• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء العشرون) ، تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده) .
                    • الموضوع : من ص 1 الى ص 82 .

من ص 1 الى ص 82

 

 

 

الميزان في تفسير القرآن

الجزء العشرون

 

 

 

 

 

 

تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سرّه

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تمتاز هذه الطبعه عن غیرها بالتحقیق و التصحیح الکامل

واضافات و تغییرات هامه من قبل المولف

(٧٠) سورة المعارج مكية و هي أربع و أربعون آية (٤٤)

 

 

[سورة المعارج (٧٠): الآیات ١ الی ١٨ ]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ١ لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ٢ مِنَ اَللَّهِ ذِي اَلْمَعَارِجِ ٣ تَعْرُجُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ٤ فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً ٥ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً ٦ وَ نَرَاهُ قَرِيباً ٧ يَوْمَ تَكُونُ اَلسَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ٨ وَ تَكُونُ اَلْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ٩ وَ لاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ١٠ يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ اَلْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ١١ وَ صَاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ ١٢ وَ فَصِيلَتِهِ اَلَّتِي تُؤْوِيهِ ١٣ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ ١٤ كَلاَّ إِنَّهَا لَظى‏ ١٥ نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏١٦ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى ١٧ وَ جَمَعَ فَأَوْعى‏ ١٨

(بيان‏)

الذي يعطيه سياق السورة أنها تصف يوم القيامة بما أعد فيه من أليم العذاب للكافرين. تبتدئ السورة فتذكر سؤال سائل سأل عذابا من الله للكافرين فتشير إلى أنه واقع ليس له دافع قريب غير بعيد كما يحسبونه ثم تصف اليوم الذي يقع فيه و العذاب الذي أعد لهم فيه و تستثني المؤمنين الذين قاموا بوظائف الاعتقاد الحق و العمل الصالح.

و هذا السياق يشبه سياق السور المكية غير أن المنقول عن بعضهم أن قوله:

﴿وَ اَلَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ مدني و الاعتبار يؤيده لأن ظاهره الزكاة و قد شرعت بالمدينة بعد الهجرة، و كون هذه الآية مدنية يستتبع كون الآيات الحافة بها الواقعة تحت الاستثناء و هي أربع عشرة آية قوله: ﴿إِلاَّ اَلْمُصَلِّينَ إلى قوله ﴿فِي

 

 

 جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ مدنية لما في سياقها من الاتحاد و استلزام البعض للبعض.

و مدنية هذه الآيات الواقعة تحت الاستثناء تستدعي ما استثنيت منه و هو على الأقل ثلاث آيات قوله: ﴿إِنَّ اَلْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إلى قوله ﴿مَنُوعاً.

على أن قوله: ﴿فَمَا لِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ متفرع على ما قبله تفرعا ظاهرا و هو ما بعده إلى آخر السورة ذو سياق واحد فتكون هذه الآيات أيضا مدنية.

و من جهة أخرى مضامين هذا الفصل من الآيات تناسب حال المنافقين الحافين حول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن اليمين و عن الشمال عزين و هم الرادون لبعض ما أنزل الله من الحكم و خاصة قوله: ﴿أَ يَطْمَعُ كُلُّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ إلخ، و قوله: ﴿عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ إلخ على ما سيجي‏ء، و موطن ظهور هذا النفاق المدينة لا مكة، و لا ضير في التعبير عن هؤلاء بالذين كفروا فنظير ذلك موجود في سورة التوبة و غيرها.

على أنهم رووا أن السورة نزلت في قول القائل: ﴿اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ اَلسَّمَاءِ أَوِ اِئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ: الأنفال: ٣٢ و قد تقدم في تفسير الآية أن سياقها و التي بعدها سياق مدني لا مكي. لكن المروي عن الصادق (عليه السلام) أن المراد بالحق المعلوم في الآية حق يسميه صاحب المال في ماله غير الزكاة المفروضة.

و لا عبرة بما نسب إلى اتفاق المفسرين أن السورة مكية على أن الخلاف ظاهر و كذا ما نسب إلى ابن عباس أنها نزلت بعد سورة الحاقة.

قوله تعالى: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ السؤال بمعنى الطلب و الدعاء، و لذا عدي بالباء كما في قوله: ﴿يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ: الدخان: ٥٥ و قيل: الفعل مضمن معنى الاهتمام و الاعتناء و لذا عدي بالباء، و قيل: الباء زائدة للتأكيد، و مآل الوجوه واحد و هو طلب العذاب من الله كفرا و عتوا.

و قيل: الباء بمعنى عن كما في قوله: ﴿فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً: الفرقان: ٥٩، و فيه أن كونها في الآية المستشهد بها بمعنى عن ممنوع. على أن سياق الآيات التالية و خاصة قوله:

﴿فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً لا يلائم كون السؤال بمعنى الاستفسار و الاستخبار.

فالآية تحكي سؤال العذاب و طلبه عن بعض من كفر طغيانا و كفرا، و قد وصف العذاب المسئول من الأوصاف بما يدل على إجابة الدعاء بنوع من التهكم و التحقير و هو قوله: ﴿وَاقِعٍ

 

 

و قوله: ﴿لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ.

و المعنى سأل سائل من الكفار عذابا للكافرين من الله سيصيبهم و يقع عليهم لا محالة و لا دافع له أي أنه واقع عليهم سأل أو لم يسأل ففيه جواب تحقيري و إجابة لمسئوله تهكما.

قوله تعالى: ﴿لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ للكافرين متعلق بعذاب و صفة له، و كذا قوله: ﴿لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ و قد مرت الإشارة إلى معنى الآية.

قوله تعالى: ﴿مِنَ اَللَّهِ ذِي اَلْمَعَارِجِ الجار و المجرور متعلق بقوله: ﴿دَافِعٌ أي ليس له دافع من جانب الله و من المعلوم أنه لو اندفع لم يندفع إلا من جانب الله سبحانه، و من المحتمل أن يتعلق بقوله: ﴿بِعَذَابٍ.

و المعارج جمع معرج و فسروه بالمصاعد و هي الدرجات و هي مقامات الملكوت التي يعرج إليها الملائكة عند رجوعهم إلى الله سبحانه على ما يفسره قوله بعد: ﴿تَعْرُجُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ إلخ فله سبحانه معارج الملكوت و مقاماتها المترتبة علوا و شرفا التي تعرج فيها الملائكة و الروح بحسب قربهم من الله و ليست بمقامات وهمية اعتبارية.

و قيل: المراد بالمعارج الدرجات التي يصعد فيها الاعتقاد الحق و العمل الصالح قال تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ: الفاطر ١٠، و قال: ﴿وَ لَكِنْ يَنَالُهُ اَلتَّقْوى‏ مِنْكُمْ: الحج: ٣٧.

و قيل: المراد به مقامات القرب التي يعرج إليها المؤمنون بالإيمان و العمل الصالح قال تعالى: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اَللَّهِ وَ اَللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ: آل عمران: ١٦٣ و قال: ﴿لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ: الأنفال: ٤ و قال: ﴿رَفِيعُ اَلدَّرَجَاتِ ذُو اَلْعَرْشِ: المؤمن: ١٥.

و الحق أن مآل الوجهين إلى الوجه الأول، و الدرجات المذكورة حقيقية ليست بالوهمية الاعتبارية.

قوله تعالى: ﴿تَعْرُجُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ المراد بهذا اليوم يوم القيامة على ما يفيده سياق الآيات التالية.

و المراد بكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة على ما ذكروا أنه بحيث لو وقع في الدنيا و انطبق على الزمان الجاري فيها كان مقداره من الزمان خمسين ألف سنة من سني الدنيا

 

 

 و المراد بعروج الملائكة و الروح إليه يومئذ رجوعهم إليه تعالى عند رجوع الكل إليه فإن يوم القيامة يوم بروز سقوط الوسائط و تقطع الأسباب و ارتفاع الروابط بينها و بين مسبباتها و الملائكة وسائط موكلة على أمور العالم و حوادث الكون فإذا تقطعت الأسباب عن مسبباتها و زيل الله بينهم و رجع الكل إلى الله عز اسمه رجعوا إليه و عرجوا معارجهم فحفوا من حول عرش ربهم و صفوا قال تعالى: ﴿وَ تَرَى اَلْمَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ اَلْعَرْشِ : الزمر - ٧٥، و قال: ﴿يَوْمَ يَقُومُ اَلرُّوحُ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ صَفًّا: النبأ: ٣٨.

و الظاهر أن المراد بالروح الروح الذي هو من أمره تعالى كما قال: ﴿قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي: إسراء: ٨٥ و هو غير الملائكة كما هو ظاهر قوله تعالى: ﴿يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ: النحل: ٢.

فلا يعبأ بما قيل: إن المراد بالروح جبرئيل و إن أطلق عليه الروح الأمين و روح القدس في قوله: ﴿نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ عَلى‏َ قَلْبِكَ: الشعراء: ١٩٤ و قوله: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ اَلْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ: النحل: ١٠٣ فإن المقيد غير المطلق.

قوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً لما كان سؤال السائل للعذاب عن تعنت و استكبار و هو مما يشق تحمله أمر نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) بالصبر و وصفه بالجميل و الجميل من الصبر ما ليس فيه شائبة الجزع و الشكوى، و علله بأن اليوم بما فيه من العذاب قريب.

قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَرَاهُ قَرِيباً ضميرا ﴿يَرَوْنَهُ و ﴿نَرَاهُ للعذاب أو ليوم القيامة بما فيه من العذاب الواقع و يؤيد الأول قوله فيما بعد: ﴿يَوْمَ تَكُونُ اَلسَّمَاءُ كَالْمُهْلِ إلخ.

و المراد بالرؤية الاعتقاد بنوع من العناية المجازية و رؤيتهم ذلك بعيدا ظنهم أنه بعيد من الإمكان فإن سؤال العذاب من الله سبحانه استكبارا عن دينه و ردا لحكمه لا يجامع الإيمان بالمعاد و إن تفوه به السائل، و رؤيته تعالى ذلك قريبا علمه بتحققه و كل ما هو آت قريب.

و في الآيتين تعليل أمره (ص) بالصبر الجميل فإن تحمل الأذى و الصبر على المكاره يهون على الإنسان إذا استيقن أن الفرج قريب و تذكر ذلك فالكلام في معنى قولنا فاصبر على تعنتهم و استكبارهم في سؤالهم العذاب صبرا جميلا لا يشوبه جزع و شكوى فأنا نعلم أن

 

 

 العذاب قريب على خلاف ما يستبعدونه، و علمنا لا يتخلف عن الواقع بل هو نفس الواقع.

قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَكُونُ اَلسَّمَاءُ كَالْمُهْلِ المهل‏ المذاب من المعدنيات كالنحاس و الذهب و غيرهما، و قيل: دردي الزيت، و قيل: عكر القطران‏[1].

و الظرف متعلق بقوله: ﴿وَاقِعٍ على ما يفيده السياق.

قوله تعالى: ﴿وَ تَكُونُ اَلْجِبَالُ كَالْعِهْنِ العهن‏ مطلق الصوف، و لعل المراد المنفوش منه كما في قوله تعالى: ﴿وَ تَكُونُ اَلْجِبَالُ كَالْعِهْنِ اَلْمَنْفُوشِ: القارعة: ٥.

و قيل: هو الصوف الأحمر، و قيل: المصبوغ ألوانا لأن الجبال ذات ألوان مختلفة فمنها جدد بيض و حمر و غرابيب سود[2].

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً الحميم القريب الذي تهتم بأمره و تشفق عليه.

إشارة إلى شدة اليوم فالإنسان يومئذ تشغله نفسه عن غيره حتى أن الحميم لا يسأل حميمه عن حاله لاشتغاله بنفسه.

قوله تعالى: ﴿يُبَصَّرُونَهُمْ الضميران للأحماء المعلوم من السياق و التبصير الإراءة و الإيضاح أي يرى و يوضح الأحماء للأحماء فلا يسألونهم عن حالهم اشتغالا بأنفسهم.

و الجملة مستأنفة في معنى الجواب عن سؤال مقدر كأنه لما قيل: لا يسأل حميم حميما سئل فقيل: هل يرى الأحماء يومئذ أحماءهم؟ فأجيب: يبصرونهم و يمكن أن يكون ﴿يُبَصَّرُونَهُمْ صفة ﴿حَمِيماً.

و من ردي‏ء التفسير قول بعضهم: إن معنى قوله: ﴿يُبَصَّرُونَهُمْ يبصر الملائكة الكفار، و ما قيل: إن المعنى يبصر المؤمنون أعداءهم من الكفار و ما هم فيه من العذاب فيشمتون بهم، و ما قيل: إن المعنى يبصر اتباع الضلالة رؤساءهم. و هي جميعا وجوه لا دليل عليها.

قوله تعالى: ﴿يَوَدُّ اَلْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَ صَاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ وَ فَصِيلَتِهِ اَلَّتِي تُؤْوِيهِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ قال في المجمع،: المودة مشتركة بين التمني و بين المحبة يقال: وددت الشي‏ء أي تمنيته و وددته أي أحببته أود فيهما جميعا. انتهى، و يمكن أن يكون استعماله بمعنى التمني من باب التضمين.

 

 

 

 و قال: و الافتداء الضرر عن الشي‏ء ببدل منه انتهى، و قال: الفصيلة الجماعة المنقطعة عن جملة القبيلة برجوعها إلى أبوة خاصة عن أبوة عامة. انتهى، و ذكر بعضهم أن الفصيلة عشيرته الأقربين الذين فصل عنهم كالآباء الأدنين.

و سياق هذه الآيات سياق الإضراب و الترقي بالنسبة إلى قوله: ﴿وَ لاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً فيفيد أن المجرم يبلغ به شدة العذاب إلى أن يتمنى أن يفتدي من العذاب بأحب أقاربه و أكرمهم عليه بنيه و صاحبته و أخيه و فصيلته و جميع من في الأرض ثم ينجيه الافتداء فيود ذلك فضلا عن عدم سؤاله عن حال حميمه.

و المعنى ﴿يَوَدُّ و يتمنى ﴿اَلْمُجْرِمُ و هو المتلبس بالأجرام أعم من الكافر ﴿لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ و هذا هو الذي يتمناه، و الجملة قائمة مقام مفعول يود. ﴿بِبَنِيهِ الذين هم أحب الناس عنده ﴿وَ صَاحِبَتِهِ التي كانت سكنا له و كان يحبها و ربما قدمها على أبويه ﴿وَ أَخِيهِ الذي كان شقيقه و ناصره ﴿وَ فَصِيلَتِهِ من عشيرته الأقربين ﴿اَلَّتِي تُؤْوِيهِ و تضمه إليها ﴿وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً من أولي العقل ﴿ثُمَّ يُنْجِيهِ هذا الافتداء.

قوله تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّهَا لَظى‏ نَزَّاعَةً لِلشَّوىَ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعىَ كلا للردع، و ضمير ﴿إِنَّهَا لجهنم أو للنار و سميت لظى لكونها تتلظى و تشتعل، و النزاعة اسم مبالغة من النزع بمعنى الاقتلاع، و الشوى‏ الأطراف كاليد و الرجل يقال: رماه فأشواه أي أصاب شواه كذا قال الراغب، و إيعاء المال إمساكه في وعاء.

فقوله: ﴿كَلاَّ ردع لتمنيه النجاة من العذاب بالافتداء و قد علل الردع بقوله: ﴿إِنَّهَا لَظى‏ إلخ و محصله أن جهنم نار مشتعلة محرقة للأطراف شأنها أنها تطلب المجرمين لتعذبهم فلا تصرف عنهم بافتداء كائنا ما كان.

فقوله: ﴿إِنَّهَا لَظى‏ أي نار صفتها الاشتعال لا تنعزل عن شأنها و لا تخمد، و قوله:

﴿نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ أي صفتها إحراق الأطراف و اقتلاعها لا يبطل ما لها من الأثر فيمن تعذبه.

و قوله: ﴿تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى‏ أي تطلب من أدبر عن الدعوة الإلهية إلى الإيمان بالله و أعرض عن عبادته تعالى و جمع المال فأمسكه في وعائه و لم ينفق منه للسائل و المحروم.

و هذا المعنى هو المناسب لسياق الاستثناء الآتي و ذكر الصلاة و الإنفاق فيه.

 

 

(بحث روائي)

 في المجمع، حدثنا السيد أبو الحمد قال: حدثنا الحاكم أبو القاسم الحسكاني و ساق السند عن جعفر بن محمد الصادق عن آبائه (عليه السلام) قال : لما نصب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عليا و قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، طار ذلك في البلاد فقدم على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) النعمان بن الحارث الفهري.

فقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله و أمرتنا بالجهاد و الحج و الصوم و الصلاة و الزكاة فقبلناها ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شي‏ء منك أو أمر من عند الله؟ فقال: و الله الذي لا إله إلا هو أن هذا من الله.

فولى النعمان بن الحارث و هو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله و أنزل الله تعالى: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ. أقول: و هذا المعنى مروي بغير طريق من طرق الشيعة، و قد رد الحديث بعضهم بأنه موضوع لكون سورة المعارج مكية، و قد عرفت الكلام في مكية السورة.

و في الدر المنثور، أخرج الفاريابي و عبد بن حميد و النسائي و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ قال هو النضر بن الحارث قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدي" :في قوله: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ قال. نزلت بمكة في النضر بن الحارث و قد قال: ﴿اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ الآية و كان عذابه يوم بدر.

أقول: و هذا المعنى مروي أيضا عن غير السدي، و في بعض رواياتهم أن القائل:

﴿اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ الآية هو الحارث بن علقمة رجل من عبد الدار، و في بعضها أن سائل العذاب هو أبو جهل بن هشام سأله يوم بدر و لازمه مدنية السورة و المعتمد على أي حال نزول السورة بعد قول القائل: ﴿اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ الآية و قد تقدم كلام في سياق الآية.

 و في أمالي الشيخ، بإسناده إلى أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: ألا فحاسبوا أنفسكم قبل

 

 

 أن تحاسبوا فإن في القيامة خمسين موقفا كل موقف مثل ألف سنة مما تعدون ثم تلا هذه الآية ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ:.

أقول: و روي هذا المعنى في روضة الكافي، عن حفص بن غياث عنه (عليه السلام). و في المجمع، روى أبو سعيد الخدري قال: قيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : ما أطول هذا اليوم فقال: و الذي نفس محمد بيده - إنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا:.

أقول: و رواه في الدر المنثور، عن عدة من الجوامع عن أبي سعيد عنه (ص).

 و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَكُونُ اَلسَّمَاءُ كَالْمُهْلِ قال: الرصاص الذائب و النحاس كذلك تذوب السماء.

 و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: ﴿يُبَصَّرُونَهُمْ يقول:

يعرفونهم ثم لا يتساءلون.

 و فيه،: في قوله تعالى: ﴿نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ قال: تنزع عينه و تسود وجهه.

و فيه،: في قوله تعالى: ﴿تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى قال: تجره إليها.

[سورة المعارج (٧٠): الآیات ١٩ الی ٣٥ ]

﴿إِنَّ اَلْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ١٩ إِذَا مَسَّهُ اَلشَّرُّ جَزُوعاً ٢٠ وَ إِذَا مَسَّهُ اَلْخَيْرُ مَنُوعاً ٢١ إِلاَّ اَلْمُصَلِّينَ ٢٢ اَلَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ ٢٣ وَ اَلَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ٢٤ لِلسَّائِلِ وَ اَلْمَحْرُومِ ٢٥ وَ اَلَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ اَلدِّينِ ٢٦ وَ اَلَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ٢٧ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ٢٨ وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ٢٩ إِلاَّ عَلى‏ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ٣٠ فَمَنِ اِبْتَغى‏ وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ اَلعَادُونَ ٣١ وَ اَلَّذِينَ

 

 

هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ رَاعُونَ ٣٢ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ٣٣ وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ ٣٤ أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ٣٥

(بيان)‏

تشير الآيات إلى السبب الأولي الذي يدعو الإنسان إلى رذيلة الإدبار و التولي و الجمع و الإيعاء التي تؤديه إلى دخول النار الخالدة التي هي لظى نزاعة للشوى على ما تذكره الآيات.

و ذلك السبب صفة الهلع التي اقتضت الحكمة الإلهية أن يخلق الإنسان عليها ليهتدي بها إلى ما فيه خيره و سعادته غير أن الإنسان يفسدها على نفسه و يسي‏ء استعمالها في سبيل سعادته فتسلك به إلى هلكة دائمة إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات فهم في جنات مكرمون.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ اَلشَّرُّ جَزُوعاً وَ إِذَا مَسَّهُ اَلْخَيْرُ مَنُوعاً الهلوع‏ صفة مشتقة من الهلع بفتحتين و هو شدة الحرص، و ذكروا أيضا أن الهلوع تفسره الآيتان بعده فهو الجزوع عند الشر و المنوع عند الخير و هو تفسير سديد و السياق يناسبه.

و ذلك أن الحرص الشديد الذي جبل عليه الإنسان ليس حرصا منه على كل شي‏ء خيرا كان أو شرا أو نافعا أو ضارا بل حرصا على الخير و النافع و لا حرصا على كل خير أو نافع سواء ارتبط به أو لم يرتبط و كان له أو لغيره بل حرصا منه على ما يراه خيرا لنفسه أو نافعا في سبيل الخير، و لازم هذا الحرص أن يظهر منه التزعزع و الاضطراب عند مس الشر و هو خلاف الخير و أن يمتنع عن ترك الخير عند مسه و يؤثر نفسه على غيره إلا أن يرى الترك أكثر خيرا و أنفع بحاله فالجزع عند مس الشر و المنع عند مس الخير من لوازم الهلع و شدة الحرص.

و ليس الهلع و شدة الحرص المجبول عليه الإنسان و هو من فروع حب الذات في حد نفسه من الرذائل المذمومة كيف؟ و هي الوسيلة الوحيدة التي تدعو الإنسان إلى بلوغ سعادته و كمال وجوده، و إنما تكون رذيلة مذمومة إذا أساء الإنسان في تدبيرها

 

 

 فاستعملها فيما ينبغي و فيما لا ينبغي و بالحق و بغير حق كسائر الصفات النفسانية التي هي كريمة ما لزمت حد الاعتدال و إذا انحرفت إلى جانب الإفراط أو التفريط عادت رذيلة ذميمة.

فالإنسان في بدء نشأته و هو طفل يرى ما يراه خيرا لنفسه أو شرا لنفسه بما جهز به من الغرائز العاطفة و هي التي تهواه نفسه و تشتهيه قواه من غير أن يحده بحد أو يقدره بقدر فيجزع إذا مسه ألم أو أي مكروه، و يمنع من يزاحمه فيما أمسك به بكل ما يقدر عليه من بكاء و نحوه.

و هو على هذه الحال حتى إذا رزق العقل و الرشد أدرك الحق و الباطل و الخير و الشر و اعترفت نفسه بما أدرك و حينئذ يتبدل عنده كثير من مصاديق الحق و الباطل و الخير و الشر فعاد كثير مما كان يراه خيرا لنفسه شرا عنده و بالعكس.

فإن أقام على ما كان عليه من اتباع أهواء النفس و العكوف على المشتهيات و اشتغل بها عن اتباع الحق و غفل عنه، طبع على قلبه فلم يواجه حقا إلا دحضه و لا ذا حق إلا اضطهده و إن أدركته العناية الإلهية عاد ما كان عنده من الحرص على ما تهواه النفس حرصا على الحق فلم يستكبر على حق واجهه و لا منع ذا حق حقه.

فالإنسان في بادئ أمره و هو عهد الصبي قبل البلوغ و الرشد مجهز بالحرص الشديد على الخير و هو صفة كمالية له بحسب حاله بها ينبعث إلى جلب الخير و اتقاء الشر قال تعالى: ﴿وَ إِنَّهُ لِحُبِّ اَلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ: العاديات: ٨.

ثم إذا رزق البلوغ و الرشد زاد تجهيزا آخر و هو العقل الذي بها يدرك حقائق الأمور على ما هي عليها فيدرك ما هو الاعتقاد الحق و ما هو الخير في العمل، و يتبدل حرصه الشديد على الخير و كونه جزوعا عند مس الشر و منوعا عند مس الخير من الحرص الشديد على الخير الواقعي من الفزع و الخوف إذا مسه شر أخروي و هو المعصية و المسابقة إلى مغفرة ربه إذا مسه خير أخروي و هو مواجهة الحسنة، و أما الشر و الخير الدنيويان فإنه لا يتعدى فيهما ما حده الله له من الصبر عند المصيبة و الصبر على الطاعة و الصبر عن المعصية و هذه الصفة صفة كمالية لهذا الإنسان.

و أما إذا أعرض الإنسان عما يدركه عقله و يعترف به فطرته و عكف على اتباع الهوى و اعتنق الباطل و تعدى إلى حق كل ذي حق و لم يقف في حرصه على الخير على حد

 

 

 فقد بدل نعمة الله نقمة و أخذ صفة غريزية خلقها الله وسيلة له يتوسل بها إلى سعادة الدنيا و الآخرة وسيلة إلى الشقوة و الهلكة تسوقه إلى الإدبار و التولي و الجمع و الإيعاء كما في الآيات.

و قد بان مما تقدم أنه لا ضير في نسبة هلع الإنسان في الآيات إلى الخلقة و الكلام مسوق للذم و قد قال تعالى: ﴿اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ: السجدة ٧، و ذلك أن ما يلحقه من الذم إنما هو من قبل الإنسان و سوء تدبيره لا من قبله تعالى فهو كسائر نعمه تعالى على الإنسان التي يصيرها نقما بسوء اختياره.

و ذكر الزمخشري فرارا من الإشكال أن في الكلام استعارة، و المعنى أن الإنسان لإيثاره الجزع و المنع و تمكنهما منه كأنه مجبول مطبوع عليهما، و كأنه أمر مخلوق فيه ضروري غير اختياري فالكلام موضوع على التشبيه لا لإفادة كونه مخلوقا لله حقيقة لأن الكلام مسوق للذم و الله سبحانه لا يذم فعل نفسه، و من الدليل عليه استثناء المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم فنجوا عن الجزع و المنع جميعا.

و فيه أن الصفة مخلوقة نعمة و فضيلة و الإنسان هو الذي يخرجها من الفضيلة إلى الرذيلة و من النعمة إلى النقمة و الذم راجع إلى الصفة من جهة سوء تدبيره لا من حيث إنها فعله تعالى.

و استثناء المؤمنين ليس لأجل أن الصفة غير مخلوقة فيهم بل لأجل أنهم أبقوها على كمالها و لم يبدلوها رذيلة و نقمة.

و أجيب أيضا عن الاستثناء بأنه منقطع و هو كما ترى.

قوله تعالى: ﴿إِلاَّ اَلْمُصَلِّينَ استثناء من الإنسان الموصوف بالهلع، و في تقديم الصلاة على سائر الأعمال الصالحة المعدودة في الآيات التالية دلالة على شرفها و أنها خير الأعمال.

على أن لها الأثر البارز في دفع رذيلة الهلع المذموم و قد قال تعالى: ﴿إِنَّ اَلصَّلاَةَ تَنْهى‏َ عَنِ اَلْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ: العنكبوت ٤٥.

قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ هُمْ عَلى‏َ صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ في إضافة الصلاة إلى الضمير دلالة على أنهم مداومون على ما يأتون به من الصلاة كائنة ما كانت لا أنهم دائما في الصلاة، و فيه إشارة إلى أن العمل إنما يكمل أثره بالمداومة.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَ اَلْمَحْرُومِ فسره بعضهم بالزكاة المفروضة، و في الحديث عن الصادق (عليه السلام): أن الحق المعلوم ليس من الزكاة و إنما هو مقدار

 

 

 معلوم ينفقونه للفقراء، و السائل هو الفقير الذي يسأل، و المحروم الفقير الذي يتعفف و لا يسأل‏ و السياق لا يخلو من تأييده فإن للزكاة موارد مسماة في قوله: ﴿إِنَّمَا اَلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَ اَلْمَسَاكِينِ وَ اَلْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَ اَلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي اَلرِّقَابِ وَ اَلْغَارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اَللَّهِ: التوبة ٦٠ و ليست مختصة بالسائل و المحروم على ما هو ظاهر الآية.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ اَلدِّينِ الذي يفيده سياق عد الأعمال الصالحة أن المراد بتصديقهم يوم الدين التصديق العملي دون التصديق الاعتقادي و ذلك بأن تكون سيرتهم في الحياة سيرة من يرى أن ما يأتي به من عمل سيحاسب عليه فيجازي به إن خيرا فخيرا و إن شرا فشرا.

و في التعبير بقوله: ﴿يُصَدِّقُونَ دلالة على الاستمرار فهو المراقبة الدائمة بذكره تعالى عند كل عمل يواجهونه فيأتون بما يريده و يتركون ما يكرهه.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ أي خائفون، و الكلام في إشفاقهم من عذاب ربهم نظير الكلام في تصديقهم بيوم الدين فهو الإشفاق العملي الظاهر من حالهم.

و لازم إشفاقهم من عذاب ربهم مع لزومهم الأعمال الصالحة و مجاهدتهم في الله أن لا يثقوا بما يأتون به من الأعمال الصالحة و لا يأمنوا عذاب الله فإن الأمن لا يجامع الخوف.

و الملاك في الإشفاق من العذاب أن العذاب على المخالفة فلا منجى منه إلا بالطاعة من النفس و لا ثقة بالنفس إذ لا قدرة لها في ذاتها إلا ما أقدرها الله عليه و الله سبحانه مالك غير مملوك، قال تعالى: ﴿قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اَللَّهِ شَيْئاً: المائدة ١٧.

على أن الله سبحانه و إن وعد أهل الطاعة النجاة و ذكر أنه لا يخلف الميعاد لكن الوعد لا يقيد إطلاق قدرته فهو مع ذلك قادر على ما يريد و مشيته نافذة فلا أمن بمعنى انتفاء القدرة على ما يخالف الوعد فالخوف على حاله و لذلك نرى أنه تعالى يقول في ملائكته: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ فيصفهم بالخوف و هو يصرح بعصمتهم، و يقول في أنبيائه: ﴿وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اَللَّهَ: الأحزاب: ٣٩، و يصف المؤمنين في هذه الآية بالإشفاق و هو يعدهم في آخر الآيات بقول جازم فيقول:

﴿أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ تعليل لإشفاقهم من عذاب ربهم فيتبين به أنهم مصيبون في إشفاقهم من العذاب و قد تقدم وجهه.

 

 

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلى قوله ﴿هُمُ اَلعَادُونَ تقدم تفسير الآيات الثلاث في أول سورة المؤمنون.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ رَاعُونَ المتبادر من الأمانات أنواع الأمانة التي يؤتمنون عليها من المال و سائر ما يوصى به من نفس أو عرض و رعايتهم لها أن يحفظوها و لا يخونوها قيل: و لكثرة أنواعها جي‏ء بلفظ الجمع بخلاف العهد.

و قيل: المراد بها جميع ما كلفهم الله من اعتقاد و عمل فتعم حقوق الله و حقوق الناس فلو ضيعوا شيئا منها فقد خانوه.

و قيل: كل نعمة أعطاها الله عبده من الأعضاء و غيرها أمانة فمن استعمل شيئا منها في غير ما أعطاه الله لأجله و أذن له في استعماله فقد خانه.

و ظاهر العهد عقد الإنسان مع غيره قولا أو فعلا على أمر و رعايته أن يحفظه و لا ينقضه من غير مجوز.

و قيل: العهد كل ما التزم به الإنسان لغيره فإيمان العبد لربه عهد منه عاهد به ربه أن يطيعه في كل ما كلفه به فلو عصاه في شي‏ء مما أمره به أو نهاه عنه فقد نقض عهده.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ الشهادة معروفة، و القيام بالشهادة عدم الاستنكاف عن تحملها و أداء ما تحمل منها كما تحمل من غير كتمان و لا تغيير، و الآيات في هذا المعنى كثيرة.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَلى‏َ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ المراد بالمحافظة على الصلاة رعاية صفات كمالها على ما ندب إليه الشرع.

قيل: و المحافظة على الصلاة غير الدوام عليها فإن الدوام متعلق بنفس الصلاة و المحافظة بكيفيتها فلا تكرار في ذكر المحافظة عليها بعد ذكر الدوام عليها.

قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ الإشارة إلى المصلين في قوله: ﴿إِلاَّ اَلْمُصَلِّينَ و تنكير جنات للتفخيم، و ﴿فِي جَنَّاتٍ خبر و ﴿مُكْرَمُونَ خبر بعد خبر أو ظرف لقوله: ﴿مُكْرَمُونَ.

 

 

(بحث روائي‏)

في تفسير القمي، : ﴿إِذَا مَسَّهُ اَلشَّرُّ جَزُوعاً قال: الشر هو الفقر و الفاقة ﴿وَ إِذَا مَسَّهُ اَلْخَيْرُ مَنُوعاً قال: الغنى و السعة.

 و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : ثم استثنى فقال ﴿إِلاَّ اَلْمُصَلِّينَ فوصفهم بأحسن أعمالهم ﴿اَلَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ يقول: إذا فرض على نفسه شيئا من النوافل دام عليه.

 أقول: قوله: إذا فرض على نفسه «إلخ» استفاد (عليه السلام) هذا المعنى من إضافة الصلاة إلى ضمير ﴿هُمْ و قد أشرنا إليه فيما مر.

 و في الكافي، بإسناده إلى الفضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: ﴿وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَلى‏َ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ قال: هي الفريضة. قلت: ﴿اَلَّذِينَ هُمْ عَلىَ صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ قال: هي النافلة.

و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ: و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: الحق المعلوم ليس من الزكاة و هو الشي‏ء الذي تخرجه من مالك إن شئت كل جمعة و إن شئت كل يوم، و لكل ذي فضل فضله. قال: و روي عنه أيضا أنه قال: هو أن تصل القرابة و تعطي من حرمك و تصدق على من عاداك. أقول: و روي هذا المعنى في الكافي، عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) بعدة طرق و رواه في المحاسن عن أبي جعفر (عليه السلام).

 و في الكافي، بإسناده عن صفوان الجمال عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز و جل ﴿لِلسَّائِلِ وَ اَلْمَحْرُومِ قال: المحروم المحارف الذي قد حرم كد يمينه في الشراء و البيع.

 قال: و في رواية أخرى عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) أنهما قالا : المحروم الرجل الذي ليس بعقله بأس و لم يبسط له في الرزق و هو محارف.

و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ: روى محمد بن الفضيل

 

 

 عن أبي الحسن (عليه السلام) أنه قال : أولئك أصحاب الخمسين صلاة من شيعتنا.

 أقول: و لعله مبني على ما ورد عنهم ((عليه السلام)) أن تشريع النوافل اليومية لتتميم الفرائض.

 [سورة المعارج (٧٠): الآیات ٣٦ الی ٤٤]

﴿فَمَا لِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ٣٦ عَنِ اَلْيَمِينِ وَ عَنِ اَلشِّمَالِ عِزِينَ ٣٧ أَ يَطْمَعُ كُلُّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ٣٨ كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ٣٩ فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ اَلْمَشَارِقِ وَ اَلْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ٤٠ عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَ مَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ٤١ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمُ اَلَّذِي يُوعَدُونَ ٤٢ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ اَلْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلى‏ نُصُبٍ يُوفِضُونَ ٤٣ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ اَلْيَوْمُ اَلَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ٤٤

(بيان‏)

لما ذكر سبحانه في الفصل الأول من آيات السورة في ذيل ما حكى من سؤالهم العذاب أن لهم عذابا واقعا ليس له دافع و هو النار المتلظية النزاعة للشوى التي تدعو من أدبر و تولى و جمع فأوعى.

ثم بين في الفصل الثاني منها الملاك في ابتلائهم بهذه الشقوة و هو أن الإنسان مجهز بغريزة الهلع و حب خير نفسه و يؤديه اتباع الهوى في استعمالها إلى الاستكبار على كل حق يواجهه فيورده ذلك النار الخالدة، و لا ينجو من ذلك إلا الصالحون عملا المصدقون ليوم الدين المشفقون من عذاب ربهم.

انعطف في هذا الفصل من الآيات و هو الفصل الثالث على أولئك الكفار كالمتعجب

 

 

 من أمرهم حيث يجتمعون على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : مهطعين عن اليمين و عن الشمال عزين مقبلين عليه بأبصارهم لا يفارقونه فخاطبه (ص): ما بالهم يحيطون بك مهطعين عليك يلازمونك؟ هل يريد كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم و هو كافر و قد قدر الله سبحانه أن لا يكرم بجنته إلا من استثناه من المؤمنين فهل يريدون أن يسبقوا الله و يعجزوه بنقض ما حكم به و إبطال ما قدره كلا إن الله الذي خلقهم من نطفة مهينة قادر أن يبدلهم خيرا منهم و يخلق مما خلقهم منه، غيرهم ممن يعبده و يدخل جنته.

ثم أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يقطع خصامهم و يذرهم يخوضوا و يلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون.

قوله تعالى: ﴿فَمَا لِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ اَلْيَمِينِ وَ عَنِ اَلشِّمَالِ عِزِينَ قال في المجمع،: قال الزجاج: المهطع‏ المقبل ببصره على الشي‏ء لا يزايله و ذلك من نظر العدو، و قال أبو عبيدة الإهطاع‏ الإسراع، و عزين‏ جماعات في تفرقة، واحدتهم عزة. انتهى، و قبل‏ الشي‏ء بالكسر فالفتح الجهة التي تليه و الفاء في «فما» فصيحة.

و المعنى: إذا كان الإنسان بكفره و استكباره على الحق مصيره إلى النار إلا من استثني من المؤمنين فما للذين كفروا عندك مقبلين عليك لا يرفعون عنك أبصارهم و هم جماعات متفرقة عن يمينك و شمالك أ يطمعون أن يدخلوا الجنة فيعجزوا الله و يسبقوه فيما قضى به أن لا يدخل الجنة إلا الصلحاء من المؤمنين.

قوله تعالى: ﴿أَ يَطْمَعُ كُلُّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ، الاستفهام للإنكار أي ما هو الذي يحملهم على أن يحتفوا بك و يهطعوا عليك؟ هل يحملهم على ذلك طمع كل منهم أن يدخل جنة نعيم و هو كافر فلا مطمع للكافر في دخول الجنة.

و نسب الطمع إلى كل امرئ منهم و لم ينسب إلى جماعتهم بأن يقال: أ يطمعون أن يدخلوا «إلخ» كما نسب الإهطاع إلى جماعتهم فقيل: مهطعين لأن النافع من الطمع في السعادة و الفلاح هو الطمع القائم بنفس الفرد الباعث له إلى الإيمان و العمل الصالح دون القائم بالجماعة بما أنها جماعة فطمع المجموع من حيث إنه مجموع لا يكفي في سعادة كل واحد واحد.

و في قوله: ﴿أَنْ يُدْخَلَ مجهولا من باب الإفعال إشارة إلى أن دخولهم في الجنة ليس منوطا باختيارهم و مشيتهم بل لو كان فإنما هو إلى الله سبحانه فهو الذي يدخلهم الجنة

 

 

 إن شاء و لن يدخل بما قدر أن لا يدخلها كافر.

قيل: إن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يصلي عند الكعبة و يقرأ القرآن فكان المشركون يجتمعون حوله حلقا حلقا و فرقا يستمعون و يستهزءون بكلامه، و يقولون إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) فلندخلها قبلهم فنزلت الآيات.

و هذا القول لا يلائمه سياق الآيات الظاهر في تفرع صنعهم ذلك على ما مر من حرمان الناس من دخول الجنة إلا من استثني من المؤمنين إذ من الضروري على هذا أن اجتماعهم حوله (ص) و إهطاعهم عليه إنما حملهم عليه إفراطهم في عداوته و مبالغتهم في إيذائه و إهانته، و أن قولهم: سندخل الجنة قبل المؤمنين و هم مشركون مصرون على إنكار المعاد غير معترفين بنار و لا جنة إنما كان استهزاء و تهكما.

فلا مساغ لتفريع عملهم ذاك على ما تقدم من حديث النار و الجنة و السؤال في سياق التعجيب عن السبب الحامل لهم عليه ثم استفهام طمعهم في دخول الجنة و إنكاره عليهم.

فبما تقدم يتأيد أن يكون المراد بالذين كفروا في قوله: ﴿فَمَا لِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا قوما من المنافقين آمنوا به (ص) ظاهرا و لازموه ثم كفروا برد بعض ما نزل عليه كما يشير إليه أمثال قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى‏َ قُلُوبِهِمْ: المنافقون ٣، و قوله:

﴿لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ: التوبة ٦٦، و قوله: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ : التوبة ٧٧.

فهؤلاء قوم كانوا قد آمنوا و دخلوا في جماعة المؤمنين و لازموا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مهطعين عليه عن اليمين و عن الشمال عزين ثم كفروا ببعض ما نزل إليه لا يبالون به فقرعهم الله سبحانه في هذه الآيات أنهم لا ينتفعون بملازمته و لا لهم أن يطمعوا في دخول الجنة فليسوا ممن يدخلها و ليسوا بسابقين و لا معجزين.

و يؤيده قوله الآتي: ﴿إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلى‏َ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ إلخ على ما سنشير إليه.

قوله تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ردع لهم عن الطمع في دخول الجنة مع كفرهم.

و قوله: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ المراد بما يعلمون النطفة فإن الإنسان مخلوق منها.

و الكلام مرتبط بما بعده و المجموع تعليل للردع، و محصل التعليل أنا خلقناهم من النطفة

 

 

 و هم يعلمون به فلنا أن نذهب بهم و نخلق مكانهم قوما آخرين يكونون خيرا منهم مؤمنين غير رادين لشي‏ء من دين الله، و لسنا بمسبوقين حتى يعجزنا هؤلاء الكفار و يسبقونا فندخلهم الجنة و ينتقض به ما قدرنا أن لا يدخل الجنة كافر.

و قيل: «من» في قوله: ﴿مِمَّا يَعْلَمُونَ تفيد معنى لام التعليل، و المعنى أنا خلقناهم لأجل ما يعلمون و هو الاستكمال بالإيمان و الطاعة فمن الواجب أن يتلبسوا بذلك حتى ندخلهم الجنة فكيف يطمعون في دخولها و هم كفار؟ و إنما علموا بذلك من طريق إخبار النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .

و قيل: «من» لابتداء الغاية، و المعنى: أنا خلقناهم من نطفة قذرة لا تناسب عالم القدس و الطهارة حتى تتطهر بالإيمان و الطاعة و تتخلق بأخلاق الملائكة فتدخل و أنى لهم ذلك و هم كفار.

و قيل: المراد بما في ﴿مِمَّا يَعْلَمُونَ الجنس، و المعنى أنا خلقناهم من جنس الآدميين الذين يعلمون أو من الخلق الذين يعلمون لا من جنس الحيوانات التي لا تعقل و لا تفقه فالحجة لازمة لهم تامة عليهم، و الوجوه الثلاثة سخيفة.

قوله تعالى: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ اَلْمَشَارِقِ وَ اَلْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلى‏َ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَ مَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ المراد بالمشارق و المغارب مشارق الشمس و مغاربها فإن لها في كل يوم من أيام السنة الشمسية مشرقا و مغربا لا يعود إليهما إلى مثل اليوم من السنة القابلة، و من المحتمل أن يكون المراد بها مشارق جميع النجوم و مغاربها.

و في الآية على قصرها وجوه من الالتفات ففي قوله: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ التفات من التكلم مع الغير في ﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ إلى التكلم وحده، و الوجه فيه تأكيد القسم بإسناده إلى الله تعالى نفسه.

و في قوله: ﴿بِرَبِّ اَلْمَشَارِقِ وَ اَلْمَغَارِبِ التفات من التكلم وحده إلى الغيبة، و الوجه فيه الإشارة إلى صفة من صفاته تعالى هي المبدأ في خلق الناس جيلا بعد جيل و هي ربوبيته للمشارق و المغارب فإن الشروق بعد الشروق و الغروب بعد الغروب الملازم لمرور الزمان دخلا تاما في تكون الإنسان جيلا بعد جيل و سائر الحوادث الأرضية المقارنة له.

و في قوله: ﴿إِنَّا لَقَادِرُونَ التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير، و الوجه فيه الإشارة

 

 

 إلى العظمة المناسبة لذكر القدرة، و في ذكر ربوبيته للمشارق و المغارب إشارة إلى تعليل القدرة فإن الذي ينتهي إليه تدبير الحوادث في تكونها لا يعجزه شي‏ء من الحوادث التي هي أفعاله عن شي‏ء منها و لا يمنعه شي‏ء من خلقه من أن يبدله خيرا منه و إلا شاركه المانع في أمر التدبير و الله سبحانه واحد لا شريك له في ربوبيته فافهم ذلك.

و قوله: ﴿إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلى‏َ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ ﴿عَلى‏َ متعلق بقوله: ﴿لَقَادِرُونَ و المفعول الأول لنبدل ضمير محذوف راجع إليهم و إنما حذف للإشارة إلى هوان أمرهم و عدم الاهتمام بهم، و ﴿خَيْراً مفعوله الثاني و هو صفة أقيمت مقام موصوفها، و التقدير إنا لقادرون على أن نبدلهم قوما خيرا منهم، و خيريتهم منهم أن يؤمنوا بالله و لا يكفروا به و يتبعوا الحق و لا يردوه.

و قوله: ﴿وَ مَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ المراد بالسبق الغلبة على سبيل الاستعارة، و كونه تعالى مسبوقا هو أن يمنعه خلقهم أن يذهب بهم و يأتي بدلهم بقوم خير منهم.

و سياق الآية لا يخلو من تأييد ما لما تقدم من كون المراد بالذين كفروا قوما من المنافقين دون المشركين المعاندين للدين النافين لأصل المعاد فإن ظاهر قوله: ﴿خَيْراً مِنْهُمْ لا يخلو من دلالة أو إشعار بأن فيهم شائبة خيرية و لله أن يبدل خيرا منهم، و المشركون لا خير فيهم لكن هذه الطائفة من المنافقين لا يخلو تحفظهم على ظواهر الدين مما آمنوا به و لم يردوه من خير للإسلام.

فقد بان بما تقدم أن قوله: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ إلى آخر الآيات الثلاث تعليل للردع بقوله: ﴿كَلاَّ، و أن محصل مضمون الآيات الثلاث أنهم مخلوقون من نطفة و هم يعلمون ذلك و هي خلقة جارية و الله الذي هو رب الحوادث الجارية التي منها خلق الإنسان جيلا بعد جيل و المدبر لها قادر أن يذهب بهم و يبدلهم خيرا منهم يعتنون بأمر الدين و يستأهلون لدخول الجنة، و لا يمنعه خلق هؤلاء أن يبدلهم خيرا منهم و يدخلهم الجنة بكمال إيمانهم من غير أن يضطر إلى إدخال هؤلاء الجنة فلا ينتقض تقديره أن الجنة للصالحين من أهل الإيمان.

قوله تعالى: ﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمُ اَلَّذِي يُوعَدُونَ أمر للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يتركهم و ما هم فيه، و لا يلح عليهم بحجاج و لا يتعب نفسه فيهم بعظة، و قد سمي ما هم عليه بالخوض و اللعب دلالة على أنهم لا ينتفعون به انتفاعا حقيقيا على ما لهم

 

 

فيه من الإمعان و الإصرار كاللعب الذي لا نفع فيه وراء الخيال فليتركوا حتى يلاقوا اليوم الذي يوعدون و هو يوم القيامة.

و في إضافة اليوم إليهم إشارة إلى نوع اختصاص له بهم و هو الاختصاص بعذابهم.

قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ اَلْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلى‏َ نُصُبٍ يُوفِضُونَ بيان ليومهم الذي يوعدون و هو يوم القيامة.

و الأجداث‏ جمع جدث و هو القبر، و سراعا جمع سريع، و النصب‏ ما ينصب علامة في الطريق يقصده السائرون للاهتداء به، و قيل: هو الصنم المنصوب للعبادة و هو بعيد من كلامه تعالى، و الإيفاض‏ الإسراع و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ اَلْيَوْمُ اَلَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ الخشوع‏ تأثر خاص في القلب عن مشاهدة العظمة و الكبرياء، و يناظره الخضوع في الجوارح، و نسبة الخشوع إلى الأبصار لظهور آثاره فيها، و الرهق‏ غشيان الشي‏ء بقهر.

و قوله: ﴿ذَلِكَ اَلْيَوْمُ اَلَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ الإشارة إلى ما مر من أوصافه من الخروج من الأجداث سراعا و خشوع الأبصار و رهق الذلة.

(بحث روائي‏)

 في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد عن عبادة بن أنس قال : دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) المسجد فقال: ما لي أراكم عزين حلقا حلق الجاهلية قعد رجل خلف أخيه. أقول: و رواه عن ابن مردويه عن أبي هريرة و لفظه: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أصحابه جلوس حلقا حلقا فقال: ما لي أراكم عزين‏، و روي هذا المعنى أيضا عن جابر بن سمرة.

و في تفسير القمي، :و قوله: ﴿كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ قال: من نطفة ثم علقة، و قوله: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ أي أقسم ﴿بِرَبِّ اَلْمَشَارِقِ وَ اَلْمَغَارِبِ قال: مشارق الشتاء و مشارق الصيف و مغارب الشتاء و مغارب الصيف.

 و في المعاني، بإسناده إلى عبد الله بن أبي حماد رفعه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: لها ثلاثمائة و ستون مشرقا و ثلاثمائة و ستون مغربا فيومها الذي تشرق فيه لا تعود فيه إلا من قابل.

و في تفسير القمي، :و قوله: ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ اَلْأَجْدَاثِ سِرَاعاً قال: من القبر ﴿كَأَنَّهُمْ إِلى‏ نُصُبٍ يُوفِضُونَ قال: إلى الداعي ينادون، و قوله: ﴿تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ قال: تصيبهم ذلة.

 

 

(٧١) سورة نوح مكية و هي ثمان و عشرون آية (٢٨)

[سورة نوح (٧١): الآیات ١ الی ٢٤ ]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلىَ قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ١ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ٢ أَنِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ اِتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ ٣ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ٤ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهَاراً ٥ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً ٦ وَ إِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَ اِسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اِسْتَكْبَرُوا اِسْتِكْبَاراً ٧ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ٨ ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً ٩ فَقُلْتُ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً ١٠ يُرْسِلِ اَلسَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً ١١ وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً ١٢ مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ١٣ وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً ١٤ أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اَللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً ١٥ وَ جَعَلَ اَلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ اَلشَّمْسَ سِرَاجاً ١٦ وَ اَللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ نَبَاتاً ١٧ ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً ١٨ وَ اَللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ بِسَاطاً ١٩ لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً ٢٠ قَالَ نُوحٌ رَبِّ

 

 

إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَ اِتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً ٢١ وَ مَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً ٢٢ وَ قَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَ لاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لاَ سُوَاعاً وَ لاَ يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً ٢٣ وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ لاَ تَزِدِ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً ٢٤

(بيان‏)

تشير السورة إلى رسالة نوح (عليه السلام) إلى قومه و إجمال دعوته و عدم استجابتهم له ثم شكواه إلى ربه منهم و دعائه عليهم و استغفاره لنفسه و لوالديه و لمن دخل بيته مؤمنا و للمؤمنين و المؤمنات ثم حلول العذاب بهم و إهلاكهم بالإغراق و السورة مكية بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلى‏ قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ إلخ، تفسير لرسالته أي أوحينا إليه أن أنذر «إلخ».

و في الكلام دلالة على أن قومه كانوا عرضة للعذاب بشركهم و معاصيهم كما يدل عليه ما حكي من قوله (عليه السلام) في الآية التالية: ﴿اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ اِتَّقُوهُ و ذلك أن الإنذار تخويف و التخويف إنما يكون من خطر محتمل لا دافع له لو لا التحذر، و قد أفاد قوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ إنه متوجه إليهم غير تاركهم لو لا تحذرهم منه.

قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ اِتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ بيان لتبليغه رسالته إجمالا بقوله: ﴿إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ و تفصيلا بقوله: ﴿أَنِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ إلخ.

و في إضافته اليوم إلى نفسه إظهار إشفاق و رحمة أي أنكم قومي يجمعكم و إياي مجتمعنا القومي تسوؤني ما أساءكم فلست أريد إلا ما فيه خيركم و سعادتكم إني لكم نذير إلخ.

و في قوله: ﴿أَنِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ دعوتهم إلى توحيده تعالى في عبادته فإن القوم كانوا وثنيين يعبدون الأصنام، و الوثنية لا تجوز عبادة الله سبحانه لا وحده و لا مع غيره، و إنما يعبدون أرباب الأصنام بعبادة الأصنام ليكونوا شفعاء لهم عند الله، و لو جوزوا

 

 

 عبادته تعالى لعبدوه وحده فدعوتهم إلى عبادة الله دعوة لهم إلى توحيده في العبادة.

و في قوله: ﴿وَ اِتَّقُوهُ دعوتهم إلى اجتناب معاصيه من كبائر الإثم و صغائره و هي الشرك فما دونه، و فعل الأعمال الصالحة التي في تركها معصية.

و في قوله: ﴿وَ أَطِيعُونِ دعوة لهم إلى طاعة نفسه المستلزم لتصديق رسالته و أخذ معالم دينهم مما يعبد به الله سبحانه و يستن به في الحياة منه (عليه السلام) ففي قوله: ﴿اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ اِتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ ندب إلى أصول الدين الثلاثة: التوحيد المشار إليه بقوله:

﴿اُعْبُدُوا اَللَّهَ و المعاد الذي هو أساس التقوى‏[3] و التصديق بالنبوة المشار إليه بالدعوة إلى الطاعة المطلقة.

قوله تعالى: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ مجزوم في جواب الأمر و كلمة ﴿مِنْ للتبعيض على ما هو المتبادر من السياق، و المعنى أن تعبدوه و تتقوه و تطيعوني يغفر لكم بعض ذنوبكم و هي الذنوب التي قبل الإيمان: الشرك فما دونه، و أما الذنوب التي لم تقترف بعد مما سيستقبل فلا معنى لمغفرتها قبل تحققها، و لا معنى أيضا للوعد بمغفرتها إن تحققت في المستقبل أو كلما تحققت لاستلزام ذلك إلغاء التكاليف الدينية بإلغاء المجازاة على مخالفتها.

و يؤيد ذلك ظاهر قوله تعالى: ﴿يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اَللَّهِ وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ: الأحقاف ٣١، و قوله: ﴿يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ: إبراهيم ١٠ و قوله: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ: الأنفال ٣٨.

و أما قوله تعالى يخاطب المؤمنين من هذه الأمة: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلىَ تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ الصف ١٢ فهو و إن كان ظاهرا في مغفرة جميع الذنوب لكن رتبت المغفرة فيه على استمرار الإيمان و العمل الصالح و إدامتهما ما دامت الحياة فلا مغفرة فيه متعلقة بما لم يتحقق بعد من المعاصي و الذنوب المستقبلة و لا وعد بمغفرتها كلما تحققت.

و قد مال بعضهم اعتمادا على عموم المغفرة في آية الصف إلى القول بأن المغفور بسبب الإيمان في هذه الأمة جميع الذنوب و في سائر الأمم بعضها كما هو ظاهر قول نوح لأمته:

 

 

 

﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ و قول الرسل: كما في سورة إبراهيم ﴿يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ و قول الجن كما في سورة الأحقاف لقومهم: ﴿يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اَللَّهِ وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ.

و فيه أن آية الصف موردها غير مورد المغفرة بسبب الإيمان فقط كما أشرنا إليه. على أن آية الأنفال صريحة في مغفرة ما قد سلف، و المخاطب به كفار هذه الأمة.

و ذهب بعضهم إلى كون ﴿مِنْ في قوله: ﴿مِنْ ذُنُوبِكُمْ زائدة، و لم تثبت زيادة «من» في الإثبات فهو ضعيف و مثله في الضعف قول من ذهب إلى أن ﴿مِنْ بيانية، و قول من ذهب إلى أنها لابتداء الغاية.

قوله تعالى: ﴿وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ تعليق تأخيرهم إلى أجل مسمى على عبادة الله و التقوى و طاعة الرسول يدل على أن هناك أجلين أجل مسمى يؤخرهم الله إليه إن أجابوا الدعوة، و أجل غيره يعجل إليهم لو بقوا على الكفر، و إن الأجل المسمى أقصى الأجلين و أبعدهما.

ففي الآية وعدهم بالتأخير إلى الأجل المسمى إن آمنوا و في قوله: ﴿إِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ تعليل للتأخير إلى الأجل المسمى إن آمنوا فالمراد بأجل الله إذا جاء مطلق الأجل المقضي المتحتم أعم من الأجل المسمى و غير المسمى فلا راد لقضائه تعالى و لا معقب لحكمه.

و المعنى: أن اعبدوا الله و اتقوه و أطيعوني يؤخركم الله إلى أجل مسمى هو أقصى الأجلين فإنكم إن لم تفعلوا ذلك جاءكم الأجل غير المسمى بكفركم و لم تؤخروا فإن أجل الله إذا جاء لا يؤخر، ففي الكلام مضافا إلى وعد التأخير إلى الأجل المسمى إن آمنوا، تهديد بعذاب معجل إن لم يؤمنوا.

و قد ظهر بما تقدم عدم استقامة تفسير بعضهم لأجل الله بالأجل غير المسمى و أضعف منه تفسيره بالأجل المسمى.

و ذكر بعضهم: أن المراد بأجل الله يوم القيامة و الظاهر أنه يفسر الأجل المسمى أيضا بيوم القيامة فيرجع معنى الآية حينئذ إلى مثل قولنا: إن لم تؤمنوا عجل الله إليكم بعذاب الدنيا و إن آمنتم أخركم إلى يوم القيامة أنه إذا جاء لا يؤخر.

و أنت خبير بأنه لا يلائم التبشير الذي في قوله: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ.

 

 

و قوله: ﴿لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ متعلق بأول الكلام أي لو كنتم تعلمون أن لله أجلين و أن أجله إذا جاء لا يؤخر استجبتم دعوتي و عبدتم الله و اتقيتموه و أطعتموني هذا فمفعول ﴿تَعْلَمُونَ محذوف يدل عليه سابق الكلام.

و قيل: إن ﴿تَعْلَمُونَ منزل منزلة الفعل اللازم، و جواب لو متعلق بأول الكلام، و المعنى: لو كنتم من أهل العلم لاستجبتم دعوتي و آمنتم، أو متعلق بآخر الكلام، و المعنى: لو كنتم من أهل العلم لعلمتم أن أجل الله إذا جاء لا يؤخر.

قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً القائل هو نوح (عليه السلام) و الذي دعا إليه هو عبادة الله و تقواه و طاعة رسوله، و الدعاء ليلا و نهارا كناية عن دوامه من غير فتور و لا توان.

و قوله: ﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً أي من إجابة دعوتي فالمراد بالفرار التمرد و التأبي عن القبول استعارة، و إسناد زيادة الفرار إلى دعائه لما فيه من شائبة السببية لأن الخير إذا وقع في محل غير صالح قاومه المحل بما فيه من الفساد فأفسده فانقلب شرا، و قد قال تعالى في صفة القرآن: ﴿وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لاَ يَزِيدُ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً: إسراء ٨٢.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَ اِسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ إلخ ذكر مغفرته تعالى غاية لدعوته و الأصل (دعوتهم ليؤمنوا فتغفر لهم) لأن الغرض الإشارة إلى أنه كان ناصحا لهم في دعوته و لم يرد إلا ما فيه خير دنياهم و عقباهم.

و قوله: ﴿جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ كناية عن استنكافهم عن الاستماع إلى دعوته، و قوله: ﴿وَ اِسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ أي غطوا بها رءوسهم و وجوههم لئلا يروني و لا يسمعوا كلامي و هو كناية عن التنفر و عدم الاستماع إلى قوله.

و قوله: ﴿وَ أَصَرُّوا وَ اِسْتَكْبَرُوا اِسْتِكْبَاراً أي و ألحوا على الامتناع من الاستماع و استكبروا عن قبول دعوتي استكبارا عجيبا.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ﴿ثُمَّ للتراخي بحسب رتبة الكلام و الجهار النداء بأعلى الصوت.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً الإعلان و الإسرار متقابلان

 

 

 و هما الإظهار و الإخفاء، و ظاهر السياق أن مرجع ضمير لهم في الموضعين واحد فالمعنى دعوتهم سرا و علانية فتارة علانية و تارة سرا سالكا في دعوتي كل مذهب ممكن و سائرا في كل مسير مرجو.

قوله تعالى: ﴿فَقُلْتُ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً إلى قوله ﴿أَنْهَاراً علل أمرهم بالاستغفار بقوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً دلالة على أنه تعالى كثير المغفرة و هي مضافا إلى كثرتها منه سنة مستمرة له تعالى.

و قوله: ﴿يُرْسِلِ اَلسَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً مجزوم في جواب الأمر، و المراد بالسماء السحاب، و المدرار كثير الدرور بالأمطار.

و قوله: ﴿وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَ بَنِينَ الأمداد إلحاق المدد و هو ما يتقوى به الممد على حاجته، و الأموال و البنون أقرب الأعضاد الابتدائية التي يستعين بها المجتمع الإنساني على حوائجه الحيوية.

و قوله: ﴿وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً هما من قسم الأموال غير أنهما لكونهما من أبسط ضروريات المعاش خصا بالذكر.

و الآيات كما ترى تعد النعم الدنيوية و تحكي عنه (عليه السلام) أنه يعد قومه توافر النعم و تواترها عليهم أن استغفروا ربهم فلمغفرة الذنوب أثر بالغ في رفع المصائب و النقمات العامة و انفتاح أبواب النعم من السماء و الأرض أي إن هناك ارتباطا خاصا بين صلاح المجتمع الإنساني و فساده و بين الأوضاع العامة الكونية المربوطة بالحياة الإنسانية و طيب عيشه و نكده.

كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿ظَهَرَ اَلْفَسَادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنَّاسِ الروم ٤١، و قوله: ﴿وَ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ: الشورى ٣٠، و قوله: ﴿وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى‏َ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ الأعراف ٩٤، و قد تقدم في تفسير الآيات ما لا يخلو من نفع في هذا المقام.

قوله تعالى: ﴿مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً استفهام إنكاري و الوقار كما في المجمع، بمعنى العظمة اسم من التوقير بمعنى التعظيم، و الرجاء مقابل الخوف و هو الظن بما فيه مسرة، و المراد به في الآية مطلق الاعتقاد على ما قيل، و قيل: المراد به الخوف للملازمة بينهما.

 

 

 و المعنى: أي سبب حصل لكم حال كونكم لا تعتقدون أو لا تخافون لله عظمة توجب أن تعبدوه.

و الحق أن المراد بالرجاء معناه المعروف و هو ما يقابل الخوف و نفيه كناية عن اليأس فكثيرا ما يكنى به عنه يقال: لا أرجو فيه خيرا أي أنا آيس من أن يكون فيه خير، و الوقار الثبوت و الاستقرار و التمكن و هو الأصل في معناه كما صرح به في المجمع، و وقاره تعالى ثبوته و استقراره في الربوبية المستتبع لألوهيته و معبوديته.

كان الوثنيين طلبوا ربا له وقار في الربوبية لعبدوه فيئسوا منه تعالى فعبدوا غيره و هو كذلك فإنهم يرون أنه تعالى لا يحيط به أفهامنا فلا سبيل للتوجه العبادي إليه، و العبادة أداء لحق الربوبية التي يتفرع عليها تدبير الأمر و تدبير أمور العالم مفوض إلى أصناف الملائكة و الجن فهم أربابنا الذين يجب علينا عبادتهم ليكونوا شفعاء لنا عند الله، و أما هو تعالى فليس له إلا الإيجاد إيجاد الأرباب و مربوبيهم جميعا دون التدبير.

و الآية أعني قوله: ﴿مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً و ما يتلوها إلى تمام سبع آيات مسوقة لإثبات وقاره تعالى في الربوبية و حجة قاطعة في نفي ما لفقوه لوجوب عبادة غيره من الملائكة و غيرهم لاستناد تدبير العالم إليهم، و يتبين به إمكان التوجه العبادي إليه تعالى.

و محصل الحجة: ما الذي دعاكم إلى نفي ربوبيته تعالى المستتبع للألوهية و المعبودية و اليأس عن وقاره؟ و أنتم تعلمون أنه تعالى خلقكم و خلق العالم الذي تعيشون فيه طورا من الخلق لا ينفك عن هذا النظام الجاري فيه، و ليس تدبير الكون و من فيه من الإنسان إلا التطورات المخلوقة في أجزائه و النظام الجاري فيه فكونه تعالى خالقا هو كونه مالكا مدبرا فهو الرب لا رب سواه فيجب أن يتخذ إلها معبودا.

و يتبين به صحة التوجه إليه تعالى بالعبادة فإنا نعرفه بصفاته الكريمة من الخلق و الرزق و الرحمة و سائر صفاته الفعلية فلنا أن نتوجه إليه بما نعرفه من صفاته‏[4].

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً حال من فاعل ﴿لاَ تَرْجُونَ و الأطوار جمع طور و هو حد الشي‏ء و حاله التي هو عليها.

و محصل المعنى لا ترجون لله وقارا في ربوبية و الحال أنه أنشأكم طورا بعد طور يستعقب طورا آخر فأنشأ الواحد منكم ترابا ثم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم جنينا ثم طفلا ثم شابا ثم شيخا و أنشأ جمعكم مختلفة الأفراد في الذكورة و الأنوثة و الألوان و الهيئات و القوة و الضعف إلى غير ذلك، و هل هذا إلا التدبير فهو مدبر أمركم فهو ربكم.

قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اَللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مطابقة السماوات السبع بعضها لبعض كون بعضها فوق بعض أو تطابقهن و تماثلهن على الاحتمالين المتقدمين في تفسير أوائل سورة الملك.

و المراد بالرؤية العلم، و توصيف السماوات السبع و الكلام مسوق سوق الحجة يدل على أنهم كانوا يرون كونها سبعا و يسلمون ذلك فاحتج عليهم بالمسلم عندهم.

و كيف كان فوقوع حديث السماوات السبع في كلام نوح دليل على كونه مأثورا من الأنبياء ((عليه السلام)) من أقدم العهود.

قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلَ اَلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ اَلشَّمْسَ سِرَاجاً الآيات كما يشهد به سياقها مسوقة لبيان وقوع التدبير الإلهي على الإنسان بما يفيض عليه من النعم حتى تثبت ربوبيته فتجب عبادته.

و على هذا فكون الشمس سراجا هو كونها مضيئة لعالمنا و لولاها لانغمرنا في ظلمة ظلماء، و كون القمر نورا هو كونه منورا لأرضنا بنور مكتسب من الشمس فليس منورا بنفسه حتى يعد سراجا.

و أما أخذ السماوات ظرفا للقمر في قوله: ﴿وَ جَعَلَ اَلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً فالمراد به كما قيل كونه في حيزهن و إن كان في واحدة منها كما تقول: إن في هذه الدور لبئرا و إن كانت في واحدة منها لأن ما كان في إحداهن كان فيهن و كما تقول: أتيت بني تميم و إنما أتيت بعضهم.

قوله تعالى: ﴿وَ اَللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ نَبَاتاً أي أنبتكم إنبات النبات و ذلك أن

 

 

 الإنسان تنتهي خلقته إلى عناصر أرضية تركبت تركبا خاصا به يغتذي و ينمو و يولد المثل، و هذه حقيقة النبات، فالكلام مسوق سوق الحقيقة من غير تشبيه و استعارة.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً الإعادة فيها بالإماتة و الإقبار، و الإخراج للجزاء يوم القيامة فالآية و التي قبلها قريبتا المعنى من قوله تعالى: ﴿فِيهَا تَحْيَوْنَ وَ فِيهَا تَمُوتُونَ وَ مِنْهَا تُخْرَجُونَ: الأعراف: ٢٥.

و في قوله: ﴿وَ يُخْرِجُكُمْ دون أن يقول: ثم يخرجكم إيماء إلى أن الإعادة و الإخراج كالصنع الواحد و الإعادة مقدمة للإخراج، و الإنسان في حالتي الإعادة و الإخراج في دار الحق كما أنه في الدنيا في دار الغرور.

قوله تعالى: ﴿وَ اَللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ بِسَاطاً أي كالبساط يسهل لكم التقلب من جانب إلى جانب، و الانتقال من قطر إلى قطر.

قوله تعالى: ﴿لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً السبل جمع سبيل بمعنى الطريق و الفجاج جمع فج بمعنى الطريق الواسعة، و قيل: الطريق الواقعة بين الجبلين.

قوله تعالى: ﴿قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَ اِتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً رجوع منه (عليه السلام) إلى شكواه من قومه إلى ربه بعد ما ذكر تفصيل دعوته لهم و ما ألقاه من القول إليهم من قوله: ﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً إلى آخر الآيات.

و شكواه السابق له قوله: ﴿فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً بعد ما أخبر بإجمال دعوته بقوله: ﴿رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهَاراً.

و في الآية دلالة على أن العظماء المترفين من قومه (عليه السلام) كانوا يصدون الناس عنه و يحرضونهم على مخالفته و إيذائه.

و معنى قوله: ﴿لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً و قد عد المال و الولد في سابق كلامه من النعم أن المال و الولد اللذين هما من نعمك و كان يجب عليهم شكرهما لم يزيداهم إلا كفرا و أورثهم ذلك خسرانا من رحمتك.

قوله تعالى: ﴿وَ مَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً الكبار اسم مبالغة من الكبر.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَ لاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لاَ سُوَاعاً وَ لاَ يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً توصية منهم بالتمسك بآلهتهم و عدم ترك عبادتها.

 

 

و ود و سواع و يغوث و يعوق و نسر خمس من آلهتهم لهم اهتمام تام بعبادتهن و لذا خصوها بالذكر مع الوصية بمطلق الآلهة، و لعل تصدير ود و ذكر سواع و يغوث بلا المؤكدة للنفي لكونها أعظم أمرا عندهم من يعوق و نسر و الله أعلم.

قوله تعالى: ﴿وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ لاَ تَزِدِ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً ضمير ﴿أَضَلُّوا للرؤساء المتبوعين و يتأيد به أنهم هم المحدث عنهم في قوله: ﴿وَ مَكَرُوا ﴿وَ قَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ و قيل: الضمير للأصنام فهم المضلون، و لا يخلو من بعد.

و قوله: ﴿وَ لاَ تَزِدِ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً دعاء من نوح على الظالمين بالضلال و المراد به الضلال مجازاة دون الضلال الابتدائي فهو دعاء منه أن يجازيهم الله بكفرهم و فسقهم مضافا إلى ما سيحكي عنه من دعائه عليهم بالهلاك.

(بحث روائي)

 في نهج البلاغة،: و قد جعل الله سبحانه الاستغفار سببا لدرور الرزق و رحمة الخلق فقال سبحانه: ﴿اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ اَلسَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَ بَنِينَ فرحم الله امرأ استقبل توبته، و استقال خطيئته، و بادر منيته‏ أقول: و الروايات في استفادة سببية الاستغفار لسعة الرزق و الأمداد بالأولاد من هذه الآيات كثيرة.

 و في الخصال، عن علي (عليه السلام) في حديث الأربعمائة : أكثر الاستغفار تجلب الرزق.

 و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً قال؟ لا تخافون لله عظمة:.

أقول: و قد روي هذا المعنى من طرق أهل السنة عن ابن عباس. و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً يقول بعضها فوق بعض. و فيه،: في قوله تعالى: ﴿رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَ اِتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً قال: اتبعوا الأغنياء.

 

 

 و في الدر المنثور، أخرج البخاري و ابن المنذر و ابن مردويه عن ابن عباس قال : صارت الأصنام و الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد.

أما ود فكانت لكلب في دومة الجندل، و أما سواع فكانت لهذيل، و أما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف عند سبإ، و أما يعوق فكانت لهمدان، و أما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع.

و كانوا أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم - أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا و سموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك و نسخ العلم عبدت.

أقول: لعل المراد بصيرورة تلك الأصنام التي كانت لقوم نوح إلى العرب مطابقة ما عند العرب لما كان عندهم في الأسماء أو في الأوصاف و الأسماء، و أما انتقال تلك الأصنام بأشخاصهن إلى العرب فبعيد غايته.

و روي القصة أيضا في علل الشرائع، بإسناده عن جعفر بن محمد (عليه السلام) كما في الرواية و في روضة الكافي، بإسناده عن المفضل عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: فعمل نوح سفينته في مسجد الكوفة بيده فأتي بالخشب من بعد حتى فرغ منها.

قال: فالتفت عن يساره و أشار بيده إلى موضع دار الداريين و هو موضع دار ابن حكيم، و ذاك فرات اليوم، فقال لي يا مفضل و هنا نصبت أصنام قوم نوح: يغوث و يعوق و نسر.

[سورة نوح (٧١): الآیات ٢٥ الی ٢٨ ]

﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَنْصَاراً ٢٥ وَ قَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكَافِرِينَ دَيَّاراً ٢٦ إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَ لاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً ٢٧ رَبِّ اِغْفِرْ لِي وَ لِوَالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ وَ لاَ تَزِدِ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً ٢٨

 

 

(بيان)

تتضمن الآيات هلاك القوم و تتمة دعاء نوح (عليه السلام) عليهم.

قوله تعالى: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً إلخ ﴿مِنْ لابتداء الغاية تفيد بحسب المورد التعليل و ﴿مِمَّا زائدة لتأكيد أمر الخطايا و تفخيمه، و الخطيئات‏ المعاصي و الذنوب، و تنكير النار للتفخيم.

و المعنى: من أجل معاصيهم و ذنوبهم أغرقوا بالطوفان فأدخلوا أدخلهم الله نارا لا يقدر عذابها بقدر، و من لطيف نظم الآية الجمع بين الإغراق بالماء و إدخال النار.

و المراد بالنار نار البرزخ التي يعذب بها المجرمون بين الموت و البعث دون نار الآخرة، و الآية من أدلة البرزخ إذ ليس المراد أنهم أغرقوا و سيدخلون النار يوم القيامة، و لا يعبأ بما قيل: إن من الجائز أن يراد بها نار الآخرة.

و قوله: ﴿فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَنْصَاراً أي ينصرونهم في صرف الهلاك و العذاب عنهم. تعريض لأصنامهم و آلهتهم.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكَافِرِينَ دَيَّاراً الديار نازل الدار، و الآية تتمة دعائه (عليه السلام) عليهم، و كان قوله: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا إلخ معترضا واقعا بين فقرتي الدعاء للإشارة إلى أنهم أهلكوا لما عد نوح من خطيئاتهم و لتكون كالتمهيد لسؤاله الهلاك فيتبين أن إغراقهم كان استجابة لدعائه، و أن العذاب استوعبهم عن آخرهم.

قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَ لاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً تعليل لسؤال إهلاكهم عن آخرهم مفاده أن لا فائدة في بقائهم لا لمن دونهم من المؤمنين فإنهم يضلونهم، و لا فيمن يلدونه من الأولاد فإنهم لا يلدون إلا فاجرا كفارا و الفجور الفسق الشنيع و الكفار المبالغ في الكفر.

و قد استفاد (عليه السلام) ما ذكره من صفتهم من الوحي الإلهي على ما تقدم في تفسير قصة نوح من سورة هود.

قوله تعالى: ﴿رَبِّ اِغْفِرْ لِي وَ لِوَالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ

 

 

«إلخ» المراد بمن دخل بيته مؤمنا المؤمنون به من قومه، و بالمؤمنين و المؤمنات عامتهم إلى يوم القيامة.

و قوله: ﴿وَ لاَ تَزِدِ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً التبار الهلاك، و الظاهر أن المراد بالتبار ما يوجب عذاب الآخرة و هو الضلال و هلاك الدنيا بالغرق، و قد تقدما جميعا في دعائه، و هذا الدعاء آخر ما نقل من كلامه (عليه السلام) في القرآن الكريم.

(٧٢) سورة الجن مكية و هي ثمان و عشرون آية (٢٨)

[سورة الجن (٧٢): الآیات ١ الی ١٧]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اِسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ اَلْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً ١ يَهْدِي إِلَى اَلرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً ٢ وَ أَنَّهُ تَعَالى‏ جَدُّ رَبِّنَا مَا اِتَّخَذَ صَاحِبَةً وَ لاَ وَلَداً ٣ وَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اَللَّهِ شَطَطاً ٤ وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلَى اَللَّهِ كَذِباً ٥ وَ أَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ اَلْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ اَلْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً ٦ وَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اَللَّهُ أَحَداً ٧ وَ أَنَّا لَمَسْنَا اَلسَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً ٨ وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ اَلْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً ٩ وَ أَنَّا لاَ نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً ١٠ وَ أَنَّا مِنَّا اَلصَّالِحُونَ وَ مِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا

 

 

طَرَائِقَ قِدَداً ١١ وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اَللَّهَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً ١٢ وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا اَلْهُدى‏ آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَ لاَ رَهَقاً ١٣ وَ أَنَّا مِنَّا اَلْمُسْلِمُونَ وَ مِنَّا اَلْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً ١٤ وَ أَمَّا اَلْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً ١٥ وَ أَنْ لَوِ اِسْتَقَامُوا عَلَى اَلطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً ١٦ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً ١٧

(بيان)

تشير السورة إلى قصة نفر من الجن استمعوا القرآن فآمنوا به و أقروا بأصول معارفه، و تتخلص منها إلى تسجيل نبوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و الإشارة إلى وحدانيته تعالى في ربوبيته و إلى المعاد، و السورة مكية بشهادة سياقها.

قوله تعالى: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اِسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ اَلْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى اَلرُّشْدِ أمر للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يقص القصة لقومه، و الموحي هو الله سبحانه، و مفعول ﴿اِسْتَمَعَ القرآن حذف لدلالة الكلام عليه، و النفر الجماعة من ثلاثة إلى تسعة على المشهور، و قيل: بل إلى أربعين.

و العجب‏ بفتحتين ما يدعو إلى التعجب منه لخروجه عن العادة الجارية في مثله، و إنما وصفوا القرآن بالعجب لأنه كلام خارق للعادة في لفظه و معناه أتى به رجل أمي ما كان يقرأ و لا يكتب.

و الرشد إصابة الواقع و هو خلاف الغي، و هداية القرآن إلى الرشد دعوته إلى عقائد و أعمال تتضمن للمتلبس بها سعادته الواقعية.

و المعنى: يا أيها الرسول قل للناس: ﴿أُوحِيَ أي أوحى الله إلي أنه استمع القرآن جماعة من الجن فقالوا لقومهم لما رجعوا إليهم إنا سمعنا كلاما مقروا خارقا للعادة يهدي إلى معارف من عقائد و أعمال في التلبس بها إصابة الواقع و الظفر بحقيقة السعادة.

 

 

كلام في الجن‏

الجن‏ نوع من الخلق مستورون من حواسنا يصدق القرآن الكريم بوجودهم و يذكر أنهم بنوعهم مخلوقون قبل نوع الإنسان، و أنهم مخلوقون من النار كما أن الإنسان مخلوق من التراب قال تعالى: ﴿وَ اَلْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ اَلسَّمُومِ: الحجر ٢٧.

و أنهم يعيشون و يموتون و يبعثون كالإنسان قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ اَلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ: الأحقاف ١٨.

و أن فيهم ذكورا و إناثا يتكاثرون بالتوالد و التناسل قال تعالى: ﴿وَ أَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ اَلْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ اَلْجِنِّ: الجن ٦.

و أن لهم شعورا و إرادة و أنهم يقدرون على حركات سريعة و أعمال شاقة كما في قصص سليمان (عليه السلام) و تسخير الجن له و قصة ملكة سبإ.

و أنهم مكلفون كالإنسان، منهم مؤمنون و منهم كفار، و منهم صالحون و آخرون طالحون، قال تعالى: ﴿وَ مَا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ: الذاريات ٥٤ و قال تعالى: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى اَلرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ: الجن: ٢ و قال: ﴿وَ أَنَّا مِنَّا اَلْمُسْلِمُونَ وَ مِنَّا اَلْقَاسِطُونَ: الجن ١٤ و قال: ﴿وَ أَنَّا مِنَّا اَلصَّالِحُونَ وَ مِنَّا دُونَ ذَلِكَ : الجن ١١ و قال تعالى: ﴿قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى‏َ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ وَ إِلى‏َ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اَللَّهِ: الأحقاف ٣١ إلى غير ذلك من خصوصيات أحوالهم التي تشير إليها الآيات القرآنية.

و يظهر من كلامه تعالى أن إبليس من الجن و أن له ذرية و قبيلا قال تعالى: ﴿كَانَ مِنَ اَلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ: الكهف ٥٠ و قال تعالى: ﴿أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي: الكهف: ٥٠ و قال تعالى: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ الأعراف ٢٧.

(بيان‏)

قوله تعالى: ﴿فَآمَنَّا بِهِ وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً إخبار عن إيمانهم بالقرآن و تصديقهم بأنه حق، و قوله: ﴿وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً تأكيد لمعنى إيمانهم به أن إيمانهم بالقرآن إيمان بالله الذي أنزله فهو ربهم، و أن إيمانهم به تعالى إيمان توحيد لا يشركون به أحدا أبدا.

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ أَنَّهُ تَعَالى‏َ جَدُّ رَبِّنَا مَا اِتَّخَذَ صَاحِبَةً وَ لاَ وَلَداً فسر الجد بالعظمة و فسر بالحظ، و الآية في معنى التأكيد لقولهم: ﴿وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً.

و القراءة المشهورة ﴿أَنَّهُ بالفتح، و قرئ بالكسر في هذه الآية و فيما بعدها من الآيات اثنا عشر موردا إلى قوله: ﴿وَ أَنْ لَوِ اِسْتَقَامُوا فبالفتح و هو الأرجح لظهور سياق الآيات في أنها مقولة قول الجن.

و أما قراءة الفتح فوجهها لا يخلو من خفاء، و قد وجهها بعضهم بأن الجملة ﴿وَ أَنَّهُ «إلخ» معطوفة على الضمير المجرور في قوله ﴿فَآمَنَّا بِهِ و التقدير و آمنا بأنه تعالى جد ربنا إلخ فهو إخبار منهم بالإيمان بنفي الصاحبة و الولد منه تعالى على ما يقول به الوثنيون.

و هذا إنما يستقيم على قول الكوفيين من النحاة بجواز العطف على الضمير المتصل المجرور، و أما على قول البصريين منهم من عدم جوازه فقد وجهه بعضهم كما عن الفراء و الزجاج و الزمخشري بأنها معطوفة على محل الجار و المجرور و هو النصب فإن قوله:

﴿فَآمَنَّا بِهِ في معنى صدقناه، و التقدير و صدقنا أنه تعالى جد ربنا إلخ، و لا يخفى ما فيه من التكلف.

و وجهه بعضهم بتقدير حرف الجر في الجملة المعطوفة و ذلك مطرد في أن و أن، و التقدير آمنا به و بأنه تعالى جد ربنا «إلخ».

و يرد على الجميع أعم من العطف على الضمير المجرور أو على محله أو بتقدير حرف الجر أن المعنى إنما يستقيم حينئذ في قوله: ﴿وَ أَنَّهُ تَعَالى‏َ جَدُّ رَبِّنَا إلخ، و قوله: ﴿وَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا إلخ، و أما بقية الآيات المصدرة بأن كقوله: ﴿وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ إلخ، و قوله: ﴿وَ أَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ اَلْإِنْسِ إلخ، و قوله: ﴿وَ أَنَّا لَمَسْنَا اَلسَّمَاءَ فلا يصح قطعا فلا معنى لأن يقال: آمنا أو صدقنا أنا ظننا أن لن تقول الإنس و الجن على الله شططا، أو يقال: آمنا أو صدقنا أنه كان رجال من الإنس يعوذون إلخ، أو يقال: آمنا أو صدقنا أنا لمسنا السماء إلخ.

و لا يندفع الإشكال إلا بالمصير إلى ما ذكره بعضهم أنه إذا وجه الفتح في الآيتين الأوليين بتقدير الإيمان أو التصديق فليوجه في كل من الآيات الباقية بما يناسبها من التقدير.

و وجه بعضهم الفتح بأن قوله: ﴿وَ أَنَّهُ تَعَالى‏َ إلخ و سائر الآيات المصدرة بأن

 

 

 معطوفة على قوله: ﴿أَنَّهُ اِسْتَمَعَ إلخ.

و لا يخفى فساده فإن محصله أن الآيات في مقام الإخبار عما أوحي إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من أقوالهم و قد أخبر عن قولهم: إنا سمعنا قرآنا عجبا فآمنا به بعنوان أنه إخبار عن قولهم ثم حكى سائر أقوالهم بألفاظها فالمعنى أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا كذا و كذا و أوحي إلي أنه تعالى جد ربنا «إلخ» و أوحي إلي أنه كان يقول سفيهنا إلى آخر الآيات.

فيرد عليه أن ما وقع في صدر الآيات من لفظة ﴿أَنَّهُ و ﴿أَنَّهُمْ و ﴿أَنَّا إن لم يكن جزء من لفظهم المحكي كان زائدا مخلا بالكلام، و إن كان جزء من كلامهم المحكي بلفظه لم يكن المحكي من مجموع أن و ما بعدها كلاما تاما و احتاج إلى تقدير ما يتم به كلاما حتى تصح الحكاية، و لم ينفع في ذلك عطفه على قوله: ﴿أَنَّهُ اِسْتَمَعَ شيئا فلا تغفل.

قوله تعالى: ﴿وَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اَللَّهِ شَطَطاً السفه - على ما ذكره الراغب - خفة النفس لنقصان العقل، و الشطط القول البعيد من الحق.

و الآية أيضا في معنى التأكيد لقولهم: ﴿لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً و مرادهم بسفيههم من سبقهم من مشركي الجن، و قيل: المراد إبليس و هو من الجن، و هو بعيد من سياق قوله: ﴿كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا إلخ.

قوله تعالى: ﴿وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلَى اَللَّهِ كَذِباً اعتراف منهم بأنهم ظنوا أن الإنس و الجن صادقون فيما يقولون و لا يكذبون على الله فلما وجدوهم مشركين و سمعوهم ينسبون إليه تعالى الصاحبة و الولد أذعنوا به و قلدوهم فيما يقولون فأشركوا مثلهم حتى سمعوا القرآن فانكشف لهم الحق، و فيه تكذيب منهم للمشركين من الإنس و الجن.

قوله تعالى: ﴿وَ أَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ اَلْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ اَلْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً قال الراغب: العوذ الالتجاء إلى الغير، و قال: رهقه‏ الأمر غشيه بقهر انتهى. و فسر الرهق بالإثم، و بالطغيان، و بالخوف، و بالشر، و بالذلة و الضعف، و هي تفاسير بلازم المعنى.

 

 

 و المراد بعوذ الإنس بالجن على ما قيل: إن الرجل من العرب كان إذا نزل الوادي في سفره ليلا قال: أعوذ بعزيز هذا الوادي من شر سفهاء قومه، و نقل عن مقاتل أن أول من تعوذ بالجن قوم من اليمن ثم بنو حنيفة ثم فشا في العرب.

و لا يبعد أن يكون المراد بالعوذ بالجن الاستعانة بهم في المقاصد من طريق الكهانة، و إليه يرجع ما نقل عن بعضهم أن المعنى كان رجال من الإنس يعوذون برجال من أجل الجن و من معرتهم و أذاهم.

و الضميران في قوله: ﴿فَزَادُوهُمْ أولهما لرجال من الإنس و ثانيهما لرجال من الجن و المعنى فزاد رجال الإنس رجال الجن رهقا بالتجائهم إليهم فاستكبر رجال الجن و طغوا و أثموا، و يجوز العكس بأن يكون الضمير الأول لرجال الجن و الثاني لرجال الإنس، و المعنى فزاد رجال الجن رجال الإنس رهقا أي إثما و طغيانا أو ذلة و خوفا.

قوله تعالى: ﴿وَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اَللَّهُ أَحَداً ضمير «أنهم» لرجال من الإنس، و الخطاب في ﴿ظَنَنْتُمْ لقومهم من الجن، و المراد بالبعث بعث الرسول بالرسالة فالمشركون ينكرون ذلك، و قيل: المراد به الإحياء بعد الموت، و سياق الآيات التالية يؤيد الأول.

و عن بعضهم أن هذه الآية و التي قبلها ليستا من كلام الجن بل كلامه تعالى معترضا بين الآيات المتضمنة لكلام الجن، و عليه فضمير ﴿أَنَّهُمْ للجن و خطاب ﴿ظَنَنْتُمْ للناس، و فيه أنه بعيد من السياق.

قوله تعالى: ﴿وَ أَنَّا لَمَسْنَا اَلسَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً لمس السماء الاقتراب منها بالصعود إليها، و الحرس على ما قيل اسم جمع لحارس و لذا وصف بالمفرد و المراد بالحرس الشديد الحفاظ الأقوياء في دفع من يريد الاستراق منها و لذا شفع بالشهب و هي سلاحهم.

قوله تعالى: ﴿وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ اَلْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً يفيد انضمام صدر الآية إلى الآية السابقة أن مل‏ء السماء بالحرس الشديد و الشهب مما حدث أخيرا و أنهم كانوا من قبل يقعدون من السماء مقاعد لاستماع كلام الملائكة و يفيد ذيل الآية بالتفريع على جميع ما تقدم أن من يستمع الآن منا بالقعود منها مقعدا للسمع يجد له

 

 

 شهابا من صفته أنه راصد له يرميه به الحرس.

فيتحصل من مجموع الآيتين الإخبار بأنهم عثروا على حادثة سماوية جديدة مقارنة لنزول القرآن و بعثة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هي منع الجن من تلقي أخبار السماء باستراق السمع.

و من عجيب الاستدلال ما عن بعضهم أن في الآيتين ردا على من زعم أن الرجم حدث بعد مبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لظهور قوله: ﴿مُلِئَتْ حَرَساً في أن الحادث هو المل‏ء و كثرة الحرس لا أصل الحرس، و ظهور قوله: ﴿نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ في أنا كنا نجد فيها بعض المقاعد خاليا من الحرس و الشهب، و الآن ملئت المقاعد كلها فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا.

و يدفعه أنه لو كان المراد بالآيتين هو الإخبار عن مل‏ء السماء بالحرس و تكثير عددهم بحيث لا يوجد فيها مقاعد خالية منهم و قد كانت توجد قبل ذلك كان الواجب أن يتوجه النفي في قوله: ﴿فَمَنْ يَسْتَمِعِ اَلْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً إلى السمع عن جميع المقاعد قبال إثبات السمع من بعض تلك المقاعد لا نفي مجرد السمع.

سلمنا أن المراد نفي السمع على الإطلاق و هو يكفي في ذلك لكن تعلق الغرض في الكلام بالإخبار عن الامتلاء بالحرس مع كون بعض المقاعد خالية عنهم قبل ذلك، و كذا تقييد قوله: ﴿فَمَنْ يَسْتَمِعِ إلخ، بقوله: ﴿اَلْآنَ يدل على حدوث أمر جديد في رجم الجن و هو استيعاب الرجم لهم في أي مقعد قعدوا و المنع من السمع مطلقا بعد ما كانوا يستمعون من بعض المقاعد من غير منع، و هذا المقدار كاف للمدعي فيما يدعيه.

و ليتنبه أن مدلول الآية حدوث رجم الجن بشهاب رصد و هو غير حدوث الشهاب السماوي و هو ظاهر فلا ورود لما قيل: إن الشهب السماوية كانت من الحوادث الجوية الموجودة قبل زمن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و نزول القرآن.

وجه عدم الورود أن الذي يظهر من القرآن حدوث رجم الشياطين من الجن بالشهب من غير تعرض لحدوث أصل الشهب، و قد تقدم في تفسير أول سورة الصافات بعض ما يتعلق بهذا المقام.

قوله تعالى: ﴿وَ أَنَّا لاَ نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً

 

 

الرشد بفتحتين و الرشد بالضم فالسكون خلاف الغي و تنكير ﴿رَشَداً لإفادة النوع أي نوعا من الرشد.

هذا منهم إظهار للجهل و التحير فيما شاهدوه من أمر الرجم و منع شياطين الجن من الاطلاع على أخبار السماء غير أنهم تنبهوا على أن ذلك لأمر ما يرجع إلى أهل الأرض إما خير أو شر و إذا كان خيرا فهو نوع هدى لهم و سعادة و لذا بدلوا الخير و هو المقابل للشر من الرشد، و يؤيده قولهم: ﴿أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ المشعر بالرحمة و العناية.

و قد صرحوا بالفاعل لإرادة الرشد و حذفوه في جانب الشر أدبا و لا يراد شر من جانبه تعالى إلا لمن استحقه.

قوله تعالى: ﴿وَ أَنَّا مِنَّا اَلصَّالِحُونَ وَ مِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً الصلاح‏ مقابل الطلاح، و المراد بدون ذلك ما يقرب منه رتبة - على ما قيل -، و الظاهر أن دون بمعنى غير، و يؤيده قوله: ﴿كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً الدال على التفرق و التشتت و الطرائق‏ جمع طريقة و هي الطريق المطروقة المسلوكة، و القدد القطع جمع قدة بمعنى قطعة من القد بمعنى القطع و صفت الطرائق بالقدد لأن كل واحدة منها مقطوعة عن غيرها تنتهي بسالكها إلى غاية غير ما ينتهي به إليه غيرها، و إلى هذا المعنى يرجع تفسير القدد بالطرائق المتفرقة المتشتتة.

و الظاهر أن المراد بقوله: ﴿اَلصَّالِحُونَ الصالحون بحسب الطبع الأولي في المعاشرة و المعاملة دون الصالحين بحسب الإيمان، و لو كان المراد صلاح الإيمان لكان الأنسب أن يذكر بعد ما سيجي‏ء من حديث إيمانهم لما سمعوا الهدى.

و ذكر بعضهم أن قوله: ﴿طَرَائِقَ قِدَداً منصوب على الظرفية أي في طرائق قدد و هي المذاهب المتفرقة المتشتتة، و قال آخرون إنه على تقدير مضاف أي ذوي طرائق، و لا يبعد أن يكون من الاستعارة بتشبيههم أنفسهم في الاختلاف و التباين بالطرق المقطوع بعضها من بعض الموصلة إلى غايات متشتتة.

و المعنى: و أنا منا الصالحون طبعا و منا غير ذلك كنا في مذاهب مختلفة أو ذوي مذاهب مختلفة أو كالطرق المقطوعة بعضها عن بعض.

قوله تعالى: ﴿وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اَللَّهَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً الظن هو

 

 

 العلم اليقيني، و الأنسب أن يكون المراد بقوله: ﴿لَنْ نُعْجِزَ اَللَّهَ فِي اَلْأَرْضِ إعجازه تعالى بالغلبة عليه فيما يشاء فيها و ذلك بالإفساد في الأرض و إخلال النظام الذي يجري فيها فإن إفسادهم لو أفسدوا من القدر، و المراد بقوله: ﴿وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً إعجازه تعالى بالهرب منه إذا طلبهم حتى يفوتوه فلا يقدر على الظفر بهم و قيل: المعنى لن نعجزه تعالى كائنين في الأرض و لن نعجزه هربا إلى السماء أي لن نعجزه لا في الأرض و لا في السماء هذا و هو كما ترى.

قوله تعالى: ﴿وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا اَلْهُدى‏َ آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَ لاَ رَهَقاً المراد بالهدى القرآن باعتبار ما يتضمنه من الهدى، و البخس‏ النقص على سبيل الظلم، و الرهق‏ غشيان المكروه.

و الفاء في قوله: ﴿فَمَنْ يُؤْمِنْ للتفريع و هو من تفريع العلة على المعلول لإفادة الحجة في إيمانهم بالقرآن من دون ريث و لا مهل.

و محصل المعنى: أنا لما سمعنا القرآن الذي هو الهدى بادرنا إلى الإيمان به من دون مكث لأن من آمن به فقد آمن بربه و من يؤمن بربه فلا يخاف نقصانا في خير أو غشيانا من مكروه حتى يكف عن المبادرة و الاستعجال و يتروى في الإقدام عليه لئلا يقع في بخس أو رهق.

قوله تعالى: ﴿وَ أَنَّا مِنَّا اَلْمُسْلِمُونَ وَ مِنَّا اَلْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً المراد بالإسلام تسليم الأمر لله تعالى فالمسلمون المسلمون له الأمر المطيعون له فيما يريده و يأمر به، و القاسطون‏ هم المائلون إلى الباطل قال في المجمع،: القاسط هو العادل عن الحق و المقسط العادل إلى الحق، انتهى.

و المعنى: أنا معشر الجن منقسمون إلى من يسلم لأمر الله مطيعين له، و إلى من يعدل عن التسليم لأمر الله و هو الحق.

و قوله: ﴿فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً تحري‏ الشي‏ء توخيه و قصده، و المعنى فالذين أسلموا فأولئك قصدوا إصابة الواقع و الظفر بالحق.

قوله تعالى: ﴿وَ أَمَّا اَلْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً فيعذبون بتسعرهم و اشتعالهم بأنفسهم كالقاسطين من الإنس قال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اَلنَّارَ اَلَّتِي وَقُودُهَا اَلنَّاسُ: البقرة ٢٦.

 

 

 و قد عد كثير منهم قوله: ﴿فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ إلى قوله ﴿لِجَهَنَّمَ حَطَباً تتمة لكلام الجن يخاطبون به قومهم و قيل: إنه من كلامه تعالى يخاطب به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .

قوله تعالى: ﴿وَ أَنْ لَوِ اِسْتَقَامُوا عَلَى اَلطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ:

﴿أَنْ مخففة من الثقيلة، و المراد بالطريقة طريقة الإسلام، و الاستقامة عليها لزومها و الثبات على ما تقتضيه من الإيمان بالله و آياته.

و الماء الغدق الكثير منه، و لا يبعد أن يستفاد من السياق أن قوله: ﴿لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً مثل أريد به التوسعة في الرزق، و يؤيده قوله بعده: ﴿لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ.

و المعنى: و أنه لو استقاموا أي الجن و الإنس على طريقة الإسلام لله لرزقناهم رزقا كثيرا لنمتحنهم في رزقهم فالآية في معنى قوله: ﴿وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى‏َ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ: الأعراف ٩٦.

و الآية من كلامه تعالى معطوف على قوله في أول السورة: ﴿أَنَّهُ اِسْتَمَعَ إلخ.

قوله تعالى: ﴿وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً العذاب الصعد هو الذي يتصعد على المعذب و يغلبه، و قيل: هو العذاب الشاق.

و الإعراض عن ذكر الله لازم عدم الاستقامة على الطريقة و هو الأصل في سلوك العذاب، و لذا وضع موضعه ليدل على السبب الأصلي في دخول النار.

و هو الوجه أيضا في الالتفات عن التكلم مع الغير إلى الغيبة في قوله: ﴿ذِكْرِ رَبِّهِ و كان مقتضى الظاهر أن يقال: ذكرنا و ذلك أن صفة الربوبية هي المبدأ الأصلي لتعذيب المعرضين عن ذكره تعالى فوضعت موضع ضمير المتكلم مع الغير ليدل على المبدإ الأصلي كما وضع الإعراض عن الذكر موضع عدم الاستقامة ليدل على السبب.

قيل: و قوله: ﴿يَسْلُكْهُ مضمن معنى يدخله و لذا عدي إلى المفعول الثاني، و المعنى ظاهر.

بحث روائي‏

 في المجمع، روى الواحدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال :ما قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على الجن و ما رآهم، انطلق رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في طائفة من أصحابه عامدين إلى

 

 

 سوق عكاظ، و قد حيل بين الشياطين و بين خبر السماء فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم: قالوا: حيل بيننا و بين خبر السماء و أرسلت علينا الشهب قالوا: ما ذاك إلا من شي‏ء حدث فاضربوا مشارق الأرض و مغاربها.

فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عامدين إلى سوق عكاظ و هو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له و قالوا: هذا الذي حال بيننا و بين خبر السماء فرجعوا إلى قومهم و قالوا: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى اَلرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً فأوحى الله إلى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) : ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اِسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ اَلْجِنِّ.

و رواه البخاري و مسلم أيضا في الصحيح. أقول: و روى القمي في تفسيره ما يقرب منه و قد أوردنا الرواية في تفسير سورة الأحقاف في ذيل قوله: ﴿وَ إِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ اَلْجِنِّ إلخ.

لكن ظاهر روايته أن النفر الذين نزلت فيهم آيات سورة الأحقاف هم النفر الذين نزلت فيهم هذه السورة و ظاهر آيات السورتين لا يلائم ذلك فإن ظاهر قولهم المنقول في سورة الأحقاف: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى‏ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ الآية أنهم كانوا مؤمنين بموسى و مصدقين للتوراة و ظاهر آيات هذه السورة أنهم كانوا مشركين لا يرون النبوة و لازم ذلك تغاير الطائفتين اللهم إلا أن يمنع الظهور.

 و فيه، عن علقمة بن قيس قال :قلت لعبد الله بن مسعود: من كان منكم مع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ليلة الجن؟ فقال: ما كان منا معه أحد فقدناه ذات ليلة و نحن بمكة فقلنا: اغتيل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أو استطير فانطلقنا نطلبه من الشعاب فلقيناه مقبلا من نحو حراء فقلنا:

يا رسول الله أين كنت؟ لقد أشفقنا عليك، و قلنا له: بتنا الليلة بشر ليلة بات بها قوم حين فقدناك، فقال لنا: إنه أتاني داعي الجن فذهبت أقرئهم القرآن فذهب بنا و أرانا آثارهم و آثار نيرانهم فأما أن يكون صحبة منا أحد فلا.

و فيه، و عن الربيع بن أنس قال ":ليس لله تعالى جد و إنما قالته الجن بجهالة فحكاه الله سبحانه كما قالت:، و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).

أقول: المراد بالجد المنفي عنه تعالى الحظ و البخت.

 و في الاحتجاج، عن علي (عليه السلام) في حديث: فأقبل إليه الجن و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ببطن

 

 

 النخل فاعتذروا بأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا، و لقد أقبل إليه أحد و سبعون ألفا منهم فبايعوه على الصوم و الصلاة و الزكاة و الحج و الجهاد و نصح المسلمين فاعتذروا بأنهم قالوا على الله شططا. أقول: بيعتهم للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على الصوم و الصلاة إلخ، يصدقها قولهم المحكي في أول السورة: ﴿فَآمَنَّا بِهِ و قولهم: ﴿وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا اَلْهُدى‏ آمَنَّا بِهِ، و أما كيفية عملهم بها و خاصة بالزكاة و الجهاد فمجهولة لنا، و اعتذارهم الأول المذكور لا يخلو من خفاء.

 و في تفسير القمي، بإسناده إلى زرارة قال: سألت أبا جعفر عن قول الله: ﴿وَ أَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ اَلْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ اَلْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً قال: كان الرجل ينطلق إلى الكاهن الذي يوحي إليه الشيطان فيقول: قل للشيطان: فلان قد عاذ بك.

و فيه،: في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَ لاَ رَهَقاً قال: البخس النقصان، و الرهق العذاب.

: و سئل العالم عن مؤمني الجن أ يدخلون الجنة؟ فقال: لا و لكن لله حظائر بين الجنة و النار يكون فيها مؤمنوا الجن و فساق الشيعة.

 أقول: لعل المراد بهذه الحظائر هي بعض درجات الجنة التي هي دون جنة الصالحين.

و اعلم أنه ورد في بعض الروايات من طرق أئمة أهل البيت (عليه السلام) تطبيق ما في الآيات من الهدى و الطريقة على ولاية علي (عليه السلام) و هي من الجري و ليست من التفسير في شي‏ء.

[سورة الجن (٧٢): الآیات ١٨ الی ٢٨ ]

﴿وَ أَنَّ اَلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اَللَّهِ أَحَداً ١٨ وَ أَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اَللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ١٩ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُوا رَبِّي وَ لاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً ٢٠ قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لاَ رَشَداً ٢١ قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اَللَّهِ أَحَدٌ وَ لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ٢٢

 

 

﴿إِلاَّ بَلاَغاً مِنَ اَللَّهِ وَ رِسَالاَتِهِ وَ مَنْ يَعْصِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ٢٣ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَ أَقَلُّ عَدَداً ٢٤ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً ٢٥ عَالِمُ اَلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً ٢٦ إِلاَّ مَنِ اِرْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ٢٧ لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَ أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ عَدَداً ٢٨

(بيان)

في الآيات تسجيل للنبوة و ذكر وحدانيته تعالى و المعاد كالاستنتاج من القصة و تختتم بالإشارة إلى عصمة الرسالة.

قوله تعالى: ﴿وَ أَنَّ اَلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اَللَّهِ أَحَداً معطوف على قوله: ﴿أَنَّهُ اِسْتَمَعَ إلخ، و جملة ﴿أَنَّ اَلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ في موضع التعليل لقوله: ﴿فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اَللَّهِ أَحَداً و التقدير لا تدعوا مع الله أحدا غيره لأن المساجد له.

و المراد بالدعاء العبادة و قد سماها الله دعاء كما في قوله: ﴿وَ قَالَ رَبُّكُمُ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ: المؤمن ٦٠.

و قد اختلف في المراد من المساجد فقيل: المراد به الكعبة، و قيل المسجد الحرام، و قيل: المسجد الحرام و بيت المقدس، و يدفعها كون المساجد جمعا لا ينطبق على الواحد و الاثنين.

و قيل: الحرم، و هو تهكم لا دليل عليه، و قيل: الأرض كلها لقوله (ص): جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا، و فيه أنه لا يدل على أزيد من جواز العبادة في أي بقعة من

 

 

 بقاع الأرض خلافا لما هو المعروف عن اليهود و النصارى من عدم جواز عبادته تعالى في غير البيع و الكنائس، و أما تسمية بقاعها مساجد حتى يحمل عليها عند الإطلاق فلا.

و قيل: المراد به الصلوات فلا يصلى إلا لله، و هو تهكم لا دليل عليه.

 و عن الإمام الجواد (عليه السلام): أن المراد بالمساجد الأعضاء السبعة - التي يسجد عليها في الصلاة - و هي الجبهة و الكفان و الركبتان و أصابع الرجلين‏، و ستوافيك روايته في البحث الروائي التالي إن شاء الله، و نقل ذلك أيضا عن سعيد بن جبير و الفراء و الزجاج.

و الأنسب على هذا أن يكون المراد بكون مواضع السجود من الإنسان لله اختصاصها به اختصاصا تشريعيا، و المراد بالدعاء السجدة لكونها أظهر مصاديق العبادة أو الصلاة بما أنها تتضمن السجود لله سبحانه.

و المعنى: و أوحي إلي أن أعضاء السجود يختص بالله تعالى فاسجدوا له بها أو اعبدوه بها و لا تسجدوا أو لا تعبدوا أحدا غيره.

قوله تعالى ﴿وَ أَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اَللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً اللبد بالكسر فالفتح جمع لبدة بالضم فالسكون المجتمعة المتراكمة، و المراد بعبد الله النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كما تدل عليه الآية التالية، و التعبير بعبد الله كالتمهيد لقوله في الآية التالية: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَدْعُوا رَبِّي.

و الأنسب لسياق الآيات التالية أن يكون مرجع ضميري الجمع في قوله: ﴿كَادُوا يَكُونُونَ المشركين و قد كانوا يزدحمون عليه (ص) إذا صلى و قرأ القرآن يستهزءون و يرفعون أصواتهم فوق صوته على ما نقل.

و المعنى: و أنه لما قام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يعبد الله بالصلاة كاد المشركون يكونون بازدحامهم لبدا مجتمعين متراكمين.

و قيل: الضميران للجن و أنهم اجتمعوا عليه و تراكموا ينظرون إليه متعجبين مما يشاهدون من عبادته و قراءته قرآنا لم يسمعوا كلاما يماثله.

و قيل: الضميران للمؤمنين بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) المجتمعين عليه اقتداء به في صلاته إذا صلى و إنصاتا لما يتلوه من كلام الله.

و الوجهان لا يلائمان سياق الآيات التالية تلك الملاءمة كما تقدمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَدْعُوا رَبِّي وَ لاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً أمر منه تعالى للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم)

 

 

 أن يبين لهم وجه عبادته بيانا يزيل عنهم الحيرة حيث رأوا منه ما لم يكونوا رأوه من أحد غيره، و يتعجبون حاملين له على نوع من المكيدة و المكر بأصنامهم أو خدعة بهم لأغراض أخر دنيوية.

و محصل البيان: أني لست أريد بما آتي به من العمل شيئا من المقاصد التي تحسبونها و ترمونني بها و إنما أدعو ربي وحدة غير مشرك به أحدا و عبادة الإنسان لمن عرفه ربا لنفسه مما لا ينبغي أن يلام عليه أو يتعجب منه.

قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لاَ رَشَداً الذي يفيده سياق الآيات الكريمة أنه (ص) يبين فيها بأمر من ربه موقع نفسه و بالنسبة إلى ربه و بالنسبة إلى الناس.

أما موقعه بالنسبة إلى ربه فهو أنه يدعوه و لا يشرك به أحدا و هو قوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَدْعُوا رَبِّي وَ لاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً.

و أما موقعه بالنسبة إليهم فهو أنه بشر مثلهم لا يملك لهم ضرا و لا رشدا حتى يضرهم بما يريد أن يرشدهم من الخير إلى ما يريد بما عنده من القدرة، و أنه مأمور من الله بدعوتهم أمرا ليس له إلا أن يمتثله فلا مجير يجيره منه و لا ملجأ يلتجئ إليه لو خالف و عصى كما ليس لهم إلا أن يطيعوا الله و رسوله و من يعص الله و رسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا، و سيعلمون إذا رأوا ما يوعدون.

و لازم هذا السياق أن يكون المراد بملك الضر القدرة على إيقاع الضر بهم فيوقعه بهم إذا أراد، و المراد بملك الرشد القدرة على إيصال النفع إليهم بإصابة الواقع أي إني لا أدعي أني أقدر أن أضركم أو أنفعكم، و قيل: المراد بالضر الغي المقابل للرشد تعبيرا باسم المسبب عن السبب.

قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اَللَّهِ أَحَدٌ وَ لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاَّ بَلاَغاً مِنَ اَللَّهِ وَ رِسَالاَتِهِ الإجارة إعطاء الجوار و حكمه حماية المجير للجار و منعه ممن يقصده بسوء، و الظاهر أن الملتحد اسم مكان و هو المكان الذي يعدل و ينحرف إليه للتحرز من الشر، و قيل: المدخل و يتعلق به قوله: ﴿مِنْ دُونِهِ و هو كالقيد التوضيحي و الضمير لله و البلاغ التبليغ.

و قوله: ﴿إِلاَّ بَلاَغاً استثناء من قوله: ﴿مُلْتَحَداً و قوله: ﴿مِنَ اَللَّهِ متعلق بمقدر

 

 

 أي كائنا من الله و ليس متعلقا بقوله: ﴿بَلاَغاً لأنه يتعدى بعن لا بمن و لذا قال بعض من جعله متعلقا ببلاغا: إن «من» بمعنى عن، و المعنى على أي حال إلا تبليغ ما هو تعالى عليه من الأسماء و الصفات.

و قوله: ﴿وَ رِسَالاَتِهِ قيل: معطوف على ﴿بَلاَغاً و التقدير إلا بلاغا من الله و إلا رسالاته و قيل: معطوف على لفظ الجلالة و من بمعنى عن، و المعنى إلا بلاغا عن الله و عن رسالاته.

و فيما استثني منه بلاغا قول آخر و هو أنه مفعول ﴿لاَ أَمْلِكُ و المعنى لا أملك لكم ضرا و لا رشدا إلا تبليغا من الله و رسالاته، و يبعده الفصل بين المستثنى و المستثنى منه بقوله: ﴿لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اَللَّهِ أَحَدٌ إلخ و هو كلام مستأنف.

و معنى الآيتين على ما قدمنا: قل لن يجيرني من الله أحد فيمنعني منه و لن أجد من دونه مكانا التجئ إليه إلا تبليغا كائنا منه و رسالاته أي إلا أن أمتثل ما أمرني به من التبليغ منه تعالى ببيان أسمائه و صفاته و إلا رسالاته في شرائع الدين.

قوله تعالى: ﴿وَ مَنْ يَعْصِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إفراد ضمير ﴿اَللَّهِ باعتبار لفظ ﴿مِنَ كما أن جمع ﴿خَالِدِينَ باعتبار معناها.

و عطف الرسول على الله في قوله: ﴿وَ مَنْ يَعْصِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ لكون معصيته معصية لله تعالى إذ ليس له إلا رسالة ربه فالرد عليه فيما أتي به رد على الله سبحانه و طاعته فيما يأمر به طاعة لله قال تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اَللَّهَ: النساء ٨٠.

و المراد بالمعصية كما يشهد به سياق الآيات السابقة معصية ما أمر به من التوحيد أو التوحيد و ما يتفرع عليه من أصول الدين و فروعه فلا يشمل التهديد و الوعيد بخلود النار إلا الكافرين بأصل الدعوة دون مطلق أهل المعصية المتخلفين عن فروع الدين فالاحتجاج بالآية على تخليد مطلق العصاة في النار في غير محله.

و الظاهر أن قوله: ﴿وَ مَنْ يَعْصِ اَللَّهَ إلى آخر الآية من كلام الله سبحانه لا من تتمة كلام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .

قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَ أَقَلُّ عَدَداً لقوله: ﴿حَتَّى دلالة على معنى مدخولها غاية له و مدخولها يدل على أنهم كانوا يستضعفون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعد ناصريه و هم المؤمنون ضعفاء و استقلال عدده بعد عددهم قليلا

 

 

 فالكلام يدل على معنى محذوف هو غايته كقولنا: لا يزالون يستضعفون ناصريك و يستقلون عددهم حتى إذا رأوا ما يوعدون إلخ.

و المراد بما يوعدون نار جهنم لأنها هي الموعودة في الآية، و الآية من كلامه تعالى يخاطب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لو كانت من كلامه و هي مصدرة بقوله تعالى ﴿قُلْ لكان من حق الكلام أن يقال: حتى إذا رأيتم ما توعدون فستعلمون إلخ.

قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً الأمد الغاية التي ينتهي إليها، و الآية بمنزلة دفع دخل تقتضيه حالهم كأنهم لما سمعوا الوعيد قالوا: متى يكون ذلك فقيل له: ﴿قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ إلخ.

قوله تعالى: ﴿عَالِمُ اَلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلى‏َ غَيْبِهِ أَحَداً إظهار الشي‏ء على الشي‏ء إعانته و تسليطه عليه، و ﴿عَالِمُ اَلْغَيْبِ خبر لمبتدإ محذوف، و التقدير هو عالم الغيب، و مفاد الكلمة بإعانة من السياق اختصاص علم الغيب به تعالى مع استيعاب علمه كل غيب، و لذا أضاف الغيب إلى نفسه ثانيا فقال: ﴿عَلى‏َ غَيْبِهِ بوضع الظاهر موضع المضمر ليفيد الاختصاص و لو قال: فلا يظهر عليه لم يفد ذلك.

و المعنى هو عالم كل غيب علما يختص به فلا يطلع على الغيب و هو مختص به أحدا من الناس فالمفاد سلب كلي و إن أصر بعضهم على كونه سلبا جزئيا محصل معناه لا يظهر على كل غيبه أحدا و يؤيد ما قلنا ظاهر ما سيأتي من الآيات.

قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَنِ اِرْتَضى‏َ مِنْ رَسُولٍ استثناء من قوله: ﴿أَحَداً و ﴿مِنْ رَسُولٍ بيان لقوله ﴿مَنِ اِرْتَضى‏َ فيفيد أن الله تعالى يظهر رسله على ما شاء من الغيب المختص به فالآية إذا انضمت إلى الآيات التي تخص علم الغيب به تعالى كقوله: ﴿وَ عِنْدَهُ مَفَاتِحُ اَلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ: الأنعام: ٥٩، و قوله: ﴿وَ لِلَّهِ غَيْبُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ: النحل: ٧٧، و قوله: ﴿قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ اَلْغَيْبَ إِلاَّ اَللَّهُ: النمل: ٦٥ أفاد ذلك معنى الأصالة و التبعية فهو تعالى يعلم الغيب لذاته و غيره يعلمه بتعليم من الله.

فهذه الآيات نظيرة الآيات المتعرضة للتوفي كقوله: ﴿اَللَّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ: الزمر: ٤٢ الدال على الحصر، و قوله: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ: الم السجدة: ١١، و قوله:

﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا: الأنعام: ٦١ فالتوفي منسوب إليه تعالى على

 

 

 نحو الأصالة و إلى الملائكة على نحو التبعية لكونهم أسبابا متوسطة مسخرة له تعالى.

قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً إلى قوله ﴿عَدَداً ضمير ﴿فَإِنَّهُ لله تعالى، و ضميرا ﴿يَدَيْهِ و ﴿خَلْفِهِ للرسول، و الراصد المراقب للأمر الحارس له، و الرصد الراصد يطلق على الواحد و الجماعة و هو في الأصل مصدر، و المراد بما بين يدي الرسول ما بينه و بين الناس المرسل إليهم، و بما خلفه ما بينه و بين مصدر الوحي الذي هو الله سبحانه و قد اعتبر في هذا التصوير ما يوهمه معنى الرسالة من امتداد متوهم يأخذ من المرسل اسم فاعل و ينتهي إلى المرسل إليه يقطعه الرسول حتى ينتهي إلى المرسل إليه فيؤدي رسالته، و الآية تصف طريق بلوغ الغيب إلى الرسول و هو الرسالات التي توحي إليه كما يشير إلى ذلك قوله: ﴿لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ.

و المعنى: فإن الله يسلك ما بين الرسول و من أرسل إليه و ما بين الرسول و مصدر الوحي مراقبين حارسين من الملائكة و من المعلوم أن سلوك الرصد من بين يديه و من خلفه لحفظ الوحي من كل تخليط و تغيير بالزيادة و النقصان يقع فيه من ناحية الشياطين بلا واسطة أو معها.

و قوله: ﴿لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ ضمير ﴿لِيَعْلَمَ لله سبحانه، و ضميرا ﴿قَدْ أَبْلَغُوا و ﴿رَبِّهِمْ لقوله: ﴿مَنِ باعتبار المعنى أو لرسول باعتبار الجنس، و المراد بعلمه تعالى بإبلاغهم رسالات ربهم العلم الفعلي و هو تحقق الإبلاغ في الخارج على حد قوله: ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْكَاذِبِينَ: العنكبوت: ٣ و هو كثير الورود في كلامه تعالى.

و الجملة تعليل لسلوك الرصد بين يدي الرسول و من خلفه، و المعنى ليتحقق إبلاغ رسالات ربهم أي لتبلغ الناس رسالاته تعالى على ما هي عليه من غير تغير و تبدل.

و من المحتمل أن يرجع ضميرا ﴿بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ إلى ﴿غَيْبِهِ فيكون الرصد الحرس مسلوكين بين يدي الغيب النازل و من خلفه إلى أن يبلغ الرسول، و يضعفه أنه لا يلائم قوله: ﴿لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ بالمعنى الذي تقدم لعدم استلزام بلوغ الغيب للرسول سليما من تعرض الشياطين حصول العلم بإبلاغه إلى الناس.

و إلى هذا المعنى يرجع قول بعضهم إن الضميرين يرجعان إلى جبريل حامل الوحي.

و يضعفه مضافا إلى ما مر عدم سبق ذكره.

 

 

و قيل: ضمير ليعلم للرسول و ضميرا ﴿قَدْ أَبْلَغُوا و ﴿رَبِّهِمْ للملائكة الرصد و المعنى يرصد الملائكة الوحي و يحرسونه ليعلم الرسول أن الملائكة قد أبلغوا إليه الوحي كما صدر فتطمئن نفسه أنه سليم من تعرض الشياطين فإن لازم العلم بإبلاغهم إياه العلم ببلوغه.

و يبعده أن ظاهر السياق و يؤيده سبق ذكر الرسول أن المراد بالرسالات الرسالات التي حملها الرسول ليبلغها إلى الناس لا ما حملها ملك الوحي فضمير ﴿رَبِّهِمْ للرسل دون الملائكة، على أن الآية تشير إلى الملائكة بعنوان الرصد و هو غير عنوان الرسالة و شأن الرصد الحفظ و الحراسة دون الرسالة.

و قيل: المعنى ليعلم محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) أن الرسل قبله قد أبلغوا رسالات ربهم، و هو وجه سخيف لا دليل عليه، و أسخف منه ما قيل: إن المعنى ليعلم مكذب الرسل أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم إليهم.

و قوله: ﴿وَ أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ ضمير الجمع للرسل بناء على ما تقدم من المعنى و الظاهر أن الجملة متممة لمعنى الحراسة المذكورة سابقا فقوله: ﴿مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ يشير إلى رصد ما بين الرسول و المرسل إليهم، و قوله: ﴿وَ مِنْ خَلْفِهِ إلى حفظ ما بينه و مصدر الوحي، و قوله: ﴿وَ أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ يشير إلى ظرف نفس الرسول و الإحاطة إحاطة علمية فالوحي في أمن من تطرق التغيير و التبديل فيما بين مصدر الوحي و الرسول و في نفس الرسول و في ما بين الرسول و المرسل إليهم.

و يمكن أن يكون المراد بما لديهم جميع ما له تعلق ما بالرسل أعم من مسير الوحي أو أنفسهم كما أن قوله: ﴿وَ أَحْصى‏َ كُلَّ شَيْ‏ءٍ عَدَداً مسوق لإفادة عموم العلم بالأشياء غير أنه العلم بعددها و تميز بعضها من بعض.

فقد تبين مما مر في الآيات الثلاث:

أولا: أن اختصاصه تعالى بعلم الغيب على نحو الأصالة بالمعنى الذي أوضحناه فهو تعالى يعلم الغيب بذاته و غيره يعلمه بتعليم منه.

و به يظهر أن ما حكي في كلامه تعالى من إنكارهم العلم بالغيب أريد به نفي الأصالة و الاستقلال دون ما كان بوحي كقوله تعالى: ﴿قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اَللَّهِ وَ لاَ

 

 

 أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ: الأنعام: ٥٠، و قوله: ﴿وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ اَلْخَيْرِ الأعراف: ١٨٨ و قوله: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ اَلرُّسُلِ وَ مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَ لاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى‏َ إِلَيَّ: الأحقاف: ٩.

و ثانيا: أن عموم قوله: ﴿فَلاَ يُظْهِرُ عَلى‏َ غَيْبِهِ أَحَداً لما خصص بقوله: ﴿إِلاَّ مَنِ اِرْتَضى‏َ مِنْ رَسُولٍ عاد عاما مخصصا لا يأبى تخصيصا بمخصص آخر كما في مورد الأنبياء فإن الآيات القرآنية تدل على أنهم يوحى إليهم كقوله: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلى‏َ نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ: النساء: ١٦٣ و تدل على أن الوحي من الغيب فالنبي ينال الغيب كما يناله الرسول هذا على تقدير أن يكون المراد بالرسول في الآية ما يقابل النبي و أما لو أريد مطلق من أرسله الله إلى الناس و النبي ممن أرسله الله إليهم كما يشهد به قوله: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لاَ نَبِيٍّ الآية: الحج: ٥٢، و قوله: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ الأعراف: ٩٤ فالنبي خارج من عموم النفي من غير تخصيص جديد.

و كذا في مورد الإمام بالمعنى الذي يستعمله فيه القرآن فإنه تعالى يصفه بالصبر و اليقين كما في قوله: ﴿وَ جَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَ كَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ: الم السجدة ٢٤ و يعرفهم بانكشاف الغطاء لهم كما في قوله: ﴿وَ كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ: الأنعام: ٧٥، و قوله: ﴿كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اَلْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ اَلْجَحِيمَ: التكاثر: ٦ و قد تقدم كلام في ذلك في بعض المباحث السابقة.

و أما الملائكة فما يحملونه من الوحي السماوي قبل نزوله و كذا ما يشاهدونه من عالم الملكوت شهادة بالنسبة إليهم و إن كان غيبا بالنسبة إلينا. على أن قوله: ﴿فَلاَ يُظْهِرُ عَلى‏َ غَيْبِهِ أَحَداً إنما يشمل أهل الدنيا ممن يعيش على بسيط الأرض و إلا لانتقض بالأموات المشاهدين لأمور الآخرة و هي من الغيب بنص القرآن فلم يبق تحت عموم النفي حتى فرد واحد إذ ما من أحد إلا و هو مبعوث ذلك يوم مجموع له الناس و ذلك يوم مشهود، و كما أن الأموات نشأتهم غير نشأة الدنيا كذلك نشأة الملائكة غير نشأة المادة.

و ثالثا: أن قوله: ﴿فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ إلى آخر الآيتين يدل على أن الوحي الإلهي محفوظ من لدن صدوره من مصدر الوحي إلى بلوغه الناس مصون في طريق نزوله إلى أن يصل إلى من قصد نزوله عليه.

 

 

 أما مصونيته من حين صدوره من مصدره إلى أن ينتهي إلى الرسول فيكفي في الدلالة عليه قوله ﴿مِنْ خَلْفِهِ [5]و أما مصونيته حين أخذ الرسول إياه و تلقيه من ملك الوحي بحيث يعرفه و لا يغلط في أخذه، و مصونيته في حفظه بحيث يعيه كما أوحي إليه من غير أن ينساه أو يغيره أو يبدله، و مصونيته في تبليغه إلى الناس من تصرف الشيطان فيه فالدليل عليه قوله: ﴿لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ حيث يدل على أن الغرض الإلهي من سلوك الرصد أن يعلم إبلاغهم رسالات ربهم أي أن يتحقق في الخارج إبلاغ الوحي إلى الناس، و لازمه بلوغه إياهم و لو لا مصونية الرسول في الجهات الثلاث المذكورة جميعا لم يتم الغرض الإلهي و هو ظاهر، و حيث لم يذكر تعالى للحصول على هذا الغرض طريقا غير سلوك الرصد دل ذلك على أن الوحي محروس بالملائكة و هو عند الرسول كما أنه محروس بهم في طريقه إلى الرسول حتى ينتهي إليه، و يؤكده قوله بعد: ﴿وَ أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ.

و أما مصونيته في مسيره من الرسول حتى ينتهي إلى الناس فيكفي فيه قوله: ﴿مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ على ما تقدم من معناه.

أضف إلى ذلك دلالة قوله: ﴿لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ بما تقدم من تقريب دلالته.

و يتفرع على هذا البيان أن الرسول مؤيد بالعصمة في أخذ الوحي من ربه و في حفظه و في تبليغه إلى الناس مصون من الخطإ في الجهات الثلاث جميعا لما مر من دلالة الآية على أن ما نزله الله من دينه على الناس من طريق الرسالة بالوحي مصون في جميع مراحله إلى أن ينتهي إلى الناس و من مراحله مرحلة أخذ الرسول للوحي و حفظه له و تبليغه إلى الناس.

و التبليغ يعم القول و الفعل فإن في الفعل تبليغا كما في القول فالرسول معصوم من المعصية باقتراف المحرمات و ترك الواجبات الدينية لأن في ذلك تبليغا لما يناقض الدين فهو معصوم من فعل المعصية كما أنه معصوم من الخطإ في أخذ الوحي و حفظه و تبليغه قولا.

و قد تقدمت الإشارة إلى أن النبوة كالرسالة في دورانها مدار الوحي فالنبي كالرسول في خاصة العصمة، و يتحصل بذلك أن أصحاب الوحي سواء كانوا رسلا أو أنبياء

 

 

 معصومون في أخذ الوحي و في حفظ ما أوحي إليهم و في تبليغه إلى الناس قولا و فعلا.

و رابعا: أن الذي استثني في الآية من الإظهار على الغيب إظهار الرسول على ما يتوقف عليه تحقق إبلاغ رسالته أعم من أن يكون متن الرسالة كالمعارف الاعتقادية و شرائع الدين و القصص و العبر و الحكم و المواعظ أو يكون من آيات الرسالة و المعجزات الدالة على صدق الرسول في دعواه كالذي حكي عن بعض الرسل من الإخبار بالمغيبات كقول صالح لقومه: ﴿تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ: هود: ٦٥، و قول عيسى لبني إسرائيل: ﴿وَ أُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَ مَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ آل عمران: ٤٩، و كذا ما ورد من مواعد الرسل، و ما ورد في الكتاب العزيز من الملاحم كل ذلك من إظهارهم على الغيب.

بحث روائي

 عن تفسير العياشي، عن أبي جعفر (عليه السلام): أنه سأله المعتصم عن السارق من أي موضع يجب أن يقطع؟ فقال: إن القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فتترك الكف.

فقال: و ما الحجة في ذلك؟ قال: قول رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : السجود على سبعة أجزاء:

الوجه و اليدين و الركبتين و الرجلين فإذا قطع من الكرسوع أو المرفق لم يدع له يدا يسجد عليها و قال الله: ﴿وَ أَنَّ اَلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها ﴿فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اَللَّهِ أَحَداً و ما كان لله فلا يقطع. الحديث.

 و في الكافي، بإسناده عن حماد بن عيسى عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: و سجد يعني أبا عبد الله (عليه السلام) على ثمانية أعظم: الكفين و الركبتين و إبهامي الرجلين و الجبهة و الأنف، و قال: سبعة منها فرض يسجد عليها و هي التي ذكرها الله في كتابه فقال: ﴿وَ أَنَّ اَلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اَللَّهِ أَحَداً و هي الجبهة و الكفان و الركبتان و الإبهامان و وضع الأنف على الأرض سنة.

 و عن الخرائج و الجرائح، روى محمد بن الفضل الهاشمي عن الرضا (عليه السلام): أنه نظر إلى ابن هذاب فقال: إن أنا أخبرتك أنك ستبتلى في هذه الأيام بدم ذي رحم لك لكنت مصدقا لي؟ قال: لا فإن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى. قال: أ و ليس أنه يقول: ﴿عَالِمُ

 

 

 اَلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ اِرْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ فرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عند الله مرتضى، و نحن ورثة ذلك الرسول الذي أطلعه الله على ما يشاء من غيبه فعلمنا ما كان و ما يكون إلى يوم القيامة.

 أقول: و الأخبار في هذا الباب فوق حد الإحصاء، و مدلولها أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أخذه بوحي من ربه و أنهم أخذوه بالوراثة منه (ص).

(٧٣) سورة المزمل مكية و هي عشرون آية (٢٠)

[سورة المزمل (٧٣): الآیات ١ الی ١٩]

 ﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا اَلْمُزَّمِّلُ ١ قُمِ اَللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ٢ نِصْفَهُ أَوِ اُنْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ٣ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ اَلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ٤ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ٥ إِنَّ نَاشِئَةَ اَللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلاً ٦ إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً ٧ وَ اُذْكُرِ اِسْمَ رَبِّكَ وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ٨ رَبُّ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً ٩ وَ اِصْبِرْ عَلى‏ مَا يَقُولُونَ وَ اُهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً ١٠ وَ ذَرْنِي وَ اَلْمُكَذِّبِينَ أُولِي اَلنَّعْمَةِ وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلاً ١١ إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَ جَحِيماً ١٢ وَ طَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَ عَذَاباً أَلِيماً ١٣ يَوْمَ تَرْجُفُ اَلْأَرْضُ وَ اَلْجِبَالُ وَ كَانَتِ اَلْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً ١٤ إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلى‏ فِرْعَوْنَ رَسُولاً ١٥ فَعَصى‏ فِرْعَوْنُ اَلرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً ١٦ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ

 

 

يَوْماً يَجْعَلُ اَلْوِلْدَانَ شِيباً ١٧ اَلسَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً ١٨ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اِتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلاً ١٩

(بيان)

السورة تأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بقيام الليل و الصلاة فيه ليستعد بذلك لتلقي ثقل ما سيلقى عليه من القول الثقيل و القرآن الموحي إليه، و تأمره أن يصبر على ما يقولون فيه أنه شاعر أو كاهن أو مجنون إلى غير ذلك و يهجرهم هجرا جميلا، و فيها وعيد و إنذار للكفار و تعميم الحكم لسائر المؤمنين، و في آخرها تخفيف ما للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين.

و السورة مكية من عتائق السور النازلة في أول البعثة حتى قيل: إنها ثانية السور النازلة على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو ثالثتها.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلْمُزَّمِّلُ بتشديد الزاي و الميم و أصله المتزمل اسم فاعل من التزمل‏ بمعنى التلفف بالثوب لنوم و نحوه، و ظاهره أنه (ص) كان قد تزمل بثوب للنوم فنزل عليه الوحي و خوطب بالمزمل.

و ليس في الخطاب به تهجين و لا تحسين كما توهمه بعضهم، نعم يمكن أن يستفاد من سياق الآيات أنه (ص) كان قد قوبل في دعوته بالهزء و السخرية و الإيذاء فاغتم في الله فتزمل بثوب لينام دفعا للهم فخوطب بالمزمل و أمر بقيام الليل و الصلاة فيه و الصبر على ما يقولون على حد قوله تعالى: ﴿اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاَةِ: البقرة: ١٥٣ فأفيد بذلك أن عليه أن يقاوم الكرب العظام و النوائب المرة بالصلاة و الصبر لا بالتزمل و النوم.

و قيل: المراد يا أيها المتزمل بعباءة النبوة أي المتحمل لأثقالها، و لا شاهد عليه من جهة اللفظ.

قوله تعالى: ﴿قُمِ اَللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ اُنْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ اَلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً المراد بقيام الليل القيام فيه إلى الصلاة فالليل مفعول به توسعا كما في قولهم:

دخلت الدار، و قيل: معمول ﴿قُمِ مقدر و ﴿اَللَّيْلَ منصوب على الظرفية و التقدير قم إلى الصلاة في الليل، و قوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً استثناء من الليل.

 

 

و قوله: ﴿نِصْفَهُ أَوِ اُنْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ظاهر السياق أنه بدل من ﴿اَللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً المتعلق به تكليف القيام، و ضميرا ﴿مِنْهُ و ﴿عَلَيْهِ للنصف، و ضمير ﴿نِصْفَهُ لليل، و المعنى قم نصف الليل أو انقص من النصف قليلا أو زد على النصف قليلا، و الترديد بين الثلاثة للتخيير فقد خير بين قيام النصف و قيام أقل من النصف بقليل و قيام أكثر منه بقليل.

و قيل: ﴿نِصْفَهُ بدل من المستثنى أعني ﴿قَلِيلاً فيكون المعنى قم الليل إلا نصفه أو انقص من النصف قليلا فقم أكثر من النصف بقليل أو زد على النصف فقم أقل من النصف، و تكون جملة البدل رافعا لإبهام المستثنى بالمطابقة و لإبهام المستثنى منه بالالتزام عكس الوجه السابق.

و الوجهان و إن اتحدا في النتيجة غير أن الوجه السابق أسبق إلى الذهن لأن الحاجة إلى رفع الإبهام عن متعلق الحكم أقدم من الحاجة إلى رفع الإبهام عن توابعه و ملحقاته فكون قوله: «نصفه» إلخ بدلا من الليل و لازمه رفع إبهام متعلق التكليف بالمطابقة أسبق إلى الذهن من كونه بدلا من ﴿قَلِيلاً.

و قيل: إن نصفه بدل من الليل لكن المراد بالقليل القليل من الليالي دون القليل من أجزاء الليل، و المعنى قم نصف الليل أو انقص منه قليلا أو زد عليه إلا قليلا من الليالي و هي ليالي العذر من مرض أو غلبة نوم أو نحو ذلك، و لا بأس بهذا الوجه لكن الوجه الأول أسبق منه إلى الذهن.

و قوله: ﴿وَ رَتِّلِ اَلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ترتيل‏ القرآن تلاوته بتبيين حروفه على تواليها، و الجملة معطوفة على قوله: ﴿قُمِ اَللَّيْلَ أي قم الليل و اقرأ القرآن بترتيل.

و الظاهر أن المراد بترتيل القرآن ترتيله في الصلاة أو المراد به الصلاة نفسها و قد عبر سبحانه عن الصلاة بنظير هذا التعبير في قوله: ﴿أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلى‏َ غَسَقِ اَللَّيْلِ وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً: إسراء: ٧٨، و قيل: المراد إيجاب قراءة القرآن دون الصلاة.

قوله تعالى: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً الثقل‏ كيفية جسمانية من خاصته أنه يشق حمل الجسم الثقيل و نقله من مكان إلى مكان و ربما يستعار للمعاني إذا شق على النفس

 

 

 تحملها أو لم تطقها فربما أضيف إلى القول من جهة معناه فعد ثقيلا لتضمنه معنى يشق على النفس إدراكه أو لا تطيق فهمه أو تتحرج من تلقيه كدقائق الأنظار العلمية إذا ألقيت على الأفهام العامة، أو لتضمنه حقائق يصعب التحقق بها أو تكاليف يشق الإتيان بها و المداومة عليها.

و القرآن قول إلهي ثقيل بكلا المعنيين: أما من حيث تلقي معناه فإنه كلام إلهي مأخوذ من ساحة العظمة و الكبرياء لا تتلقاه إلا نفس طاهرة من كل دنس منقطع عن كل سبب إلا الله سبحانه، و كتاب عزيز له ظهر و بطن و تنزيل و تأويل تبيانا لكل شي‏ء، و قد كان ثقله مشهودا من حال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بما كان يأخذه من البرحاء و شبه الإغماء على ما وردت به الأخبار المستفيضة.

و أما من حيث التحقق بحقيقة التوحيد و ما يتبعها من الحقائق الاعتقادية فكفى في الإشارة إلى ثقله قوله تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا اَلْقُرْآنَ عَلى‏َ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اَللَّهِ وَ تِلْكَ اَلْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ: الحشر: ٢١، و قوله تعالى:

﴿وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ اَلْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ اَلْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ اَلْمَوْتى‏َ: الرعد ٣١.

و أما من حيث القيام بما يشتمل عليه من أمر الدعوة و إقامة مراسم الدين الحنيف، و إظهاره على الدين كله فيشهد به ما لقي (ص) من المصائب و المحن في سبيل الله و الأذى في جنب الله على ما يشهد به الآيات القرآنية الحاكية لما لقيه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من المشركين و الكفار و المنافقين و الذين في قلوبهم مرض من أنواع الإيذاء و الهزء و الجفاء.

فقوله: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً المراد بالقول الثقيل القرآن العظيم على ما يسبق إلى الذهن من سياق هذه الآيات النازلة في أول البعثة، و به فسره المفسرون.

و الآية في مقام التعليل للحكم المدلول عليه بقوله: ﴿قُمِ اَللَّيْلَ﴾ إلخ فتفيد بمقتضى السياق و الخطاب خاص بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن أمره بقيام الليل و التوجه فيه إليه تعالى بصلاة الليل تهيئة له و إعداد لكرامة القرب و شرف الحضور و إلقاء قول ثقيل فقيام الليل هي السبيل المؤدية إلى هذا الموقف الكريم و قد عد سبحانه صلاة الليل سبيلا إليه في قوله الآتي: ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اِتَّخَذَ إِلى‏َ رَبِّهِ سَبِيلاً.

و قد زاد سبحانه وعدا على ما في هذه الآية في قوله: ﴿وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً

 

 

 لَكَ عَسى‏َ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً: إسراء: ٧٩ و قد تقدم معنى المقام المحمود في تفسير الآية.

و إذ كان من ثقل القرآن ثقله من حيث التحقق بحقائقه و من حيث استجابته فيما يندب إليه من الشرائع و الأحكام فهو ثقيل على الأمة كما هو ثقيل عليه (ص) و معنى الآية إنا سنوحي إليك قولا يثقل عليك و على أمتك أما ثقله عليه (ص) فلما في التحقق بحقائقه من الصعوبة و لما فيه من محنة الرسالة و ما يتبعها من الأذى في جنب الله و ترك الراحة و الدعة و مجاهدة النفس و الانقطاع إلى الله مضافا إلى ما في تلقيه من مصدر الوحي من الجهد، و أما ثقله على أمته فلأنهم يشاركونه (ص) في لزوم التحقق بحقائقه و اتباع أوامره و نواهيه و رعاية حدوده كل طائفة منهم على قدر طاقته.

و للقوم في معنى ثقل القرآن أقوال أخر:

منها: أنه ثقيل بمعنى أنه عظيم الشأن متين رصين كما يقال: هذا كلام له وزن إذا كان واقعا موقعه.

و منها: أنه ثقيل في الميزان يوم القيامة حقيقة أو مجازا بمعنى كثرة الثواب عليه.

و منها: أنه ثقيل على الكفار و المنافقين بما له من الإعجاز و بما فيه من الوعيد.

و منها: أن ثقله كناية عن بقائه على وجه الدهر لأن الثقيل من شأنه أن يبقى و يثبت في مكانه.

و منها: غير ذلك و الوجوه المذكورة و إن كانت لا بأس بها في نفسها لكن ما تقدم من الوجه هو الظاهر السابق إلى الذهن.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اَللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلاً إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً الآية الأولى في مقام التعليل لاختيار الليل وقتا لهذه الصلاة، و الآية الثانية في مقام التعليل لترك النهار و الإعراض عنه كما أن الآية السابقة أعني قوله: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً في مقام التعليل لتشريع أصل هذه الصلاة.

فقوله: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اَللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلاً الناشئة إما مصدر كالعاقبة و العافية بمعنى النشأة و هي الحدوث و التكون، و إما اسم فاعل من النشأة مضاف إلى موصوفه و كيف كان فالمراد بها الليل و إطلاق الحادثة على الليل كإطلاقها على سائر أجزاء

 

 

 الخلقة و ربما قيل: إنها الصلاة في الليل و وطء الأرض وضع القدم عليها، و كونها أشد وطأ كناية عن كونها أثبت قدما لصفاء النفس و عدم تكدرها بالشواغل النهارية و قيل:

الوطء مواطاة القلب اللسان و أيد بقراءة ﴿أَشَدُّ وَطْئاً و المراد بكونها أقوم قيلا كونها أثبت قولا و أصوب لحضور القلب و هدوء الأصوات.

و المعنى أن حادثة الليل أو الصلاة في الليل هي أثبت قدما - أو أشد في مواطاة القلب اللسان و أثبت قولا و أصوب لما أن الله جعل الليل سكنا يستتبع انقطاع الإنسان عن شواغل المعيشة إلى نفسه و فراغ باله.

و قوله: ﴿إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً السبح‏ المشي السريع في الماء و السبح الطويل في النهار كناية عن الغور في مهمات المعاش و أنواع التقلب في قضاء حوائج الحياة.

و المعنى أن لك في النهار مشاغل كثيرة تشتغل بها مستوعبة لا تدع لك فراغا تشتغل فيه بالتوجه التام إلى ربك و الانقطاع إليه بذكره فعليك بالليل و الصلاة فيه.

و قيل: المعنى أن لك في النهار فراغا لنومك و تدبير أمر معاشك و التصرف في حوائجك فتهجد في الليل.

و قيل: المعنى أن لك في النهار فراغا فإن فاتك من الليل شي‏ء أمكنك أن تتداركه في النهار و تقضيه فيه فالآية في معنى قوله: ﴿وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً: الفرقان: ٦٢.

و الذي قدمناه من المعنى أنسب للمقام.

قوله تعالى: ﴿وَ اُذْكُرِ اِسْمَ رَبِّكَ وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً الظاهر أنه يصف صلاة الليل فهو كالعطف التفسيري على قوله: ﴿وَ رَتِّلِ اَلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً و على هذا فالمراد بذكر اسم الرب تعالى الذكر اللفظي بمواطاة من القلب و كذا المراد بالتبتل التبتل مع اللفظ.

و قيل: الآية تعميم بعد التخصيص و المراد بالذكر دوام ذكره تعالى ليلا و نهارا على أي وجه كان من تسبيح و تحميد و صلاة و قراءة قرآن و غير ذلك، و إنما فسر الذكر بالدوام لأنه (ص) لم ينسه تعالى حتى يؤمر بذكره، و المراد الدوام العرفي دون الحقيقي لعدم إمكانه. انتهى.

و فيه أنه إن أراد بالذكر الذكر اللفظي فعدم نسيانه (ص) ربه تعالى لا ينافي أمره

 

 

 بالذكر اللفظي، و إن أراد ما يعم الذكر القلبي فهو ممنوع و لو سلم ففيه أولا أن عدم نسيانه (ص) ربه إلى حين الخطاب لا ينافي أمره بذكره بعده و ثانيا أن عده الدوام الحقيقي غير ممكن و حمل الدوام على العرفي وهم ناش عن عدم تحصيل المعنى على ما هو عليه فالله جل ذكره مذكور للإنسان لا يغيب عنه و لا لحظة سواء تنبه عليه الإنسان أو غفل عنه. و من الممكن أن يعرفه الله نفسه بحيث لا يغفل عنه و لا في حال قال تعالى:

﴿فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ وَ هُمْ لاَ يَسْأَمُونَ: حم السجدة: ٣٨ و قال:

﴿يُسَبِّحُونَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ: الأنبياء: ٢٠ و قد تقدم في تفسير الآيتين و آخر سورة الأعراف أن ذلك لا يختص بالملائكة.

و بالجملة قوله: ﴿وَ اُذْكُرِ اِسْمَ رَبِّكَ أمر بذكر اسم من أسمائه أو لفظ الجلالة خاصة و قيل: المراد به البسملة.

و في قوله: ﴿رَبِّكَ التفات عن التكلم مع الغير في قوله: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي إلى الغيبة و لعل الوجه فيه إيقاظ ذلة العبودية التي هي الرابطة بين العبد و ربه، بذكر صفة الربوبية.

و قوله ﴿وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً فسر التبتل‏ بالانقطاع أي و انقطع إلى الله، و من المروي عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) أن التبتل رفع اليد إلى الله و التضرع إليه، و هذا المعنى أنسب بناء على حمل الذكر على الذكر اللفظي كما تقدم.

و ﴿تَبْتِيلاً مفعول مطلق ظاهرا و كان مقتضى الظاهر أن يقال: و تبتل إليه تبتلا فالعدول إلى التبتيل قيل: لتضمين تبتل معنى بتل، و المعنى و قطع نفسك من غيره إليه تقطيعا أو احمل نفسك على رفع اليد إليه و التضرع حملا، و قيل: لمراعاة الفواصل.

قوله تعالى: ﴿رَبُّ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً وصف مقطوع عن الوصفية و التقدير هو رب المشرق و المغرب، و رب المشرق و المغرب في معنى رب العالم كله فإن المشرق و المغرب جهتان نسبيتان تشملان جهات العالم المشهود كلها، و إنما اختصا بالذكر لمناسبة ما تقدم من ذكر الليل و النهار المرتبطين بالشروق و الغروب.

و إنما لم يقتصر في الإشارة إلى ربوبيته تعالى بقوله السابق: ﴿رَبِّكَ للإيذان بأنه (ص) مأمور باتخاذه ربا لأنه ربه و رب العالم كله لا لأنه ربه وحده كما ربما كان الرجل

 

 

 من الوثنيين يتخذ صنما لنفسه فحسب غير ما اتخذه غيره من الأصنام و لو كان اتخاذه (ص) له تعالى ربا من هذا القبيل أو احتمل ذلك لم تصح دعوته إلى التوحيد.

و ليكون قوله: ﴿رَبِّكَ ﴾﴿رَبُّ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ و هو في معنى رب العالم كله توطئة و تمهيدا لقوله بعده: ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يعلل به توحيد الألوهية فإن الألوهية و هي المعبودية من فروع الربوبية التي هي الملك و التدبير كما تقدم مرارا فهو تعالى الإله وحده لا إله إلا هو لأنه الرب وحده لا رب إلا هو.

و قوله: ﴿فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً أي في جميع أمورك، و توكيل‏ الوكيل هو إقامة الإنسان غيره مقام نفسه بحيث تقوم إرادته مقام إرادته و عمله مقام عمله فاتخاذه تعالى وكيلا أن يرى الإنسان الأمر كله له و إليه تعالى أما في الأمور الخارجية و الحوادث الكونية فأن لا يرى لنفسه و لا لشي‏ء من الأسباب الظاهرية استقلالا في التأثير فلا مؤثر في الوجود بحقيقة معنى التأثير إلا الله فلا يتعلق بتأثير سبب من الأسباب برضى أو سخط أو سرور أو أسف و غير ذلك بل يتوسل إلى مقاصده و مآربه بما عرفه الله من الأسباب من غير أن يطمئن إلى استقلالها في التأثير و يرجع الظفر بالمطلوب إلى الله ليختار له ما يرتضيه.

و أما الأمور التي لها تعلق بالعمل من العبادات و المعاملات فأن يجعل إرادته تابعة لإرادة ربه التشريعية فيعمل على حسب ما يريده الله تعالى منه فيما شرع من الشريعة.

و من هنا يظهر أن لقوله: ﴿فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً ارتباطا بقوله: ﴿وَ اُذْكُرِ اِسْمَ رَبِّكَ إلخ و ما تقدم عليه من الأوامر التشريعية كما أن له ارتباطا بما تأخر عنه من قوله ﴿وَ اِصْبِرْ و قوله ﴿اُهْجُرْهُمْ و قوله: ﴿وَ ذَرْنِي.

قوله تعالى: ﴿وَ اِصْبِرْ عَلى‏َ مَا يَقُولُونَ وَ اُهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً معطوف هو و ما بعده على مدخول الفاء في قوله: ﴿فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً فالمعنى اتخذه وكيلا و لازم اتخاذه وكيلا أن تصبر على ما يقولون مما فيه إيذاؤك و الاستهزاء بك و رميك بما ليس فيك كقولهم:

افترى على الله، كاهن شاعر، مجنون، أساطير الأولين و غير ذلك مما يقصه القرآن.

و أن تهجرهم هجرا جميلا، و المراد بالهجر الجميل على ما يعطيه السياق أن يعاملهم بحسن الخلق و الدعوة إلى الحق بالمناصحة، و لا يواجه قولهم بما في وسعه من المقابلة بالمثل، و الآية لا تدافع آية القتال فلا وجه لقول من قال: إنها منسوخة بآية القتال.

 

 

قوله تعالى: ﴿وَ ذَرْنِي وَ اَلْمُكَذِّبِينَ أُولِي اَلنَّعْمَةِ وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلاً تهديد للكفار يقال:

دعني و فلانا و ذرني‏ و فلانا أي لا تحل بيني و بينه حتى أنتقم منه.

و المراد بالمكذبين أولي النعمة الكفار المذكورون في الآية السابقة أو رؤساؤهم المتبوعون، و الجمع بين توصيفهم بالمكذبين و توصيفهم بأولي النعمة للإشارة إلى علة ما يهددهم به من العذاب فإن تكذيبهم بالدعوة الإلهية و هم متنعمون بنعمة ربهم كفران منهم بالنعمة و جزاء الكفران سلب النعمة و تبديلها من النقمة.

و المراد بالقليل الذي يمهلونه الزمان القليل الذي يمكثون في الأرض حتى يرجعوا إلى ربهم فيحاسبهم و يجازيهم قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَرَاهُ قَرِيباً: المعارج: ٧، و قال: ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمِهَادُ: آل عمران ١٩٧.

و الآية بظاهرها عامة، و قيل: وعيد لهم بوقعة بدر و ليس بظاهر، و في الآية التفات عن الغيبة في ﴿رَبِّكَ إلى التكلم وحده في ﴿ذَرْنِي و لعل الوجه فيه تشديد التهديد بنسبة الأمر إليه سبحانه نفسه ثم التفت في قوله: ﴿إِنَّ لَدَيْنَا إلى التكلم مع الغير للدلالة على العظمة.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَ جَحِيماً تعليل لقوله ﴿ذَرْنِي إلخ و الأنكال‏ القيود، قال الراغب يقال: نكل عن الشي‏ء ضعف و عجز، و نكلته قيدته و النكل‏ بالكسر فالسكون قيد الدابة و حديدة اللجام لكونهما مانعين، و الجمع الأنكال انتهى، و قال: الجحمة شدة تأجج النار و منه الجحيم، انتهى.

قوله تعالى: ﴿وَ طَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَ عَذَاباً أَلِيماً قال في المجمع،: الغصة تردد اللقمة في الحلق و لا يسيغها آكلها يقال: غص بريقه يغص غصصا، و في قلبه غصة من كذا و هي كاللدغة التي لا يسوغ معها الطعام و الشراب، انتهى.

و الآيتان تذكران نقم الآخرة التي بدلت منها نعم الدنيا جزاء لكفرانهم بنعم الله.

قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ اَلْأَرْضُ وَ اَلْجِبَالُ وَ كَانَتِ اَلْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً ظرف للعذاب الموعود في الآيتين السابقتين، قال الراغب،: الرجف‏ الاضطراب الشديد يقال:

رجفت الأرض و البحر انتهى. و في المجمع،: الكثيب‏ الرمل المجتمع الكثير، و هلت‏ أهيله هيلا فهو مهيل إذا حرك أسفله فسال أعلاه انتهى، و المعنى ظاهر.

 

 

 قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلى‏َ فِرْعَوْنَ رَسُولاً إنذار للمكذبين أولي النعمة من قومه (ص) بعد ما أوعد مطلق المكذبين أولي النعمة بما أعد لهم من العذاب يوم القيامة بقياس حالهم إلى حال فرعون المستكبر على الله و رسوله المستذل لرسول الله و من آمن معه من قومه ثم قرع أسماعهم بما انتهى إليه أمر فرعون من أخذ الله له أخذا وبيلا فليتعظوا و ليأخذوا حذرهم.

و في الآية التفات عن الغيبة إلى الخطاب كان المتكلم لما أوعدهم بالعذاب على الغيبة هاج به الوجد على أولئك المكذبين بما يلقون أنفسهم بأيديهم إلى الهلاك الأبدي لسفاهة رأيهم فشافههم بالإنذار ليرتفع عن أنفسهم أي شك و ترديد و تتم عليهم الحجة و لعلهم يتقون، و لذا عقب قياسهم إلى فرعون و قياس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى موسى (عليه السلام) و الإشارة إلى عقابه أمر فرعون بقوله ﴿فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً إلخ.

فقوله: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ إشارة إلى تصديق رسالة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من قبله تعالى و شهادته على أعمالهم بتحملها في الدنيا و تأديتها يوم القيامة، و قد تقدم البحث عن معنى شهادة الأعمال في الآيات المشتملة عليها مرارا، و في الإشارة إلى شهادته (ص) نوع زجر لهم عن عصيانه و مخالفته و تكذيبه.

و قوله: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا إِلى‏َ فِرْعَوْنَ رَسُولاً هو موسى بن عمران (عليه السلام).

قوله تعالى: ﴿فَعَصى‏َ فِرْعَوْنُ اَلرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً أي شديدا ثقيلا.

إشارة إلى عاقبة أمر فرعون في عصيانه موسى (عليه السلام)، و في التعبير عن موسى بالرسول إشارة إلى أن السبب الموجب لأخذ فرعون مخالفته أمر رسالته لا نفس موسى بما أنه موسى، و إذا كان السبب هو مخالفة الرسالة فليحذروا مخالفة رسالة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) .

كما أن وضع الظاهر موضع الضمير في قوله: ﴿فَعَصى‏َ فِرْعَوْنُ للإيماء إلى أن ما كان له من العزة و العلو في الأرض و التبجح بكثرة العدة و سعة المملكة و نفوذ المشية لم يغن عنه شيئا و لم يدفع عنه عذاب الله فما الظن بهؤلاء المكذبين؟ و هم كما قال الله: ﴿جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ اَلْأَحْزَابِ: _ ص ١١.

قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ اَلْوِلْدَانَ شِيباً نسبة الاتقاء إلى اليوم من المجاز العقلي و المراد اتقاء العذاب الموعود فيه، و عليه فيوما مفعول به لتتقون،

 

 

 و قيل: مفعول ﴿تَتَّقُونَ محذوف و ﴿يَوْماً ظرف له و التقدير فكيف تتقون العذاب الكائن في يوم، و قيل: المفعول محذوف و ﴿يَوْماً ظرف للاتقاء و قيل غير ذلك.

و قوله: ﴿يَجْعَلُ اَلْوِلْدَانَ شِيباً الشيب‏ جمع أشيب مقابل الشاب، و جعل الولدان شيبا كناية عن شدة اليوم لا عن طوله.

قوله تعالى: ﴿اَلسَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً إشارة بعد إشارة إلى شدة اليوم، و الانفطار الانشقاق و تذكير الصفة لكون السماء جائز الوجهين يذكر و يؤنث، و ضمير ﴿بِهِ لليوم، و الباء بمعنى في أو للسببية، و المعنى السماء منشقة في ذلك اليوم أو بسبب ذلك اليوم أي بسبب شدته.

و قوله: ﴿كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً استئناف لتسجيل ما تقدم من الوعيد و أنه حتم مقضي و نسبة الوعد إلى ضميره تعالى لعله للإشعار بأن لا يصلح لهذا الوعد إلا الله تعالى فيكفي فيه الضمير من غير حاجة إلى ذكره باسمه.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اِتَّخَذَ إِلى‏َ رَبِّهِ سَبِيلاً الإشارة بهذه إلى الآيات السابقة بما تشتمل عليه من القوارع و الزواجر، و التذكرة الموعظة التي يذكر بها ما يعمل عليه.

و قوله: ﴿فَمَنْ شَاءَ مفعول ﴿شَاءَ محذوف و المعروف في مثل هذا المورد أن يقدر المفعول من جنس الجواب و السياق يلائمه، و التقدير فمن شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا اتخذ إلخ، و قيل: المقدر الاتعاظ، و المراد باتخاذ السبيل إليه اتخاذ السبيل إلى التقرب منه، و السبيل هو الإيمان و الطاعة هذا ما ذكره المفسرون.

و من الممكن أن تكون هذه إشارة إلى ما تقدم في صدر السورة من الآيات النادبة إلى قيام الليل و التهجد فيه، و الآية مسوقة لتوسعة الخطاب و تعميمه لغير النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من المؤمنين بعد ما كان خطاب صدر الصورة مختصا به (ص)، و الدليل على هذا التعميم قوله: ﴿فَمَنْ شَاءَ إلخ.

و يؤيد ما ذكرنا وقوع هذه الآية ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ إلخ بعينها في سورة الدهر بعد ما أشير إلى صلاة الليل بقوله تعالى: ﴿وَ سَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً و يستنتج من ذلك أن صلاة الليل سبيل خاصة تهدي العبد إلى ربه.

 

 

(بحث روائي)

 في الدر المنثور، أخرج البزار و الطبراني في الأوسط و أبو نعيم في الدلائل عن جابر قال : اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا: سموا هذا الرجل اسما يصدر الناس عنه فقالوا:

كاهن. قالوا ليس بكاهن. قالوا: مجنون. قالوا: ليس بمجنون. قالوا ساحر. قالوا: ليس بساحر. قالوا: يفرق بين الحبيب و حبيبه فتفرق المشركون على ذلك.

فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فتزمل في ثيابه و تدثر فيها فأتاه جبريل فقال: يا أيها المزمل يا أيها المدثر. أقول: آخر الرواية لا يخلو من شي‏ء حيث إن ظاهرها نزول السورتين معا. على أن القرآن حتى في سورة المدثر يحكي تسميتهم له (ص) بألقاب السوء كالكاهن و الساحر و المجنون و الشاعر و لم يذكر فيها قولهم: يفرق بين الحبيب و حبيبه.

 و فيه، أخرج عبد الله بن أحمد في كتاب الزهد و محمد بن نصر في كتاب الصلاة عن عائشة قالت : كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قلما ينام من الليل لما قال الله له: ﴿قُمِ اَللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً. و في الكشاف، عن عائشة :أنها سألت: ما كان تزميله؟ قالت: كان مرطا طوله أربع عشرة ذراعا نصفه علي و أنا نائمة و نصفه عليه و هو يصلي. فسئلت: ما كان؟ قالت: و الله ما كان خزا و لا قزا و لا مرعزيا و لا إبريسما و لا صوفا. كان سداه شعرا و لحمته وبرا. أقول: الرواية مرمية بالوضع فإن السورة من العتائق النازلة بمكة، و عائشة إنما بنى عليها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالمدينة بعد الهجرة.

 و عن جوامع الجامع، روي: أنه قد دخل على خديجة و قد جئث فرقا[6] فقال: زملوني فبينا هو على ذلك إذ ناداه جبريل: ﴿يَا أَيُّهَا اَلْمُزَّمِّلُ. و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت ﴿يَا أَيُّهَا اَلْمُزَّمِّلُ قُمِ اَللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً مكث النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على هذه الحال عشر سنين يقوم الليل كما أمره الله و كانت طائفة من أصحابه يقومون معه فأنزل الله بعد عشر سنين ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ إلى قوله﴿وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ فخفف الله عنهم بعد عشر سنين.

 أقول: و روي نزول آية التخفيف بعد سنة و روي أيضا نزولها بعد ثمانية أشهر، و لم يكن قيام الليل واجبا على غير النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كما أشير إليه بقوله تعالى ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ الآية كما تقدم، و يؤيده ما في الرواية من قوله: «و طائفة من أصحابه».

 و في التهذيب، بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : سألته عن قول الله تعالى: ﴿قُمِ اَللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً قال: أمره الله أن يصلي كل ليلة إلا أن تأتي عليه ليلة من الليالي لا يصلي فيها شيئا.

 أقول: الرواية تشير إلى أحد الوجوه في الآية و في المجمع،: و قيل: إن نصفه بدل من القليل فيكون بيانا للمستثنى، و يؤيد هذا القول‏ ما روي عن الصادق (عليه السلام) قال: القليل النصف أو انقص من القليل قليلا أو زد على القليل قليلا.

و في الدر المنثور، أخرج العسكري في المواعظ عن علي (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) سئل عن قول الله: ﴿وَ رَتِّلِ اَلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً قال: بينه تبيينا، و لا تنثره نثر الدقل، و لا تهذه هذ الشعر، قفوا عند عجائبه، و حركوا به القلوب، و لا يكن هم أحدكم آخر السورة.

أقول: و روي هذا المعنى في أصول الكافي، بإسناده عن عبد الله بن سليمان عن الصادق عن علي (عليه السلام) و لفظ بينه تبيينا و لا تهذه هذ الشعر، و لا تنثره نثر الرمل، و لكن أفرغوا[7]

قلوبكم القاسية و لا يكن هم أحدكم آخر السورة.

 و فيه، أخرج ابن أبي شيبة عن طاووس قال : سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أي الناس أحسن قراءة قال الذي إذا سمعته يقرأ رأيت أنه يخشى الله.

و في أصول الكافي، بإسناده عن علي بن أبي حمزة قال قال أبو عبد الله (عليه السلام) : إن القرآن لا يقرأ هذرمة[8] و لكن يرتل ترتيلا فإذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فقف عندها و اسأل الله عز و جل الجنة، و إذا مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها و تعوذ بالله من النار.

 و في المجمع، في معنى الترتيل عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : هو أن تتمكث فيه و تحسن به صوتك.

 

 

 و فيه، روي عن أم سلمة أنها قالت : كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقطع قراءته آية آية.

 و فيه، عن أنس قال: كان (ص) يمد صوته مدا. و فيه،: سأل الحارث بن هشام رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال : يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال (ص): أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس و هو أشد علي فيفصم‏[9] عني و قد وعيت ما قال و أحيانا يتمثل الملك رجلا فأعي ما يقول.

قالت عائشة: إنه كان ليوحي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو على راحلته فتضرب بجرانها.

قالت: و لقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد - فيفصم عنه و إن جبينه ليرفض عرقا.

و عن تفسير العياشي، بإسناده عن عيسى بن عبيد عن أبيه عن جده عن علي (عليه السلام) قال : كان القرآن ينسخ بعضه بعضا، و إنما يؤخذ من أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بآخره.

و كان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة نسخت ما قبلها و لم ينسخها شي‏ء لقد نزلت عليه و هو على بغلة شهباء و ثقل عليها الوحي حتى وقفت و تدلى بطنها حتى رأيت سرتها تكاد تمس الأرض.

 أقول: إن صحت الرواية كان ظهور أثر ثقل الوحي على الناقة أو البغلة من قبيل تجسم المعاني و كثيرا ما يوجد مثله فيما نقل من المعجزات و كرامات الأولياء، و أما اتصاف الوحي و هو كلام بالثقل المادي فغير معقول.

و في التهذيب، بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز و جل:

﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اَللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلاً قال: يعني بقوله: ﴿وَ أَقْوَمُ قِيلاً﴾ قيام الرجل عن فراشه يريد به الله عز و جل لا يريد به غيره:.

أقول: و رواه أيضا بسندين آخرين في التهذيب و العلل عن هشام عنه (عليه السلام).

 و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اَللَّيْلِ الآية: و المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) أنهما قالا: هي القيام في آخر الليل.

 

 

 و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن حسين بن علي أنه رئي يصلي بين المغرب و العشاء فقيل له في ذلك؟ فقال: إنهما من الناشئة.

 و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً: و روى محمد بن مسلم و زرارة و حمران عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) أن التبتل هذا رفع اليدين في الصلاة.

 و في رواية أبي بصير قال: هو رفع يدك إلى الله و تضرعك.

 أقول: و ينطبق على قنوت الصلاة، و في رواية هو رفع اليدين و تحريك السبابتين، و في رواية الإيماء بالإصبع و في رواية الدعاء بإصبع واحدة يشير بها.

 و فيه، :في قوله تعالى: ﴿وَ طَعَاماً ذَا غُصَّةٍ الآية :عن عبد الله بن عمر :أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) سمع قارئا يقرأ هذا فصعق.

 و في تفسير القمي، :في قوله: ﴿وَ كَانَتِ اَلْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً قال: مثل الرمل ينحدر.

[ سورة المزمل (٧٣): آیة ٢٠ ]

﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنىَ مِنْ ثُلُثَيِ اَللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ وَ طَائِفَةٌ مِنَ اَلَّذِينَ مَعَكَ وَ اَللَّهُ يُقَدِّرُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ اَلْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى‏ وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي اَلْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اَللَّهِ وَ آخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتُوا اَلزَّكَاةَ وَ أَقْرِضُوا اَللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَ مَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اَللَّهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً وَ اِسْتَغْفِرُوا اَللَّهَ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٢٠  

 

 

(بيان‏)

آية مبنية على التخفيف فيما أمر به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في صدر السورة من قيام الليل و الصلاة فيه ثم عمم الحكم لسائر المؤمنين بقوله: ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ الآية.

و لسان الآية هو التخفيف بما تيسر من القرآن من غير نسخ لأصل الحكم السابق بالمنع عن قيام ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه.

و قد ورد في غير واحد من الأخبار أن الآية مكية نزلت بعد ثمانية أشهر أو سنة أو عشر سنين من نزول آيات صدر السورة لكن يوهنه اشتمال الآية على قوله تعالى:

﴿وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتُوا اَلزَّكَاةَ وَ أَقْرِضُوا اَللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فإن ظاهره أن المراد بالزكاة و قد ذكرت قبلها الصلاة و بعدها الإنفاق المستحب هو الزكاة المفروضة و إنما فرضت الزكاة بالمدينة بعد الهجرة.

و قول بعضهم: إن الزكاة فرضت بمكة من غير تعيين الأنصباء و الذي فرض بالمدينة تعيين الأنصباء، تحكم من غير دليل، و كذا قول بعضهم: إنه من الممكن أن تكون الآية مما تأخر حكمه عن نزوله.

على أن في الآية ذكرا من القتال إذ يقول: ﴿وَ آخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ﴾ و لم يكن من مصلحة الدعوة الحقة يومئذ ذاك و الظرف ذلك الظرف أن يقع في متنها ذكر من القتال بأي وجه كان، فالظاهر أن الآية مدنية و ليست بمكية و قد مال إليه بعضهم.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى‏َ مِنْ ثُلُثَيِ اَللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ إلى آخر الآية. الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و في التعبير بقوله: ﴿رَبَّكَ تلويح إلى شمول الرحمة و العناية الإلهية، و كذا في قوله: ﴿يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ إلخ مضافا إلى ما فيه من لائحة الشكر قال تعالى: ﴿وَ كَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً: الدهر ٢٢.

و قوله: ﴿تَقُومُ أَدْنى‏َ مِنْ ثُلُثَيِ اَللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ أدنى‏ اسم تفضيل من الدنو بمعنى القرب، و قد جرى العرف على استعمال أدنى فيما يقرب من الشي‏ء و هو أقل فيقال:

إن عدتهم أدنى من عشرة إذا كانوا تسعة مثلا دون ما لو كانوا أحد عشر فمعنى قوله:

﴿أَدْنى‏َ مِنْ ثُلُثَيِ اَللَّيْلِ أقرب من ثلثيه و أقل بقليل.

 

 

 و الواو العاطفة في قوله: ﴿وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ لمطلق الجمع و المراد أنه يعلم أنك تقوم في بعض الليالي أدنى من ثلثي الليل و في بعضها نصفه و في بعضها ثلثه.

و قوله: ﴿وَ طَائِفَةٌ مِنَ اَلَّذِينَ مَعَكَ المراد المعية في الإيمان و ﴿مِنْ للتبعيض فالآية تدل على أن بعضهم كان يقوم الليل كما كان يقومه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) . و قيل «من» بيانية، و هو كما ترى.

و قوله: ﴿وَ اَللَّهُ يُقَدِّرُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ في مقام التعليل لقوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ و المعنى و كيف لا يعلم و هو الله الذي إليه الخلق و التقدير ففي تعيين قدر الليل و النهار تعيين ثلثهما و نصفهما و ثلثيهما، و نسبة تقدير الليل و النهار إلى اسم الجلالة دون اسم الرب و غيره لأن التقدير من شئون الخلق و الخلق إلى الله الذي إليه ينتهي كل شي‏ء.

و قوله: ﴿عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ اَلْقُرْآنِ الإحصاء تحصيل مقدار الشي‏ء و عدده و الإحاطة به، و ضمير ﴿لَنْ تُحْصُوهُ للتقدير أو للقيام مقدار ثلث الليل أو نصفه أو أدنى من ثلثيه، و إحصاء ذلك مع اختلاف الليالي طولا و قصرا في أيام السنة مما لا يتيسر لعامة المكلفين و يشتد عسرا لمن نام أول الليل و أراد القيام بأحد المقادير الثلاثة دون أن يحتاط بقيام جميع الليل أو ما في حكمه.

فالمراد بقوله: ﴿عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ علمه تعالى بعدم تيسر إحصاء المقدار الذي أمروا بقيامه من الليل لعامة المكلفين.

و المراد بقوله: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ توبته تعالى و رجوعه إليهم بمعنى انعطاف الرحمة الإلهية عليهم بالتخفيف فلله سبحانه توبة على عباده ببسط رحمته عليهم و أثرها توفيقهم للتوبة أو لمطلق الطاعة أو رفع بعض التكاليف أو التخفيف قال تعالى: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا: التوبة ١١٨.

كما أن له توبة عليهم بمعنى الرجوع إليهم بعد توبتهم و أثرها مغفرة ذنوبهم، و قد تقدمت الإشارة إليه.

و المراد بقوله: ﴿فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ اَلْقُرْآنِ التخفيف في قيام الليل من حيث المقدار لعامة المكلفين تفريعا على علمه تعالى أنهم لن يحصوه.

و لازم ذلك التوسعة في التكليف بقيام الليل من حيث المقدار حتى يسع لعامة المكلفين الشاق عليهم إحصاؤه دون النسخ بمعنى كون قيام الثلث أو النصف أو الأدنى من الثلثين

 

 

 لمن استطاع ذلك بدعة محرمة و ذلك أن الإحصاء المذكور إنما لا يتيسر لمجموع المكلفين لا لجميعهم و لو امتنع لجميعهم و لم يتيسر لأحدهم لم يشرع من أصله و لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

على أنه تعالى يصدق لنبيه (ص) و طائفة من الذين معه قيام الثلث و النصف و الأدنى من الثلثين و ينسب عدم التمكن من الإحصاء إلى الجميع و هم لا محالة هم القائمون و غيرهم فالحكم إنما كان شاقا على المجموع من حيث المجموع دون كل واحد فوسع في التكليف بقوله: ﴿فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ اَلْقُرْآنِ و سهل الأمر بالتخفيف ليكون لعامة المكلفين فيه نصيب مع بقاء الأصل المشتمل عليه صدر السورة على حاله لمن تمكن من الإحصاء و إرادة، و الحكم استحبابي لسائر المؤمنين و إن كان ظاهر ما للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من الخطاب الوجوب كما تقدمت الإشارة إليه.

و للقوم في كون المراد بقيام الليل الصلاة فيه أو قراءة القرآن خارج الصلاة، و على الأول في كونه واجبا على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين أو مستحبا للجميع أو واجبا على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مستحبا لغيره ثم في نسخ الحكم بالتخفيف بما تيسر بهذه الآية أو تبديل الصلاة من قراءة ما تيسر من القرآن أقوال لا كثير جدوى في التعرض لها و البحث عنها.

و قوله: ﴿عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى‏َ وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي اَلْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اَللَّهِ وَ آخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ إشارة إلى مصلحة أخرى مقتضية للتخفيف في أمر القيام ثلث الليل أو نصفه أو أدنى من ثلثيه، وراء كونه شاقا على عامة المكلفين بالصفة المذكورة أولا فإن الإحصاء المذكور للمريض و المسافر و المقاتل مع ما هم عليه من الحال شاق عسير جدا.

و المراد بالضرب في الأرض للابتغاء من فضل الله طلب الرزق بالمسافرة من أرض إلى أرض للتجارة.

و قوله: ﴿فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتُوا اَلزَّكَاةَ وَ أَقْرِضُوا اَللَّهَ قَرْضاً حَسَناً تكرار للتخفيف تأكيدا، و ضمير ﴿مِنْهُ للقرآن، و المراد الإتيان بالصلاة على ما يناسب سعة الوقت الذي قاموا فيه.

و المراد بالصلاة المأمور بإقامتها الفريضة فإن كانت الآية مدنية فالفرائض الخمس اليومية و إن كانت مكية فبحسب ما كانت مفروضة من الصلاة، و المراد بالزكاة الزكاة

 

 

 المفروضة، و المراد بإقراضه تعالى غير الزكاة من الإنفاقات المالية في سبيل الله.

و عطف الأمر بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و الإقراض للتلويح إلى أن التكاليف الدينية على حالها في وجوب الاهتمام بها و الاعتناء بأمرها، فلا يتوهمن متوهم سريان التخفيف و المسامحة في جميع التكاليف فالآية نظيرة قوله في آية النجوى: ﴿فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تَابَ اَللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتُوا اَلزَّكَاةَ وَ أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ: المجادلة: ١٣.

و قوله: ﴿وَ مَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اَللَّهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً ﴿مِنْ خَيْرٍ بيان للموصول، و المراد بالخير مطلق الطاعة أعم من الواجبة و المندوبة، و ﴿هُوَ ضمير فصل أو تأكيد للضمير في «تجدوه».

و المعنى: و الطاعة التي تقدمونها لأنفسكم أي لتعيشوا بها في الآخرة - تجدونها عند الله أي في يوم اللقاء خيرا من كل ما تعملون أو تتركون و أعظم أجرا.

و قوله: ﴿وَ اِسْتَغْفِرُوا اَللَّهَ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ختم الكلام بالأمر بالاستغفار، و في قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إشعار بوعد المغفرة و الرحمة، و لا يبعد أن يكون المراد بالاستغفار الإتيان بمطلق الطاعات لأنها وسائل يتوسل بها إلى مغفرة الله فالإتيان بها استغفار.

(بحث روائي)

 في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى‏ مِنْ ثُلُثَيِ اَللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ ففعل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ذلك و بشر الناس به فاشتد ذلك عليهم و ﴿عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ و كان الرجل يقوم و لا يدري متى ينتصف الليل و متى يكون الثلثان، و كان الرجل يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظه.

فأنزل الله ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ إلى قوله ﴿عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ يقول:

متى يكون النصف و الثلث نسخت هذه الآية ﴿فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ اَلْقُرْآنِ، و اعلموا أنه لم يأت نبي قط إلا خلا بصلاة الليل، و لا جاء نبي قط بصلاة الليل في أول الليل. أقول: محصل الرواية أن صدر السورة توجب صلاة الليل و ذيلها تنسخها، و روي ما يقرب منه من طرق أهل السنة عن ابن عباس و غيره، و قد تقدم ما يتعلق به في البيان السابق.

 

 

 و في المجمع، روى الحاكم أبو القاسم إبراهيم الحسكاني بإسناده عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿وَ طَائِفَةٌ مِنَ اَلَّذِينَ مَعَكَ قال: علي و أبو ذر.

و فيه،: في قوله تعالى: ﴿فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ: روي عن الرضا عن أبيه عن جده (عليه السلام) قال : ما تيسر منه لكم فيه خشوع القلب و صفاء السر.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ﴿فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ قال: مائة آية.

 و فيه، أخرج ابن مردويه عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : ما من جالب يجلب طعاما إلى بلد من بلاد المسلمين فيبيعه بسعر يومه إلا كانت منزلته عند الله منزلة الشهيد. ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ﴿وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي اَلْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اَللَّهِ وَ آخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ.

و في تفسير القمي، بإسناده عن زرعة عن سماعة قال : سألته عن قول الله: ﴿وَ أَقْرِضُوا اَللَّهَ قَرْضاً حَسَناً قال: هو غير الزكاة.

 و في الخصال، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث الأربعمائة: أكثروا الاستغفار تجلبوا الرزق، و قدموا ما استطعتم من عمل الخير تجدوه غدا.

 أقول: ذيله مأخوذ من قوله تعالى: ﴿وَ مَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اَللَّهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً.

 (٧٤) سورة المدثر مكية و هي ست و خمسون آية (٥٦)

[سورة المدثر (٧٤): الآیات ١ الی ٧]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا اَلْمُدَّثِّرُ ١ قُمْ فَأَنْذِرْ ٢ وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ ٣ وَ ثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ٤ وَ اَلرُّجْزَ فَاهْجُرْ ٥ وَ لاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ٦ وَ لِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ٧

 

 

(بيان‏)

تتضمن السورة أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالإنذار في سياق يلوح منه كونه من أوامر أوائل البعثة ثم الإشارة إلى عظم شأن القرآن الكريم و جلالة قدره، و الوعيد الشديد على من يواجهه بالإنكار و الرمي بالسحر، و ذم المعرضين عن دعوته.

و السورة مكية من العتائق النازلة في أوائل البعثة و ظهور الدعوة حتى قيل: إنها أول سورة نزلت من القرآن و إن كان يكذبه نفس آيات السورة الصريحة في سبق قراءته (ص) القرآن على القوم و تكذيبهم به و إعراضهم عنهم و رميهم له بأنه سحر يؤثر.

و لذا مال بعضهم إلى أن النازل أولا هي الآيات السبع الواقعة في أول السورة و لازمه كون السورة غير نازلة دفعة و هو و إن كان غير بعيد بالنظر إلى متن الآيات السبع لكن يدفعه سياق أول سورة العلق الظاهر في كونه أول ما نزل من القرآن.

و احتمل بعضهم أن تكون السورة أول ما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عند الأمر بإعلان الدعوة بعد إخفائها مدة في أول البعثة فهي في معنى قوله: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ: الحجر ٩٤، و بذلك جمع بين ما ورد من أنها أول ما نزل، و ما ورد أنها نزلت بعد سورة العلق، و ما ورد أن سورتي المزمل و المدثر نزلتا معا، و هذا القول لا يتعدى طور الاحتمال.

و كيف كان فالمتيقن أن السورة من أوائل ما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من السور القرآنية، و الآيات السبع التي نقلناها تتضمن الأمر بالإنذار و سائر الخصال التي تلزمه مما وصاه الله به.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلْمُدَّثِّرُ المدثر بتشديد الدال و الثاء أصله المتدثر اسم فاعل من التدثر بمعنى التغطي بالثياب عند النوم.

و المعنى: يا أيها المتغطي بالثياب للنوم خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد كان على هذه الحال فخوطب بوصف مأخوذ من حاله تأنيسا و ملاطفة نظير قوله: ﴿يَا أَيُّهَا اَلْمُزَّمِّلُ.

و قيل.: المراد بالتدثر تلبسه (ص) بالنبوة بتشبيهها بلباس يتحلى به و يتزين و قيل:

المراد به اعتزاله (ص) و غيبته عن النظر فهو خطاب له بما كان عليه في غار حراء، و قيل: المراد به الاستراحة و الفراغ فكأنه قيل له (ص): يا أيها المستريح الفارغ قد

 

 

 انقضى زمن الراحة و أقبل زمن متاعب التكاليف و هداية الناس.

و هذه الوجوه و إن كانت في نفسها لا بأس بها لكن الذي يسبق إلى الذهن هو المعنى الأول.

قوله تعالى: ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ الظاهر أن المراد به الأمر بالإنذار من غير نظر إلى من ينذر فالمعنى افعل الإنذار، و ذكر بعضهم أن مفعول الفعل محذوف، و التقدير أنذر عشيرتك الأقربين لمناسبته لابتداء الدعوة كما ورد في سورة الشعراء.

و ذكر آخرون أن المفعول المحذوف عام و هو جميع الناس لقوله: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ: سبأ: ٢٨.

و لم يذكر التبشير مع الإنذار مع أنهما كالمتلازمين في تمام الدعوة لأن السورة مما نزل في ابتداء الدعوة و الإنذار هو الغالب إذ ذاك.

قوله تعالى: ﴿وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ أي أنسب ربك إلى الكبرياء و العظمة اعتقادا و عملا قولا و فعلا و هو تنزيهه تعالى من أن يعادله أو يفوقه شي‏ء فلا شي‏ء يشاركه أو يغلبه أو يمانعه، و لا نقص يعرضه، و لا وصف يحده.

و لذا ورد عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) أن معنى التكبير: الله أكبر من أن يوصف، فهو تعالى أكبر من كل وصف نصفه به حتى من هذا الوصف، و هذا هو المناسب للتوحيد الإسلامي الذي يفوق ما نجده من معنى التوحيد في سائر الشرائع السماوية.

و هذا الذي ذكرناه هو الفرق بين كلمتي التكبير و التسبيح الله أكبر و سبحان الله فسبحان الله تنزيه له تعالى عن كل وصف عدمي مبني على النقص كالموت و العجز و الجهل و غير ذلك، و الله أكبر تنزيه مطلق له تعالى عن كل وصف نصفه به أعم من أن يكون عدميا أو وجوديا حتى من نفس هذا الوصف لما أن كل مفهوم محدود في نفسه لا يتعدى إلى غيره من المفاهيم و هو تعالى لا يحيط به حد، فافهم ذلك.

و قيل: المراد الأمر بالتكبير في الصلاة.

و التعبير عنه تعالى بربك لا يخلو من إشعار بأن توحيده تعالى يومئذ كان يختص به.

قال في الكشاف، في قوله: ﴿فَكَبِّرْ و دخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل: و ما كان فلا تدع تكبيره.

 

 

قوله تعالى: ﴿وَ ثِيَابَكَ فَطَهِّرْ قيل: كناية عن إصلاح العمل، و لا يخلو من وجه فإن العمل بمنزلة الثياب للنفس بما لها من الاعتقاد فالظاهر عنوان الباطن، و كثيرا ما يكنى في كلامهم عن صلاح العمل بطهارة الثياب.

و قيل: كناية عن تزكية النفس و تنزيهها عن الذنوب و المعاصي.

و قيل: المراد تقصير الثياب لأنه أبعد من النجاسة و لو طالت و انجرت على الأرض لم يؤمن أن تتنجس.

و قيل: المراد تطهير الأزواج من الكفر و المعاصي لقوله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ البقرة ١٨٧.

و قيل: الكلام على ظاهره و المراد تطهير الثياب من النجاسات للصلاة و الأقرب على هذا أن يجعل قوله: ﴿وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ إشارة إلى تكبير الصلاة و تكون الآيتان مسوقتين لتشريع أصل الصلاة مقارنا للأمر بالدعوة.

و لا يرد عليه ما قيل: إن نزول هذه الآيات كان حيث لا صلاة أصلا و ذلك أن تشريع الفرائض الخمس اليومية على ما هي عليها اليوم و إن كان في ليلة المعراج و هي جميعا عشر ركعات ثم زيد عليها سبع ركعات إلا أن أصل الصلاة كان منذ أوائل البعثة كما يشهد به ذكرها في هذه السورة و سورتي العلق و المزمل، و يدل عليه الروايات.

و قيل: المراد بتطهير الثياب التخلق بالأخلاق الحميدة و الملكات الفاضلة.

و في معنى تطهير الثياب أقوال أخر أغمضنا عن نقلها لإمكان إرجاعها إلى بعض ما تقدم من الوجوه، و أرجح الوجوه المتقدمة أولها و خامسها.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلرُّجْزَ فَاهْجُرْ قيل: الرجز بضم الراء و كسرها العذاب، و المراد بهجره هجر سببه و هو الإثم و المعصية، و المعنى اهجر الإثم و المعصية.

و قيل: الرجز اسم لكل قبيح مستقذر من الأفعال و الأخلاق فالأمر بهجره أمر بترك كل ما يكرهه الله و لا يرتضيه مطلقا، أو أمر بترك خصوص الأخلاق الرذيلة الذميمة على تقدير أن يكون المراد بتطهير الثياب ترك الذنوب و المعاصي.

و قيل: الرجز هو الصنم فهو أمر بترك عبادة الأصنام.

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ الذي يعطيه سياق الآيات و يناسب المقام أن يكون المراد بالمن تكدير الصنيعة بذكرها للمنعم عليه كما في قوله تعالى: ﴿لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ اَلْأَذى‏َ: البقرة: ٢٦٤، و قوله: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا: الحجرات ١٧ و المراد بالاستكثار رؤية الشي‏ء و حسبانه كثيرا لا طلب الكثرة.

و المعنى: لا تمنن امتثالك لهذه الأوامر و قيامك بالإنذار و تكبيرك ربك و تطهيرك ثيابك و هجرك الرجز حال كونك ترى ذلك كثيرا و تعجبه - فإنما أنت عبد لا تملك من نفسك شيئا إلا ما ملكك الله و أقدرك عليه و هو المالك لما ملكك و القادر على ما عليه أقدرك فله الأمر و عليك الامتثال -.

و للقوم في الآية وجوه أخر من التفسير لا تلائم السياق تلك الملاءمة فقيل المعنى لا تعط عطية لتعطى أكثر منها.

و قيل: المعنى لا تمنن ما أعطاك الله من النبوة و القرآن على الناس مستكثرا به الأجر.

و قيل: أي لا تمنن إبلاغ الرسالة على أمتك.

و قيل: المعنى لا تضعف في عملك مستكثرا لطاعاتك.

و قيل: المعنى لا تمنن بعطائك على الناس مستكثرا له.

و قيل: أي إذا أعطيت عطية فأعطها لربك و اصبر حتى يكون هو الذي يثيبك.

و قيل: هو نهي عن الربا المحرم أي لا تعط شيئا طالبا أن تعطي أكثر مما أعطيت.

قوله تعالى: ﴿وَ لِرَبِّكَ فَاصْبِرْ أي لوجه ربك، و الصبر مطلق يشمل الصبر عند المصيبة و الصبر على الطاعة و الصبر عن المعصية، و المعنى و لوجه ربك فاصبر عند ما يصيبك من المصيبة و الأذى في قيامك بالإنذار و امتثالك هذه الأوامر و اصبر على طاعة الله و اصبر عن معصيته، و هذا معنى جامع لمتفرقات ما ذكروه في تفسير الآية كقول بعضهم: إنه أمر بنفس الفعل من غير نظر إلى متعلقه، و قول بعضهم: إنه الصبر على أذى المشركين، و قول بعضهم: إنه الصبر على أداء الفرائض، إلى غير ذلك.

 

 

[1]  أي ردية و خبيثه‏

[2]  كما في الآية من سورة فاطر

[3]  إذ لو لا المعاد بما فيه من الحساب و الجزاء لم يكن للتقوى الديني وجه، منه.

[4]  و إنما أخذناه بما نعرفه من صفاته الفعلية لأن من المنسوب إليهم أنهم ينكرون صفاته الذاتية و يفسرونها بسلب النقائص فمعنى كونه حيا قديرا عليما عندهم أنه ليس بميت و لا عاجز و لا جاهل على أن الآيات أيضا تصفه بالصفات الفعلية، منه.

[5]  هذا بناء على رجوع الضمير إلى الرسول و أما بناء على احتمال رجوع الضمير إلى الغيب فالدال عليه مجموع «من بين يديه و من خلفه» لكنه ضعيف كما تقدم.

[6]  جئث الرجل ثقل عند القيام أو عند حمل شي‏ء ثقيل و الفرق: الفزع و الخوف.

[7]  أفرغ الإناء: أخلاه.

[8]  الهذرمة: الإسراع في القراءة.

[9]  الفصم: القطع.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=2126
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 05 / 22
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 03