و البيهقي عن الحسن قال : خرج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يوما مسرورا و هو يضحك و يقول: لن يغلب عسر يسرين ﴿فَإِنَّ مَعَ اَلْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ اَلْعُسْرِ يُسْراً﴾.
و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَ إِلىَ رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ معناه فإذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربك في الدعاء و ارغب إليه في المسألة:. قال:
و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).
(٩٥) سورة التين مكية و هي ثمان آيات (٨)
[سورة التين (٩٥): الآیات ١ الی ٨ ]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ وَ اَلتِّينِ وَ اَلزَّيْتُونِ ١ وَ طُورِ سِينِينَ ٢ وَ هَذَا اَلْبَلَدِ اَلْأَمِينِ ٣ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ٤ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ٥ إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ٦ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ٧ أَ لَيْسَ اَللَّهُ بِأَحْكَمِ اَلْحَاكِمِينَ ٨﴾
(بيان)
تذكر السورة البعث و الجزاء و تسلك إليه من طريق خلق الإنسان في أحسن تقويم ثم اختلافهم بالبقاء على الفطرة الأولى و خروجهم منها بالانحطاط إلى أسفل سافلين و وجوب التمييز بين الطائفتين جزاء باقتضاء الحكمة.
و السورة مكية و تحتمل المدنية و يؤيد نزولها بمكة قوله: ﴿وَ هَذَا اَلْبَلَدِ اَلْأَمِينِ﴾ و ليس بصريح فيه لاحتمال نزولها بعد الهجرة و هو (ص) بمكة.
قوله تعالى: ﴿وَ اَلتِّينِ وَ اَلزَّيْتُونِ وَ طُورِ سِينِينَ وَ هَذَا اَلْبَلَدِ اَلْأَمِينِ﴾ قيل: المراد بالتين و الزيتون الفاكهتان المعروفتان أقسم الله بهما لما فيهما من الفوائد الجمة و الخواص النافعة، و قيل المراد بهما شجرتا التين و الزيتون، و قيل: المراد بالتين الجبل الذي عليه دمشق و بالزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس، و لعل إطلاق اسم الفاكهتين على الجبلين لكونهما منبتيهما و لعل الإقسام بهما لكونهما مبعثي جم غفير من الأنبياء و قيل غير ذلك.
و المراد بطور سينين الجبل الذي كلم الله تعالى فيه موسى بن عمران (عليه السلام)، و يسمى أيضا طور سيناء.
و المراد بهذا البلد الأمين مكة المشرفة لأن الأمن خاصة مشرعة للحرم و هي فيه قال تعالى: ﴿أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً﴾: العنكبوت: ٦٧ و في دعاء إبراهيم (عليه السلام) على ما حكى الله عنه: ﴿رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً﴾: البقرة: ١٢٦، و في دعائه ثانيا: ﴿رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً﴾: إبراهيم: ٣٥.
و في الإشارة بهذا إلى البلد تثبيت التشريف عليه بالتشخيص و توصيفه بالأمين إما لكونه فعيلا بمعنى الفاعل و يفيد معنى النسبة و المعنى ذي الأمن كاللابن و التامر و إما لكونه فعيلا بمعنى المفعول و المراد البلد الذي يؤمن الناس فيه أي لا يخاف فيه من غوائلهم ففي نسبة الأمن إلى البلد نوع تجوز.
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ جواب للقسم و المراد بكون خلقه في أحسن تقويم اشتمال التقويم عليه في جميع شئونه و جهات وجوده، و التقويم جعل الشيء ذا قوام و قوام الشيء ما يقوم به و يثبت فالإنسان و المراد به الجنس ذو أحسن قوام بحسب الخلقة.
و معنى كونه ذا أحسن قوام بحسب الخلقة على ما يستفاد من قوله بعد: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ اَلَّذِينَ﴾ إلخ صلوحه بحسب الخلقة للعروج إلى الرفيع الأعلى و الفوز بحياة خالدة عند ربه سعيدة لا شقوة معها، و ذلك بما جهزه الله به من العلم النافع و مكنه منه من العمل الصالح قال تعالى: ﴿وَ نَفْسٍ وَ مَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا﴾: الشمس: ٨ فإذا آمن بما علم و زاول صالح العمل رفعه الله إليه كما قال: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾: فاطر: ١٠، و قال: ﴿وَ لَكِنْ يَنَالُهُ اَلتَّقْوىَ مِنْكُمْ﴾: الحج: ٣٧.
و قال: ﴿يَرْفَعِ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾: المجادلة: ١١ و قال:
﴿فَأُولَئِكَ لَهُمُ اَلدَّرَجَاتُ اَلْعُلىَ﴾: طه: ٧٥ إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ارتفاع مقام الإنسان و ارتقائه بالإيمان و العمل الصالح عطاء من الله غير مجذوذ، و قد سماه تعالى أجرا كما يشير إليه قوله الآتي: ﴿فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ ظاهر الرد أن يكون بمعناه المعروف فأسفل منصوب بنزع الخافض، و المراد بأسفل سافلين مقام منحط هو أسفل من سفل من أهل الشقوة و الخسران و المعنى ثم رددنا الإنسان إلى أسفل من سفل من أهل العذاب.
و احتمل أن يكون الرد بمعنى الجعل أي جعلناه أسفل سافلين، و أن يكون بمعنى التغيير و المعنى ثم غيرناه حال كونه أسفل جمع سافلين، و المراد بالسفالة على أي حال الشقاء و العذاب.
و قيل: المراد بخلق الإنسان في أحسن تقويم ما عليه وجوده أوان الشباب من استقامة القوى و كمال الصورة و جمال الهيئة، و برده إلى أسفل سافلين رده إلى الهرم بتضعيف قواه الظاهرة و الباطنة و نكس خلقته فتكون الآية في معنى قوله تعالى: ﴿وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي اَلْخَلْقِ﴾: يس: ٦٨.
و فيه أنه لا يلائمه ما في قوله: ﴿إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ﴾ من الاستثناء الظاهر في المتصل فإن حكم الخلق عام في المؤمن و الكافر و الصالح و الطالح و دعوى أن المؤمن أو المؤمن الصالح مصون من ذلك مجازفة.
و كذا القول بأن المراد بالإنسان هو الكافر و المراد بالرد رده إلى جهنم أو إلى نكس الخلق و الاستثناء منقطع.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ أي غير مقطوع استثناء متصل من جنس الإنسان، و تفريع قوله: ﴿فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ عليه يؤيد كون المراد من رده إلى أسفل سافلين رده إلى الشقاء و العذاب.
قوله تعالى: ﴿فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ أَ لَيْسَ اَللَّهُ بِأَحْكَمِ اَلْحَاكِمِينَ﴾ الخطاب للإنسان باعتبار الجنس، و قيل للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المراد غيره، و ﴿فَمَا﴾ استفهامية توبيخية، و ﴿بِالدِّينِ﴾ متعلق بيكذبك، و الدين الجزاء و المعنى على ما قيل ما الذي يجعلك مكذبا بالجزاء يوم القيامة بعد ما جعلنا الإنسان طائفتين طائفة مردودة إلى أسفل سافلين و طائفة مأجورة أجرا غير ممنون.
و قوله: ﴿أَ لَيْسَ اَللَّهُ بِأَحْكَمِ اَلْحَاكِمِينَ﴾ الاستفهام للتقرير و كونه تعالى أحكم الحاكمين هو كونه فوق كل حاكم في إتقان الحكم و حقيته و نفوذه من غير اضطراب و وهن و بطلان فهو تعالى يحكم في خلقه و تدبيره بما من الواجب في الحكمة أن يحكم به الناس من حيث الإتقان و الحسن و النفوذ و إذا كان الله تعالى أحكم الحاكمين و الناس طائفتان مختلفتان اعتقادا و عملا فمن الواجب في الحكمة أن يميز بينهم بالجزاء في حياتهم الباقية و هو البعث.
فالتفريع في قوله: ﴿فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ﴾ من قبيل تفريع النتيجة على الحجة و قوله: ﴿أَ لَيْسَ اَللَّهُ بِأَحْكَمِ اَلْحَاكِمِينَ﴾ تتميم للحجة المشار إليها بما يتوقف عليه تمامها.
و المحصل أنه إذا كان الناس خلقوا في أحسن تقويم ثم اختلفوا فطائفة خرجت عن تقويمها الأحسن و ردت إلى أسفل سافلين و طائفة بقيت في تقويمها الأحسن و على فطرتها الأولى و الله المدبر لأمرهم أحكم الحاكمين، و من الواجب في الحكمة أن تختلف الطائفتان جزاء، فهناك يوم تجزى فيه كل طائفة بما عملت و لا مسوغ للتكذيب به.
فالآيات كما ترى في معنى قوله تعالى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ اَلْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾: ص: ٢٨، و قوله: ﴿أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ اِجْتَرَحُوا اَلسَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَ مَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾: الجاثية: ٢١.
و بعض من جعل الخطاب في قوله: ﴿فَمَا يُكَذِّبُكَ﴾ للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) جعل «ما» بمعنى من و الحكم بمعنى القضاء، و عليه فالمعنى إذا كان الناس مختلفين و لازم ذلك اختلاف جزائهم في يوم معد للجزاء فمن الذي ينسبك إلى الكذب بالجزاء أ ليس الله بأقضى القاضين فهو يقضي بينك و بين المكذبين لك بالدين.
و أنت خبير بأن فيه تكلفا من غير موجب.
بحث روائي
في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿وَ اَلتِّينِ وَ اَلزَّيْتُونِ وَ طُورِ سِينِينَ وَ هَذَا اَلْبَلَدِ اَلْأَمِينِ﴾ التين المدينة و الزيتون بيت المقدس و طور سينين الكوفة و هذا البلد الأمين مكة.
أقول: و قد ورد هذا المعنى في بعض الروايات عن موسى بن جعفر عن آبائه (عليه السلام)
عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لا يخلو من شيء،-و في بعضها: أن التين و الزيتون الحسن و الحسين و الطور علي و البلد الأمين النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ليس من التفسير في شيء.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله أن خزيمة بن ثابت و ليس بالأنصاري سأل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن البلد الأمين فقال: مكة.
(٩٦) سورة العلق مكية و هي تسع عشرة آية (١٩)
[سورة العلق (٩٦): الآیات ١ الی ١٩]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ اَلْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ٢ اِقْرَأْ وَ رَبُّكَ اَلْأَكْرَمُ ٣ اَلَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ٤ عَلَّمَ اَلْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ٥ كَلاَّ إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَيَطْغىَ ٦ أَنْ رَآهُ اِسْتَغْنىَ ٧ إِنَّ إِلىَ رَبِّكَ اَلرُّجْعىَ ٨ أَ رَأَيْتَ اَلَّذِي يَنْهى ٩ عَبْداً إِذَا صَلَّى ١٠ أَ رَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى اَلْهُدى ١١ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى ١٢ أَ رَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى ١٣ أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اَللَّهَ يَرى ١٤ كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ١٥ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ١٦ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ١٧ سَنَدْعُ اَلزَّبَانِيَةَ ١٨ كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَ اُسْجُدْ وَ اِقْتَرِبْ ١٩﴾
(بيان)
أمر للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بتلقي القرآن بالوحي منه تعالى و هي أول سورة نزلت من القرآن، و سياق آياتها لا يأبى نزولها دفعة واحدة كما سنشير إليه، و هي مكية قطعا.
قوله تعالى: ﴿اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلَّذِي خَلَقَ خَلَقَ اَلْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ قال الراغب:
و القراءة ضم الحروف و الكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل، و ليس يقال ذلك لكل
جمع لا يقال: قرأت القوم إذا جمعتهم، و يدل على ذلك أنه لا يقال: للحرف الواحد إذا تفوه به: قراءة انتهى.
و على أي حال، يقال: قرأت الكتاب إذا جمعت ما فيه من الحروف و الكلمات بضم بعضها إلى بعض في الذهن و إن لم تتلفظ بها، و يقال: قرأته إذا جمعت الحروف و الكلمات بضم بعضها إلى بعض في التلفظ، و يقال قرأته عليه إذا جمعت بين حروفه و كلماته في سمعه و يطلق عليها بهذا المعنى التلاوة أيضا قال تعالى: ﴿رَسُولٌ مِنَ اَللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً﴾: البينة: ٢.
و ظاهر إطلاق قوله: ﴿اِقْرَأْ﴾ المعنى الأول و المراد به الأمر بتلقي ما يوحيه إليه ملك الوحي من القرآن فالجملة أمر بقراءة الكتاب و هي من الكتاب كقول القائل في مفتتح كتابه لمن أرسله إليه: اقرأ كتابي هذا و اعمل به فقوله هذا أمر بقراءة الكتاب و هو من الكتاب.
و هذا السياق يؤيد أولا ما ورد أن الآيات أول ما نزل من القرآن على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .
و ثانيا أن التقدير اقرأ القرآن أو ما في معناه، و ليس المراد مطلق القراءة باستعمال «اقرأ» استعمال الفعل اللازم بالإعراض عن المفعول، و لا المراد القراءة على الناس بحذف المتعلق و إن كان ذلك من أغراض النزول كما قال: ﴿وَ قُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى اَلنَّاسِ عَلىَ مُكْثٍ وَ نَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً﴾: إسراء: ١٠٦، و لا أن قوله: ﴿بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ مفعول ﴿اِقْرَأْ﴾ و الباء زائدة و التقدير اقرأ اسم ربك أي بسمل.
و قوله: ﴿بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ متعلق بمقدر نحو مفتتحا و مبتدئا أو باقرأ و الباء للملابسة و لا ينافي ذلك كون البسملة المبتدأة بها السورة جزء من السورة فهي من كلام الله افتتح سبحانه بها و أمر أن يقرأ مبتدئا بها كما أمر أن يقرأ قوله: ﴿اِقْرَأْ بِاسْمِ﴾ إلخ ففيه تعليم بالعمل نظير الأمر بالاستثناء في قوله: ﴿وَ لاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اَللَّهُ ﴾الكهف: ٢٤ فافهم ذلك.
و في: قوله ﴿رَبِّكَ اَلَّذِي خَلَقَ﴾ إشارة إلى قصر الربوبية في الله عز اسمه و هو توحيد الربوبية المقتضية لقصر العبادة فيه فإن المشركين كانوا يقولون: إن الله سبحانه ليس له إلا الخلق و الإيجاد و أما الربوبية و هي الملك و التدبير فلمقربي خلقه من الملائكة و الجن و الإنس فدفعه الله بقوله: ﴿رَبِّكَ اَلَّذِي خَلَقَ﴾ الناص على أن الربوبية و الخلق له وحده.
و قوله: ﴿خَلَقَ اَلْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ المراد جنس الإنسان المتناسل و العلق الدم المنجمد
و المراد به ما يستحيل إليه النطفة في الرحم.
ففي الآية إشارة إلى التدبير الإلهي الوارد على الإنسان من حين كان علقة إلى حين يصير إنسانا تاما كاملا له من أعاجيب الصفات و الأفعال ما تتحير فيه العقول فلم يتم الإنسان إنسانا و لم يكمل إلا بتدبير متعاقب منه تعالى و هو بعينه خلق بعد خلق فهو تعالى رب مدبر لأمر الإنسان بعين أنه خالق له فليس للإنسان إلا أن يتخذه وحده ربا ففي الكلام احتجاج على توحيد الربوبية.
قوله تعالى: ﴿اِقْرَأْ وَ رَبُّكَ اَلْأَكْرَمُ اَلَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ اَلْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ أمر بالقراءة ثانيا تأكيدا للأمر الأول على ما هو ظاهر سياق الإطلاق.
و قيل: المراد به الأمر بالقراءة على الناس و هو التبليغ بخلاف الأمر الأول فالمراد به الأمر بالقراءة لنفسه، كما قيل: إن المراد بالأمرين جميعا الأمر بالقراءة على الناس، و الوجهان غير ظاهرين.
و قوله: ﴿وَ رَبُّكَ اَلْأَكْرَمُ﴾ أي الذي يفوق عطاؤه عطاء ما سواه فهو تعالى يعطي لا عن استحقاق و ما من نعمة إلا و ينتهي إيتاؤها إليه تعالى.
و قوله: ﴿اَلَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ الباء للسببية أي علم القراءة أو الكتابة و القراءة بواسطة القلم و الجملة حالية أو استئنافية، و الكلام مسوق لتقوية نفس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و إزالة القلق و الاضطراب عنها حيث أمر بالقراءة و هو أمي لا يكتب و لا يقرأ كأنه قيل: اقرأ كتاب ربك الذي يوحيه إليك و لا تخف و الحال أن ربك الأكرم الذي علم الإنسان القراءة بواسطة القلم الذي يخط به فهو قادر على أن يعلمك قراءة كتابه و أنت أمي و قد أمرك بالقراءة و لو لم يقدرك عليها لم يأمرك بها.
ثم عمم سبحانه النعمة فذكر تعليمه للإنسان ما لم يعلم فقال: ﴿عَلَّمَ اَلْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ و فيه مزيد تقوية لقلب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تطييب لنفسه.
و المراد بالإنسان الجنس كما هو ظاهر السياق و قيل: المراد به آدم (عليه السلام)، و قيل:
إدريس (عليه السلام) لأنه أول من خط بالقلم، و قيل: كل نبي كان يكتب و هي وجوه ضعيفة بعيدة عن الفهم.
قوله تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَيَطْغىَ أَنْ رَآهُ اِسْتَغْنىَ﴾ ردع عما يستفاد من الآيات السابقة أنه تعالى أنعم على الإنسان بعظائم نعم مثل التعليم بالقلم و سائر ما علم و التعليم
من طريق الوحي فعلى الإنسان أن يشكره على ذلك لكنه يكفر بنعمته تعالى و يطغى.
و قوله: ﴿إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَيَطْغىَ﴾ أن يتعدى طوره، و هو إخبار بما في طبع الإنسان ذلك كقوله: ﴿إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾: إبراهيم: ٣٤.
و قوله: ﴿أَنْ رَآهُ اِسْتَغْنىَ﴾ من الرأي دون الرؤية البصرية، و فاعل ﴿رَآهُ﴾ و مفعوله الإنسان. و جملة ﴿أَنْ رَآهُ اِسْتَغْنىَ﴾ في مقام التعليل أي ليطغى لأنه يعتقد نفسه مستغنيا عن ربه المنعم عليه فيكفر به، و ذلك أنه يشتغل بنفسه و الأسباب الظاهرية التي يتوصل بها إلى مقاصده فيغفل عن ربه من غير أن يرى حاجة منه إليه تبعثه إلى ذكره و شكره على نعمه فينساه و يطغى.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ إِلىَ رَبِّكَ اَلرُّجْعىَ﴾ الرجعى هو الرجوع و الظاهر من سياق الوعيد الآتي أنه وعيد و تهديد بالموت و البعث، و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و قيل: الخطاب للإنسان بطريق الالتفات للتشديد، و الأول أظهر.
قوله تعالى: ﴿أَ رَأَيْتَ اَلَّذِي يَنْهىَ عَبْداً إِذَا صَلَّى أَ رَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى اَلْهُدىَ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوىَ أَ رَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اَللَّهَ يَرىَ﴾ بمنزلة ذكر بعض المصاديق للإنسان الطاغي و هو كالتوطئة لوعيده بتصريح العقاب و النهي عن طاعته و الأمر بعبادته تعالى، و المراد بالعبد الذي كان يصلي هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على ما يستفاد من آخر الآيات حيث ينهاه (ص) عن طاعة ذلك الناهي و يأمره بالسجود و الاقتراب.
و سياق الآيات على تقدير كون السورة أول ما نزل من القرآن و نزولها دفعة واحدة يدل على صلاة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قبل نزول القرآن و فيه دلالة على نبوته قبل رسالته بالقرآن.
و أما ما ذكره بعضهم أنه لم يكن الصلاة مفروضة في أول البعثة و إنما شرعت ليلة المعراج على ما في الأخبار و هو قوله تعالى: ﴿أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلىَ غَسَقِ اَللَّيْلِ وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ﴾: إسراء: ٧٨.
ففيه أن المسلم من دلالتها أن الصلوات الخمس اليومية إنما فرضت بهيئتها الخاصة ركعتين ركعتين ليلة المعراج و لا دلالة فيها على عدم تشريعها قبل و قد ورد في كثير من السور المكية و منها النازلة قبل سورة الإسراء كالمدثر و المزمل و غيرهما ذكر الصلاة بتعبيرات مختلفة و إن لم يظهر فيها من كيفيتها إلا أنها كانت مشتملة على تلاوة شيء من القرآن و السجود.
و قد ورد في بعض الروايات صلاة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مع خديجة و علي في أوائل البعثة و إن لم يذكر كيفية صلاتهم.
و بالجملة قوله: ﴿أَ رَأَيْتَ﴾ بمعنى أخبرني، و الاستفهام للتعجيب، و المفعول الأول لقوله:
﴿أَ رَأَيْتَ﴾ الأول قوله: ﴿اَلَّذِي يَنْهىَ﴾ و لأرأيت الثالث ضمير عائد إلى الموصول، و لأرأيت الثاني ضمير عائد إلى قوله: ﴿عَبْداً﴾ و المفعول الثاني لأرأيت في المواضع الثلاث قوله:
﴿أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اَللَّهَ يَرىَ﴾.
و محصل معنى الآيات أخبرني عن الذي ينهى عبدا إذا صلى و عبد الله الناهي يعلم أن الله يرى ما يفعله كيف يكون حاله. أخبرني عن هذا الناهي إن كان ذاك العبد المصلي على الهدى أو أمر بالتقوى كيف يكون حال هذا الناهي و هو يعلم أن الله يرى.
أخبرني عن هذا الناهي أن تلبس بالتكذيب للحق و التولي عن الإيمان به و نهي العبد المصلي عن الصلاة و هو يعلم أن الله يرى؟ هل يستحق إلا العذاب.؟ و قيل: المفعول الأول لأرأيت في جميع المواضع الثلاث هو الموصول أو الضمير العائد إليه تحرزا عن التفكيك بين الضمائر.
و الأولى على هذا أن يجعل معنى قوله: ﴿أَ رَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى اَلْهُدىَ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوىَ﴾ أخبرني عن هذا الناهي إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى و هو يعلم أن الله يرى ما ذا كان يجب عليه أن يفعله و يأمر به؟ و كيف يكون حاله و قد نهى عن عبادة الله سبحانه؟ و هو مع ذلك معنى بعيد و لا بأس بالتفكيك بين الضمائر مع مساعدة السياق و إعانة القرائن.
و قوله: ﴿أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اَللَّهَ يَرىَ﴾ المراد به العلم على طريق الاستلزام فإن لازم الاعتقاد بأن الله خالق كل شيء هو الاعتقاد بأن له علما بكل شيء و إن غفل عنه و قد كان الناهي وثنيا مشركا و الوثنية معترفون بأن الله هو خالق كل شيء و ينزهونه عن صفات النقص فيرون أنه تعالى لا يجهل شيئا و لا يعجز عن شيء و هكذا.
قوله تعالى: ﴿كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾ قال في المجمع،:
و السفع الجذب الشديد يقال: سفعت بالشيء إذا قبضت عليه و جذبته جذبا شديدا.
انتهى، و في توصيف الناصية بالكذب و الخطإ و هما وصفا صاحب الناصية مجاز.
و في الكلام ردع و تهديد شديد، و المعنى ليس الأمر كما يقول و يريد أو ليس له ذلك.
أقسم لئن لم يكف عن نهيه و لم ينصرف لنأخذن بناصيته أخذ الذليل المهان و نجذبنه إلى العذاب تلك الناصية التي صاحبها كاذب فيما يقول خاطئ فيما يفعل، و قيل: المعنى لنسمن ناصيته بالنار و نسودنها.
قوله تعالى: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ اَلزَّبَانِيَةَ﴾ النادي المجلس و كان المراد به أهل المجلس أي الجمع الذين يجتمع بهم، و قيل: الجليس، و الزبانية الملائكة الموكلون بالنار، و قيل:
الزبانية في كلامهم الشرط، و الأمر تعجيزي أشير به إلى شدة الأخذ و المعنى فليدع هذا الناهي جمعه لينجوه منا سندع الزبانية الغلاظ الشداد الذين لا ينفع معهم نصر ناصر.
قوله تعالى: ﴿كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَ اُسْجُدْ وَ اِقْتَرِبْ﴾ تكرار الردع للتأكيد، و قوله: ﴿لاَ تُطِعْهُ﴾ أي لا تطعه في النهي عن الصلاة و هي القرينة على أن المراد بالسجود الصلاة، و لعل الصلاة التي كان (ص) يأتي بها يومئذ كانت تسبيحه تعالى و السجود له و قيل: المراد به السجود لقراءة هذه السورة التي هي إحدى العزائم الأربع في القرآن.
و الاقتراب التقرب إلى الله، و قيل: الاقتراب من ثواب الله تعالى.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و أحمد و عبد بن حميد و البخاري و مسلم و ابن جرير و ابن الأنباري في المصاحف و ابن مردويه و البيهقي من طريق ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت : أول ما بدئ به رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.
ثم حبب إليه الخلاء و كان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه و هو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله و يتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق و هو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ قال: قلت: ما أنا بقارئ. قال:
فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ قال:
فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: ﴿اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلَّذِي خَلَقَ خَلَقَ اَلْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اِقْرَأْ وَ رَبُّكَ اَلْأَكْرَمُ اَلَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ الآية.
فرجع بها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة و أخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة: كلا ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم و تحمل الكل و تكسب[1] المعدوم و تقري الضيف و تعين على نوائب الحق[2].
فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة و كان امرأ قد تنصر في الجاهلية، و كان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، و كان شيخا كبيرا قد عمي فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك.
فقال له ورقة: يا ابن أخي ما ذا ترى؟ فأخبره رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) خبر ما رأى فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى! يا ليتني أكون فيها جذعا يا ليتني أكون فيها حيا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : أ و مخرجي هم؟ قال: نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، و إن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ثم لم ينشب ورقة أن توفي و فتر الوحي.
قال ابن شهاب: و أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال و هو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه : بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء و الأرض فرعبت منه فرجعت فقلت: زملوني زملوني فأنزل الله: ﴿يَا أَيُّهَا اَلْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ وَ ثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَ اَلرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ فحمي الوحي و تتابع.
و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير و أبو نعيم في الدلائل عن عبد الله بن شداد قال : أتى جبريل محمدا ص فقال: يا محمد اقرأ. قال: و ما أقرأ فضمه ثم قال: يا محمد اقرأ. قال: و ما أقرأ. قال: ﴿اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلَّذِي خَلَقَ﴾. حتى بلغ ﴿مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾.
فجاء إلى خديجة فقال: يا خديجة ما أراه إلا قد عرض لي قالت: كلا و الله ما كان ربك يفعل ذلك بك و ما أتيت فاحشة قط فأتت خديجة ورقة فأخبرته الخبر قال: لئن كنت صادقة إن زوجك لنبي و ليلقين من أمته شدة و لئن أدركته لأومنن به.
قال: ثم أبطأ عليه جبريل فقالت خديجة: ما أرى ربك إلا قد قلاك فأنزل الله
﴿وَ اَلضُّحىَ وَ اَللَّيْلِ إِذَا سَجىَ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ مَا قَلىَ﴾.
أقول: و في رواية: أن الذي ألقاه جبريل سورة الحمد. و القصة لا تخلو من شيء و أهون ما فيها من الإشكال شك النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في كون ما شاهده وحيا إلهيا من ملك سماوي ألقى إليه كلام الله و تردده بل ظنه أنه من مس الشياطين بالجنون، و أشكل منه سكون نفسه في كونه نبوة إلى قول رجل نصراني مترهب و قد قال تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي﴾: الأنعام: ٥٧ و أي حجة بينة في قول ورقة؟ و قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللَّهِ عَلىَ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اِتَّبَعَنِي﴾ فهل بصيرته (ص) هي سكون نفسه إلى قول ورقة؟ و بصيرة من اتبعه سكون أنفسهم إلى سكون نفسه إلى ما لا حجة فيه قاطعة؟ و قال تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلى نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾: النساء: ١٦٣ فهل كان اعتمادهم في نبوتهم على مثل ما تقصه هذه القصة؟ و الحق أن وحي النبوة و الرسالة يلازم اليقين من النبي و الرسول بكونه من الله تعالى على ما ورد عن أئمة أهل البيت (عليه السلام).
و في المجمع، :في قوله: ﴿أَ رَأَيْتَ اَلَّذِي يَنْهى﴾ الآية أن أبا جهل قال: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم. قال: فبالذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن رقبته فقيل له: ها هو ذلك يصلي فانطلق ليطأ على رقبته فما فجأهم إلا و هو ينكص على عقبيه و يتقي بيديه فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: إن بيني و بينه خندقا من نار و هؤلاء أجنحة، و قال نبي الله: و الذي نفسي بيده لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا فأنزل الله ﴿أَ رَأَيْتَ اَلَّذِي يَنْهىَ﴾ إلى آخر السورة" :.رواه مسلم في الصحيح.
و في تفسير القمي، ":في الآية: كان الوليد بن المغيرة ينهى الناس عن الصلاة و أن يطاع الله و رسوله فقال الله: ﴿أَ رَأَيْتَ اَلَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذَا صَلَّى﴾.
أقول: مفاده لا يلائم ظهور سياق الآيات في كون المصلي هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .
و في المجمع، في الحديث عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال : أقرب ما يكون العبد من الله إذا كان ساجدا.
و في الكافي، بإسناده إلى الوشاء قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: أقرب ما يكون العبد من الله و هو ساجد و ذلك قوله: ﴿وَ اُسْجُدْ وَ اِقْتَرِبْ﴾.
و في المجمع، روى عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : العزائم الم التنزيل و حم السجدة و النجم إذا هوى و اقرأ باسم ربك، و ما عداها في جميع القرآن مسنون و ليس بمفروض.
(٩٧) سورة القدر مكية و هي خمس آيات (٥)
[سورة القدر (٩٧): الآیات ١ الی ٥]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ اَلْقَدْرِ ١ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ اَلْقَدْرِ ٢ لَيْلَةُ اَلْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ٣ تَنَزَّلُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ٤ سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ اَلْفَجْرِ ٥﴾
(بيان)
تذكر السورة إنزال القرآن في ليلة القدر و تعظم الليلة بتفضيلها على ألف شهر و تنزل الملائكة و الروح فيها، و السورة تحتمل المكية و المدنية و لا يخلو بعض[3] ما روي في سبب نزولها عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) و غيرهم من تأييد لكونها مدنية.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ اَلْقَدْرِ﴾ ضمير ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾ للقرآن و ظاهره جملة الكتاب العزيز لا بعض آياته و يؤيده التعبير بالإنزال الظاهر في اعتبار الدفعة دون التنزيل الظاهر في التدريج.
و في معنى الآية قوله تعالى: ﴿وَ اَلْكِتَابِ اَلْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾: الدخان: ٣ و ظاهره الإقسام بجملة الكتاب المبين ثم الإخبار عن إنزال ما أقسم به جملة.
فمدلول الآيات أن للقرآن نزولا جمليا على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) غير نزوله التدريجي الذي تم في مدة ثلاث و عشرين سنة كما يشير إليه قوله: ﴿وَ قُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى اَلنَّاسِ عَلىَ مُكْثٍ وَ نَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً﴾: إسراء: ١٠٦ و قوله: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَ رَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾: الفرقان: ٣٢.
فلا يعبأ بما قيل: إن معنى قوله: ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾ ابتدأنا بإنزاله و المراد إنزال بعض القرآن.
و ليس في كلامه تعالى ما يبين أن الليلة أية ليلة هي غير ما في قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ﴾: البقرة: ١٨٥ فإن الآية بانضمامها إلى آية القدر تدل على أن الليلة من ليالي شهر رمضان. و أما تعيينها أزيد من ذلك فمستفاد من الأخبار و سيجيء بعض ما يتعلق به في البحث الروائي التالي إن شاء الله.
و قد سماها الله تعالى ليلة القدر، و الظاهر أن المراد بالقدر التقدير فهي ليلة التقدير يقدر الله فيها حوادث السنة من الليلة إلى مثلها من قابل من حياة و موت و رزق و سعادة و شقاء و غير ذلك كما يدل عليه قوله في سورة الدخان في صفة الليلة: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾: الدخان: ٦ فليس فرق الأمر الحكيم إلا أحكام الحادثة الواقعة بخصوصياتها بالتقدير.
و يستفاد من ذلك أن الليلة متكررة بتكرر السنين ففي شهر رمضان من كل سنة قمرية ليلة تقدر فيها أمور السنة من الليلة إلى مثلها من قابل إذ لا معنى لفرض ليلة واحدة بعينها أو ليال معدودة في طول الزمان تقدر فيها الحوادث الواقعة التي قبلها و التي بعدها و إن صح فرض واحدة من ليالي القدر المتكررة ينزل فيها القرآن جملة واحدة.
على أن قوله: ﴿يُفْرَقُ﴾ و هو فعل مضارع ظاهر في الاستمرار، و قوله: ﴿خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ و ﴿تَنَزَّلُ اَلْمَلاَئِكَةُ﴾ إلخ يؤيد ذلك.
فلا وجه لما قيل: إنها كانت ليلة واحدة بعينها نزل فيها القرآن من غير أن يتكرر، و كذا ما قيل: إنها كانت تتكرر بتكرر السنين في زمن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ثم رفعها الله، و كذا ما قيل: إنها واحدة بعينها في جميع السنة و كذا ما قيل: إنها في جميع السنة غير أنها تتبدل بتكرر السنين فسنة في شهر رمضان و سنة في شعبان و سنة في غيرهما.
و قيل: القدر بمعنى المنزلة و إنما سميت ليلة القدر للاهتمام بمنزلتها أو منزلة المتعبدين فيها، و قيل: القدر بمعنى الضيق و سميت ليلة القدر لضيق الأرض فيها بنزول الملائكة. و الوجهان كما ترى.
فمحصل الآيات كما ترى أنها ليلة بعينها من شهر رمضان من كل سنة فيها أحكام الأمور بحسب التقدير، و لا ينافي ذلك وقوع التغير فيها بحسب التحقق في ظرف السنة فإن التغير في كيفية تحقق المقدر أمر و التغير في التقدير أمر آخر كما أن إمكان التغير في
الحوادث الكونية بحسب المشية الإلهية لا ينافي تعينها في اللوح المحفوظ قال تعالى:
﴿وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتَابِ﴾: الرعد: ٣٩.
على أن لاستحكام الأمور بحسب تحققها مراتب من حيث حضور أسبابها و شرائطها تامة و ناقصة و من المحتمل أن تقع في ليلة القدر بعض مراتب الأحكام و يتأخر تمام الأحكام إلى وقت آخر لكن الروايات كما ستأتي لا تلائم هذا الوجه.
قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ اَلْقَدْرِ﴾ كناية عن جلالة قدر الليلة و عظم منزلتها و يؤكد ذلك إظهار الاسم مرة بعد مرة حيث قيل: ﴿مَا لَيْلَةُ اَلْقَدْرِ لَيْلَةُ اَلْقَدْرِ خَيْرٌ﴾ و لم يقل: و ما أدراك ما هي هي خير.
قوله تعالى: ﴿لَيْلَةُ اَلْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ بيان إجمالي لما أشير إليه بقوله: ﴿وَ مَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ اَلْقَدْرِ﴾ من فخامة أمر الليلة.
و المراد بكونها خيرا من ألف شهر خيريتها منها من حيث فضيلة العبادة على ما فسره المفسرون و هو المناسب لغرض القرآن و عنايته بتقريب الناس إلى الله فإحياؤها بالعبادة خير من عبادة ألف شهر، و يمكن أن يستفاد ذلك من المباركة المذكورة في سورة الدخان في قوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ و هناك معنى آخر سيأتي في البحث الروائي التالي إن شاء الله.
قوله تعالى: ﴿تَنَزَّلُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ تنزل أصله تتنزل، و الظاهر من الروح هو الروح الذي من الأمر قال تعالى: ﴿قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾إسراء: ٨٥ و الإذن في الشيء الرخصة فيه و هو إعلام عدم المانع منه.
و ﴿مِنْ﴾ في قوله: ﴿مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ قيل: بمعنى الباء و قيل: لابتداء الغاية و تفيد السببية أي بسبب كل أمر إلهي، و قيل: للتعليل بالغاية أي لأجل تدبير كل أمر من الأمور و الحق أن المراد بالأمر إن كان هو الأمر الإلهي المفسر بقوله ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ﴾: يس: ٨٢ فمن للابتلاء و تفيد السببية و المعنى تتنزل الملائكة و الروح في ليلة القدر بإذن ربهم مبتدأ تنزلهم و صادرا من كل أمر إلهي.
و إن كان هو الأمر من الأمور الكونية و الحوادث الواقعة فمن بمعنى اللام التعليلية و المعنى تتنزل الملائكة و الروح في الليلة بإذن ربهم لأجل تدبير كل أمر من الأمور الكونية.
قوله تعالى: ﴿سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ اَلْفَجْرِ﴾ قال في المفردات،: السلام و السلامة التعري
من الآفات الظاهرة و الباطنة انتهى فيكون قوله: ﴿سَلاَمٌ هِيَ﴾ إشارة إلى العناية الإلهية بشمول الرحمة لعباده المقبلين إليه و سد باب نقمة جديدة تختص بالليلة و يلزمه بالطبع وهن كيد الشياطين كما أشير إليه في بعض الروايات.
و قيل: المراد به أن الملائكة يسلمون على من مروا به من المؤمنين المتعبدين و مرجعه إلى ما تقدم.
و الآيتان أعني قوله: ﴿تَنَزَّلُ اَلْمَلاَئِكَةُ﴾ إلى آخر السورة في معنى التفسير لقوله:
﴿لَيْلَةُ اَلْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾.
بحث روائي
في تفسير البرهان، عن الشيخ الطوسي عن أبي ذر قال : قلت يا رسول الله القدر شيء يكون على عهد الأنبياء ينزل عليهم فيها الأمر فإذا مضوا رفعت؟ قال:
لا بل هي إلى يوم القيامة.
أقول: و في معناه غير واحد من الروايات من طرق أهل السنة.
و في المجمع، و عن حماد بن عثمان عن حسان بن أبي علي قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن ليلة القدر قال: اطلبها في تسع عشرة و إحدى و عشرين و ثلاث و عشرين.
أقول: و في معناه غيرها، و في بعض الأخبار الترديد بين ليلتين الإحدى و العشرين و الثلاث و العشرين كرواية العياشي عن عبد الواحد عن الباقر (عليه السلام) و يستفاد من روايات أنها ليلة ثلاث و عشرين و إنما لم يعين تعظيما لأمرها أن لا يستهان بها بارتكاب المعاصي.
و فيه، أيضا في رواية عبد الله بن بكير عن زرارة عن أحدهما (عليه السلام) قال : ليلة ثلاث و عشرين هي ليلة الجهني، و حديثه أنه قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) . إن منزلي نائي عن المدينة فمرني بليلة أدخل فيها فأمره بليلة ثلاث و عشرين. أقول: و حديث الجهني و اسمه عبد الله بن أنيس الأنصاري مروي من طرق أهل السنة أيضا أورده في الدر المنثور، عن مالك و البيهقي.
و في الكافي، بإسناده عن زرارة قال : قال أبو عبد الله (عليه السلام): التقدير في تسع عشرة، و الإبرام في ليلة إحدى و عشرين، و الإمضاء في ليلة ثلاث و عشرين.
أقول: و في معناها روايات أخر.
فقد اتفقت أخبار أهل البيت (عليه السلام) أنها باقية متكررة كل سنة، و أنها ليلة من ليالي شهر رمضان و أنها إحدى الليالي الثلاث.
و أما من طرق أهل السنة فقد اختلفت الروايات اختلافا عجيبا يكاد لا يضبط و المعروف عندهم أنها ليلة سبع و عشرون فيها نزل القرآن، و من أراد الحصول عليها فليراجع الدر المنثور و سائر الجوامع.
و في الدر المنثور، أخرج الخطيب عن ابن المسيب قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : رأيت بني أمية يصعدون منبري فشق ذلك علي فأنزل الله إنا أنزلناه في ليلة القدر:.
أقول: و روي أيضا مثله عن الخطيب في تاريخه، عن ابن عباس، و أيضا ما في معناه عن الترمذي و ابن جرير و الطبراني و ابن مردويه و البيهقي عن الحسن بن علي و هناك روايات كثيرة في هذا المعنى من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) و فيها أن الله تعالى سلا نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) بإعطاء ليلة القدر و جعلها خيرا من ألف شهر و هي مدة ملك بني أمية.
و في الكافي، بإسناده عن ابن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال له بعض أصحابنا و لا أعلمه إلا سعيد السمان: كيف تكون ليلة القدر خيرا من ألف شهر؟ قال: العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.
و فيه، بإسناده عن الفضيل و زرارة و محمد بن مسلم عن حمران أنه سأل أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ قال: نعم ليلة القدر و هي في كل سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر فلم ينزل القرآن إلا في ليلة القدر قال الله عز و جل:
﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾.
قال: يقدر في ليلة القدر كل شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل: خير و شر طاعة و معصية و مولود و أجل أو رزق فما قدر في تلك الليلة و قضي فهو المحتوم و لله عز و جل فيه المشية.
قال: قلت: ﴿لَيْلَةُ اَلْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ أي شيء عنى بذلك؟ فقال: و العمل الصالح فيها من الصلاة و الزكاة و أنواع الخير خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، و لو لا ما يضاعف الله تبارك و تعالى للمؤمنين ما بلغوا و لكن الله يضاعف لهم الحسنات.
أقول: و قوله: و لله فيه المشية يريد به إطلاق قدرته تعالى فله أن يشاء ما يشاء
و إن حتم فإن إيجابه الأمر لا يفيد القدرة المطلقة فله أن ينقض القضاء المحتوم و إن كان لا يشاء ذلك أبدا.
و في المجمع، روى ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال : إذا كان ليلة القدر تنزل الملائكة الذين هم سكان سدرة المنتهى و منهم جبرائيل فينزل جبرائيل و معه ألوية ينصب لواء منها على قبري و لواء على بيت المقدس و لواء في المسجد الحرام و لواء على طور سيناء و لا يدع فيها مؤمنا و لا مؤمنة إلا سلم عليه إلا مدمن خمر و آكل لحم الخنزير[4] و المتضمخ بالزعفران.
و في تفسير البرهان، عن سعد بن عبد الله بإسناده عن أبي بصير قال : كنت مع أبي عبد الله (عليه السلام) فذكر شيئا من أمر الإمام إذا ولد فقال: استوجب زيادة الروح في ليلة القدر فقلت: جعلت فداك أ ليس الروح هو جبرئيل؟ فقال: جبرئيل من الملائكة و الروح أعظم من الملائكة أ ليس أن الله عز و جل يقول: ﴿تَنَزَّلُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ﴾.
أقول: و الروايات في ليلة القدر و فضلها كثيرة جدا، و قد ذكرت في بعضها لها علامات ليست بدائمة و لا أكثرية كطلوع الشمس صبيحتها و لا شعاع لها و اعتدال الهواء فيها أغمضنا عنها.
(٩٨) سورة البينة مدنية و هي ثمان آيات (٨)
[سورة البينة (٩٨): الآیات ١ الی ٨ ]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ لَمْ يَكُنِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ وَ اَلْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ اَلْبَيِّنَةُ ١ رَسُولٌ مِنَ اَللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً ٢ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ٣ وَ مَا تَفَرَّقَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ اَلْبَيِّنَةُ ٤ وَ مَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اَللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ حُنَفَاءَ وَ يُقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ يُؤْتُوا اَلزَّكَاةَ وَ ذَلِكَ دِينُ﴾
﴿اَلْقَيِّمَةِ ٥ إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ وَ اَلْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ اَلْبَرِيَّةِ ٦ إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ اَلْبَرِيَّةِ ٧ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ٨﴾
(بيان)
تسجل السورة رسالة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) لعامة أهل الكتاب و المشركين و بعبارة أخرى للمليين و غيرهم و هم عامة البشر فتفيد عموم الرسالة و أنها مما كانت تقتضيه السنة الإلهية سنة الهداية التي تشير إليها أمثال قوله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ اَلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً﴾: الإنسان: ٣، و قوله: ﴿وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ﴾: فاطر: ٢٤، و تحتج على عموم دعوته (ص) بأنها لا تتضمن إلا ما يصلح المجتمع الإنساني من الاعتقاد و العمل على ما سيتضح إن شاء الله.
و السورة تحتمل المكية و المدنية و إن كان سياقها بالمدنية أشبه.
قوله تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ وَ اَلْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ اَلْبَيِّنَةُ﴾ ظاهر الآيات و هي في سياق يشير إلى قيام الحجة على الذين كفروا بالدعوة الإسلامية من أهل الكتاب و المشركين و على الذين أوتوا الكتاب حينما بدا فيهم الاختلاف أن المراد هو الإشارة إلى أن الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) من مصاديق الحجة البينة القائمة على الناس التي تقتضي قيامها السنة الإلهية الجارية في عباده فقد كانت توجب مجيء البينة إليهم كما أوجبته من قبل ما تفرقوا في دينهم.
و على هذا فالمراد بالذين كفروا في الآية هم الكافرون بالدعوة النبوية الإسلامية من أهل الكتاب و المشركين، و ﴿مِنْ﴾ في قوله: ﴿مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ﴾ للتبعيض لا للتبيين، و قوله:
و ﴿اَلْمُشْرِكِينَ﴾ عطف على ﴿أَهْلِ اَلْكِتَابِ﴾ و المراد بهم غير أهل الكتاب من عبدة الأصنام و غيرهم.
و قوله: ﴿مُنْفَكِّينَ﴾ من الانفكاك و هو الانفصال عن شدة اتصال، و المراد به على ما يستفاد من قوله: ﴿حَتَّى تَأْتِيَهُمُ اَلْبَيِّنَةُ﴾ انفكاكهم عما تقتضي سنة الهداية و البيان كان السنة الإلهية كانت قد أخذتهم و لم تكن تتركهم حتى تأتيهم البينة و لما أتتهم البينة تركتهم و شأنهم كما قال تعالى: ﴿وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ﴾: التوبة: ١١٥.
و قوله: ﴿حَتَّى تَأْتِيَهُمُ اَلْبَيِّنَةُ﴾ على ظاهره من الاستقبال و البينة هي الحجة الظاهرة و المعنى لم يكن الذين كفروا برسالة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو بدعوته أو بالقرآن لينفكوا حتى تأتيهم البينة و البينة هي محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) .
و للقوم اختلاف عجيب في تفسير الآية و معاني مفرداتها حتى قال بعضهم على ما نقل : إن الآية من أصعب الآيات القرآنية نظما و تفسيرا. انتهى، و الذي أوردناه من المعنى هو الذي يلائمه سياقها من غير تناقض بين الآيات و تدافع بين الجمل و المفردات، و من أراد الاطلاع على تفصيل ما قيل و يقال فعليه أن يراجع المطولات.
قوله تعالى: ﴿رَسُولٌ مِنَ اَللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ بيان للبينة و المراد به محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قطعا على ما يعطيه السياق.
و الصحف جمع صحيفة و هي ما يكتب فيها، و المراد بها أجزاء القرآن النازلة و قد تكرر في كلامه تعالى إطلاق الصحف على أجزاء الكتب السماوية و منها القرآن الكريم قال تعالى: ﴿فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾: عبس: ١٦.
و المراد بكون الصحف مطهرة تقدسها من قذارة الباطل بمس الشياطين، و قد تكرر منه تعالى أنه حق مصون من مداخلة الشياطين و قال: ﴿لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ﴾: الواقعة: ٧٩.
و قوله: ﴿فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ الكتب جمع كتاب و معناه المكتوب و يطلق على اللوح و القرطاس و نحوهما المنقوشة فيها الألفاظ و على نفس الألفاظ التي تحكي عنها النقوش، و ربما يطلق على المعاني بما أنها محكية بالألفاظ، و يطلق أيضا على الحكم و القضاء يقال كتب عليه كذا أي قضى أن يفعل كذا قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيَامُ﴾: البقرة: ١٨٣ و قال: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتَالُ﴾: البقرة: ٢١٦.
و الظاهر أن المراد بالكتب التي في الصحف الأحكام و القضايا الإلهية المتعلقة بالاعتقاد
و العمل، و من الدليل عليه توصيفها بالقيامة فإنها من القيام بالشيء بمعنى حفظه و مراعاة مصلحته و ضمان سعادته قال تعالى: ﴿أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ ﴾: يوسف: ٤٠، و معلوم أن الصحف السماوية إنما تقوم بأمر المجتمع الإنساني و تحفظ مصلحته بما فيها من الأحكام و القضايا المتعلقة بالاعتقاد و العمل.
فمعنى الآيتين: الحجة البينة التي أتتهم رسول من الله يقرأ صحائف سماوية مطهرة من دنس الباطل في تلك الصحائف أحكام و قضايا قائمة بأمر المجتمع الإنساني حافظة لمصالحه.
قوله تعالى: ﴿وَ مَا تَفَرَّقَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ اَلْبَيِّنَةُ﴾ كانت الآية الأولى ﴿لَمْ يَكُنِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ﴾ إلخ تشير إلى كفرهم بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و كتابه المتضمن للدعوة الحقة و هذه الآية تشير إلى اختلافهم السابق على الدعوة الإسلامية و قد أشير إلى ذلك في مواضع من القرآن الكريم كما قال تعالى: ﴿وَ مَا اِخْتَلَفَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾: آل عمران: ١٩ إلى غير ذلك من الآيات.
و مجيء البينة لهم هو البيان النبوي الذي تبين لهم في كتابهم أو أوضحه لهم أنبياؤهم قال تعالى: ﴿وَ لَمَّا جَاءَ عِيسىَ بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُونِ إِنَّ اَللَّهَ هُوَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ اَلْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ﴾: الزخرف: ٦٥.
فإن قلت: ما باله تعرض لاختلاف أهل الكتاب و تفرقهم في مذاهبهم و لم يتعرض لتفرق المشركين و إعراضهم عن دين التوحيد و إنكارهم الرسالة.
قلت: لا يبعد أن يكون قوله: ﴿وَ مَا تَفَرَّقَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ﴾ إلخ شاملا للمشركين كما هو شامل لأهل الكتاب فقد بدل أهل الكتاب - و هم في عرف القرآن اليهود و النصارى و الصابئون و المجوس أو اليهود و النصارى من الذين أوتوا الكتاب، و التعبيران متغايران، و قد صرح تعالى بأنه أنزل الكتاب و هو الشريعة المفروضة عليهم الحاكمة في اختلافاتهم في أمور الحياة أول ما بدا الاختلافات الحيوية بينهم ثم اختلفوا في الدين بعد تبين الحق لهم و قيام الحجة عليهم فعامة البشر آتاهم الله كتابا ثم اختلفوا فيه فمنهم من نسي ما أوتيه، و منهم من أخذ به محرفا و منهم من حفظه و آمن به، قال تعالى: ﴿كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ أُوتُوهُ
مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ اَلْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾: البقرة: ٢١٣ و قد مر تفسير الآية.
و في هذا المعنى قوله تعالى: ﴿تِلْكَ اَلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلىَ بَعْضٍ ﴾ إلى أن قال ﴿وَ لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا اِقْتَتَلَ اَلَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ اَلْبَيِّنَاتُ وَ لَكِنِ اِخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ﴾: البقرة: ٢٥٣.
و بالجملة فالذين أوتوا الكتاب أعم من أهل الكتاب فقوله: ﴿وَ مَا تَفَرَّقَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ﴾ إلخ يشمل المشركين كما يشمل أهل الكتاب.
قوله تعالى: ﴿وَ مَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اَللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ إلخ ضمير ﴿أُمِرُوا﴾ للذين كفروا من أهل الكتاب و المشركين أي لم يتضمن رسالة الرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) و الكتب القيمة التي في صحف الوحي إلا أمرهم بعبادة الله تعالى بقيد الإخلاص في الدين فلا يشركوا به شيئا.
و قوله: ﴿حُنَفَاءَ﴾ حال من ضمير الجمع و هو جمع حنيف من الحنف و هو الميل عن جانبي الإفراط و التفريط إلى حاق وسط الاعتدال و قد سمى الله تعالى الإسلام دينا حنيفا لأنه يأمر في جميع الأمور بلزوم الاعتدال و التحرز عن الإفراط و تفريط.
و قوله: ﴿وَ يُقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ يُؤْتُوا اَلزَّكَاةَ﴾ من قبيل ذكر الخاص بعد العام أو الجزء بعد الكل اهتماما بأمره فالصلاة و الزكاة على أركان الإسلام و هما التوجه العبودي الخاص إلى الله و إنفاق المال في الله.
و قوله: ﴿وَ ذَلِكَ دِينُ اَلْقَيِّمَةِ﴾ أي دين الكتب القيمة على ما فسروا، و المراد بالكتب القيمة إن كان جميع الكتب السماوية أعني كتاب نوح و من دونه من الأنبياء (عليه السلام) فالمعنى أن هذا الذي أمروا به و دعوا إليه في الدعوة المحمدية هو الدين الذي كلفوا به في كتبهم القيمة و ليس بأمر بدع فدين الله واحد و عليهم أن يدينوا به لأنه القيم.
و إن كان المراد به ما كان يتلوه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من الكتب القيمة التي في الصحف المطهرة فالمعنى أنهم لم يؤمروا في الدعوة الإسلامية إلا بأحكام و قضايا هي القيمة الحافظة لمصالح المجتمع الإنساني فلا يسعهم إلا أن يؤمنوا بها و يتدينوا.
فالآية على أي حال تشير إلى كون دين التوحيد الذي يتضمنه القرآن الكريم المصدق لما بين يديه من الكتاب و المهيمن[5] عليه فيما يأمر المجتمع البشري قائما بأمرهم حافظا
لمصالح حياتهم كما يبينه بأوفى البيان قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ﴾: الروم: ٣٠.
و بهذه الآية يكمل بيان عموم رسالة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و شمول الدعوة الإسلامية لعامة البشر فقوله: ﴿لَمْ يَكُنِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ وَ اَلْمُشْرِكِينَ﴾ إلخ يشير إلى أنه كان من الواجب في سنة الهداية الإلهية أن تتم الحجة على من كفر بالدعوة من أهل الكتاب و المشركين، و هؤلاء و إن كانوا بعض أهل الكتاب و المشركين لكن من الضروري أن لا فرق بين البعض و البعض في تعلق الدعوة فتعلقها بالبعض لا ينفك عن تعلقها بالكل.
و قوله: ﴿رَسُولٌ مِنَ اَللَّهِ﴾ إلخ يشير إلى أن تلك البينة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و قوله ﴿وَ مَا تَفَرَّقَ﴾ إلخ يشير إلى أن تفرقهم و كفرهم السابق بالحق أيضا كان بعد مجيء البينة.
و قوله: ﴿وَ مَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اَللَّهَ﴾ إلخ يفيد أن الذي دعوا إليه و أمروا به دين قيم حافظ لمصالح المجتمع البشري فعليهم جميعا أن يؤمنوا به و لا يكفروا.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ وَ اَلْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ اَلْبَرِيَّةِ﴾ لما فرغ من الإشارة إلى كفرهم بالبينة التي كانت توجبها سنة الهداية الإلهية و ما كانت تدعو إليه من الدين القيم أخذ في الإنذار و التبشير بوعيد الكفار و وعد المؤمنين، و البرية الخلق، و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ اَلْبَرِيَّةِ﴾ فيه قصر الخيرية في المؤمنين الصالحين كما أن في الآية السابقة قصر الشرية في الكفار.
قوله تعالى: ﴿جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾ إلى قوله ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ العدن الاستقرار و الثبات فجنات عدن جنات خلود و دوام و توصيفها بقوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً﴾ تأكيد بما يدل عليه الاسم.
و قوله: ﴿رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمْ﴾ الرضى منه تعالى صفة فعل و مصداقه الثواب الذي أعطاهموه جزاء لإيمانهم و عملهم الصالح.
و قوله: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ علامة مضروبة لسعادة الدار الآخرة و قد قال تعالى:
﴿إِنَّمَا يَخْشَى اَللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ اَلْعُلَمَاءُ﴾: فاطر: ٢٨ فالعلم بالله يستتبع الخشية منه، و الخشية منه تستتبع الإيمان به بمعنى الالتزام القلبي بربوبيته و ألوهيته ثم العمل الصالح.
و اعلم أن لهم في تفسير مفردات هذه الآيات اختلافا شديدا و أقوالا كثيرة لا جدوى في التعرض لها من أراد الوقوف عليها فليراجع المطولات.
(بحث روائي)
في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : البينة محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) .
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : قلت: يا رسول الله من أكرم الخلق على الله؟ قال: يا عائشة أ ما تقرئين ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ اَلْبَرِيَّةِ﴾؟
و فيه، أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال : كنا عند النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فأقبل علي فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : و الذي نفسي بيده إن هذا و شيعته لهم الفائزون يوم القيامة و نزلت ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ اَلْبَرِيَّةِ﴾ فكان أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إذا أقبل علي قالوا: جاء خير البرية.
أقول: و روي هذا المعنى أيضا عن ابن عدي عن ابن عباس، و أيضا عن ابن مردويه عن علي (عليه السلام) و رواه أيضا في البرهان، عن الموفق بن أحمد في كتاب المناقب عن يزيد بن شراحيل الأنصاري كاتب علي عنه، و كذا في المجمع، عن كتاب شواهد التنزيل للحاكم عن يزيد بن شراحيل عنه، و لفظه: سمعت عليا يقول: قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أنا مسنده إلى صدري فقال: يا علي أ لم تسمع قول الله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ اَلْبَرِيَّةِ﴾ هم شيعتك و موعدي و موعدكم الحوض إذا اجتمع الأمم للحساب يدعون غرا محجلين.
و في المجمع، عن مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس في قوله: ﴿هُمْ خَيْرُ اَلْبَرِيَّةِ﴾ قال: نزلت في علي و أهل بيته.
(٩٩) سورة الزلزال مدنية و هي ثمان آيات (٨)
[سورة الزلزلة (٩٩): الآیات ١ الی ٨ ]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ إِذَا زُلْزِلَتِ اَلْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ١ وَ أَخْرَجَتِ اَلْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ٢ وَ قَالَ اَلْإِنْسَانُ مَا لَهَا ٣ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ٤
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحىَ لَهَا ٥ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ اَلنَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ٦ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ٧ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ٨﴾
(بيان)
ذكر للقيامة و صدور الناس للجزاء و إشارة إلى بعض أشراطها و هي زلزلة الأرض و تحديثها أخبارها. و السورة تحتمل المكية و المدنية.
قوله تعالى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ اَلْأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾ الزلزال مصدر كالزلزلة، و إضافته إلى ضمير الأرض تفيد الاختصاص، و المعنى إذا زلزلت الأرض زلزلتها الخاصة بها فتفيد التعظيم و التفخيم أي أنها منتهية في الشدة و الهول.
قوله تعالى: ﴿وَ أَخْرَجَتِ اَلْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾ الأثقال جمع ثقل بفتحتين بمعنى المتاع أو خصوص متاع المسافر أو جمع ثقل بالكسر فالسكون بمعنى الحمل، و على أي حال المراد بأثقالها التي تخرجها، الموتى على ما قيل أو الكنوز و المعادن التي في بطنها أو الجميع و لكل قائل و أول الوجوه أقربها ثم الثالث لتكون الآية إشارة إلى خروجهم للحساب، و قوله: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ اَلنَّاسُ﴾ إشارة إلى انصرافهم إلى الجزاء.
قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ اَلْإِنْسَانُ مَا لَهَا﴾ أي يقول مدهوشا متعجبا من تلك الزلزلة الشديدة الهائلة: ما للأرض تتزلزل هذا الزلزال، و قيل: المراد بالإنسان الكافر غير المؤمن بالبعث، و قيل غير ذلك كما سيجيء.
قوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحىَ لَهَا﴾ فتشهد على أعمال بني آدم كما تشهد بها أعضاؤهم و كتاب الأعمال من الملائكة و شهداء الأعمال من البشر و غيرهم.
و قوله: ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحىَ لَهَا﴾ اللام بمعنى إلى لأن الإيحاء يتعدى بإلى و المعنى تحدث أخبارها بسبب أن ربك أوحى إليها أن تحدث فهي شاعرة بما يقع فيها من الأعمال خيرها و شرها متحملة لها يؤذن لها يوم القيامة بالوحي أن تحدث أخبارها و تشهد بما تحملت، و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾: إسراء: ٤٤، و قوله: ﴿قَالُوا أَنْطَقَنَا اَللَّهُ اَلَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾حم السجدة: ٢١ أن المستفاد من كلامه سبحانه أن الحياة و الشعور ساريان في الأشياء
و إن كنا في غفلة من ذلك.
و قد اشتد الخلاف بينهم في معنى تحديث الأرض بالوحي أ هو بإعطاء الحياة و الشعور للأرض الميتة حتى تخبر بما وقع فيها أو بخلق صوت عندها و عد ذلك تكلما منها أو دلالتها بلسان الحال بما وقع فيها من الأعمال، و لا محل لهذا الاختلاف بعد ما سمعت و لا أن الحجة تتم على أحد بهذا النوع من الشهادة.
قوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ اَلنَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾ الصدور انصراف الإبل عن الماء بعد وروده، و أشتات كشتى جمع شتيت بمعنى المتفرق، و الآية جواب بعد جواب لإذا.
و المراد بصدور الناس متفرقين يومئذ انصرافهم عن الموقف إلى منازلهم في الجنة و النار و أهل السعادة و الفلاح منهم متميزون من أهل الشقاء و الهلاك، و إراءتهم أعمالهم إراءتهم جزاء أعمالهم بالحلول فيه أو مشاهدتهم نفس أعمالهم بناء على تجسم الأعمال.
و قيل: المراد به خروجهم من قبورهم إلى الموقف متفرقين متميزين بسواد الوجوه و بياضها و بالفزع و الأمن و غير ذلك لإعلامهم جزاء أعمالهم بالحساب و التعبير عن العلم بالجزاء بالرؤية و عن الاعلام بالإراءة نظير ما في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ﴾: آل عمران: ٣٠، و الوجه الأول أقرب و أوضح.
قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ المثقال ما يوزن به الأثقال، و الذرة ما يرى في شعاع الشمس من الهباء، و تقال لصغار النمل.
تفريع على ما تقدم من إراءتهم أعمالهم، فيه تأكيد البيان في أنه لا يستثني من الإراءة عمل خيرا أو شرا كبيرا أو صغيرا حتى مثقال الذرة من خير أو شر، و بيان حال كل من عمل الخير و الشر في جملة مستقلة لغرض إعطاء الضابط و ضرب القاعدة.
و لا منافاة بين ما تدل عليه الآيتان من العموم و بين الآيات الدالة على حبط الأعمال، و الدالة على انتقال أعمال الخير و الشر من نفس إلى نفس كحسنات القاتل إلى المقتول و سيئات المقتول إلى القاتل، و الدالة على تبديل السيئات حسنات في بعض التائبين إلى غير ذلك مما تقدمت الإشارة إليه في بحث الأعمال في الجزء الثاني من الكتاب و كذا في تفسير قوله: ﴿لِيَمِيزَ اَللَّهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ﴾ الآية: الأنفال: ٣٧.
و ذلك لأن الآيات المذكورة حاكمة على هاتين الآيتين فإن من حبط عمله الخير محكوم بأنه لم يعمل خيرا فلا عمل له خيرا حتى يراه و على هذا القياس في غيره فافهم.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن أنس بن مالك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال : إن الأرض لتخبر يوم القيامة بكل ما عمل على ظهرها و قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ اَلْأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾ حتى بلغ ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾ قال أ تدرون ما أخبارها؟ جاءني جبريل قال: خبرها إذا كان يوم القيامة أخبرت بكل عمل عمل على ظهرها:.
أقول: و روي مثله عن أبي هريرة.
و فيه، أخرج الحسين بن سفيان في مسنده و أبو نعيم في الحلية عن شداد بن أوس قال :
سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول:. أيها الناس إن الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر و الفاجر، و إن الآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قادر يحق فيها الحق و يبطل الباطل.
أيها الناس كونوا من أبناء الآخرة و لا تكونوا من أبناء الدنيا فإن كل أم يتبعها ولدها اعملوا و أنتم من الله على حذر، و اعلموا أنكم معروضون على أعمالكم و أنكم ملاقوا الله لا بد منه فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرة شرا يره. و في تفسير القمي،" :في قوله تعالى: ﴿وَ أَخْرَجَتِ اَلْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾ قال: من الناس ﴿وَ قَالَ اَلْإِنْسَانُ مَا لَهَا﴾ قال: ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾ إلى قوله ﴿أَشْتَاتاً﴾ قال: يجيئون أشتاتا مؤمنين و كافرين و منافقين ﴿لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾ قال: يقفون على ما فعلوه.
و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ﴾ يقول: إن كان من أهل النار قد عمل مثقال ذرة في الدنيا خيرا (كان عليه ظ) يوم القيامة حسرة إن كان عمله لغير الله ﴿وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ يقول: إن كان من أهل الجنة راى ذلك الشر يوم القيامة ثم غفر له.
(١٠٠) سورة العاديات مدنية و هي إحدى عشرة آية (١١)
[سورة العاديات (١٠٠): الآیات ١ الی ١١]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ وَ اَلْعَادِيَاتِ ضَبْحاً ١ فَالْمُورِيَاتِ﴾
﴿قَدْحاً ٢ فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً ٣ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً ٤ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً ٥ إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ٦ وَ إِنَّهُ عَلىَ ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ٧ وَ إِنَّهُ لِحُبِّ اَلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ٨ أَ فَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي اَلْقُبُورِ ٩ وَ حُصِّلَ مَا فِي اَلصُّدُورِ ١٠ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ ١١﴾
(بيان)
تذكر السورة كفران الإنسان لنعم ربه و حبه الشديد للخير عن علم منه به و هو حجة عليه و سيحاسب على ذلك.
و السورة مدنية بشهادة ما في صدرها من الإقسام بمثل قوله: ﴿وَ اَلْعَادِيَاتِ ضَبْحاً﴾ إلخ الظاهر في خيل الغزاة المجاهدين على ما سيجيء، و إنما شرع الجهاد بعد الهجرة و يؤيد ذلك ما ورد من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) أن السورة نزلت في علي (عليه السلام) و سريته في غزوة ذات السلاسل، و يؤيده أيضا بعض الروايات من طرق أهل السنة على ما سنشير إليه في البحث الروائي التالي إن شاء الله.
قوله تعالى: ﴿وَ اَلْعَادِيَاتِ ضَبْحاً﴾ العاديات من العدو و هو الجري بسرعة و الضبح صوت أنفاس الخيل عند عدوها و هو المعهود المعروف من الخيل و إن ادعي أنه يعرض لكثير من الحيوان غيرها، و المعنى أقسم بالخيل اللاتي يعدون يضبحن ضبحا.
و قيل: المراد بها إبل الحاج في ارتفاعها بركبانها من الجمع إلى منى يوم النحر، و قيل:
إبل الغزاة، و ما في الآيات التالية من الصفات لا يلائم كون الإبل هو المراد بالعاديات.
قوله تعالى: ﴿فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً﴾ الإيراء إخراج النار و القدح الضرب و الصك المعروف يقال: قدح فأورى إذا أخرج النار بالقدح، و المراد بها الخيل تخرج النار بحوافرها إذا عدت على الحجارة و الأرض المحصبة.
و قيل: المراد بالإيراء مكر الرجال في الحرب، و قيل: إيقادهم النار، و قيل:
الموريات ألسنة الرجال توري النار من عظيم ما تتكلم به، و هي وجوه ظاهرة الضعف.
قوله تعالى: ﴿فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً﴾ الإغارة و الغارة الهجوم على العدو بغتة بالخيل و هي
صفة أصحاب الخيل و نسبتها إلى الخيل مجاز، و المعنى فأقسم بالخيل الهاجمات على العدو بغتة في وقت الصبح.
و قيل: المراد بها الآبال ترتفع بركبانها يوم النحر من جمع إلى منى و السنة أن لا ترتفع حتى تصبح، و الإغارة سرعة السير و هو خلاف ظاهر الإغارة.
قوله تعالى: ﴿فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً﴾ أثرن من الإثارة بمعنى تهييج الغبار و نحوه، و النقع الغبار، و المعنى فهيجن بالعدو و الإغارة غبارا.
قيل: لا بأس بعطف ﴿فَأَثَرْنَ﴾ و هو فعل على ما قبله و هو صفة لأنه اسم فاعل و هو في معنى الفعل كأنه قيل: أقسم باللاتي عدون فأورين فأغرن فأثرن.
قوله تعالى: ﴿فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً﴾ وسط و توسط بمعنى، و ضمير ﴿بِهِ﴾ للصبح و الباء بمعنى في أو الضمير للنقع و الباء للملابسة.
و المعنى فصرن في وقت الصبح في وسط جمع و المراد به كتيبة العدو أو المعنى فتوسطن جمعا ملابسين للنقع.
و قيل: المراد توسط الآبال جمع منى و أنت خبير بأن حمل الآيات الخمس بما لمفرداتها من ظواهر المعاني على إبل الحاج الذين يفيضون من جمع إلى منى خلاف ظاهرها جدا.
فالمتعين حملها على خيل الغزاة و سياق الآيات و خاصة قوله: ﴿فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً﴾ ﴿فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً﴾ يعطي أنها غزاة بعينها أقسم الله فيها بخيل المجاهدين العاديات و الفاء في الآيات الأربع تدل على ترتب كل منها على ما قبلها.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ الكنود الكفور، و الآية كقوله: ﴿إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ﴾: الحج: ٦٦، و هو إخبار عما في طبع الإنسان من اتباع الهوى و الانكباب على عرض الدنيا و الانقطاع به عن شكر ربه على ما أنعم عليه.
و فيه تعريض للقوم المغار عليهم، و كان المراد بكفرانهم كفرانهم بنعمة الإسلام التي أنعم الله بها عليهم و هي أعظم نعمة أوتوها فيها طيب حياتهم الدنيا و سعادة حياتهم الأبدية الأخرى.
قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّهُ عَلىَ ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾ ظاهر اتساق الضمائر أن يكون ضمير ﴿وَ إِنَّهُ﴾ للإنسان فيكون المراد بكونه شهيدا على كفران نفسه بكفران نفسه علمه المذموم و تحمله له.
فالمعنى و إن الإنسان على كفرانه بربه شاهد متحمل فالآية في معنى قوله: ﴿بَلِ
اَلْإِنْسَانُ عَلىَ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾: القيامة: ١٤.
و قيل: الضمير لله و اتساق الضمائر لا يلائمه.
قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّهُ لِحُبِّ اَلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ قيل: اللام في ﴿لِحُبِّ اَلْخَيْرِ﴾ للتعليل و الخير المال، و المعنى و إن الإنسان لأجل حب المال لشديد أي بخيل شحيح، و قيل: المراد أن الإنسان لشديد الحب للمال و يدعوه ذلك إلى الامتناع من إعطاء حق الله، و الإنفاق في الله. كذا فسروا.
و لا يبعد أن يكون المراد بالخير مطلقة و يكون المراد أن حب الخير فطري للإنسان ثم إنه يرى عرض الدنيا و زينتها خيرا فتنجذب إليه نفسه و ينسيه ذلك ربه أن يشكره.
قوله تعالى: ﴿أَ فَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي اَلْقُبُورِ ﴾ إلى قوله ﴿لَخَبِيرٌ﴾ البعثرة كالبحثرة البعث و النشر، و تحصيل ما في الصدور تمييز ما في باطن النفوس من صفة الإيمان و الكفر و رسم الحسنة و السيئة قال تعالى: ﴿يَوْمَ تُبْلَى اَلسَّرَائِرُ﴾: الطارق: ٩، و قيل: هو إظهار ما أخفته الصدور لتجازى على السر كما تجازى على العلانية.
و قوله: ﴿أَ فَلاَ يَعْلَمُ﴾ الاستفهام فيه للإنكار، و مفعول يعلم جملة قائمة مقام المفعولين يدل عليه المقام. ثم استؤنف فقيل: إذا بعثر ما في القبور إلخ تأكيدا للإنكار، و المراد بما في القبور الأبدان.
و المعنى و الله أعلم أ فلا يعلم الإنسان أن لكنوده و كفرانه بربه تبعة ستلحقه و يجازى بها، إذا أخرج ما في القبور من الأبدان و حصل و ميز ما في سرائر النفوس من الإيمان و الكفر و الطاعة و المعصية إن ربهم بهم يومئذ لخبير فيجازيهم بما فيها.
(بحث روائي)
في المجمع، قيل :بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) سرية إلى حي من كنانة فاستعمل عليهم المنذر بن عمرو الأنصاري أحد النقباء فتأخر رجوعهم فقال المنافقون: قتلوا جميعا فأخبر الله تعالى عنها بقوله: ﴿وَ اَلْعَادِيَاتِ ضَبْحاً﴾: عن مقاتل. و قيل: نزلت السورة لما بعث النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عليا (عليه السلام) إلى ذات السلاسل فأوقع بهم و ذلك بعد أن بعث عليهم مرارا غيره من الصحابة فرجع كل منهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) :.
و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل.
قال: و سميت هذه الغزوة ذات السلاسل لأنه أسر منهم و قتل و سبي و شد أسراؤهم في الحبال مكتفين كأنهم في السلاسل.
: و لما نزلت السورة خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى الناس فصلى بهم الغداة و قرأ فيها ﴿وَ اَلْعَادِيَاتِ﴾ فلما فرغ من صلاته قال أصحابه: هذه سورة لم نعرفها فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : نعم إن عليا ظفر بأعداء الله و بشرني بذلك جبريل في هذه الليلة فقدم علي (عليه السلام) بعد أيام بالغنائم و الأسارى.
(١٠١) سورة القارعة مكية و هي إحدى عشرة آية (١١)
[سورة القارعة (١٠١): الآیات ١ الی ١١]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ اَلْقَارِعَةُ ١ مَا اَلْقَارِعَةُ ٢ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا اَلْقَارِعَةُ ٣ يَوْمَ يَكُونُ اَلنَّاسُ كَالْفَرَاشِ اَلْمَبْثُوثِ ٤ وَ تَكُونُ اَلْجِبَالُ كَالْعِهْنِ اَلْمَنْفُوشِ ٥ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ٦ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ٧ وَ أَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ٨ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ٩ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ١٠ نَارٌ حَامِيَةٌ ١١﴾
(بيان)
إنذار و تبشير بالقيامة يغلب فيه جانب الإنذار، و السورة مكية.
قوله تعالى: ﴿اَلْقَارِعَةُ مَا اَلْقَارِعَةُ﴾ مبتدأ و خبر، و القارعة من القرع و هو الضرب باعتماد شديد، و هي من أسماء القيامة في القرآن. قيل: سميت بها لأنها تقرع القلوب بالفزع و تقرع أعداء الله بالعذاب.
و السؤال عن حقيقة القارعة في قوله: ﴿مَا اَلْقَارِعَةُ﴾ مع كونها معلومة إشارة إلى تعظيم أمرها و تفخيمه و أنها لا تكتنه علما، و قد أكد هذا التعظيم و التفخيم بقوله بعد:
﴿وَ مَا أَدْرَاكَ مَا اَلْقَارِعَةُ﴾.
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَكُونُ اَلنَّاسُ كَالْفَرَاشِ اَلْمَبْثُوثِ﴾ ظرف متعلق بفعل مقدر نحو اذكر و تقرع و تأتي، و الفراش على ما نقل عن الفراء الجراد الذي ينفرش و يركب بعضه بعضا و هو غوغاء الجراد. قيل: شبه الناس عند البعث بالفراش لأن الفراش إذا ثار لم يتجه إلى جهة واحدة كسائر الطير و كذلك الناس إذا خرجوا من قبورهم أحاط بهم الفزع فتوجهوا جهات شتى أو توجهوا إلى منازلهم المختلفة سعادة و شقاء. و المبعوث من البث و هو التفريق.
قوله تعالى: ﴿وَ تَكُونُ اَلْجِبَالُ كَالْعِهْنِ اَلْمَنْفُوشِ﴾ العهن الصوف ذو ألوان مختلفة، و المنفوش من النفش و هو نشر الصوف بندف و نحوه فالعهن المنفوش الصوف المنتشر ذو ألوان مختلفة إشارة إلى تلاشي الجبال على اختلاف ألوانها بزلزلة الساعة.
قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾ إشارة إلى وزن الأعمال و أن الأعمال منها ما هو ثقيل في الميزان و هو ما له قدر و منزلة عند الله و هو الإيمان و أنواع الطاعات، و منها ما ليس كذلك و هو الكفر و أنواع المعاصي و يختلف القسمان أثرا فيستتبع الثقيل السعادة و يستتبع الخفيف الشقاء، و قد تقدم البحث عن معنى الميزان في تفسير السور السابقة.
و قوله: ﴿فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾ العيشة بكسر العين كالجلسة بناء نوع، و توصيفها براضية و الراضي صاحبها من المجاز العقلي أو المعنى في عيشة ذات رضى.
قوله تعالى: ﴿وَ أَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ﴾ الظاهر أن المراد بهاوية جهنم و تسميتها بهاوية لهوي من ألقي فيها أي سقوطه إلى أسفل سافلين قال تعالى: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا﴾: التين: ٦.
فتوصيف النار بالهاوية مجاز عقلي كتوصيف العيشة بالراضية و عد هاوية إما للداخل فيها لكونها مأواه و مرجعه الذي يرجع إليه كما يرجع الولد إلى أمه.
و قيل: المراد بأمه أم رأسه و المعنى فأم رأسه هاوية أي ساقطة فيها لأنهم يلقون في النار على أم رأسهم، و يبعده بقاء الضمير في قوله: ﴿مَا هِيَهْ﴾ بلا مرجع ظاهر.
قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ﴾ ضمير هي لهاوية، و الهاء في ﴿هِيَهْ﴾ للوقف و الجملة تفسير تفيد تعظيم أمر النار و تفخيمه.
قوله تعالى: ﴿نَارٌ حَامِيَةٌ﴾ أي حارة شديدة الحرارة و هو جواب الاستفهام في ﴿مَا هِيَهْ﴾ و تفسير لهاوية.
بحث روائي
في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿كَالْعِهْنِ اَلْمَنْفُوشِ﴾ قال: العهن الصوف، و في قوله:
﴿وَ أَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾ قال: من الحسنات، و في قوله: ﴿فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ﴾ قال: أم رأسه، يقذف في النار على رأسه.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال : إن نفس المؤمن إذا قبضت يلقاها أهل الرحمة من عباد الله كما يلقون البشير من أهل الدنيا فيقولون: انظروا صاحبكم يستريح فإنه كان في كرب شديد ثم يسألونه ما فعل فلان و فلانة؟ هل تزوجت؟ فإذا سألوه عن الرجل قد مات قبله فيقول: هيهات قد مات ذاك قبلي فيقولون: إنا لله و إنا إليه راجعون ذهب به إلى أمه الهاوية فبئست الأم و بئست المربية:.
أقول: و روي هذا المعنى عن أنس بن مالك و عن الحسن و الأشعث بن عبد الله الأعمى عنه (ص).
(١٠٢) سورة التكاثر مكية و هي ثمان آيات (٨)
[سورة التكاثر (١٠٢): الآیات ١ الی ٨ ]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ أَلْهَاكُمُ اَلتَّكَاثُرُ ١ حَتَّى زُرْتُمُ اَلْمَقَابِرَ ٢ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ٣ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ٤ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اَلْيَقِينِ ٥ لَتَرَوُنَّ اَلْجَحِيمَ ٦ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اَلْيَقِينِ ٧ ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ اَلنَّعِيمِ ٨﴾
(بيان)
توبيخ شديد للناس على تلهيهم بالتكاثر في الأموال و الأولاد و الأعضاء و غفلتهم عما وراءه من تبعة الخسران و العذاب، و تهديد بأنهم سوف يعلمون و يرون ذلك و يسألون عن
هذه النعم التي أوتوها ليشكروا فتلهوا بها و بدلوا نعمة الله كفرا.
و السورة بما لها من السياق تحتمل المكية و المدنية، و سيأتي ما ورد في سبب نزولها في البحث الروائي إن شاء الله.
قوله تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ اَلتَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ اَلْمَقَابِرَ﴾ قال في المفردات،: اللهو ما يشغل الإنسان عما يعنيه و يهمه. قال، و يقال: ألهاه كذا أي شغله عما هو أهم إليه، قال تعالى:
﴿أَلْهَاكُمُ اَلتَّكَاثُرُ﴾ انتهى.
و قال: و المكاثرة و التكاثر التباري في كثرة المال و العز، انتهى. و قال: المقبرة بكسر الميم و المقبرة بفتحها موضع القبور و جمعها مقابر، قال تعالى: ﴿حَتَّى زُرْتُمُ اَلْمَقَابِرَ﴾ كناية عن الموت، انتهى.
فالمعنى على ما يعطيه السياق شغلكم التكاثر في متاع الدنيا و زينتها و التسابق في تكثير العدة و العدة عما يهمكم و هو ذكر الله حتى لقيتم الموت فعمتكم الغفلة مدى حياتكم.
و قيل: المعنى شغلكم التباهي و التباري بكثرة الرجال بأن يقول هؤلاء: نحن أكثر رجالا، و هؤلاء: نحن أكثر حتى إذا استوعبتم عدد الأحياء صرتم إلى القبور فعددتم الأموات من رجالكم فتكاثرتم بأمواتكم.
و هذا المعنى مبني على ما ورد في أسباب النزول أن قبيلتين من الأنصار تفاخرتا بالأحياء ثم بالأموات، و في بعضها أن ذلك كان بمكة بين بني عبد مناف و بني سهم فنزلت السورة، و سيأتي القصة في البحث الروائي.
قوله تعالى: ﴿كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ ردع عن اشتغالهم بما لا يهمهم عما يعنيهم و تخطئة لهم، و قوله: ﴿سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ تهديد معناه على ما يفيده المقام سوف تعلمون تبعة تلهيكم هذا و تعرفونها إذا انقطعتم عن الحياة الدنيا.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ تأكيد للردع و التهديد السابقين، و قيل: المراد بالأول علمهم بها عند الموت و بالثاني علمهم بها عند البعث.
قوله تعالى: ﴿كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اَلْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ اَلْجَحِيمَ﴾ ردع بعد ردع تأكيدا و اليقين العلم الذي لا يداخله شك و ريب.
و قوله: ﴿لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اَلْيَقِينِ﴾ جواب لو محذوف و التقدير لو تعلمون الأمر علم اليقين لشغلكم ما تعلمون عن التباهي و التفاخر بالكثرة، و قوله: ﴿لَتَرَوُنَّ اَلْجَحِيمَ﴾ استئناف في
الكلام، و اللام للقسم، و المعنى أقسم لترون الجحيم التي جزاء هذا التلهي كذا فسروا.
قالوا: و لا يجوز أن يكون قوله: ﴿لَتَرَوُنَّ اَلْجَحِيمَ﴾ جواب لو الامتناعية لأن الرؤية محقق الوقوع و جوابها لا يكون كذلك.
و هذا مبني على أن يكون المراد رؤية الجحيم يوم القيامة كما قال: ﴿وَ بُرِّزَتِ اَلْجَحِيمُ لِمَنْ يَرىَ﴾: النازعات: ٣٦ و هو غير مسلم بل الظاهر أن المراد رؤيتها قبل يوم القيامة رؤية البصيرة و هي رؤية القلب التي هي من آثار اليقين على ما يشير إليه، قوله تعالى: ﴿وَ كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ﴾: الأنعام: ٧٥، و قد تقدم الكلام فيها، و هذه الرؤية القلبية قبل يوم القيامة غير محققة لهؤلاء المتلهين بل ممتنعة في حقهم لامتناع اليقين عليهم.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اَلْيَقِينِ﴾ المراد بعين اليقين نفسه، و المعنى لترونها محض اليقين، و هذه بمشاهدتها يوم القيامة، و من الدليل عليه قوله بعد ذلك ﴿ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ اَلنَّعِيمِ﴾ فالمراد بالرؤية الأولى رؤيتها قبل يوم القيامة و بالثانية رؤيتها يوم القيامة.
و قيل: الأولى قبل الدخول فيها يوم القيامة و الثانية إذ دخلوها.
و قيل: الأولى بالمعرفة و الثانية بالمشاهدة، و قيل: المراد الرؤية بعد الرؤية إشارة إلى الاستمرار و الخلود، و قيل غير ذلك و هي وجوه ضعيفة.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ اَلنَّعِيمِ﴾ ظاهر السياق أن هذا الخطاب و كذلك الخطابات المتقدمة في السورة للناس بما أن فيهم من اشتغل بنعمة ربه عن ربه فأنساه التكاثر فيها عن ذكر الله، و ما في السورة من التوبيخ و التهديد متوجه إلى عامة الناس ظاهرا واقع على طائفة خاصة منهم حقيقة و هم الذين ألهاهم التكاثر.
و كذا ظاهر السياق أن المراد بالنعيم مطلقة و هو كل ما يصدق عليه أنه نعمة فالإنسان مسئول عن كل نعمة أنعم الله بها عليه.
و ذلك أن النعمة و هي الأمر الذي يلائم المنعم عليه و يتضمن له نوعا من الخير و النفع إنما تكون نعمة بالنسبة إلى المنعم عليه إذا استعملها بحيث يسعد بها فينتفع و أما لو استعملها على خلاف ذلك كانت نقمة بالنسبة إليه و إن كانت نعمة بالنظر إلى نفسها.
و قد خلق الله تعالى الإنسان و جعل غاية خلقته التي هي سعادته و منتهى كماله التقرب العبودي إليه كما قال: ﴿وَ مَا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾: الذاريات ٥٦ و هي
الولاية الإلهية لعبده، و قد هيأ الله سبحانه له كل ما يسعد و ينتفع به في سلوكه نحو الغاية التي خلق لها و هي النعم فأسبغ عليه نعمه ظاهرة و باطنة.
فاستعمال هذه النعم على نحو يرتضيه الله و ينتهي بالإنسان إلى غايته المطلوبة هو الطريق إلى بلوغ الغاية و هو الطاعة، و استعمالها بالجمود عليها و نسيان ما وراءها غي و ضلال و انقطاع عن الغاية و هو المعصية، و قد قضى سبحانه قضاء لا يرد و لا يبدل أن يرجع الإنسان إليه فيسأله عن عمله فيحاسبه و يجزيه، و عمله هو استعماله للنعم الإلهية قال تعالى: ﴿وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعىَ وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرىَ ثُمَّ يُجْزَاهُ اَلْجَزَاءَ اَلْأَوْفىَ وَ أَنَّ إِلىَ رَبِّكَ اَلْمُنْتَهىَ﴾: النجم: ٤٢، فالسؤال عن عمل العبد سؤال عن النعيم كيف استعمله أ شكر النعمة أم كفر بها.
(بحث روائي)
في المجمع، قيل ":نزلت في اليهود قالوا: نحن أكثر من بني فلان، و بنو فلان أكثر من بني فلان ألهاهم ذلك حتى ماتوا ضلالا" :عن قتادة.
و قيل ":نزلت في فخذ من الأنصار تفاخروا" :عن أبي بريدة، و قيل ":نزلت في حيين من قريش: بني عبد مناف بن قصي و بني سهم بن عمر و تكاثروا و عدوا أشرافهم فكثرهم بنو عبد مناف. ثم قالوا: نعد موتانا حتى زاروا القبور فعدوهم و قالوا: هذا قبر فلان و هذا قبر فلان فكثرهم بنو سهم لأنهم كانوا أكثر عددا في الجاهلية" :عن مقاتل و الكلبي.
و في تفسير البرهان، عن البرقي عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اَلْيَقِينِ﴾ قال: المعاينة.
أقول: الرواية تؤيد ما قدمناه من المعنى.
و في تفسير القمي، بإسناده عن جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : قلت له: ﴿لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ اَلنَّعِيمِ﴾ قال: تسأل هذه الأمة عما أنعم الله عليها برسوله ثم بأهل بيته.
و في الكافي، بإسناده عن أبي خالد الكابلي قال : دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فدعا بالغذاء فأكلت معه طعاما ما أكلت طعاما أطيب منه قط و لا ألطف فلما فرغنا من الطعام قال: يا أبا خالد كيف رأيت طعامك؟ أو قال: طعامنا؟ قلت: جعلت فداك
ما أكلت طعاما أطيب منه قط و لا أنظف و لكن ذكرت الآية التي في كتاب الله عز و جل ﴿ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ اَلنَّعِيمِ﴾ فقال أبو جعفر (عليه السلام): إنما يسألكم عما أنتم عليه من الحق.
و فيه، بإسناده عن أبي حمزة قال: كنا عند أبي عبد الله (عليه السلام) جماعة فدعا بطعام ما لنا عهد بمثله لذاذة و طيبا و أتينا بتمر تنظر فيه أوجهنا من صفائه و حسنه فقال رجل:
لتسألن عن هذا النعيم الذي تنعمتم به عند ابن رسول الله فقال أبو عبد الله إن الله عز و جل أكرم و أجل أن يطعم طعاما فيسوغكموه ثم نسألكم عنه إنما يسألكم عما أنعم عليكم بمحمد و آل محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) .
أقول: و هذا المعنى مروي عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) بطرق أخرى و عبارات مختلفة و في بعضها أن النعيم ولايتنا أهل البيت، و يئول المعنى إلى ما قدمناه من عموم النعيم لكل نعمة أنعم الله بها بما أنها نعمة.
بيان ذلك أن هذه النعم لو سئل عن شيء منها فليست يسأل عنها بما أنها لحم أو خبز أو تمر أو ماء بارد أو أنها سمع أو بصر أو يد أو رجل مثلا و إنما يسأل عنها بما أنها نعمة خلقها الله للإنسان و أوقعها في طريق كماله و الحصول على التقرب العبودي كما تقدمت الإشارة إليه و ندبه إلى أن يستعملها شكرا لا كفرا.
فالمسئول عنها هي النعمة بما أنها نعمة، و من المعلوم أن الدال على نعيمية النعيم و كيفية استعماله شكرا و المبين لذلك كله هو الدين الذي جاء به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و نصب لبيانه الأئمة من أهل بيته فالسؤال عن النعيم مرجعه السؤال عن العمل بالدين في كل حركة و سكون و من المعلوم أيضا أن السؤال عن النعيم الذي هو الدين سؤال عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الأئمة من بعده الذين افترض الله طاعتهم و أوجب اتباعهم في السلوك إلى الله الذي طريقه استعمال النعم كما بينه الرسول و الأئمة.
و إلى كون السؤال عن النعيم سؤالا عن الدين يشير ما في رواية أبي خالد من قوله:
«إنما يسألكم عما أنتم عليه من الحق».
و إلى كونه سؤالا عن النعيم الذي هو النبي و أهل بيته يشير ما في روايتي جميل و أبي حمزة السابقتين من قوله: «يسأل هذه الأمة عما أنعم الله عليها برسوله ثم بأهل بيته أو ما في معناه، و في بعض الروايات: النعيم هو رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أنعم الله به على أهل العالم
فاستنقذهم من الضلالة، و في بعضها: أن النعيم ولايتنا أهل البيت، و المال واحد و من ولاية أهل البيت افتراض طاعتهم و اتباعهم فيما يسلكونه من طريق العبودية.
و في المجمع، و قيل :النعيم الصحة و الفراغ :عن عكرمة، و يعضده ما رواه ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة و الفراغ.
و فيه، و قيل :هو يعني النعيم الأمن و الصحة" :عن عبد الله بن مسعود و مجاهد، و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).
أقول: و في روايات أخرى من طرق أهل السنة أن النعيم هو التمر و الماء البارد و في بعضها غيرهما، و ينبغي أن يحمل الجميع على إيراد المثال.
و في الحديث النبوي من طرقهم أيضا:، ثلاث لا يسأل عنها العبد: خرقة يواري بها عورته أو كسرة يسد بها جوعته أو بيت يكنه من الحر و البرد. الحديث، و ينبغي أن يحمل على خفة الحساب في الضروريات و نفي المناقشة فيه و الله أعلم.
(١٠٣) سورة العصر مكية و هي ثلاث آيات (٣)
[سورة العصر (١٠٣): الآیات ١ الی ٣]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ وَ اَلْعَصْرِ ١ إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ٢ إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ وَ تَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ٣﴾
(بيان)
تخلص السورة جميع المعارف القرآنية و تجمع شتات مقاصد القرآن في أوجز بيان، و هي تحتمل المكية و المدنية لكنها أشبه بالمكية.
قوله تعالى: ﴿وَ اَلْعَصْرِ﴾ إقسام بالعصر و الأنسب لما تتضمنه الآيتان التاليتان من شمول الخسران للعالم الإنساني إلا لمن اتبع الحق و صبر عليه و هم المؤمنون الصالحون عملا، أن يكون المراد بالعصر عصر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو عصر طلوع الإسلام على المجتمع البشري و ظهور الحق على الباطل.
و قيل: المراد به وقت العصر و هو الطرف الأخير من النهار لما فيه من الدلالة على
التدبير الربوبي بإدبار النهار و إقبال الليل و ذهاب سلطان الشمس، و قيل: المراد به صلاة العصر و هي الصلاة الوسطى التي هي أفضل الفرائض اليومية، و قيل الليل و النهار و يطلق عليهما العصران، و قيل الدهر لما فيه من عجائب الحوادث الدالة على القدرة الربوبية و غير ذلك.
و قد ورد في بعض الروايات أنه عصر ظهور المهدي (عليه السلام) لما فيه من تمام ظهور الحق على الباطل.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ المراد بالإنسان جنسه، و الخسر و الخسران و الخسار و الخسارة نقص رأس المال قال الراغب: و ينسب ذلك إلى الإنسان فيقال:
خسر فلان و إلى الفعل فيقال: خسرت تجارته، انتهى. و التنكير في ﴿خُسْرٍ﴾ للتعظيم و يحتمل التنويع أي في نوع من الخسر غير الخسارات المالية و الجاهية قال تعالى: ﴿اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ اَلْخُسْرَانُ اَلْمُبِينُ﴾: الزمر ١٥.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ﴾ استثناء من جنس الإنسان الواقع في الخسر، و المستثنون هم الأفراد المتلبسون بالإيمان و الأعمال الصالحة فهم آمنون من الخسر.
و ذلك أن كتاب الله يبين أن للإنسان حياة خالدة مؤبدة لا تنقطع بالموت و إنما الموت انتقال من دار إلى دار كما تقدم في تفسير قوله تعالى: ﴿عَلىَ أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَ نُنْشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾: الواقعة ٦١، و يبين أن شطرا من هذه الحياة و هي الحياة الدنيا حياة امتحانية تتعين بها صفة الشطر الأخير الذي هو الحياة الآخرة المؤبدة من سعادة و شقاء قال تعالى: ﴿وَ مَا اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا فِي اَلْآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ﴾: الرعد ٢٦، و قال: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً﴾: الأنبياء ٣٥.
و يبين أن مقدمية هذه الحياة لتلك الحياة إنما هي بمظاهرها من الاعتقاد و العمل فالاعتقاد الحق و العمل الصالح ملاك السعادة الأخروية و الكفر و الفسوق ملاك الشقاء فيها قال تعالى: ﴿وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعىَ وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرىَ ثُمَّ يُجْزَاهُ اَلْجَزَاءَ اَلْأَوْفىَ﴾، و قال: ﴿مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ﴾الروم ٤٤، و قال: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا﴾: حم السجدة ٤٦، و قد سمى الله تعالى ما سيلقاه الإنسان في الآخرة جزاء و أجرا في آيات كثيرة.
و يتبين بذلك كله أن الحياة رأس مال للإنسان يكسب به ما يعيش به في حياته الآخرة فإن اتبع الحق في العقد و العمل فقد ربحت تجارته و بورك في مكسبه و أمن الشر
في مستقبله، و إن اتبع الباطل و أعرض عن الإيمان و العمل الصالح فقد خسرت تجارته و حرم الخير في عقباه و هو قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ﴾.
و المراد بالإيمان الإيمان بالله و من الإيمان بالله الإيمان بجميع رسله و الإيمان باليوم الآخر فقد نص تعالى فيمن لم يؤمن ببعض رسله[6] أو باليوم الآخر إنه غير مؤمن بالله.
و ظاهر قوله: ﴿وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ﴾ التلبس بجميع الأعمال الصالحة فلا يشمل الاستثناء الفساق بترك بعض الصالحات من المؤمنين و لازمه أن يكون الخسر أعم من الخسر في جميع جهات حياته كما في الكافر المعاند للحق المخلد في العذاب، و الخسر في بعض جهات حياته كالمؤمن الفاسق الذي لا يخلد في النار و ينقطع عنه العذاب بشفاعة و نحوها.
قوله تعالى: ﴿وَ تَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ التواصي بالحق هو أن يوصي بعضهم بعضا بالحق أي باتباعه و الدوام عليه فليس دين الحق إلا اتباع الحق اعتقادا و عملا و التواصي بالحق أوسع من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لشموله الاعتقاديات و مطلق الترغيب و الحث على العمل الصالح.
ثم التواصي بالحق من العمل الصالح فذكره بعد العمل الصالح من قبيل ذكر الخاص بعد العام اهتماما بأمره كما أن التواصي بالصبر من التواصي بالحق و ذكره بعده من ذكر الخاص بعد العام اهتماما بأمره، و يؤكد تكرار ذكر التواصي حيث قال: ﴿وَ تَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ و لم يقل: و تواصوا بالحق و الصبر.
و على الجملة ذكر تواصيهم بالحق و بالصبر بعد ذكر تلبسهم بالإيمان و العمل الصالح للإشارة إلى حياة قلوبهم و انشراح صدورهم للإسلام لله فلهم اهتمام خاص و اعتناء تام بظهور سلطان الحق و انبساطه على الناس حتى يتبع و يدوم اتباعه قال تعالى: ﴿أَ فَمَنْ شَرَحَ اَللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلىَ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اَللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾: الزمر ٢٢.
و قد أطلق الصبر فالمراد به أعم من الصبر على طاعة الله، و الصبر عن معصيته، و الصبر عند النوائب التي تصيبه بقضاء من الله و قدر.
بحث روائي
في تفسير القمي، بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلخ، فقال: استثنى أهل صفوته من خلقه. أقول: و طبق في ذيل الرواية الإيمان على الإيمان بولاية علي (عليه السلام)، و التواصي بالحق على توصيتهم ذرياتهم و أخلافهم بها.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: ﴿وَ اَلْعَصْرِ إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ يعني أبا جهل بن هشام ﴿إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ﴾ ذكر عليا و سلمان.
(١٠٤) سورة الهمزة مكية و هي تسع آيات (٩)
[سورة الهمزة (١٠٤): الآیات ١ الی ٩ ]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ١ اَلَّذِي جَمَعَ مَالاً وَ عَدَّدَهُ ٢ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ٣ كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي اَلْحُطَمَةِ ٤ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا اَلْحُطَمَةُ ٥ نَارُ اَللَّهِ اَلْمُوقَدَةُ ٦ اَلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى اَلْأَفْئِدَةِ ٧ إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ٨ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ ٩﴾
(بيان)
وعيد شديد للمغرمين بجمع المال المستعلين به على الناس المستكبرين عليهم فيزرون بهم و يعيبونهم بما ليس بعيب، و السورة مكية.
قوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾ قال في المجمع،: الهمزة الكثير الطعن على غيره بغير حق العائب له بما ليس بعيب، و أصل الهمز الكسر. قال: و اللمز العيب أيضا و الهمزة و اللمزة بمعنى، و قد قيل: بينهما فرق فإن الهمزة الذي يعيبك بظهر الغيب، و اللمزة الذي يعيبك في وجهك. عن الليث.
و قيل: الهمزة الذي يؤذي جليسه بسوء لفظه، و اللمزة الذي يكسر عينه على جليسه
و يشير برأسه و يومئ بعينه. قال: و فعله بناء المبالغة في صفة من يكثر منه الفعل و يصير عادة له تقول: رجل نكحة كثير النكاح و ضحكة كثير الضحك و كذا همزة و لمزة انتهى.
فالمعنى ويل لكل عياب مغتاب، و فسر بمعان أخر على حسب اختلافهم في تفسير الهمزة و اللمزة.
قوله تعالى: ﴿اَلَّذِي جَمَعَ مَالاً وَ عَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾ بيان لهمزة لمزة و تنكير ﴿مَالاً﴾ للتحقير فإن المال و إن كثر ما كثر لا يغني عن صاحبه شيئا غير أن له منه ما يصرفه في حوائج نفسه الطبيعية من أكلة تشبعه و شربة ماء ترويه و نحو ذلك و ﴿عَدَّدَهُ﴾ من العد بمعنى الإحصاء أي أنه لحبه المال و شغفه بجمعه يجمع المال و يعده عدا بعد عد التذاذا بتكثره. و قيل: المعنى جعله عدة و ذخرا لنوائب الدهر.
و قوله: ﴿يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾ أي يخلده في الدنيا و يدفع عنه الموت و الفناء فالماضي أريد به المستقبل بقرينة قوله: ﴿يَحْسَبُ﴾.
فهذا الإنسان لإخلاده إلى الأرض و انغماره في طول الأمل لا يقنع من المال بما يرتفع به حوائج حياته القصيرة و ضروريات أيامه المعدودة بل كلما زاد مالا زاد حرصا إلى ما لا نهاية له فظاهر حاله أنه يرى أن المال يخلده، و لحبه الغريزي للبقاء يهتم بجمعه و تعديده، و دغاه ما جمعه و عدده من المال و ما شاهده من الاستغناء إلى الطغيان و الاستعلاء على غيره من الناس كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَيَطْغىَ أَنْ رَآهُ اِسْتَغْنىَ﴾: العلق ٧، و يورثه هذا الاستكبار و التعدي الهمز و اللمز.
و من هنا يظهر أن قوله: ﴿يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾ بمنزلة التعليل لقوله: ﴿اَلَّذِي جَمَعَ مَالاً وَ عَدَّدَهُ﴾، و قوله: ﴿اَلَّذِي جَمَعَ﴾ إلخ بمنزلة التعليل لقوله: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾.
قوله تعالى: ﴿كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي اَلْحُطَمَةِ﴾ ردع عن حسبانه الخلود بالمال، و اللام في ﴿لَيُنْبَذَنَّ﴾ للقسم، و النبذ القذف و الطرح، و الحطمة مبالغة من الحطم و هو الكسر و جاء بمعنى الأكل، و هي من أسماء جهنم على ما يفسرها قوله الآتي: ﴿نَارُ اَللَّهِ اَلْمُوقَدَةُ﴾.
و المعنى ليس مخلدا بالمال كما يحسب أقسم ليموتن و يقذفن في الحطمة.
قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَدْرَاكَ مَا اَلْحُطَمَةُ﴾ تفخيم و تهويل.
قوله تعالى: ﴿نَارُ اَللَّهِ اَلْمُوقَدَةُ اَلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى اَلْأَفْئِدَةِ﴾ إيقاد النار إشعالها و الاطلاع و الطلوع على الشيء الإشراف و الظهور، و الأفئدة جمع فؤاد و هو القلب، و المراد به في
القرآن مبدأ الشعور و الفكر من الإنسان و هو النفس الإنسانية.
و كان المراد من اطلاعها على الأفئدة أنها تحرق باطن الإنسان كما تحرق ظاهره بخلاف النار الدنيوية التي إنما تحرق الظاهر فقط قال تعالى: ﴿وَقُودُهَا اَلنَّاسُ وَ اَلْحِجَارَةُ﴾: البقرة ٢٤.
قوله تعالى: ﴿إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ﴾ أي مطبقة لا مخرج لهم منها و لا منجا.
قوله تعالى: ﴿فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ﴾ العمد بفتحتين جمع عمود و التمديد مبالغة في المد قيل: هي أوتاد الأطباق التي تطبق على أهل النار، و قيل: عمد ممددة يوثقون فيها مثل المقاطر و هي خشب أو جذوع كبار فيها خروق توضع فيها أرجل المحبوسين من اللصوص و غيرهم، و قيل غير ذلك.
(بحث روائي)
في روح المعاني، :في قوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾ نزل ذلك على ما أخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن إسحاق عن عثمان بن عمر في أبي بن خلف، و على ما أخرج عن السدي في أبي بن عمر و الثقفي الشهير بالأخنس بن شريق فإنه كان مغتابا كثير الوقيعة.
و على ما قال ابن إسحاق في أمية بن خلف الجمحي و كان يهمز النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .
و على ما أخرج ابن جرير و غيره عن مجاهد في جميل بن عامر و على ما قيل في الوليد بن المغيرة و اغتيابه لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و غضه منه، و على قول في العاص بن وائل.
أقول: ثم قال: و يجوز أن يكون نازلا في جمع من ذكر. انتهى و لا يبعد أن يكون من تطبيق الرواة و هو كثير في أسباب النزول.
و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ﴾ قال: الذي يغمز الناس و يستحقر الفقراء، و قوله: ﴿لُمَزَةٍ﴾ يلوي عنقه و رأسه و يغضب إذا رأى فقيرا أو سائلا ﴿اَلَّذِي جَمَعَ مَالاً وَ عَدَّدَهُ﴾ قال: أعده و وضعه.
و فيه، :قوله تعالى: ﴿اَلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى اَلْأَفْئِدَةِ﴾ قال: تلتهب على الفؤاد قال أبو ذر رضي الله عنه: بشر المتكبرين بكي في الصدور و سحب على الظهور. قوله ﴿إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ﴾ قال: مطبقة ﴿فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ﴾ قال: إذا مدت العمد عليهم أكلت و الله الجلود.
و في المجمع، روى العياشي بإسناده عن محمد بن النعمان الأحول عن حمران بن أعين عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : إن الكفار و المشركين يعيرون أهل التوحيد في النار و يقولون:
ما نرى توحيدكم أغنى عنكم شيئا و ما نحن و أنتم إلا سواء قال: فيأنف لهم الرب تعالى فيقول للملائكة: اشفعوا فيشفعون لمن شاء الله ثم يقول للنبيين: اشفعوا فيشفعون لمن شاء الله ثم يقول للمؤمنين: اشفعوا فيشفعون لمن شاء الله و يقول الله: أنا أرحم الراحمين اخرجوا برحمتي فيخرجون كما يخرج الفراش.
قال: ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): ثم مدت العمد و أوصدت عليهم و كان و الله الخلود.
(١٠٥) سورة الفيل مكية و هي خمس آيات (٥)
[سورة الفيل (١٠٥): الآیات ١ الی ٥]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ اَلْفِيلِ ١ أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ٢ وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ ٣ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ٤ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ٥﴾
(بيان)
فيها إشارة إلى قصة أصحاب الفيل إذ قصدوا مكة لتخريب الكعبة المعظمة فأهلكهم الله بإرسال طير أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول، و هي من آيات الله الجلية التي لا سترة عليها، و قد أرخوا بها و ذكرها الجاهليون في أشعارهم، و السورة مكية.
قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ اَلْفِيلِ﴾ المراد بالرؤية العلم الظاهر ظهور الحس، و الاستفهام إنكاري، و المعنى أ لم تعلم كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، و قد كانت الواقعة عام ولد فيه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .
قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ﴾ المراد بكيدهم سوء قصدهم بمكة و إرادتهم تخريب البيت الحرام، و التضليل و الإضلال واحد، و جعل كيدهم في تضليل جعل سعيهم ضالا لا يهتدى إلى الغاية المقصودة منه فقد ساروا لتخريب الكعبة و انتهى بهم إلى هلاك أنفسهم.
قوله تعالى: ﴿وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ﴾ الأبابيل كما قيل جماعات في تفرقة زمرة زمرة، و المعنى و أرسل الله على أصحاب الفيل جماعات متفرقة من الطير و الآية و التي تتلوها عطف تفسير على قوله: ﴿أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ﴾.
قوله تعالى: ﴿تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ﴾ أي ترمي أبابيل الطير أصحاب الفيل بحجارة من سجيل، و قد تقدم معنى السجيل في تفسير قصص قوم لوط.
قوله تعالى: ﴿فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ العصف ورق الزرع و العصف المأكول ورق الزرع الذي أكل حبه أو قشر الحب الذي أكل لبه و المراد أنهم عادوا بعد وقوع السجيل عليهم أجسادا بلا أرواح أو أن الحجر بحرارته أحرق أجوافهم، و قيل:
المراد ورق الزرع الذي وقع فيها الأكال و هو أن يأكله الدود فيفسده و فسرت الآية ببعض وجوه أخر لا يناسب الأدب القرآني.
(بحث روائي)
في المجمع، ":أجمعت الرواة على أن ملك اليمن الذي قصد هدم الكعبة هو أبرهة بن الصباح الأشرم و قيل: إن كنيته أبو يكسوم و نقل عن الواقدي أنه جد النجاشي الذي كان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) .
ثم ساق الكلام في قصة استيلائه على ملك اليمن إلى أن قال: ثم إنه بنى كعبة باليمن و جعل فيها قبابا من ذهب فأمر أهل مملكته بالحج إليها يضاهي بذلك البيت الحرام، و إن رجلا من بني كنانة خرج حتى قدم اليمن فنظر إليها ثم قعد فيها يعني لحاجة الإنسان فدخلها أبرهة فوجد تلك العذرة فيها فقال: من اجترأ علي بهذا؟ و نصرانيتي لأهدمن ذلك البيت حتى لا يحجه حاج أبدا و دعا بالفيل و أذن قومه بالخروج و من اتبعه من أهل اليمن، و كان أكثر من اتبعه منهم عك و الأشعرون و خثعم.
قال: ثم خرج يسير حتى إذا كان ببعض طريقه بعث رجلا من بني سليم ليدعو الناس إلى حج بيته الذي بناه فتلقاه أيضا رجل من الحمس من بني كنانة فقتله فازداد بذلك حنقا و حث السير و الانطلاق.
و طلب من أهل الطائف دليلا فبعثوا معه رجلا من هذيل يقال له نفيل فخرج بهم يهديهم حتى إذا كانوا بالمغمس نزلوه و هو من مكة على ستة أميال فبعثوا مقدماتهم إلى
مكة فخرجت قريش عباديد في رءوس الجبال و قالوا: لا طاقة لنا بقتال هؤلاء و لم يبق بمكة غير عبد المطلب بن هاشم أقام على سقايته و غير شيبة بن عثمان بن عبد الدار أقام على حجابة البيت فجعل عبد المطلب يأخذ بعضادتي الباب ثم يقول:
لا هم أن المرء يمنع *** رحله فامنع جلالك
لا يغلبوا بصليبهم *** ومحالهم عدوا محالك
لا يدخلوا البلد الحرام *** إذا فأمر ما بدا لك
ثم إن مقدمات أبرهة أصابت نعما لقريش فأصابت فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم فلما بلغه ذلك خرج حتى أتى القوم، و كان حاجب أبرهة رجلا من الأشعرين و كان له بعبد المطلب معرفة فاستأذن له على الملك و قال له: أيها الملك جاءك سيد قريش الذي يطعم إنسها في الحي و وحشها في الجبل فقال له: ائذن له.
و كان عبد المطلب رجلا جسيما جميلا فلما رآه أبو يكسوم أعظمه أن يجلسه تحته و كره أن يجلسه معه على سريره فنزل من سريره فجلس على الأرض و أجلس عبد المطلب معه ثم قال: ما حاجتك؟ قال: حاجتي مائتا بعير لي أصابتها مقدمتك فقال أبو يكسوم:
و الله لقد رأيتك فأعجبتني ثم تكلمت فزهدت فيك فقال: و لم أيها الملك؟ قال: لأني جئت إلى بيت عزكم و منعتكم من العرب و فضلكم في الناس و شرفكم عليهم و دينكم الذي تعبدون فجئت لأكسره و أصيبت لك مائتا بعير فسألتك عن حاجتك فكلمتني في إبلك و لم تطلب إلي في بيتكم.
فقال له عبد المطلب: أيها الملك أنا أكلمك في مالي و لهذا البيت رب هو يمنعه لست أنا منه في شيء فراع ذلك أبو يكسوم و أمر برد إبل عبد المطلب عليه ثم رجع و أمست ليلتهم تلك الليلة كالحة نجومها كأنها تكلمهم كلاما لاقترابها منهم فأحست نفوسهم بالعذاب.
إلى أن قال: حتى إذا كان مع طلوع الشمس طلعت عليهم الطير معها الحجارة فجعلت ترميهم، و كل طائر في منقاره حجر و في رجليه حجران و إذا رمت بذلك مضت و طلعت أخرى فلا يقع حجر من حجارتهم تلك على بطن إلا خرقه و لا عظم إلا أوهاه و ثقبه، و ثاب أبو يكسوم راجعا قد أصابته بعض الحجارة فجعل كلما قدم أرضا انقطع له فيها إرب حتى إذا انتهى إلى اليمن لم يبق شيء إلا باده فلما قدمها تصدع صدره و انشق بطنه فهلك و لم يصب من الأشعرين و خثعم أحد، الحديث.
أقول: و في الروايات اختلاف شديد في خصوصيات القصة من أراد الوقوف عليها فعليه بمطولات السير و التواريخ.
(١٠٦) سورة قريش مكية و هي أربع آيات (٤)
[سورة قريش (١٠٦): الآیات ١ الی ٤ ]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ ١ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ اَلشِّتَاءِ وَ اَلصَّيْفِ ٢ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا اَلْبَيْتِ ٣ اَلَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ٤﴾
(بيان)
تتضمن السورة امتنانا على قريش بإيلافهم الرحلتين و تعقبه بدعوتهم إلى التوحيد و عبادة رب البيت، و السورة مكية.
و لمضمون السورة نوع تعلق بمضمون سورة الفيل و لذا ذهب قوم من أهل السنة إلى كون الفيل و لإيلاف سورة واحدة كما قيل بمثله في الضحى و أ لم نشرح لما بينهما من الارتباط كما نسب ذلك إلى المشهور بين الشيعة و الحق أن شيئا مما استندوا إليه لا يفيد ذلك.
أما القائلون بذلك من أهل السنة فإنهم استندوا فيه إلى ما روي أن أبي بن كعب لم يفصل بينهما في مصحفه بالبسملة، و بما روي عن عمرو بن ميمون الأزدي قال: صليت المغرب خلف عمر بن الخطاب فقرأ في الركعة الأولى و التين و في الثانية أ لم تر و لإيلاف قريش من غير أن يفصل بالبسملة.
و أجيب عن الرواية الأولى بمعارضتها بما روي أنه أثبت البسملة بينهما في مصحفه، و عن الثانية بأن من المحتمل على تقدير صحتها أن يكون الراوي لم يسمع قراءتها أو يكون قرأها سرا. على أنها معارض بما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن الله فضل قريشا بسبع خصال و فيها «و نزلت فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد غيرهم: لإيلاف قريش».
الحديث على أن الفصل متواتر.
و أما القائلون بذلك من الشيعة فاستندوا فيه إلى ما في المجمع، عن أبي العباس عن أحدهما (عليه السلام) قال: أ لم تر كيف فعل ربك و لإيلاف قريش سورة واحدة، و ما
في التهذيب، بإسناده عن العلاء عن زيد الشحام قال : صلى بنا أبو عبد الله (عليه السلام) الفجر فقرأ الضحى و أ لم نشرح في ركعة،
و ما في المجمع، عن العياشي عن المفضل بن صالح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سمعته يقول: لا تجمع بين سورتين في ركعة واحدة إلا الضحى و أ لم نشرح و أ لم تر كيف و لإيلاف قريش: و رواه المحقق في المعتبر، نقلا من كتاب الجامع لأحمد بن محمد بن أبي نصر عن المفضل: مثله. أما رواية أبي العباس فضعيف لما فيها من الرفع.
و أما رواية الشحام فقد رويت عنه بطريقين آخرين: أحدهما ما في التهذيب، بإسناده عن ابن مسكان عن زيد الشحام قال : صلى بنا أبو عبد الله (عليه السلام) فقرأ بنا بالضحى و أ لم نشرح، و ثانيهما عنه عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن زيد الشحام قال : صلى بنا أبو عبد الله (عليه السلام) فقرأ في الأولى الضحى و في الثانية أ لم نشرح لك صدرك.
و هذه أعني صحيحة ابن أبي عمير صريحة في قراءة السورتين في ركعتين و لا يبقى معها لرواية العلاء ظهور في الجمع بينهما، و أما رواية ابن مسكان فلا ظهور لها في الجمع و لا صراحة، و أما حمل ابن أبي عمير على النافلة فيدفعه قوله فيها: «صلى بنا» فإنه صريح في الجماعة و لا جماعة في نفل.
و أما رواية المفضل فهي أدل على كونهما سورتين منها على كونهما سورة واحدة حيث قيل:
لا تجمع بين سورتين ثم استثنى من السورتين الضحى و أ لم نشرح و كذا الفيل و لإيلاف.
فالحق أن الروايات إن دلت فإنما تدل على جواز القرآن بين سورتي الضحى و أ لم نشرح و سورتي الفيل و لإيلاف في ركعة واحدة من الفرائض و هو ممنوع في غيرها، و يؤيده رواية الراوندي في الخرائج، عن داود الرقي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال : فلما طلع الفجر قام فأذن و أقام و أقامني عن يمينه و قرأ في أول ركعة الحمد و الضحى و في الثانية بالحمد و قل هو الله أحد ثم قنت ثم سلم ثم جلس.
قوله تعالى: ﴿لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ اَلشِّتَاءِ وَ اَلصَّيْفِ﴾ الألف بكسر الهمزة اجتماع مع التئام كما قاله الراغب و منه الألفة، و قال في الصحاح،: و فلان قد ألف هذا الموضع بالكسر يألفه ألفا و آلفه إياه غيره، و يقال أيضا: آلفت الموضع أولفه إيلافا، انتهى.
و قريش عشيرة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هم ولد النضر بن كنانة المسمى قريشا، و الرحلة حال السير على الراحلة و هي الناقة القوية على السير كما في المجمع، و المراد بالرحلة خروج قريش
من مكة للتجارة و ذلك أن الحرم واد جديب لا زرع فيه و لا ضرع فكانت قريش تعيش فيه بالتجارة، و كانت لهم في كل سنة رحلتان للتجارة رحلة في الشتاء إلى اليمن و رحلة بالصيف إلى الشام، و كانوا يعيشون بذلك و كان الناس يحترمونهم لمكان البيت الحرام فلا يتعرضون لهم بقطع طريقهم أو الإغارة على بلدهم الأمن.
و قوله: ﴿لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ﴾ اللام فيه للتعليل، و فاعل الإيلاف هو الله سبحانه و قريش مفعوله الأول و مفعوله الثاني محذوف يدل عليه ما بعده، و قوله: ﴿إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ اَلشِّتَاءِ وَ اَلصَّيْفِ﴾ بدل من إيلاف قريش، و فاعل إيلافهم هو الله و مفعوله الأول ضمير الجمع و مفعوله الثاني رحلة إلخ، و التقدير لإيلاف الله قريشا رحلة الشتاء و الصيف.
قوله تعالى: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا اَلْبَيْتِ﴾ الفاء في ﴿فَلْيَعْبُدُوا﴾ لتوهم معنى الشرط أي أي شيء كان فليعبدوا رب هذا البيت لإيلافه أيام الرحلتين أو لتوهم التفصيل أي مهما يكن من شيء فليعبدوا رب هذا البيت إلخ، فهو كقوله تعالى: ﴿وَ لِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾: المدثر: ٧.
و محصل معنى الآيات الثلاث ليعبد قريش رب هذا البيت لأجل إيلافه إياهم رحلة الشتاء و الصيف و هم عائشون بذلك في أمن.
هذا بالنظر إلى كون السورة منفصلة عما قبلها ذات سياق مستقل في نفسها، و أما على تقدير كونها جزء من سورة الفيل متممة لها فذكروا أن اللام في ﴿لِإِيلاَفِ﴾ تعليلية متعلقة بمقدر يدل عليه المقام و المعنى فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش مضافة إلى نعمتنا عليهم في رحلة الشتاء و الصيف فكأنه قال: نعمة إلى نعمة و لذا قيل: إن اللام مؤدية معنى إلى و هو قول الفراء.
و قيل: المعنى فعلنا ذلك بأصحاب الفيل لتألف قريش بمكة و يمكنهم المقام بها أو لنؤلف قريشا فإنهم هابوا من أبرهة لما قصدها و هربوا منه فأهلكناهم لترجع قريش إلى مكة و يألفوا بها و يولد محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) فيبعث إلى الناس بشيرا و نذيرا هذا، و الكلام في استفادة هذه المعاني من السياق.
قوله تعالى: ﴿اَلَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ إشارة إلى ما في إيلافهم الرحلتين من منه الواضح و نعمته الظاهرة عليهم و هو الإطعام و الأمن فيعيشون في أرض لا خصب فيها و لا أمن لغيرهم فليعبدوا ربا يدبر أمرهم أحسن التدبير و هو رب البيت.
(بحث روائي)
في تفسير القمي،" :في قوله تعالى: ﴿لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ﴾ قال: نزلت في قريش لأنه كان معاشهم من الرحلتين رحلة في الشتاء إلى اليمن، و رحلة في الصيف إلى الشام، و كانوا يحملون من مكة الأدم و اللب و ما يقع من ناحية البحر من الفلفل و غيره فيشترون بالشام الثياب و الدرمك و الحبوب، و كانوا يتألفون في طريقهم و يثبتون في الخروج في كل خرجة رئيسا من رؤساء قريش و كان معاشهم من ذلك.
فلما بعث الله نبيه استغنوا عن ذلك لأن الناس وفدوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و حجوا إلى البيت فقال الله: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا اَلْبَيْتِ اَلَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ﴾ لا يحتاجون أن يذهبوا إلى الشام ﴿وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ يعني خوف الطريق.
أقول: قوله: فلما بعث الله إلخ خفي الانطباق على سياق آيات السورة، و لعله من كلام القمي أخذه من بعض ما روي عن ابن عباس.
(١٠٧) سورة الماعون مدنية أو مكية و هي سبع آيات (٧)
[سورة الماعون (١٠٧): الآیات ١ الی ٧ ]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ أَ رَأَيْتَ اَلَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ١ فَذَلِكَ اَلَّذِي يَدُعُّ اَلْيَتِيمَ ٢ وَ لاَ يَحُضُّ عَلىَ طَعَامِ اَلْمِسْكِينِ ٣ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ٤ اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ ٥ اَلَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُنَ ٦ وَ يَمْنَعُونَ اَلْمَاعُونَ ٧﴾
(بيان)
وعيد لمن كان من المنتحلين بالدين متخلقا بأخلاق المنافقين كالسهو عن الصلاة و الرياء في الأعمال و منع الماعون مما لا يلائم التصديق بالجزاء.
و السورة تحتمل المكية و المدنية، و قيل: نصفها مكي و نصفها مدني.
قوله تعالى: ﴿أَ رَأَيْتَ اَلَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾ الرؤية تحتمل الرؤية البصرية و تحتمل أن تكون بمعنى المعرفة، و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بما أنه سامع فيتوجه إلى كل سامع، و المراد بالدين الجزاء يوم الجزاء فالمكذب بالدين منكر المعاد و قيل المراد به الدين بمعنى الملة.
قوله تعالى: ﴿فَذَلِكَ اَلَّذِي يَدُعُّ اَلْيَتِيمَ﴾ الدع هو الرد بعنف و جفاء، و الفاء في ﴿فَذَلِكَ﴾ لتوهم معنى الشرط و التقدير أ رأيت الذي يكذب بالجزاء فعرفته بصفاته اللازمة لتكذيبه فإن لم تعرفه فذلك الذي يرد اليتيم بعنف و يجفوه و لا يخاف عاقبة عمله السيئ و لو لم يكذب به لخافها و لو خافها لرحمه.
قوله تعالى: ﴿وَ لاَ يَحُضُّ عَلىَ طَعَامِ اَلْمِسْكِينِ﴾ الحض الترغيب، و الكلام على تقدير مضاف أي لا يرغب الناس على إطعام طعام المسكين قيل: إن التعبير بالطعام دون الإطعام للإشعار بأن المسكين كأنه مالك لما يعطى له كما في قوله تعالى: ﴿وَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَ اَلْمَحْرُومِ﴾: الذاريات: ١٩ و قيل: الطعام في الآية بمعنى الإطعام.
و التعبير بالحض دون الإطعام لأن الحض أعم من الحض العملي الذي يتحقق بالإطعام.
قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ﴾ أي غافلون لا يهتمون بها و لا يبالون أن تفوتهم بالكلية أو في بعض الأوقات أو تتأخر عن وقت فضيلتها و هكذا.
و في الآية تطبيق من يكذب بالدين على هؤلاء المصلين لمكان فاء التفريع و دلالة على أنهم لا يخلون من نفاق لأنهن يكذبون بالدين عملا و هم يتظاهرون بالإيمان.
قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُنَ﴾ أي يأتون بالعبادات لمراءاة الناس فهم يعملون للناس لا لله تعالى.
قوله تعالى: ﴿وَ يَمْنَعُونَ اَلْمَاعُونَ﴾ الماعون كل ما يعين الغير في رفع حاجة من حوائج الحياة كالقرض تقرضه و المعروف تصنعه و متاع البيت تعيره و إلى هذا يرجع متفرقات ما فسر به في كلماتهم.
(بحث روائي)
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿أَ رَأَيْتَ اَلَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾ قال: نزلت في أبي جهل و كفار قريش، و في قوله: ﴿اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ﴾ قال: عنى به تاركون لأن كل إنسان يسهو في الصلاة قال أبو عبد الله (عليه السلام): تأخير الصلاة عن أول وقتها لغير عذر.
و في الخصال، عن علي (عليه السلام) في حديث الأربعمائة قال: ليس عمل أحب إلى الله عز و جل من الصلاة فلا يشغلنكم عن أوقاتها شيء من أمور الدنيا فإن الله عز و جل ذم أقواما فقال: ﴿اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ﴾ يعني أنهم غافلون استهانوا بأوقاتها.
و في الكافي، بإسناده عن محمد بن الفضيل قال: سألت عبدا صالحا (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: ﴿اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ﴾ قال هو التضييع.
أقول: و في هذه المضامين روايات أخر.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و البيهقي في سننه عن علي بن أبي طالب ﴿اَلَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُنَ﴾ قال: يراءون بصلاتهم. و فيه، أخرج أبو نعيم و الديلمي و ابن عساكر عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في قوله ﴿وَ يَمْنَعُونَ اَلْمَاعُونَ﴾ قال: ما تعاون الناس بينهم الفأس و القدر و الدلو و أشباهه. و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال : و قوله عز و جل: ﴿وَ يَمْنَعُونَ اَلْمَاعُونَ﴾ هو القرض تقرضه و المعروف تصنعه و متاع البيت تعيره و منه الزكاة.
أقول: و تفسير الماعون بالزكاة مروي من طرق أهل السنة أيضا عن علي (عليه السلام) كما في الدر المنثور، و لفظه: الماعون الزكاة المفروضة يراءون بصلاتهم و يمنعون زكاتهم.
و في الدر المنثور، أخرج ابن قانع عن علي بن أبي طالب قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول *: المسلم أخو المسلم إذا لقيه حياة بالسلام و يرد عليه ما هو خير منه لا يمنع الماعون قلت: يا رسول الله ما الماعون؟ قال (ص): الحجر و الحديد و الماء و أشباه ذلك. أقول: و قد فسر (ص) في رواية أخرى الحديد بقدور النحاس و حديد الفأس و الحجر بقدور الحجارة.
(١٠٨) سورة الكوثر مكية و هي ثلاث آيات (٣)
[سورة الكوثر (١٠٨): الآیات ١ الی ٣ ]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ اَلْكَوْثَرَ ١ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ اِنْحَرْ ٢ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ اَلْأَبْتَرُ ٣﴾
(بيان)
امتنان على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بإعطائه الكوثر و تطييب لنفسه الشريفة بأن شانئه هو الأبتر، و هي أقصر سورة في القرآن و قد اختلفت الروايات في كون السورة مكية أو مدنية، و الظاهر أنها مكية، و ذكر بعضهم أنها نزلت مرتين جمعا بين الروايات.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ اَلْكَوْثَرَ﴾ قال في المجمع، الكوثر فوعل و هو الشيء الذي من شأنه الكثرة، و الكوثر الخير الكثير، انتهى.
و قد اختلفت أقوالهم في تفسير الكوثر اختلافا عجيبا فقيل: هو الخير الكثير، و قيل نهر في الجنة، و قيل: حوض النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في الجنة أو في المحشر، و قيل: أولاده و قيل: أصحابه و أشياعه (ص) إلى يوم القيامة، و قيل: علماء أمته (ص)، و قيل القرآن و فضائله كثيرة، و قيل النبوة و قيل: تيسير القرآن و تخفيف الشرائع و قيل: الإسلام و قيل التوحيد، و قيل: العلم و الحكمة، و قيل: فضائله (ص)، و قيل المقام المحمود، و قيل: هو نور قلبه (ص) إلى غير ذلك مما قيل، و قد نقل عن بعضهم أنه أنهى الأقوال إلى ستة و عشرين.
و قد استند في القولين الأولين إلى بعض الروايات، و باقي الأقوال لا تخلو من تحكم و كيفما كان فقوله في آخر السورة: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ اَلْأَبْتَرُ﴾ و ظاهر الأبتر هو المنقطع نسله و ظاهر الجملة أنها من قبيل قصر القلب أن كثرة ذريته (ص) هي المرادة وحدها بالكوثر الذي أعطيه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو المراد بها الخير الكثير و كثرة الذرية مرادة في ضمن الخير الكثير و لو لا ذلك لكان تحقيق الكلام بقوله: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ اَلْأَبْتَرُ﴾ خاليا عن الفائدة.
و قد استفاضت الروايات أن السورة إنما نزلت فيمن عابه (ص) بالبتر بعد ما مات ابناه القاسم و عبد الله، و بذلك يندفع ما قيل: إن مراد الشانئ بقوله: ﴿اَلْأَبْتَرُ﴾ المنقطع عن قومه أو المنقطع عن الخير فرد الله عليه بأنه هو المنقطع من كل خير.
و لما في قوله: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ﴾ من الامتنان عليه (ص) جيء بلفظ المتكلم مع الغير الدال على العظمة، و لما فيه من تطييب نفسه الشريفة أكدت الجملة بإن و عبر بلفظ الإعطاء الظاهر في التمليك.
و الجملة لا تخلو من دلالة على أن ولد فاطمة (عليه السلام) ذريته (ص)، و هذا في نفسه من ملاحم القرآن الكريم فقد كثر الله تعالى نسله بعده كثرة لا يعادلهم فيها أي نسل آخر مع ما نزل عليهم من النوائب و أفنى جموعهم من المقاتل الذريعة.
قوله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ اِنْحَرْ﴾ ظاهر السياق في تفريع الأمر بالصلاة و النحر على الامتنان في قوله: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ اَلْكَوْثَرَ﴾ إنه من شكر النعمة و المعنى إذا مننا عليك بإعطاء الكوثر فاشكر لهذه النعمة بالصلاة و النحر.
و المراد بالنحر على ما رواه الفريقان عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و عن علي (عليه السلام) و روته الشيعة عن الصادق (عليه السلام) و غيره من الأئمة هو رفع اليدين في تكبير الصلاة إلى النحر.
و قيل: معنى الآية صل لربك صلاة العيد و انحر البدن، و قيل: يعني صل لربك و استو قائما عند رفع رأسك من الركوع و قيل غير ذلك.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ اَلْأَبْتَرُ﴾ الشانئ هو المبغض و الأبتر من لا عقب له و هذا الشانئ هو العاص بن وائل.
و قيل: المراد بالأبتر المنقطع عن الخير أو المنقطع عن قومه، و قد عرفت أن روايات سبب نزول السورة لا تلائمه و ستجيء.
(بحث روائي)
في الدر المنثور، أخرج البخاري و ابن جرير و الحاكم من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : الكوثر الخير الذي أعطاه إياه قال أبو بشر قلت لسعيد بن جبير - فإن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة قال: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه.
و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و الحاكم و ابن مردويه و البيهقي في سننه عن علي بن أبي طالب قال : لما نزلت هذه السورة على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ اَلْكَوْثَرَ﴾ قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لجبريل: ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي؟ قال: إنها ليست بنحيرة و لكن يأمرك إذا تحرمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت و إذا ركعت و إذا رفعت رأسك من الركوع - فإنها صلاتنا و صلاة الملائكة الذين في السماوات السبع، و أن لكل شيء زينة و زينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة.
قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : رفع اليدين من الاستكانة التي قال الله: ﴿فَمَا اِسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ
وَ مَا يَتَضَرَّعُونَ﴾:.
أقول: و رواه في المجمع، عن المقاتل عن الأصبغ بن نباتة عنه (عليه السلام) ثم قال: أورده الثعلبي و الواحدي في تفسيرهما، و قال أيضا: إن جميع عترته الطاهرة رووا عنه (عليه السلام): أن معنى النحر رفع اليدين إلى النحر في الصلاة. و فيه، أخرج ابن جرير عن أبي جعفر في قوله: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ﴾ قال: الصلاة ﴿وَ اِنْحَرْ﴾ قال يرفع يديه أول ما يكبر في الافتتاح.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ اِنْحَرْ﴾ قال: إن الله أوحى إلى رسوله أن ارفع يديك حذاء نحرك إذا كبرت للصلاة فذاك النحر.
و في المجمع، في الآية عن عمر بن يزيد قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول في قوله ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ اِنْحَرْ﴾ هو رفع يديك حذاء وجهك:.
أقول: ثم قال: و روى عنه عبد الله بن سنان مثله، و روي أيضا قريبا منه عن جميل عنه (عليه السلام). و في الدر المنثور، أخرج ابن سعد و ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : كان أكبر ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) القاسم ثم زينب ثم عبد الله ثم أم كلثوم ثم فاطمة ثم رقية فمات القاسم و هو أول ميت من ولده بمكة ثم مات عبد الله فقال العاص بن وائل السهمي قد انقطع نسله فهو أبتر فأنزل الله ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ اَلْأَبْتَرُ﴾.
و فيه، أخرج الزبير بن بكار و ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه قال : توفي القاسم بن رسول الله بمكة فمر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو آت من جنازته على العاص بن وائل و ابنه عمرو فقال حين رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : إني لأشنؤه فقال العاص بن وائل: لا جرم لقد أصبح أبتر فأنزل الله ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ اَلْأَبْتَرُ﴾. و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: كانت قريش تقول إذا مات ذكور الرجل بتر فلان فلما مات ولد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال العاص بن وائل: بتر و الأبتر الفرد.
أقول: و في بعض الآثار أن الشانئ هو الوليد بن المغيرة، و في بعضها أبو جهل و في بعضها عقبة بن أبي معيط، و في بعضها كعب بن الأشرف، و المعتمد ما تقدم.
و يؤيده ما في الاحتجاج الطبرسي، عن الحسن بن علي (عليه السلام): في حديث يخاطب فيه عمرو بن العاصي: و أنك ولدت على فراش مشترك فتحاكمت فيك رجال قريش
منهم أبو سفيان بن حرب و الوليد بن المغيرة و عثمان بن الحارث و النضر بن الحارث بن كلدة و العاص بن وائل كلهم يزعم أنك ابنه فغلبهم عليك من بين قريش ألأمهم حسبا و أخبثهم منصبا و أعظمهم بغية.
ثم قمت خطيبا و قلت: أنا شانئ محمد و قال العاص بن وائل: إن محمدا رجل أبتر لا ولد له قد مات انقطع ذكره فأنزل الله تبارك و تعالى: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ اَلْأَبْتَرُ﴾. الحديث.
و في تفسير القمي، : ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ اَلْكَوْثَرَ﴾ قال: الكوثر نهر في الجنة أعطى الله محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم) عوضا عن ابنه إبراهيم.
أقول: الخبر على إرساله و إضماره معارض لسائر الروايات و تفسير الكوثر بنهر في الجنة لا ينافي التفسير بالخير الكثير كما تقدم في خبر ابن جبير.
(١٠٩) سورة الكافرون مكية و هي ست آيات (٦)
[سورة الكافرون (١٠٩): الآیات ١ الی ٦ ]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ قُلْ يَا أَيُّهَا اَلْكَافِرُونَ ١ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ٢ وَ لاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ٣ وَ لاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ ٤ وَ لاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ٥ لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ ٦﴾
(بيان)
فيها أمره (ص) أن يظهر للكفار براءته من دينهم و يخبرهم بامتناعهم من دينه فلا دينه يتعداه إليهم و لا دينهم يتعداهم إليه فلا يعبد ما يعبدون أبدا و لا يعبدون ما يعبد أبدا فلييأسوا من أي نوع من المداهنة و المساهلة.
و اختلفوا في كون السورة مكية أو مدنية، و الظاهر من سياقها أنها مكية.
قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا اَلْكَافِرُونَ﴾ الظاهر أن هؤلاء قوم معهودون لا كل كافر و يدل على ذلك أمره (ص) أن يخاطبهم ببراءته من دينهم و امتناعهم من دينه.
قوله تعالى: ﴿لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ الآية إلى آخر السورة مقول القول، و المراد بما
تعبدون الأصنام التي كانوا يعبدونها، و مفعول ﴿تَعْبُدُونَ﴾ ضمير راجع إلى الموصول محذوف لدلالة الكلام عليه و لرعاية الفواصل، و كذا مفاعيل الأفعال التالية: ﴿أَعْبُدُ﴾ و ﴿عَبَدْتُّمْ﴾ و ﴿أَعْبُدُ﴾.
و قوله: ﴿لاَ أَعْبُدُ﴾ نفي استقبالي فإن لا لنفي الاستقبال كما أن ما لنفي الحال، و المعنى لا أعبد أبدا ما تعبدونه اليوم من الأصنام.
قوله تعالى: ﴿وَ لاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ نفي استقبالي أيضا لعبادتهم ما يعبده (ص) و هو إخبار عن امتناعهم عن الدخول في دين التوحيد في مستقبل الأمر.
و بانضمام الأمر الذي في مفتتح الكلام تفيد الآيتان إن الله سبحانه أمرني بالدوام على عبادته و أن أخبركم أنكم لا تعبدونه أبدا فلا يقع بيني و بينكم اشتراك في الدين أبدا.
فالآية في معنى قوله تعالى: ﴿لَقَدْ حَقَّ اَلْقَوْلُ عَلىَ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾: يس: ٧، و قوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾: البقرة: ٦.
و كان من حق الكلام أن يقال: و لا أنتم عابدون من أعبد. لكن قيل: ما أعبد ليطابق ما في قوله: ﴿لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَ لاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ وَ لاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ تكرار لمضمون الجملتين السابقتين لزيادة التأكيد، كقوله: ﴿كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾التكاثر: ٤ و قوله: ﴿فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾: المدثر: ٢٠.
و قيل: إن ما في ﴿مَا عَبَدْتُّمْ﴾ و ﴿مَا أَعْبُدُ﴾ مصدرية لا موصولة و المعنى و لا أنا عابد عبادتكم و لا أنتم عابدون عبادتي أي لا أشارككم و لا تشاركونني لا في المعبود و لا في العبادة فمعبودي هو الله و معبودكم الوثن و عبادتي ما شرعه الله لي و عبادتكم ما ابتدعتموه جهلا و افتراء، و على هذا فالآيتان غير مسوقتين للتأكيد، و لا يخلو من بعد و سيأتي في البحث الروائي التالي وجه آخر للتكرار لطيف.
قوله تعالى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ﴾ تأكيد بحسب المعنى لما تقدم من نفي الاشتراك، و اللام للاختصاص أي دينكم و هو عبادة الأصنام يختص بكم و لا يتعداكم إلي و ديني يختص بي و لا يتعداني إليكم و لا محل لتوهم دلالة الآية على إباحة أخذ كل بما يرتضيه من الدين و لا أنه (ص) لا يتعرض لدينهم بعد ذلك فالدعوة الحقة التي يتضمنها القرآن تدفع ذلك أساسا.
و قيل: الدين في الآية بمعنى الجزاء و المعنى لكم جزاؤكم و لي جزائي، و قيل: إن هناك مضافا محذوفا و التقدير لكم جزاء دينكم و لي جزاء ديني، و الوجهان بعيدان عن الفهم.
(بحث روائي)
في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن الأنباري في المصاحف عن سعيد بن ميناء مولى أبي البختري قال : لقي الوليد بن المغيرة و العاص بن وائل و الأسود بن المطلب و أمية بن خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالوا: يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد و تعبد ما نعبد و لنشترك نحن و أنت في أمرنا كله فإن كان الذي نحن عليه أصح من الذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظا و إن كان الذي أنت عليه أصح من الذي نحن عليه كنا قد أخذنا منه حظا فأنزل الله ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا اَلْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ حتى انقضت السورة:.
أقول: و روى الشيخ في الأمالي، بإسناده عن ميناء عن غير واحد من أصحابه قريبا منه. و في تفسير القمي، عن أبيه عن ابن أبي عمير قال : سأل أبو شاكر أبا جعفر الأحول عن قول الله: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا اَلْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَ لاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَ لاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ وَ لاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ فهل يتكلم الحكيم بمثل هذا القول، و يكرر مرة بعد مرة؟ فلم يكن عند أبي جعفر الأحول في ذلك جواب.
فدخل المدينة فسأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن ذلك فقال: كان سبب نزولها و تكرارها أن قريشا قالت لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : تعبد آلهتنا سنة و نعبد إلهك سنة و تعبد آلهتنا سنة و نعبد إلهك سنة فأجابهم الله بمثل ما قالوا فقال فيما قالوا: تعبد آلهتنا سنة: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا اَلْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾، و فيما قالوا: نعبد إلهك سنة: ﴿وَ لاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾، و فيما قالوا: تعبد آلهتنا سنة: ﴿وَ لاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ﴾ و فيما قالوا: نعبد إلهك سنة: ﴿وَ لاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ﴾.
قال: فرجع أبو جعفر الأحول إلى أبي شاكر - فأخبره بذلك فقال أبو شاكر:
هذا حملته الإبل من الحجاز. أقول: مفاد التكرار في كلام قريش الاستمرار على عبادة آلهتهم سنة و عبادة الله تعالى سنة.
(١١٠) سورة النصر مدنية و هي ثلاث آيات (٣)
[سورة النصر (١١٠): الآیات ١ الی ٣ ]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اَللَّهِ وَ اَلْفَتْحُ ١ وَ رَأَيْتَ اَلنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اَللَّهِ أَفْوَاجاً ٢ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اِسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ٣﴾
(بيان)
وعد له (ص) بالنصر و الفتح و أنه سيرى الناس يدخلون في الإسلام فوجا بعد فوج و أمره بالتسبيح حينئذ و التحميد و الاستغفار، و السورة مدنية نزلت بعد صلح الحديبية و قبل فتح مكة على ما سنستظهر.
قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اَللَّهِ وَ اَلْفَتْحُ﴾ ظهور «إذا» المصدرة بها الآية في الاستقبال يستدعي أن يكون مضمون الآية إخبارا بتحقق أمر لم يتحقق بعد، و إذا كان المخبر به هو النصر و الفتح و ذلك مما تقر به عين النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فهو وعد جميل و بشرى له (ص) و يكون من ملاحم القرآن الكريم.
و ليس المراد بالنصر و الفتح جنسهما حتى يصدقا على جميع المواقف التي أيد الله فيها نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) على أعدائه و أظهر دينه على دينهم كما في حروبه و مغازيه و إيمان الأنصار و أهل اليمن كما قبل إذ لا يلائمه قوله بعد: ﴿وَ رَأَيْتَ اَلنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اَللَّهِ أَفْوَاجاً﴾.
و ليس المراد بذلك أيضا صلح الحديبية الذي سماه الله تعالى فتحا إذ قال ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً﴾: الفتح: ١ لعدم انطباق الآية الثانية بمضمونها عليه.
و أوضح ما يقبل الانطباق عليه النصر و الفتح المذكوران في الآية هو فتح مكة الذي هو أم فتوحاته «(ص)» في زمن حياته و النصر الباهر الذي انهدم به بنيان الشرك في جزيرة العرب.
و يؤيده وعد النصر الذي في الآيات النازلة في الحديبية ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اَللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ مَا تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً وَ يَنْصُرَكَ اَللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً﴾: الفتح: ٣ فإن من القريب جدا أن يكون ما في الآيات وعدا بنصر عزيز يرتبط بفتح الحديبية و هو نصره تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) على قريش حتى فتح مكة بعد
مضي سنتين من فتح الحديبية.
و هذا الذي ذكر أقرب من حمل الآية على إجابة أهل اليمن الدعوة الحقة و دخولهم في الإسلام من غير قتال، فالأقرب إلى الاعتبار كون المراد بالنصر و الفتح نصره تعالى نبيه «ص» على قريش و فتح مكة، و أن تكون السورة نازلة بعد صلح الحديبية و نزول سورة الفتح و قبل فتح مكة.
قوله تعالى: ﴿وَ رَأَيْتَ اَلنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اَللَّهِ أَفْوَاجاً﴾ قال الراغب: الفوج الجماعة المارة المسرعة، و جمعه أفواج. انتهى. فمعنى دخول الناس في دين الله أفواجا دخولهم فيه جماعة بعد جماعة، و المراد بدين الله الإسلام قال تعالى: ﴿إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللَّهِ اَلْإِسْلاَمُ ﴾: آل عمران: ١٩.
قوله تعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اِسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾ لما كان هذا النصر و الفتح إذلالا منه تعالى للشرك و إعزازا للتوحيد و بعبارة أخرى إبطالا للباطل و إحقاقا للحق ناسب من الجهة الأولى تنزيهه تعالى و تسبيحه، و ناسب من الجهة الثانية التي هي نعمة الثناء عليه تعالى و حمده فلذلك أمره «(ص)» بقوله: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾.
و هاهنا وجه آخر يوجه به الأمر بالتسبيح و التحميد و الاستغفار جميعا و هو أن للرب تعالى على عبده أن يذكره بصفات كماله و يذكر نفسه بما له من النقص و الحاجة و لما كان في هذا الفتح فراغه «(ص)» من جل ما كان عليه من السعي في إماطة الباطل و قطع دابر الفساد أمر أن يذكره عند ذلك بجلاله و هو التسبيح و جماله و هو التحميد و أن يذكره بنقص نفسه و حاجته إلى ربه و هو طلب المغفرة و معناه فيه «(ص)» و هو مغفور سؤال إدامة المغفرة فإن الحاجة إلى المغفرة بقاء كالحاجة إليها حدوثا فافهم ذلك، و بذلك يتم شكره لربه تعالى و قد تقدم[7] كلام في معنى مغفرة الذنب في الأبحاث السابقة.
و قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾ تعليل للأمر بالاستغفار لا يخلو من تشويق و تأكيد.
(بحث روائي)
في المجمع، عن مقاتل: لما نزلت هذه السورة قرأها «(ص)» على أصحابه ففرحوا و استبشروا و سمعها العباس فبكى فقال «(ص)» ما يبكيك يا عم؟ قال: أظن أنه قد
نعيت إليك نفسك يا رسول الله فقال: إنه لكما تقول فعاش بعدها سنتين ما رئي بعدها ضاحكا مستبشرا.
أقول: و روي هذا المعنى في عدة روايات بألفاظ مختلفة و قيل في وجه دلالتها أن سياقها يلوح إلى فراغه «(ص)» مما عليه من السعي و المجاهدة و تمام أمره، و عند الكمال يرقب الزوال.
و فيه، عن أم سلمة قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بالآخرة لا يقوم و لا يقعد و لا يجيء و لا يذهب إلا قال: سبحان الله و بحمده استغفر الله و أتوب إليه فسألناه عن ذلك فقال : إني أمرت بها ثم قرأ ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اَللَّهِ وَ اَلْفَتْحُ﴾.
أقول: و في هذا المعنى غير واحد من الروايات مع اختلاف ما فيما كان يقوله «(ص)».
و في العيون، بإسناده إلى الحسين بن خالد قال: قال الرضا (عليه السلام) سمعت أبي يحدث عن أبيه (عليه السلام): أن أول سورة نزلت ﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ و آخر سورة نزلت ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اَللَّهِ﴾.
أقول: لعل المراد به أنها آخر سورة نزلت تامة كما قيل.
و في المجمع، في قصة فتح مكة: لما صالح رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قريشا عام الحديبية كان في أشراطهم أنه من أحب أن يدخل في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) دخل فيه فدخلت خزاعة في عقد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و دخلت بنو بكر في عقد قريش، و كان بين القبيلتين شر قديم.
ثم وقعت فيما بعد بين بني بكر و خزاعة مقاتلة و رفدت قريش بني بكر بالسلاح و قاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفيا، و كان ممن أعان بني بكر على خزاعة بنفسه عكرمة بن أبي جهل و سهيل بن عمرو.
فركب عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) المدينة و كان ذلك مما هاج فتح مكة فوقف عليه و هو في المسجد بين ظهراني القوم و قال:
لا هم إني ناشد[8] محمدا *** حلف أبينا و أبيه الأتلدا[9]
إن قريشا أخلفوك الموعدا *** و نقضوا ميثاقك المؤكدا
... *** و قتلونا ركعا و سجدا
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : حسبك يا عمرو ثم قام فدخل دار ميمونة و قال: اسكبي لي ماء فجعل يغتسل و هو يقول: لا نصرت إن لم أنصر بني كعب و هم رهط عمرو بن سالم ثم خرج بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأخبروه بما أصيب منهم و مظاهرة قريش بني بكر عليهم ثم انصرفوا راجعين إلى مكة و قد كان (ص) قال للناس: كأنكم بأبي سفيان قد جاء ليشدد العقد و يزيد في المدة و سيلقى بديل بن ورقاء فلقوا أبا سفيان بعسفان و قد بعثته قريش إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ليشدد العقد.
فلما لقي أبو سفيان بديلا قال: من أين أقبلت يا بديل قال: سرت في هذا الساحل و في بطن هذا الوادي قال: ما أتيت محمدا؟ قال: لا فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان جاء من المدينة لقد علف بها النوى فعمد إلى مبرك ناقته و أخذ من بعرها ففته فرأى فيها النوى فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا.
ثم خرج أبو سفيان حتى قدم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: يا محمد احقن دماء قومك و أجر بين قريش و زدنا في المدة فقال: أ غدرتم يا أبا سفيان؟ قال: لا فقال:
فنحن على ما كنا عليه فخرج فلقي أبا بكر فقال: أجر بين قريش قال: ويحك و أحد يجير على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ؟ ثم لقي عمر بن الخطاب فقال له مثل ذلك ثم خرج فدخل على أم حبيبة فذهب ليجلس على الفراش فأهوت إلى الفراش فطوته فقال: يا بنية أ رغبت بهذا الفراش عني؟ فقالت: نعم هذا فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ما كنت لتجلس عليه و أنت رجس مشرك.
ثم خرج فدخل على فاطمة (عليه السلام) فقال يا بنت سيد العرب تجيرين بين قريش و تزيدين في المدة فتكونين أكرم سيدة في الناس؟ فقالت: جواري جوار رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) . قال: أ تأمرين ابنيك أن يجيرا بين الناس؟ قالت: و الله ما بلغ ابناي أن يجيرا بين الناس و ما يجير على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أحد فقال: يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني فقال علي (عليه السلام): إنك شيخ قريش - فقم على باب المسجد و أجر بين قريش ثم الحق بأرضك قال: و ترى ذلك مغنيا عني شيئا؟ قال:
لا و الله ما أظن ذلك و لكن لا أجد لك غير ذلك فقام أبو سفيان في المسجد فقال: يا أيها الناس إني قد أجرت بين قريش ثم ركب بعيره فانطلق.
فلما قدم على قريش قالوا: ما وراءك؟ فأخبرهم بالقصة فقالوا: و الله إن زاد علي بن أبي طالب على أن لعب بك فما يغني عنا ما قلت؟ قال: لا و الله ما وجدت غير ذلك.
قال: فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بالجهاز لحرب مكة و أمر الناس بالتهيئة و قال: اللهم خذ العيون و الأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها، و كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) الخبر من السماء فبعث عليا (عليه السلام) و الزبير حتى أخذا كتابه من المرأة و قد مضت هذه القصة في سورة الممتحنة.
ثم استخلف رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أبا ذر الغفاري و خرج عامدا إلى مكة لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان في عشرة آلاف من المسلمين و نحو من أربعمائة فارس و لم يتخلف من المهاجرين و الأنصار عنه أحد.
و قد كان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب - و عبد الله بن أمية بن المغيرة - قد لقيا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بنيق العقاب فيما بين مكة و المدينة فالتمسا الدخول عليه فلم يأذن لهما فكلمته أم سلمة فيهما فقالت: يا رسول الله ابن عمك و ابن عمتك و صهرك قال لا حاجة لي فيهما أما ابن عمي فهتك عرضي، و أما ابن عمتي و صهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال فلما خرج الخبر إليهما بذلك و مع أبي سفيان بني له قال: و الله ليأذنن لي أو لآخذن بيد بني هذا - ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشا و جوعا فلما بلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) رق لهما فأذن لهما فدخلا عليه فأسلما.
فلما نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) مر الظهران و قد غمت الأخبار عن قريش فلا يأتيهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) خبر خرج في تلك الليلة أبو سفيان بن حرب و حكيم بن حزام و بديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار و قد قال العباس ليلتئذ: يا سوء صباح قريش و الله لئن بغتها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في بلادها فدخل مكة عنوة أنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر فخرج على بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و قال: أخرج إلى الأراك لعلي أرى خطابا أو صاحب لبن أو داخلا يدخل مكة - فيخبرهم بمكان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فيأتونه فيستأمنونه.
قال العباس فوالله إني لأطوف في الأراك ألتمس ما خرجت له إذ سمعت صوت أبي سفيان و حكيم بن حزام و بديل بن ورقاء و سمعت أبا سفيان يقول: و الله ما رأيت كالليلة قط نيرانا فقال بديل: هذه نيران خزاعة فقال أبو سفيان: خزاعة الأم من ذلك
قال: فعرفت صوته فقلت: يا أبا حنظلة يعني أبا سفيان فقال: أبو الفضل؟ فقلت: نعم قال: لبيك فداك أبي و أمي ما وراءك؟ فقلت: هذا رسول الله وراءك قد جاء بما لا قبل لكم به بعشرة آلاف من المسلمين.
قال: فما تأمرني؟ قلت: تركب عجز هذه البغلة فاستأمن لك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فوالله لئن ظفر بك ليضربن عنقك فردفني فخرجت أركض به بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فكلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: هذا عم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على بغلة رسول الله حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال يعني عمر: يا أبا سفيان الحمد لله الذي أمكن منك بغير عهد و لا عقد ثم اشتد نحو رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و ركضت البغلة حتى اقتحمت باب القبة و سبقت عمر بما يسبق به الدابة البطيئة الرجل البطيء.
فدخل عمر فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان عدو الله قد أمكن الله منه بغير عهد و لا عقد فدعني أضرب عنقه فقلت: يا رسول الله إني قد أجرته ثم إني جلست إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أخذت برأسه و قلت: و الله لا يناجيه اليوم أحد دوني فلما أكثر فيه عمر قلت: مهلا يا عمر فوالله ما يصنع هذا الرجل إلا أنه رجل من آل بني عبد مناف و لو كان من عدي بن كعب ما قلت هذا قال: مهلا يا عباس لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم فقال (ص): اذهب فقد آمناه حتى تغدو به علي في الغداة.
قال: فلما أصبح غدوت به على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان أ لم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟ فقال: بأبي أنت و أمي ما أوصلك و أكرمك و أرحمك و أحلمك و الله لقد ظننت أن لو كان معه إله لأغنى يوم بدر و يوم أحد فقال:
ويحك يا أبا سفيان أ لم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ فقال: بأبي أنت و أمي أما هذه فإن في النفس منها شيئا قال العباس: فقلت له: ويحك اشهد بشهادة الحق قبل أن يضرب عنقك فتشهد.
فقال (ص) للعباس: انصرف يا عباس فاحبسه عند مضيق الوادي حتى يمر عليه جنود الله قال: فحبسته عند خطم[10] الجبل بمضيق الوادي و مر عليه القبائل قبيلة قبيلة و هو يقول: من هؤلاء؟ و أقول: أسلم و جهينة و فلان حتى مر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في الكتيبة الخضراء من المهاجرين و الأنصار في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق فقال:
من هؤلاء يا أبا الفضل؟ قلت: هذا رسول الله في المهاجرين و الأنصار فقال: يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما، فقلت: ويحك أنها النبوة فقال: نعم إذا.
و جاء حكيم بن حزام و بديل بن ورقاء رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أسلما و بايعاه فلما بايعاه بعثهما رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بين يديه إلى قريش يدعوانهم إلى الإسلام و قال: من دخل دار أبي سفيان و هي بأعلى مكة فهو آمن، و من دخل دار حكيم و هي بأسفل مكة فهو آمن، و من أغلق بابه و كف يده فهو آمن.
و لما خرج أبو سفيان و حكيم من عند رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عامدين إلى مكة بعث في أثرهما الزبير بن العوام و أمره على خيل المهاجرين و أمره أن يغرز رايته بأعلى مكة بالحجون و قال له: لا تبرح حتى آتيك ثم دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) مكة و ضربت هناك خيمته، و بعث سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار في مقدمته، و بعث الخالد بن الوليد فيمن كان أسلم من قضاعة و بني سليم و أمره أن يدخل أسفل مكة و يغرز رايته دون البيوت.
و أمرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) جميعا أن يكفوا أيديهم و لا يقاتلوا إلا من قاتلهم، و أمرهم بقتل أربعة نفر عبد الله بن سعد بن أبي سرح و الحويرث بن نفيل و ابن خطل و مقبس بن ضبابة و أمرهم بقتل قينتين كانتا تغنيان بهجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و قال: اقتلوهم و إن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة فقتل علي (عليه السلام) الحويرث بن نفيل و إحدى القينتين و أفلتت الأخرى، و قتل مقبس بن ضبابة في السوق، و أدرك ابن خطل و هو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث و عمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا فقتله.
قال: و سعى أبو سفيان إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أخذ غرزه أي ركابه فقبله ثم قال:
بأبي أنت و أمي أ ما تسمع ما يقول سعد إنه يقول:
اليوم يوم الملحمة *** اليوم تسبى الحرمة
فقال (ص) لعلي (عليه السلام): أدركه و خذ الراية منه و كن أنت الذي يدخل بها و أدخلها إدخالا رفيقا فأخذها علي (عليه السلام) و أدخلها كما أمر.
و لما دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) مكة دخل صناديد قريش الكعبة و هم يظنون أن السيف لا يرفع عنهم و أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و وقف قائما على باب الكعبة فقال: لا إله إلا الله وحده وحده أنجز وعده و نصر عبده و هزم الأحزاب وحده ألا إن كل مال أو مأثرة و دم يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة الكعبة و سقاية الحاج فإنهما مردودتان إلى أهليهما، ألا إن
مكة محرمة بتحريم الله لم تحل لأحد كان قبلي و لم تحل لي إلا ساعة من نهار و هي محرمة إلى أن تقوم الساعة لا يختلى خلاها، و لا يقطع شجرها و لا ينفر صيدها، و لا تحل لقطتها إلا لمنشد.
ثم قال: ألا لبئس جيران النبي كنتم لقد كذبتم و طردتم و أخرجتم و آذيتم ثم ما رضيتم حتى جئتموني في بلادي تقاتلونني - فاذهبوا فأنتم الطلقاء فخرج القوم فكأنما أنشروا من القبور و دخلوا في الإسلام، و كان الله سبحانه أمكنه من رقابهم عنوة - فكانوا له فيئا فلذلك سمي أهل مكة الطلقاء.
و جاء ابن الزبعري إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أسلم و قال:
يا رسول الإله إن لساني *** راتق ما فتقت إذ أنا بور[11] إذ أباري[12]
الشيطان في سنن [13] *** الغي و من مال ميله مثبور
آمن اللحم و العظام لربي *** ثم نفسي الشهيد أنت النذير
قال: و عن ابن مسعود قال: دخل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يوم الفتح و حول البيت ثلاثمائة و ستون صنما فجعل يطعنها بعود في يده و يقول: ﴿جَاءَ اَلْحَقُّ وَ مَا يُبْدِئُ اَلْبَاطِلُ وَ مَا يُعِيدُ ﴾﴿جَاءَ اَلْحَقُّ وَ زَهَقَ اَلْبَاطِلُ إِنَّ اَلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾.
و عن ابن عباس قال: لما قدم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى مكة أبى أن يدخل البيت و فيه الآلهة فأمر بها فأخرجت و صورة إبراهيم و إسماعيل (عليه السلام) و في أيديهما الأزلام فقال (ص) قاتلهم الله أما و الله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط.
أقول: و الروايات حول قصة الفتح كثيرة من أراد استقصاءها فعليه بكتب السير و جوامع الأخبار و ما تقدم كالملخص منها.
(۱۱۱) سورة تبت مكية و هي خمس آيات (٥)
[سورة المسد (١١١): الآیات ١ الی ٥]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ ١ مَا أَغْنى﴾
﴿عَنْهُ مَالُهُ وَ مَا كَسَبَ ٢ سَيَصْلىَ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ ٣ وَ اِمْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ اَلْحَطَبِ ٤ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ٥﴾
(بيان)
وعيد شديد لأبي لهب بهلاك نفسه و عمله و بنار جهنم و لامرأته، و السورة مكية.
قوله تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ﴾ التب و التباب هو الخسران و الهلاك على ما ذكره الجوهري، و دوام الخسران على ما ذكره الراغب، و قيل: الخيبة، و قيل الخلو من كل خير و المعاني كما قيل متقاربة فيد الإنسان هي عضوه الذي يتوصل به إلى تحصيل مقاصده و ينسب إليه جل أعماله، و تباب يديه خسرانهما فيما تكتسبانه من عمل و إن شئت فقل: بطلان أعماله التي يعملها بهما من حيث عدم انتهائها إلى غرض مطلوب و عدم انتفاعه بشيء منها و تباب نفسه خسرانها في نفسها بحرمانها من سعادة دائمة و هو هلاكها المؤبد.
فقوله: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ﴾ أي أبو لهب، دعاء عليه بهلاك نفسه و بطلان ما كان يأتيه من الأعمال لإطفاء نور النبوة أو قضاء منه تعالى بذلك.
و أبو لهب هذا هو أبو لهب بن عبد المطلب عم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان شديد المعاداة للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مصرا في تكذيبه مبالغا في إيذائه بما يستطيعه من قول و فعل و هو الذي قال للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : تبا لك لما دعاهم إلى الإسلام لأول مرة فنزلت السورة و رد الله التباب عليه.
و ذكر بعضهم أن أبا لهب اسمه و إن كان في صورة الكنية، و قيل: اسمه عبد العزى و قيل: عبد مناف و أحسن ما قيل في ذكره في الآية بكنيته لا باسمه إن في ذلك تهكما به لأن أبا لهب يشعر بالنسبة إلى لهب النار كما يقال أبو الخير و أبو الفضل و أبو الشر في النسبة إلى الخير و الفضل و الشر فلما قيل: ﴿سَيَصْلىَ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ﴾ فهم منه أن قوله: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾ في معنى قولنا: تبت يدا جهنمي يلازم لهبها.
و قيل: لم يذكر باسمه و هو عبد العزى لأن عزى اسم صنم فكره أن يعد بحسب اللفظ عبدا لغير الله و هو عبد الله و إن كان الاسم إنما يقصد به المسمى.
قوله تعالى: ﴿مَا أَغْنىَ عَنْهُ مَالُهُ وَ مَا كَسَبَ﴾ ما الأولى نافية و ما الثانية موصولة
و معنى ﴿مَا كَسَبَ﴾ الذي كسبه بأعماله و هو أثر أعماله أو مصدرية و المعنى كسبه بيديه و هو عمله، و المعنى ما أغنى عنه عمله.
و معنى الآية على أي حال لم يدفع عنه ماله و لا عمله أو أثر عمله تباب نفسه و يديه الذي كتب عليه أو دعي عليه.
قوله تعالى: ﴿سَيَصْلىَ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ﴾ أي سيدخل نارا ذات لهب و هي نار جهنم الخالدة، و في تنكير لهب تفخيم له و تهويل.
قوله تعالى: ﴿وَ اِمْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ اَلْحَطَبِ﴾ عطف على ضمير الفاعل المستكن في ﴿سَيَصْلىَ﴾ و التقدير: و ستصلى امرأته إلخ و ﴿حَمَّالَةَ اَلْحَطَبِ﴾ بالنصب وصف مقطوع عن الوصفية للذم أي أذم حمالة الحطب، و قيل: حال من ﴿اِمْرَأَتُهُ﴾ و هو معنى لطيف على ما سيأتي.
قوله تعالى: ﴿فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾ المسد حبل مفتول من الليف، و الجملة حال ثانية من امرأته.
و الظاهر أن المراد بالآيتين أنها ستتمثل في النار التي تصلاها يوم القيامة في هيئتها التي كانت تتلبس بها في الدنيا و هي أنها كانت تحمل أغصان الشوك و غيرها تطرحها بالليل في طريق رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) تؤذيه بذلك فتعذب بالنار و هي تحمل الحطب و في جيدها حبل من مسد.
قال في مجمع البيان،: و إذا قيل: هل كان يلزم أبا لهب الإيمان بعد هذه السورة و هل كان يقدر على الإيمان و لو آمن لكان فيه تكذيب خبر الله سبحانه بأنه سيصلى نارا ذات لهب.
فالجواب أن الإيمان يلزمه لأن تكليف الإيمان ثابت عليه و إنما توعده الله بشرط أن لا يؤمن انتهى موضع الحاجة.
أقول: مبني الإشكال على الغفلة من أن تعلق القضاء الحتمي منه تعالى بفعل الإنسان الاختياري لا يستوجب بطلان الاختيار و اضطرار الإنسان على الفعل فإن الإرادة الإلهية و كذا فعله تعالى إنما يتعلق بفعله الاختياري على ما هو عليه أي إن يفعل الإنسان باختياره كذا و كذا فلو لم يقع الفعل اختيارا تخلف مراده تعالى عن إرادته و هو محال و إذا كان الفعل المتعلق للقضاء الموجب اختياريا كان تركه أيضا اختياريا و إن كان لا يقع فافهم و قد تقدم هذا البحث في غير موضع من المباحث السابقة.
فقد ظهر بذلك أن أبا لهب كان في اختياره أن يؤمن و ينجو بذلك عن النار التي كان من المقضي المحتوم أن يدخلها بكفره.
و من هذا الباب الآيات النازلة في كفار قريش أنهم لا يؤمنون كقوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾: البقرة: ٦، و قوله: ﴿لَقَدْ حَقَّ اَلْقَوْلُ عَلىَ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾: يس: ٧، و من هذا الباب أيضا آيات الطبع على القلوب.
(بحث روائي)
في المجمع، ":في قوله تعالى: ﴿وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ﴾ عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية صعد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) الصفا فقال: يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش فقالوا:
ما لك؟ فقال: أ رأيتكم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم و ممسيكم ما كنتم تصدقونني؟ قالوا: بلى. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد قال أبو لهب: تبا لك أ لهذا دعوتنا جميعا؟ فأنزل الله عز و جل ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾.
أقول: و رواه أيضا في تفسير السورة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس و لم يذكر فيه كون الدعوة عند نزول آية ﴿وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ﴾ الآية.
و فيه، أيضا عن طارق المحاربي قال: بينما أنا بسوق ذي المجاز إذا أنا بشاب يقول أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، و إذا برجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه و عرقوبيه و يقول: يا أيها الناس إنه كذاب فلا تصدقوه فقلت: من هذا؟ فقالوا: هو محمد يزعم أنه نبي و هذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب.
و في قرب الإسناد، بإسناده إلى موسى بن جعفر (عليه السلام) في حديث طويل يذكر فيه آيات النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: من ذلك أن أم جميل امرأة أبي لهب أتته حين نزلت سورة تبت و مع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أبو بكر بن أبي قحافة فقال: يا رسول الله هذه أم جميل محفظة أي مغضبة تريدك و معها حجر تريد أن ترميك به فقال (ص): إنها لا تراني فقالت لأبي بكر: أين صاحبك؟ قال: حيث شاء الله قالت: جئته و لو أراه لرميته فإنه هجاني و اللات و العزى إني لشاعرة فقال أبو بكر: يا رسول الله لم ترك؟ قال (ص):
لا. ضرب الله بيني و بينها حجابا. أقول: و روي ما يقرب منه بغير واحد من طرق أهل السنة.
و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿وَ اِمْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ اَلْحَطَبِ﴾ قال: كانت أم جميل بنت صخر و كانت تنم على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و تنقل أحاديثه إلى الكفار.
(١١٢) سورة الإخلاص مكية و هي أربع آيات (٤)
[سورة الإخلاص (١١٢): الآیات ١ الی ٤ ]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ ١ اَللَّهُ اَلصَّمَدُ ٢ لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ ٣ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ٤﴾
(بيان)
السورة تصفه تعالى بأحدية الذات و رجوع ما سواه إليه في جميع حوائجه الوجودية من دون أن يشاركه شيء لا في ذاته و لا في صفاته و لا في أفعاله، و هو التوحيد القرآني الذي يختص به القرآن الكريم و يبني عليه جميع المعارف الإسلامية.
و قد تكاثرت الأخبار في فضل السورة حتى ورد من طرق الفريقين أنها تعدل ثلث القرآن كما سيجيء إن شاء الله.
و السورة تحتمل المكية و المدنية، و الظاهر من بعض ما ورد في سبب نزولها أنها مكية.
قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ﴾ هو ضمير الشأن و القصة يفيد الاهتمام بمضمون الجملة التالية له، و الحق أن لفظ الجلالة علم بالغلبة له تعالى بالعربية كما أن له في غيرها من اللغات اسما خاصا به، و قد تقدم بعض الكلام فيه في تفسير سورة الفاتحة.
و أحد وصف مأخوذ من الوحدة كالواحد غير أن الأحد إنما يطلق على ما لا يقبل الكثرة لا خارجا و لا ذهنا و لذلك لا يقبل العد و لا يدخل في العدد بخلاف الواحد فإن كل واحد له ثانيا و ثالثا إما خارجا و إما ذهنا بتوهم أو بفرض العقل فيصير بانضمامه كثيرا، و أما الأحد فكل ما فرض له ثانيا كان هو هو لم يزد عليه شيء.
و اعتبر ذلك في قولك: ما جاءني من القوم أحد فإنك تنفي به مجيء اثنين منهم و أكثر كما تنفي مجيء واحد منهم بخلاف ما لو قلت: ما جاءني واحد منهم فإنك إنما تنفي به مجيء واحد منهم بالعدد و لا ينافيه مجيء اثنين منهم أو أكثر، و لإفادته هذا المعنى لا يستعمل في الإيجاب مطلقا إلا فيه تعالى و من لطيف البيان في هذا الباب قول
علي عليه أفضل السلام في بعض خطبه في توحيده تعالى: كل مسمى بالوحدة غيره قليل، و قد أوردنا طرفا من كلامه (عليه السلام) في التوحيد في ذيل البحث عن توحيد القرآن في الجزء السادس من الكتاب.
قوله تعالى: ﴿اَللَّهُ اَلصَّمَدُ﴾ الأصل في معنى الصمد القصد أو القصد مع الاعتماد يقال:
صمده يصمده صمدا من باب نصر أي قصده أو قصده معتمدا عليه، و قد فسروا الصمد و هو صفة بمعاني متعددة مرجع أكثرها إلى أنه السيد المصمود إليه أي المقصود في الحوائج، و إذا أطلق في الآية و لم يقيد بقيد فهو المقصود في الحوائج على الإطلاق.
و إذا كان الله تعالى هو الموجد لكل ذي وجود مما سواه يحتاج إليه فيقصده كل ما صدق عليه أنه شيء غيره، في ذاته و صفاته و آثاره قال تعالى: ﴿أَلاَ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ ﴾: الأعراف: ٥٤ و قال و أطلق: ﴿وَ أَنَّ إِلىَ رَبِّكَ اَلْمُنْتَهىَ﴾: النجم: ٤٢ فهو الصمد في كل حاجة في الوجود لا يقصد شيئا إلا و هو الذي ينتهي إليه قصده و ينجح به طلبته و يقضي به حاجته.
و من هنا يظهر وجه دخول اللام في الصمد و أنه لإفادة الحصر فهو تعالى وحده الصمد على الإطلاق، و هذا بخلاف أحد في قوله ﴿اَللَّهُ أَحَدٌ﴾ فإن أحدا بما يفيده من معنى الوحدة الخاصة لا يطلق في الإثبات على غيره تعالى فلا حاجة فيه إلى عهد أو حصر.
و أما إظهار اسم الجلالة ثانيا حيث قيل: ﴿اَللَّهُ اَلصَّمَدُ﴾ و لم يقل: هو الصمد، و لم يقل: الله أحد صمد فالظاهر أن ذلك للإشارة إلى كون كل من الجملتين وحدها كافية في تعريفه تعالى حيث إن المقام مقام تعريفه تعالى بصفة تختص به فقيل: الله أحد الله الصمد إشارة إلى أن المعرفة به حاصلة سواء قيل كذا أو قيل كذا.
و الآيتان مع ذلك تصفانه تعالى بصفة الذات و صفة الفعل جميعا فقوله: ﴿اَللَّهُ أَحَدٌ﴾ يصفه بالأحدية التي هي عين الذات، و قوله: ﴿اَللَّهُ اَلصَّمَدُ﴾ يصفه بانتهاء كل شيء إليه و هو من صفات الفعل.
و قيل: الصمد بمعنى المصمت الذي ليس بأجوف فلا يأكل و لا يشرب و لا ينام و لا يلد و لا يولد و على هذا يكون قوله: ﴿لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ﴾ تفسيرا للصمد.
قوله تعالى: ﴿لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ الآيتان الكريمتان تنفيان عنه تعالى أن يلد شيئا بتجزيه في نفسه فينفصل عنه شيء سنخه بأي معنى أريد من الانفصال
و الاشتقاق كما يقول به النصارى في المسيح (عليه السلام) إنه ابن الله و كما يقول الوثنية في بعض آلهتهم أنهم أبناء الله سبحانه.
و تنفيان عنه أن يكون متولدا من شيء آخر و مشتقا منه بأي معنى أريد من الاشتقاق كما يقول الوثنية ففي آلهتهم من هو إله أبو إله و من هو آلهة أم إله و من هو إله ابن إله.
و تنفيان أن يكون له كفؤ يعدله في ذاته أو في فعله[14] و هو الإيجاد و التدبير و لم يقل أحد من المليين و غيرهم بالكفؤ الذاتي بأن يقول بتعدد واجب الوجود عز اسمه، و أما الكفؤ في فعله و هو التدبير فقد قيل به كآلهة الوثنية من البشر كفرعون و نمرود من المدعين للألوهية و ملاك الكفاءة عندهم استقلال من يرون ألوهيته في تدبير ما فوض إليه تدبيره كما أنه تعالى مستقل في تدبير من يدبره و هم الأرباب و الآلهة و هو رب الأرباب و إله الآلهة.
و في معنى كفاءة هذا النوع من الإله ما يفرض من استقلال الفعل في شيء من الممكنات فإنه كفاءة مرجعها استغناؤه عنه تعالى و هو محتاج من كل جهة و الآية تنفيها.
و هذه الصفات الثلاث المنفية و إن أمكن تفريع نفيها على صفة أحديته تعالى بوجه لكن الأسبق إلى الذهن تفرعها على صفة صمديته.
أما كونه لم يلد فإن الولادة التي هي نوع من التجزي و التبعض بأي معنى فسرت لا تخلو من تركيب فيمن يلد، و حاجة المركب إلى أجزائه ضرورية و الله سبحانه صمد ينتهي إليه كل محتاج في حاجته و لا حاجة له، و أما كونه لم يولد فإن تولد شيء من شيء لا يتم إلا مع حاجة من المتولد إلى ما ولد منه في وجوده و هو سبحانه صمد لا حاجة له، و أما أنه لا كفؤ له فلأن الكفؤ سواء فرض كفوا له في ذاته أو في فعله لا تتحقق كفاءته إلا مع استقلاله و استغنائه عنه تعالى فيما فيه الكفاءة و الله سبحانه صمد على الإطلاق يحتاج إليه كل من سواه من كل جهة مفروضة.
فقد تبين أن ما في الآيتين من النفي متفرع على صمديته تعالى و مآل ما ذكر من صمديته تعالى و ما يتفرع عليه إلى إثبات توحده تعالى في ذاته و صفاته و أفعاله بمعنى أنه واحد لا يناظره شيء و لا يشبهه فذاته تعالى بذاته و لذاته من غير استناد إلى غيره و احتياج إلى من سواه و كذا صفاته و أفعاله، و ذوات من سواه و صفاتهم و أفعالهم بإفاضة منه على ما يليق بساحة كبريائه و عظمته فمحصل السورة وصفه تعالى بأنه أحد واحد.
و مما قيل في الآية إن المراد بالكفؤ الزوجة فإن زوجة الرجل كفؤه فيكون في معنى قوله: ﴿تَعَالىَ جَدُّ رَبِّنَا مَا اِتَّخَذَ صَاحِبَةً﴾ و هو كما ترى.
(بحث روائي)
في الكافي، بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : إن اليهود سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالوا: انسب لنا ربك فلبث ثلاثا لا يجيبهم ثم نزلت ﴿قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ﴾ إلى آخرها.
أقول: و في الاحتجاج، عن العسكري (عليه السلام): إن السائل عبد الله بن صوريا اليهودي، و في بعض روايات أهل السنة ":أن السائل عبد الله بن سلام سأله (ص) ذلك بمكة ثم آمن و كتم إيمانه، و في بعضها أن أناسا من اليهود سألوه ذلك، و في غير واحد من رواياتهم :أن مشركي مكة سألوه ذلك، و كيف كان فالمراد بالنسبة النعت و الوصف.
و في المعاني، بإسناده عن الأصبغ بن نباتة عن علي (عليه السلام) في حديث : نسبة الله عز و جل قل هو الله. و في العلل، بإسناده عن الصادق (عليه السلام) في حديث المعراج: أن الله قال له أي للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) :
اقرأ قل هو الله أحد كما أنزلت فإنها نسبتي و نعتي. أقول: و روي أيضا بإسناده إلى موسى بن جعفر (عليه السلام) ما في معناه.
و في الدر المنثور، أخرج أبو عبيد في فضائله عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال قل هو الله أحد ثلث القرآن.
أقول: و قد تكاثرت الروايات من طرقهم في هذا المعنى رووه عن عدة من الصحابة كابن عباس و قد مر و أبي الدرداء و ابن عمر و جابر و ابن مسعود و أبي سعيد الخدري و معاذ بن أنس و أبي أيوب و أبي أمامة و غيرهم عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و ورد أيضا في عدة من الروايات عن أئمة أهل البيت (عليه السلام)، و قد وجهوا كون السورة تعدل ثلث القرآن بوجوه مختلفة أعدلها أن ما في القرآن من المعارف تنحل إلى الأصول الثلاثة: التوحيد و النبوة و المعاد و السورة تتضمن واحدا من الثلاثة و هو التوحيد.
و في التوحيد، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): رأيت الخضر (عليه السلام) في المنام قبل بدر بليلة فقلت له: علمني شيئا أنصر به على الأعداء فقال: قل: يا هو يا من لا هو إلا هو فلما أصبحت قصصتها على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال لي: يا علي علمت الاسم الأعظم فكان على
لساني يوم بدر.
و إن أمير المؤمنين (عليه السلام) قرأ قل هو الله أحد فلما فرغ قال: يا هو يا من لا هو إلا هو اغفر لي و انصرني على القوم الكافرين.
و في نهج البلاغة،: الأحد لا بتأويل عدد.
أقول: و رواه في التوحيد، عن الرضا (عليه السلام) و لفظه: أحد لا بتأويل عدد.
و في أصول الكافي، بإسناده عن داود بن القاسم الجعفري قال : قلت لأبي جعفر الثاني (عليه السلام): ما الصمد؟ قال (عليه السلام): السيد المصمود إليه في القليل و الكثير.
أقول: و في تفسير الصمد معان أخر مروية عنهم (عليه السلام) فعن الباقر (عليه السلام): الصمد السيد المطاع الذي ليس فوقه آمر و ناه،
و عن الحسين (عليه السلام): الصمد الذي لا جوف له و الصمد الذي لا ينام، و الصمد الذي لم يزل و لا يزال،
و عن السجاد (عليه السلام) : الصمد الذي إذا أراد شيئا قال له: كن فيكون، و الصمد الذي أبدع الأشياء فخلقها أضدادا و أشكالا و أزواجا و تفرد بالوحدة بلا ضد و لا شكل و لا مثل و لا ند.
و الأصل في معنى الصمد هو الذي رويناه عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) لما في مادته لغة في معنى القصد فالمعاني المختلفة المنقولة عنهم (عليه السلام) من التفسير يلازم المعنى فإن المعاني المذكورة لوازم كونه تعالى مقصودا يرجع إليه كل شيء في كل حاجة فإليه ينتهي الكل من دون أن تتحقق فيه حاجة.
و في التوحيد، عن وهب بن وهب القرشي عن الصادق عن آبائه (عليه السلام) أن أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن علي (عليه السلام) يسألونه عن الصمد فكتب إليهم: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فلا تخوضوا في القرآن و لا تجادلوا فيه و لا تتكلموا فيه بغير علم فقد سمعت جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار، و إن الله سبحانه فسر الصمد فقال: الله أحد الله الصمد ثم فسره فقال: لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفوا أحد.
و فيه، بإسناده إلى ابن أبي عمير عن موسى بن جعفر (عليه السلام) أنه قال : و اعلم أن الله تعالى واحد أحد صمد لم يلد فيورث و لم يولد فيشارك.
و فيه، في خطبة أخرى لعلي (عليه السلام): الذي لم يولد فيكون في العز مشاركا و لم يلد فيكون موروثا هالكا.
و فيه، في خطبة له (عليه السلام): تعالى أن يكون له كفؤ فيشبه به. أقول: و في المعاني المتقدمة روايات أخرى.
(١١٣) سورة الفلق مكية و هي خمس آيات (٥)
[سورة الفلق (١١٣): الآیات ١ الی ٥]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ اَلْفَلَقِ ١ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ٢ وَ مِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ٣ وَ مِنْ شَرِّ اَلنَّفَّاثَاتِ فِي اَلْعُقَدِ ٤ وَ مِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ٥﴾
(بيان)
أمر للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يعوذ بالله من كل شر و من بعضه خاصة و السورة مدنية على ما يظهر مما ورد في سبب نزولها.
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ اَلْفَلَقِ﴾ العوذ هو الاعتصام و التحرز من الشر بالالتجاء إلى من يدفعه، و الفلق بالفتح فالسكون الشق و الفرق، و الفلق بفتحتين صفة مشبهة بمعنى المفعول كالقصص بمعنى المقصوص، و الغالب إطلاقه على الصبح لأنه المشقوق من الظلام، و عليه فالمعنى أعوذ برب الصبح الذي يفلقه و يشقه و مناسبة هذا التعبير للعوذ من الشر الذي يستر الخير و يحجب دونه ظاهر.
و قيل: المراد بالفلق كل ما يفطر و يفلق عنه بالخلق و الإيجاد فإن في الخلق و الإيجاد شقا للعدم و إخراجا للموجود إلى الوجود فيكون مساويا للمخلوق، و قيل هو جب في جهنم و يؤيده بعض الروايات.
قوله تعالى: ﴿مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ أي من شر من يحمل شرا من الإنس و الجن و الحيوانات و سائر ما له شر من الخلق فإن اشتمال مطلق ما خلق على الشر لا يستلزم الاستغراق.
قوله تعالى: ﴿وَ مِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾ في الصحاح،: الغسق أول ظلمة الليل و قد غسق الليل يغسق إذا أظلم و الغاسق الليل إذا غاب الشفق. انتهى، و الوقوب الدخول فالمعنى و من شر الليل إذا دخل بظلمته. و نسبة الشر إلى الليل إنما هي لكونه بظلمته يعين
الشرير في شره لستره عليه فيقع فيه الشر أكثر مما يقع منه بالنهار، و الإنسان فيه أضعف منه في النهار تجاه هاجم الشر، و قيل: المراد بالغاسق كل هاجم يهجم بشره كائنا ما كان.
و ذكر شر الليل إذا دخل بعد ذكر شر ما خلق من ذكر الخاص بعد العام لزيادة الاهتمام و قد اهتم في السورة بثلاثة من أنواع الشر خاصة هي شر الليل إذا دخل و شر سحر السحرة و شر الحاسد إذا حسد لغلبة الغفلة فيهن.
قوله تعالى: ﴿وَ مِنْ شَرِّ اَلنَّفَّاثَاتِ فِي اَلْعُقَدِ﴾ أي النساء الساحرات اللاتي يسحرن بالعقد على المسحور و ينفثن في العقد. و خصت النساء بالذكر لأن السحر كان فيهن و منهم أكثر من الرجال، و في الآية تصديق لتأثير السحر في الجملة، و نظيرها قوله تعالى: في قصة هاروت و ماروت ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ مَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ﴾: البقرة: ١٠٢ و نظيره ما في قصة سحرة فرعون.
و قيل: المراد بالنفاثات في العقد النساء اللاتي يملن آراء أزواجهن إلى ما يرينه و يردنه فالعقد هو الرأي و النفث في العقد كناية عن حله، و هو بعيد.
قوله تعالى: ﴿وَ مِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ أي إذا تلبس بالحسد و عمل بما في نفسه من الحسد بترتيب الأثر عليه.
و قيل: الآية تشمل العائن فعين العائن نوع حسد نفساني يتحقق منه إذا عاين ما يستكثره و يتعجب منه.
(بحث روائي)
في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد عن زيد بن أسلم قال : سحر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) رجل من اليهود فاشتكى فأتاه جبريل فنزل عليه بالمعوذتين و قال: إن رجلا من اليهود سحرك و السحر في بئر فلان فأرسل عليا فجاء به فأمره أن يحل العقد و يقرأ آية فجعل يقرأ و يحل حتى قام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كأنما نشط من عقال:.
أقول: و عن كتاب طب الأئمة، بإسناده إلى محمد بن سنان عن المفضل عن الصادق (عليه السلام): مثله و في هذا المعنى روايات كثيرة من طرق أهل السنة باختلاف يسيرة، و في غير واحد منها أنه أرسل مع علي (عليه السلام) زبيرا و عمارا و فيه روايات أخرى أيضا من طرق أئمة أهل البيت (عليه السلام).
و ما استشكل به بعضهم في مضمون الروايات أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان مصونا من تأثير السحر كيف؟ و قد قال الله تعالى: ﴿وَ قَالَ اَلظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً اُنْظُرْ
كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ اَلْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً﴾: الفرقان: ٩.
يدفعه أن مرادهم بالمسحور و المجنون بفساد العقل بالسحر و أما تأثره عن السحر بمرض يصيبه في بدنه و نحوه فلا دليل على مصونيته منه.
و في المجمع، و روي: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان كثيرا ما يعوذ الحسن و الحسين (عليه السلام) بهاتين السورتين.
و فيه، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : أنزلت علي آيات لم ينزل مثلهن المعوذتان:، أورده في الصحيح. أقول: و أسندها في الدر المنثور، إلى الترمذي و النسائي و غيرهما أيضا، و روي ما في معناه أيضا عن الطبراني في الأوسط عن ابن مسعود، و لعل المراد من عدم نزول مثلهن أنهما في العوذة فقط و لا يشاركهما في ذلك غيرهما من السور.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و البزار و الطبراني و ابن مردويه من طرق صحيحة عن ابن عباس و ابن مسعود أنه كان يحك المعوذتين من المصحف و يقول: لا تخلطوا القرآن بما ليس منه إنهما ليستا من كتاب الله إنما أمر النبي أن يتعوذ بهما، و كان ابن مسعود لا يقرأ بهما. أقول: ثم قال السيوطي قال البزار: و لم يتابع ابن مسعود أحد من الصحابة و قد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قرأ بهما في الصلاة و قد أثبتنا في المصحف انتهى.
و في تفسير القمي، بإسناده عن أبي بكر الحضرمي قال : قلت لأبي جعفر (عليه السلام) إن ابن مسعود كان يمحو المعوذتين من المصحف. فقال: كان أبي يقول: إنما فعل ذلك ابن مسعود برأيه و هو [هماظ] من القرآن.
أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة من طرق الفريقين على أن هناك تواترا قطعيا من عامة المنتحلين بالإسلام على كونهما من القرآن، و قد استشكل بعض المنكرين لإعجاز القرآن أنه لو كان معجزا في بلاغته لم يختلف في كون السورتين من القرآن مثل ابن مسعود، و أجيب بأن التواتر القطعي كاف في ذلك على أنه لم ينقل عنه أحد أنه قال بعدم نزولهما على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو قال بعدم كونهما معجزتين في بلاغتهما بل قال بعدم كونهما جزء من القرآن و هو محجوج بالتواتر.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال : الفلق جب في جهنم مغطى.
أقول: و في معناه غير واحد من الروايات
في بعضها: قال (ص): باب في النار إذ
فتح سعرت جهنم: رواه عقبة بن عامر، و في بعضها: بئر في جهنم إذا سعرت جهنم فمنه تسعر:، رواه عمرو بن عنبسة إلى غير ذلك. و في المجمع، و قيل :الفلق جب في جهنم يتعوذ أهل جهنم من شدة حره :عن السدي و رواه أبو حمزة الثمالي و علي بن إبراهيم في تفسيرهما.
و في تفسير القمي، عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : كاد الفقر أن يكون كفرا و كاد الحسد أن يغلب القدر:.
أقول: الرواية مروية بلفظها عن أنس عنه (ص). و في العيون، بإسناده عن السلطي عن الرضا عن أبيه عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال : كاد الحسد أن يسبق القدر.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة عن أنس قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : إن الحسد ليأكل الحسنات كما يأكل النار الحطب.
(١١٤) سورة الناس مدنية و هي ست آيات (٦)
[سورة الناس (١١٤): الآیات ١ الی ٦]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ اَلنَّاسِ ١ مَلِكِ اَلنَّاسِ ٢ إِلَهِ اَلنَّاسِ ٣ مِنْ شَرِّ اَلْوَسْوَاسِ اَلْخَنَّاسِ ٤ اَلَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ اَلنَّاسِ ٥ مِنَ اَلْجِنَّةِ وَ اَلنَّاسِ ٦﴾
(بيان)
أمر للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يعوذ بالله من شر الوسواس الخناس و السورة مدنية كسابقتها على ما يستفاد مما ورد في سبب نزولها بل المستفاد من الروايات أن السورتين نزلتا معا.
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ اَلنَّاسِ مَلِكِ اَلنَّاسِ إِلَهِ اَلنَّاسِ﴾ من طبع الإنسان إذا أقبل عليه شر يحذره و يخافه على نفسه و أحسن من نفسه الضعف أن يلتجئ بمن يقوى على دفعه و يكفيه وقوعه و الذي يراه صالحا للعوذ و الاعتصام به أحد ثلاثة إما رب يلي أمره و يدبره و يربيه يرجع إليه في حوائجه عامة، و مما يحتاج إليه في بقائه دفع ما يهدده من
الشر، و هذا سبب تام في نفسه، و إما ذو قوة و سلطان بالغة قدرته نافذ حكمه يجيره إذا استجاره فيدفع عنه الشر بسلطته كملك من الملوك، و هذا أيضا سبب تام مستقل في نفسه.
و هناك سبب ثالث و هو الإله المعبود فإن لازم معبودية الإله و خاصة إذا كان واحدا لا شريك له إخلاص العبد نفسه له فلا يدعو إلا إياه و لا يرجع في شيء من حوائجه إلا إليه فلا يريد إلا ما أراده و لا يعمل إلا ما يشاؤه.
و الله سبحانه رب الناس و ملك الناس و إله الناس كما جمع الصفات الثلاث لنفسه في قوله: ﴿ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ اَلْمُلْكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾: الزمر: ٦ و أشار تعالى إلى سببية ربوبيته و ألوهيته بقوله: ﴿رَبُّ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً ﴾المزمل: ٩، و إلى سببية ملكه بقوله: ﴿لَهُ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ إِلَى اَللَّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ﴾: الحديد: ٥ فإن عاذ الإنسان من شر يهدده إلى رب فالله سبحانه هو الرب لا رب سواه و إن أراد بعوذه ملكا فالله سبحانه هو الملك الحق له الملك و له الحكم[15] و إن أراد لذلك إلها فهو الإله لا إله غيره.
فقوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ اَلنَّاسِ﴾ إلخ أمر لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يعوذ به لأنه من الناس و هو تعالى رب الناس ملك الناس إله الناس.
و مما تقدم ظهر أولا وجه تخصيص الصفات الثلاث: الرب و الملك و الإله من بين سائر صفاته الكريمة بالذكر و كذا وجه ما بينها من الترتيب فذكر الرب أولا لأنه أقرب من الإنسان و أخص ولاية ثم الملك لأنه أبعد منالا و أعم ولاية يقصده من لا ولي له يخصه و يكفيه ثم الإله لأنه ولي يقصده الإنسان عن إخلاصه لا عن طبعه المادي.
و ثانيا وجه عدم وصل قوله: ﴿مَلِكِ اَلنَّاسِ إِلَهِ اَلنَّاسِ﴾ بالعطف و ذلك للإشارة إلى كون كل من الصفات سببا مستقلا في دفع الشر فهو تعالى سبب مستقل لكونه ربا لكونه ملكا لكونه إلها فله السببية بأي معنى أريد السبب و قد مر نظير الوجه في قوله ﴿اَللَّهُ أَحَدٌ اَللَّهُ اَلصَّمَدُ﴾.
و بذلك يظهر أيضا وجه تكرار لفظ الناس من غير أن يقال: ربهم و إلههم فقد أشير به إلى أن كلا من الصفات الثلاث يمكن أن يتعلق بها العوذ وحدها من غير ذكر الأخريين لاستقلالها و لله الأسماء الحسنى جميعا، و للقوم في توجيه اختصاص هذه الصفات
و سائر ما مر من الخصوصيات وجوه لا تغني شيئا.
قوله تعالى: ﴿مِنْ شَرِّ اَلْوَسْوَاسِ اَلْخَنَّاسِ﴾ قال في المجمع،: الوسواس حديث النفس بما هو كالصوت الخفي انتهى فهو مصدر كالوسوسة كما ذكره و ذكروا أنه سماعي و القياس فيه كسر الواو كسائر المصادر من الرباعي المجرد و كيف كان فالظاهر كما استظهر أن المراد به المعنى الوصفي مبالغة، و عن بعضهم أنه صفة لا مصدر.
و الخناس صيغة مبالغة من الخنوس بمعنى الاختفاء بعد الظهور قيل: سمي الشيطان خناسا لأنه يوسوس للإنسان فإذا ذكر الله تعالى رجع و تأخر ثم إذا غفل عاد إلى وسوسته.
قوله تعالى: ﴿اَلَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ اَلنَّاسِ﴾ صفة للوسواس الخناس، و المراد بالصدور هي النفوس لأن متعلق الوسوسة هو مبدأ الإدراك من الإنسان و هو نفسه و إنما أخذت الصدور مكانا للوسواس لما أن الإدراك ينسب بحسب شيوع الاستعمال إلى القلب و القلب في الصدر كما قال تعالى: ﴿وَ لَكِنْ تَعْمَى اَلْقُلُوبُ اَلَّتِي فِي اَلصُّدُورِ﴾: الحج: ٤٦ قوله تعالى: ﴿مِنَ اَلْجِنَّةِ وَ اَلنَّاسِ﴾ بيان للوسواس الخناس و فيه إشارة إلى أن من الناس من هو ملحق بالشياطين و في زمرتهم كما قال تعالى: ﴿شَيَاطِينَ اَلْإِنْسِ وَ اَلْجِنِّ﴾: الأنعام: ١١٢.
(بحث روائي)
في المجمع،: أبو خديجة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : جاء جبرئيل إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو شاك فرقاه بالمعوذتين و قل هو الله أحد و قال: بسم الله أرقيك و الله يشفيك من كل داء يؤذيك خذها فلتهنيك فقال: بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الناس إلى آخر السورة.
أقول: و تقدم بعض الروايات الواردة في سبب نزول السورة.
و فيه، روي أن أنس بن مالك قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله خنس و إذا نسي التقم فذلك الوسواس الخناس.
و فيه، روى العياشي بإسناده عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد (عليه السلام) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : ما من مؤمن إلا و لقلبه في صدره أذنان أذن ينفث فيها الملك و أذن ينفث فيها الوسواس الخناس فيؤيد الله المؤمن بالملك، و هو قوله سبحانه: ﴿وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾.
و في أمالي الصدوق، بإسناده إلى الصادق (عليه السلام) قال: لما نزلت هذه الآية ﴿وَ اَلَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اَللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ صعد إبليس جبلا بمكة يقال له ثوير فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه فقالوا: يا سيدنا لم دعوتنا؟ قال: نزلت هذه الآية فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين فقال: أنا لها بكذا و كذا.
قال: لست لها فقام آخر فقال مثل ذلك فقال لست لها.
فقال الوسواس الخناس: أنا لها. قال: بما ذا؟ قال: أعدهم و أمنيهم حتى يواقعوا الخطيئة - فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار - فقال: أنت لها فوكله بها إلى يوم القيامة. أقول: تقدم بعض الكلام في الشيطان في أوائل الجزء الثامن من الكتاب.
تم الكتاب و الحمد لله و اتفق الفراغ من تأليفه في ليلة القدر المباركة الثالثة و العشرين من ليالي شهر رمضان من شهور سنة اثنتين و تسعين و ثلاثمائة بعد الألف من الهجرة و الحمد لله على الدوام، و الصلاة على سيدنا محمد و آله و السلام.
بعض المواضيع المبحوث عنها في الكتاب
[3] و هو ما دل على أن السورة بعد رؤيا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن بني أمية يصعدون منبره فاغتم فسلاه الله بها.
[5] سورة المائدة، آية ٤٨.
[7] في آخر الجزء السادس من الكتاب.
[8] الناشد: الطالب و المذكر.
[14] لم نذكر الصفة لأنها إما صفة الذات فهي عين الذات و إما صفة الفعل منتزعة عن الفعل، منه.
|