• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء التاسع عشر) ، تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده) .
                    • الموضوع : من ص 1 الى ص 82 .

من ص 1 الى ص 82

 

 

 

الميزان في تفسير القرآن

الجزء التاسع عشر

 

 

 

 

 

 

تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سرّه

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تمتاز هذه الطبعه عن غیرها بالتحقیق و التصحیح الکامل

واضافات و تغییرات هامه من قبل المولف

 

 

(٥٢) سورة الطور مكية، و هي تسع و أربعون آية (٤٩)

[سورة الطور (٥٢): الآیات ١ الی ١٠]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ وَ اَلطُّورِ ١ وَ كِتَابٍ مَسْطُورٍ ٢ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ ٣ وَ اَلْبَيْتِ اَلْمَعْمُورِ ٤ وَ اَلسَّقْفِ اَلْمَرْفُوعِ ٥ وَ اَلْبَحْرِ اَلْمَسْجُورِ ٦ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ٧ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ٨ يَوْمَ تَمُورُ اَلسَّمَاءُ مَوْراً ٩ وَ تَسِيرُ اَلْجِبَالُ سَيْراً ١٠

(بيان)

غرض السورة إنذار أهل التكذيب و العناد من الكفار بالعذاب الذي أعد لهم يوم القيامة فتبدأ بالإنباء عن وقوع العذاب الذي أنذروا به و تحققه يوم القيامة بأقسام مؤكدة و أيمان مغلظة، و أنه غير تاركهم يومئذ حتى يقع بهم و لا مناص.

ثم تذكر نبذة من صفة هذا العذاب و الويل الذي يعمهم و لا يفارقهم ثم تقابل ذلك بشمة من نعيم أهل النعيم يومئذ و هم المتقون الذين كانوا في الدنيا مشفقين في أهلهم يدعون الله مؤمنين به موحدين له.

ثم تأخذ في توبيخ المكذبين على ما كانوا يرمون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ما أنزل عليه من القرآن و ما أتي به من الدين الحق.

 

 

 و تختم الكلام بتكرار التهديد و الوعيد و أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بتسبيح ربه. و السورة مكية كما يشهد بذلك سياق آياتها.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلطُّورِ قيل: الطور مطلق الجبل و قد غلب استعماله في الجبل الذي كلم الله عليه موسى (عليه السلام)، و الأنسب أن يكون المراد به في الآية جبل موسى (عليه السلام) أقسم الله تعالى به لما قدسه و بارك فيه كما أقسم به في قوله: ﴿وَ طُورِ سِينِينَ: التين: ٢، و قال: ﴿وَ نَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ اَلطُّورِ اَلْأَيْمَنِ: مريم: ٥٢، و قال في خطابه لموسى (عليه السلام) :

﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ اَلْمُقَدَّسِ طُوىً: طه: ١٢، و قال: ﴿نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ اَلْوَادِ اَلْأَيْمَنِ فِي اَلْبُقْعَةِ اَلْمُبَارَكَةِ مِنَ اَلشَّجَرَةِ: القصص: ٣٠.

و قيل: المراد مطلق الجبل أقسم الله تعالى به لما أودع فيه من أنواع نعمه قال تعالى: ﴿وَ جَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَ بَارَكَ فِيهَا: حم السجدة: ١٠.

قوله تعالى: ﴿وَ كِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ قيل: الرق‏ مطلق ما يكتب فيه و قيل: هو الورق، و قيل: الورق المأخوذ من الجلد، و النشر هو البسط، و التفريق.

و المراد بهذا الكتاب قيل: هو اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه ما كان و ما يكون و ما هو كائن تقرؤه ملائكة السماء، و قيل: المراد به صحائف الأعمال تقرؤه حفظة الأعمال من الملائكة، و قيل: هو القرآن كتبه الله في اللوح المحفوظ، و قيل: هو التوراة و كانت تكتب في الرق و تنشر للقراءة.

و الأنسب بالنظر إلى الآية السابقة هو القول الأخير.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلْبَيْتِ اَلْمَعْمُورِ قيل: المراد به الكعبة المشرفة فإنها أول بيت وضع للناس و لم يزل معمورا منذ وضع إلى يومنا هذا قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَ هُدىً لِلْعَالَمِينَ: آل عمران: ٩٦.

و في الروايات المأثورة أن البيت المعمور بيت في السماء بحذاء الكعبة تزوره الملائكة.

و تنكير ﴿كِتَابٍ للإيماء إلى استغنائه عن التعريف فهو تنكير يفيد التعريف و يستلزمه.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلسَّقْفِ اَلْمَرْفُوعِ هو السماء.

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ اَلْبَحْرِ اَلْمَسْجُورِ قال الراغب: السجر تهييج النار، و في المجمع،:

المسجور المملوء يقال: سجرت التنور أي ملأتها نارا، و قد فسرت الآية بكل من المعنيين و يؤيد المعنى الأول قوله: ﴿وَ إِذَا اَلْبِحَارُ سُجِّرَتْ: التكوير: ٦، أي سعرت و قد ورد في الحديث أن البحار تسعر نارا يوم القيامة، و قيل: المراد أنها تغيض مياهها بتسجير النار فيها.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ جواب القسم السابق و المراد بالعذاب المخبر بوقوعه عذاب يوم القيامة الذي أوعد الله به الكفار المكذبين كما تشير إليه الآية التالية، و في قوله: ﴿مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ دلالة على أنه من القضاء المحتوم الذي لا محيص عن وقوعه قال تعالى: ﴿وَ أَنَّ اَلسَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَ أَنَّ اَللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ: الحج: ٧.

و في قوله: ﴿عَذَابَ رَبِّكَ بنسبة العذاب إلى الرب المضاف إلى ضمير الخطاب دون أن يقال: عذاب الله تأييد للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على مكذبي دعوته و تطييب لنفسه أن ربه لا يخزيه يومئذ كما قال: ﴿يَوْمَ لاَ يُخْزِي اَللَّهُ اَلنَّبِيَّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: التحريم: ٨.

قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَمُورُ اَلسَّمَاءُ مَوْراً وَ تَسِيرُ اَلْجِبَالُ سَيْراً ظرف لقوله: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ.

و المو على ما في المجمع، تردد الشي‏ء بالذهاب و المجي‏ء كما يتردد الدخان ثم يضمحل، و يقرب منه قول الراغب: إنه الجريان السريع.

و على أي حال فيه إشارة إلى انطواء العالم السماوي كما يذكره تعالى في مواضع من كلامه كقوله: ﴿إِذَا اَلسَّمَاءُ اِنْفَطَرَتْ وَ إِذَا اَلْكَوَاكِبُ اِنْتَثَرَتْ: الانفطار: ٢، و قوله:

﴿يَوْمَ نَطْوِي اَلسَّمَاءَ كَطَيِّ اَلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ: الأنبياء: ١٠٤، و قوله: ﴿وَ اَلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ: الزمر: ٦٧.

كما أن قوله: ﴿وَ تَسِيرُ اَلْجِبَالُ سَيْراً إشارة إلى زلزلة الساعة في الأرض التي يذكرها تعالى في مواضع من كلامه كقوله: ﴿إِذَا رُجَّتِ اَلْأَرْضُ رَجًّا وَ بُسَّتِ اَلْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا: الواقعة: ٦، و قوله: ﴿وَ سُيِّرَتِ اَلْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً: النبأ: ٢٠.

 

 

 (بحث روائي)

في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿وَ اَلطُّورِ وَ كِتَابٍ مَسْطُورٍ قال: الطور جبل بطور سيناء.

و في المجمع، ﴿وَ اَلْبَيْتِ اَلْمَعْمُورِ و هو بيت في السماء الرابعة بحيال الكعبة يعمره الملائكة بما يكون منها فيه من العبادة :عن ابن عباس و مجاهد، و روي أيضا عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:. و يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه أبدا.

أقول: كون البيت المعمور بيتا في السماء يطوف عليه الملائكة واقع في عدة أحاديث من طرق الفريقين غير أنها مختلفة في محله ففي أكثرها أنه في السماء الرابعة و في بعضها أنه في السماء الأولى، و في بعضها السابعة.

 و فيه،: ﴿وَ اَلسَّقْفِ اَلْمَرْفُوعِ و هو السماء عن علي (عليه السلام) . و في تفسير القمي، : ﴿وَ اَلسَّقْفِ اَلْمَرْفُوعِ قال: السماء، ﴿وَ اَلْبَحْرِ اَلْمَسْجُورِ قال:

تسجر يوم القيامة.

و في المجمع، : ﴿وَ اَلْبَحْرِ اَلْمَسْجُورِ أي المملوء. عن قتادة، و قيل: هو الموقد المحمي بمنزلة التنور. عن مجاهد و الضحاك و الأخفش و ابن زيد. ثم قيل: إنه تحمى البحار يوم القيامة فتجعل نيرانا ثم تفجر بعضها في بعض ثم تفجر إلى النار :.ورد به الحديث.

[سورة الطور (٥٢): الآیات ١١ الی ٢٨]

﴿فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ١١ اَلَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ١٢ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلىَ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ١٣ هَذِهِ اَلنَّارُ اَلَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ١٤ أَ فَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ ١٥ اِصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لاَ تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ١٦ إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَعِيمٍ ١٧ فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَ وَقَاهُمْ

 

 

رَبُّهُمْ عَذَابَ اَلْجَحِيمِ ١٨ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ١٩ مُتَّكِئِينَ عَلى‏ سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَ زَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ٢٠ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اِتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ مَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ كُلُّ اِمْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ٢١ وَ أَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَ لَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ٢٢ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَ لَغْوٌ فِيهَا وَ لاَ تَأْثِيمٌ ٢٣ وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ٢٤ وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ٢٥ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ٢٦ فَمَنَّ اَللَّهُ عَلَيْنَا وَ وَقَانَا عَذَابَ اَلسَّمُومِ ٢٧ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ اَلْبَرُّ اَلرَّحِيمُ ٢٨

(بيان)

تذكر الآيات من يقع عليهم هذا العذاب الذي لا ريب في تحققه و وقوعه، و تصف حالهم إذ ذاك، و هذا هو الغرض الأصيل في السورة كما تقدمت الإشارة إليه و أما ما وقع في الآيات من وصف حال المتقين يومئذ فهو من باب التطفل لتأكيد الإنذار المقصود.

قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ تفريع على ما دلت عليه الآيات السابقة من تحقق وقوع العذاب يوم القيامة أي إذا كان الأمر كما ذكر و لم يكن محيص عن وقوع العذاب فويل لمن يقع عليه و هم المكذبون لا محالة فالجملة تدل على كون المعذبين هم المكذبين بالاستلزام و على تعلق الويل بهم بالمطابقة.

أو التقدير إذا كان العذاب واقعا لا محالة و لا محالة لا يقع إلا على المكذبين لأنهم الكافرون بالله المكذبون ليوم القيامة فويل يومئذ لهم، فالدال على تعلق العذاب بالمكذبين

 

 

 هو قوله: ﴿عَذَابَ رَبِّكَ لأن عذاب الله إنما يقع على من دعاه فلم يجبه و كذب دعوته.

قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ الخوض‏ هو الدخول في باطل القول قال الراغب: الخوض‏ هو الشروع في الماء و المرور فيه، و يستعار في الأمور و أكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذم الشروع فيه انتهى، و تنوين التنكير في ﴿خَوْضٍ يدل على صفة محذوفة أي في خوض عجيب.

و لما كان الاشتغال بباطل القول لا يفيد نتيجة حقة إلا نتيجة خيالية يزينها الوهم للخائض سماه لعبا و اللعب من الأفعال ما ليس له إلا الأثر الخيالي .

و المعنى: الذين هم مستمرون في خوض عجيب يلعبون بالمجادلة في آيات الله و إنكارها و الاستهزاء بها.

قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى‏َ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا الدع‏ هو الدفع الشديد، و الظاهر أن ﴿يَوْمَ بيان لقوله: ﴿يَوْمَئِذٍ.

قوله تعالى: ﴿هَذِهِ اَلنَّارُ اَلَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أي يقال لهم: هذه النار التي كنتم بها تكذبون، و المراد بالتكذيب بالنار التكذيب بما أخبر به الأنبياء (عليه السلام) بوحي من الله من وجود هذه النار و أنه سيعذب بها المجرمون و محصل المعنى هذه مصداق ما أخبر به الأنبياء فكذبتم به.

قوله تعالى: ﴿أَ فَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ تفريع على قوله: ﴿هَذِهِ اَلنَّارُ اَلَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ و الاستفهام للإنكار تفريعا لهم أي إذا كانت هذه هي تلك النار التي كنتم تكذبون بها فليس هذا سحرا كما كنتم ترمون إخبار الأنبياء بها أنه سحر و ليس هذا أمرا موهوما خرافيا كما كنتم تتفوهون به بل أمر مبصر معاين لكم فالآية في معنى قوله تعالى: ﴿وَ يَوْمَ يُعْرَضُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى اَلنَّارِ أَ لَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ: الأحقاف: ٣٤.

و بما مر من المعنى يظهر أن ﴿أَمْ في قوله: ﴿أَمْ أَنْتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ متصلة و قيل:

منقطعة و لا يخلو من بعد.

قوله تعالى: ﴿اِصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لاَ تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، الصلي‏ بالفتح فالسكون مقاساة حرارة النار فمعنى اصلوها قاسوا حرارة نار جهنم.

 

 

 و قوله: ﴿فَاصْبِرُوا أَوْ لاَ تَصْبِرُوا تفريع على الأمر بالمقاساة، و الترديد بين الأمر و النهي كناية عن مساواة الفعل و الترك، و لذا أتبعه بقوله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أي هذه المقاساة لازمة لكم لا تفارقكم سواء صبرتم أو لم تصبروا فلا الصبر يرفع عنكم العذاب أو يخففه و لا الجزع و ترك الصبر ينفع لكم شيئا.

و قوله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ خبر مبتدإ محذوف أي هما سواء و إفراد ﴿سَوَاءٌ لكونه مصدرا في الأصل.

و قوله: ﴿إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في مقام التعليل لما ذكر من ملازمة العذاب و مساواة الصبر و الجزع.

و المعنى: إنما يلازمكم هذا الجزاء السيئ و لا يفارقكم لأنكم تجزون بأعمالكم التي كنتم تعملونها و لا تسلب نسبة العمل عن عامله فالعذاب يلازمكم أو إنما تجزون بتبعات ما كنتم تعملون و جزائه.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَعِيمٍ الجنة البستان تجنيه الأشجار و تستره، و النعيم‏ النعمة الكثيرة أي إن المتصفين بتقوى الله يومئذ في جنات يسكنون فيها و نعمة كثيرة تحيط بهم.

قوله تعالى: ﴿فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَ وَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ اَلْجَحِيمِ الفاكهة مطلق الثمرة، و قيل: هي الثمرة غير العنب و الرمان، و يقال: تفكه و فكه إذا تعاطى الفكاهة، و تفكه و فكه إذا تناول الفاكهة، و قد فسرت الآية بكل من المعنيين فقيل:

المعنى: يتحدثون بما آتاهم ربهم من النعيم، و قيل: المعنى: يتناولون الفواكه و الثمار التي آتاهم ربهم، و قيل: المعنى: يتلذذون بإحسان ربهم و مرجعه إلى المعنى الأول، و قيل:

معناه فاكهين معجبين بما آتاهم ربهم، و لعل مرجعه إلى المعنى الثاني.

و تكرار ﴿رَبُّهُمْ في قوله: ﴿وَ وَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ اَلْجَحِيمِ لإفادة مزيد العناية بهم.

قوله تعالى: ﴿كُلُوا وَ اِشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي يقال لهم: كلوا و اشربوا أكلا و شربا هنيئا أو طعاما و شرابا هنيئا، فهنيئا وصف قائم مقام مفعول مطلق أو مفعول به.

و قوله: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ متعلق بقوله: ﴿كُلُوا وَ اِشْرَبُوا أو بقوله: ﴿هَنِيئاً.

 

 

قوله تعالى: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلى‏َ سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَ زَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ الاتكاء الاعتماد على الوسادة و نحوها، و السرر جمع سرير، و مصفوفة من الصف أي مصطفة موصولة بعضها ببعض، و المعنى: متكئين على الوسائد و النمارق قاعدين على سرر مصطفة.

و قوله: ﴿وَ زَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ المراد بالتزويج القرن أي قرناهم بهن دون النكاح بالعقد، و الدليل عليه تعديه بالباء فإن التزويج بمعنى النكاح بالعقد متعد بنفسها، قال تعالى: ﴿زَوَّجْنَاكَهَا: الأحزاب: ٣٧ كذا قيل.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اِتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ مَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إلخ، قيل: الفرق بين الاتباع و اللحوق مع اعتبار التقدم و التأخر فيهما جميعا أنه يعتبر في الاتباع اشتراك بين التابع و المتبوع في مورد الاتباع بخلاف اللحوق فاللاحق لا يشارك الملحوق في ما لحق به فيه.

و لات و ألات‏ بمعنى نقص فمعنى ما ألتناهم ما نقصناهم شيئا من عملهم بالإلحاق.

و ظاهر الآية أنها في مقام الامتنان فهو سبحانه يمتن على الذين آمنوا أنه سيلحق بهم ذريتهم الذين اتبعوهم بإيمان فتقر بذلك أعينهم، و هذا هو القرينة على أن التنوين في ﴿بِإِيمَانٍ للتنكير دون التعظيم.

و المعنى: اتبعوهم بنوع من الإيمان و إن قصر عن درجة إيمان آبائهم إذ لا امتنان لو كان إيمانهم أكمل من إيمان آبائهم أو مساويا له.

و إطلاق الاتباع في الإيمان منصرف إلى اتباع من يصح منه في نفسه الإيمان ببلوغه حدا يكلف به فالمراد بالذرية الأولاد الكبار المكلفون بالإيمان فالآية لا تشمل الأولاد الصغار الذين ماتوا قبل البلوغ، و لا ينافي ذلك كون صغار أولاد المؤمنين محكومين بالإيمان شرعا.

اللهم إلا أن يستفاد العموم من تنكير الإيمان و يكون المعنى: و اتبعتهم ذريتهم بإيمان ما سواء كان إيمانا في نفسه أو إيمانا بحسب حكم الشرع.

و كذا الامتنان قرينة على أن الضمير في قوله: ﴿وَ مَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ للذين آمنوا كالضميرين في قوله: ﴿وَ اِتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ إذ قوله: ﴿وَ مَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ مسوق حينئذ لدفع توهم ورود النقص في الثواب على تقرير الإلحاق و هو ينافي

 

 

 الامتنان و من المعلوم أن الذي ينافي الامتنان هو النقص في ثواب الآباء الملحق بهم دون الذرية.

فتحصل أن قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا إلخ، استئناف يمتن تعالى فيه على الذين آمنوا بأنه سيلحق بهم أولادهم الذين اتبعوهم بنوع من الإيمان و إن كان قاصرا عن درجة إيمانهم لتقر به أعينهم، و لا ينقص مع ذلك من ثواب عمل الآباء بالإلحاق شي‏ء بل يؤتيهم مثل ما آتاهم أو بنحو لا تزاحم فيه على ما هو أعلم به.

و في معنى الآية أقوال أخر لا تخلو من سخافة كقول بعضهم إن قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا معطوف على ﴿بِحُورٍ عِينٍ و المعنى: و زوجناهم بحور عين و بالذين آمنوا يتمتعون من الحور العين بالنكاح و بالذين آمنوا بالرفاقة و الصحبة، و قول بعضهم: إن المراد بالذرية صغار الأولاد فقط، و قول بعضهم: إن الضميرين في ﴿وَ مَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ للذرية و المعنى: و ما نقصنا الذرية من عملهم شيئا بسبب إلحاقهم بآبائهم بل نوفيهم أعمالهم من خير أو شر ثم نلحقهم بآبائهم.

و قوله: ﴿كُلُّ اِمْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ تعليل لقوله: ﴿وَ مَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ على ما يفيده السياق، و الرهن و الرهين و المرهون‏ ما يوضع وثيقة للدين على ما ذكره الراغب قال: و لما كان الرهن يتصور منه حبسه أستعير ذلك لحبس أي شي‏ء كان. انتهى.

و لعل هذا المعنى الاستعاري هو المراد في الآية و المرء رهن مقبوض و محفوظ عند الله سبحانه بما كسبه من خير أو شر حتى يوفيه جزاء ما عمله من ثواب أو عقاب فلو نقص شيئا من عمله و لم يوفه ذلك لم يكن رهين ما كسب بل رهين بعض ما عمل و امتلك بعضه الآخر غيره كذريته الملحقين به.

و أما قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ اَلْيَمِينِ: المدثر: ٣٩، فالمراد كونها رهينة العذاب يوم القيامة كما يشهد به سياق ما بعده من قوله: ﴿فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ اَلْمُجْرِمِينَ: المدثر: ٤١.

و قيل: المراد كون المرء رهين عمله السيئ كما تدل عليه آية سورة المدثر المذكورة آنفا بشهادة استثناء أصحاب اليمين، و الآية أعني قوله: ﴿كُلُّ اِمْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ جملة معترضة من صفات أهل النار اعترضت في صفات أهل الجنة.

 

 

 و حمل صاحب الكشاف الآية على نوع من الاستعارة فرفع به التنافي بين الآيتين قال: كان نفس العبد رهن عند الله بالعمل الصالح الذي هو مطالب به كما يرهن الرجل عبده بدين عليه فإن عمل صالحا فكها و خلصها و إلا أوبقها. انتهى.

و أنت خبير بأن مجرد ما ذكره لا يوجه اتصال الجملة أعني قوله: ﴿كُلُّ اِمْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ بما قبلها.

قوله تعالى: ﴿وَ أَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَ لَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ بيان لبعض تتماتهم و تمتعاتهم في الجنة المذكورة إجمالا في قوله السابق: ﴿كُلُوا وَ اِشْرَبُوا هَنِيئاً إلخ.

و الإمداد الإتيان بالشي‏ء وقتا بعد وقت و يستعمل في الخير كما أن المد يستعمل في الشر قال تعالى: ﴿وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ اَلْعَذَابِ مَدًّا: مريم: ٧٩.

و المعنى: أنا نرزقهم بالفاكهة و ما يشتهونه من اللحم رزقا بعد رزق و وقتا بعد وقت من غير انقطاع.

قوله تعالى: ﴿يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَ لَغْوٌ فِيهَا وَ لاَ تَأْثِيمٌ التنازع‏ في الكأس تعاطيها و الاجتماع على تناولها، و الكأس‏ القدح و لا يطلق الكأس إلا فيما كان فيها الشراب.

و المراد باللغو لغو القول الذي يصدر من شاربي الخمر في الدنيا، و التأثيم‏ جعل الشخص ذا إثم و هو أيضا من آثار الخمر في الدنيا، و نفي اللغو و التأثيم هو القرينة على أن المراد بالكأس التي يتنازعون فيها كأس الخمر.

قوله تعالى: ﴿وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ المراد به طوافهم عليهم للخدمة قال بعضهم: قيل: ﴿غِلْمَانٌ لَهُمْ بالتنكير و لم يقل: غلمانهم لئلا يتوهم أن المراد بهم غلمانهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا فهم كالحور من مخلوقات الجنة كأنهم لؤلؤ مكنون مخزون في الحسن و الصباحة و الصفا.

قوله تعالى: ﴿وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى‏َ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ أي يسأل كل منهم غيره عن حاله في الدنيا و ما الذي ساقه إلى الجنة و النعيم؟.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ قال الراغب: و الإشفاق‏ عناية مختلطة بخوف لأن المشفق يحب المشفق عليه و يخاف ما يلحقه قال تعالى: ﴿وَ هُمْ مِنَ اَلسَّاعَةِ

 

 

 مُشْفِقُونَ فإذا عدي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر، و إذا عدي بفي فمعنى العناية فيه أظهر قال تعالى: ﴿إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ، انتهى.

فالمعنى: أنا كنا في الدنيا ذوي إشفاق في أهلنا نعتني بسعادتهم و نجاتهم من مهلكة الضلال فنعاشرهم بجميل المعاشرة و نسير فيهم ببث النصيحة و الدعوة إلى الحق.

قوله تعالى: ﴿فَمَنَّ اَللَّهُ عَلَيْنَا وَ وَقَانَا عَذَابَ اَلسَّمُومِ المن‏ على ما ذكره الراغب الإنعام بالنعمة الثقيلة و يكون بالفعل و هو حسن، و بالقول و هو قبيح من غيره تعالى، قال تعالى: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اَللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ: الحجرات: ١٧.

و منه تعالى على أهل الجنة إسعاده إياهم لدخولها بالرحمة و تمامه بوقايتهم عذاب السموم.

و السموم على ما ذكره الطبرسي الحر الذي يدخل في مسام البدن يتألم به و منه ريح السموم.

قوله تعالى: ﴿إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ اَلْبَرُّ اَلرَّحِيمُ تعليل لقوله: ﴿فَمَنَّ اَللَّهُ عَلَيْنَا إلخ، كما أن قوله: ﴿إِنَّهُ هُوَ اَلْبَرُّ اَلرَّحِيمُ تعليل له.

و تفيد هذه الآية مع الآيتين قبلها أن هؤلاء كانوا في الدنيا يدعون الله بتوحيده للعبادة و التسليم لأمره و كانوا مشفقين في أهلهم يقربونهم من الحق و يجنبونهم الباطل فكان ذلك سببا لمن الله عليهم بالجنة و وقايتهم من عذاب السموم، و إنما كان ذلك سببا لذلك لأنه تعالى بر رحيم فيحسن لمن دعاه و يرحمه.

فالآيات الثلاث في معنى قوله: ﴿إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ وَ تَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ: العصر: ٣.

و البر من أسماء الله تعالى الحسنى، و هو من البر بمعنى الإحسان، و فسره بعضهم باللطيف.

(بحث روائي)

 في الكافي، بإسناده عن أبي بكر عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في قول الله عز و جل:

﴿وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اِتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ قال: فقال: قصرت الأبناء

 

 

عن عمل الآباء فألحقوا الأبناء بالآباء لتقر بذلك أعينهم.:

أقول: و رواه أيضا في التوحيد، بإسناده إلى أبي بكر الحضرمي عنه (عليه السلام) .

 و في تفسير القمي، حدثني أبي عن سليمان الديلمي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن أطفال شيعتنا من المؤمنين تربيهم فاطمة (عليه السلام) ، و قوله: ﴿أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ قال: يهدون إلى آبائهم يوم القيامة.:

أقول: و روي في المجمع، ذيل الحديث عنه (عليه السلام) مرسلا. و في التوحيد، بإسناده عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) : إذا مات الطفل من أطفال المؤمنين نادى مناد في ملكوت السماوات و الأرض ألا إن فلان بن فلان قد مات فإن كان قد مات والداه أو أحدهما أو بعض أهل بيته من المؤمنين دفع إليه يغذوه، و إلا دفع إلى فاطمة تغذوه حتى يقدم أبواه أو أحدهما أو بعض أهل بيته من المؤمنين فيدفعه إليه.

 و في الفقيه،: و في رواية الحسن بن محبوب عن علي عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى كفل إبراهيم و سارة أطفال المؤمنين يغذوانهم بشجرة في الجنة لها أخلاف كأخلاف البقر في قصر من درة فإذا كان يوم القيامة ألبسوا و طيبوا و أهدوا إلى آبائهم فهم ملوك في الجنة مع آبائهم، و هذا قول الله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اِتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ.

 و في المجمع، روى زاذان عن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن المؤمنين و أولادهم في الجنة، ثم قرأ هذه الآية.

 و في الدر المنثور، أخرج البزار و ابن مردويه عن ابن عباس رفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إن الله يرفع ذرية المؤمن إليه في درجته و إن كانوا دونه في العمل ثم قرأ ﴿وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اِتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ مَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ قال:

و ما نقصنا الآباء بما أعطينا الأبناء. و فيه، أخرج الطبراني و ابن مردويه عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه و ذريته و ولده فيقال: إنهم لم يبلغوا درجتك و عملك فيقول:

يا رب قد عملت لي و لهم فيؤمر بإلحاقهم به و قرأ ابن عباس: ﴿وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اِتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ الآية.

 

 

 أقول: و الآية لا تشمل الآباء المذكورين في الحديث، و الأنسب للدلالة عليه ما ذكره تعالى في دعاء الملائكة ﴿رَبَّنَا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ اَلَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَ أَزْوَاجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ الآية: المؤمن: ٨.

و في تفسير القمي، ":قوله: ﴿لاَ لَغْوٌ فِيهَا وَ لاَ تَأْثِيمٌ قال: ليس في الجنة غناء و لا فحش، و يشرب المؤمن و لا يأثم ﴿وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قال: في الجنة.

[سورة الطور (٥٢): الآیات ٢٩ الی ٤٤]

﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَ لاَ مَجْنُونٍ ٢٩ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ اَلْمَنُونِ ٣٠ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُتَرَبِّصِينَ ٣١ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ٣٢ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لاَ يُؤْمِنُونَ ٣٣ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ٣٤ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ‏ءٍ أَمْ هُمُ اَلْخَالِقُونَ ٣٥ أَمْ خَلَقُوا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بَلْ لاَ يُوقِنُونَ ٣٦ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ اَلْمُصَيْطِرُونَ ٣٧ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ٣٨ أَمْ لَهُ اَلْبَنَاتُ وَ لَكُمُ اَلْبَنُونَ ٣٩ أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ٤٠ أَمْ عِنْدَهُمُ اَلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ٤١ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ اَلْمَكِيدُونَ ٤٢ أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اَللَّهِ سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا

 

 

يُشْرِكُونَ ٤٣ وَ إِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ اَلسَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ ٤٤

(بيان)

لما أخبر عن العذاب الواقع يوم القيامة و أنه سيصيب المكذبين، و المتقون في جنات و نعيم قريرة العيون أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يمضي في دعوته و تذكرته مشيرا إلى أنه صالح لإقامة الدعوة الحقة، و لا عذر لهؤلاء المكذبين في تكذيبه و رد دعوته.

فنفى جميع الأعذار المتصورة لهم و هي ستة عشر أمرا شطر منها راجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لو تحقق شي‏ء منه فيه سلب صلاحيته للاتباع و كان مانعا عن قبول قوله ككونه كاهنا أو مجنونا أو شاعرا أو متقولا مفتريا على الله و كسؤاله الأجر على دعوته و شطر منها راجع إلى المكذبين أنفسهم مثل كونهم خلقوا من غير شي‏ء أو كونهم الخالقين أو أمر عقولهم بالتكذيب إلى غير ذلك و لا تخلو الآيات مع ذلك عن توبيخهم الشديد على التكذيب.

قوله تعالى: ﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَ لاَ مَجْنُونٍ تفريع على ما مر من الإخبار المؤكد بوقوع العذاب الإلهي يوم القيامة، و أنه سيغشى المكذبين و المتقون في وقاية منه متلذذون بنعيم الجنة.

فالآية في معنى أن يقال: إذا كان هذا حقا فذكر فإنما تذكر و تنذر بالحق و لست كما يرمونك كاهنا أو مجنونا.

و تقييد النفي بقوله: ﴿بِنِعْمَةِ رَبِّكَ يفيد معنى الامتنان على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) خاصة و ليس هذا الامتنان الخاص من جهة مجرد انتفاء الكهانة و الجنون فأكثر الناس على هذه الصفة بل من وجهه تلبسه (ص) بالنعمة الخاصة به المانع من عروض هذه الصفات عليه من كهانة أو جنون و غير ذلك.

قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ اَلْمَنُونِ أم منقطعة، و التربص‏

 

 

 الانتظار، و في مجمع البيان،: التربص‏ الانتظار بالشي‏ء من انقلاب حال له إلى خلافها و المنون‏ المنية و الموت، و الريب‏ القلق و الاضطراب. فريب المنون قلق الموت.

و محصل المعنى: بل يقولون هو أي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) شاعر ننتظر به الموت حتى يموت و يخمد ذكره و ينسى رسمه فنستريح منه.

قوله تعالى: ﴿قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُتَرَبِّصِينَ أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يأمرهم بالتربص كما رضوا لأنفسهم ذلك، و هو أمر تهديدي أي تربصوا كما ترون لأنفسكم ذلك فإن هناك أمر من حقه أن ينتظر وقوعه، و أنا أنتظره مثلكم لكنه عليكم لا لكم و هو هلاككم و وقوع العذاب عليكم.

قوله تعالى: ﴿أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَذَا الأحلام‏ جمع حلم و هو العقل، و أم منقطعة و الكلام بتقدير الاستفهام و الإشارة بهذا إلى ما يقولونه للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و يتربصون به.

و المعنى: بل أ تأمرهم عقولهم أن يقولوا هذا الذي يقولونه و يتربصوا به الموت؟ فأي عقل يدفع الحق بمثل هذه الأباطيل؟.

قوله تعالى: ﴿أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ أي إن عقولهم لم تأمرهم بهذا بل هم طاغون حملهم على هذا طغيانهم.

قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لاَ يُؤْمِنُونَ قال في المجمع،: التقول‏ تكلف القول و لا يقال ذلك إلا في الكذب، و المعنى بل يقولون: افتعل القرآن و نسبه إلى الله كذبا و افتراء. لا بل لا يؤمنون فيرمونه بهذه الفرية.

قوله تعالى: ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ جواب عن قولهم: ﴿تَقَوَّلَهُ بأنه لو كان كلاما للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان كلاما بشريا مماثلا لسائر الكلام و يماثله سائر الكلام فكان يمكنهم أن يأتوا بحديث مثله فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين في دعواهم التقول بل هو كلام إلهي لائحة عليه دلائل الإعجاز يعجز البشر عن إتيان مثله، و قد تقدم الكلام في وجوه إعجاز القرآن في تفسير سورة البقرة الآية ٢٣ تفصيلا.

و يمكن أن تؤخذ الآية ردا لجميع ما تقدم من قولهم المحكي إنه كاهن أو مجنون أو

 

 

 شاعر أو متقول لأن عجز البشر عن الإتيان بمثله يأبى إلا أن يكون كلام الله سبحانه لكن الأظهر ما تقدم.

قوله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ‏ءٍ أَمْ هُمُ اَلْخَالِقُونَ إتيان ﴿شَيْ‏ءٍ منكرا بتقدير صفة تناسب المقام و التقدير من غير شي‏ء خلق منه غيرهم من البشر.

و المعنى: بل أ خلق هؤلاء المكذبون من غير شي‏ء خلق منه غيرهم من البشر فصلح لإرسال الرسول و الدعوة إلى الحق و التلبس بعبوديته تعالى فهؤلاء لا يتعلق بهم تكليف و لا يتوجه إليهم أمر و لا نهي و لا تستتبع أعمالهم ثوابا و لا عقابا لكونهم مخلوقين من غير ما خلق منه غيرهم.

و في معنى الجملة أقوال أخر.

فقيل: المراد أم أحدثوا و قدروا هذا التقدير البديع من غير مقدر و خالق فلا حاجة لهم إلى خالق يدبر أمرهم.

و قيل: المراد أم خلقوا من غير شي‏ء حي فهم لا يؤمرون و لا ينهون كالجمادات.

و قيل: المعنى أم خلقوا من غير علة و لا لغاية ثواب و عقاب فهم لذلك لا يسمعون.

و قيل: المعنى أم خلقوا باطلا لا يحاسبون و لا يؤمرون و لا ينهون.

و ما قدمناه من المعنى أقرب إلى لفظ الآية و أشمل.

و قوله: ﴿أَمْ هُمُ اَلْخَالِقُونَ أي لأنفسهم فليسوا مخلوقين لله سبحانه حتى يربهم و يدبر أمرهم بالأمر و النهي.

قوله تعالى: ﴿أَمْ خَلَقُوا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بَلْ لاَ يُوقِنُونَ أي أم أخلقوا العالم حتى يكونوا أربابا آلهة و يجلوا من أن يستعبدوا و يكلفوا بتكليف العبودية بل هم قوم لا يوقنون.

قوله تعالى: ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ اَلْمُصَيْطِرُونَ أي بل أ عندهم خزائن ربك حتى يرزقوا النبوة من شاءوا و يمسكوها عمن شاءوا فيمنعوك النبوة و الرسالة.

و قوله: ﴿أَمْ هُمُ اَلْمُصَيْطِرُونَ السيطرة و ربما يقلب سينها صادا الغلبة و القهر و المعنى: بل أ هم الغالبون القاهرون على الله سبحانه حتى يسلبوا عنك ما رزقك الله من النبوة و الرسالة.

 

 

قوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ السلم‏ المرقاة ذات الدرج التي يتوسل بالصعود فيه إلى الأمكنة العالية، و الاستماع مضمن معنى الصعود، و السلطان‏ الحجة و البرهان.

و المعنى: بل أ عندهم سلم يصعدون فيه إلى السماء فيستمعون بالصعود فيه الوحي فيأخذون ما يوحى إليهم و يردون غيره؟ فليأت مستمعهم أي المدعي للاستماع منهم بحجة ظاهرة.

قوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُ اَلْبَنَاتُ وَ لَكُمُ اَلْبَنُونَ قيل: فيه تسفيه لعقولهم حيث نسبوا إليه تعالى ما أنفوا منه.

قوله تعالى: ﴿أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ قال الراغب: الغرم‏ بالضم فالسكون ما ينوب الإنسان في ماله من ضرر لغير جناية منه أو خيانة انتهى و الإثقال تحميل الثقل و هو كناية عن المشقة.

و المعنى: بل أ تسألهم أجرا على تبليغ رسالتك فهم يتحرجون عن تحمل الغرم الذي ينوبهم بتأدية الأجر؟.

قوله تعالى: ﴿أَمْ عِنْدَهُمُ اَلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ذكر بعضهم أن المراد بالغيب اللوح المحفوظ المكتوب فيه الغيوب و المعنى: بل أ عندهم اللوح المحفوظ يكتبون منه و يخبرون به الناس فما أخبروا به عنك من الغيب الذي لا ريب فيه.

و قيل: المراد بالغيب علم الغيب، و بالكتابة الإثبات و المعنى: بل أ عندهم علم الغيب فهم يثبتون ما علموه شرعا للناس عليهم أن يطيعوهم فيما أثبتوا، و قيل: يكتبون بمعنى يحكمون.

قوله تعالى: ﴿أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ اَلْمَكِيدُونَ الكيد ضرب من الاحتيال على ما ذكره الراغب، و في المجمع،: الكيد هو المكر، و قيل: هو فعل ما يوجب الغيظ في خفية. انتهى.

ظاهر السياق أن المراد بكيدهم هو مكرهم بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بما رموه به من الكهانة و الجنون و الشعر و التقول ليعرض عنه الناس و يبتعدوا عنه فتبطل بذلك دعوته و ينطفئ نوره، و هذا كيد منهم و مكر بأنفسهم حيث يحرمون لها السعادة الخالدة و الركوب على

 

 

 صراط الحق بذلك بل كيد من الله بقطع التوفيق عنهم و الطبع على قلوبهم.

و قيل: المراد بالكيد الذي يريدونه هو ما كان منهم في حقه (ص) في دار الندوة و المراد بالذين كفروا المذكورون من المكذبين و هم أصحاب دار الندوة، و قد قلب الله كيدهم إلى أنفسهم فقتلهم يوم بدر، و الكلام على هذا من الإخبار بالغيب لنزول السورة قبل ذلك بكثير، و هو بعيد من السياق.

قوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اَللَّهِ سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ فإنهم إذا كان لهم إله غير الله كان هو الخالق لهم و المدبر لأمرهم فاستغنوا بذلك عن الله سبحانه و استجابة دعوة رسوله و نصرهم إلههم و دفع عنهم عذاب الله الذي أوعد به المكذبين و أنذرهم به رسوله.

و قوله: ﴿سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ تنزيه له تعالى أن يكون له شريك كما يدعون، و ما في قوله: ﴿عَمَّا يُشْرِكُونَ مصدرية أي سبحانه عن شركهم.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ اَلسَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ الكسف‏ بالكسر فالسكون القطعة، و المركوم‏ المتراكم الواقع بعضه على بعض.

و المعنى: أن كفرهم و إصرارهم على تكذيب الدعوة الحقة بلغ إلى حيث لو رأوا قطعة من السماء ساقطا عليهم لقالوا سحاب متراكم ليست من آية العذاب في شي‏ء فهو كقوله: ﴿وَ لَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ اَلسَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا : الحجر: ١٥.

[سورة الطور (٥٢): الآیات ٤٥ الی ٤٩]

﴿فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمُ اَلَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ٤٥ يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَ لاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ٤٦ وَ إِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٤٧ وَ اِصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ٤٨ وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ إِدْبَارَ اَلنُّجُومِ ٤٩

 

 

 (بيان)

الآيات تختم السورة و تأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يترك أولئك المكذبين و شأنهم و لا يتعرض لحالهم، و أن يصبر لحكم ربه و يسبح بحمده، و في خلالها مع ذلك تكرار إيعادهم بما أوعدهم به في أول السورة من عذاب واقع ليس له من دافع، و تضيف إليه الإيعاد بعذاب آخر دون ذلك للذين ظلموا.

قوله تعالى: ﴿فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمُ اَلَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ذرهم‏ أمر بمعنى اتركهم و هو فعل لم يستعمل من تصريفاته إلا المستقبل و الأمر، و «يصعقون» من الإصعاق بمعنى الإماتة و قيل: من الصعق بمعنى الإماتة.

لما أنذر سبحانه المكذبين لدعوته بعذاب واقع لا ريب فيه ثم رد جميع ما تعلل به أو يفرض أن يتعلل به أولئك المكذبون، و ذكر أنهم في الإصرار على الباطل بحيث لو عاينوا أوضح آية للحق أولوه و ردوه، أمر نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يتركهم و شأنهم، و هو تهديد كنائي بشمول العذاب لهم و حالهم هذه الحال.

و المراد باليوم الذي فيه يصعقون يوم نفخ الصور الذي يصعق فيه من في السماوات و الأرض و هو من أشراط الساعة قال تعالى: ﴿وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ: الزمر: ٦٨.

و يؤيد هذا المعنى قوله في الآية التالية: ﴿يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَ لاَ هُمْ يُنْصَرُونَ فإن انتفاء إغناء الكيد و النصر من خواص يوم القيامة الذي يسقط فيه عامة الأسباب و الأمر يومئذ لله.

و استشكل بأنه لا يصعق يوم النفخ إلا من كان حيا و هؤلاء ليسوا بأحياء يومئذ و الجواب أنه يصعق فيه جميع من في الدنيا من الأحياء و من في البرزخ من الأموات و هؤلاء إن لم يكونوا في الدنيا ففي البرزخ.

على أنه يمكن أن يكون ضمير ﴿يُصْعَقُونَ راجعا إلى الأحياء يومئذ، و التهديد إنما هو بالعذاب الواقع في هذا اليوم لا بالصعقة التي فيه.

و قيل: المراد به يوم بدر و هو بعيد، و قيل: المراد به يوم الموت، و فيه أنه لا

 

 

 يلائم السياق الظاهر في التهديد بما وقع في أول السورة و هو عذاب يوم القيامة لا عذاب يوم الموت.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ لا يبعد أن يكون المراد به عذاب القبر، و قوله: ﴿وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مشعر بأن فيهم من يعلم ذلك لكنه يصر على كفره و تكذيبه عنادا و قيل: المراد به يوم بدر لكن ذيل الآية لا يلائمه تلك الملاءمة.

قوله تعالى: ﴿وَ اِصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا عطف على قوله: ﴿فَذَرْهُمْ و ظاهر السياق أن المراد بالحكم حكمه تعالى في المكذبين بالإمهال و الإملاء و الطبع على قلوبهم، و في النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يدعو إلى الحق بما فيه من الأذى في جنب الله فالمراد بقوله:

﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا إنك بمرأى منا نراك بحيث لا يخفى علينا شي‏ء من حالك و لا نغفل عنك ففي تعليل الصبر بهذه الجملة تأكيد للأمر بالصبر و تشديد للخطاب.

و قيل: المراد بقوله: ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا إنك في حفظنا و حراستنا فالعين مجاز عن الحفظ، و لعل المعنى المتقدم أنسب للسياق.

قوله تعالى: ﴿وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ إِدْبَارَ اَلنُّجُومِ الباء في ﴿بِحَمْدِ للمصاحبة أي سبح ربك و نزهه حال كونه مقارنا لحمده.

و المراد بقوله: ﴿حِينَ تَقُومُ قيل هو القيام من النوم، و قيل: هو القيام من القائلة، فهو صلاة الظهر، و قيل: هو القيام من المجلس، و قيل: هو كل قيام، و قيل:

هو القيام إلى الفريضة و قيل: هو القيام إلى كل صلاة، و قيل: هو الركعتان قبل فريضة الصبح سبعة أقوال كما ذكره الطبرسي.

و قوله: ﴿وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ أي من الليل فسبح ربك فيه، و المراد به صلاة الليل، و قيل: المراد صلاتا المغرب و العشاء الآخرة.

و قوله: ﴿وَ إِدْبَارَ اَلنُّجُومِ قيل: المراد به وقت إدبار النجوم و هو اختفاؤها بضوء الصبح، و هو الركعتان قبل فريضة الصبح، و قيل: المراد فريضة الصبح، و قيل:

المراد تسبيحه تعالى صباحا و مساء من غير غفلة عن ذكره.

 

 

(بحث روائي)

 في تفسير القمي، ":في قوله تعالى: ﴿وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ قال: لصلاة الليل ﴿فَسَبِّحْهُ قال: صلاة الليل.:

أقول: و روي هذا المعنى في مجمع البيان، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) .

 و فيه، بإسناده عن الرضا (عليه السلام) قال: أدبار السجود أربع ركعات بعد المغرب و إدبار النجوم ركعتان قبل صلاة الصبح.:

أقول: و روي ذيله في المجمع، عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) ، و القمي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) . و قد ورد من طرق أهل السنة في عدة من الروايات: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان إذا قام من مجلسه سبح الله و حمده و يقول: إنه كفارة المجلس‏ لكنها غير ظاهرة في كونها تفسيرا للآية.

(٥٣) سورة النجم مكية و هي اثنان و ستون آية (٦٢)

[سورة النجم (٥٣): الآیات ١ الی ١٨]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ وَ اَلنَّجْمِ إِذَا هَوىَ ١ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَ مَا غَوىَ ٢ وَ مَا يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوىَ ٣ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى‏ ٤ عَلَّمَهُ شَدِيدُ اَلْقُوى‏َ٥ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى‏ ٦ وَ هُوَ بِالْأُفُقِ اَلْأَعْلى‏ ٧ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ٨ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى‏ ٩ فَأَوْحى‏ إِلى‏ عَبْدِهِ مَا أَوْحى‏ ١٠ مَا كَذَبَ اَلْفُؤَادُ

 

 

مَا رَأى‏ ١١ أَ فَتُمَارُونَهُ عَلى‏ مَا يَرى‏ ١٢ وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى‏ ١٣ عِنْدَ سِدْرَةِ اَلْمُنْتَهى‏ ١٤ عِنْدَهَا جَنَّةُ اَلْمَأْوى‏ ١٥ إِذْ يَغْشَى اَلسِّدْرَةَ مَا يَغْشى‏ ١٦ مَا زَاغَ اَلْبَصَرُ وَ مَا طَغى‏ ١٧ لَقَدْ رَأى‏ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ اَلْكُبْرى‏ ١٨

(بيان)

غرض السورة تذكير الأصول الثلاثة: وحدانيته تعالى في ربوبيته و المعاد و النبوة فتبدأ بالنبوة فتصدق الوحي إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تصفه ثم تتعرض للوحدانية فتنفي الأوثان و الشركاء أبلغ النفي ثم تصف انتهاء الخلق و التدبير إليه تعالى من إحياء و إماتة و إضحاك و إبكاء و إغناء و إقناء و إهلاك و تعذيب و دعوة و إنذار، و تختم الكلام بالإشارة إلى المعاد و الأمر بالسجدة و العبادة.

و السورة مكية بشهادة سياق آياتها و لا يصغي إلى قول بعضهم بكون بعض آياتها أو كلها مدنية، و قد قيل: إنها أول سورة أعلن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بقراءتها فقرأها على المؤمنين و المشركين جميعا، و من غرر الآيات فيها قوله تعالى: ﴿وَ أَنَّ إِلى‏ رَبِّكَ اَلْمُنْتَهى‏ و قوله:

﴿وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعى‏.

و ما أوردناه من الآيات هي الفصل الأول من فصول السورة الثلاثة و هي الآيات اللاتي تصدق الوحي إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تصفه، لكن هناك روايات مستفيضة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) ناصة على أن المراد بالآيات ليس بيان صفة كل وحي بل بيان وحي المشافهة الذي أوحاه الله سبحانه إلى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) ليلة المعراج فالآيات متضمنة لقصة المعراج و ظاهر الآيات لا يخلو من تأييد لهذه الروايات و هو المستفاد أيضا من أقوال بعض الصحابة كابن عباس و أنس و أبي سعيد الخدري و غيرهم على ما روي عنهم و على ذلك جرى كلام المفسرين و إن اشتد الخلاف بينهم في تفسير مفرداتها و جملها.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلنَّجْمِ إِذَا هَوى‏َ ظاهر الآية أن المراد بالنجم هو مطلق الجرم

 

 

 السماوي المضي‏ء و قد أقسم الله في كتابه بكثير من خلقه و منها عدة من الأجرام السماوية كالشمس و القمر و سائر السيارات، و على هذا فالمراد بهوى النجم سقوطه للغروب.

و قيل: المراد بالنجم القرآن لنزوله نجوما، و قيل: الثريا، و قيل: الشعري، و قيل: الشهاب الذي يرمى به شياطين الجن لأن العرب تسميه نجما، و للهوى ما يناسب لكل من هذه الأقوال من المعنى، لكن لفظ الآية لا يساعد على شي‏ء من هذه المعاني.

قوله تعالى: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَ مَا غَوى‏َ الضلال‏ الخروج و الانحراف عن الصراط المستقيم، و الغي‏ خلاف الرشد الذي هو إصابة الواقع، قال الراغب: الغي‏ جهل من اعتقاد فاسد، و ذلك أن الجهل قد يكون من كون الإنسان غير معتقد اعتقادا لا صالحا و لا فاسدا و قد يكون من اعتقاد شي‏ء فاسد، و هذا النحو الثاني يقال له غي، قال تعالى: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَ مَا غَوى‏َ. انتهى. و المراد بالصاحب هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .

و المعنى: ما خرج صاحبكم عن الطريق الموصل إلى الغاية المطلوبة و لا أخطأ في اعتقاده و رأيه فيها، و يرجع المعنى إلى أنه لم يخطئ لا في الغاية المطلوبة التي هي السعادة الإنسانية و هو عبوديته تعالى، و لا في طريقها التي تنتهي إليها.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوى‏َ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى‏َ المراد بالهوى هوى النفس و رأيها، و النطق و إن كان مطلقا ورد عليه النفي و كان مقتضاه نفي الهوى عن مطلق نطقه (ص) لكنه لما كان خطابا للمشركين و هم يرمونه في دعوته و ما يتلو عليهم من القرآن بأنه كاذب متقول مفتر على الله سبحانه كان المراد بقرينة المقام أنه (ص) ما ينطق فيما يدعوكم إلى الله أو فيما يتلوه عليكم من القرآن عن هوى نفسه و رأيه بل ليس ذلك إلا وحيا يوحى إليه من الله سبحانه.

قوله تعالى: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ اَلْقُوى‏َ ضمير ﴿عَلَّمَهُ للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو للقرآن بما هو وحي أو لمطلق الوحي و المفعول الآخر لعلمه محذوف على أي حال و التقدير علم النبي الوحي أو علم القرآن أو الوحي إياه.

و المراد بشديد القوى على ما قالوا جبريل و قد وصفه الله بالقوة في قوله:

﴿ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي اَلْعَرْشِ مَكِينٍ: التكوير: ٢٠، و قيل: المراد به هو الله سبحانه.

قوله تعالى: ﴿ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى‏َ المرة بكسر الميم الشدة، و حصافة العقل

 

 

 و الرأي و بناء نوع عن المرور و قد فسرت المرة في الآية بكل من المعاني الثلاثة مع القول بأن المراد بذي مرة جبريل، و المعنى: هو أي جبريل ذو شدة في جنب الله أو هو ذو حصافة في عقله و رأيه، أو هو ذو نوع من المرور بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو في الهواء.

و قيل: المراد بذو مرة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فهو ذو شدة في جنب الله أو ذو حصافة في عقله و رأيه أو ذو نوع من المرور عرج فيه إلى السماوات.

و قوله: ﴿فَاسْتَوى‏َ بمعنى استقام أو استولى و ضمير الفاعل راجع إلى جبريل و المعنى: فاستقام جبريل على صورته الأصلية التي خلق عليها على ما روي أن جبريل كان ينزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في صور مختلفة، و إنما ظهر له في صورته الأصلية مرتين أو المعنى:

فاستولى جبريل بقوته على ما جعل له من الأمر.

و إن كان الضمير للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فالمعنى فاستقام و استقر.

قوله تعالى: ﴿وَ هُوَ بِالْأُفُقِ اَلْأَعْلى‏َ الأفق‏ الناحية قيل: المراد بالأفق الأعلى ناحية الشرق من السماء لأن أفق المشرق فوق المغرب في صعيد الأرض لا في الهواء و هو كما ترى و الظاهر أن المراد به أفق أعلى من السماء من غير اعتبار كونه أفقا شرقيا.

و ضمير هو في الآية راجع إلى جبريل أو إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و الجملة حال من ضمير ﴿فَاسْتَوى‏َ.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى الدنو القرب، و التدلي‏ التعلق بالشي‏ء و يكنى به عن شدة القرب، و قيل: الامتداد إلى جهة السفل مأخوذ من الدلو.

و المعنى: على تقدير رجوع الضميرين لجبريل: ثم قرب جبريل فتعلق بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ليعرج به إلى السماوات، و قيل: ثم تدلى جبريل من الأفق الأعلى فدنا من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ليعرج به.

و المعنى: على تقدير رجوع الضميرين إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : ثم قرب النبي من الله سبحانه و زاد في القرب.

قوله تعالى: ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى‏َ قال في المجمع: القاب و القيب و القاد و القيد عبارة عن مقدار الشي‏ء انتهى. و القوس‏ معروفة و هي آلة الرمي، و يقال قوس على الذراع في لغة أهل الحجاز على ما قيل.

 

 

و المعنى: فكان البعد قدر قوسين أو قدر ذراعين أو أقرب من ذلك.

و قيل: القاب ما بين مقبض القوس و سيتها ففي الكلام قلب و المعنى: فكان قابي قوس، و اعترض عليه بأن قابي قوس و قاب قوسين واحد فلا موجب للقلب.

قوله تعالى: ﴿فَأَوْحى‏َ إِلى‏َ عَبْدِهِ مَا أَوْحى‏َ ضمير أوحى في الموضعين لجبريل على تقدير رجوع الضمائر السابقة إلى جبريل، و المعنى: فأوحى جبريل إلى عبد الله و هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ما أوحى، قيل: و لا ضير في رجوع الضمير إليه تعالى من عدم سبق الذكر لكونه في غاية الوضوح. أو الضمائر الثلاث لله و المعنى: فأوحى الله بتوسط جبريل إلى عبده ما أوحى أو الضمير الأول لجبريل و الثاني و الثالث لله و المعنى فأوحى جبريل ما أوحى الله إليه إلى عبد الله.

و الضمائر الثلاث كلها لله على تقدير رجوع الضمائر السابقة إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المعنى:

فأوحى الله إلى عبده ما أوحى، و هذا المعنى أقرب إلى الذهن من المعنى السابق الذي لا يرتضيه الذوق السليم و إن كان صحيحا.

قوله تعالى: ﴿مَا كَذَبَ اَلْفُؤَادُ مَا رَأى‏َ الكذب‏ خلاف الصدق يقال: كذب فلان في حديثه، و يقال: كذبه الحديث بالتعدي إلى مفعولين أي حدثه كذبا، و الكذب كما يطلق على القول و الحديث الذي يلفظه اللسان كذلك يطلق على خطاء القوة المدركة يقال: كذبته عينه أي أخطأت في رؤيتها.

و نفي الكذب عن الفؤاد إنما هو بهذا المعنى سواء أخذ الكذب لازما و التقدير ما كذب الفؤاد فيما رأى أو متعديا إلى مفعولين، و التقدير ما كذب الفؤاد فؤاد النبي النبي ما رآه أي إن رؤية فؤاده فيما رآه رؤية صادقة.

و على هذا فالمراد بالفؤاد فؤاد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و ضمير الفاعل في ﴿مَا رَأى‏َ راجع إلى الفؤاد و الرؤية رؤيته.

و لا بدع في نسبة الرؤية و هي مشاهدة العيان إلى الفؤاد فإن للإنسان نوعا من الإدراك الشهودي وراء الإدراك بإحدى الحواس الظاهرة و التخيل و التفكر بالقوى الباطنة كما إننا نشاهد من أنفسنا أننا نرى و ليست هذه المشاهدة العيانية إبصارا بالبصر و لا معلوما بفكر، و كذا نرى من أنفسنا أننا نسمع و نشم و نذوق و نلمس و نشاهد أننا

 

 

 نتخيل و نتفكر و ليست هذه الرؤية ببصر أو بشي‏ء من الحواس الظاهرة أو الباطنة فإنا كما نشاهد مدركات كل واحدة من هذه القوى بنفس تلك القوة كذلك نشاهد إدراك كل منا لمدركها و ليس هذه المشاهدة بنفس تلك القوة بل بأنفسنا المعبر عنها بالفؤاد.

و ليس في الآية ما يدل على أن متعلق الرؤية هو الله سبحانه و أنه لمرئي له (ص) بل المرئي هو الأفق الأعلى و الدنو و التدلي و أنه أوحى إليه فهذه هي المذكورة في الآيات السابقة و هي آيات له تعالى، و يؤيد ذلك ما ذكره تعالى في النزلة الأخرى من قوله: ﴿مَا زَاغَ اَلْبَصَرُ وَ مَا طَغى‏َ لَقَدْ رَأى‏َ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ اَلْكُبْرى‏َ.

على أنها لو دلت على تعلق الرؤية به تعالى لم يكن به بأس فإنها رؤية القلب و رؤية القلب غير رؤية البصر الحسية التي تتعلق بالأجسام و يستحيل تعلقها به تعالى و قد قدمنا كلاما في رؤية القلب في تفسير سورة الأعراف الآية ١٤٣.

و ما قيل: إن ضمير ﴿مَا رَأى‏َ للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المعنى: ما قال فؤاده (ص) لما رآه ببصره لم أعرفك و لو قال ذلك لكان كاذبا لأنه عرفه بقلبه كما رآه ببصره، و محصله أن فؤاده صدق بصره فيما رآه.

و كذا ما قيل: إن المعنى أن فؤاده لم يكذب بصره فيما رآه بل صدقه و اعتقد به، و يؤيده قراءة من قرأ ﴿مَا كَذَبَ بتشديد الذال.

ففيه أن الذي يعطيه سياق الآيات تأييده تعالى صدق النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيما يدعيه من الوحي و رؤية آيات الله الكبرى، و لو كان ضمير ﴿مَا رَأى‏َ للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان محصل معنى الآية الاحتجاج على صدق رؤيته باعتقاده ذلك بفؤاده و هو بعيد من دأب القرآن و هذا بخلاف ما لو رجع ضمير ﴿مَا رَأى‏َ إلى الفؤاد فإن محصل معناه تصديقه تعالى لفؤاده فيما رآه و يجري الكلام على السياق السابق الأخذ من قوله: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَ مَا غَوى‏َ ﴾﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى‏َ إلخ.

فإن قلت: إنه تعالى يحتج في الآية التالية ﴿أَ فَتُمَارُونَهُ عَلى‏َ مَا يَرى‏َ برؤيته (ص) على صدقه فيما يدعيه فليكن مثله الاحتجاج باعتقاد فؤاده بما يراه بعينه.

قلت: ليس قوله: ﴿أَ فَتُمَارُونَهُ عَلى‏َ مَا يَرى‏َ مسوقا للاحتجاج برؤيته على صدقه بل توبيخ على مماراتهم إياه (ص) على أمر يراه و يبصره و مجادلتهم إياه فيه، و المماراة و المجادلة

 

 

 إنما تصح لو صحت في الآراء النظرية و الاعتقادات الفكرية و أما فيما يرى و يشاهد عيانا فلا معنى للمماراة و المجادلة فيه، و هو (ص) إنما كان يخبرهم بما يشاهده عيانا لا عن فكر و تعقل.

قوله تعالى: ﴿أَ فَتُمَارُونَهُ عَلى‏َ مَا يَرى‏َ الاستفهام للتوبيخ و الخطاب للمشركين و الضمير للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و المماراة الإصرار على المجادلة، و المعنى: أ فتصرون في جدالكم على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يذعن بخلاف ما يدعيه و يخبركم به و هو يشاهد ذلك عيانا.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى‏َ النزلة بناء مرة من النزول فمعناه نزول واحد، و تدل الآية على أن هذه قصة رؤية في نزول آخر و الآيات السابقة تقص نزولا آخر غيره.

و قد قالوا: إن ضمير الفاعل المستكن في قوله ﴿رَآهُ للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و ضمير المفعول لجبريل، و على هذا فالنزلة نزول جبريل عليه (ص) ليعرج به إلى السماوات، و قوله: ﴿عِنْدَ سِدْرَةِ اَلْمُنْتَهى‏َ ظرف للرؤية لا للنزلة، و المراد برؤيته رؤيته و هو في صورته الأصلية.

و المعنى: أنه نزل عليه (ص) نزلة أخرى و عرج به إلى السماوات و تراءى له (ص) عند سدرة المنتهى و هو في صورته الأصلية.

و قد ظهر مما تقدم صحة إرجاع ضمير المفعول إليه تعالى و المراد بالرؤية رؤية القلب و المراد بنزلة أخرى نزلة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عند سدرة المنتهى في عروجه إلى السماوات فالمفاد أنه (ص) نزل نزلة أخرى أثناء معراجه عند سدرة المنتهى فرآه بقلبه كما رآه في النزلة الأولى.

قوله تعالى: ﴿عِنْدَ سِدْرَةِ اَلْمُنْتَهى‏َ عِنْدَهَا جَنَّةُ اَلْمَأْوى‏َ إِذْ يَغْشَى اَلسِّدْرَةَ مَا يَغْشى‏َ السدر شجر معروف و التاء للوحدة و المنتهى كأنه اسم مكان و لعل المراد به منتهى السماوات بدليل كون الجنة عندها و الجنة في السماء، قال تعالى: ﴿وَ فِي اَلسَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَ مَا تُوعَدُونَ: الذاريات: ٢٢.

و لا يوجد في كلامه تعالى ما يفسر هذه الشجرة، و كان البناء على الإبهام كما يؤيده قوله بعد: ﴿إِذْ يَغْشَى اَلسِّدْرَةَ مَا يَغْشى‏َ و قد فسر في الروايات أيضا بأنها شجرة فوق السماء السابعة إليها تنتهي أعمال بني آدم و ستمر ببعض هذه الروايات.

و قوله: ﴿عِنْدَهَا جَنَّةُ اَلْمَأْوى‏َ أي الجنة التي يأوي إليها المؤمنون و هي جنة الآخرة فإن جنة البرزخ جنة معجلة محدودة بالبعث، قال تعالى: ﴿فَلَهُمْ جَنَّاتُ اَلْمَأْوى‏َ

 

 

نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ: السجدة: ١٩، و قوله: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ اَلطَّامَّةُ اَلْكُبْرى‏َ إلى أن قال ﴿فَإِنَّ اَلْجَنَّةَ هِيَ اَلْمَأْوى‏َ: النازعات: ٤١ و هي في السماء على ما يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَ فِي اَلسَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَ مَا تُوعَدُونَ: الذاريات: ٢٢ و قيل: المراد بها جنة البرزخ.

و قوله: ﴿إِذْ يَغْشَى اَلسِّدْرَةَ مَا يَغْشى‏َ غشيان‏ الشي‏ء الإحاطة به، و ﴿مَا موصولة و المعنى: إذ يحيط بالسدرة ما يحيط بها، و قد أبهم تعالى هذا الذي يغشى السدرة و لم يبين ما هو كما تقدمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ﴿مَا زَاغَ اَلْبَصَرُ وَ مَا طَغى‏َ الزيغ‏ الميل عن الاستقامة، و الطغيان‏ تجاوز الحد في العمل، و زيغ البصر إدراكه المبصر على غير ما هو عليه، و طغيانه إدراكه ما لا حقيقة له، و المراد بالبصر بصر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .

و المعنى: أنه (ص) لم يبصر ما أبصره على غير صفته الحقيقية و لا أبصر ما لا حقيقة له بل أبصر غير خاطئ في إبصاره.

و المراد بالإبصار رؤيته (ص) بقلبه لا بجارحة العين فإن المراد بهذا الإبصار ما يعنيه بقوله: ﴿وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى‏َ المشير إلى مماثلة هذه الرؤية لرؤية النزلة الأولى التي يشير إليها بقوله: ﴿مَا كَذَبَ اَلْفُؤَادُ مَا رَأى‏َ أَ فَتُمَارُونَهُ عَلى‏َ مَا يَرى‏َ فافهم و لا تغفل.

قوله تعالى: ﴿لَقَدْ رَأى‏َ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ اَلْكُبْرى‏َ ﴿مِنْ للتبعيض، و المعنى:

أقسم لقد شاهد بعض الآيات الكبرى لربه، و بذلك تم مشاهدة ربه بقلبه فإن مشاهدته تعالى بالقلب إنما هي بمشاهدة آياته بما هي آياته فإن الآية بما هي آية لا تحكي إلا ذا الآية و لا تحكي عن نفسه شيئا و إلا لم تكن من تلك الجهة آية.

و أما مشاهدة ذاته المتعالية من غير توسط آية و تخلل حجاب فمن المستحيل ذلك قال تعالى: ﴿وَ لاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً: طه: ١١٠.

(بحث روائي)

في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿وَ اَلنَّجْمِ إِذَا هَوىَ قال: النجم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ﴿إِذَا هَوى‏َ لما أسري به إلى السماء و هو في الهوي.

 

 

أقول: و روي تسميته (ص) بالنجم بإسناده عن أبيه عن الحسين بن خالد عن الرضا (عليه السلام) ، و هو من البطن.

 و في الكافي، عن القمي عن أبيه عن ابن أبي عمير عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : قول الله عز و جل: ﴿وَ اَللَّيْلِ إِذَا يَغْشىَ ﴿وَ اَلنَّجْمِ إِذَا هَوىَ و ما أشبه ذلك؟ قال: إن لله عز و جل أن يقسم من خلقه بما شاء، و ليس لخلقه أن يقسموا إلا به.:

أقول: و في الفقيه، عن علي بن مهزيار عن أبي جعفر الثاني: مثله. و في المجمع، و روت العامة عن جعفر الصادق أنه قال: إن محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم) نزل من السماء السابعة ليلة المعراج و لما نزلت السورة أخبر بذلك عتبة بن أبي لهب فجاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و طلق ابنته و تفل في وجهه و قال: كفرت بالنجم و رب النجم، فدعا (ص) عليه و قال:

اللهم سلط عليه كلبا من كلابك.

فخرج عتبة إلى الشام فنزل في بعض الطريق و ألقى الله عليه الرعب فقال لأصحابه أنيموني بينكم ليلا ففعلوا فجاء أسد فافترسه من بين الناس. أقول: ثم أورد الطبرسي شعر حسان في ذلك، و روي في الدر المنثور، القصة بطرق مختلفة.

 و في الكافي، بإسناده إلى هشام و حماد و غيره قالوا: سمعنا أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: حديثي حديث أبي و حديث أبي حديث جدي و حديث جدي حديث الحسين و حديث الحسين حديث الحسن و حديث الحسن حديث أمير المؤمنين و حديث أمير المؤمنين حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قول الله عز و جل.

 و في تفسير القمي، بإسناده إلى ابن سنان في حديث: قال أبو عبد الله (عليه السلام) : و ذلك أنه يعني النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أقرب الخلق إلى الله تعالى و كان بالمكان الذي قال له جبرئيل لما أسري به إلى السماء: تقدم يا محمد فقد وطأت موطئا لم يطأه ملك مقرب و لا نبي مرسل، و لو لا أن روحه و نفسه كان من ذلك المكان لما قدر أن يبلغه، و كان من الله عز و جل كما قال الله عز و جل: ﴿قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى‏َ أي بل أدنى.

 و في الاحتجاج، عن علي بن الحسين (عليه السلام) في حديث طويل: أنا ابن من علا فاستعلى فجاز سدرة المنتهى فكان من ربه قاب قوسين أو أدنى.

 

 

 أقول: و قد ورد هذا المعنى في كثير من روايات أئمة أهل البيت (عليه السلام) .

 و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال ":لما أسري بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) اقترب من ربه فكان قاب قوسين أو أدنى. قال: أ لم تر إلى القوس ما أقربها من الوتر؟ و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه عن ابن عباس" :في قوله: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى قال: هو محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) دنا فتدلى إلى ربه عز و جل.

 و في المجمع، و روي مرفوعا عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): في قوله: ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى‏َ قال: قدر ذراعين أو أدنى من ذراعين. و في تفسير القمي، ":في قوله تعالى: ﴿فَأَوْحى‏ إِلى‏ عَبْدِهِ مَا أَوْحى‏ قال: وحي مشافهة.

 و في التوحيد، بإسناده إلى محمد بن الفضيل قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) هل رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ربه عز و جل؟ فقال: نعم بقلبه رآه، أ ما سمعت الله عز و جل يقول:

﴿مَا كَذَبَ اَلْفُؤَادُ مَا رَأى‏؟ لم يره بالبصر و لكن رآه بالفؤاد. و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي عن بعض أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: قالوا: يا رسول الله هل رأيت ربك؟ قال:

لم أره بعيني و رأيته بفؤادي مرتين ثم تلا ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى. أقول: و روى هذا المعنى النسائي عن أبي ذر على ما في الدر المنثور، و لفظه: رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ربه بقلبه و لم يره ببصره. و عن صحيح مسلم، و الترمذي و ابن مردويه عن أبي ذر قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم):

هل رأيت ربك؟ فقال: نوراني أراه. أقول: «نوراني» منسوب إلى النور على خلاف القياس كجسماني في النسبة إلى جسم، و قرئ «نور إني أراه» بتنوين الراء و كسر الهمزة و تشديد النون ثم ياء المتكلم، و الظاهر أنه تصحيف و إن أيد برواية أخرى‏ عن مسلم في صحيحة و ابن مردويه عن أبي ذر: أنه سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): هل رأيت ربك؟ فقال: رأيت نورا. و كيف كان فالمراد بالرؤية رؤية القلب فلا الرؤية رؤية حسية و لا النور نور حسي.

 و في الكافي، بإسناده عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرة المحدث أن أدخله إلى

 

 

 أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فاستأذنته في ذلك فأذن لي فدخل عليه فسأله عن الحلال و الحرام و الأحكام. إلى قوله: قال أبو قرة: فإنه يقول: ﴿وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرىَ فقال أبو الحسن (عليه السلام) : إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال: ﴿مَا كَذَبَ اَلْفُؤَادُ مَا رَأىَ يقول: ما كذب فؤاد محمد ما رأت عيناه ثم أخبر بما رأى فقال: ﴿لَقَدْ رَأى‏َ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ اَلْكُبْرى‏ و آيات الله غير الله.

 أقول: الظاهر أن كلامه (عليه السلام) مسوق لإلزام أبي قرة حيث كان يريد إثبات رؤيته تعالى بالعين الحسية فألزمه بأن الرؤية إنما تعلقت بالآيات و آيات الله غير الله و لا ينافي ذلك كون رؤية الآيات بما هي آياته رؤيته و إن كانت آياته غيره، و هذه الرؤية إنما كانت بالقلب كما مرت عدة من الروايات في هذا المعنى.

 و في تفسير القمي، حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن هشام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : انتهيت إلى سدرة المنتهى و إذا الورقة منها تظل أمة من الأمم فكنت من ربي كقاب قوسين أو أدنى.

 و في الدر المنثور، أخرج أحمد و ابن جرير عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): انتهيت إلى السدرة فإذا نبقها مثل الجراد، و إذا ورقها مثل آذان الفيلة فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تحولت ياقوتا و زمردا و نحو ذلك.

 و في تفسير القمي، بإسناده إلى إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث طويل: فلما انتهى به إلى سدرة المنتهى تخلف عنه جبرئيل فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): في هذا الموضع تخذلني؟ فقال: تقدم أمامك فوالله لقد بلغت مبلغا لم يبلغه أحد من خلق الله قبلك فرأيت من نور ربي و حال بيني و بينه السبحة.

قلت: و ما السبحة جعلت فداك؟ فأومى بوجهه إلى الأرض و أومأ بيده إلى السماء و هو يقول: جلال ربي جلال ربي ثلاث مرات. أقول: السبحة الجلال كما فسر في الرواية، و السبحة ما يدل على تنزهه تعالى من خلقه و مرجعه إلى المعنى الأول، و محصل ذيل الرواية أنه (ص) رأى ربه برؤية آياته.

 و فيه،" :في قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى‏ عِنْدَ سِدْرَةِ اَلْمُنْتَهى‏ قال: في السماء السابعة.

 

 

 و فيه، :في قوله تعالى: ﴿إِذْ يَغْشَى اَلسِّدْرَةَ مَا يَغْشى‏ قال: لما رفع الحجاب بينه و بين رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) غشي نور السدرة. أقول: و في المعاني السابقة روايات أخرى و قد تقدم في أول تفسير سورة الإسراء روايات جامعة لقصة معراجه (ص).

و قد نقلنا هناك في ذيل الروايات الاختلاف في كيفية معراجه (ص) أنه كان في المنام أو في اليقظة و على الثاني بجسمه و روحه معا أو بروحه فحسب، و نقلنا عن صاحب المناقب أن الإمامية ترى أن إسراءه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كان بالروح و الجسم معا على ما تدل عليه آية الإسراء، و أما من المسجد الأقصى إلى السماوات فقد قال قوم بكونه بالروح و الجسم معا أيضا و وافقهم كثير من الشيعة و مال بعضهم إلى كونه بالروح و مال إليه بعض المتأخرين.

و لا ضير في القول به لو أيدته القرائن الحافة بالآيات و الروايات غير أن من الواجب حينئذ أن يحمل قوله تعالى: ﴿عِنْدَهَا جَنَّةُ اَلْمَأْوى‏ على جنة البرزخ ليحمل كونها عندها على نحو من التعلق كما ورد أن القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، أو توجه الآية بما لا ينافي كون العروج في السماوات روحيا.

و أما كون الإسراء في المنام فقد تقدم في تفسير آية الإسراء أنه مما لا ينبغي أن يلتفت إليه.

و أما تطبيق الإسراء إلى السماوات على تسييره (ص) ليلا في الكواكب الأخرى غير الأرض من منظومتنا الشمسية أو في منظومات أخرى غير منظومتنا أو في مجرات أخرى غير مجرتنا فمما لا يلائمه الأخبار الواردة في تفصيل القصة البتة بل و لا محصل مضامين الآيات المتقدمة.

[سورة النجم (٥٣): الآیات ١٩ الی ٣٢]

﴿أَ فَرَأَيْتُمُ اَللاَّتَ وَ اَلْعُزَّى ١٩ وَ مَنَاةَ اَلثَّالِثَةَ اَلْأُخْرى ٢٠ أَ لَكُمُ اَلذَّكَرُ وَ لَهُ اَلْأُنْثى‏ ٢١ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى‏ ٢٢ إِنْ

 

 

هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ مَا تَهْوَى اَلْأَنْفُسُ وَ لَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ اَلْهُدى‏ ٢٣ أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى ٢٤ فَلِلَّهِ اَلْآخِرَةُ وَ اَلْأُولى‏ ٢٥ وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي اَلسَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اَللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَرْضى‏ ٢٦ إِنَّ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ اَلْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ اَلْأُنْثى‏ ٢٧ وَ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ إِنَّ اَلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ اَلْحَقِّ شَيْئاً ٢٨ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا ٢٩ ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اِهْتَدى‏ ٣٠ وَ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ أَسَاؤُا بِمَا عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ اَلَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ٣١ اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ اَلْإِثْمِ وَ اَلْفَوَاحِشَ إِلاَّ اَللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ اَلْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اِتَّقى‏ ٣٢

(بيان)

شطر من آيات الفصل الثاني من الفصول الثلاثة في السورة تتعرض لأمر الأوثان و عبادتها بدعوى أنها ستشفع لهم و الرد عليهم أبلغ الرد، و فيها إشارة إلى أمر المعاد و هو مقصد الفصل الثالث.

 

 

قوله تعالى: ﴿أَ فَرَأَيْتُمُ اَللاَّتَ وَ اَلْعُزَّى وَ مَنَاةَ اَلثَّالِثَةَ اَلْأُخْرى‏ لما سجل في الآيات السابقة صدق النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أنه وحي يوحى إليه و ترتب عليه حقية النبوة المبنية على التوحيد و نفي الشركاء، فرع عليه الكلام في الأوثان: اللات و العزى و مناة و هي عند المشركين تماثيل للملائكة بدعوى أنهم إناث أو بعضها للملائكة و بعضها للإنسان كما قاله بعضهم و نفي ربوبيتها و ألوهيتها و استقلال الملائكة الذين هم أرباب الأصنام في الشفاعة و أنوثيتهم و أشار إلى حقائق أخرى تنتج المعاد و جزاء الأعمال.

و اللات و العزى و مناة أصنام ثلاث كانت معبودة لعرب الجاهلية، و قد اختلفوا في وصف صورها، و في موضعها الذي كانت منصوبة عليه، و في من يعبدها من العرب، و في الأسباب التي أوجبت عبادتهم لها، و هي أقوال متدافعة لا سبيل إلى الاعتماد على شي‏ء منها، و المتيقن منها ما أوردناه.

و المعنى: إذا كان الأمر على ما ذكرناه من حقية الدعوة و صدق النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في دعوى الوحي و الرسالة من عند الله سبحانه فأخبروني عن اللات و العزى و مناة التي هي ثالثة الصنمين و غيرهما و هي التي تدعون أنها أصنام الملائكة الذين هم بنات الله على زعمكم .

قوله تعالى: ﴿أَ لَكُمُ اَلذَّكَرُ وَ لَهُ اَلْأُنْثى‏ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى‏ استفهام إنكاري مشوب بالاستهزاء، و قسمة ضيزى أي جائرة غير عادلة.

و المعنى: إذا كان كذلك و كانت أرباب هذه الأصنام من الملائكة بنات الله، و أنتم لا ترضون لأنفسكم إلا الذكر من الأولاد فهل لكم الذكر و لله سبحانه الأنثى من الأولاد؟ تلك القسمة إذا قسمة جائرة غير عادلة استهزاء .

قوله تعالى: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إلخ، ضمير ﴿هِيَ للات و العزى و مناة أو لها بما هي أصنام، و ضمير ﴿سَمَّيْتُمُوهَا للأسماء و تسمية الأسماء جعلها أسماء، و المراد بالسلطان البرهان.

و المعنى: ليست هذه الأصنام الآلهة إلا أسماء جعلتموها أسماء لها أنتم و آباؤكم ليست لهذه الأسماء وراءها مصاديق و مسميات ما أنزل الله معها برهانا يستدل به على ربوبيتها و ألوهيتها.

و محصل الآية الرد على المشركين بعدم الدليل على ألوهية آلهتهم.

و قوله: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ مَا تَهْوَى اَلْأَنْفُسُ ما موصولة و الضمير العائد

 

 

 إليها محذوف أي الذي تهواه النفس، و قيل: مصدرية و التقدير هوى النفس و الهوى الميل الشهواني للنفس و الجملة مسوقة لذمهم في اتباع الباطل و تأكيد لما تقدم من أنه لا برهان لهم على ذلك.

و يؤكده قوله: ﴿وَ لَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ اَلْهُدى‏ و الجملة حالية.

و المعنى: إن يتبع هؤلاء المشركون في أمر آلهتهم إلا الظن و ما يميل إليه أنفسهم شهوة يتبعون ذلك و الحال أنه قد جاءهم من الله و هو ربهم الهدى و هي الدعوة الحقة أو القرآن الذي يهديهم إلى الحق.

و الالتفات في الآية من الخطاب إلى الغيبة للإشعار بأنهم أحط فهما من أن يخاطبوا بهذا الكلام على أنهم غير مستعدين لأن يخاطبوا بكلام برهاني و هم أتباع الظن و الهوى.

قوله تعالى: ﴿أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى أم منقطعة و الاستفهام إنكاري، و الكلام مسوق لنفي أن يملك الإنسان ما يتمناه بمجرد أنه يتمناه أي ليس يملك الإنسان ما يتمناه بمجرد أنه يتمناه حتى يملك المشركون ما يتمنونه بهوى أنفسهم من شفاعة الملائكة الذين هم أرباب أصنامهم و بنات لله بزعمهم أو يملكوا ألوهية آلهتهم بمجرد التمني.

و في الكلام تلويح إلى أنهم ليس لهم للدلالة على صحة ألوهية آلهتهم أو شفاعتهم إلا التمني، و لا يملك شي‏ء بالتمني.

قوله تعالى: ﴿فَلِلَّهِ اَلْآخِرَةُ وَ اَلْأُولى‏ تفريعه على سابقه من تفريع العلة للمعلول للدلالة على التعلق و الارتباط ففيه تعليل للجملة السابقة، و المعنى: ليس يملك الإنسان ما تمناه بمجرد التمني لأن الآخرة و الأولى لله سبحانه و لا شريك له في ملكه.

قوله تعالى: ﴿وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي اَلسَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اَللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَرْضى‏ الفرق بين الإذن و الرضا أن الإذن إعلام ارتفاع المانع من قبل الآذن، و الرضا ملاءمة نفس الراضي للشي‏ء و عدم امتناعها فربما تحقق الإذن بشي‏ء مع عدم الرضا و لا يتحقق رضا إلا مع الإذن بالفعل أو بالقوة.

و الآية مسوقة لنفي أن يملك الملائكة من أنفسهم الشفاعة مستغنين في ذلك عن الله سبحانه كما يروم إليه عبدة الأصنام فإن الأمر مطلقا إلى الله تعالى فإنما يشفع من يشفع منهم بعد إذنه تعالى له في الشفاعة و رضاه بها.

و على هذا فالمراد بقوله: ﴿لِمَنْ يَشَاءُ الملائكة، و معنى الآية: و كثير من الملائكة

 

 

 في السماوات لا تؤثر شفاعتهم أثرا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء منهم أي من الملائكة و يرضى بشفاعته.

و قيل: المراد بمن يشاء و يرضى الإنسان، و المعنى: إلا من بعد أن يأذن الله في شفاعة من يشاء أن يشفع له من الإنسان و يرضى، و كيف يأذن و يرضى بشفاعة من كفر به و عبد غيره؟.

و الآية تثبت الشفاعة للملائكة في الجملة، و تقيد شفاعتهم بالإذن و الرضا من الله سبحانه.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ اَلْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ اَلْأُنْثى‏ رد لقولهم بأنوثية الملائكة بعد رد قولهم بشفاعتهم.

و المراد بتسميتهم الملائكة تسمية الأنثى قولهم: إن الملائكة بنات الله فالمراد بالأنثى الجنس أعم من الواحد و الكثير.

و قيل: إن الملائكة في معنى استغراق المفرد فيكون التقدير ليسمون كل واحد من الملائكة تسمية الأنثى أي يسمونه بنتا فالكلام على وزان كسانا الأمير حلة أي كسا كل واحد منا حلة.

قال بعضهم: في تعليق التسمية بعدم الإيمان بالآخرة إشعار بأنها في الشناعة و الفظاعة و استتباع العقوبة في الآخرة بحيث لا يجترئ عليها إلا من لا يؤمن بها رأسا. انتهى.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ إِنَّ اَلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ اَلْحَقِّ شَيْئاً العلم‏ هو التصديق المانع من النقيض، و الظن‏ هو التصديق الراجح و يسمى المرجوح وهما، و قولهم بأنوثية الملائكة كما لم يكن معلوما لهم كذلك لم يكن مظنونا إذ لا سبيل إلى ترجيح القول به على خلافه لكنه لما كان عن هوى أنفسهم أثبته الهوى في أنفسهم و زينه لهم فلم يلتفتوا إلى خلافه، و كلما لاح لهم لائح خلافه أعرضوا عنه و تعلقوا بما يهوونه، و بهذه العناية سمي ظنا و هو في الحقيقة تصور فقط.

و بهذا يظهر استقامة قول من قال: إن الظن في هذه الآية و في قوله السابق: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ مَا تَهْوَى اَلْأَنْفُسُ بمعنى التوهم دون الاعتقاد الراجح و أيد بما يظهر من كلام الراغب: إن الظن ربما يطلق على التوهم.

و قوله: ﴿إِنَّ اَلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ اَلْحَقِّ شَيْئاً الحق‏ ما هو عليه الشي‏ء و ظاهر أنه لا يدرك إلا بالعلم الذي هو الاعتقاد المانع من النقيض لا غير و أما غير العلم مما فيه احتمال

 

 

 الخلاف فلا يتعين فيه المدرك على ما هو عليه في الواقع فلا مجوز لأن يعتمد عليه في الحقائق قال تعالى: ﴿وَ لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ: إسراء: ٣٦.

و أما العمل بالظن في الأحكام العملية فإنما هو لقيام دليل عليه يقيد به إطلاق الآية، و تبقى الأمور الاعتقادية تحت إطلاق الآية.

قال بعضهم: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: ﴿إِنَّ اَلظَّنَّ لاَ يُغْنِي ليجري الكلام مجرى المثل.

قوله تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا تفريع على اتباعهم الظن و هوى الأنفس، فقوله: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ إلخ، أمر بالإعراض عنهم و إنما لم يقل: فأعرض عنهم، و وضع قوله: ﴿مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا إلخ، موضع الضمير للدلالة على علة الأمر بالإعراض كأنه قيل: إن هؤلاء يتركون العلم و يتبعون الظن و ما تهوى الأنفس و إنما فعلوا ذلك لأنهم تولوا عن الذكر و أرادوا الحياة الدنيا فلا هم لهم إلا الدنيا فهي مبلغهم من العلم، و إذا كان كذلك فأعرض عنهم لأنهم في ضلال.

و المراد بالذكر إما القرآن الذي يهدي متبعيه إلى الحق الصريح و يرشدهم إلى سعادة الدار الآخرة التي وراء الدنيا بالحجج القاطعة و البراهين الساطعة التي لا تبقى معها وصمة شك.

و أما ذكر الله بالمعنى المقابل للغفلة فإن ذكره تعالى بما يليق بذاته المتعالية من الأسماء و الصفات يهدي إلى سائر الحقائق العلمية في المبدأ و المعاد هداية علمية لا ريب معها.

قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اِهْتَدى‏َ الإشارة بذلك إلى أمر الدنيا و هو معلوم من الآية السابقة و كونه مبلغ علمهم من قبيل الاستعارة كان العلم يسير إلى المعلوم و ينتهي إليه و علمهم انتهى في مسيره إلى الدنيا و بلغها و وقف عندها و لم يتجاوزها، و لازم ذلك أن تكون الدنيا متعلق إرادتهم و طلبهم، و موطن همهم، و غاية آمالهم لا يطمئنون إلى غيرها و لا يقبلون إلا عليها.

و قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ إلخ، تأكيد لمضمون الجملة السابقة و شهادة منه تعالى عليه.

قوله تعالى: ﴿وَ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ أَسَاؤُا بِمَا عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ اَلَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى يمكن أن يكون صدر الآية حالا من فاعل ﴿أَعْلَمُ في الآية السابقة و الواو للحال، و المعنى: أن ربك هو أعلم بالفريقين الضالين و المهتدين و الحال أنه يملك ما في السماوات و ما في الأرض فكيف يمكن أن لا يعلم بهم و هو مالكهم؟.

 

 

و على هذا فالظاهر تعلق قوله: ﴿لِيَجْزِيَ إلخ، بقوله السابق: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى إلخ، و المعنى: أعرض عنهم و كل أمرهم إلى الله ليجزيهم كذا و كذا و يجزيك و يجزي المحسنين كذا و كذا.

و يمكن أن يكون قوله: ﴿وَ لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ إلخ، كلاما مستأنفا للدلالة على أن الأمر بالإعراض عنهم لا لإهمالهم و تركهم سدى بل الله سبحانه يجزي كلا بعمله إن سيئا و إن حسنا، و وضع اسم الجلالة و هو ظاهر موضع الضمير للدلالة على كمال العظمة.

و قوله: ﴿لِلَّهِ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ إشارة إلى ملكه تعالى للكل و معناه قيام الأشياء به تعالى لكونه خالقهم الموجد لهم فالملك ناشئ من الخلق و هو مع ذلك منشأ للتدبير فالجملة دالة على الخلق و التدبير كأنه قيل: و لله الخلق و التدبير.

و بهذا المعنى يتعلق قوله: ﴿لِيَجْزِيَ إلخ، و اللام للغاية، و المعنى: له الخلق و التدبير و غاية ذلك و الغرض منه أن يجزي الذين أساءوا إلخ، و المراد بالجزاء ما يخبر عنه الكتاب من شئون يوم القيامة، و المراد بالإساءة و الإحسان المعصية و الطاعة، و المراد بما عملوا جزاء ما عملوا أو نفس ما عملوا، و بالحسنى المثوبة الحسنى.

و المعنى: ليجزي الله الذين عصوا بمعصيتهم أو بجزاء معصيتهم و يجزي الذين أطاعوا بالمثوبة الحسنى، و قد أوردوا في الآية احتمالات أخرى و ما قدمناه هو أظهرها.

قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ اَلْإِثْمِ وَ اَلْفَوَاحِشَ إِلاَّ اَللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ اَلْمَغْفِرَةِ إلخ، الإثم‏ هو الذنب و أصله كما ذكره الراغب الفعل المبطئ عن الثواب و الخير، و كبائر الإثم المعاصي الكبيرة و هو على ما في الرواية[1] ما أوعد الله عليه النار، و قد تقدم البحث عنها في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ الآية: النساء: ٣١.

و الفواحش‏ الذنوب الشنيعة الفظيعة، و قد عد تعالى في كلامه الزنا و اللواط من الفواحش و لا يبعد أن يستظهر من الآية اتحادها مع الكبائر.

و أما اللمم‏ فقد اختلفوا في معناه فقيل: هو الصغيرة من المعاصي، و عليه فالاستثناء منقطع، و قيل: هو أن يلم بالمعصية و يقصدها و لا يفعل و الاستثناء أيضا منقطع، و قيل:

 

 

 

 هو المعصية حينا بعد حين من غير عادة أي المعصية على سبيل الاتفاق فيكون أعم من الصغيرة و الكبيرة و ينطبق مضمون الآية على معنى قوله تعالى في وصف المتقين المحسنين:

﴿وَ اَلَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اَللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ إِلاَّ اَللَّهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى‏ مَا فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ: آل عمران: ١٣٥.

و قد فسر في روايات أئمة أهل البيت (عليه السلام) بثالث المعاني‏[2].

و الآية تفسر ما في الآية السابقة من قوله: ﴿اَلَّذِينَ أَحْسَنُوا فهم الذين يجتنبون كبائر الإثم و الفواحش و من الجائز أن يقع منهم لمم.

و في قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ اَلْمَغْفِرَةِ تطميعهم في التوبة رجاء المغفرة.

و قوله: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ قال الراغب: النش‏ء و النشأة إحداث الشي‏ء و تربيته. انتهى. فأنشئوهم من الأرض ما جرى عليهم في بدء خلقهم طورا بعد طور من أخذهم من المواد العنصرية إلى أن يتكونوا في صورة المني و يردوا الأرحام.

و قوله: ﴿وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ الأجنة جمع جنين، و الكلام معطوف على ﴿إِذْ السابق أي و هو أعلم بكم إذ كنتم أجنة في أرحام أمهاتكم يعلم ما حقيقتكم و ما أنتم عليه من الحال و ما في سركم و إلى ما يئول أمركم.

و قوله: ﴿فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ تفريع على العلم أي إذا كان الله أعلم من أول أمر فلا تزكوا أنفسكم بنسبتها إلى الطهارة هو أعلم بمن اتقى. ﴿أَ فَرَأَيْتَ اَلَّذِي تَوَلَّى ٣٣ وَ أَعْطى‏ قَلِيلاً وَ أَكْدى‏ ٣٤ أَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْغَيْبِ فَهُوَ يَرى‏ ٣٥ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسى‏ ٣٦ وَ إِبْرَاهِيمَ اَلَّذِي وَفَّى ٣٧ أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ

 

 

[سورة النجم (٥٣): الآیات ٣٣ الی ٦٢]

﴿أُخْرىَ ٣٨ وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعىَ ٣٩ وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرىَ ٤٠ ثُمَّ يُجْزَاهُ اَلْجَزَاءَ اَلْأَوْفى‏ ٤١ وَ أَنَّ إِلىَ رَبِّكَ اَلْمُنْتَهى‏ ٤٢ وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكى‏ ٤٣ وَ أَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَ أَحْيَا ٤٤ وَ أَنَّهُ خَلَقَ اَلزَّوْجَيْنِ اَلذَّكَرَ وَ اَلْأُنْثى‏ ٤٥ مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنى‏ ٤٦ وَ أَنَّ عَلَيْهِ اَلنَّشْأَةَ اَلْأُخْرى‏ ٤٧ وَ أَنَّهُ هُوَ أَغْنى‏ وَ أَقْنى‏ ٤٨ وَ أَنَّهُ هُوَ رَبُّ اَلشِّعْرى‏ ٤٩ وَ أَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً اَلْأُولى‏ ٥٠ وَ ثَمُودَ فَمَا أَبْقى‏ ٥١ وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَ أَطْغى‏ ٥٢ وَ اَلْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى‏ ٥٣ فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ٥٤ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكَ تَتَمَارى‏ ٥٥ هَذَا نَذِيرٌ مِنَ اَلنُّذُرِ اَلْأُولى‏ ٥٦ أَزِفَتِ اَلْآزِفَةُ ٥٧ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اَللَّهِ كَاشِفَةٌ ٥٨ أَ فَمِنْ هَذَا اَلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ٥٩ وَ تَضْحَكُونَ وَ لاَ تَبْكُونَ ٦٠ وَ أَنْتُمْ سَامِدُونَ ٦١ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَ اُعْبُدُوا ٦٢

(بيان)

سياق التسع آيات الواقعة في صدر هذا الفصل يصدق ما ورد في أسباب النزول أن رجلا من المسلمين كان ينفق من ماله في سبيل الله فلامه بعض الناس على كثرة الإنفاق و حذره و خوفه بنفاد المال و الفقر و ضمن حمل خطاياه و ذنوبه فأمسك عن الإنفاق فنزلت الآيات.

أشار سبحانه بالتعرض لهذه القصة و نقل ما نقل من صحف إبراهيم و موسى (عليه السلام)

 

 

 إلى بيان وجه الحق فيها، و إلى ما هو الحق الصريح فيما تعرض له الفصل السابق من أباطيل المشركين من أنهم إنما يعبدون الأصنام لأنها تماثيل الملائكة الذين هم بنات الله يعبدونهم ليشفعوا لهم عند الله سبحانه و قد أبطلتها الآيات السابقة أوضح الإبطال.

و قد أوضحت هذه الآيات ما هو وجه الحق في الربوبية و الألوهية و هو أن الخلق و التدبير لله سبحانه، إليه ينتهي كل ذلك، و أنه خلق ما خلق و دبر ما دبر خلقا و تدبيرا يستعقب نشأة أخرى فيها جزاء الكافر و المؤمن و المجرم و المتقي و من لوازمه تشريع الدين و توجيه التكاليف و قد فعل، و من شواهده إهلاك من أهلك من الأمم الدارجة الطاغية كقوم نوح و عاد و ثمود و المؤتفكة.

ثم عقب سبحانه هذا الذي نقله عن صحف النبيين الكريمين بالتنبيه على أن هذا النذير من النذر الأولى الخالية و أن الساعة قريبة، و خاطبهم بالأمر بالسجود لله و العبادة، و بذلك تختتم السورة.

قوله تعالى: ﴿أَ فَرَأَيْتَ اَلَّذِي تَوَلَّى وَ أَعْطى‏َ قَلِيلاً وَ أَكْدى‏َ التولي‏ هو الإعراض و المراد به بقرينة الآية التالية الإعراض عن الإنفاق في سبيل الله، و الإعطاء الإنفاق و الإكداء قطع العطاء، و التفريع الذي في قوله: ﴿أَ فَرَأَيْتَ مبني على ما قدمنا من تفرع مضمون هذه الآيات على ما قبلها.

و المعنى: فأخبرني عمن أعرض عن الإنفاق و أعطى قليلا من المال و أمسك بعد ذلك أشد الإمساك.

قوله تعالى: ﴿أَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْغَيْبِ فَهُوَ يَرى‏َ الضمائر لمن تولى و الاستفهام للإنكار و المعنى:

أ يعلم الغيب فيترتب عليه أن يعلم أن صاحبه يتحمل عنه ذنوبه و يعذب مكانه يوم القيامة لو استحق العذاب. كذا فسروا.

و الظاهر أن المراد نفي علمه بما غاب عنه من مستقبل حاله في الدنيا و المعنى: أ يعلم الغيب فهو يعلم أنه لو أنفق و دام على الإنفاق نفد ماله و ابتلي بالفقر و أما تحمل الذنوب و العذاب فالمتعرض له قوله الآتي: ﴿أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏َ.

قوله تعالى: ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسى‏َ وَ إِبْرَاهِيمَ اَلَّذِي وَفَّى صحف موسى التوراة، و صحف إبراهيم. ما نزل عليه من الكتاب و الجمع للإشارة إلى كثرته بكثرة أجزائه.

و التوفية تأدية الحق بتمامه و كماله، و توفيته (عليه السلام) تأديته ما عليه من الحق في العبودية

 

 

 أتم التأدية و أبلغها قال تعالى: ﴿وَ إِذِ اِبْتَلى‏َ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ: البقرة: ١٢٤.

و ما نقله الله سبحانه في الآيات التالية من صحف إبراهيم و موسى (عليه السلام) و إن لم يذكر في القرآن بعنوان أنه من صحفهما قبل هذه الآيات لكنه مذكور بعنوان الحكم و المواعظ و القصص و العبر فمعنى الآيتين: أم لم ينبأ بهذه الأمور و هي في صحف إبراهيم و موسى.

قوله تعالى: ﴿أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏َ الوزر الثقل و كثر استعماله في الإثم، و الوازرة النفس التي من شأنها أن تحمل الإثم، و الآية بيان ما في صحف إبراهيم و موسى (عليه السلام) ، و كذا سائر الآيات المصدرة بأن و أن إلى تمام سبع عشرة آية.

و المعنى: ما في صحفهما هو أنه لا تحمل نفس إثم نفس أخرى أي لا تتأثم نفس بما لنفس أخرى من الإثم فلا تؤاخذ نفس بإثم نفس أخرى.

قوله تعالى: ﴿وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعى‏َ قال الراغب: السعي‏ المشي السريع و هو دون العدو، و يستعمل للجد في الأمر خيرا كان أو شرا قال تعالى: ﴿وَ سَعى‏َ فِي خَرَابِهَا. انتهى و استعماله في الجد في الفعل استعمال استعاري.

و معنى اللام في قوله: ﴿لِلْإِنْسَانِ الملك الحقيقي الذي يقوم بصاحبه قياما باقيا ببقائه يلازمه و لا يفارقه بالطبع و هو الذي يكتسبه الإنسان بصالح العمل أو طالحه من خير أو شر، و أما ما يراه الإنسان مملوكا لنفسه و هو في ظرف الاجتماع من مال و بنين و جاه و غير ذلك من زخارف الحياة الدنيا و زينتها فكل ذلك من الملك الاعتباري الوهمي الذي يصاحب الإنسان ما دام في دار الغرور و يودعه عند ما أراد الانتقال إلى دار الخلود و عالم الآخرة.

فالمعنى: و أنه لا يملك الإنسان ملكا يعود إليه أثره من خير أو شر أو نفع أو ضر حقيقة إلا ما جد فيه من عمل فله ما قام بفعله بنفسه و أما ما قام به غيره من عمل فلا يلحق بالإنسان أثره خيرا أو شرا.

و أما الانتفاع من شفاعة الشفعاء يوم القيامة لأهل الكبائر فلهم في ذلك سعي جميل حيث دخلوا في حضيرة الإيمان بالله و آياته، و كذا استفادة المؤمن بعد موته من استغفار المؤمنين له، و الأعمال الصالحة التي تهدي إليه مثوباتها هي مرتبطة بسعيه في الدخول في زمرة المؤمنين و تكثير سوادهم و تأييد إيمانهم الذي من آثاره ما يأتون به من الأعمال الصالحة.

 

 

 و كذا من سن سنة حسنة فله ثوابها و ثواب من عمل بها، و من سن سنة سيئة كان له وزرها و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة فإن له سعيا في عملهم حيث سن السنة و توسل بها إلى أعمالهم كما تقدم في تفسير قوله تعالى: ﴿وَ نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَ آثَارَهُمْ: يس: ١٢، و قد تقدم في تفسير قوله: ﴿وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ» : النساء: ٩، و تفسير قوله: ﴿لِيَمِيزَ اَللَّهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ: الأنفال: ٣٧، كلام نافع في هذا المقام.

قوله تعالى: ﴿وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى‏َ المراد بالسعي ما سعى فيه من العمل و بالرؤية المشاهدة، و ظرف المشاهدة يوم القيامة بدليل تعقيبه بالجزاء فالآية قريبة المعنى من قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ: آل عمران: ٣٠، و قوله: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ اَلنَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ: الزلزال: ٨.

و إتيان قوله: ﴿سَوْفَ يُرى‏َ مبنيا للمفعول لا يخلو من إشعار بأن هناك من يشاهد العمل غير عامله.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يُجْزَاهُ اَلْجَزَاءَ اَلْأَوْفى‏َ الوفاء بمعنى التمام لأن الشي‏ء التام يفي بجميع ما يطلب من صفاته، و الجزاء الأوفى الجزاء الأتم.

و ضمير ﴿يُجْزَاهُ للسعي الذي هو العمل و المعنى: ثم يجزي الإنسان عمله أي بعمله أتم الجزاء.

قوله تعالى: ﴿وَ أَنَّ إِلى‏َ رَبِّكَ اَلْمُنْتَهى‏َ المنتهى‏ مصدر ميمي بمعنى الانتهاء و قد أطلق إطلاقا فيفيد مطلق الانتهاء، فما في الوجود من شي‏ء موجود إلا و ينتهي في وجوده و آثار وجوده إلى الله سبحانه بلا واسطة أو مع الواسطة، و لا فيه أمر من التدبير و النظام الجاري جزئيا أو كليا إلا و ينتهي إليه سبحانه إذ ليس التدبير الجاري بين الأشياء إلا الروابط الجارية بينها القائمة بها و موجد الأشياء هو الموجد لروابطها المجري لها بينها فالمنتهى المطلق لكل شي‏ء هو الله سبحانه.

قال تعالى: ﴿اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ عَلى‏َ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَكِيلٌ لَهُ مَقَالِيدُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ : الزمر: ٦٣، و قال: ﴿أَلاَ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ: الأعراف: ٥٤.

و الآية تثبت الربوبية المطلقة لله سبحانه بإنهاء كل تدبير و كل التدبير إليه و تشمل

 

 

انتهاء الأشياء إليه من حيث البدء و هو الفطر، و انتهاءها إليه من حيث العود و الرجوع و هو الحشر.

و مما تقدم يظهر ضعف ما قيل في تفسير الآية أن المراد بذلك رجوع الخلق إليه سبحانه يوم القيامة، و كذا ما قيل: إن المعنى أن إلى ثواب ربك و عقابه آخر الأمر، و كذا ما قيل: المعنى أن إلى حساب ربك منتهاهم، و كذا ما قيل: إليه سبحانه ينتهي الأفكار و تقف دونه، ففي جميع هذه التفاسير تقييد الآية من غير مقيد.

قوله تعالى: ﴿وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكى‏َ الآية و ما يتلوها إلى تمام اثنتي عشرة آية بيان لموارد من انتهاء الخلق و التدبير إلى الله سبحانه.

و السياق في جميع هذه الآيات سياق الحصر، و تفيد انحصار الربوبية فيه تعالى و انتفاء الشريك، و لا ينافي ما في هذه الموارد من الحصر توسط أسباب أخر طبيعية أو غير طبيعية فيها كتوسط السرور و الحزن و أعضاء الضحك و البكاء من الإنسان في تحقق الضحك و البكاء، و كذا توسط الأسباب المناسبة الطبيعية و غير الطبيعية في الإحياء و الإماتة و خلق الزوجين و الغنى و القنى و إهلاك الأمم الهالكة و ذلك أنها لما كانت مسخرة لأمر الله غير مستقلة في نفسها و لا منقطعة عما فوقها كانت وجوداتها و آثار وجوداتها و ما يترتب عليها لله وحده لا يشاركه في ذلك أحد.

فمعنى قوله: ﴿وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكى‏َ إنه تعالى هو أوجد الضحك في الضاحك و أوجد البكاء في الباكي لا غيره تعالى:

و لا منافاة بين انتهاء الضحك و البكاء في وجودهما إلى الله سبحانه و بين انتسابهما إلى الإنسان و تلبسه بهما لأن نسبة الفعل إلى الإنسان بقيامه به و نسبة الفعل إليه تعالى بالإيجاد و كم بينهما من فرق.

و لا أن تعلق الإرادة الإلهية بضحك الإنسان مثلا يوجب بطلان إرادة الإنسان للضحك و سقوطها عن التأثير لأن الإرادة الإلهية لم تتعلق بمطلق الضحك كيفما كان و إنما تعلقت بالضحك الإرادي الاختياري من حيث إنه صادر عن إرادة الإنسان و اختياره فإرادة الإنسان سبب لضحكه في طول إرادة الله سبحانه لا في عرضها حتى تتزاحما و لا تجتمعا معا فنضطر إلى القول بأن أفعال الإنسان الاختيارية مخلوقة لله و لا صنع للإنسان فيها كما يقوله الجبري أو أنها مخلوقة للإنسان و لا صنع لله سبحانه فيها كما يقوله المعتزلي.

 

 

 و مما تقدم يظهر فساد قول بعضهم: إن معنى الآية أنه خلق قوتي الضحك و البكاء، و قول آخرين: إن المعنى أنه خلق السرور و الحزن، و قول آخرين: إن المعنى أنه أضحك الأرض بالنبات و أبكى السماء بالمطر، و قول آخرين: إن المعنى أنه أضحك أهل الجنة و أبكى أهل النار.

قوله تعالى: ﴿وَ أَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَ أَحْيَا الكلام في انتساب الموت و الحياة إلى أسباب أخر طبيعية و غير طبيعية كالملائكة كالكلام في انتساب الضحك و البكاء إلى غيره تعالى مع انحصار الإيجاد فيه تعالى، و كذا الكلام في الأمور المذكورة في الآيات التالية.

قوله تعالى: ﴿وَ أَنَّهُ خَلَقَ اَلزَّوْجَيْنِ اَلذَّكَرَ وَ اَلْأُنْثى‏َ مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنى‏َ النطفة ماء الرجل و المرأة الذي يخلق منه الولد، و أمنى‏ الرجل أي صب المني، و قيل: معناه التقدير، و قوله: ﴿اَلذَّكَرَ وَ اَلْأُنْثى‏َ بيان للزوجين.

قيل: لم يذكر الضمير في الآية على طرز ما تقدم - أنه هو - لأنه لا يتصور نسبة خلق الزوجين إلى غيره تعالى.

قوله تعالى: ﴿وَ أَنَّ عَلَيْهِ اَلنَّشْأَةَ اَلْأُخْرى‏َ النشأة الأخرى الخلقة الأخرى الثانية و هي الدار الآخرة التي فيها جزاء، و كون ذلك عليه تعالى قضاؤه قضاء حتم و قد وعد به و وصف نفسه بأنه لا يخلف الميعاد.

قوله تعالى: ﴿وَ أَنَّهُ هُوَ أَغْنى‏َ وَ أَقْنى‏َ أي أعطى الغنى و أعطى القنية، و القنية ما يدوم من الأموال و يبقى ببقاء نفسه كالدار و البستان و الحيوان، و على هذا فذكر ﴿أَقْنى‏َ بعد ﴿أَغْنى‏َ من التعرض للخاص بعد العام لنفاسته و شرفه.

و قيل: الإغناء التمويل و الإقناء الإرضاء بذلك، و قال بعضهم: معنى الآية أنه هو أغنى و أفقر.

قوله تعالى: ﴿وَ أَنَّهُ هُوَ رَبُّ اَلشِّعْرى‏َ كان المراد بالشعرى الشعرى اليمانية و هي كوكبة مضيئة من الثوابت شرقي صورة الجبار في السماء.

قيل: كانت الخزاعة و حمير تعبد هذه الكوكبة، و ممن كان يعبده أبو كبشة أحد أجداد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من جهة أمه، و كان المشركون يسمونه (ص) ابن أبي كبشة لمخالفته إياهم في الدين كما خالف أبو كبشة قومه في عبادة الشعرى.

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ أَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً اَلْأُولى‏َ و هم قوم هود النبي (عليه السلام) و وصفوا بالأولى لأن هناك عادا ثانية هم بعد عاد الأولى.

قوله تعالى: ﴿وَ ثَمُودَ فَمَا أَبْقى‏َ و هم قوم صالح النبي (عليه السلام) أهلك الله الكفار منهم عن آخرهم، و هو المراد من قوله: ﴿فَمَا أَبْقى‏َ و إلا فهو سبحانه نجى المؤمنين منهم من الهلاك كما قال: ﴿وَ نَجَّيْنَا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كَانُوا يَتَّقُونَ: فصلت: ١٨.

قوله تعالى: ﴿وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَ أَطْغى‏َ عطف كسابقه على قوله:

﴿عَاداً و الإصرار بالتأكيد على كونهم أظلم و أطغى، أي من القومين عاد و ثمود على ما يعطيه السياق لأنهم لم يجيبوا دعوة نوح (عليه السلام) و لم يتعظوا بموعظته فيما يقرب من ألف سنة و لم يؤمن منهم معه إلا أقل قليل.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى‏َ فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى قيل: إن المؤتفكة قرى قوم لوط ائتفكت بأهلها أي انقلبت و الائتفاك‏ الانقلاب، و الأهواء الإسقاط.

و المعنى: و أسقط القرى المؤتفكة إلى الأرض بقلبها و خسفها فشملها و أحاط بها من العذاب ما شملها و أحاط بها.

و احتمل أن يكون المراد بالمؤتفكة ما هو أعم من قرى قوم لوط و هي كل قرية نزل عليها العذاب فباد أهلها فبقيت خربة داثرة معالمها خاوية على عروشها.

قوله تعالى: ﴿فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكَ تَتَمَارى‏َ الآلاء جمع إلى بمعنى النعمة، و التماري‏ التشكك، و الجملة متفرعة على ما تقدم ذكره مما ينسب إليه تعالى من الأفعال.

و المعنى: إذا كان الله سبحانه هو الذي نظم هذا النظام البديع من صنع و تدبير بالإضحاك و الإبكاء و الإماتة و الإحياء و الخلق و الإهلاك إلى آخر ما قيل فبأي نعم ربك تتشكك و في أيها تريب؟.

و عد مثل الإبكاء و الإماتة و إهلاك الأمم الطاغية نعما لله سبحانه لما فيها من الدخل في تكون النظام الأتم الذي يجري في العالم و تنساق به الأمور في مرحلة استكمال الخلق و رجوع الكل إلى الله سبحانه.

و الخطاب في الآية للذي تولى و أعطى قليلا و أكدى أو للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من باب إياك أعني و اسمعي يا جارة، و الاستفهام للإنكار.

 

 

قوله تعالى: ﴿هَذَا نَذِيرٌ مِنَ اَلنُّذُرِ اَلْأُولى‏َ قيل: النذير يأتي مصدرا بمعنى الإنذار و وصفا بمعنى المنذر و يجمع على النذر بضمتين على كلا المعنيين و الإشارة بهذا إلى القرآن أو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .

قوله تعالى: ﴿أَزِفَتِ اَلْآزِفَةُ أي قربت القيامة و الآزفة من أسماء القيامة قال تعالى:

﴿وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ اَلْآزِفَةِ: المؤمن: ١٨.

قوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اَللَّهِ كَاشِفَةٌ أي نفس كاشفة و المراد بالكشف إزالة ما فيها من الشدائد و الأهوال، و المعنى: ليس نفس تقدر على إزالة ما فيها من الشدائد و الأهوال إلا أن يكشفها الله سبحانه.

قوله تعالى: ﴿أَ فَمِنْ هَذَا اَلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَ تَضْحَكُونَ وَ لاَ تَبْكُونَ وَ أَنْتُمْ سَامِدُونَ الإشارة بهذا الحديث إلى ما تقدم من البيان، و السمود اللهو، و الآية متفرعة على ما تقدم من البيان، و الاستفهام للتوبيخ.

و المعنى: إذا كان الله هو ربكم الذي ينتهي إليه كل أمر و عليه النشأة الأخرى و كانت القيامة قريبة و ليس لها من دون الله كاشفة كان عليكم أن تبكوا لما فرطتم في جنب الله، و تعرضتم للشقاء الدائم أ فمن هذا البيان الذي يدعوكم إلى النجاة تعجبون إنكارا و تضحكون استهزاء و لا تبكون؟.

قوله تعالى: ﴿فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَ اُعْبُدُوا تفريع آخر على ما تقدم من البيان و المعنى:

إذا كان كذلك فعليكم أن تسجدوا لله و تعبدوه ليكشف عنكم ما ليس له من دونه كاشفة.

(بحث روائي)

في الكشاف، ":في قوله تعالى: ﴿أَ فَرَأَيْتَ اَلَّذِي تَوَلَّى إلخ، روي أن عثمان كان يعطي ماله في الخير فقال له عبد الله بن سعد بن أبي سرح و هو أخوه من الرضاعة: يوشك أن لا يبقى لك شي‏ء فقال عثمان: إن لي ذنوبا و خطايا، و إني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى و أرجو عفوه فقال عبد الله: أعطني ناقتك برحلها و أنا أتحمل عنك ذنوبك كلها فأعطاه و أشهد عليه و أمسك عن العطاء فنزلت، و معنى: ﴿تَوَلَّى ترك المركز يوم أحد فعاد عثمان إلى أحسن من ذلك و أجمل.

 

 

 أقول: و أورد القصة في مجمع البيان و نسبها إلى ابن عباس و السدي و الكلبي و جماعة من المفسرين، و في انطباق «تولى» على تركه المركز يوم أحد نظر و الآيات مكية.

 و في الدر المنثور، أخرج الفاريابي و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن مجاهد :في قوله: ﴿أَ فَرَأَيْتَ اَلَّذِي تَوَلَّى قال: الوليد بن المغيرة كان يأتي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أبا بكر فسمع ما يقولان و ذلك ما أعطى من نفسه، أعطى الاستماع ﴿وَ أَكْدىَ قال:

انقطع عطاؤه نزل في ذلك ﴿أَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْغَيْبِ قال: الغيب القرآن أ رأى فيه باطلا أنفذه ببصره إذ كان يختلف إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أبي بكر. أقول: و أنت خبير بأن الآيات بظاهرها لا تنطبق على ما ذكره.

 و روي :أنها نزلت في العاص بن وائل، و روي أنها نزلت في رجل لم يذكر اسمه.

و في تفسير القمي،" :في قوله تعالى: ﴿وَ إِبْرَاهِيمَ اَلَّذِي وَفَّى قال: وفى بما أمره الله به من الأمر و النهي و ذبح ابنه.

 و في الكافي، بإسناده عن إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يحج فيجعل حجته و عمرته أو بعض طوافه لبعض أهله و هو عنه غائب في بلد آخر؟ قال:

قلت: فينتقص ذلك من أجره؟ قال: هي له و لصاحبه و له أجر سوى ذلك بما وصل.

قلت: و هو ميت أ يدخل ذلك عليه؟ قال: نعم حتى يكون مسخوطا عليه فيغفر له أو يكون مضيقا عليه فيوسع له. قلت: فيعلم هو في مكانه أنه عمل ذلك لحقه؟ قال: نعم.

قلت: و إن كان ناصبا ينفعه ذلك؟ قال: نعم يخفف عنه.

أقول: مورد الرواية إهداء ثواب العمل دون العمل نيابة عن الميت.

 و فيه، بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): يقول الله عز و جل للملك الموكل بالمؤمن إذا مرض: اكتب له ما كنت تكتب له في صحته فإني أنا الذي صيرته في حبالي‏[3].

 و في الخصال، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته إلى يوم القيامة صدقة

 

 

موقوفة لا تورث، و سنة هدى سنها و كان يعمل بها و عمل بها من بعده غيره، و ولد صالح يستغفر له.

أقول: و هذه الروايات الثلاث و في معناها روايات كثيرة جدا عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) توسع معنى السعي في قوله تعالى: ﴿وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعى‏ و قد تقدمت إشارة إليها.

 و في أصول الكافي، بإسناده إلى سليمان بن خالد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) : إن الله يقول: ﴿وَ أَنَّ إِلى‏ رَبِّكَ اَلْمُنْتَهى‏ فإذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا.

 أقول: و هو من التوسعة في معنى الانتهاء.

 و فيه، بإسناده إلى أبي عبيدة الحذاء قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) : يا زياد إياك و الخصومات فإنها تورث الشك، و تحبط العمل، و تردي صاحبها، و عسى أن يتكلم بالشي‏ء فلا يغفر له.

أنه كان فيما مضى قوم تركوا علم ما وكلوا به، و طلبوا علم ما كفوه حتى انتهى كلامهم إلى الله فتحيروا حتى كان الرجل يدعى من بين يديه فيجيب من خلفه، و يدعى من خلفه فيجيب من بين يديه. قال: و في رواية أخرى: حتى تاهوا في الأرض.

 و في الدر المنثور، أخرج أبو الشيخ عن أبي ذر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): تفكروا في خلق الله و لا تفكروا في الله فتهلكوا. أقول: و في النهي عن التفكر في الله سبحانه روايات كثيرة أخر مودعة في جوامع الفريقين، و النهي إرشادي متعلق بمن لا يحسن الورود في المسائل العقلية العميقة فيكون خوضه فيها تعرضا للهلاك الدائم.

و في تفسير القمي، ":في قوله تعالى: ﴿وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكى‏َ قال: أبكى السماء بالمطر، و أضحك الأرض بالنبات.

أقول: هو من التوسعة في معنى الإبكاء و الإضحاك.

 و في المعاني، بإسناده إلى السكوني عن جعفر بن محمد عن آبائهم (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : في قول الله عز و جل: ﴿وَ أَنَّهُ هُوَ أَغْنى‏ وَ أَقْنى‏ قال: أغنى كل إنسان بمعيشته، و أرضاه بكسب يده.

و في تفسير القمي،" :في قوله تعالى: ﴿وَ أَنَّهُ هُوَ رَبُّ اَلشِّعْرىَ قال: النجم في السماء يسمى الشعرى كانت قريش و قوم من العرب يعبدونه، و هو نجم يطلع في آخر الليل.

 

 

 أقول: الظاهر أن قوله: و هو نجم يطلع في آخر الليل تعريف له بحسب زمان صدور الحديث و كان في الصيف و إلا فهو يستوفي في مجموع السنة جميع ساعات الليل و النهار.

و فيه، ":في قوله تعالى: ﴿أَزِفَتِ اَلْآزِفَةُ قال قربت القيامة.

و في المجمع،" :في قوله تعالى: ﴿أَ فَمِنْ هَذَا اَلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ يعني بالحديث ما تقدم من الأخبار.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال ":لما نزلت هذه الآية على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ﴿أَ فَمِنْ هَذَا اَلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَ تَضْحَكُونَ وَ لاَ تَبْكُونَ فما رئي النبي بعدها ضاحكا حتى ذهب من الدنيا.

(٥٤) سورة القمر مكية و هي خمس و خمسون آية (٥٥)

[سورة القمر (٥٤): الآیات ١ الی ٨ ]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ اِقْتَرَبَتِ اَلسَّاعَةُ وَ اِنْشَقَّ اَلْقَمَرُ ١ وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ٢ وَ كَذَّبُوا وَ اِتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَ كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ٣ وَ لَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ اَلْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ٤ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ اَلنُّذُرُ ٥ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ اَلدَّاعِ إِلى‏ شَيْ‏ءٍ نُكُرٍ ٦ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ اَلْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ٧ مُهْطِعِينَ إِلَى اَلدَّاعِ يَقُولُ اَلْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ٨

 

 

 (بيان)

سورة ممحضة في الإنذار و التخويف إلا آيتين من آخرها تبشران المتقين بالجنة و الحضور عند ربهم.

تبدأ السورة بالإشارة إلى آية شق المقر التي أتى بها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن اقتراح من قومه، و تذكر رميهم له بالسحر و تكذيبهم به و اتباعهم الأهواء مع ما جاءهم أنباء زاجرة من أنباء يوم القيامة و أنباء الأمم الماضين الهالكين ثم يعيد تعالى عليهم نبذة من تلك الأنباء إعادة ساخط معاتب فيذكر سيئ حالهم يوم القيامة عند خروجهم من الأجداث و حضورهم للحساب.

ثم تشير إلى قصص قوم نوح و عاد و ثمود و قوم لوط و آل فرعون و ما نزل بهم من أليم العذاب إثر تكذيبهم بالنذر و ليس قوم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بأعز عند الله منهم و ما هم بمعجزين، و تختتم السورة ببشرى للمتقين.

و السورة مكية بشهادة سياق آياتها، و لا يعبأ بما قيل: إنها نزلت ببدر، و كذا بما قيل: إن بعض آياتها مدنية، و من غرر آياتها ما في آخرها من آيات القدر.

قوله تعالى: ﴿اِقْتَرَبَتِ اَلسَّاعَةُ وَ اِنْشَقَّ اَلْقَمَرُ الاقتراب‏ زيادة في القرب فقوله:

﴿اِقْتَرَبَتِ اَلسَّاعَةُ أي قربت جدا، و الساعة هي الظرف الذي تقوم فيه القيامة.

و قوله: ﴿وَ اِنْشَقَّ اَلْقَمَرُ أي انفصل بعضه عن بعض فصار فرقتين شقتين تشير الآية إلى آية شق القمر التي أجراها الله تعالى على يد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بمكة قبل الهجرة إثر سؤال المشركين من أهل مكة، و قد استفاضت الروايات على ذلك، و اتفق أهل الحديث و المفسرون على قبولها كما قيل. و لم يخالف فيه منهم إلا الحسن و عطاء و البلخي حيث قالوا: معنى قوله: ﴿اِنْشَقَّ اَلْقَمَرُ سينشق القمر عند قيام الساعة و إنما عبر بلفظ الماضي لتحقق الوقوع.

و هو مزيف مدفوع بدلالة الآية التالية ﴿وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ فإن سياقها أوضح شاهد على أن قوله ﴿آيَةً مطلق شامل لانشقاق القمر فعند وقوعه إعراضهم و قولهم: سحر مستمر و من المعلوم أن يوم القيامة يوم يظهر فيه الحقائق و يلجئون فيه إلى المعرفة، و لا معنى حينئذ لقولهم في آية ظاهرة: أنها سحر مستمر فليس إلا أنها

 

 

 آية قد وقعت للدلالة على الحق و الصدق و تأتي لهم أن يرموها عنادا بأنها سحر.

و مثله في السقوط ما قيل: إن الآية إشارة إلى ما ذهب إليه الرياضيون أخيرا أن القمر قطعة من الأرض كما أن الأرض جزء منفصل من الشمس فقوله: ﴿وَ اِنْشَقَّ اَلْقَمَرُ إشارة إلى حقيقة علمية لم ينكشف يوم النزول بعد.

و ذلك أن هذه النظرية على تقدير صحتها لا يلائمها قوله: ﴿وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ إذ لم ينقل عن أحد أنه قال للقمر: هو سحر مستمر.

على أن انفصال القمر عن الأرض اشتقاق و الذي في الآية الكريمة انشقاق، و لا يطلق الانشقاق إلا على تقطع الشي‏ء في نفسه قطعتين دون انفصاله من شي‏ء بعد ما كان جزء منه.

و مثله في السقوط ما قيل: إن معنى انشقاق القمر انكشاف الظلمة عند طلوعه و كذا ما قيل: إن انشقاق القمر كناية عن ظهور الأمر و وضوح الحق.

و الآية لا تخلو من إشعار بأن انشقاق القمر من لوازم اقتراب الساعة.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ الاستمرار من الشي‏ء مرور منه بعد مرور مرة بعد مرة، و لذا يطلق على الدوام و الاطراد فقولهم: سحر مستمر أي سحر بعد سحر مداوما.

و قوله: ﴿آيَةً نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم، و المعنى و كل آية يشاهدونها يقولون فيها أنها سحر بعد سحر، و فسر بعضهم المستمر بالمحكم الموثق، و بعضهم بالذاهب الزائل، و بعضهم بالمستبشع المنفور، و هي معان بعيدة.

قوله تعالى: ﴿وَ كَذَّبُوا وَ اِتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَ كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ متعلق التكذيب بقرينة ذيل الآية هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ما أتى به من الآيات أي و كذبوا بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ما أتى به من الآيات و الحال أن كل أمر مستقر سيستقر في مستقره فيعلم أنه حق أو باطل و صدق أو كذب فسيعلمون أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) صادق أو كاذب، على الحق أو لا فقوله: ﴿وَ كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ في معنى قوله: ﴿وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ: ص: ٨٨.

و قيل متعلق التكذيب انشقاق القمر و المعنى: و كذبوا بانشقاق القمر و اتبعوا أهواءهم، و جملة ﴿وَ كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ لا تلائمه تلك الملاءمة.

قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ اَلْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ المزدجر مصدر ميمي و هو الاتعاظ، و قوله: ﴿مِنَ اَلْأَنْبَاءِ بيان لما فيه مزدجر، و المراد بالأنباء أخبار الأمم

 

 

 الدارجة الهالكة أو أخبار يوم القيامة و قد احتمل كل منهما، و الظاهر من تعقيب الآية بأنباء يوم القيامة ثم بأنباء عدة من الأمم الهالكة أن المراد بالأنباء التي فيها مزدجر جميع ذلك.

قوله تعالى: ﴿حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ اَلنُّذُرُ الحكمة كلمة الحق التي ينتفع بها، و البلوغ‏ وصول الشي‏ء إلى ما تنتهي إليه المسافة و يكنى به عن تمام الشي‏ء و كماله فالحكمة البالغة هي الحكمة التامة الكاملة التي لا نقص فيها من حيث نفسها و من حيث أثرها.

و قوله: ﴿فَمَا تُغْنِ اَلنُّذُرُ الفاء فيه فصيحة تفصح عن جملة مقدرة تترتب عليها الكلام، و النذر جمع نذير بمعنى المنذر أو بمعنى الإنذار و الكل صحيح و إن كان الأول أقرب إلى الفهم.

و المعنى: هذا القرآن أو الذي يدعون إليه حكمة بالغة كذبوا بها و اتبعوا أهواءهم فما تغني المنذرون أو الإنذارات؟.

قوله تعالى: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ اَلدَّاعِ إِلى‏َ شَيْ‏ءٍ نُكُرٍ التولي‏ الإعراض و الفاء في ﴿فَتَوَلَّ لتفريع الأمر بالتولي على ما تقدمه من وصف حالهم أي إذا كانوا مكذبين بك متبعين أهواءهم لا يغني فيهم النذر و لا تؤثر فيهم الزواجر فتول عنهم و لا تلح عليهم بالدعوة.

و قوله: ﴿يَوْمَ يَدْعُ اَلدَّاعِ إِلى‏َ شَيْ‏ءٍ نُكُرٍ قال الراغب: الإنكار ضد العرفان يقال:

أنكرت كذا و نكرت، و أصله أن يرد على القلب ما لا يتصوره، و ذلك ضرب من الجهل قال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأى‏َ أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ. قال: و النكر الدهاء و الأمر الصعب الذي لا يعرف. انتهى.

و قد تم الكلام في قوله: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ببيان حالهم تجاه الحكمة البالغة التي ألقيت إليهم و الزواجر التي ذكروا بها على سبيل الإنذار، ثم أعاد سبحانه نبذة من تلك الزواجر التي هي أنباء من حالهم يوم القيامة و من عاقبة حال الأمم المكذبين من الماضين في لحن العتاب و التوبيخ الشديد الذي تهز قلوبهم للانتباه و تقطع منابت أعذارهم في الإعراض.

فقوله: ﴿يَوْمَ يَدْعُ اَلدَّاعِ إلخ، كلام مفصول عما قبله لذكر الزواجر التي أشير إليها سابقا في مقام الجواب عن سؤال مقدر كأنه لما قال: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ سئل فقيل: فإلى م يئول أمرهم؟ فقيل: ﴿يَوْمَ يَدْعُ إلخ، أي هذه حال آخرتهم و تلك عاقبة دنيا أشياعهم و أمثالهم من قوم نوح و عاد و ثمود و غيرهم، و ليسوا خيرا منهم.

و على هذا فالظرف في ﴿يَوْمَ يَدْعُ متعلق بما سيأتي من قوله: ﴿يَخْرُجُونَ و المعنى:

 

 

 يخرجون من الأجداث يوم يدعو الداعي إلى شي‏ء نكر، إلخ و إما متعلق بمحذوف، و التقدير اذكر يوم يدعو الداعي، و المحصل اذكر ذاك اليوم و حالهم فيه، و الآية في معنى قوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ اَلسَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ: الزخرف: ٦٦، و قوله: ﴿فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ: يونس: ١٠٢.

و لم يسم سبحانه هذا الداعي من هو؟ و قد نسب الدعوة في موضع من كلامه إلى نفسه فقال: ﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ: إسراء: ٥٢.

و إنما أورد من أنباء القيامة نبأ دعوتهم للخروج من الأجداث و الحضور لفصل القضاء و خروجهم منها خشعا أبصارهم مهطعين إلى الداعي ليحاذي به دعوتهم في الدنيا إلى الإيمان بالآيات و إعراضهم و قولهم: سحر مستمر.

و معنى الآية: اذكر يوم يدعو الداعي إلى أمر صعب عليهم و هو القضاء و الجزاء.

قوله تعالى: ﴿خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ اَلْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ الخشع‏ جمع خاشع و الخشوع نوع من الذلة و نسب إلى الأبصار لأن ظهوره فيها أتم.

و الأجداث‏ جمع جدث و هو القبر، و الجراد حيوان معروف، و تشبيههم في الخروج من القبور بالجراد المنتشر من حيث إن الجراد في انتشاره يدخل البعض منه في البعض و يختلط البعض بالبعض في جهات مختلفة فكذلك هؤلاء في خروجهم من القبور، قال تعالى:

﴿يَخْرُجُونَ مِنَ اَلْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلى‏َ نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ: المعارج: ٤٤.

قوله تعالى: ﴿مُهْطِعِينَ إِلَى اَلدَّاعِ يَقُولُ اَلْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ أي حال كونهم مسرعين إلى الداعي مطيعين مستجيبين دعوته يقول الكافرون: هذا يوم عسر أي صعب شديد.

(بحث روائي)

في تفسير القمي، : ﴿اِقْتَرَبَتِ اَلسَّاعَةُ قال: اقتربت القيامة فلا يكون بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلا القيامة و قد انقضت النبوة و الرسالة.

و قوله: ﴿وَ اِنْشَقَّ اَلْقَمَرُ فإن قريشا سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يريهم آية فدعا الله فانشق القمر نصفين حتى نظروا إليه ثم التأم فقالوا: هذا سحر مستمر أي صحيح.

 

 

 و في أمالي الشيخ، بإسناده عن عبيد الله بن علي عن الرضا عن آبائه عن علي (عليه السلام) قال: انشق القمر بمكة فلقتين فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): اشهدوا اشهدوا.

 أقول: ورد انشقاق القمر لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في روايات الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) كثيرا و قد تسلمه محدثوهم و العلماء من غير توقف.

 و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و أحمد و عبد بن حميد و مسلم و ابن جرير و ابن المنذر و الترمذي و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن أنس قال :سأل أهل مكة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) آية فانشق القمر بمكة فرقتين فنزلت ﴿اِقْتَرَبَتِ اَلسَّاعَةُ وَ اِنْشَقَّ اَلْقَمَرُ إلى قوله: ﴿سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ أي ذاهب. و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه و أبو نعيم و البيهقي و كلاهما في الدلائل من طريق مسروق عن ابن مسعود قال :انشق القمر على عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال قريش:

هذا سحر ابن أبي كبشة فقالوا: انتظروا ما يأتيكم به السفار فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم فجاء السفار فسألوهم فقالوا: نعم قد رأيناه فأنزل الله ﴿اِقْتَرَبَتِ اَلسَّاعَةُ وَ اِنْشَقَّ اَلْقَمَرُ. و فيه، أخرج مسلم و الترمذي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه و الحاكم و البيهقي و أبو نعيم في الدلائل من طريق مجاهد عن ابن عمر" :في قوله: ﴿اِقْتَرَبَتِ اَلسَّاعَةُ وَ اِنْشَقَّ اَلْقَمَرُ قال: كان ذلك على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) انشق فرقتين: فرقة من دون الجبل و فرقة خلفه - فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : اللهم اشهد. و فيه، أخرج أحمد و عبد بن حميد و الترمذي و ابن جرير و الحاكم و أبو نعيم و البيهقي عن جبير بن مطعم ":في قوله: ﴿وَ اِنْشَقَّ اَلْقَمَرُ قال: انشق القمر و نحن بمكة على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حتى صار فرقتين: فرقة على هذا الجبل و فرقة على هذا الجبل فقال الناس:

سحرنا محمد فقال رجل: إن كان سحركم فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم. و فيه، أخرج ابن جرير و ابن مردويه و أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس" :في قوله:

﴿اِقْتَرَبَتِ اَلسَّاعَةُ وَ اِنْشَقَّ اَلْقَمَرُ قال: قد مضى ذلك قبل الهجرة - انشق القمر حتى رأوا شقيه.

و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد و ابن جرير و ابن مردويه و أبو نعيم عن أبي عبد الرحمن السلمي قال :خطبنا حذيفة بن اليمان بالمدائن

 

 

فحمد الله و أثنى عليه. ثم قال: اقتربت الساعة و انشق القمر ألا و إن الساعة قد اقتربت.

ألا و إن القمر قد انشق على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم). ألا و إن الدنيا قد آذنت بفراق. ألا و إن اليوم المضمار و غدا السباق.

أقول: و قد روي انشقاق القمر بدعاء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بطرق مختلفة كثيرة عن هؤلاء النفر من الصحابة و هم أنس، و عبد الله بن مسعود، و ابن عمر، و جبير بن مطعم، و ابن عباس، و حذيفة بن اليمان، و عد في روح المعاني ممن روي عنه الحديث من الصحابة عليا (عليه السلام) ثم نقل عن السيد الشريف في شرح المواقف و عن ابن السبكي في شرح المختصر أن الحديث متواتر لا يمترى في تواتره. هذه حال الحديث عند أهل السنة و قد عرفت حاله عند الشيعة.

(كلام فيه إجمال القول في شق القمر)

آية شق القمر بيد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بمكة قبل الهجرة باقتراح من المشركين مما تسلمها المسلمون بلا ارتياب منهم.

و يدل عليها من القرآن الكريم دلالة ظاهرة قوله تعالى: ﴿اِقْتَرَبَتِ اَلسَّاعَةُ وَ اِنْشَقَّ اَلْقَمَرُ وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ: القمر: ٢، فالآية الثانية تأبى إلا أن يكون مدلول قوله: ﴿وَ اِنْشَقَّ اَلْقَمَرُ آية واقعة قريبة من زمان النزول أعرض عنها المشركون كسائر الآيات التي أعرضوا عنها و قالوا: سحر مستمر.

و يدل عليها من الحديث روايات مستفيضة متكاثرة رواها الفريقان و تسلمها المحدثون، و قد تقدمت نماذج منها في البحث الروائي.

فالكتاب و السنة يدلان عليها و انشقاق كرة من الكرات الجوية ممكن في نفسه لا دليل على استحالته العقلية، و وقوع الحوادث الخارقة للعادة و منها الآيات المعجزات جائز و قد قدمنا في الجزء الأول من الكتاب تفصيل الكلام فيها إمكانا و وقوعا و من أوضح الشواهد عليه القرآن الكريم فمن الواجب قبول هذه الآية و إن لم يكن من ضروريات الدين.

و اعترض عليها بأن صدور الآية المعجزة منه (ص) باقتراح من الناس ينافي قوله تعالى:

﴿وَ مَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا اَلْأَوَّلُونَ وَ آتَيْنَا ثَمُودَ اَلنَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَ مَا

 

 

 نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً: إسراء: ٥٩ فإن مفاد الآية إما أنا لا نرسل بالآيات إلى هذه الأمة لأن الأمم السابقة كذبوا بها و هؤلاء يماثلونهم في طباعهم فيكذبون بها، و لا فائدة في الإرسال مع عدم ترتب أثر عليه أو المفاد أنا لا نرسل بها لأنا أرسلنا إلى أوليهم فكذبوا بها فعذبوا و أهلكوا و لو أرسلنا إلى هؤلاء لكذبوا بها و عذبوا عذاب الاستئصال لكنا لا نريد أن نعاجلهم بالعذاب، و على أي حال لا يرسل بالآيات إلى هذه الأمة كما كانت ترسل إلى الأمم الدارجة.

نعم هذا في الآيات المرسلة باقتراح من الناس دون الآيات التي تؤيد بها الرسالة كالقرآن المؤيد لرسالة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و كآيتي العصا و اليد لموسى (عليه السلام) و آية إحياء الموتى و غيرها لعيسى (عليه السلام) ، و كذا الآيات النازلة لطفا منه سبحانه كالخوارق الصادرة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لا عن اقتراح منهم.

و مثل الآية السابقة قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ اَلْأَرْضِ يَنْبُوعاً إلى أن قال ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً: إسراء: ٩٣ و غير ذلك من الآيات.

و الجواب عن هذا الاعتراض يحتاج إلى تقديم مقدمة هي أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعث رسولا إلى أهل الدنيا كافة بنبوة خاتمة كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اَللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً: الأعراف: ١٥٨، و قوله: ﴿وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا اَلْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ : الأنعام: ١٩، و قوله: ﴿وَ لَكِنْ رَسُولَ اَللَّهِ وَ خَاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ: الأحزاب: ٤٠ إلى غير ذلك من الآيات.

و قد بدأ (ص) و هو بمكة بدعوة قومه من أهل مكة و حواليها فقابلوه بما استطاعوا من الشقاق و الإيذاء و الاستهزاء و هموا بإخراجه أو إثباته أو قتله حتى أمره ربه بالهجرة غير أنه آمن به و هو بمكة جمع كثير منهم و إن كانت عامتهم على الكفر و المؤمنون و إن كانوا قليلين بالنسبة إلى المشركين مضطهدين مفتنين لكنهم كانوا في أنفسهم جمعا ذا عدد كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ: النساء: ٧٧ فقد استجازوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يقاتلوا المشركين فلم يأذن الله لهم في ذلك على ما روي في سبب نزول الآية و هذا يدل على أنهم كانوا ذوي عدة و عدة في الجملة و لم يزالوا يزيدون جمعا.

 

 

 ثم هاجر (ص) إلى المدينة و بسط هنالك الدعوة و نشر الإسلام فيها و في حواليها و في القبائل و في اليمن و سائر أقطار الجزيرة ما عدا مكة و حواليها ثم بسط الدعوة على غير الجزيرة فكاتب الملوك و العظماء من فارس و الروم و مصر سنة ست من الهجرة ثم فتح مكة سنة ثمان من الهجرة و قد أسلم ما بين الهجرة و الفتح جمع من أهلها و حواليها.

ثم ارتحل (ص) و كان من انتشار الإسلام ما كان، و لم يزل الإسلام يزيد جمعا و ينتشر صيتا إلى يومنا هذا و قد بلغوا خمس أهل الأرض عددا.

إذا تمهد هذا فنقول: كانت آية انشقاق القمر آية اقتراحية تستعقب العذاب لو كذبوا بها و قد كذبوا و قالوا سحر مستمر و ما كان الله ليهلك بها جميع من أرسل إليهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هم أهل الأرض جميعا لعدم تمام الحجة عليهم يومئذ و قد كان الانشقاق سنة خمس قبل الهجرة، و قد قال تعالى: ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ: الأنفال: ٤٢.

و ما كان الله ليهلك جميع أهل مكة و حواليها خاصة و بينهم جمع من المسلمين كما قال تعالى:

﴿وَ لَوْ لاَ رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَ نِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اَللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الفتح: ٢٥.

و ما كان الله سبحانه لينجي المؤمنين و يهلك كفارهم و قد آمن جمع كثير منهم فيما بين سنة خمس قبل الهجرة و سنة ثمان بعد الهجرة عام فتح مكة ثم آمنت عامتهم يوم الفتح و الإسلام كان يكتفي منهم بظاهر الشهادتين.

و لم تكن عامة أهل مكة و حواليها أهل عناد و جحود و إنما كان أهل الجحود و العناد عظماؤهم و صناديدهم المستهزئين بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) المعذبين للمؤمنين، المقترحين عليه بالآيات و هم الذين يقول تعالى فيهم: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ: البقرة: ٦، و قد أوعد الله هؤلاء الجاحدين المقترحين بتحريم الإيمان و الهلاك في مواضع من كلامه فلم يؤمنوا و أهلكهم الله يوم بدر و تمت كلمة الرب صدقا و عدلا.

و أما التمسك لنفي إرسال الآيات مطلقا بقوله تعالى: ﴿وَ مَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا اَلْأَوَّلُونَ فالآية لا تشمل قطعا الآيات المؤيدة للرسالة كالقرآن المؤيد لرسالة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و كذا الآيات النازلة لطفا كالخوارق الصادرة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من الإخبار بالمغيبات و شفاء المرضى بدعائه و غير ذلك.

فلو كانت مطلقة فإنما تشمل الآيات الاقتراحية و تفيد أن الله سبحانه لم يرسل الآيات

 

 

 التي اقترحتها قريش أو لم‏[4] يرسل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالآيات التي اقترحوها لأن الأمم السابقة كذبوا بها و طباع هؤلاء المقترحين طباعهم يكذبون بها و لازمها نزول العذاب و الله لا يريد أن يعذبهم عاجلا.

و قد أوضح سبحانه سبب عدم معاجلتهم بالعذاب بقوله: ﴿وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ مَا كَانَ اَللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ: الأنفال: ٣٣، و استبان بذلك أن المانع من عذابهم وجود الرسول فيهم كما يفيده أيضا قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ اَلْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَ إِذاً لاَ يَلْبَثُونَ خِلاَفَكَ إِلاَّ قَلِيلاً: إسراء: ٧٦.

ثم قال تعالى: ﴿وَ مَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اَللَّهُ وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ وَ مَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ اَلْمُتَّقُونَ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَ مَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ اَلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَ تَصْدِيَةً فَذُوقُوا اَلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ: الأنفال: ٣٥ و الآيات نزلت عقيب غزوة بدر.

و الآيات تبين أنه لم يكن من قبلهم مانع من نزول العذاب غير وجود النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بينهم فإذا زال المانع بخروجه من بينهم فليذوقوا العذاب و هو ما أصابهم في وقعة بدر من القتل الذريع.

و بالجملة كان المانع من إرسال الآيات تكذيب الأولين و مماثلتهم لهم في خصيصة التكذيب و وجود النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بينهم المانع من معاجلة العذاب فإذا وجد مقتض للعذاب كالصد و المكاء و التصدية و زال أحد ركني المانع و هو كونه (ص) فيهم فلا مانع من العذاب و لا مانع من نزول الآية و إرسالها ليحق عليهم القول فيعذبوا بسبب تكذيبهم لها و بسبب مقتضيات أخر كالصد و نحوه.

فتحصل أن قوله تعالى: ﴿وَ مَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إلخ، إنما يفيد الإمساك عن إرسال الآيات ما دام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيهم و أما إرسالها و تأخير العذاب إلى خروجه من بينهم فلا دلالة فيه عليه و قد صرح سبحانه بأن وقعة بدر كانت آية و ما أصابهم فيها كان عذابا، و كذا لو كان مفاد الآية هو الامتناع عن الإرسال لكونه لغوا بسبب كونهم مجبولين على التكذيب فإن إرسالها مع تأخير العذاب و النكال إلى خروج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من

 

 

 بينهم من الفائدة ليحق الله الحق و يبطل الباطل فلتكن آية انشقاق القمر من الآيات النازلة التي من فائدتها نزول العذاب عليهم بعد خروج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من بينهم.

و أما قوله تعالى: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً فليس مدلوله نفي تأييد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالآيات المعجزة و إنكار نزولها من أصلها كيف؟ و هو ينفيها عن نفسه بما أنه بشر رسول، و لو كان المراد ذلك لأفاد إنكار معجزات الأنبياء جميعا لكون كل منهم بشرا رسولا، و صريح القرآن فيما حدث من قصص الأنبياء و أخبر عن آياتهم يناقض ذلك، و أوضح من الجميع في مناقضة ذلك نفس الآية التي هي من القرآن المتحدي بالإعجاز.

بل مدلوله أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بشر رسول غير قادر من حيث نفسه على شي‏ء من الآيات التي يقترحون عليه، و إنما الأمر إلى الله سبحانه إن شاء أنزلها و إن لم يشأ لم يفعل قال تعالى: ﴿وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا اَلْآيَاتُ عِنْدَ اَللَّهِ وَ مَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ: الأنعام: ١٠٩، و قال حاكيا عن قوم نوح: ﴿قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اَللَّهُ إِنْ شَاءَ: هود: ٣٣، و قال: ﴿وَ مَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ: المؤمن:

 ٧٨، و الآيات في هذا المعنى كثيرة.

و من الاعتراض على آية الانشقاق ما قيل: إن القمر لو انشق كما يقال لرآه جميع الناس و لضبطه أهل الأرصاد في الشرق و الغرب لكونه من أعجب الآيات السماوية و لم يعهد فيما بلغ إلينا من التاريخ و الكتب الباحثة عن الأوضاح السماوية له نظير و الدواعي متوفرة على استماعه و نقله.

و أجيب بما حاصله أن من الممكن أولا: أن يغفل عنه فلا دليل على كون كل حادث أرضي أو سماوي معلوما للناس محفوظا عندهم يرثه خلف عن سلف.

و ثانيا: أن الحجاز و ما حولها من البلاد العربية و غيرها لم يكن بها مرصد للأوضاع السماوية، و إنما كان ما كان من المراصد بالهند و المغرب من الروم و اليونان و غيرهما و لم يثبت وجود مرصد في هذا الوقت و هو على ما في بعض الروايات أول الليلة الرابعة عشرة من ذي الحجة سنة خمس قبل الهجرة .

على أن بلاد الغرب التي كانوا معتنين بهذا الشأن بينها و بين مكة من اختلاف الأفق ما

 

 

 يوجب فصلا زمانيا معتدا به و قد كان القمر على ما في بعض الروايات بدرا و انشق في حوالي غروب الشمس حين طلوعه و لم يبق على الانشقاق إلا زمانا يسيرا ثم التأم فيقع طلوعه على بلاد الغرب و هو ملتئم ثانيا.

على أنا نتهم غير المسلمين من أتباع الكنيسة و الوثنية في الأمور الدينية التي لها مساس نفع بالإسلام.

و من الاعتراض عليها ما قيل: إن الانشقاق لا يقع إلا ببطلان التجاذب بين الشقتين و حينئذ يستحيل الالتيام فلو كان منشقا لم يلتئم أبدا.

و الجواب عنه أن الاستحالة العقلية ممنوعة، و الاستحالة العادية بمعنى اختراق العادة لو منعت عن الالتيام بعد الانشقاق لمنعت أولا عن الانشقاق بعد الالتيام و لم تمنع و أصل الكلام مبني على جواز خرق العادة.

[سورة القمر (٥٤): الآیات ٩ الی ٤٢]

﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَ قَالُوا مَجْنُونٌ وَ اُزْدُجِرَ ٩ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ١٠ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ اَلسَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ١١ وَ فَجَّرْنَا اَلْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى اَلْمَاءُ عَلى‏ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ١٢ وَ حَمَلْنَاهُ عَلى‏ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَ دُسُرٍ ١٣ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ ١٤ وَ لَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ١٥ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَ نُذُرِ ١٦ وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا اَلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ١٧ كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَ نُذُرِ ١٨ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ١٩ تَنْزِعُ اَلنَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ٢٠

 

 

﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَ نُذُرِ ٢١ وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا اَلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ٢٢ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ٢٣ فَقَالُوا أَ بَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلاَلٍ وَ سُعُرٍ ٢٤ أَ أُلْقِيَ اَلذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ٢٥ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ اَلْكَذَّابُ اَلْأَشِرُ ٢٦ إِنَّا مُرْسِلُوا اَلنَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَ اِصْطَبِرْ ٢٧ وَ نَبِّئْهُمْ أَنَّ اَلْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ ٢٨ فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطى‏ فَعَقَرَ ٢٩ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَ نُذُرِ ٣٠ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ اَلْمُحْتَظِرِ ٣١ وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا اَلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ٣٢ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ ٣٣ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ ٣٤ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ ٣٥ وَ لَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ ٣٦ وَ لَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَ نُذُرِ ٣٧ وَ لَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ ٣٨ فَذُوقُوا عَذَابِي وَ نُذُرِ ٣٩ وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا اَلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ٤٠ وَ لَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ اَلنُّذُرُ ٤١ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ٤٢

 

 

 (بيان)

إشارة إلى بعض ما فيه مزدجر من أنباء الأمم الدارجة خص بالذكر من بينهم قوم نوح و عاد و ثمود و قوم لوط و آل فرعون فذكرهم بأنبائهم و أعاد عليهم إجمال ما قص عليهم سابقا من قصصهم و ما آل إليه تكذيبهم بآيات الله و رسله من أليم العذاب و هائل العقاب تقريرا لقوله: ﴿وَ لَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ اَلْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ.

و لتوكيد التقرير و تمثيل ما في هذه القصص الزاجرة من الزجر القارع للقلوب عقب كل واحدة من القصص بقوله خطابا لهم: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَ نُذُرِ ثم ثناه بذكر الغرض من الإنذار و التخويف فقال: ﴿وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا اَلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.

قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَ قَالُوا مَجْنُونٌ وَ اُزْدُجِرَ التكذيب الأول منزل منزلة اللازم أي فعلت التكذيب، و قوله: ﴿فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا إلخ، تفسيره كما في قوله: ﴿وَ نَادى‏َ نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ الخ،: هود: ٤٥.

و قيل: المراد بالتكذيب الأول التكذيب المطلق و هو تكذيبهم بالرسل و بالثاني التكذيب بنوح خاصة كقوله في سورة الشعراء: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ اَلْمُرْسَلِينَ: الشعراء: ١٠٥، و المعنى: كذبت قوم نوح المرسلين فترتب عليه تكذيبهم لنوح، و هو وجه حسن.

و قيل: المراد بتفريع التكذب على التكذيب الإشارة إلى كونه تكذيبا إثر تكذيب بطول زمان دعوته فكلما انقرض قرن منهم مكذب جاء بعدهم قرن آخر مكذب، و هو معنى بعيد.

و مثله قول بعضهم: إن المراد بالتكذيب الأول قصده و بالثاني فعله.

و قوله: ﴿فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا في التعبير عن نوح (عليه السلام) بقوله: ﴿عَبْدَنَا في مثل المقام تجليل لمقامه و تعظيم لأمره و إشارة إلى أن تكذيبهم له يرجع إليه تعالى لأنه عبد لا يملك شيئا و ما له فهو لله.

و قوله: ﴿وَ قَالُوا مَجْنُونٌ وَ اُزْدُجِرَ المراد بالازدجار زجر الجن له أثر الجنون، و المعنى:

و لم يقتصروا على مجرد التكذيب بل نسبوه إلى الجنون فقالوا هو مجنون و ازدجره الجن فلا يتكلم إلا عن زجر و ليس كلامه من الوحي السماوي في شي‏ء.

 

 

 و قيل: الفاعل المحذوف للازدجار هو القوم، و المعنى: و ازدجره القوم عن الدعوة و التبليغ بأنواع الإيذاء و التخويف، و لعل المعنى الأول أظهر.

قوله تعالى: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ الانتصار الانتقام، و قوله: ﴿أَنِّي مَغْلُوبٌ أي بالقهر و التحكم دون الحجة، و هذا الدعاء تلخيص لتفصيل دعائه، و تفصيل دعائه مذكور في سورة نوح و تفصيل حججه في سورة هود و غيرها.

قوله تعالى: ﴿فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ اَلسَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ قال في المجمع،: الهمر صب الدمع و الماء بشدة، و الانهمار الانصباب، انتهى. و فتح أبواب السماء و هي الجو بماء منصب استعارة تمثيلية عن شدة انصباب الماء و جريان المطر متواليا كأنه مدخر وراء باب مسدود يمنع عن انصبابه ففتح الباب فانصب أشد ما يكون.

قوله تعالى: ﴿وَ فَجَّرْنَا اَلْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى اَلْمَاءُ عَلى‏َ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ قال في المجمع،: التفجير تشقيق الأرض عن الماء، و العيون‏ جمع عين الماء و هو ما يفور من الأرض مستديرا كاستدارة عين الحيوان. انتهى.

و المعنى: جعلنا الأرض عيونا منفجرة عن الماء تجري جريانا متوافقا متتابعا.

و قوله: ﴿فَالْتَقَى اَلْمَاءُ عَلى‏َ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ أي فالتقى الماءان ماء السماء و ماء الأرض مستقرا على أمر قدره الله تعالى أي حسب ما قدر من غير نقيصة و لا زيادة و لا عجل و لا مهل.

فالماء اسم جنس أريد به ماء السماء و ماء الأرض و لذلك لم يثن، و المراد بأمر قد قدر الصفة التي قدرها الله لهذا الطوفان.

قوله تعالى: ﴿وَ حَمَلْنَاهُ عَلى‏َ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَ دُسُرٍ المراد بذات الألواح و الدسر السفينة، و الألواح‏ جمع لوح و هو الخشبة التي يركب بعضها على بعض في السفينة، و الدسر جمع دسار و دسر و هو المسمار الذي تشد بها الألواح في السفينة، و قيل فيه معان أخر لا تلائم الآية تلك الملاءمة.

قوله تعالى: ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ أي تجري السفينة على الماء المحيط بالأرض بأنواع من مراقبتنا و حفظنا و حراستنا، و قيل: المراد تجري بأعين أوليائنا و من وكلناه بها من الملائكة.

و قوله: ﴿جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ أي جريان السفينة كذلك و فيه نجاة من فيها من الهلاك ليكون جزاء لمن كان كفر به و هو نوح (عليه السلام) كفر به و بدعوته قومه، فالآية في معنى

 

 

 قوله: ﴿وَ نَجَّيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ إلى أن قال ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ : الصافات: ٨٠.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ضمير ﴿تَرَكْنَاهَا للسفينة على ما يفيده السياق و اللام للقسم، و المعنى: أقسم لقد أبقينا تلك السفينة التي نجينا بها نوحا و الذين معه، و جعلناها آية يعتبر بها من اعتبر فهل من متذكر يتذكر بها وحدانيته تعالى و أن دعوة أنبيائه حق، و أن أخذه أليم شديد؟ و لازم هذا المعنى بقاء السفينة إلى حين نزول هذه الآيات علامة دالة على واقعة الطوفان مذكرة لها، و قد قال بعضهم في تفسير الآية على ما نقل: أبقى الله سفينة نوح على الجودي حتى أدركها أوائل هذه الأمة[5]، انتهى. و قد أوردنا في تفسير سورة هود في آخر الأبحاث حول قصة نوح خبر أنهم عثروا في بعض قلل جبل آراراط و هو الجودي قطعات أخشاب من سفينة متلاشية وقعت هناك، فراجع.

و قيل: ضمير ﴿تَرَكْنَاهَا لما مر من القصة بما أنها فعله.

قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَ نُذُرِ النذر جمع نذير بمعنى الإنذار، و قيل:

مصدر بمعنى الإنذار. و الظاهر أن ﴿كَانَ ناقصة و اسمها ﴿عَذَابِي و خبرها ﴿فَكَيْفَ، و يمكن أن تكون تامة فاعلها قوله: ﴿عَذَابِي و قوله: ﴿فَكَيْفَ حالا منه.

و كيف كان فالاستفهام للتهويل يسجل به شدة العذاب و صدق الإنذار.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا اَلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ التيسير التسهيل و تيسير القرآن للذكر هو إلقاؤه على نحو يسهل فهم مقاصده للعامي و الخاصي و الأفهام البسيطة و المتعمقة كل على مقدار فهمه.

و يمكن أن يراد به تنزيل حقائقه العالية و مقاصده المرتفعة عن أفق الأفهام العادية إلى مرحلة التكليم العربي تناله عامة الأفهام كما يستفاد من قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ: الزخرف: ٤.

و المراد بالذكر ذكره تعالى بأسمائه أو صفاته أو أفعاله، قال في المفردات،: الذكر تارة يقال و يراد به هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة و هو كالحفظ

 

 

 إلا أن الحفظ يقال اعتبارا بإحرازه، و الذكر يقال اعتبارا باستحضاره و تارة يقال لحضور الشي‏ء القلب أو القول، و لذلك قيل: الذكر ذكران: ذكر بالقلب و ذكر باللسان و كل واحد منهما ضربان: ذكر عن نسيان و ذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ، و كل قول يقال له ذكر. انتهى.

و معنى الآية: و أقسم لقد سهلنا القرآن لأن يتذكر به، فيذكر الله تعالى و شئونه، فهل من متذكر يتذكر به فيؤمن بالله و يدين بما يدعو إليه من الدين الحق؟.

فالآية دعوة عامة إلى التذكر بالقرآن بعد تسجيل صدق الإنذار و شدة العذاب الذي أنذر به.

قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَ نُذُرِ شروع في قصة أخرى من القصص التي فيها الازدجار و لم يعطف على ما قبلها و مثلها القصص الآتية لأن كل واحدة من هذه القصص مستقلة كافية في الزجر و الردع و العظة لو اتعظوا بها.

و قوله: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَ نُذُرِ مسوق لتوجيه قلوب السامعين إلى ما يلقى إليهم من كيفية العذاب الهائل بقوله: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إلخ، و ليس مسوقا للتهويل و تسجيل شدة العذاب و صدق الإنذار كسابقه و إلا لتكرر قوله بعد: ﴿فَكَيْفَ كَانَ إلخ، كذا قيل و هو وجه حسن.

قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ بيان لما استفهم عنه في قوله: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَ نُذُرِ و الصرصر على ما في المجمع، الريح الشديدة الهبوب، و النحس‏ بالفتح فالسكون مصدر كالنحوسة بمعنى الشؤم، و ﴿مُسْتَمِرٍّ صفة لنحس، و معنى إرسال الريح في يوم نحس مستمر إرسالها في يوم متلبس بالنحوسة و الشأمة بالنسبة إليهم المستمرة عليهم لا يرجى فيه خير لهم و لا نجاة.

و المراد باليوم قطعة من الزمان لا اليوم الذي يساوي سبع الأسبوع لقوله تعالى في موضع آخر من كلامه: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ: حم السجدة ١٦، و في موضع آخر: ﴿سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً: الحاقة: ٧.

و فسر بعضهم النحس بالبرد.

قوله تعالى: ﴿تَنْزِعُ اَلنَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فاعل ﴿تَنْزِعُ ضمير راجع إلى

 

 

 الريح أي تنزع الريح الناس من الأرض، و أعجاز النخل أسافله، و المنقعر المقلوع من أصله، و المعنى ظاهر، و في الآية إشعار ببسطة القوم أجساما.

قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي إلى قوله ﴿مُدَّكِرٍ تقدم تفسير الآيتين.

(كلام في سعادة الأيام و نحوستها و الطيرة و الفأل في فصول)

١ - في سعادة الأيام و نحوستها:

 نحوسة اليوم أو أي مقدار من الزمان أن لا يعقب الحوادث الواقعة فيه إلا الشر و لا يكون الأعمال أو نوع خاص من الأعمال فيه مباركة لعاملها، و سعادته خلافه.

و لا سبيل لنا إلى إقامة البرهان على سعادة يوم من الأيام أو زمان من الأزمنة و لا نحوسته و طبيعة الزمان المقدارية متشابهة الأجزاء و الأبعاض، و لا إحاطة لنا بالعلل و الأسباب الفاعلة المؤثرة في حدوث الحوادث و كينونة الأعمال حتى يظهر لنا دوران اليوم أو القطعة من الزمان من علل و أسباب تقتضي سعادته أو نحوسته، و لذلك كانت التجربة الكافية غير متأتية لتوقفها على تجرد الموضوع لأثره حتى يعلم أن الأثر أثره و هو غير معلوم في المقام.

و لما مر بعينه لم يكن لنا سبيل إلى إقامة البرهان على نفي السعادة و النحوسة كما لم يكن سبيل إلى الإثبات و إن كان الثبوت بعيدا فالبعد غير الاستحالة. هذا بحسب النظر العقلي.

و أما بحسب النظر الشرعي ففي الكتاب ذكر من النحوسة و ما يقابلها، قال تعالى:

﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ: القمر: ١٩، و قال: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ: حم السجدة: ١٦، لكن لا يظهر من سياق القصة و دلالة الآيتين أزيد من كون النحوسة و الشؤم خاصة بنفس الزمان الذي كانت تهب عليهم فيه الريح عذابا و هو سبع ليال و ثمانية أيام متوالية يستمر عليهم فيها العذاب من غير أن تدور بدوران الأسابيع و هو ظاهر و إلا كان جميع الزمان نحسا، و لا بدوران الشهور و السنين.

و قال تعالى: ﴿وَ اَلْكِتَابِ اَلْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ: الدخان: ٣، و المراد بها ليلة القدر التي يصفها الله تعالى بقوله: ﴿لَيْلَةُ اَلْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ: القدر: ٣، و ظاهر

 

 

أن مباركة هذه الليلة و سعادتها إنما هي بمقارنتها نوعا من المقارنة لأمور عظام من الإفاضات الباطنية الإلهية و أفاعيل معنوية كإبرام القضاء و نزول الملائكة و الروح و كونها سلاما، قال تعالى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ: الدخان: ٤، و قال: ﴿تَنَزَّلُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ اَلْفَجْرِ: القدر: ٥.

و يئول معنى مباركتها و سعادتها إلى فضل العبادة و النسك فيها و غزارة ثوابها و قرب العناية الإلهية فيها من المتوجهين إلى ساحة العزة و الكبرياء.

و أما السنة فهناك روايات كثيرة جدا في السعد و النحس من أيام الأسبوع و من أيام الشهور العربية و من أيام شهور الفرس و من أيام الشهور الرومية، و هي روايات بالغة في الكثرة مودعة في جوامع الحديث‏[6] أكثرها ضعاف من مراسيل و مرفوعات و إن كان فيها ما لا يخلو من اعتبار من حيث إسنادها.

أما الروايات العادة للأيام النحسة كيوم الأربعاء و الأربعاء لا تدور[7] و سبعة أيام من كل شهر عربي و يومين من كل شهر رومي و نحو ذلك، ففي كثير منها و خاصة فيما يتعرض لنحوسة أيام الأسبوع و أيام الشهور العربية تعليل نحوسة اليوم بوقوع حوادث مرة غير مطلوبة بحسب المذاق الديني كرحلة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و شهادة الحسين (عليه السلام) و إلقاء إبراهيم (عليه السلام) في النار و نزول العذاب بأمة كذا و خلق النار و غير ذلك.

و معلوم أن في عدها نحسة مشئومة و تجنب اقتراب الأمور المطلوبة و طلب الحوائج التي يلتذ الإنسان بالحصول عليها فيها تحكيما للتقوى و تقوية للروح الدينية و في عدم الاعتناء و الاهتمام بها و الاسترسال في الاشتغال بالسعي في كل ما تهواه النفس في أي وقت كان إضرابا عن الحق و هتكا لحرمة الدين و إزراء لأوليائه فتئول نحوسة هذه الأيام إلى جهات من الشقاء المعنوي منبعثة عن علل و أسباب اعتبارية مرتبطة نوعا من الارتباط بهذه الأيام تفيد نوعا من الشقاء الديني على من لا يعتني بأمرها.

و أيضا قد ورد في عدة من هذه الروايات الاعتصام بالله بصدقة أو صوم أو دعاء أو قراءة شي‏ء من القرآن أو غير ذلك لدفع نحوسة هذه الأيام كما- عن مجالس ابن الشيخ، بإسناده

 

 

 عن سهل بن يعقوب الملقب بأبي نواس عن العسكري (عليه السلام) في حديث: قلت: يا سيدي في أكثر هذه الأيام قواطع عن المقاصد لما ذكر فيها من النحس و المخاوف فتدلني على الاحتراز من المخاوف فيها فإنما تدعوني الضرورة إلى التوجه في الحوائج فيها؟ فقال لي: يا سهل إن لشيعتنا بولايتنا لعصمة لو سلكوا بها في لجة البحار الغامرة و سباسب‏[8] البيداء الغائرة بين سباع و ذئاب و أعادي الجن و الإنس لآمنوا من مخاوفهم بولايتهم لنا، فثق بالله عز و جل و أخلص في الولاء لأئمتك الطاهرين و توجه حيث شئت و اقصد ما شئت. الحديث.

ثم أمره (عليه السلام) بشي‏ء من القرآن و الدعاء أن يقرأه و يدفع به النحوسة و الشأمة و يقصد ما شاء.

 و في الخصال، بإسناده عن محمد بن رياح الفلاح قال: رأيت أبا إبراهيم (عليه السلام) يحتجم يوم الجمعة فقلت: جعلت فداك تحتجم يوم الجمعة؟ قال: أقرأ آية الكرسي فإذا هاج بك الدم ليلا كان أو نهارا فاقرأ آية الكرسي و احتجم.

 و في الخصال، أيضا بإسناده عن محمد بن أحمد الدقاق قال: كتبت إلى أبي الحسن الثاني (عليه السلام) أسأله عن الخروج يوم الأربعاء لا تدور، فكتب (عليه السلام) : من خرج يوم الأربعاء لا تدور خلافا على أهل الطيرة وقي من كل آفة و عوفي من كل عاهة و قضى الله له حاجته.

و كتب إليه مرة أخرى يسأله عن الحجامة يوم الأربعاء لا تدور، فكتب (عليه السلام) : من احتجم في يوم الأربعاء لا تدور خلافا على أهل الطيرة عوفي من كل آفة، و وقي من كل عاهة، و لم‏[9] تخضر محاجمه.

 و في معناها ما في تحف العقول،: قال الحسين بن مسعود: دخلت على أبي الحسن علي بن محمد (عليه السلام) و قد نكبت إصبعي و تلقاني راكب و صدم كتفي، و دخلت في زحمه فخرقوا علي بعض ثيابي فقلت: كفاني الله شرك من يوم فما أيشمك. فقال (عليه السلام) لي:

يا حسن هذا و أنت تغشانا ترمي بذنبك من لا ذنب له؟.

قال الحسن: فأثاب إلى عقلي و تبينت خطئي فقلت: يا مولاي أستغفر الله. فقال:

 

 

 

 يا حسن ما ذنب الأيام حتى صرتم تتشاءمون بها إذا جوزيتم بأعمالكم فيها؟ قال الحسن:

أنا أستغفر الله أبدا، و هي توبتي يا بن رسول الله.

قال: ما ينفعكم و لكن الله يعاقبكم بذمها على ما لا ذم عليها فيه. أ ما علمت يا حسن أن الله هو المثيب و المعاقب و المجازي بالأعمال عاجلا و آجلا؟ قلت: بلى يا مولاي. قال:

لا تعد و لا تجعل للأيام صنعا في حكم الله. قال الحسن: بلى يا مولاي. و الروايات السابقة و لها نظائر في معناها يستفاد منها أن الملاك في نحوسة هذه الأيام النحسات هو تطير عامة الناس بها و للتطير تأثير نفساني كما سيأتي، و هذه الروايات تعالج نحوستها التي تأتيها من قبل الطيرة بصرف النفس عن الطيرة إن قوي الإنسان على ذلك، و بالالتجاء إلى الله سبحانه و الاعتصام به بقرآن يتلوه أو دعاء يدعو به إن لم يقو عليه بنفسه.

و حمل بعضهم هذه الروايات المسلمة لنحوسة بعض الأيام على التقية، و ليس بذاك البعيد فإن التشاؤم و التفاؤل بالأزمنة و الأمكنة و الأوضاع و الأحوال من خصائص العامة يوجد منه عندهم شي‏ء كثير عند الأمم و الطوائف المختلفة على تشتتهم و تفرقهم منذ القديم إلى يومنا و كان بين الناس حتى خواصهم في الصدر الأول في ذلك روايات دائرة يسندونها إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لا يسع لأحد أن يردها

 كما في كتاب المسلسلات، بإسناده عن الفضل بن الربيع قال: كنت يوما مع مولاي المأمون فأردنا الخروج يوم الأربعاء فقال المأمون: يوم مكروه سمعت أبي الرشيد يقول: سمعت المهدي يقول: سمعت المنصور يقول: سمعت أبي محمد بن علي يقول: سمعت أبي عليا يقول: سمعت أبي عبد الله بن عباس يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: إن آخر الأربعاء في الشهر يوم نحس مستمر.

 و أما الروايات الدالة على الأيام السعيدة من الأسبوع و غيرها فالوجه فيها نظير ما تقدمت إليه الإشارة في الأخبار الدالة على نحوستها من الوجه الأول فإن في هذه الأخبار تعليل بركة ما عده من الأيام السعيدة بوقوع حوادث متبركة عظيمة في نظر الدين كولادة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و بعثته‏

و كما ورد: أنه (ص) دعا فقال: اللهم بارك لأمتي في بكورها يوم سبتها و خميسها،

و ما ورد: أن الله ألان الحديد لداود (عليه السلام) يوم الثلاثاء، و أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يخرج للسفر يوم الجمعة، و أن الأحد من أسماء الله تعالى. فتبين مما تقدم على طوله أن الأخبار الواردة في سعادة الأيام و نحوستها لا تدل على أزيد

 

 

 من ابتنائهما على حوادث مرتبطة بالدين توجب حسنا و قبحا بحسب الذوق الديني أو بحسب تأثير النفوس، و أما اتصاف اليوم أو أي قطعة من الزمان بصفة الميمنة أو المشأمة و اختصاصه بخواص تكوينية عن علل و أسباب طبيعية تكوينية فلا، و ما كان من الأخبار ظاهرا في خلاف ذلك فإما محمول على التقية أو لا اعتماد عليه.

٢ - في سعادة الكواكب و نحوستها

و تأثير الأوضاع السماوية في الحوادث الأرضية سعادة و نحوسة. الكلام في ذلك من حيث النظر العقلي كالكلام في سعادة الأيام و نحوستها فلا سبيل إلى إقامة البرهان على شي‏ء من ذلك كسعادة الشمس و المشتري و قران السعدين و نحوسة المريخ و قران النحسين و القمر في العقرب.

نعم كان القدماء من منجمي الهند يرون للحوادث الأرضية ارتباطا بالأوضاع السماوية مطلقا أعم من أوضاع الثوابت و السيارات، و غيرهم يرى ذلك بين الحوادث و بين أوضاع السيارات السبع دون الثوابت و أوردوا لأوضاعها المختلفة خواص و آثارا تسمى بأحكام النجوم يرون عند تحقق كل وضع أنه يعقب وقوع آثاره.

و القوم بين قائل بأن الأجرام الكوكبية موجودات ذوات نفوس حية مريدة تفعل أفاعيلها بالعلية الفاعلية، و قائل بأنها أجرام غير ذات نفس تؤثر أثرها بالعلية الفاعلية، أو هي معدات لفعله تعالى و هو الفاعل للحوادث أو أن الكواكب و أوضاعها علامات للحوادث من غير فاعلية و لا إعداد، أو أنه لا شي‏ء من هذه الارتباطات بينها و بين الحوادث حتى على نحو العلامية و إنما جرت عادة الله على أن يحدث حادثة كذا عند وضع سماوي، كذا.

و شي‏ء من هذه الأحكام ليس بدائمي مطرد بحيث يلزم حكم كذا وضعا كذا فربما تصدق و ربما تكذب لكن الذي بلغنا من عجائب القصص و الحكايات في استخراجاتهم يعطي أن بين الأوضاع السماوية و الحوادث الأرضية ارتباطا ما إلا أنه في الجملة لا بالجملة كما أن بعض الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) يصدق ذلك كذلك.

و على هذا لا يمكن الحكم البتي بكون كوكب كذا أو وضع كذا سعدا أو نحسا و أما أصل ارتباط الحوادث و الأوضاع السماوية و الأرضية بعضها ببعض فليس في وسع الباحث الناقد إنكار ذلك.

و أما القول بكون الكواكب أو الأوضاع السماوية ذوات تأثير فيما دونها سواء قيل

 

 

 بكونها ذوات نفوس ناطقة أو لم يقل فليس مما يخالف شيئا من ضروريات الدين إلا أن يقال بكونها خالقة موجدة لما دونها من غير أن ينتهي ذلك إليه تعالى فيكون شركا لكنه لا قائل به حتى من وثنية الصابئة التي تعبد الكواكب، أو أن يقال بكونها مدبرة للنظام الكوني مستقلة في التدبير فيكون ربوبية تستعقب المعبودية فيكون شركا كما عليه الصابئة عبدة الكواكب.

و أما الروايات الواردة في تأثير النجوم سعدا و نحسا و تصديقا و تكذيبا فهي كثيرة جدا على أقسام:

منها: ما يدل بظاهره على تسليم السعادة و النحوسة فيها

كما في الرسالة الذهبية، عن الرضا (عليه السلام) : اعلم أن جماعهن و القمر في برج الحمل أو الدلو من البروج أفضل و خير من ذلك أن يكون في برج الثور لكونه شرف القمر.

 و في البحار، عن النوادر بإسناده عن حمران عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من سافر أو تزوج و القمر في العقرب لم ير الحسنى‏ الخبر،

 و في كتاب النجوم، لابن طاووس عن علي (عليه السلام) : يكره أن يسافر الرجل في محاق الشهر و إذا كان القمر في العقرب.

و يمكن حمل أمثال هذه الروايات على التقية على ما قيل، أو على مقارنة الطيرة العامة كما ربما يشعر به ما في عدة من الروايات من الأمر بالصدقة لدفع النحوسة

كما في نوادر الراوندي، بإسناده عن موسى بن جعفر عن أبيه عن جده في حديث: إذا أصبحت فتصدق بصدقة تذهب عنك نحس ذلك اليوم، و إذا أمسيت فتصدق بصدقة تذهب عنك نحس تلك الليلة الخبر، و يمكن أن يكون ذلك لارتباط خاص بين الوضع السماوي و الحادثة الأرضية بنحو الاقتضاء.

و منها: ما يدل على تكذيب تأثيرات النجوم في الحوادث و النهي الشديد عن الاعتقاد بها و الاشتغال بعلمها

 كما في نهج البلاغة،: المنجم كالكاهن و الكاهن كالساحر و الساحر كالكافر و الكافر في النار. و يظهر من أخبار أخر تصدقها و تجوز النظر فيها أن النهي عن الاشتغال بها و البناء عليها إنما هو فيما اعتقد لها استقلال في التأثير لتأديته إلى الشرك كما تقدم.

و منها: ما يدل على كونه حقا في نفسه غير أن قليله لا ينفع و كثيره لا يدرك كما في الكافي،

 بإسناده عن عبد الرحمن بن سيابة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : جعلت فداك

 

 

 إن الناس يقولون: إن النجوم لا يحل النظر فيها و هو يعجبني - فإن كانت تضر بديني فلا حاجة لي في شي‏ء يضر بديني، و إن كانت لا تضر بديني - فو الله إني لأشتهيها و أشتهي النظر فيها. فقال: ليس كما يقولون لا يضر بدينك ثم قال: إنكم تنظرون في شي‏ء منها - كثيرة لا يدرك و قليله لا ينتفع به. الخبر.

 و في البحار، عن كتاب النجوم لابن طاووس عن معاوية بن حكيم عن محمد بن زياد عن محمد بن يحيى الخثعمي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن النجوم حق هي؟ قال لي: نعم فقلت له: و في الأرض من يعلمها؟ قال: نعم و في الأرض من يعلمها،: و في عدة من الروايات: ما يعلمها إلا أهل بيت من الهند و أهل بيت من العرب: و في بعضها: من قريش.

 و هذه الروايات تؤيد ما قدمناه من أن بين الأوضاع و الأحكام ارتباطا ما في الجملة.

نعم‏، ورد في بعض هذه الروايات: أن الله أنزل المشتري على الأرض في صورة رجل - فلقي رجلا من العجم فعلمه النجوم حتى ظن أنه بلغ ثم قال له انظر أين المشتري؟ فقال: ما أراه في الفلك و ما أدري أين هو؟ فنحاه و أخذ بيد رجل من الهند فعلمه حتى ظن أنه قد بلغ و قال: انظر إلى المشتري أين هو؟ فقال: إن حسابي ليدل على أنك أنت المشتري قال: فشهق شهقة فمات و ورث علمه أهله فالعلم هناك. الخبر، و هو أشبه بالموضوع.

٣ - في التفاؤل و التطير

و هما الاستدلال بحادث من الحوادث على الخير و ترقبه و هو التفاؤل أو على الشر و هو التطير و كثيرا ما يؤثران و يقع ما يترقب منهما من خير أو شر و خاصة في الشر و ذلك تأثير نفساني.

و قد فرق الإسلام بين التفاؤل و التطير فأمر بالتفاؤل و نهى عن التطير، و في ذلك تصديق لكون ما فيهما من التأثير تأثيرا نفسانيا. أما التفاؤل ففيما روي‏ عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : تفاءلوا بالخير تجدوه‏، و كان (ص) كثير التفاؤل نقل عنه ذلك في كثير من مواقفه‏[10].

و أما التطير فقد ورد في مواضع من الكتاب نقله عن أمم الأنبياء في دعواتهم لهم حيث كانوا يظهرون لأنبيائهم أنهم اطيروا بهم فلا يؤمنون، و أجاب عن ذلك أنبياؤهم

 

 

 بما حاصله أن التطير لا يقلب الحق باطلا و لا الباطل حقا، و أن الأمر إلى الله سبحانه لا إلى الطائر الذي لا يملك لنفسه شيئا فضلا عن أن يملك لغيره الخير و الشر و السعادة و الشقاء قال تعالى: ﴿قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَ لَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ: يس: ١٩، أي ما يجر إليكم الشر هو معكم لا معنا، و قال: ﴿قَالُوا اِطَّيَّرْنَا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اَللَّهِ: النمل: ٤٧، أي الذي يأتيكم به الخير أو الشر عند الله فهو الذي يقدر فيكم ما يقدر لا أنا و من معي فليس لنا من الأمر شي‏ء.

و قد وردت أخبار كثيرة في النهي عن الطيرة و في دفع شؤمها بعدم الاعتناء أو بالتوكل و الدعاء، و هي تؤيد ما قدمناه من أن تأثيرها من التأثيرات النفسانية

ففي الكافي، بإسناده عن عمرو بن حريث قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) : الطيرة على ما تجعلها إن هونتها تهونت، و إن شددتها تشددت، و إن لم تجعلها شيئا لم تكن شيئا. و دلالة الحديث على كون تأثيرها من التأثيرات النفسانية ظاهرة،

 و مثله الحديث المروي من طرق أهل السنة: ثلاث لا يسلم منها أحد: الطيرة و الحسد و الظن. قيل: فما نصنع؟ قال: إذا تطيرت فامض، و إذا حسدت فلا تبغ، و إذا ظننت فلا تحقق.

 و في معناه ما في الكافي، عن القمي عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): كفارة الطيرة التوكل. الخبر و ذلك أن في التوكل إرجاع أمر التأثير إلى الله تعالى، فلا يبقى للشي‏ء أثر حتى يتضرر به، و في معناه ما ورد من طرق أهل السنة

على ما في نهاية ابن الأثير،: الطيرة شرك و ما منا إلا و لكن الله يذهبه بالتوكل.

 و في المعنى السابق ما روي عن موسى بن جعفر (عليه السلام) أنه قال: الشؤم للمسافر في طريقه سبعة أشياء: الغراب الناعق عن يمينه، و الكلب الناشر لذنبه، و الذئب العاوي الذي يعوي في وجه الرجل و هو مقع على ذنبه ثم يرتفع ثم ينخفض ثلاثا، و الظبي السانح عن يمين إلى شمال، و البومة الصارخة، و المرأة الشمطاء تلقى فرجها، و الأتان العضبان يعني الجدعاء، فمن أوجس في نفسه منهن شيئا فليقل: اعتصمت بك يا رب من شر ما أجد في نفسي فيعصم من ذلك.[11]

 

 و يلحق بهذا البحث الكلامي في نحوسة سائر الأمور المعدودة عند العامة مشئومة نحسة كالعطاس مرة واحدة عند العزم على أمر و غير ذلك و قد وردت في النهي عن التطير بها و التوكل عند ذلك روايات في أبواب متفرقة،

 و في النبوي المروي من طرق الفريقين: لا عدوى‏[12]، و لا طيرة، و لا هامة، و لا شؤم، و لا صفر، و لا رضاع بعد فصال، و لا تعرب بعد هجرة، و لا صمت يوما إلى الليل، و لا طلاق قبل نكاح، و لا عتق قبل ملك، و لا يتم بعد إدراك.

(بيان‏)

قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ النذر إما مصدر كما قيل و المعنى: كذبت ثمود بإنذار نبيهم صالح (عليه السلام) ، و إما جمع نذير بمعنى المنذر، و المعنى: كذبت ثمود بالأنبياء لأن تكذيبهم بالواحد منهم تكذيب منهم بالجميع لأن رسالتهم واحدة لا اختلاف فيها فيكون في معنى قوله: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ اَلْمُرْسَلِينَ: الشعراء: ١٤١، و إما جمع نذير بمعنى الإنذار و مرجعه إلى أحد المعنيين السابقين.

قوله تعالى: ﴿فَقَالُوا أَ بَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلاَلٍ وَ سُعُرٍ تفريع على التكذيب و السعر جمع سعير بمعنى النار المشتعلة، و احتمل أن يكون بمعنى الجنون و هو أنسب للسياق، و الظاهر أن المراد بالواحد الواحد العددي، و المعنى: كذبوا به فقالوا:

أ بشرا من نوعنا و هو شخص واحد لا عدة له و لا جموع معه نتبعه إنا إذا مستقرون في ضلال عجيب و جنون.

فيكون هذا القول توجيها منهم لعدم اتباعهم لصالح لفقده العدة و القوة و هم قد اعتادوا على اتباع من عنده ذلك كالملوك و العظماء و قد كان صالح (عليه السلام) يدعوهم إلى طاعة نفسه و رفض طاعة عظمائهم كما يحكيه الله سبحانه عنه بقوله: ﴿فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُونِ وَ لاَ تُطِيعُوا أَمْرَ اَلْمُسْرِفِينَ: الشعراء: ١٥١.

 

 

 

 و لو أخذ الواحد واحدا نوعيا كان المعنى: أ بشرا هو واحد منا أي هو مثلنا و من نوعنا نتبعه؟ و كانت الآية التالية مفسرة لها.

قوله تعالى: ﴿أَ أُلْقِيَ اَلذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ الاستفهام كسابقه للإنكار و المعنى: أ أنزل الوحي عليه و اختص به من بيننا و لا فضل له علينا؟ لا يكون ذلك أبدا، و التعبير بالإلقاء دون الإنزال و نحوه للإشعار بالعجلة كما قيل.

و من المحتمل أن يكون المراد نفي أن يختص بإلقاء الذكر من بينهم و هو بشر مثلهم فلو كان الوحي حقا و جاز أن ينزل على البشر لنزل على البشر كلهم فما باله اختص بما من شأنه أن يرزقه الجميع؟ فتكون الآية في معنى قولهم له كما في سورة الشعراء: ﴿مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا: الشعراء: ١٥٤.

و قوله: ﴿بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ أي شديد البطر متكبر يريد أن يتعظم علينا بهذا الطريق.

قوله تعالى: ﴿سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ اَلْكَذَّابُ اَلْأَشِرُ حكاية قوله سبحانه لصالح (عليه السلام) كالآيتين بعدها.

و المراد بالغد العاقبة من قولهم: إن مع اليوم غدا، يشير سبحانه به إلى ما سينزل عليهم من العذاب فيعلمون عند ذلك علم عيان من هو الكذاب الأشر صالح أو هم؟.

قوله تعالى: ﴿إِنَّا مُرْسِلُوا اَلنَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَ اِصْطَبِرْ في مقام التعليل لما أخبر من أنهم سينزل عليهم العذاب و المفاد أنهم سينزل عليهم العذاب لأنا فاعلون كذا و كذا، و الفتنة الامتحان و الابتلاء، و المعنى: أنا مرسلون على طريق الإعجاز الناقة التي يسألونها امتحانا لهم فانتظرهم و اصبر على أذاهم.

قوله تعالى: ﴿وَ نَبِّئْهُمْ أَنَّ اَلْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ ضمير الجمع الأول للقوم و الثاني للقوم و الناقة على سبيل التغليب، و القسمة بمعنى المقسوم، و الشرب‏ النصيب من شرب الماء، و المعنى: و خبرهم بعد إرسال الناقة أن الماء مقسوم بين القوم و بين الناقة كل نصيب من الشرب يحضر عنده صاحبه فيحضر القوم عند شربهم و الناقة عند شربها قال تعالى: ﴿قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ: الشعراء: ١٥٥.

قوله تعالى: ﴿فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطى‏َ فَعَقَرَ المراد بصاحبهم عاقر الناقة، و التعاطي‏ التناول و المعنى: فنادى القوم عاقر الناقة لعقرها فتناول عقرها فعقرها و قتلها.

 

 

قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَ نُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ اَلْمُحْتَظِرِ المحتظر صاحب الحظيرة و هي كالحائط يعمل ليجعل فيه الماشية، و هشيم‏ المحتظر الشجر اليابس و نحوه يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا إلخ تقدم تفسيره.

قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ تقدم تفسيره في نظيره.

قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ الحاصب‏ الريح التي تأتي بالحجارة و الحصباء، و المراد بها الريح التي أرسلت فرمتهم بسجيل منضود.

و قال في مجمع البيان،: سحر إذا كان نكرة يراد به سحر من الأسحار يقال: رأيت زيدا سحرا من الأسحار فإذا أردت سحر يومك قلت: أتيته بسحر بالفتح و أتيته سحر من غير تنوين انتهى، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ﴿نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ ﴿نِعْمَةً مفعول له من ﴿نَجَّيْنَاهُمْ أي نجيناهم ليكون نعمة من عندنا نخصهم بها لأنهم كانوا شاكرين لنا و جزاء الشكر لنا النجاة.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ ضمير الفاعل في ﴿أَنْذَرَهُمْ للوط (عليه السلام) ، و البطشة الأخذة الشديدة بالعذاب، و التماري‏ الإصرار على الجدال و إلقاء الشك، و النذر الإنذار، و المعنى: أقسم لقد خوفهم لوط أخذنا الشديد فجادلوا في إنذاره و تخويفه.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَ نُذُرِ مراودته عن ضيفه طلبهم منه أن يسلم إليهم أضيافه و هم الملائكة، و طمس‏ أعينهم محوها، و قوله:

﴿فَذُوقُوا عَذَابِي وَ نُذُرِ التفات إلى خطابهم تشديدا و تقريعا، و النذر مصدر أريد به ما يتعلق به الإنذار و هو العذاب، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ قال في مجمع البيان،: و قوله:

﴿بُكْرَةً ظرف زمان فإذا كان معرفة بأن تريد بكرة يومك تقول: أتيته بكرة و غدوة لم تصرفهما فبكرة هنا و قد نون نكرة، و المراد باستقرار العذاب حلوله بهم و عدم تخلفه عنهم.

 

 

 قوله تعالى: ﴿فَذُوقُوا عَذَابِي إلى قوله ﴿مِنْ مُدَّكِرٍ تقدم تفسيره.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ اَلنُّذُرُ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ المراد بالنذر الإنذار، و قوله: ﴿كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا مفصول من غير عطف لكونه جوابا لسؤال مقدر كأنه لما قيل: ﴿وَ لَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ اَلنُّذُرُ قيل: فما فعلوا؟ فأجيب بقوله: ﴿كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، و فرع عليه قوله: ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ.

(بحث روائي)

في روح المعاني، ":في قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا اَلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس :لو لا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله تعالى:.

قال: و أخرج الديلمي مرفوعا عن أنس مثله. ثم قال: و لعل خبر أنس إن صح ليس تفسيرا للآية.

أقول: و ليس من البعيد أن يكون المراد المعنى الثاني الذي قدمناه في تفسير الآية.

و في تفسير القمي،: في قوله: ﴿فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ اَلسَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ قال: صب بلا قطر ﴿وَ فَجَّرْنَا اَلْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى اَلْمَاءُ قال: ماء السماء و ماء الأرض ﴿عَلى‏ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَ حَمَلْنَاهُ يعني نوحا ﴿عَلى‏ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَ دُسُرٍ قال: الألواح السفينة و الدسر المسامير.

و فيه،" :في قوله تعالى: ﴿فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ قال: قدار الذي عقر الناقة، و قوله: ﴿كَهَشِيمِ قال: الحشيش و النبات.

 و في الكافي، بإسناده عن أبي يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في حديث يذكر فيه قصة قوم لوط قال: فكابروه يعني لوطا حتى دخلوا البيت فصاح به جبرئيل فقال: يا لوط دعهم فلما دخلوا أهوى جبرئيل بإصبعه نحوهم فذهبت أعينهم و هو قول الله عز و جل: ﴿فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ.

[ سورة القمر (٥٤): الآیات ٤٣ الی ٥٥]

﴿أَ كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي اَلزُّبُرِ ٤٣ أَمْ

 

 

[1]  رواها في ثواب الأعمال عن عباد بن كثير النوا عن أبي جعفر عليه السلام.

[2]  ففي أصول الكافي عن ابن عمار عن الصادق عليه السلام: اللم الرجل يلم بالذنب فيستغفر اللَّه منه، و فيه بإسناده عن محمد بن مسلم عن الصادق عليه السلام قال: هو الذنب يلم به الرجل فيمكث ما شاء الله ثم يلم به بعد، و فيه بإسناده عن ابن عمار عن الصادق عليه السلام عليه قته الذي يلم بالذنب بعد الذنب ليس من سليقته أي من طبعه.

[3]  الحبالة: الوثاق.

[4]  أول شقي الترديد مبني على كون الباء في قوله: «نرسل بالآيات» زائدة و الآيات مفعول نرسل، و الثاني مبني على كونها بمعنى المصاحبة و المفعول محذوفا.

[5]  رواه في الدر المنثور عن عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن قتادة.

[6]  أوردت منها في الجزء الرابع عشر من كتاب البحار أحاديث جمة.

[7]  أربعاء لا تدور هي آخر أربعاء في الشهر.

[8]  السباسب جمع سبسب: المفازة.

[9]  هذه الجملة إشارة إلى نفي ما في عدة من الروايات أن من احتجم في يوم الأربعاء أو يوم الأربعاء لا تدور اخضرت محاجمه، و في بعضها خيف عليه أن تخضر محاجمه.

[10]  كما ورد في قصة الحديبية: جاء سهيل بن عمرو فقال صلى اللَّه عليه و آله: قد سهل عليكم أمركم.

و كما في قصة كتابه الى خسرو برويز يدعوه الى الإسلام فمزق كتابه و أرسل إليه قبضة من تراب فتفاءل صلى اللَّه عليه و آله منه أن المؤمنين سيملكون أرضهم.

[11]  الخبر على ما في البحار مذكور في الكافي و الخصال و المحاسن و الفقيه و ما في المتن مطابق لبعض نسخ الفقيه.

[12]  العدوى مصدر كالأعداء بمعنى تجاوز مرض المريض منه الى غيره كما يقال في الجرب و الوباء و الجدري و غيرها، و المراد بنفي العدوى كما يفيده مورد الرواية أن يكون العدوى مقتضى المرض من غير انتساب الى مشية اللَّه تعالى، و الهامة ما كان أهل الجاهلية يزعمون أن روح القتيل تصير طائراً يأوي الى قبره و يصيح و يشتكي العطش حتى يؤخذ بثأره، و الصفر هو التصغير عند سقاية الحيوان و غيره.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=2121
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 05 / 22
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 13