• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء الثامن عشر) ، تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده) .
                    • الموضوع : من ص 329 الى ص 393 (الأخير) .

من ص 329 الى ص 393 (الأخير)

غايات يتوجهون إليها و يتباهون بها كالغنى و الرئاسة و الجمال و انتشار الصيت و كذا الأنساب و غيرها.

و قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ فيه تأكيد لمضمون الآية و تلويح إلى أن الذي اختاره الله كرامة للناس كرامة حقيقية اختارها الله بعلمه و خبرته بخلاف ما اختاره الناس كرامة و شرفا لأنفسهم فإنها وهمية باطلة فإنها جميعا من زينة الحياة الدنيا قال تعالى: ﴿وَ مَا هَذِهِ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ: العنكبوت: ٦٤.

و في الآية دلالة على أن من الواجب على الناس أن يتبعوا في غايات الحياة أمر ربهم و يختاروا ما يختاره و يهدي إليه و قد اختار لهم التقوى كما أن من الواجب عليهم أن يختاروا من سنن الحياة ما يختاره لهم من الدين.

قوله تعالى: ﴿قَالَتِ اَلْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَ لَمَّا يَدْخُلِ اَلْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ إلخ الآية و ما يليها إلى آخر السورة متعرضة لحال الأعراب في دعواهم الإيمان و منهم على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بإيمانهم، و سياق نقل قولهم و أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يجيبهم بقوله: ﴿لَمْ تُؤْمِنُوا يدل على أن المراد بالأعراب بعض الأعراب البادين دون جميعهم، و يؤيده قوله: ﴿وَ مِنَ اَلْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ: التوبة: ٩٩.

و قوله: ﴿قَالَتِ اَلْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا أي قالوا لك آمنا و ادعوا الإيمان قل لم تؤمنوا و كذبهم في دعواهم، و قوله: ﴿وَ لَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا استدراك مما يدل عليه سابق الكلام، و التقدير: فلا تقولوا آمنا و لكن قولوا: أسلمنا.

و قوله: ﴿وَ لَمَّا يَدْخُلِ اَلْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ لنفي دخول الإيمان في قلوبهم مع انتظار دخوله، و لذلك لم يكن تكرارا لنفي الإيمان المدلول عليه بقوله: ﴿لَمْ تُؤْمِنُوا.

و قد نفي في الآية الإيمان عنهم و أوضحه بأنه لم يدخل في قلوبهم بعد و أثبت لهم الإسلام، و يظهر به الفرق بين الإيمان و الإسلام بأن الإيمان معنى قائم بالقلب من قبيل الاعتقاد، و الإسلام أمر قائم باللسان و الجوارح فإنه الاستسلام و الخضوع لسانا بالشهادة على التوحيد و النبوة و عملا بالمتابعة العملية ظاهرا سواء قارن الاعتقاد بحقية

 

 

 ما شهد عليه و عمل به أو لم يقارن، و بظاهر الشهادتين تحقن الدماء و عليه تجري المناكح و المواريث.

و قوله: ﴿وَ إِنْ تُطِيعُوا اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً الليت‏ النقص يقال: لاته يليته ليتا إذا نقصه، و المراد بالإطاعة الإخلاص فيها بموافقة الباطن للظاهر من غير نفاق، و طاعة الله استجابة ما دعا إليه من اعتقاد و عمل، و طاعة رسوله تصديقه و اتباعه فيما يأمر به فيما له الولاية عليه من أمور الأمة، و المراد بالأعمال جزاؤها المراد بنقص الأعمال نقص جزائها.

و المعنى: و إن تطيعوا الله فيما يأمركم به من اتباع دينه اعتقادا، و تطيعوا الرسول فيما يأمركم به لا ينقص من أجور أعمالكم شيئا، و قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تعليل لعدم نقصه تعالى أعمالهم إن أطاعوه و رسوله.

قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ اَلصَّادِقُونَ تعريف تفصيلي للمؤمنين بعد ما عرفوا إجمالا بأنهم الذين دخل الإيمان في قلوبهم كما هو لازم قوله: ﴿لَمْ تُؤْمِنُوا و ﴿لَمَّا يَدْخُلِ اَلْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ.

فقوله: ﴿إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فيه قصر المؤمنين في الذين آمنوا بالله و رسوله إلخ، فتفيد تعريفهم بما ذكر من الأوصاف تعريفا جامعا مانعا فمن اتصف بها مؤمن حقا كما أن من فقد شيئا منها ليس بمؤمن حقا.

و الإيمان بالله و رسوله عقد القلب على توحيده تعالى و حقية ما أرسل به رسوله و على صحة الرسالة و اتباع الرسول فيما يأمر به.

و قوله: ﴿ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا أي لم يشكوا في حقية ما آمنوا به و كان إيمانهم ثابتا مستقرا لا يزلزله شك، و التعبير بثم دون الواو كما قيل للدلالة على انتفاء عروض الريب حينا بعد حين كأنه طري جديد دائما فيفيد ثبوت الإيمان على استحكامه الأولى و لو قيل: و لم يرتابوا كان من الجائز أن يصدق مع الإيمان أولا مقارنا لعدم الارتياب مع السكوت عما بعد.

و قوله: ﴿وَ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ المجاهدة بذل الجهد و الطاقة

 

 

 و سبيل الله دينه، و المراد بالمجاهدة بالأموال و الأنفس العمل بما تسعه الاستطاعة و تبلغه الطاقة في التكاليف المالية كالزكاة و غير ذلك من الإنفاقات الواجبة، و التكاليف البدنية كالصلاة و الصوم و الحج و غير ذلك.

و المعنى: و يجدون بإتيان التكاليف المالية و البدنية حال كونهم أو حال كون عملهم في دين الله و سبيله.

و قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ اَلصَّادِقُونَ تصديق في إيمانهم إذا كانوا على الصفات المذكورة.

قوله تعالى: ﴿قُلْ أَ تُعَلِّمُونَ اَللَّهَ بِدِينِكُمْ وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ اَللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ توبيخ للأعراب حيث قالوا: آمنا و لازمه دعوى الصدق في قولهم و الإصرار على ذلك، و قيل: لما نزلت الآية السابقة حلفت الأعراب أنهم مؤمنون صادقون في قولهم: آمنا، فنزل: ﴿قُلْ أَ تُعَلِّمُونَ اَللَّهَ بِدِينِكُمْ الآية، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اَللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أي يمنون عليك بأن أسلموا و قد أخطئوا في منهم هذا من وجهين أحدهما أن حقيقة النعمة التي فيها المن هو الإيمان الذي هو مفتاح سعادة الدنيا و الآخرة دون الإسلام الذي له فوائد صورية من حقن الدماء و جواز المناكح و المواريث، و ثانيهما أن ليس للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من أمر الدين إلا أنه رسول مأمور بالتبليغ فلا من عليه لأحد ممن أسلم.

فلو كان هناك من لكان لهم على الله سبحانه لأن الدين دينه لكن لا من لأحد على الله لأن المنتفع بالدين في الدنيا و الآخرة هم المؤمنون دون الله الغني على الإطلاق فالمن لله عليهم أن هداهم له.

و قد بدل ثانيا الإسلام من الإيمان للإشارة إلى أن المن إنما هو بالإيمان دون الإسلام الذي إنما ينفعهم في الظاهر فقط.

فقد تضمن قوله: ﴿قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اَللَّهُ يَمُنُّ إلخ، الإشارة إلى خطئهم من الجهتين جميعا:

إحداهما: خطئهم من جهة توجيه المن إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو رسول ليس له من الأمر شي‏ء، و إليه الإشارة بقوله: ﴿لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ.

 

 

و ثانيهما: أن المن لو كان هناك من إنما هو بالإيمان دون الإسلام، و إليه الإشارة بتبديل الإسلام من الإيمان.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ختم للسورة و تأكيد يعلل و يؤكد به جميع ما تقدم في السورة من النواهي و الأوامر و ما بين فيها من الحقائق و ما أخبر فيها عن إيمان قوم و عدم إيمان آخرين فالآية تعلل بمضمونها جميع ذلك.

و المراد بغيب السماوات و الأرض ما فيها من الغيب أو الأعم مما فيهما و من الخارج منهما.

(بحث روائي‏)

في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل "* في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ قال: نزلت في قوم من بني تميم استهزءوا من بلال و سلمان و عمار و خباب و صهيب و ابن فهيرة و سالم مولى أبي حذيفة.

 و في المجمع،" :نزل قوله: ﴿لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ في ثابت بن قيس بن شماس و كان في أذنه وقر و كان إذا دخل المسجد تفسحوا له حتى يقعد عند النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيسمع ما يقول. فدخل المسجد يوما و الناس قد فرغوا من الصلاة و أخذوا مكانهم فجعل يتخطى رقاب الناس و يقول: تفسحوا تفسحوا حتى انتهى إلى رجل فقال له: أصبت مجلسا فاجلس فجلس خلفه مغضبا فلما انجلت الظلمة قال: من هذا؟ قال الرجل: أنا فلان فقال ثابت: ابن فلانة ذكر أما له كان يعير بها في الجاهلية فنكس الرجل رأسه حياء فنزلت الآية. ":عن ابن عباس. و فيه،" :و قوله: ﴿وَ لاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ نزل في نساء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) سخرن من أم سلمة.": عن أنس. ":و ذلك أنها ربطت حقويها بسبيبة و هي ثوب أبيض و سدلت طرفيها خلفها فكانت تجره فقالت عائشة لحفصة: انظري ما ذا تجر خلفها كأنه لسان كلب

 

 

 فهذه كانت سخريتهما، و قيل: إنها عيرتها بالقصر، و أشارت بيدها أنها قصيرة.":

عن الحسن.

 و في الدر المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد و البخاري في الأدب، و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و أبو يعلى و ابن جرير و ابن المنذر و البغوي في معجمه، و ابن حبان و الشيرازي في الألقاب، و الطبراني و ابن السني في عمل اليوم و الليلة، و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان، عن أبي جبيرة بن الضحاك قال "*: فينا نزلت في بني سلمة ﴿وَ لاَ تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) المدينة و ليس فينا رجل إلا و له اسمان أو ثلاثة فكان إذا دعا أحدهم باسم من تلك الأسماء - قالوا: يا رسول الله إنه يكره هذا الاسم فأنزل الله ﴿وَ لاَ تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ. و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدي" :أن سلمان الفارسي كان مع رجلين في سفر يخدمهما و ينال من طعامهما و أن سلمان نام نوما فطلبه صاحباه فلم يجداه فضربا الخباء و قالا ما يريد سلمان شيئا غير هذا أن يجي‏ء إلى طعام معدود و خباء مضروب فلما جاء سلمان أرسلاه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يطلب لهما إداما فانطلق فأتاه فقال: يا رسول الله بعثني أصحابي لتؤدمهم إن كان عندك. قال: ما يصنع أصحابك بالأدم؟ قد ائتدموا.

فرجع سلمان فخبرهما فانطلقا فأتيا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالا: و الذي بعثك بالحق ما أصبنا طعاما منذ نزلنا. قال: إنكما قد ائتدمتما سلمان بقولكما. فنزلت ﴿أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً. و فيه، أخرج الضياء المقدسي عن أنس قال: كانت العرب يخدم بعضها بعضا في الأسفار و كان مع أبي بكر و عمر رجل يخدمهما فناما و استيقظا و لم يهيئ لهما طعاما فقالا: إن هذا لنئوم فأيقظاه فقالا: ائت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقل له: إن أبا بكر و عمر يقرئانك السلام و يستأدمانك، فقال: إنهما ائتدما، فجاءاه فقالا يا رسول الله بأي شي‏ء ائتدمنا؟ قال: بلحم أخيكما، و الذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين ثناياكما، فقالا: استغفر لنا يا رسول الله. قال: مراه فليستغفر لكما. أقول: الظاهر أن القصة الموردة في الروايتين واحدة و الرجلان المذكوران في الرواية الأولى أبو بكر و عمر و الرجل المذكور في الثانية هو سلمان، و يؤيد هذا ما عن

 

 

 جوامع الجامع، قال: و روي: أن أبا بكر و عمر بعثا سلمان إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ليأتي لهما بطعام فبعثه إلى أسامة بن زيد و كان خازن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على رحله فقال: ما عندي شي‏ء فعاد إليهما فقالا: بخل أسامة و لو بعثنا سلمان إلى بئر سميحة لغار ماؤها.

ثم انطلقا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال لهما: ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما قالا: يا رسول الله ما تناولنا اليوم لحما. قال: ظلمتم تأكلون لحم سلمان و أسامة فنزلت.

 و في العيون، بإسناده عن محمد بن يحيى بن أبي عباد عن عمه قال: سمعت الرضا (عليه السلام ) يوما ينشد و قليلا ما كان ينشد شعرا:

كلنا نأمل مدا في الأجل *** والمنايا هن آفات الأمل

 لا يغرنك أباطيل المنى *** والزم القصد و دع عنك العلل

 إنما الدنيا كظل زائل *** حل فيه راكب ثم رحل‏

فقلت: لمن هذا أعز الله الأمير؟ فقال: لعراقي لكم قلت: أنشدنيه أبو العتاهية[1]

لنفسه فقال: هات اسمه و دع هذا، إن الله سبحانه يقول: ﴿وَ لاَ تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ و لعل الرجل يكره هذا.

 و في الكافي، بإسناده عن الحسين بن مختار عن أبي عبد الله (عليه السلام ) قال *: قال أمير المؤمنين (عليه السلام ) في كلام له: ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك منه، و لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا و أنت تجد لها في الخير محملا.

و في نهج البلاغة، و قال (عليه السلام ) : إذا استولى الصلاح على الزمان و أهله، ثم أساء رجل الظن برجل لم يظهر منه حوبة فقد ظلم، و إذا استولى الفساد على الزمان و أهله ثم أحسن رجل الظن برجل فقد غرر.

أقول: و الروايتان غير متعارضتين فالثانية ناظرة إلى نفس الظن و الأولى إلى ترتيب الأثر عليه عملا.

 و في الخصال، عن أسباط بن محمد بإسناده إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال : الغيبة أشد من الزنا، فقيل: يا رسول الله و لم ذلك؟ قال: صاحب الزنا يتوب فيتوب الله عليه و صاحب الغيبة يتوب فلا يتوب الله عليه حتى يكون صاحبه الذي يحله.

 

 

أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن مردويه و البيهقي عن أبي سعيد و جابر عنه (ص)، و لفظه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : الغيبة أشد من الزنا. قالوا: يا رسول الله و كيف الغيبة أشد من الزنا؟ قال: إن الرجل يزني فيتوب فيتوب الله عليه و إن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفرها له صاحبه.

 و في الكافي، بإسناده إلى السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام ) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الأكلة في جوفه.

 و فيه، بإسناده عن حفص بن عمر عن أبي عبد الله (عليه السلام ) قال: سئل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ما كفارة الاغتياب قال: تستغفر الله لمن اغتبته كما ذكرته.

 و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَ قَبَائِلَ قال:الشعوب العجم و القبائل العرب.:

أقول: و نسبه في مجمع البيان، إلى الصادق (عليه السلام ) . و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه و البيهقي عن جابر بن عبد الله قال : خطبنا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في وسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال: يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، و لا لعجمي على عربي، و لا لأسود على أحمر و لا لأحمر على أسود إلا بالتقوى إن أكرمكم عند الله أتقاكم. ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال فليبلغ الشاهد الغائب.

 و في الكافي، بإسناده عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله (عليه السلام ) قال : إن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) زوج مقداد بن الأسود ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب. إنما زوجه لتضع المناكح، و ليتأسوا برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و ليعلموا أن أكرمهم عند الله أتقاهم.

 و في روضة الكافي، بإسناده عن جميل بن دراج قال *: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام ) :

فما الكرم؟ قال: التقوى.

 و في الكافي، بإسناده عن يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله (عليه السلام ) في حديث قال : إن الإسلام قبل الإيمان و عليه يتوارثون و عليه يتناكحون و الإيمان عليه يثابون.

 و في الخصال، عن الأعمش عن جعفر بن محمد (عليه السلام ) في حديث : و الإسلام غير الإيمان، و كل مؤمن مسلم و ليس كل مسلم مؤمنا.

 

 

 و في الدر المنثور، ":في قوله تعالى: ﴿قَالَتِ اَلْأَعْرَابُ آمَنَّا": أخرج ابن جرير عن قتادة" :في قوله: ﴿قَالَتِ اَلْأَعْرَابُ آمَنَّا قال: نزلت في بني أسد.":

أقول: و هو مروي أيضا عن مجاهد و غيره.

 و فيه، أخرج ابن ماجة و ابن مردويه و الطبراني و البيهقي في شعب الإيمان، عن علي بن أبي طالب قال *: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : الإيمان معرفة بالقلب و إقرار باللسان و عمل بالأركان.

 و فيه، أخرج النسائي و البزاز و ابن مردويه عن ابن عباس قال *: جاءت بنو أسد إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالوا: يا رسول الله أسلمنا و قاتلك العرب و لم نقاتلك فنزلت هذه الآية ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا. أقول: و في هذا المعنى روايات أخر.

 

 

(٥٠) سورة ق مكية و هي خمس و أربعون آية (٤٥)

[سورة ق (٥٠): الآیات ١ الی ١٤]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ ق وَ اَلْقُرْآنِ اَلْمَجِيدِ ١ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ اَلْكَافِرُونَ هَذَا شَيْ‏ءٌ عَجِيبٌ ٢ أَ إِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ٣ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ اَلْأَرْضُ مِنْهُمْ وَ عِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ٤ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ٥ أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى اَلسَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَ زَيَّنَّاهَا وَ مَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ٦ وَ اَلْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَ أَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ٧ تَبْصِرَةً وَ ذِكْرى‏ لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ٨ وَ نَزَّلْنَا مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَ حَبَّ اَلْحَصِيدِ ٩ وَ اَلنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ ١٠ رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَ أَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ اَلْخُرُوجُ ١١ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحَابُ اَلرَّسِّ وَ ثَمُودُ ١٢ وَ عَادٌ وَ فِرْعَوْنُ وَ إِخْوَانُ لُوطٍ ١٣ وَ أَصْحَابُ اَلْأَيْكَةِ وَ قَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ اَلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ١٤

 

 

(بيان)

السورة تذكر الدعوة و تشير إلى ما فيها من الإنذار بالمعاد و جحد المشركين به و استعجابهم ذلك بأن الموت يستعقب بطلان الشخصية الإنسانية بصيرورته ترابا لا يبقى معه أثر مما كان عليه فكيف يرجع ثانيا إلى ما كان عليه قبل الموت فتدفع ما أظهروه من الاستعجاب و الاستبعاد بأن العلم الإلهي محيط بهم و عنده الكتاب الحفيظ الذي لا يعزب عنه شي‏ء مما دق و جل من أحوال خلقه ثم توعدهم بإصابة مثل ما أصاب الأمم الماضية الهالكة.

و تنبه ثانيا على علمه و قدرته تعالى بالإشارة إلى ما جرى من تدبيره تعالى في خلق السماوات و ما زينها به من الكواكب و النجوم و غير ذلك، و في خلق الأرض من حيث مدها و إلقاء الرواسي عليها و إنبات الأزواج النباتية فيها ثم بإنزال الماء و تهيئة أرزاق العباد و إحياء الأرض به.

ثم بيان حال الإنسان من أول ما خلق و أنه تحت المراقبة الشديدة الدقيقة حتى ما يلفظ به من لفظ و حتى ما يخطر بباله و توسوس به نفسه ما دام حيا ثم إذا أدركه الموت ثم إذا بعث لفصل القضاء ثم إذا فرغ من حسابه فأدخل النار إن كان من المكذبين أو الجنة المزيفة إن كان من المتقين.

و بالجملة مصب الكلام في السورة هو المعاد، و من غرر الآيات فيها قوله: ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ، و قوله: ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ اِمْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ و قوله: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ فِيهَا وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾.

و السورة مكية بشهادة سياق آياتها إلا ما قيل في قوله: ﴿وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ الآية أو الآيتين، و لا شاهد عليه من اللفظ.

و ما أوردناه من الآيات فيه إجمال الإشارة إلى المعاد و استبعادهم له، و إجمال الجواب و التهديد أولا ثم الإشارة إلى تفصيل الجواب و التهديد ثانيا.

قوله تعالى: ﴿ق وَ اَلْقُرْآنِ اَلْمَجِيدِ، قال في المجمع،: المجد في كلامهم الشرف

 

 

 الواسع يقال: مجد الرجل و مجد بضم العين و فتحها مجدا إذا عظم و كرم، و أصله من قولهم: مجدت الإبل مجودا إذا عظمت بطونها من كثرة أكلها من كلاء الربيع. انتهى.

و قوله: ﴿وَ اَلْقُرْآنِ اَلْمَجِيدِ قسم و جوابه محذوف يدل عليه الجمل التالية و التقدير و القرآن المجيد أن البعث حق أو إنك لمن المنذرين أو الإنذار حق، و قيل: جواب القسم مذكور و هو قوله: ﴿بَلْ عَجِبُوا إلخ، و قيل: هو قوله: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ إلخ، و قيل: قوله: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلخ، و قيل: قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرى‏َ إلخ، و قيل: قوله: ﴿مَا يُبَدَّلُ اَلْقَوْلُ لَدَيَّ إلخ، و هذه أقوال سخيفة لا يصار إليها.

قوله تعالى: ﴿بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ اَلْكَافِرُونَ هَذَا شَيْ‏ءٌ عَجِيبٌ إضراب عن مضمون جواب القسم المحذوف فكأنه قيل: إنا أرسلناك نذيرا فلم يؤمنوا بك بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم، أو قيل إن البعث الذي أنذرتهم به حق و لم يؤمنوا به بل عجبوا منه و استبعدوه.

و ضمير ﴿مِنْهُمْ في قوله: ﴿بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ راجع إليهم بما هم بشر أي من جنسهم و ذلك أن الوثنيين ينكرون نبوة البشر كما تقدمت الإشارة إليه مرارا أو راجع إليهم بما هم عرب و المعنى: بل عجبوا أن جاءهم منذر من قومهم و بلسانهم يبين لهم الحق أوفى بيان فيكون أبلغ في تقريعهم.

و قوله: ﴿فَقَالَ اَلْكَافِرُونَ هَذَا شَيْ‏ءٌ عَجِيبٌ وصفهم بالكفر و لم يقل: و قال المشركون و نحو ذلك للدلالة على سترهم للحق لما جاءهم، و الإشارة في قولهم: ﴿هَذَا شَيْ‏ءٌ عَجِيبٌ، إلى البعث و الرجوع إلى الله كما يفسره قوله بعد: ﴿أَ إِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً إلخ.

قوله تعالى: ﴿أَ إِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ الرجع‏ و الرجوع بمعنى و المراد بالبعد البعد عن العقل.

و جواب إذا في قولهم: ﴿أَ إِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً محذوف يدل عليه قولهم: ﴿ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ و التقدير أ ءذا متنا و كنا ترابا نبعث و نرجع؟ و الاستفهام للتعجيب، و إنما حذف للإشارة إلى أنه عجيب بحيث لا ينبغي أن يذكر، إذ لا يقبله عقل ذي عقل

 

 

 و الآية في مساق قوله: ﴿وَ قَالُوا أَ إِذَا ضَلَلْنَا فِي اَلْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ: الم السجدة: ١٠.

و المعنى: أنهم يتعجبون و يقولون: أ ءذا متنا و كنا ترابا - و بطلت ذواتنا بطلانا لا أثر معه منها - نبعث و نرجع؟ ثم كان قائلا يقول لهم: مم تتعجبون؟ فقالوا: ذلك رجع بعيد يستبعده العقل و لا يسلمه.

قوله تعالى: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ اَلْأَرْضُ مِنْهُمْ وَ عِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ رد منه تعالى لاستبعادهم البعث و الرجوع مستندين في ذلك إلى أنهم ستتلاشى أبدانهم بالموت فتصير ترابا متشابه الأجزاء لا تمايز لجزء منها من جزء و الجواب أنا نعلم بما تأكله الأرض من أبدانهم و تنقصه منها فلا يفوت علمنا جزء من أجزائهم حتى يتعسر علينا إرجاعه أو يتعذر بالجهل.

أو أنا نعلم من يموت منهم فيدفن في الأرض فتنقصه الأرض من جمعهم، و «من» على أول الوجهين تبعيضية و على الثاني تبيينية.

و قوله: ﴿وَ عِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ أي حافظ لكل شي‏ء و لآثاره و أحواله، أو كتاب ضابط للحوادث محفوظ عن التغيير و التحريف، و هو اللوح المحفوظ الذي فيه كل ما كان و ما يكون و ما هو كائن إلى يوم القيامة.

و قول بعضهم إن المراد به كتاب الأعمال غير سديد أولا من جهة أن الله ذكره حفيظا لما تنقص الأرض منهم و هو غير الأعمال التي يحفظه كتاب الأعمال.

و ثانيا: أنه سبحانه إنما وصف في كلامه بالحفظ اللوح المحفوظ دون كتب الأعمال فحمل الكتاب الحفيظ على كتاب الأعمال من غير شاهد.

و محصل جواب الآية أنهم زعموا أن موتهم و صيرورتهم ترابا متلاشي الذرات غير متمايز الأجزاء يصيرهم مجهولي الأجزاء عندنا فيمتنع علينا جمعها و إرجاعها لكنه زعم باطل فإنا نعلم بمن مات منهم و ما يتبدل إلى الأرض من أجزاء أبدانهم و كيف يتبدل و إلى أين يصير؟ و عندنا كتاب حفيظ فيه كل شي‏ء و هو اللوح المحفوظ.

قوله تعالى: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ المرج‏ الاختلاط و الالتباس، و في الآية إضراب عما تلوح إليه الآية السابقة فإن اللائح منها أنهم إنما

 

 

 تعجبوا من أمر البعث و الرجوع و استبعدوه لجهلهم بأن الله سبحانه عليم لا يعزب عنه شي‏ء من أحوال خلقه و آثارهم و أن جميع ذلك مستطر في اللوح المحفوظ عند الله بحيث لا يشذ عنه شاذ.

فأضرب في هذه الآية أن ذلك ليس من جهلهم و إن تجاهلوا بل كذبوا بالحق لما جاءهم فاستبان لهم أنه حق فهم جاحدون للحق معاندون له و ليسوا بجاهلين به قاصرين عن إدراكه فهم في أمر مريج مختلط غير منتظم يدركون الحق و يكذبون به مع أن لازم العلم بشي‏ء تصديقه و الإيمان به.

و قيل: المراد بكونهم في أمر مريج أنهم متحيرون بعد إنكار الحق لا يدرون ما يقولون فتارة يقولون: افتراء على الله، و تارة: سحر، و تارة: شعر، و تارة: كهانة و تارة: زجر.

و لذلك عقب الكلام بذكر آيات علمه و قدرته توبيخا لهم ثم بالإشارة إلى تكذيب الأمم الماضية الهالكة الذي ساقهم إلى عذاب الاستئصال، تهديدا لهم.

قوله تعالى: ﴿أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى اَلسَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَ زَيَّنَّاهَا وَ مَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ الفروج‏ جمع فرجة: الشقوق و الفتوق، و تقييد السماء بكونها فوقهم للدلالة على أنها بمرأى منهم لا تغيب عن أنظارهم، و المراد بتزيينها خلق النجوم اللامعة فيها بما لها من الجمال البديع، فبناء هذا الخلق البديع بما لها من الجمال الرائع من غير شقوق و فتوق أصدق شاهد على قدرته القاهرة و علمه المحيط بما خلق.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَ أَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ مد الأرض‏ بسطها لتلائم عيشة الإنسان، و الرواسي‏ جمع الراسية بمعنى الثابتة صفة محذوفة الموصوف و هو الجبال، و المراد جعل الجبال الثابتة على ظهرها، و البهيج‏ من البهجة، قال في المجمع،: البهجة الحسن الذي له روعة عند الرؤية كالزهرة و الأشجار النضرة و الرياض الخضرة. انتهى. و قيل: المراد بالبهيج الذي من رآه بهج و سر به فهو بمعنى المبهوج به.

و المراد بإنبات كل زوج بهيج إنبات كل صنف حسن المنظر من النبات. ـ

 

 

فخلق الأرض و ما جرى فيها من التدبير الإلهي العجيب أحسن دليل يدل العقل على كمال القدرة و العلم.

قوله تعالى: ﴿تَبْصِرَةً وَ ذِكْرى‏َ لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ مفعول له أي فعلنا ما فعلنا من بناء السماء و مد الأرض و عجائب التدبير التي أجريناها فيهما ليكون تبصرة يتبصر بها و ذكرى يتذكر بها كل عبد راجع إلى الله سبحانه.

قوله تعالى: ﴿وَ نَزَّلْنَا مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَ حَبَّ اَلْحَصِيدِ السماء جهة العلو و الماء المبارك المطر، وصف بالمباركة لكثرة خيراته العائدة إلى الأرض و أهلها، و حب الحصيد المحصود من الحب و هو من إضافة الموصوف إلى الصفة، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ الباسقات‏ جمع باسقة و هي الطويلة العالية، و الطلع‏ أول ما يطلع من ثمر النخيل، و النضيد بمعنى المنضود بعضه على بعض و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ﴿رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَ أَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ اَلْخُرُوجُ الرزق‏ ما يمد به البقاء، و ﴿رِزْقاً لِلْعِبَادِ مفعول له أي أنبتنا هذه الجنات و حب الحصيد و النخل باسقات بما لها من الطلع النضيد ليكون رزقا للعباد فمن خلق هذه النباتات ليرزق به العباد بما في ذلك من التدبير الوسيع الذي يدهش اللب و يحير العقل هو ذو علم لا يتناهى و قدرة لا تعيى لا يشق عليه إحياء الإنسان بعد موته و إن تلاشت ذرأت جسمه و ضلت في الأرض أجزاء بدنه.

و قوله: ﴿وَ أَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ اَلْخُرُوجُ برهان آخر على البعث غير ما تقدم استنتج من طي الكلام فإن البيان السابق في رد استبعادهم للبعث مستندين إلى صيرورتهم ترابا غير متمايز الأجزاء كان برهانا من مسلك إثبات علمه بكل شي‏ء و قدرته على كل شي‏ء و هذا البرهان الذي يتضمنه قوله: ﴿وَ أَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ اَلْخُرُوجُ من مسلك إثبات إمكان الشي‏ء بوقوع مثله فليس الخروج من القبور بالإحياء بعد الموت إلا مثل خروج النبات الميت من الأرض بعد موتها و وقوف قواه عن النماء و النشوء.

و قد قررنا هذا البرهان في ذيل الآيات المستدلة بإحياء الأرض بعد موتها على

 

 

 البعث غير مرة فيما تقدم من أجزاء الكتاب.

قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ إلى قوله ﴿كُلٌّ كَذَّبَ اَلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ، تهديد و إنذار لهم بما كذبوا بالحق لما جاءهم و تبين لهم عنادا كما أشرنا إليه قبل.

و قد تقدم ذكر أصحاب الرس في تفسير سورة الفرقان، و ذكر أصحاب الأيكة و هم قوم شعيب في سور الحجر و الشعراء و ص، و ذكر قوم تبع في سورة الدخان.

و في قوله: ﴿كُلٌّ كَذَّبَ اَلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ إشارة إلى أن هناك وعيدا بالهلاك ينجز عند تكذيب الرسل قال تعالى: ﴿فَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ: النحل: ٣٦.

(بحث روائي‏)

في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : خلق الله تعالى من وراء هذه الأرض بحرا محيطا بها ثم خلق من وراء ذلك جبلا يقال له: ق السماء الدنيا مترفرفة عليه، ثم خلق من وراء ذلك الجبل أرضا مثل تلك الأرض سبع مرات ثم خلق من وراء ذلك بحرا محيطا بها، ثم خلق من وراء ذلك جبلا يقال له ق السماء الثانية مترفرفة عليه حتى عد سبع أرضين و سبعة أبحر و سبعة أجبل و سبع سماوات. قال: و ذلك قوله:

﴿وَ اَلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ.

و فيه، أخرج ابن المنذر و ابن مردويه و أبو الشيخ و الحاكم عن عبد الله بن بريدة في قوله تعالى: ﴿ق قال: جبل من زمرد محيط بالدنيا عليه كنفا السماء.

و فيه، أخرج ابن أبي الدنيا في العقوبات، و أبو الشيخ في العظمة، عن ابن عباس قال:

خلق الله جبلا يقال له ق محيط بالعالم و عروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض فإذا أراد الله أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فحرك العرق الذي يلي تلك القرية فيزلزلها و يحركها فمن ثم تحرك القرية دون القرية:

 أقول: و روى القمي بإسناده عن يحيى بن ميسرة الخثعمي عن الباقر (عليه السلام ) :

 

 

 مثل ما مر عن عبد الله بن بريدة، و روي ما في معناه مرسلا و مضمرا و لفظه: قال: جبل محيط بالدنيا وراء يأجوج و مأجوج. و كيفما كان لا تعويل على هذه الروايات، و بطلان ما فيها يكاد يلحق اليوم بالبديهيات أو هو منها.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿فَقَالَ اَلْكَافِرُونَ هَذَا شَيْ‏ءٌ عَجِيبٌ قال:

نزلت في أبي بن خلف قال لأبي جهل: تعال إلي أعجبك من محمد ثم أخذ عظما ففته ثم قال: يا محمد تزعم أن هذا يحيا؟ فقال الله: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ﴾.

[سورة ق (٥٠): الآیات ١٥ الی ٣٨]

﴿أَ فَعَيِينَا بِالْخَلْقِ اَلْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ١٥ وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ وَ نَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ ١٦ إِذْ يَتَلَقَّى اَلْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ اَلْيَمِينِ وَ عَنِ اَلشِّمَالِ قَعِيدٌ ١٧ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ١٨ وَ جَاءَتْ سَكْرَةُ اَلْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ١٩ وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ اَلْوَعِيدِ ٢٠ وَ جَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَ شَهِيدٌ ٢١ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ ٢٢ وَ قَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ٢٣ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ٢٤ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ٢٥ اَلَّذِي جَعَلَ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ

 

 

فِي اَلْعَذَابِ اَلشَّدِيدِ ٢٦ قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَ لَكِنْ كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ ٢٧ قَالَ لاَ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ٢٨ مَا يُبَدَّلُ اَلْقَوْلُ لَدَيَّ وَ مَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ٢٩ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ اِمْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ٣٠ وَ أُزْلِفَتِ اَلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ٣١ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ٣٢ مَنْ خَشِيَ اَلرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَ جَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ٣٣ اُدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ اَلْخُلُودِ ٣٤ لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ فِيهَا وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ ٣٥ وَ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي اَلْبِلاَدِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ٣٦ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرى‏ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى اَلسَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ ٣٧ وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ مَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ٣٨

(بيان)

الآية الأولى متممة لما أورده في الآيات السابقة من الحجة على علمه و قدرته بما خلق السماء و الأرض و ما فيهما من خلق و دبر ذلك أكمل التدبير و أتمه و ذلك كله هو الخلق الأول و النشأة الأولى. فتمم ذلك بقوله: ﴿أَ فَعَيِينَا بِالْخَلْقِ اَلْأَوَّلِ و استنتج منه أن القادر على الخلق الأول العالم به قادر على خلق جديد و نشأة ثانية و عالم به لأنهما مثلان إذا جاز له خلق أحدهما جاز خلق الآخر و إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن.

 

 

ثم أضرب عنه أنهم في التباس من خلق جديد مع مماثلة الخلقين ثم أشار إلى نشأة الإنسان أول مرة و هو يعلم منه حتى خطرات قلبه و عليه رقباؤه يراقبونه أدق المراقبة ثم يجيئه سكرة الموت بالحق ثم البعث ثم دخول الجنة أو النار ثم أشار ثانيا إلى ما حل بالقرون الماضية المكذبة من السخط الإلهي و عذاب الاستئصال و هم أشد بطشا من هؤلاء فمن جازاهم بالهلاك قادر على أن يجازي هؤلاء.

قوله تعالى: ﴿أَ فَعَيِينَا بِالْخَلْقِ اَلْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ العي‏ عجز يلحق من تولي الأمر و الكلام كذا، قال الراغب: يقال: أعياني كذا و عييت بكذا أي عجزت عنه و الخلق الأول خلق هذه النشأة الطبيعية بنظامها الجاري و منها الإنسان في حياته الدنيا فلا وجه لقصر الخلق الأول في خلق السماء و الأرض فقط كما مال إليه الرازي في التفسير الكبير و لا لقصره في خلق الإنسان كما مال إليه بعضهم و ذلك لأن الخلق الجديد يشمل السماء و الأرض و الإنسان جميعا كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَ اَلسَّمَاوَاتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ: إبراهيم: ٤٨. و الخلق الجديد خلق النشأة الثانية و هي النشأة الآخرة، و الاستفهام للإنكار.

و المعنى: أ عجزنا عن الخلق الأول حتى نعجز عن الخلق الجديد؟ أي لم نعجز عن الخلق الأول و هو إبداؤه فلا نعجز عن الخلق الجديد و هو إعادته.

و لو أخذ العي بمعنى التعب كما مال إليه بعضهم كان المعنى: هل تعبنا بسبب الخلق الأول حتى يتعذر أو يتعسر علينا الخلق الجديد؟ و ذلك كما أن الإنسان و سائر الحيوان إذا أتى بشي‏ء من الفعل و أكثر منه انتهي به إلى التعب البدني فيكفه ذلك عن الفعل بعد، فما لم يأت به من الفعل لكونه تعبان مثل ما أتى لكنه لا يؤتى به لأن الفاعل لا يستطيعه لتعبه و إن كان الفعل جائزا متشابه الأمثال.

و هذا معنى لا بأس به لكن قيل: إن استعمال العي بمعنى العجز أفصح.

على أن سوق الحجة من طريق العجز يفيد استحالة الإتيان و نفيها هو المطلوب بخلاف سوقها من طريق التعب فإنه يفيد تعسره دون استحالة الإتيان و مراد النافين للمعاد استحالته دون تعسره هذا.

و قوله: ﴿بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ اللبس‏ هو الالتباس، و المراد بالخلق

 

 

 الجديد تبديل نشأتهم الدنيا من نشأة أخرى ذات نظام آخر وراء النظام الطبيعي الحاكم في الدنيا فإن في النشأة الأخرى و هي الخلق الجديد بقاء من غير فناء و حياة من غير موت ثم إن كان الإنسان من أهل السعادة فله نعمة من غير نقمة و إن كان من أهل الشقاء ففي نقمة لا نعمة معها، و النشأة الأولى و هي الخلق الأول و النظام الحاكم فيها على خلاف ذلك.

و المعنى: إذا كنا خلقنا العالم بسمائه و أرضه و ما فيهما و دبرناه أحسن تدبير لأول مرة بقدرتنا و علمنا و لم نعجز عن ذلك علما و قدرة فنحن غير عاجزين عن تجديد خلقه و هو تبديله خلقا جديدا فلا ريب في قدرتنا و لا التباس بل هم في التباس لا سبيل لهم مع ذلك إلى الإيمان بخلق جديد.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ وَ نَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ قال الراغب: الوسوسة الخطرة الرديئة و أصله من الوسواس و هو صوت الحلي و الهمس الخفي. انتهى.

و المراد بخلق الإنسان وجوده المتدرج المتحول خلقا بعد خلق لا أول تكوينه إنسانا و إن عبر عنه بالماضي إذ قال: ﴿وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ إذ الإنسان و كذا كل مخلوق له حظ من البقاء كما يحتاج إلى عطية ربه في أول وجوده كذلك يحتاج إليه في بقائه.

و لما ذكر من النكتة عطف قوله: ﴿وَ نَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ و هو فعل مضارع مسوق للدلالة على الاستمرار على قوله: ﴿وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ و هو فعل ماض لكنه مستمر المعنى، و كذا قوله: ﴿وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ مفيد للثبوت و الدوام و الاستمرار باستمرار وجود الإنسان.

و للآية اتصال بما تقدم من الاحتجاج على علمه و قدرته تعالى في الخلق الأول بقوله:

﴿أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى اَلسَّمَاءِ و اتصال أيضا بقوله تعالى في الآية السابقة: ﴿بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ فهي في سياق يذكر قدرته على الإنسان بخلقه، و علمه به بلا واسطة و بواسطة الملائكة الحفظة الكتبة.

فقوله: ﴿وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ و اللام للقسم دال على القدرة عليه بإثبات الخلق.

 

 

 و قوله: ﴿وَ نَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ في ذكر أخفى أصناف العلم و هو العلم بالخطور النفساني الخفي إشارة إلى استيعاب العلم له كأنه قيل: و نعلم ظاهره و باطنه حتى ما توسوس به نفسه و مما توسوس به الشبهة في أمر المعاد: كيف يبعث الإنسان و قد صار بعد الموت ترابا متلاشي الأجزاء غير متميز بعضها من بعض.

و قد بان أن «ما» في ﴿مَا تُوَسْوِسُ بِهِ موصولة و ضمير ﴿بِهِ عائد إليه و الباء للآلة أو للسببية، و نسب الوسوسة إلى النفس دون الشيطان و إن كانت منسوبة إليه أيضا لأن الكلام في إحاطة العلم بالإنسان حتى بما في زوايا نفسه من هاجس و وسوسة.

و قوله: ﴿وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ الوريد عرق متفرق في البدن فيه مجاري الدم، و قيل: هو العرق الذي في الحلق، و كيف كان فتسميته حبلا لتشبيهه به، و إضافة حبل الوريد بيانية.

و المعنى: نحن أقرب إلى الإنسان من حبل وريده المخالط لأعضائه المستقر في داخل بدنه فكيف لا نعلم به و بما في نفسه.

و هذا تقريب للمقصود بجملة ساذجة يسهل تلقيها لعامة الأفهام و إلا فأمر قربه تعالى إليه أعظم من ذلك و أعظم فهو سبحانه الذي جعلها نفسا و رتب عليها آثارها فهو الواسطة بينها و بين نفسها و بينها و بين آثارها و أفعالها فهو أقرب إلى الإنسان من كل أمر مفروض حتى في نفسه، و لكون هذا المعنى دقيقا يشق تصوره على أكثر الأفهام عدل سبحانه إلى بيانه بنحو قوله: ﴿وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ و قريب منه بوجه قوله: ﴿أَنَّ اَللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ.

و لهم في معنى الآية وجوه كثيرة أخر لا جدوى في نقلها و البحث عنها من أرادها فليراجع كتبهم.

قوله تعالى: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى اَلْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ اَلْيَمِينِ وَ عَنِ اَلشِّمَالِ قَعِيدٌ التلقي‏ الأخذ و التلقن، و المراد بالمتلقيان على ما يفيده السياق الملكان الموكلان على الإنسان اللذان يتلقيان عمله فيحفظانه بالكتابة.

و قوله: ﴿عَنِ اَلْيَمِينِ وَ عَنِ اَلشِّمَالِ قَعِيدٌ تقديره عن اليمين قعيد و عن الشمال قعيد، و المراد باليمين و الشمال يمين الإنسان و شماله، و القعيد القاعد.

 

 

 و الظرف في قوله: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى اَلْمُتَلَقِّيَانِ الظاهر أنه متعلق بمحذوف و التقدير اذكر إذ يتلقى المتلقيان، و المراد به الإشارة إلى علمه تعالى بأعمال الإنسان من طريق كتاب الأعمال من الملائكة وراء علمه تعالى بذاته من غير توسط الوسائط.

و قيل: الظرف متعلق بقوله في الآية السابقة: ﴿أَقْرَبُ و المعنى: نحن أقرب إليه من حبل الوريد في حين يتلقى الملكان الموكلان عليه أعماله ليكتباها.

و لعل الوجه السابق أوفق للسياق فإن بناء هذا الوجه على كون العمدة في الغرض بيان أقربيته تعالى إليه و علمه به و الباقي مقصود لأجله، و ظاهر السياق و خاصة بالنظر إلى الآية التالية كون كل من العلم من طريق القرب و من طريق تلقي الملكين مقصودا بالاستقلال.

و قيل: ﴿إِذْ تعليلية تعلل علمه تعالى المدلول عليه بقوله: ﴿وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ إلخ، بمفاد مدخولها.

و فيه أن من البعيد من مذاق القرآن أن يستدل على علمه تعالى بعلم الملائكة أو بحفظهم و كتابتهم.

و قوله: ﴿عَنِ اَلْيَمِينِ وَ عَنِ اَلشِّمَالِ قَعِيدٌ تمثيل لموقعهما من الإنسان، و اليمين و الشمال جانبا الخير و الشر ينتسب إليهما الحسنة و السيئة.

قوله تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ اللفظ الرمي سمي به التكلم بنوع من التشبيه، و الرقيب‏ المحافظ، و العتيد المعد المهيأ للزوم الأمر.

و الآية تذكر مراقبة الكتبة للإنسان فيما يتكلم به من كلام، و هي بعد قوله:

﴿إِذْ يَتَلَقَّى اَلْمُتَلَقِّيَانِ إلخ، من ذكر الخاص بعد العام لمزيد العناية به.

قوله تعالى: ﴿وَ جَاءَتْ سَكْرَةُ اَلْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ الحيد العدول و الميل على سبيل الهرب، و المراد بسكرة الموت ما يعرض الإنسان حال النزع إذ يشتغل بنفسه و ينقطع عن الناس كالسكران الذي لا يدري ما يقول و لا ما يقال له.

و في تقييد مجي‏ء سكرة الموت بالحق إشارة إلى أن الموت داخل في القضاء الإلهي مراد في نفسه في نظام الكون كما يستفاد من قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ: الأنبياء: ٣٥، و قد مر تفسيره فالموت و هو

 

 

 الانتقال من هذه الدار إلى دار بعدها حق كما أن البعث حق و الجنة حق و النار حق، و في معنى كون الموت بالحق أقوال أخر لا جدوى في نقلها و التعرض لها.

و في قوله: ﴿ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ إشارة إلى أن الإنسان يكره الموت بالطبع و ذلك أن الله سبحانه زين الحياة الدنيا و التعلق بزخارفها للإنسان ابتلاء و امتحانا، قال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى اَلْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ إِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً: الكهف: ٨.

قوله تعالى: ﴿وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ اَلْوَعِيدِ هذه نقلة ثانية إلى عالم الخلود بنفخ الصور بعد النقلة الأولى، و المراد بنفخ الصور النفخة الثانية المقيمة للساعة أو مجموع النفختين بإرادة مطلق النفخ.

و المراد بيوم الوعيد يوم القيامة الذي ينجز الله تعالى فيه وعيده على المجرمين من عباده.

قوله تعالى: ﴿وَ جَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَ شَهِيدٌ السياقة حث الماشية على المسير من خلفها بعكس القيادة فهي جلبها من أمامها.

فقوله: ﴿وَ جَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ أي جاءت إلى الله و حضرت عنده لفصل القضاء، و الدليل عليه قوله تعالى: ﴿إِلى‏َ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ اَلْمَسَاقُ: القيامة: ٣٠.

و المعنى: و حضرت عنده تعالى كل نفس معها سائق يسوقها و شاهد يشهد بأعمالها و لم يصرح تعالى بكونهما من الملائكة أو بكونهما هما الكاتبين أو من غير الملائكة، غير أن السابق إلى الذهن من سياق الآيات أنهما من الملائكة، و سيجي‏ء الروايات في ذلك.

و كذا لا تصريح بكون الشهادة منحصرة في هذا الشاهد المذكور في الآية بل الآيات الواردة في شهداء يوم القيامة تقضي بعدم الانحصار، و كذا الآيات التالية الذاكرة لاختصام الإنسان و قرينة دالة على أن مع الإنسان يومئذ غير السائق و الشهيد.

قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ وقوع الآية في سياق آيات القيامة و احتفافها بها يقضي بكونها من خطابات يوم القيامة، و المخاطب بها هو الله سبحانه، و الذي خوطب بها هو الإنسان المذكور

 

 

 في قوله: ﴿وَ جَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ و عليه فالخطاب عام متوجه إلى كل إنسان إلا أن التوبيخ و التقريع اللائح من سياق الآية ربما استدعى اختصاص الخطاب بمنكري المعاد، أضف إلى ذلك، كون الآيات مسوقة لرد منكري المعاد في قولهم: ﴿أَ إِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ.

و الإشارة بقوله: ﴿هَذَا إلى ما يشاهده يومئذ و يعاينه من تقطع الأسباب و بوار الأشياء و رجوع الكل إلى الله الواحد القهار، و قد كان تعلق الإنسان في الدنيا بالأسباب الظاهرية و ركونه إليها أغفله عن ذلك حتى إذا كشف الله عنه حجاب الغفلة فبدت له حقيقة الأمر فشاهد ذلك مشاهدة عيان لا علما فكريا.

و لذا خوطب بقوله: ﴿لَقَدْ كُنْتَ في الدنيا ﴿فِي غَفْلَةٍ أحاطت بك «من هذا» الذي تشاهده و تعاينه و إن كان في الدنيا نصب عينيك لا يغيب لكن تعلقك بذيل الأسباب أذهلك و أغفلك عنه ﴿فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ اليوم ﴿فَبَصَرُكَ و هو البصيرة و عين القلب ﴿اَلْيَوْمَ و هو يوم القيامة ﴿حَدِيدٌ أي نافذ يبصر ما لم يكن يبصره في الدنيا.

و يتبين بالآية أولا: أن معرف يوم القيامة أنه يوم ينكشف فيه غطاء الغفلة عن الإنسان فيشاهد حقيقة الأمر، و في هذا المعنى و ما يقرب منه آيات كثيرة كقوله تعالى: ﴿وَ اَلْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ: الانفطار: ١٩، و قوله: ﴿لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ: المؤمن: ١٦، إلى غير ذلك من الآيات.

و ثانيا: أن ما يشاهده الإنسان يوم القيامة موجود مهيأ له و هو في الدنيا غير أنه في غفلة منه، و خاصة يوم القيامة أنه يوم انكشاف الغطاء و معاينة ما وراءه، و ذلك لأن الغفلة إنما يتصور فيما يكون هناك أمر موجود مغفول عنه، و الغطاء يستلزم أمرا وراءه و هو يغطيه و يستره، و عدم حدة البصر إنما ينفع فيما إذا كان هناك مبصر دقيق لا ينفذ فيه البصر.

و من أسخف القول ما قيل: إن الآية خطاب منه تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم)، و المعنى:

لقد كنت قبل الرسالة في غفلة من هذا الذي نوحي إليك فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد يدرك الوحي أو يبصر ملك الوحي فيتلقى الوحي، و ذلك لأن السياق لا يساعده و لا لفظ الآية ينطبق عليه.

 

 

قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ لا يخلو السياق من ظهور في أن المراد بهذا القرين الملك الموكل به فإن كان هو السائق كان معنى قوله: ﴿هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ هذا الإنسان الذي هو عندي حاضر، و إن كان هو الشهيد كان المعنى هذا و هو يشير إلى أعماله التي حمل الشهادة عليها ما عندي من أعماله حاضر مهيأ.

و قيل: المراد بالقرين الشيطان الذي يصاحبه و يغويه، و معنى كلامه على هذا هذا الإنسان هو الذي توليت أمره و ملكته حاضر مهيأ لدخول جهنم.

قوله تعالى: ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الكفار اسم مبالغة من الكفر، و العنيد المعاند للحق المستمر على عناده، و المعتدي‏ المتجاوز عن الحد المتخطئ للحق، و المريب‏ الشاك أو المشكك في أمر البعث.

و بين هذه الصفات المعدودة شبه الاستلزام فإن كثرة الكفر برد الإنسان كل حق يواجهه تنتج العناد مع الحق و الإصرار عليه، و الإصرار على العناد يوجب المنع عن أكثر الخيرات إذ لا خير إلا في الحق و من ناحيته، و هو يستلزم الخروج عن حد الحق إلى الباطل و تجاوز الإنسان عن حد العبودية إلى الاستكبار و الطغيان و يستلزم تشكيك الناس في ما يرومونه من دين الحق.

و الخطاب في الآية منه تعالى، و ظاهر سياق الآيات أن المخاطب به هما الملكان الموكلان السائق و الشهيد، و احتمل بعضهم أن يكون الخطاب إلى ملكين من ملائكة النار و خزنتها.

قوله تعالى: ﴿اَلَّذِي جَعَلَ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي اَلْعَذَابِ اَلشَّدِيدِ العدول في ذكر صفة الشرك عن الإيجاز إلى الإطناب حيث لم يقل: مشرك و قال: ﴿اَلَّذِي جَعَلَ إلخ، للإشارة إلى أن هذه الصفة أعظم المعاصي و أم الجرائم التي أتى بها و الصفات الرذيلة التي عدت له من الكفر و العناد و منع الخير و الاعتداء و الإرابة.

و قوله: ﴿فَأَلْقِيَاهُ فِي اَلْعَذَابِ اَلشَّدِيدِ تأكيد لما تقدم من الأمر بقوله: ﴿أَلْقِيَا إلخ، و يلوح إلى تشديد الأمر من جهة الشرك، و لذا عقبه بقوله: ﴿فِي اَلْعَذَابِ اَلشَّدِيدِ.

قوله تعالى: ﴿قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَ لَكِنْ كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ المراد بهذا القرين قرينه من الشياطين بلا شك، و قد تكرر في كلامه تعالى ذكر القرين من الشيطان

 

 

 و هو الذي يلازم الإنسان و يوحي إليه ما يوحي من الغواية و الضلال، قال تعالى: ﴿وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ اَلرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ اَلسَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ اَلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ اَلْقَرِينُ: الزخرف: ٣٨.

فقوله: ﴿قَالَ قَرِينُهُ أي شيطانه الذي يصاحبه و يغويه ﴿رَبَّنَا أضاف الرب إلى نفسه و الإنسان الذي هو قرينه لأنهما في مقام الاختصام ﴿مَا أَطْغَيْتُهُ أي ما أجبرته على الطغيان ﴿وَ لَكِنْ كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ أي متهيئا مستعدا لقبول ما ألقيته إليه تلقاه باختياره فما أنا بمسئولين عن ذنبه في طغيانه.

و قد تقدم في سورة الصافات تفصيل اختصام الظالمين و أزواجهم في قوله:

﴿اُحْشُرُوا اَلَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْوَاجَهُمْ: الصافات: ٢٢، إلى آخر الآيات.

قوله تعالى: ﴿قَالَ لاَ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ القائل هو الله سبحانه يخاطبهم و كأنه خطاب واحد لعامة المشركين الطاغين و قرنائهم ينحل إلى خطابات جزئية لكل إنسان و قرينه بمثل قولنا: لا تختصما لدي، إلخ.

و قوله: ﴿وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ حال من فاعل ﴿لاَ تَخْتَصِمُوا و ﴿بِالْوَعِيدِ مفعول ﴿قَدَّمْتُ و الباء للوصلة.

و المعنى: لا تختصموا لدي فلا نفع لكم فيه بعد ما أبلغتكم وعيدي لمن أشرك و ظلم، و الوعيد الذي قدمه إليهم مثل قوله تعالى لإبليس: ﴿اِذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً: إسراء: ٦٣، و قوله: ﴿فَالْحَقُّ وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ: ص: ٨٥. أو قوله: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ اَلْجِنَّةِ وَ اَلنَّاسِ أَجْمَعِينَ: السجدة: ١٣.

قوله تعالى: ﴿مَا يُبَدَّلُ اَلْقَوْلُ لَدَيَّ وَ مَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ الذي يعطيه السياق أن تكون الآية استئنافا بمنزلة الجواب عن سؤال مقدر كان قائلا يقول: هب أنك قد قدمت فهلا غيرته و عفوت؟ فأجيب بقوله: ﴿مَا يُبَدَّلُ اَلْقَوْلُ لَدَيَّ و المراد بالقول مطلق القضاء المحتوم الذي قضى به الله، و قد قضى لمن مات على الكفر بدخول جهنم و ينطبق بحسب المورد على الوعيد الذي أوعده الله لإبليس و من تبعه.

 

 

 فقد بان أن الجملة مستأنفة، و المراد بتبديل القول تغيير القضاء المحتوم، و ﴿لَدَيَّ متعلق بالتبديل، هذا ما يعطيه السياق، و قد ذكر بعضهم في هذه الجملة و إعراب مفرداتها و معنى تبديل القول وجوها و احتمالات كثيرة بعيدة عن الفهم لا تزيد في الكلام إلا تعقيدا فأغمضنا عن إيرادها.

و قوله: ﴿وَ مَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ متمم لمعنى الجملة السابقة أي لا يبدل قولي فأنتم معذبون لا محالة و لست أظلم عبيدي في عذابهم على طبق ما قدمت إليهم بالوعيد لأنهم مستحقون لذلك بعد إتمام الحجة.

و من وجه آخر: لا ظلم في مجازاتهم بالعذاب فإنهم إنما يجزون بأعمالهم التي قدموها في أعمالهم ردت إليهم كما هو ظاهر قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَعْتَذِرُوا اَلْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ: التحريم: ٧.

و ما في قوله: ﴿وَ مَا أَنَا بِظَلاَّمٍ من نفي الظلم الكثير لا يستوجب جواز الظلم اليسير فإنه تعالى لو ظلم في شي‏ء من الجزاء كان ظلما كثيرا لكثرة أمثاله فإن الخطاب لكل إنسان مشرك ظالم مع قرينه، و هم كثيرون فهو سبحانه لو ظلم في شي‏ء من الجزاء لكان ظلاما.

قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ اِمْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ خطاب منه تعالى لجهنم و جواب منها، و قد اختلف في حقيقة هذا التكليم و التكلم فقيل: الخطاب و الجواب بلسان الحال و يرده أنه لو كان بلسان الحال لم يختص به تعالى بل كان لكل من يشاهدها على تلك الحال أن يسألها عن امتلائها فتجيبه بقولها: هل من مزيد؟ فليس لتخصيص الخطاب به تعالى نكتة ظاهرة.

و قيل: حقيقة الخطاب لخزنة جهنم و الجواب منهم و إن كانا نسبا إلى جهنم و فيه أنه خلاف الظاهر لا يصار إليه إلا بدليل.

و قيل: الخطاب و الجواب على ظاهره، و لا دليل يدل على عدم الجواز، و قد أخبر الله سبحانه عن تكليم الأيدي و الأرجل و الجلود و غيرها، و هو الوجه و قد تقدم في تفسير سورة فصلت أن العلم و الشعور سار في جميع الموجودات.

 

 

 و قوله: ﴿هَلِ اِمْتَلَأْتِ استفهام تقريري، و كذا قوله حكاية عنها: ﴿هَلْ مِنْ مَزِيدٍ و لعل إيراد هذا السؤال و الجواب للإشارة إلى أن قهره و عذابه لا يقصر عن الإحاطة بالمجرمين و إيفاء ما يستحقونه من الجزاء قال تعالى: ﴿وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ: التوبة: ٤٩.

و استشكل بأنه مناف لصريح قوله تعالى: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ الآية و أجيب بأن الامتلاء قد يراد به أنه لا يخلو شي‏ء من طبقاتها من السكنة كما يقال: البلد ممتلئ بأهله.

على أنه يمكن أن يكون هذا القول منها قبل دخول جميع أهل النار فيها.

و قيل: الاستفهام في قوله: ﴿هَلْ مِنْ مَزِيدٍ للإنكار و المعنى: لا مزيد أي لا مكان في يزيد على من ألقي في من المجرمين فقد امتلأت فيكون إشارة إلى ما قضى به في قوله: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ اَلْجِنَّةِ وَ اَلنَّاسِ أَجْمَعِينَ: السجدة: ١٣، و قوله: ﴿هَلِ اِمْتَلَأْتِ في معنى أن يقال: ﴿حَقَّ اَلْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ، و قوله: ﴿هَلْ مِنْ مَزِيدٍ تقرير و تصديق له.

و ربما أيد هذا الوجه قوله تعالى قبل: ﴿مَا يُبَدَّلُ اَلْقَوْلُ لَدَيَّ على تقدير أن يراد بالقول قوله تعالى: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ اَلْجِنَّةِ وَ اَلنَّاسِ أَجْمَعِينَ.

قوله تعالى: ﴿وَ أُزْلِفَتِ اَلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ شروع في وصف حال المتقين يوم القيامة، و الإزلاف‏ التقريب، و ﴿غَيْرَ بَعِيدٍ على ما قيل صفة لظرف محذوف و التقدير في مكان غير بعيد.

و المعنى: و قربت الجنة يومئذ للمتقين حال كونها في مكان غير بعيد أي هي بين أيديهم لا تكلف لهم في دخولها.

قوله تعالى: ﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ الإشارة إلى ما تقدم من الثواب الموعود، و الأواب‏ من الأوب بمعنى الرجوع، و المراد كثرة الرجوع إلى الله بالتوبة و الطاعة، و الحفيظ هو الذي يدوم على حفظ ما عهد الله إليه من أن يترك فيضيع، و قوله: ﴿لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ خبر بعد خبر لهذا أو حال.

قوله تعالى: ﴿مَنْ خَشِيَ اَلرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَ جَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ بيان لكل أواب و الخشية بالغيب الخوف من عذاب الله حال كونه غائبا غير مرئي له، و الإنابة هو

 

 

 الرجوع، و المجي‏ء إلى ربه بقلب منيب أن يتم عمره بالإنابة فيأتي ربه بقلب متلبس بالإنابة.

قوله تعالى: ﴿اُدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ اَلْخُلُودِ خطاب للمتقين أي يقال لهم:

ادخلوا بسلام أي بسلامة و أمن من كل مكروه و سوء، أو بسلام من الله و ملائكته عليكم، و قوله: ﴿ذَلِكَ يَوْمُ اَلْخُلُودِ بشرى يبشرون بها.

قوله تعالى: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ فِيهَا وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ يمكن أن يكون ﴿فِيهَا متعلقا بيشاءون أو بمحذوف هو حال من الموصول، و التقدير: حال كون ما يشاءون فيها أو من الضمير المحذوف الراجع إلى الموصول، و التقدير: ما يشاءونه حال كونه فيها، و الأول أوفق لسعة كرامتهم عند الله سبحانه.

و المحصل: أن أهل الجنة و هم في الجنة يملكون كل ما تعلقت به مشيتهم و إرادتهم كائنا ما كان من غير تقييد و استثناء فلهم كلما أمكن أن يتعلق به الإرادة و المشية لو تعلقت.

و قوله: ﴿وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ أي و لهم عندنا ما يزيد على ذلك على ما يفيده السياق و إذ كان لهم كل ما أمكن أن تتعلق به مشيتهم مما يتعلق به علمهم من المطالب و المقاصد فالمزيد على ذلك أمر أعظم مما تتعلق به مشيتهم لكونه فوق ما يتعلق به علمهم من الكمال.

و قيل: المراد بالمزيد الزيادة على ما يشاءون من جنس ما يشتهون فإذا شاءوا رزقا أعطوا منه أكثر مما شاءوا و أفضل و أعجب كما ورد عن بعضهم أنه تمر بهم السحابة فتقول: ما ذا تريدون فأمطره عليكم فلا يريدون شيئا إلا أمطرته عليهم.

و فيه أنه تقييد لإطلاق الكلام من غير مقيد فإن ظاهر قوله: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ فِيهَا إنهم يملكون كل ما يمكنهم أن يشاءوا لا تملكهم ما شاءوه بالفعل فالمزيد وراء ما يمكن أن تتعلق به مشيتهم.

و قيل: المراد أنه يضاعف لهم الحسنة بعشر أمثالها و فيه ما في سابقه.

قوله تعالى: ﴿وَ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي اَلْبِلاَدِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ التنقيب‏ السير، المحيص‏ المحيد و المنجا.

 

 

 و في الآية تذييل الاحتجاج بخلق الإنسان و العلم به و بيان سيره إلى الله بالتخويف و الإنذار نظير ما جرى عليه الكلام في صدر السورة من الاحتجاج على المعاد و تذييله بالتخويف و الإنذار في قوله: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحَابُ اَلرَّسِّ وَ ثَمُودُ إلخ.

و المعنى: و كثيرا ما أهلكنا قبل هؤلاء المشركين من قرن هم أي أهل ذلك القرن أشد بطشا منهم أي من هؤلاء المشركين فساروا ببطشهم في البلاد ففتحوها و تحكموا عليها هل من محيد و منجا من إهلاك الله و عذابه؟.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرى‏َ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى اَلسَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ القلب ما يعقل به الإنسان فيميز الحق من الباطل و الخير من الشر و النافع من الضار، فإذا لم يعقل و لم يميز فوجوده بمنزلة عدمه إذ ما لا أثر له فوجوده و عدمه سواء، و إلقاء السمع هو الاستماع كأن السمع شي‏ء يلقى إلى المسموع فيناله و يدركه و الشهيد الحاضر المشاهد.

و المعنى: أن فيما أخبرنا به من الحقائق و أشرنا إليه من قصص الأمم الهالكة لذكرى يتذكر بها من كان يتعقل فيدرك الحق و يختار ما فيه خيره و نفعه أو استمع إلى حق القول و لم يشتغل عنه بغيره و الحال أنه شاهد حاضر يعي ما يسمعه.

و الترديد بين من كان له قلب و من استمع شهيدا لمكان أن المؤمن بالحق أحد رجلين إما رجل ذو عقل يمكنه أن يتناول الحق فيتفكر فيه و يرى ما هو الحق فيذعن به، و إما رجل لا يقوى على التفكر حتى يميز الحق و الخير و النافع فعليه أن يستمع القول فيتبعه، و أما من لا قلب له يعقل به و لا يسمع شهيدا على ما يقال له و يلقى إليه من الرسالة و الإنذار فجاهل متعنت لا قلب له و لا سمع، قال تعالى: ﴿وَ قَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ اَلسَّعِيرِ: الملك: ١٠.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ مَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ اللغوب‏ التعب و النصب، و المعنى ظاهر.

(بحث روائي)

 في التوحيد، بإسناده إلى عمرو بن شمر عن جابر بن يزيد قال : سألت أبا جعفر

 

 

(عليه السلام ) عن قول الله عز و جل: ﴿أَ فَعَيِينَا بِالْخَلْقِ اَلْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ قال: يا جابر تأويل ذلك أن الله عز و جل إذا أفنى هذا الخلق و هذا العالم و سكن أهل الجنة الجنة و أهل النار النار جدد الله عالما غير هذا العالم و جدد خلقا من غير فحولة و لا إناث يعبدونه و يوحدونه و خلق لهم أرضا غير هذه الأرض تحملهم، و سماء غير هذه السماء تظلهم.

لعلك ترى أن الله إنما خلق هذا العالم الواحد أو ترى أن الله لم يخلق بشرا غيركم بلى و الله لقد خلق ألف ألف عالم و ألف ألف آدم أنت في آخر تلك العوالم و أولئك الآدميين.:

أقول: و روي في الخصال، الشطر الأول من الحديث بإسناده عن محمد بن مسلم عنه (عليه السلام ) ، و لعل المراد بكون ما ذكر تأويل الآية أنه مما ينطبق عليه.

 و عن جوامع الجامع، عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : كاتب الحسنات على يمين الرجل و كاتب السيئات على شماله، و صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال: فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا و إذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر.

 أقول: و في معناها روايات أخرى، و روي ست ساعات بدل سبع ساعات.

 و في نهج البلاغة،: ﴿وَ جَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَ شَهِيدٌ سائق يسوقها إلى محشرها و شاهد يشهد عليها بعملها.

 و في المجمع، و روى أبو القاسم الحسكاني بالإسناد عن الأعمش قال : حدثنا أبو المتوكل التاجر عن أبي السعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : إذا كان يوم القيامة يقول الله لي و لعلي: ألقيا في النار من أبغضكما، و أدخلا في الجنة من أحبكما و ذلك قوله: ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ.:

أقول: و رواه شيخ الطائفة في أماليه، بإسناده عن أبي سعيد الخدري عنه (ص). و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي الدنيا في ذكر الموت و ابن أبي حاتم و أبو نعيم في الحلية، عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: إن ابن آدم لفي غفلة عما خلق له إن الله إذا أراد خلقه قال للملك: اكتب رزقه. اكتب أثره. اكتب

 

 

 أجله شقيا أم سعيدا ثم يرتفع ذلك الملك و يبعث الله ملكا فيحفظه حتى يدرك ثم يرتفع ذلك الملك.

ثم يوكل الله به ملكين يكتبان حسناته و سيئاته فإذا حضره الموت ارتفع ذلك الملكان و جاء ملك الموت ليقبض روحه فإذا أدخل قبره رد الروح في جسده و جاءه ملكا القبر فامتحناه ثم يرتفعان.

فإذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات و ملك السيئات فبسطا كتابا معقودا في عنقه ثم حضرا معه واحد سائق و آخر شهيد. ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) :

إن قدامكم لأمرا عظيما لا تقدرونه فاستعينوا بالله العظيم. و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ اِمْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ قال: هو استفهام لأن الله وعد النار أن يملأها فتمتلئ النار ثم يقول لها: ﴿هَلِ اِمْتَلَأْتِ و تقول: ﴿هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ على حد الاستفهام أي ليس في مزيد.

أقول: بناؤه على كون الاستفهام إنكاريا.

 و في الدر المنثور، أخرج أحمد و البخاري و مسلم و الترمذي و النسائي و ابن جرير و ابن مردويه و البيهقي في الأسماء و الصفات عن أنس قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : لا تزال جهنم يلقى فيها و تقول: هل من مزيد؟ حتى تضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض و تقول: قط قط و عزتك و كرمك.

و لا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا آخر فيسكنهم في قصور الجنة. أقول: وضع القدم على النار و قولها: قط قط مروي في روايات كثيرة من طرق أهل السنة.

و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ فِيهَا وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ قال:

النظر إلى رحمة الله.

و في الدر المنثور، أخرج البزاز و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و اللالكائي في السنة و البيهقي في البعث و النشور عن أنس في قوله تعالى: ﴿وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ قال:

يتجلى لهم الرب عز و جل.

 

 

 و في الكافي، بعض أصحابنا رفعه عن هشام بن الحكم قال : قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام ) : يا هشام إن الله يقول في كتابه: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرى‏ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ يعني عقل. و في الدر المنثور، أخرج الخطيب في تاريخه، عن العوام بن حوشب قال: سألت أبا مجلز عن الرجل يجلس فيضع إحدى رجليه على الأخرى فقال: لا بأس به إنما كره ذلك اليهود زعموا أن الله خلق السماوات و الأرض في ستة أيام ثم استراح يوم السبت فجلس تلك الجلسة فأنزل الله ﴿وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ مَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ.

أقول: و روي هذا المعنى عن الضحاك و قتادة، و روى هذا المعنى المفيد في روضة الواعظين، في رواية ضعيفة، و أصل تقسيم خلق الأشياء إلى ستة من أيام الأسبوع واقع في التوراة، و القرآن و إن كرر ذكر خلق الأشياء في ستة أيام لكنه لم يذكر كون هذه الأيام هي أيام الأسبوع و لا لوح إليه.

و على هذه الروايات اعتمد من قال: إن الآية مدنية، و لا دلالة في ردها قول اليهود أن تكون نازلة بالمدينة، و في الآيات المكية ما تعرض سبحانه فيه لشأن اليهود كما في سورة الأعراف و غيرها.

[سورة ق (٥٠): الآیات ٣٩ الی ٤٥]

﴿فَاصْبِرْ عَلىَ مَا يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ وَ قَبْلَ اَلْغُرُوبِ ٣٩ وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبَارَ اَلسُّجُودِ ٤٠ وَ اِسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ اَلْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ٤١ يَوْمَ يَسْمَعُونَ اَلصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ اَلْخُرُوجِ ٤٢ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ إِلَيْنَا اَلْمَصِيرُ ٤٣ يَوْمَ تَشَقَّقُ اَلْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ

 

 

عَلَيْنَا يَسِيرٌ ٤٤ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ٤٥

(بيان‏)

خاتمة السورة يأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيها أن يصبر على ما يقولون مما يرمونه بنحو السحر و الجنون و الشعر، و ما يتعنتون به باستهزاء المعاد و الرجوع إلى الله تعالى فيأمره (ص) بالصبر و أن يعبد ربه بتسبيحه و أن يتوقع البعث بانتظار الصيحة، و أن يذكر بالقرآن من يخاف الله بالغيب.

قوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ عَلىَ مَا يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ وَ قَبْلَ اَلْغُرُوبِ تفريع على جميع ما تقدم من إنكار المشركين للبعث، و من تفصيل القول في البعث و الحجة عليه، و من وعيد المنكرين له المكذبين للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تهديدهم بمثل ما جرى على المكذبين من الأمم الماضية.

و قوله: ﴿وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ إلخ، أمر بتنزيهه تعالى عما يقولون مصاحبا للحمد و محصله إثبات جميل الفعل له و نفي كل نقص و شين عنه تعالى، و التسبيح قبل طلوع الشمس يقبل الانطباق على صلاة الصبح، و التسبيح قبل الغروب يقبل الانطباق على صلاة العصر أو عليها و على صلاة الظهر.

قوله تعالى: ﴿وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبَارَ اَلسُّجُودِ أي و من الليل فسبحه فيه، و يقبل الانطباق على صلاتي المغرب و العشاء.

و قوله: ﴿وَ أَدْبَارَ اَلسُّجُودِ الأدبار جمع دبر و هو ما ينتهي إليه الشي‏ء و بعده، و كان المراد بأدبار السجود بعد الصلوات فإن السجود آخر الركعة من الصلاة فينطبق على التعقيب بعد الصلوات، و قيل: المراد به النوافل بعد الفرائض، و قيل: المراد به الركعتان أو الركعات بعد المغرب و قيل: ركعة الوتر في آخر الليل.

قوله تعالى: ﴿وَ اِسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ اَلْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ فسروا الاستماع بمعان مختلفة و الأقرب أن يكون مضمنا معنى الانتظار و ﴿يَوْمَ يُنَادِ اَلْمُنَادِ مفعوله و المعنى:

 

 

 و انتظر يوما ينادي فيه المنادي ملقيا سمعك لاستماع ندائه، و المراد بنداء المنادي نفخ صاحب الصور في الصور على ما تفيده الآية التالية.

و كون النداء من مكان قريب لإحاطته بهم فيقع في سمعهم على نسبة سواء لا تختلف بالقرب و البعد فإنما هو نداء البعث و كلمة الحياة.

قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَسْمَعُونَ اَلصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ اَلْخُرُوجِ بيان ليوم ينادي المنادي، و كون الصيحة بالحق لأنها مقضية قضاء محتوما كما مر في قوله: ﴿وَ جَاءَتْ سَكْرَةُ اَلْمَوْتِ بِالْحَقِّ الآية.

و قوله: ﴿ذَلِكَ يَوْمُ اَلْخُرُوجِ أي يوم الخروج من القبور كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ اَلْأَجْدَاثِ سِرَاعاً: المعارج: ٤٣.

قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ إِلَيْنَا اَلْمَصِيرُ المراد بالإحياء إفاضة الحياة على الأجساد الميتة في الدنيا، و بالإماتة الإماتة في الدنيا و هي النقل إلى عالم القبر، و بقوله: ﴿وَ إِلَيْنَا اَلْمَصِيرُ الإحياء بالبعث في الآخرة على ما يفيده السياق.

قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَشَقَّقُ اَلْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ أصل ﴿تَشَقَّقُ تتشقق أي تتصدع عنهم فيخرجون منها مسارعين إلى الداعي.

و قوله: ﴿ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ أي ما ذكرنا من خروجهم من القبور المنشقة عنهم سراعا جمع لهم علينا يسير.

قوله تعالى: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ في مقام التعليل لقوله: ﴿فَاصْبِرْ عَلى‏َ مَا يَقُولُونَ الآية، و الجبار المتسلط الذي يجبر الناس على ما يريد.

و المعنى: فاصبر على ما يقولون و سبح بحمد ربك و انتظر البعث فنحن أعلم بما يقولون سنجزيهم بما عملوا و لست أنت بمتسلط جبار عليهم حتى تجبرهم على ما تدعوهم إليه من الإيمان بالله و اليوم الآخر و إذا كانت حالهم هذه الحال فذكر بالقرآن من يخاف وعيدي.

 

 

(بحث روائي‏)

 في الدر المنثور، أخرج الطبراني في الأوسط، و ابن عساكر عن جرير بن عبد الله عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : في قوله: ﴿وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ وَ قَبْلَ اَلْغُرُوبِ قبل طلوع الشمس صلاة الصبح، و قبل الغروب صلاة العصر.

 و في المجمع، روي عن أبي عبد الله (عليه السلام ) أنه سئل عن قوله: ﴿وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ وَ قَبْلَ اَلْغُرُوبِ فقال: تقول حين تصبح و حين تمسي عشر مرات:

لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك و له الحمد و هو على كل شي‏ء قدير. أقول: هو مأخوذ من إطلاق التسبيح في الآية و إن كان خصوص مورده صلاتي الصبح و العصر فلا منافاة.

 و في الكافي، بإسناده عن حريز عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام ) قال : قلت:

﴿وَ أَدْبَارَ اَلسُّجُودِ قال: ركعات بعد المغرب.:

أقول: و رواه القمي في تفسيره، بإسناده عن ابن أبي نصر عن الرضا (عليه السلام ) و لفظه قال: أربع ركعات بعد المغرب.

 و في الدر المنثور، أخرج مسدد في مسنده، و ابن المنذر و ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال : سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن أدبار النجوم و السجود فقال: أدبار السجود الركعتان بعد المغرب، و أدبار النجوم الركعتان قبل الغداة:.

أقول: و روي مثله عن ابن عباس و عمر عنه (ص)، و أسنده في مجمع البيان، إلى الحسن بن علي (عليه السلام ) أيضا عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) . و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ قال:

ذكر يا محمد ما وعدناه من العذاب.

 

 

(٥١) سورة الذاريات مكية و هي ستون آية (٦٠)

[سورة الذاريات (٥١): الآیات ١ الی ١٩]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ وَ اَلذَّارِيَاتِ ذَرْواً ١ فَالْحَامِلاَتِ وِقْراً ٢ فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً ٣ فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً ٤ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ٥ وَ إِنَّ اَلدِّينَ لَوَاقِعٌ ٦ وَ اَلسَّمَاءِ ذَاتِ اَلْحُبُكِ ٧ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ٨ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ٩ قُتِلَ اَلْخَرَّاصُونَ ١٠ اَلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ١١ يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ اَلدِّينِ ١٢ يَوْمَ هُمْ عَلَى اَلنَّارِ يُفْتَنُونَ ١٣ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ١٤ إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ ١٥ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ١٦ كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اَللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ١٧ وَ بِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ١٨ وَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَ اَلْمَحْرُومِ ١٩

(بيان‏)

كانت الدعوة النبوية تدعو الوثنية إلى توحيد الربوبية و إن الله تعالى هو ربهم و رب كل شي‏ء، و كانت الدعوة من طريق الإنذار و التبشير و خاصة بالإنذار و كان

 

 

 الإنذار بعذاب الله في الدنيا للمكذبين عذاب الاستئصال، و في الآخرة بالعذاب الخالد يوم القيامة و هو العمدة في نجاح الدعوة إذ لو لا الحساب و الجزاء يوم القيامة كان الإيمان بالوحدانية و النبوة لغي لا أثر له.

و المشركون باتخاذهم آلهة دون الله سبحانه شددوا الإنكار لأصول التوحيد و النبوة و المعاد، و كانوا يتعنتون بإنكار المعاد و الإصرار على نفيه و الاستهزاء به من أي طريق ممكن لما يرون أن في بطلانه بطلان الأصلين الآخرين.

و السورة تذكر المعاد و إنكارهم له فتبدأ به و تختم عليه لكن لا من حيث نفسه كما جرى عليه الكلام في مواضع من كلامه بل من حيث إنه يوم الجزاء و إن الله الذي وعدهم به هو ربهم و هو الذي وعدهم به و وعده صدق لا ريب فيه.

و لذلك لما انساق الكلام إلى الاحتجاج عليه احتجت بأدلة التوحيد من آيات الأرض و السماء و الأنفس و ما عاقب الله به الأمم الماضين إثر دعوتهم إلى التوحيد و تكذيبهم لرسله، و ليس إلا ليثبت بها التوحيد فيثبت به يوم الجزاء الذي وعده الله و الله لا يخلف الميعاد و أخبرت به الدعوة النبوية فيندفع بذلك إنكارهم للجزاء و قد توسلوا بذلك إلى إبطال دين التوحيد و رسالة الرسول لصيرورة الإيمان به لغوا لا أثر له كما تقدمت الإشارة إليه.

و السورة مكية لشهادة سياق آياتها عليه و لم يختلف في ذلك أحد، و من غرر آياتها قوله تعالى: ﴿وَ مَا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ.

و الفصل الذي أوردناه من الآيات مفتتح الكلام يذكر فيه أن الجزاء الذي وعدوه صدق و إنكارهم له و تعنتهم بذلك تخرص ثم يصف يوم الجزاء و حال المتقين و المنكرين فيه.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلذَّارِيَاتِ ذَرْواً فَالْحَامِلاَتِ وِقْراً فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً الذاريات‏ جمع الذارية من قولهم: ذرت الريح التراب تذروه ذروا إذا أطارته و الوقر بالكسر فالسكون ثقل الحمل في الظهر أو في البطن.

و في الآيات إقسام بعد إقسام يفيد التأكيد بعد التأكيد للمقسم عليه و هو الجزاء على الأعمال فقوله: ﴿وَ اَلذَّارِيَاتِ ذَرْواً إقسام بالرياح المثيرة للتراب، و قوله:

 

 

﴿فَالْحَامِلاَتِ وِقْراً بالفاء المفيدة للتأخير و الترتيب معطوف على الذاريات و إقسام بالسحب الحاملة لثقل الماء، و قوله: ﴿فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً عطف عليه و إقسام بالسفن الجارية في البحار بيسر و سهولة.

و قوله: ﴿فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً عطف على ما سبقه و إقسام بالملائكة الذين يعملون بأمره فيقسمونه باختلاف مقاماتهم فإن أمر ذي العرش بالخلق و التدبير واحد فإذا حمله طائفة من الملائكة على اختلاف أعمالهم انشعب الأمر و تقسم بتقسمهم ثم إذا حمله طائفة هي دون الطائفة الأولى تقسم ثانيا بتقسمهم و هكذا حتى ينتهي إلى الملائكة المباشرين للحوادث الكونية الجزئية فينقسم بانقسامها و يتكثر بتكثرها.

و الآيات الأربع كما ترى تشير إلى عامة التدبير حيث ذكرت أنموذجا مما يدبر به الأمر في البر و هو الذاريات ذروا، و أنموذجا مما يدبر به الأمر في البحر و هو الجاريات يسرا و أنموذجا مما يدبر به الأمر في الجو و هو الحاملات وقرا، و تمم الجميع بالملائكة الذين هم وسائد التدبير و هم المقسمات أمرا.

فالآيات في معنى أن يقال: أقسم بعامة الأسباب التي يتمم بها أمر التدبير في العالم أن كذا كذا، و قد ورد من طرق الخاصة و العامة عن علي عليه أفضل السلام تفسير الآيات الأربع بما تقدم.

و عن الفخر الرازي في التفسير الكبير، أن الأقرب حمل الآيات الأربع جميعا على الرياح فإنها كما تذرو التراب ذروا تحمل السحب الثقال و تجري في الجو بيسر و تقسم السحب على الأقطار من الأرض.

و الحق أن ما استقربه بعيد، و ما تقدم من المعنى أبلغ مما ذكره.

قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَ إِنَّ اَلدِّينَ لَوَاقِعٌ «ما» موصولة، و الضمير العائد إليها محذوف أي الذين توعدونه، أو مصدرية، و ﴿تُوعَدُونَ من الوعد كما يؤيده قوله: ﴿وَ إِنَّ اَلدِّينَ لَوَاقِعٌ الشامل لمطلق الجزاء، و قيل: من الإيعاد كما يؤيده قوله: ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ: ق - ٤٥.

وعد الوعد صادقا من المجاز في النسبة كما في قوله: ﴿فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ: الحاقة:

 ٢١ أو الصادق بمعنى ذو صدق كما قيل بمثله في قوله: ﴿فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ و الدين‏ الجزاء.

 

 

و كيف كان فقوله: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ جواب القسم، و قوله: ﴿وَ إِنَّ اَلدِّينَ لَوَاقِعٌ معطوف عليه بمنزلة التفسير، و المعنى أقسم بكذا و كذا أن الذي توعدونه و هو الذي يعدهم القرآن أو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بما أنزل إليه من يوم البعث و أن الله سيجزيهم فيه بأعمالهم إن خيرا فخيرا و إن شرا فشرا لصادق، و إن الجزاء لواقع.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلسَّمَاءِ ذَاتِ اَلْحُبُكِ الحبك‏ بمعنى الحسن و الزينة، و بمعنى الخلق المستوي، و يأتي جمعا لحبيكة أو حباك بمعنى الطريقة كالطرائق التي تظهر على الماء إذا تثنى و تكسر من مرور الرياح عليه.

و المعنى على الأول: أقسم بالسماء ذات الحسن و الزينة نظير قوله تعالى: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا اَلسَّمَاءَ اَلدُّنْيَا بِزِينَةٍ اَلْكَوَاكِبِ﴾: الصافات: ٦، و على الثاني: أقسم بالسماء ذات الخلق المستوي نظير قوله: ﴿وَ اَلسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ: الآية ٤٧ من السورة و على الثالث أقسم بالسماء ذات الطرائق نظير قوله: ﴿وَ لَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ المؤمنون: ١٧.

و لعل المعنى الثالث أظهر لمناسبته لجواب القسم الذي هو اختلاف الناس و التشتت طرائقهم كما أن الأقسام السابقة: ﴿وَ اَلذَّارِيَاتِ ذَرْواً إلخ كانت مشتركة في معنى الجري و السير مناسبة لجوابها: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ إلخ المتضمن لمعنى الرجوع إلى الله و السير إليه.

قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ القول المختلف ما يتناقض و يدفع بعضه بعضا و حيث إن الكلام في إثبات صدق القرآن أو الدعوة أو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيما وعدهم من أمر البعث و الجزاء فالمراد بالقول المختلف على الأقرب قولهم المختلف في أمر القرآن لغرض إنكار ما يثبته فتارة يقولون: إنه سحر و الجائي به ساحر، و تارة يقولون: زجر و الجائي به مجنون، و تارة يقولون: إلقاء شياطين الجن و الجائي به كاهن، و تارة يقولون: شعر و الجائي به شاعر، و تارة أنه افتراء، و تارة يقولون إنما يعلمه بشر، و تارة يقولون: أساطير الأولين اكتتبها.

و قوله: ﴿يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ الإفك‏ الصرف، و ضمير ﴿عَنْهُ إلى الكتاب

 

 

 من حيث اشتماله على وعد البعث و الجزاء، و المعنى: يصرف عن القرآن من صرف، و قيل: الضمير للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المعنى: يصرف عن الإيمان به من صرف، و قد عرفت أن المعنى السابق أوفق للسياق و إن كان مآل المعنيين واحدا.

و حكي عن بعضهم أن ضمير ﴿عَنْهُ لما توعدون أو للدين أقسم تعالى أولا بالذاريات و غيرها على أن البعث و الجزاء حق ثم أقسم بالسماء على أنهم في قول مختلف في وقوعه فمنهم شاك و منهم جاحد ثم قال تعالى: يؤفك عن الإقرار بأمر البعث و الجزاء من هو مأفوك. و هذا الوجه قريب من الوجه السابق.

و عن بعضهم: أن الضمير لقول مختلف و «عن» للتعليل كما في قوله تعالى: ﴿وَ مَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ: هود: ٥٣ فيكون الجملة صفة لقول و المعنى: أنكم لفي قول مختلف يؤفك بسببه من أفك، و هو وجه حسن.

و قيل: الضمير في ﴿إِنَّكُمْ للمسلم و الكافر جميعا فيكون المراد بالقول المختلف قول المسلمين بوقوع البعث و الجزاء و قول الكفار بعدم الوقوع. و لعل السياق لا يلائمه و قيل: بعض وجوه أخر رديئة لا جدوى في التعرض له.

قوله تعالى: ﴿قُتِلَ اَلْخَرَّاصُونَ اَلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ اَلدِّينِ أصل الخرص‏ القول بالظن و التخمين من غير علم، و لكون القول بغير علم في خطر من الكذب يسمى الكذاب خراصا، و الأشبه أن يكون المراد بالخراصين في الآية القوالين من غير علم و دليل و هم الخائضون في أمر البعث و الجزاء المنكرون له بغير علم.

و في قوله: ﴿قُتِلَ اَلْخَرَّاصُونَ دعاء عليهم بالقتل و هو كناية عن نوع من الطرد و الحرمان من الفلاح و إليه يئول قول من فسره باللعن.

و قوله: ﴿اَلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ الغمرة كما ذكر الراغب معظم الماء الساتر لمقرها، و جعل مثلا للجهالة التي تغمر صاحبها، و المراد بالسهو كما قيل مطلق الغفلة.

و معنى الآية و هي تصف الخراصين: الذين هم في جهالة أحاطت بهم غافلون عن حقيقة ما أخبروا به.

و قوله: ﴿يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ اَلدِّينِ ضمير الجمع للخراصين قول قالوه على طريق الاستعجال استهزاء كقولهم: ﴿مَتى‏َ هَذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ: يس - ٤٨.

 

 

 و السؤال بأيان الموضوعة للسؤال عن زمان مدخولها عن يوم الدين و هو ظاهر في الزمان إنما هو بعناية أن يوم الدين لكونه موعودا ملحق بالزمانيات فيسأل عنه كما يسأل عن الزمانيات بأيان و متى كما يقال: متى يوم العيد لكونه ذا شأن ملحقا لذلك بالزمانيات كذا قيل.

و يمكن أن يكون من التوسع في معنى الظرفية بأن يعد أوصاف الظرف الخاصة به ظرفا توسعا فيكون السؤال عن زمان الزمان سؤالا عن أنه بعد أي زمان أو قبل أي زمان؟ كما يقال: متى يوم العيد؟ فيجاب بأنه بعد عشرة أيام مثلا أو قبل يوم كذا، و هو توسع جار في العرف غير مختص بكلام العرب، و في القرآن منه شي‏ء كثير.

قوله تعالى: ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى اَلنَّارِ يُفْتَنُونَ ضمير الجمع للخراصين، و الفتن‏ في الأصل إدخال الذهب النار ليظهر جودته ثم استعمل في مطلق الإحراق و التعذيب، و الظرف متعلق بفعل محذوف أو مبتدأ، و الآية جواب عن سؤالهم عدل فيه عن بيان وقت يوم الدين إلى بيان صفته و الإشارة إلى حالهم فيه لما أن وقته من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله قال تعالى: ﴿لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ.

و تقدير الآية و معناها: يقع يوم الدين أو هو واقع يوم هم أي الخراصون في النار يعذبون أو يحرقون.

قوله تعالى: ﴿ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ حكاية خطاب منه تعالى أو من الملائكة بأمره للخراصين و هم يفتنون على النار يومئذ.

و المعنى: يقال لهم ذوقوا العذاب الذي يخصكم. هذا العذاب هو الذي كنتم تستعجلون به إذ تقولون استعجالا و استهزاء: أيان يوم الدين.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ بيان لحال المتقين يوم الدين بعد وصف حال أولئك الخراصين.

و تنكير جنات و عيون للإشارة إلى عظم قدرها كأنها بحيث لا يقدر الواصفون على وصفها، و قد ألحقت العيون بالجنات في ظرفيتها توسعا.

قوله تعالى: ﴿آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ أي قابلين ما

 

 

 أعطاهم ربهم الرءوف بهم راضين عنه و بما أعطاهم كما يفيده خصوص التعبير بالأخذ و الإيتاء و نسبة الإيتاء إلى ربهم.

و قوله: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ تعليل لما تقدمه أي إن حالهم تلك الحال لأنهم كانوا قبل ذلك أي في الدنيا ذوي إحسان في أعمالهم أي ذوي أعمال حسنة.

قوله تعالى: ﴿كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اَللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ الآيات تفسير لإحسانهم، و الهجوع النوم في الليل و قيل: النوم القليل.

و يمكن أن تكون: ما زائدة و ﴿يَهْجَعُونَ خبر كانوا، و ﴿قَلِيلاً ظرفا متعلقا به أي في زمان قليل أو صفة لمفعول مطلق محذوف أي هجوعا قليلا و ﴿مِنَ اَللَّيْلِ متعلقا بقليلا و المعنى: كانوا ينامون في زمان قليل من الليل أو ينامون الليل نوما قليلا.

و أن تكون موصولة و الضمير العائد إليها محذوفا و ﴿قَلِيلاً خبر كانوا و الموصول فاعله و المعنى: كانوا قليلا من الليل الذي يهجعون فيه.

و أن تكون مصدرية و المصدر المسبوك منها و من مدخولها فاعلا لقوله: ﴿قَلِيلاً و هو خبر ﴿كَانُوا.

و على أي حال فالقليل من الليل إما مأخوذ بالقياس إلى مجموع زمان كل ليلة فيفيد أنهم يهجعون كل ليلة زمانا قليلا منها و يصلون أكثرها، و إما مأخوذ بالقياس إلى مجموع الليالي فيفيد أنهم يهجعون في قليل من الليالي و يقومون للصلاة في أكثرها أي لا يفوتهم صلاة الليل إلا في قليل من الليالي.

قوله تعالى: ﴿وَ بِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أي يسألون الله المغفرة لذنوبهم، و قيل: المراد بالاستغفار الصلاة و هو كما ترى.

قوله تعالى: ﴿وَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَ اَلْمَحْرُومِ الآيتان السابقتان تبينان خاصة سيرتهم في جنب الله سبحانه و هي قيام الليل و الاستغفار بالأسحار و هذه الآية تبين خاصة سيرتهم في جنب الناس و هي إيتاء السائل و المحروم.

و تخصيص حق السائل و المحروم بأنه في أموالهم مع أنه لو ثبت فإنما يثبت في كل مال دليل على أن المراد أنهم يرون بصفاء فطرتهم أن في أموالهم حقا لهما فيعملون بما يعملون نشرا للرحمة و إيثارا للحسنة.

 

 

 و السائل هو الذي يسأل العطية بإظهار الفاقة و المحروم هو الذي حرم الرزق فلم ينجح سعيه في طلبه و لا يسأل تعففا.

(بحث روائي‏)

 في تفسير القمي، حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام ) في قوله تعالى: ﴿وَ اَلذَّارِيَاتِ ذَرْواً فقال: إن ابن الكوا سأل أمير المؤمنين (عليه السلام ) عن ﴿اَلذَّارِيَاتِ ذَرْواً قال: الريح، و عن ﴿فَالْحَامِلاَتِ وِقْراً فقال: هي السحاب، و عن ﴿فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً فقال: هي السفن، و عن ﴿فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً فقال: الملائكة.

أقول: و الحديث مروي من طرق أهل السنة أيضا كما في روح المعاني.

و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و الفاريابي و سعيد بن منصور و الحارث بن أبي أسامة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن الأنباري في المصاحف، و الحاكم و صححه و البيهقي في شعب الإيمان، من طرق عن علي بن أبي طالب في قوله: ﴿وَ اَلذَّارِيَاتِ ذَرْواً قال: الرياح ﴿فَالْحَامِلاَتِ وِقْراً قال: السحاب ﴿فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً قال:

السفن ﴿فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً قال: الملائكة.

 و في المجمع، قال أبو جعفر و أبو عبد الله (عليه السلام ) : لا يجوز لأحد أن يقسم إلا بالله تعالى، و الله يقسم بما شاء من خلقه.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن منيع عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن قوله:

﴿وَ اَلسَّمَاءِ ذَاتِ اَلْحُبُكِ قال: ذات الخلق الحسن:.

أقول: و روي مثله في المجمع، و لفظه: و قيل: ذات الحسن و الزينة: عن علي (عليه السلام ) و في جوامع الجامع، و لفظه: و عن علي (عليه السلام ) : حسنها و زينتها.

 و في بعض الأخبار: في قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ تطبيقه على الولاية.

 و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اَللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ و قيل معناه: كانوا أقل ليلة تمر بهم إلا صلوا فيها: و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام ) .

 

 

 و فيه، في قوله تعالى: ﴿وَ بِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ و قال أبو عبد الله (عليه السلام ) :

كانوا يستغفرون الله في الوتر سبعين مرة في السحر.

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أنس قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : إن آخر الليل في التهجد أحب إلي من أوله لأن الله يقول: ﴿وَ بِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عمر عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في قوله: ﴿وَ بِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ قال: يصلون.

 أقول: لعل تفسير الاستغفار بالصلاة من جهة اشتمال الوتر عليه كإرادة الصلاة من القرآن في قوله: ﴿وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً: إسراء: ٧٨.

و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿وَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَ اَلْمَحْرُومِ قال:

السائل الذي يسأل، و المحروم الذي قد منع كده.

 و في التهذيب، بإسناده عن صفوان الجمال عن أبي عبد الله (عليه السلام ) في الآية قال:

المحروم المحارف الذي قد حرم كد يده في الشراء و البيع.

 قال: و في رواية أخرى عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام ) قال: المحروم الرجل ليس بعقله بأس و لا يبسط له في الرزق و هو محارف.

[سورة الذاريات (٥١): الآیات ٢٠ الی ٥١]

﴿وَ فِي اَلْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ٢٠ وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلاَ تُبْصِرُونَ ٢١ وَ فِي اَلسَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَ مَا تُوعَدُونَ ٢٢ فَوَ رَبِّ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ٢٣ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ اَلْمُكْرَمِينَ ٢٤ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ٢٥ فَرَاغَ إِلى‏ أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ٢٦ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَ لاَ تَأْكُلُونَ ٢٧ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ

 

 

وَ بَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ ٢٨ فَأَقْبَلَتِ اِمْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَ قَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ٢٩ قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ اَلْحَكِيمُ اَلْعَلِيمُ ٣٠ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا اَلْمُرْسَلُونَ ٣١ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلى‏ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ٣٢ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ ٣٣ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ٣٤ فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ ٣٥ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ ٣٦ وَ تَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ اَلْعَذَابَ اَلْأَلِيمَ ٣٧ وَ فِي مُوسى‏ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلى‏ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ٣٨ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَ قَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ٣٩ فَأَخَذْنَاهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اَلْيَمِّ وَ هُوَ مُلِيمٌ ٤٠ وَ فِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ اَلرِّيحَ اَلْعَقِيمَ ٤١ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْ‏ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ٤٢ وَ فِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ٤٣ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّاعِقَةُ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ ٤٤ فَمَا اِسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَ مَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ ٤٥ وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ ٤٦ وَ اَلسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ ٤٧ وَ اَلْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ اَلْمَاهِدُونَ ٤٨ وَ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ٤٩ فَفِرُّوا إِلَى اَللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ

 

 

مُبِينٌ ٥٠ وَ لاَ تَجْعَلُوا مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ٥١

(بيان‏)

تشير الآيات إلى عدة من آيات الله الدالة على وحدانيته في الربوبية و رجوع أمر التدبير في الأرض و السماء و الناس و أرزاقهم إليه، و لازمه إمكان نزول الدين الإلهي من طريق الرسالة بل وجوبه، و لازمه صدق الدعوة النبوية فيما تضمنته من وعد البعث و الجزاء و إن ما يوعدون لصادق و إن الدين لواقع، و قد مرت إشارة إلى خصوصية سلوك السورة في احتجاجها في البيان السابق.

قوله تعالى: ﴿وَ فِي اَلْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ الاستنتاج الآتي في آخر هذه الآيات في قوله: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اَللَّهِ إلى أن قال ﴿وَ لاَ تَجْعَلُوا مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ الآية، يشهد على أن سوق هذه الآيات و الدلائل لإثبات وحدانيته تعالى في الربوبية لا لإثبات أصل وجوده أو انتهاء الخلق إليه و نحو ذلك.

و في الآية إشارة إلى ما تتضمنه الأرض من عجائب الآيات الدالة على وحدة التدبير القائمة بوحدانية مدبره من بر و بحر و جبال و تلال و عيون و أنهار و معادن و منافعها المتصلة بعضها ببعض الملاءمة بعضها لبعض ينتفع بها ما عليها من النبات و الحيوان في نظام واحد مستمر من غير اتفاق و صدفة، لائح عليها آثار القدرة و العلم و الحكم دال على أن خلقها و تدبير أمرها ينتهي إلى خالق مدبر قادر عليم حكيم.

فأي جانب قصد من جوانبها و أية وجهة وليت من جهات التدبير العام الجاري فيها كانت آية بينة و برهانا ساطعا على وحدانية ربها لا شريك له ينجلي فيه الحق لأهل اليقين ففيها آيات للموقنين.

قوله تعالى: ﴿وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلاَ تُبْصِرُونَ معطوف على قوله: ﴿فِي اَلْأَرْضِ أي و في أنفسكم آيات ظاهرة لمن أبصر إليها و ركز النظر فيها أ فلا تبصرون.

 

 

و الآيات التي في النفوس منها ما هي في تركب الأبدان من أعضائها و أعضاء أعضائها حتى ينتهي إلى البسائط و ما لها من عجائب الأفعال و الآثار المتحدة في عين تكثرها المدبرة جميعا لمدبر واحد، و ما يعرضها من مختلف الأحوال كالجنينية و الطفولية و الرهاق و الشباب و الشيب.

و منها ما هي من حيث تعلق النفوس أعني الأرواح بها كالحواس من البصر و السمع و الذوق و الشم و اللمس التي هي الطرق الأولية لاطلاع النفوس على الخارج لتميز بذلك الخير من الشر و النافع من الضار لتسعى إلى ما فيه كمالها و تهرب مما لا يلائمها، و في كل منها نظام وسيع جار فيه منفصل بذاته عن غيره كالبصر لا خبر عنده عما يعمله السمع بنظامه الجاري فيه و هكذا، و الجميع مع هذا الانفصال و التقطع مؤتلفة تعمل تحت تدبير مدبر واحد هو النفس المدبرة و الله من ورائهم محيط.

و من هذا القبيل سائر القوى المنبعثة عن النفوس في الأبدان كالقوة الغضبية و القوة الشهوية و ما لها من اللواحق و الفروع فإنها على ما للواحد منها بالنسبة إلى غيره من البينونة و انفصال النظام الجاري فيه عن غيره واقعة تحت تدبير مدبر واحد تتعاضد جميع شعبها و تأتلف لخدمته.

و نظام التدبير الذي لكل من هذه المدبرات إنما وجد له حينما وجد و أول ما ظهر من غير فصل فليس مما عملت فيه خيرته و أوجده هو لنفسه عن فكر و روية أو بغيره فنظام تدبيره كنفسه من صانع صنعه و ألزمه نظامه بتدبيره.

و منها الآيات الروحانية الواقعة في عالم النفوس الظاهرة لمن رجع إليها و راقب الله سبحانه فيها من آيات الله التي لا يسعها وصف الواصفين و ينفتح بها باب اليقين و تدرج المتطلع عليها في زمرة الموقنين فيرى ملكوت السماوات و الأرض كما قال تعالى:

﴿وَ كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ: الأنعام: ٧٥.

قوله تعالى: ﴿وَ فِي اَلسَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَ مَا تُوعَدُونَ قيل: المراد بالسماء جهة العلو فإن كل ما علاك و أظلك فهو سماء لغة، و المراد بالرزق المطر الذي ينزله الله على الأرض فيخرج به أنواع ما يقتاتونه و يلبسونه و ينتفعون به و قد قال تعالى: ﴿وَ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ مِنَ اَلسَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا: الجاثية: ٥، فسمي المطر رزقا فالمراد بالرزق سببه أو بتقدير مضاف أي سبب رزقكم.

 

 

 و قيل: المراد أسباب الرزق السماوية من الشمس و القمر و الكواكب و اختلاف المطالع و المغارب الراسمة للفصول الأربعة و توالي الليل و النهار و هي جميعا أسباب الرزق فالكلام على تقدير مضاف أي أسباب رزقكم أو فيه تجوز بدعوى أن وجود الأسباب فيها وجود ذوات الأسباب.

و قيل: المراد بكون الرزق فيها كون تقديره فيها، أو أن الأرزاق مكتوبة في اللوح المحفوظ فيها.

و يمكن أن يكون المراد به عالم الغيب فإن الأشياء و منها الأرزاق تنزل من عند الله سبحانه و قد صرح بذلك في أشياء كقوله تعالى: ﴿وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ: الزمر: ٦، و قوله: ﴿وَ أَنْزَلْنَا اَلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ: الحديد: ٢٥، و قوله على نحو العموم: ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ: الحجر:

 ٢١، و المراد بالرزق كل ما ينتفع به الإنسان في بقائه من مأكل و مشرب و ملبس و مسكن و منكح و ولد و علم و قوة و غير ذلك.

و قوله: ﴿وَ مَا تُوعَدُونَ عطف على ﴿رِزْقُكُمْ الظاهر أن المراد به الجنة لقوله تعالى: ﴿عِنْدَهَا جَنَّةُ اَلْمَأْوى‏َ: النجم: ١٥، و قول بعضهم: إن المراد به الجنة و النار أو الثواب و العقاب لا يلائمه قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ اِسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ اَلسَّمَاءِ وَ لاَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ اَلْجَمَلُ فِي سَمِّ اَلْخِيَاطِالأعراف: ٤٠.

نعم تكرر في القرآن نسبة نزول العذاب الدنيوي إلى السماء كقوله: ﴿فَأَنْزَلْنَا عَلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ اَلسَّمَاءِ: البقرة: ٥٩، و غير ذلك.

و عن بعضهم أن قوله: ﴿وَ مَا تُوعَدُونَ مبتدأ خبره قوله: ﴿فَوَ رَبِّ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ و الواو للاستئناف و هو معنى بعيد عن الفهم.

قوله تعالى: ﴿فَوَ رَبِّ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ النطق‏ التكلم و ضمير ﴿إِنَّهُ راجع إلى ما ذكر من كون الرزق و ما توعدون في السماء و الحق هو الثابت المحتوم في القضاء الإلهي دون أن يكون أمرا تبعيا أو اتفاقيا.

و المعنى: أقسم برب السماء و الأرض أن ما ذكرناه من كون رزقكم و ما توعدونه من الجنة و هو أيضا من الرزق فقد تكرر في القرآن تسمية الجنة رزقا كقوله: ﴿لَهُمْ

 

 

 مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ: الأنفال: ٧٤، و غير ذلك - في السماء لثابت مقضي مثل نطقكم و تكلمكم الذي هو حق لا ترتابون فيه.

و جوز بعضهم أن يكون ضمير ﴿إِنَّهُ راجعا إلى ﴿مَا تُوعَدُونَ فقط أو إلى الرزق فقط أو إلى الله أو إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو إلى القرآن أو إلى الدين في قوله: ﴿وَ إِنَّ اَلدِّينَ لَوَاقِعٌ أو إلى اليوم في قوله: ﴿أَيَّانَ يَوْمُ اَلدِّينِ أو إلى جميع ما تقدم من أول السورة إلى هاهنا، و لعل الأوجه رجوعه إلى ما ذكر في قوله: ﴿وَ فِي اَلسَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَ مَا تُوعَدُونَ كما قدمنا.

كلام في تكافؤ الرزق و المرزوق‏

الرزق‏ بمعنى ما يرتزق به هو ما يمد شيئا آخر في بقائه بانضمامه إليه أو لحوقه به بأي معنى كان كالغذاء الذي يمد الإنسان في حياته و بقائه بصيرورته جزء من بدنه و كالزوج يمد زوجه في إرضاء غريزته و بقاء نسله و على هذا القياس.

و من البين: أن الأشياء المادية يرتزق بعضها ببعض كالإنسان بالحيوان و النبات مثلا فما يلحق المرزوق في بقائه من أطوار الكينونة و مختلف الأحوال كما أنها أطوار من الكون لاحقة به منسوبة إليه كذلك هي بعينها أطوار من الكون لاحقة بالرزق منسوبة إليه و إن كان ربما تغيرت الأسماء فكما أن الإنسان يصير بالتغذي ذا أجزاء جديدة في بدنه كذلك الغذاء يصير جزءا جديدا من بدنه اسمه كذا.

و من البين أيضا: أن القضاء محيط بالكون مستوعب للأشياء يتعين به ما يجري على كل شي‏ء في نفسه و أطوار وجوده، و بعبارة أخرى سلسلة الحوادث بما لها من النظام الجاري مؤلفة من علل تامة و معلولات ضرورية.

و من هنا يظهر أن الرزق و المرزوق متلازمان لا يتفارقان فلا معنى لموجود يطرأ عليه طور جديد في وجوده بانضمام شي‏ء أو لحوقه إلا مع وجود الشي‏ء المنضم أو اللاحق المشترك معه في طوره ذلك فلا معنى لمرزوق مستمد في بقائه و لا رزق له، و لا معنى لرزق متحقق و لا مرزوق له كما لا معنى لزيادة الرزق على ما يحتاج إليه المرزوق، و كذا

 

 

 لبقاء مرزوق من غير رزق فالرزق داخل في القضاء الإلهي دخولا أوليا لا بالعرض و لا بالتبع و هو المعنى بكون الرزق حقا.

(بيان‏)

قوله تعالى: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ اَلْمُكْرَمِينَ إشارة إلى قصة دخول الملائكة المكرمين على إبراهيم (عليه السلام ) و تبشيرهم له و لزوجه ثم إهلاكهم قوم لوط، و فيها آية على وحدانية الربوبية كما تقدمت الإشارة إليه.

و في قوله: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ تفخيم لأمر القصة و ﴿اَلْمُكْرَمِينَ و هم الملائكة الداخلون على إبراهيم صفة ﴿ضَيْفِ و إفراده لكونه في الأصل مصدرا لا يثنى و لا يجمع.

قوله تعالى: ﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ الظرف متعلق بقوله في الآية السابقة: ﴿حَدِيثُ و ﴿سَلاَماً مقول القول و العامل فيه محذوف أي قالوا: نسلم عليك سلاما.

و قوله: ﴿قَالَ سَلاَمٌ قول و مقول و ﴿سَلاَمٌ مبتدأ محذوف الخبر و التقدير سلام عليكم، و في إتيانه بالجواب جملة اسمية دالة على الثبوت تحية منه (عليه السلام ) بما هو أحسن من تحيتهم بقولهم: سلاما فإنه جملة فعليه دالة على الحدوث.

و قوله: ﴿قَوْمٌ مُنْكَرُونَ الظاهر أنه حكاية قول إبراهيم في نفسه، و معناه أنه لما رآهم استنكرهم و حدث نفسه أن هؤلاء قوم منكرون، و لا ينافي ذلك ما وقع في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأىَ أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ: هود: ٧٠ حيث ذكر نكره بعد تقريب العجل الحنيذ إليهم فإن ما في هذه السورة حديث نفسه به و ما في سورة هود ظهوره في وجهه بحيث يشاهد منه ذلك.

و هذا المعنى أوجه من قول جمع من المفسرين: إنه حكاية قوله (عليه السلام ) لهم و التقدير أنتم قوم منكرون.

قوله تعالى: ﴿فَرَاغَ إِلى‏ أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ الروغ‏ الذهاب على سبيل

 

 

 الاحتيال على ما قاله الراغب و قال غيره: هو الذهاب إلى الشي‏ء في خفية، و المعنى الأول يرجع إلى الثاني.

و المراد بالعجل السمين المشوي منه بدليل قوله: ﴿فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ أو الفاء فصيحة و التقدير فجاء بعجل سمين فذبحه و شواه و قربه إليهم.

قوله تعالى: ﴿فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَ لاَ تَأْكُلُونَ عرض الأكل على الملائكة و هو يحسبهم بشرا.

قوله تعالى: ﴿فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ إلخ» الفاء فصيحة و التقدير فلم يمدوا إليه أيديهم فلما رأى ذلك نكرهم و أوجس منهم خيفة، و الإيجاس الإحساس في الضمير و الخيفة بناء نوع من الخوف أي أضمر منهم في نفسه نوعا من الخوف.

و قوله: ﴿قَالُوا لاَ تَخَفْ جي‏ء بالفصل لا بالعطف لأنه في معنى جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فما ذا كان بعد إيجاس الخيفة فقيل: قالوا: لا تخف و بشروه بغلام عليم فبدلوا خوفه أمنة و سرورا و المراد بغلام عليم إسماعيل أو إسحاق و قد تقدم الخلاف فيه.

قوله تعالى: ﴿فَأَقْبَلَتِ اِمْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَ قَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ في المجمع، الصرة شدة الصياح و هو من صرير الباب و يقال للجماعة صرة أيضا. قال:

و الصك‏ الضرب باعتماد شديد انتهى.

و المعنى فأقبلت امرأة إبراهيم (عليه السلام ) لما سمعت البشارة في ضجة و صياح فلطمت وجهها و قالت: أنا عجوز عقيم فكيف ألد؟ أو المعنى هل عجوز عقيم تلد غلاما؟ و قيل: المراد بالصرة الجماعة و أنها جاءت إليهم في جماعة فصكت وجهها و قالت ما قالت، و المعنى الأول أوفق للسياق.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ اَلْحَكِيمُ اَلْعَلِيمُ الإشارة بكذلك إلى ما بشروها به بما لها و لزوجها من حاضر الوضع هي عجوز عقيم و بعلها شيخ مسه الكبر فربها حكيم لا يريد ما يريد إلا بحكمه، عليم لا يخفى عليه وجه الأمر.

قوله تعالى: ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا اَلْمُرْسَلُونَ إلى قوله ﴿لِلْمُسْرِفِينَ الخطب‏

 

 

 الأمر الخطير الهام، و الحجارة من الطين الطين المتحجر، و التسويم‏ تعليم الشي‏ء بمعنى جعله ذا علامة من السومة بمعنى العلامة.

و المعنى: ﴿قَالَ إبراهيم (عليه السلام ) ﴿فَمَا خَطْبُكُمْ و الشأن الخطير الذي لكم ﴿أَيُّهَا اَلْمُرْسَلُونَ من الملائكة ﴿قَالُوا أي الملائكة لإبراهيم ﴿إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلى‏َ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ و هم قوم لوط ﴿لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ طينا متحجرا سماه الله سجيلا ﴿مُسَوَّمَةً معلمة ﴿عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ تختص بهم لإهلاكهم، و الظاهر أن اللام في المسرفين للعهد.

قوله تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ إلى قوله ﴿اَلْعَذَابَ اَلْأَلِيمَ الفاء فصيحة و قد أوجز بحذف ما في القصة من ذهاب الملائكة إلى لوط و ورودهم عليه و هم القوم بهم حتى إذا أخرجوا آل لوط من القرية، و قد فصلت القصة في غير موضع من كلامه تعالى.

فقوله: ﴿فَأَخْرَجْنَا إلخ بيان إهلاكهم بمقدمته، و ضمير ﴿فِيهَا للقرية المفهومة من السياق، و ﴿بَيْتٍ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ بيت لوط، و قوله: ﴿وَ تَرَكْنَا فِيهَا آيَةً إشارة إلى إهلاكهم و جعل أرضهم عاليها سافلها، و المراد بالترك الإبقاء كناية و قد بينت هذه الخصوصيات في سائر كلامه تعالى.

و المعنى: فلما ذهبوا إلى لوط و كان من أمرهم ما كان ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا في القرية ﴿مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ واحد ﴿مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ و هم آل لوط ﴿وَ تَرَكْنَا فِيهَا في أرضهم بقلبها و إهلاكهم ﴿آيَةً دالة على ربوبيتنا و بطلان الشركاء ﴿لِلَّذِينَ يَخَافُونَ اَلْعَذَابَ اَلْأَلِيمَ من الناس.

قوله تعالى: ﴿وَ فِي مُوسى‏َ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلى‏َ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ عطف على قوله: ﴿وَ تَرَكْنَا فِيهَا آيَةً و التقدير و في موسى آية، و المراد بسلطان مبين الحجج الباهرة التي كانت معه من الآيات المعجزة.

قوله تعالى: ﴿فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَ قَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ التولي‏ الإعراض و الباء في قوله: ﴿بِرُكْنِهِ للمصاحبة، و المراد بركنه جنوده كما يؤيده الآية التالية، و المعنى:

أعرض مع جنوده، و قيل: الباء للتعدية، و المعنى: جعل ركنه متولين معرضين.

و قوله: ﴿وَ قَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أي قال تارة هو مجنون كقوله: ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ

 

 

 اَلَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ: الشعراء: ٢٧، و قال أخرى: هو ساحر كقوله: ﴿إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ: الشعراء: ٣٤.

قوله تعالى: ﴿فَأَخَذْنَاهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اَلْيَمِّ وَ هُوَ مُلِيمٌ النبذ طرح الشي‏ء من غير أن يعتد به، و اليم‏ البحر، و المليم‏ الآتي بما يلام عليه من ألام بمعنى أتى بما يلام عليه كأغرب إذا أتى بأمر غريب.

و المعنى: فأخذناه و جنوده و هم ركنه و طرحناهم في البحر و الحال أنه أتى من الكفر و الجحود و الطغيان بما يلام عليه، و إنما خص فرعون بالملامة مع أن الجميع يشاركونه فيها لأنه إمامهم الذي قادهم إلى الهلاك، قال تعالى: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ اَلنَّارَ: هود: ٩٨.

و في الكلام من الإيماء إلى عظمة القدرة و هول الأخذ و هو أن أمر فرعون و جنوده ما لا يخفى.

قوله تعالى: ﴿وَ فِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ اَلرِّيحَ اَلْعَقِيمَ عطف على ما تقدمه أي و في عاد أيضا آية إذ أرسلنا عليهم أي أطلقنا عليهم الريح العقيم.

و الريح العقيم‏ هي الريح التي عقمت و امتنعت من أن يأتي بفائدة مطلوبة من فوائد الرياح كتنشئة سحاب أو تلقيح شجر أو تذرية طعام أو نفع حيوان أو تصفية هواء كما قيل و إنما أثرها الإهلاك كما تشير إليه الآية التالية.

قوله تعالى: ﴿مَا تَذَرُ مِنْ شَيْ‏ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ﴿مَا تَذَرُ أي ما تترك، و الرميم‏ الشي‏ء الهالك البالي كالعظم البالي السحيق، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وَ فِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ إلى قوله ﴿مُنْتَصِرِينَ عطف على ما تقدمه أي و في ثمود أيضا آية إذ قيل لهم: تمتعوا حتى حين، و القائل نبيهم صالح (عليه السلام ) إذ قال لهم: ﴿تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍهود: ٦٥ قال لهم ذلك لما عقروا الناقة فأمهلهم ثلاثة أيام ليرجعوا فيها عن كفرهم و عتوهم لكن لم ينفعهم ذلك و حق عليهم كلمة العذاب.

و قوله: ﴿فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّاعِقَةُ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ العتو على ما ذكره الراغب النبوء عن الطاعة فينطبق على التمرد، و المراد بهذا العتو العتو عن

 

 

 الأمر و الرجوع إلى الله أيام المهلة فلا يستشكل بأن عتوهم عن أمر الله كان مقدما على تمتعهم كما يظهر من تفصيل القصة و الآية تدل على العكس.

و قوله: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّاعِقَةُ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ هذا لا ينافي ما في موضع آخر من ذكر الصيحة بدل الصاعقة كقوله: ﴿وَ أَخَذَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا اَلصَّيْحَةُ: هود: ٦٧ لجواز تحققهما معا في عذابهم.

و قوله: ﴿فَمَا اِسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَ مَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ لا يبعد أن يكون ﴿اِسْتَطَاعُوا مضمنا معنى تمكنوا، و ﴿مِنْ قِيَامٍ مفعوله أي ما تمكنوا من قيام من مجلسهم ليفروا من عذاب الله و هو كناية عن أنهم لم يمهلوا حتى بمقدار أن يقوموا من مجلسهم.

و قوله: ﴿وَ مَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ عطف على ﴿فَمَا اِسْتَطَاعُوا أي ما كانوا منتصرين بنصرة غيرهم ليدفعوا بها العذاب عن أنفسهم، و محصل الجملتين أنهم لم يقدروا على دفع العذاب عن أنفسهم لا بأنفسهم و لا بناصر ينصرهم.

قوله تعالى: ﴿وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ عطف على القصص السابقة، و ﴿قَوْمَ نُوحٍ منصوب بفعل محذوف و التقدير و أهلكنا قوم نوح من قبل عاد و ثمود إنهم كانوا فاسقين عن أمر الله.

فهناك أمر و نهي كلف الناس بهما من قبل الله سبحانه و هو ربهم و رب كل شي‏ء دعاهم إلى الدين الحق بلسان رسله فما جاء به الأنبياء (عليه السلام ) حق من عند الله و مما جاءوا به الوعد بالبعث و الجزاء.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ رجوع إلى السياق السابق في قوله: ﴿وَ فِي اَلْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ إلخ، و الأيد القدرة و النعمة، و على كل من المعنيين يتعين لقوله: ﴿وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ ما يناسبه من المعنى.

فالمعنى على الأول: و السماء بنيناها بقدرة لا يوصف قدرها و إنا لذووا سعة في القدرة لا يعجزها شي‏ء، و على الثاني: و السماء بنيناها مقارنا بناؤها لنعمة لا تقدر بقدر و إنا لذووا سعة و غنى لا تنفد خزائننا بالإعطاء و الرزق نرزق من السماء من نشاء فنوسع الرزق كيف نشاء.

 

 

و من المحتمل أن يكون «موسعون» من أوسع في النفقة أي كثرها فيكون المراد توسعة خلق السماء كما تميل إليه الأبحاث الرياضية اليوم.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ اَلْمَاهِدُونَ الفرش‏ البسط و كذا المهد أي و الأرض بسطناها و سطحناها لتستقروا عليها و تسكنوها فنعم الباسطون نحن، و هذا الفرش و البسط لا ينافي كروية الأرض.

قوله تعالى: ﴿وَ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الزوجان‏ المتقابلان يتم أحدهما بالآخر: فاعل و منفعل كالذكر و الأنثى، و قيل: المراد مطلق المتقابلات كالذكر و الأنثى و السماء و الأرض و الليل و النهار و البر و البحر و الإنس و الجن و قيل:

الذكر و الأنثى.

و قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي تتذكرون أن خالقها منزه عن الزوج و الشريك واحد موحد.

قوله تعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اَللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ وَ لاَ تَجْعَلُوا مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ في الآيتين تفريع على ما تقدم من الحجج على وحدانيته في الربوبية و الألوهية، و فيها قصص عدة من الأمم الماضين كفروا بالله و رسله فانتهى بهم ذلك إلى عذاب الاستئصال.

فالمراد بالفرار إلى الله الانقطاع إليه من الكفر و العقاب الذي يستتبعه، بالإيمان به تعالى وحده و اتخاذه إلها معبودا لا شريك له.

و قوله: ﴿وَ لاَ تَجْعَلُوا مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ كالتفسير لقوله: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اَللَّهِ أي المراد بالإيمان به الإيمان به وحده لا شريك له في الألوهية و المعبودية.

و قد كرر قوله: ﴿إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ لتأكيد الإنذار، و الآيتان محكيتان عن لسان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .

(بحث روائي‏)

في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلاَ تُبْصِرُونَ قال: خلقك

 

 

 سميعا بصيرا، تغضب مرة و ترضى مرة، و تجوع مرة و تشبع مرة، و ذلك كله من آيات الله.

أقول: و نسبه في المجمع إلى الصادق (عليه السلام ) .

 و في التوحيد، بإسناده إلى هشام بن سالم قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام ) فقيل له:

بما عرفت ربك؟ قال: بفسخ العزم و نقض الهم، عزمت ففسخ عزمي، و هممت فنقض همي:.

أقول: و رواه في الخصال، عنه عن أبيه عن جده عن أمير المؤمنين (عليه السلام ) . و في الدر المنثور، أخرج الخرائطي في مساوي الأخلاق عن علي بن أبي طالب ﴿وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلاَ تُبْصِرُونَ قال: سبيل الغائط و البول. أقول: الرواية كالروايتين السابقتين مسوقة لبيان بعض المصاديق من طرق المعرفة.

 و فيه، أخرج ابن النقور و الديلمي عن علي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في قوله: ﴿وَ فِي اَلسَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَ مَا تُوعَدُونَ قال: المطر:.

أقول: و روى نحوا منه القمي في تفسيره، مرسلا و مضمرا. و في إرشاد المفيد، عن علي (عليه السلام ) في حديث: اطلبوا الرزق فإنه مضمون لطالبه.

و في التوحيد، بإسناده إلى أبي البختري قال: حدثني جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب (عليه السلام ) عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال : يا علي: إن اليقين أن لا ترضي أحدا على سخط الله، و لا تحمدن أحدا على ما آتاك الله، و لا تذمن أحدا على ما لم يؤتك الله فإن الرزق لا يجره حرص حريص، و لا يصرفه كره كاره. الحديث.

 و في المجمع،: ﴿فَأَقْبَلَتِ اِمْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ و قيل: في جماعة. عن الصادق (عليه السلام ) . و في الدر المنثور، أخرج الفاريابي و ابن المنذر عن علي بن أبي طالب قال : الريح العقيم النكباء.

 و في التوحيد، بإسناده إلى محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام ) فقلت:

قول الله عز و جل ﴿يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ؟ فقال: اليد في كلام العرب القوة و النعمة، قال الله: ﴿وَ اُذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا اَلْأَيْدِ، و قال: ﴿وَ اَلسَّمَاءَ

 

 

 بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ أي بقوة، و قال: ﴿وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ أي بقوة، و يقال: لفلان عندي يد بيضاء أي نعمة.

و في التوحيد، بإسناده إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام ) خطبة طويلة و فيها: بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، و بتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له، و بمضادته بين الأشياء عرف أن لا ضد له، و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضاد النور بالظلمة، و اليبس بالبلل، و الخشن باللين، و الصرد بالحرور، مؤلفا بين متعادياتها، مفرقا بين متدانياتها، دالة بتفريقها على مفرقها، و بتأليفها على مؤلفها و ذلك قوله:

﴿مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.

ففرق بين قبل و بعد ليعلم أن لا قبل له و لا بعد له، شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرزها، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه و بين خلقه.

و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اَللَّهِ و قيل: معناه حجوا. عن الصادق (عليه السلام ) :.

أقول: و رواه في الكافي، و في المعاني، بالإسناد عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام ) :. و لعله من التطبيق.

 [سورة الذاريات (٥١): الآیات ٥٢ الی ٦٠]

﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ٥٢ أَ تَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ٥٣ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ ٥٤ وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ اَلذِّكْرى‏ تَنْفَعُ اَلْمُؤْمِنِينَ ٥٥ وَ مَا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ٥٦ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ مَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ٥٧ إِنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلرَّزَّاقُ ذُو اَلْقُوَّةِ

 

 

اَلْمَتِينُ ٥٨ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ ٥٩ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ اَلَّذِي يُوعَدُونَ ٦٠

(بيان)

مختتم السورة و فيه إرجاع الكلام إلى ما في مفتتحها من إنكارهم للبعث الموعود و مقابلتهم الرسالة بقول مختلف ثم إيعادهم باليوم الموعود.

قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أي الأمر كذلك، فقوله: ﴿كَذَلِكَ كالتلخيص لما تقدم من إنكارهم و اختلافهم في القول.

و قوله: ﴿مَا أَتَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إلخ، بيان للمشبه.

قوله تعالى: ﴿أَ تَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ التواصي‏ إيصاء القوم بعضهم بعضا بأمر، و ضمير ﴿بِهِ للقول، و الاستفهام للتعجيب، و المعنى: هل وصى بعض هذه الأمم بعضا هل السابق وصي اللاحق؟ على هذا القول؟ لا بل هم قوم طاغون يدعوهم إلى هذا القول طغيانهم.

قوله تعالى: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ تفريع على طغيانهم و استكبارهم و إصرارهم على العناد و اللجاج، فالمعنى: فإذا كان كذلك و لم يجيبوك إلا بمثل قولهم ساحر أو مجنون و لم يزدهم دعوتك إلا عنادا فأعرض عنهم و لا تجادلهم على الحق فما أنت بملوم فقد أريت المحجة و أتممت الحجة.

قوله تعالى: ﴿وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ اَلذِّكْرى‏َ تَنْفَعُ اَلْمُؤْمِنِينَ تفريع على الأمر بالتولي عنهم فهو أمر بالتذكير بعد النهي عن الجدال معهم، و المعنى: و استمر على التذكير و العظة فذكر كما كنت تذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين بخلاف الاحتجاج و الجدال مع أولئك الطاغين فإنه لا ينفعهم شيئا و لا يزيدهم إلا طغيانا و كفرا.

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ مَا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ فيه التفات من سياق التكلم بالغير إلى التكلم وحده لأن الأفعال المذكورة سابقا المنسوبة إليه تعالى كالخلق و إرسال الرسل و إنزال العذاب كل ذلك مما يقبل توسيط الوسائط كالملائكة و سائر الأسباب بخلاف الغرض من الخلق و الإيجاد فإنه أمر يختص بالله سبحانه لا يشاركه فيه أحد.

و قوله: ﴿إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ استثناء من النفي لا ريب في ظهوره في أن للخلقة غرضا و أن الغرض العبادة بمعنى كونهم عابدين لله لا كونه معبودا فقد قال: ليعبدون و لم يقل:

لأعبد أو لأكون معبودا لهم.

على أن الغرض كيفما كان أمر يستكمل به صاحب الغرض و يرتفع به حاجته و الله سبحانه لا نقص فيه و لا حاجة له حتى يستكمل به و يرتفع به حاجته، و من جهة أخرى الفعل الذي لا ينتهي إلى غرض لفاعله لغو سفهي و يستنتج منه أن له سبحانه في فعله غرضا هو ذاته لا غرض خارج منه، و أن لفعله غرضا يعود إلى نفس الفعل‏[2]

و هو كمال للفعل لا لفاعله، فالعبادة غرض لخلقة الإنسان و كمال عائد إليه هي و ما يتبعها من الآثار كالرحمة و المغفرة و غير ذلك، و لو كان للعبادة غرض كالمعرفة الحاصلة بها و الخلوص لله كان هو الغرض الأقصى و العبادة غرضا متوسطا.

فإن قلت: ما ذكرته من حمل اللام في ﴿لِيَعْبُدُونِ على الغرض يعارضه قوله تعالى: ﴿لاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذَلِكَ خَلَقَهُمْ: هود: ١١٩، و قوله:

﴿وَ لَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ: الأعراف: ١٧٩، فإن ظاهر الآية الأولى كون الغرض من الخلقة الاختلاف، و ظاهر الثانية كون الغرض من خلق كثير من الجن و الإنس دخول جهنم فلا محيص عن رفع اليد من حمل اللام على الغرض و حملها على الغاية.

قلت: أما الآية الأولى فالإشارة فيها إلى الرحمة دون الاختلاف، و أما الآية

 

 

 الثانية فاللام فيها للغرض لكنه غرض تبعي و بالقصد الثاني لا غرض أصلي و بالقصد الأول و قد تقدم إشباع الكلام في تفسير الآيتين.

فإن قلت: لو كان اللام في ﴿لِيَعْبُدُونِ للغرض كانت العبادة غرضه تعالى المراد من الخلقة، و من المحال أن يتخلف مراده تعالى عن إرادته لكن من المعلوم المشاهد عيانا أن كثيرا منهم لا يعبدونه تعالى و هذا نعم الدليل على أن اللام في الآية ليست للغرض أو أنها للغرض لكن المراد بالعبادة العبادة التكوينية كما في قوله: ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ: إسراء: ٤٤.

أو أن المراد بخلقهم للعبادة خلقهم على وجه صالح لأن يعبدوا الله بجعلهم ذوي اختيار و عقل و استطاعة، و تنزيل الصلاحية و الاستعداد منزلة الفعلية مجاز شائع كما يقال: خلق البقر للحرث، و الدار للسكنى.

قلت: الإشكال مبني على كون اللام في الجن و الإنس للاستغراق فيكون تخلف الغرض في بعض الأفراد منافيا له و تخلفا من الغرض، و الظاهر أن اللام فيهما للجنس دون الاستغراق فوجود العبادة في النوع في الجملة تحقق للغرض لا يضره تخلفه في بعض الأفراد نعم لو ارتفعت العبادة عن جميع الأفراد كان ذلك بطلانا للغرض، و لله سبحانه في النوع غرض كما أن له في الفرد غرضا.

و أما حمل العبادة على العبادة التكوينية فيضعفه أنها شأن عامة المخلوقات لا موجب لتخصيصه بالجن و الإنس مضافا إلى أن السياق سياق توبيخ الكفار على ترك عبادة الله التشريعية و تهديدهم على إنكار البعث و الحساب و الجزاء و ذلك متعلق بالعبادة التشريعية دون التكوينية.

و أما حمل العبادة على الصلوح و الاستعداد بأن يكون الغرض من خلق الجن و الإنس كونهما بحيث يصلحان للعبادة و يستعدان لها أو لتعلق الأمر و النهي العباديين فيضعفه أن من البين أن الصلوح و الاستعداد إنما يتعلق به الطلب لأجل الفعلية التي يتعلق به الصلوح و الاستعداد فلو كان الغرض المطلوب من خلقهما كونهما بحيث يصلحان للعبادة أو لتعلق الأمر و النهي العباديين فقد تعلق الغرض أولا بفعلية عبادتهما ثم بالصلوح و الاستعداد لمكان المقدمية.

 

 

 ففي حمل العبادة على الصلوح و الاستعداد اعتراف بكون الغرض من الخلق أولا و بالذات نفس العبادة ثم الصلوح و الاستعداد فيعود الإشكال لو كان هناك إشكال.

فالحق أن اللام في ﴿اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ للجنس دون الاستغراق، و المراد بالعبادة نفسها دون الصلوح و الاستعداد، و لو كان المراد هو الصلوح و الاستعداد للعبادة لكان ذلك غرضا أدنى مطلوبا لأجل غرض أعلى هو العبادة كما أن نفس العبادة بمعنى ما يأتي به العبد من الأعمال بالجوارح من قيام و ركوع و سجود و نحوها غرض مطلوب لأجل غرض آخر هو المثول بين يدي رب العالمين بذلة العبودية و فقر المملوكية المحضة قبال العزة المطلقة و الغنى المحض كما ربما استفيد من قوله تعالى: ﴿قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لاَ دُعَاؤُكُمْ: الفرقان: ٧٧، حيث بدل العبادة دعاء.

فحقيقة العبادة نصب العبد نفسه في مقام الذلة و العبودية و توجيه وجهه إلى مقام ربه، و هذا هو مراد من فسر العبادة بالمعرفة يعني المعرفة الحاصلة بالعبادة.

فحقيقة العبادة هي الغرض الأقصى من الخلقة و هي أن ينقطع العبد عن نفسه و عن كل شي‏ء و يذكر ربه.

هذا ما يعطيه التدبر في قوله تعالى: ﴿وَ مَا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ و لعل تقديم الجن على الإنس لسبق خلقهم على خلق الإنس قال تعالى: ﴿وَ اَلْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ اَلسَّمُومِ: الحجر: ٢٧، و العبادة هي غرض الفعل أي كمال عائد إليه لا إلى الفاعل على ما تقدم.

و يظهر من القصر في الآية بالنفي و الاستثناء أن لا عناية لله بمن لا يعبده كما يفيده أيضا قوله: ﴿قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لاَ دُعَاؤُكُمْ﴾.

قوله تعالى: ﴿مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ مَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ الإطعام‏ إعطاء الطعام ليطعم و يؤكل قال تعالى: ﴿وَ اَلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ: الشعراء: ٧٩، و قال:

﴿اَلَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ: الإيلاف: ٤، فيكون ذكر الإطعام بعد الرزق من قبيل ذكر الخاص بعد العام لتعلق عناية خاصة به و هي أن التغذي أوسع حوائج الإنسان و غيره و أخسها لكونه مسبوقا بالجوع و ملحوقا بالدفع.

و قيل: المراد بالرزق رزق العباد و المعنى: ما أريد منهم أن يرزقوا عبادي الذين أرزقهم و ما أريد أن يطعموني نفسي.

 

 

 و قيل: المراد بالإطعام تقديم الطعام إليه كما يقدم العبد الطعام إلى سيده و الخادم إلى مخدومه فيكون المراد بالرزق تحصيل أصل الرزق و بالإطعام تقديم ما حصلوه و المعنى: ما أريد منهم رزقا يحصلونه لي فأرتزق به و ما أريد منهم أن يقدموا إلى ما ارتزق به و أطعمه.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلرَّزَّاقُ ذُو اَلْقُوَّةِ اَلْمَتِينُ تعليل لقوله: ﴿مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ إلخ، و الالتفات في الآية من التكلم وحده إلى الغيبة لإنهاء التعليل إلى اسم الجلالة الذي منه يبتدئ كل شي‏ء و إليه يرجع كأنه قال: ما أريد منهم رزقا لأني أنا الرزاق لأني أنا الله تبارك اسمه.

و التعبير بالرزاق اسم مبالغة و كان الظاهر أن يقال: إن الله هو الرزاق للإشارة إلى أنه تعالى إذا كان رازقا وحده كان رزاقا لكثرة من يرزقه فالآية نظير قوله: ﴿وَ مَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ.

و ذو القوة من أسمائه تعالى بمعنى القوي لكنه أبلغ من القوي، و المتين‏ أيضا من أسمائه تعالى بمعنى القوي.

و التعبير بالأسماء الثلاثة للدلالة على انحصار الرزق فيه تعالى و أنه لا يأخذه ضعف في إيصال الرزق إلى المرتزقين على كثرتهم.

قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ الذنوب‏ النصيب، و الاستعجال‏ طلب العجلة و الحث عليها، و الآية متفرعة على قوله:

﴿وَ مَا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ بلازم معناه.

و المعنى: فإذا كان هؤلاء الظالمون لا يعبدون الله و لا عناية له بهم و لا سعادة من قبله تشملهم فإن لهم نصيبا من العذاب مثل نصيب أصحابهم من الأمم الماضية الهالكة فلا يطلبوا مني أن أعجل لهم العذاب و لا يقولوا متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، و أيان يوم الدين.

و في الآية التفات من الغيبة إلى التكلم وحده و هو في الحقيقة رجوع من سياق الغيبة الذي في قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلرَّزَّاقُ إلخ، إلى التكلم وحده الذي في قوله:

﴿وَ مَا خَلَقْتُ إلخ، لتفرع الكلام عليه.

 

 

 قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ اَلَّذِي يُوعَدُونَ تفريع على قوله:

﴿فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً إلخ، و تنبيه على أن هذا الذنوب محقق لهم يوم القيامة و إن أمكن أن يجعل لهم بعضه، و هو يوم ليس لهم فيه إلا الويل و الهلاك و هو يومهم الموعود.

و في تبديل قوله في الآية السابقة ﴿لِلَّذِينَ ظَلَمُوا من قوله في هذه الآية: ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا تنبيه على أن المراد بالظلم ظلم الكفر.

 (بحث روائي)

 في المجمع، و روي بالإسناد عن مجاهد قال: خرج علي بن أبي طالب معتما مشتملا في قميصة فقال: لما نزلت ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ لم يبق أحد منا إلا أيقن بالهلكة حين قيل للنبي: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فلما نزل ﴿وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ اَلذِّكْرى‏َ تَنْفَعُ اَلْمُؤْمِنِينَ طابت نفوسنا، و معناه: عظ بالقرآن من آمن من قومك فإن الذكرى تنفعهم:. عن الكلبي.

أقول: و رواه في الدر المنثور، و روي أيضا ما في معناه عن ابن راهويه و ابن مردويه عنه (عليه السلام ) :. و في التوحيد، بإسناده عن ابن أبي عمير قال : قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام ) : ما معنى قول رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : اعملوا فكل ميسر لما خلق له؟ فقال:

إن الله عز و جل خلق الجن و الإنس ليعبدوه و لم يخلقهم ليعصوه و ذلك قوله عز و جل:

﴿وَ مَا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ فيسر كلا لما خلق له فويل لمن استحب العمى على الهدى. و في العلل، بإسناده إلى أبي عبد الله (عليه السلام ) قال: خرج الحسين بن علي (عليه السلام ) على أصحابه فقال: إن الله عز و جل ما خلق العباد إلا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه.

 و فيه، بإسناده إلى أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام ) عن قول الله عز و جل:

﴿وَ مَا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ قال: خلقهم ليأمرهم بالعبادة.

 

 

أقول: و روى القمي في تفسيره،: مثله مرسلا و مضمرا، و قد مر في تفسير الآية ما يتضح به معنى هذه الروايات، و أن هناك أغراضا مترتبة: التكليف و العبادة و المعرفة.

 و في تفسير العياشي، عن يعقوب بن سعيد عن أبي عبد الله (عليه السلام ) قال : سألته عن قول الله: ﴿وَ مَا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ قال: خلقهم للعبادة. قال:

قلت: قوله: ﴿وَ لاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذَلِكَ خَلَقَهُمْ فقال: نزلت هذه بعد ذلك.

أقول: أي نزلت ﴿وَ لاَ يَزَالُونَ إلخ، بعد ﴿وَ مَا خَلَقْتُ إلخ، يريد النسخ، و في تفسير القمي: و في حديث آخر هي منسوخة بقوله: ﴿وَ لاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ و المراد بالنسخ البيان و رفع الإبهام دون النسخ المصطلح، و كثيرا ما ورد بهذا المعنى في كلامهم (عليه السلام ) كما أشرنا إليه في تفسير قوله تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا الآية البقرة: ١٠٦.

و المراد أن الغرض الأعلى هو الرحمة الخاصة المترتبة على العبادة و هي السعادة الخاصة بالمعرفة.

 و في التهذيب، بإسناده إلى سدير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام ) : أي شي‏ء على الرجل في طلب الرزق؟ فقال: إذا فتحت بابك و بسطت بساطك فقد قضيت ما عليك.

تم و الحمد لله.

 

 

بعض المواضيع المبحوث عنها في الكتاب

 

 

 

[1]  العتاهية بمعنى نقصان العقل.

[2]  فالله تعالى خلق الإنسان ليثيبه و الثواب عائد إلى الإنسان و هو المنتفع و هو المنتفع به و الله غني عنه، و أما غرضه تعالى فهو ذاته المتعالية و إنما خلقه لأنه الله عز اسمه. منه.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=2120
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 05 / 21
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 03