شمعون يدعو ربه سرا فقام الميت و قال لهم إني قد مت منذ سبعة أيام و أدخلت في سبعة أودية من النار و أنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا بالله فتعجب الملك، فلما علم شمعون أن قوله أثر في الملك دعاه إلى الله فآمن و آمن من أهل مملكته قوم و كفر آخرون.
قال: و قد روى مثل ذلك العياشي بإسناده عن الثمالي و غيره عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) إلا أن في بعض الروايات: بعث الله الرسولين إلى أهل أنطاكية ثم بعث الثالث و في بعضها أن عيسى أوحى الله إليه أن يبعثهما ثم بعث وصيه شمعون ليخلصهما، و أن الميت الذي أحياه الله بدعائهما كان ابن الملك و أنه قد خرج من قبره ينفض التراب عن رأسه فقال له: يا بني ما حالك؟ قال: كنت ميتا فرأيت رجلين ساجدين يسألان الله تعالى أن يحييني. قال: يا بني فتعرفهما إذا رأيتهما؟ قال: نعم فأخرج الناس إلى الصحراء فكان يمر عليه رجل بعد رجل فمر أحدهما بعد جمع كثير فقال: هذا أحدهما. ثم مر الآخر فعرفهما و أشار بيده إليهما فآمن الملك و أهل مملكته.
و قال ابن إسحاق: بل كفر الملك و أجمع هو و قومه على قتل الرسل فبلغ ذلك حبيبا و هو على باب المدينة الأقصى فجاء يسعى إليهم يذكرهم و يدعوهم إلى طاعة الرسل.
أقول: سياق آيات القصة لا يلائم بعض هذه الروايات.
و في الدر المنثور، أخرج أبو داود و أبو نعيم و ابن عساكر و الديلمي عن أبي ليلى قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : الصديقين ثلاثة حبيب النجار مؤمن آل ياسين الذي قال: ﴿يَا قَوْمِ اِتَّبِعُوا اَلْمُرْسَلِينَ﴾، و حزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال: ﴿أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اَللَّهُ﴾، و علي بن أبي طالب و هو أفضلهم.
أقول: و رواه أيضا عن البخاري في تأريخه عن ابن عباس عنه (ص) و لفظه: الصديقون ثلاثة: حزقيل مؤمن آل فرعون و حبيب النجار صاحب آل ياسين و علي بن أبي طالب.
في المجمع، عن تفسير الثعلبي بالإسناد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين علي بن أبي طالب و صاحب يس و مؤمن آل فرعون فهم الصديقون و علي أفضلهم.
أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن الطبراني و ابن مردويه و ضعفه عن
ابن عباس عنه (عليه السلام) و لفظه: السبق ثلاثة فالسابق إلى موسى يوشع بن نون و السابق إلى عيسى صاحب يس و السابق إلى محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) علي بن أبي طالب.
[سورة يس (٣٦): الآیات ٣٣ الی ٤٧]
﴿وَ آيَةٌ لَهُمُ اَلْأَرْضُ اَلْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَ أَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ٣٣ وَ جَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنَابٍ وَ فَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ اَلْعُيُونِ ٣٤ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَ مَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَ فَلاَ يَشْكُرُونَ ٣٥ سُبْحَانَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ اَلْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ ٣٦ وَ آيَةٌ لَهُمُ اَللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ اَلنَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ ٣٧ وَ اَلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ ٣٨ وَ اَلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ اَلْقَدِيمِ ٣٩ لاَ اَلشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ اَلْقَمَرَ وَ لاَ اَللَّيْلُ سَابِقُ اَلنَّهَارِ وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ٤٠ وَ آيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي اَلْفُلْكِ اَلْمَشْحُونِ ٤١ وَ خَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ٤٢ وَ إِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَ لاَ هُمْ يُنْقَذُونَ ٤٣ إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَ مَتَاعاً إِلى حِينٍ ٤٤ وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اِتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَ مَا
خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ٤٥ وَ مَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ٤٦ وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اَللَّهُ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اَللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ٤٧﴾
(بيان)
بعد ما قص عليهم قصة أصحاب القرية و ما آل إليه أمرهم في الشرك و تكذيب الرسل و وبخهم على الاستهانة بأمر الرسالة، و أنذرهم بنزول العذاب عليهم كما نزل على المكذبين من القرون الأولى، و بأنهم جميعا محضرون للحساب و الجزاء.
أورد آيات من الخلق و التدبير تدل على ربوبيته و ألوهيته تعالى وحده لا شريك له ثم وبخهم على ترك النظر في آيات الوحدانية و المعاد و الإعراض عنها و الاستهزاء بالحق و الإمساك عن الإنفاق للفقراء و المساكين.
قوله تعالى: ﴿وَ آيَةٌ لَهُمُ اَلْأَرْضُ اَلْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَ أَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ﴾ يذكر سبحانه في الآية و اللتين بعدها آية من آيات الربوبية و هي تدبير أمر أرزاق الناس و تغذيتهم من أثمار النبات من الحبوب و التمر و العنب و غيرها.
فقوله: ﴿وَ آيَةٌ لَهُمُ اَلْأَرْضُ اَلْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا﴾ و إن كان ظاهره أن الآية هي الأرض إلا أن الجملتين توطئتان لقوله: ﴿وَ أَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا﴾ إلخ و مسوقتان للإشارة إلى أن هذه الأغذية النباتية من آثار نفخ الحياة في الأرض الميتة و تبديلها حبا و ثمرا يأكلون من ذلك فالآية بنظر هي الأرض الميتة من حيث ظهور هذه الخواص فيها و تمام تدبير أرزاق الناس بها.
و قوله: ﴿وَ أَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا﴾ أي و أخرجنا من الأرض بإنبات النبات حبا كالحنطة و الشعير و الأرز و سائر البقولات.
و قوله: ﴿فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ﴾ تفريع على إخراج الحب و بالأكل يتم التدبير، و ضمير ﴿فَمِنْهُ﴾ للحب.
قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنَابٍ وَ فَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ اَلْعُيُونِ﴾ قال الراغب: الجنة كل بستان ذي شجر تستر بأشجاره الأرض انتهى. و النخيل جمع نخل و هو معروف، و الأعناب جمع عنب يطلق على الشجرة و هي الكرم و على الثمرة.
و قال الراغب: العين الجارحة إلى أن قال و يستعار العين لمعان هي موجودة في الجارحة بنظرات مختلفة - إلى أن قال و يقال لمنبع الماء عين تشبيها بها لما فيها من الماء انتهى، و التفجير في الأرض شقها لإخراج المياه، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: ﴿لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَ مَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَ فَلاَ يَشْكُرُونَ﴾ اللام لتعليل ما ذكر في الآية السابقة أي جعلنا فيها جنات و فجرنا فيها العيون بشقها ليأكل الناس من ثمره.
و قوله: ﴿مِنْ ثَمَرِهِ﴾ قيل: الضمير للمجعول من الجنات و لذا أفرد و ذكر و لم يقل: من ثمرها أي من ثمر الجنات، أو من ثمرهما أي من ثمر النخيل و الأعناب.
و قيل: الضمير للمذكور و قد يجري الضمير مجرى اسم الإشارة كما في قول رؤبة:
فيها خطوط من سواد و بلق *** كأنه في الجلد توليع البهق
فقد روي أن أبا عبيدة سأله عن قوله «كأنه» فقال كان ذاك.
و في مرجع ضمير ﴿مِنْ ثَمَرِهِ﴾ أقوال أخر رديئة كقول بعضهم إن الضمير للنخيل فقط، و قول آخر: إنه للماء لدلالة العيون عليه أو بحذف مضاف و التقدير ماء العيون و قول آخر: إن الضمير للتفجير المفهوم من ﴿فَجَّرْنَا﴾ و المراد بالثمر على هذين الوجهين الفائدة، و قول آخر: إن الضمير له تعالى و إضافته إليه لأنه خلقه و ملكه.
و قوله: ﴿وَ مَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ﴾ العمل هو الفعل و الفرق بينهما على ما ذكره الراغب أن أكثر ما يستعمل العمل في الفعل المقارن للقصد و الإرادة، و لذلك يشذ استعماله في الحيوان و الجماد، و لذلك أيضا يتصف العمل بالصلاح و خلافه فيقال. عمل صالح و عمل طالح و لا يتصف بهما مطلق الفعل.
و ﴿مَا﴾ في ﴿وَ مَا عَمِلَتْهُ﴾ نافية و المعنى و لم يعمل الثمر بأيديهم حتى يشاركونا في تدبير
الأرزاق بل هو مما اختصصنا بخلقه و تتميم التدبير به من دون أن نستعين بهم فما بالهم لا يشكرون.
و يؤيد هذا المعنى قوله في أواخر السورة و هو يمتن عليهم بخلق الأنعام لتدبير أمر رزقهم و حياتهم: ﴿أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً ﴾ إلى أن قال ﴿وَ مِنْهَا يَأْكُلُونَ وَ لَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَ مَشَارِبُ أَ فَلاَ يَشْكُرُونَ﴾.
و احتمل بعضهم كون ﴿مَا﴾ في ﴿وَ مَا عَمِلَتْهُ﴾ موصولة معطوفة على ﴿ثَمَرِهِ﴾ و المعنى ليأكلوا من ثمره و من الذي عملته أيديهم من ثمره كالخل و الدبس المأخوذين من التمر و العنب و غير ذلك.
و هذا الوجه و إن عده بعضهم أوجه من سابقه ليس بذاك فإن المقام مقام بيان آيات دالة على ربوبيته تعالى بذكر أمور من التدبير يخصه تعالى و لا يناسبه ذكر شيء من تدبير الغير معه و تتميم الحجة بذلك، و لو كان المراد ذكر عملهم بما أنه منته إلى خلقه تعالى و جزء من التدبير العام كان الأنسب أن يقال: و ما هديناهم إلى عمله أو ما يؤدي معناه لينتفي به توهم الشركة في التدبير.
و احتمل بعضهم كون ﴿مَا﴾ نكرة موصوفة معطوفة على ﴿ثَمَرِهِ﴾ و المعنى ليأكلوا من ثمره و من شيء عملته أيديهم. هذا و يرد عليه ما يرد على سابقه.
و قوله: ﴿أَ فَلاَ يَشْكُرُونَ﴾ توبيخ و استقباح لعدم شكره و شكره تعالى منهم على هذا التدبير إظهارهم جميل نعمه بذكره قولا و فعلا أي إظهارهم أنهم عباد له مدبرون بتدبيره و هو العبادة فشكره تعالى هو الاعتراف بربوبيته و اتخاذه إلها معبودا.
قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ اَلْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ﴾ إنشاء لتنزيهه تعالى، لما ذكر عدم شكرهم له على ما خلق لهم من أنواع النبات و رزقهم من الحبوب و الأثمار، و إنما عمل ذلك بتزويج بعض النبات بعضا كما قال
﴿ وَ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ ق: - ٧ أشار إلى ما هو أعظم و أوسع من خلق أزواج النبات و هو خلق الأزواج كلها و تنظيم العالم المشهود باستيلاد كل شيء من فاعل و منفعل قبله هما أبواه كالذكر و الأنثى من الإنسان و الحيوان و النبات، و كل فاعل و منفعل يتلاقيان فينتجان بتلاقيهما أمرا ثالثا، أشار تعالى إلى ذلك فنزه نفسه بقوله: ﴿سُبْحَانَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلْأَزْوَاجَ كُلَّهَا﴾ إلخ. فقوله: ﴿سُبْحَانَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلْأَزْوَاجَ كُلَّهَا﴾ إنشاء
تسبيح على ما يعطيه السياق لا إخبار.
و قوله: ﴿مِمَّا تُنْبِتُ اَلْأَرْضُ﴾ هو و ما بعده بيان للأزواج و الذي تنبت الأرض هو النبات و لا يبعد شموله الحيوان و قد قال تعالى في الإنسان و هو من أنواع الحيوان ﴿وَ اَللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ نَبَاتاً﴾ نوح: - ١٧ و يؤيد ذلك أن ظاهر سياق البيان استيعابه للمبين مع عدم ذكر الحيوان في عدد الأزواج.
و قوله: ﴿وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ أي الناس، و قوله: ﴿وَ مِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ﴾ و هو الذي يجهله الإنسان من الخليقة أو يجهل كيفية ظهوره أو ظهور الكثرة فيه.
و ربما قيل في الآية: إن المراد بالأزواج الأنواع و الأصناف، و لا يساعد عليه الآيات التي تذكر خلق الأزواج كقوله تعالى﴿وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ الذاريات: - ٤٩ و المقارنة و نوع من التألف و التركب من لوازم مفهوم الزوجية.
قال الراغب: يقال لكل واحد من القرينين من الذكر و الأنثى في الحيوانات المتزاوجة: زوج، و لكل قرينين فيها و في غيرها: زوج كالخف و النعل، و لكل ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادا: زوج، قال: و قوله: ﴿خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ﴾ فبين أن كل ما في العالم زوج من حيث إن له ضدا ما أو مثلا ما أو تركيبا ما بل لا ينفك بوجه من تركيب. انتهى.
فزوجية الزوج هي كونه مفتقرا في تحققه إلى تألف و تركب و لذلك يقال لكل واحد من القرينين من حيث هما قرينان: زوج لافتقاره إلى قرينه، و كذا يقال لمجموع القرينين: زوج لافتقاره في تحققه زوجا إلى التألف و التركب فكون الأشياء أزواجا مقارنة بعضها بعضا لإنتاج ثالث أو كونه مولدا من تألف اثنين.
قوله تعالى: ﴿وَ آيَةٌ لَهُمُ اَللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ اَلنَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ﴾ آية أخرى من آيات الربوبية الدالة على وقوع التدبير العام السماوي للعالم الإنساني مذكورة في أربع آيات.
و لا شك أن الآية تشير إلى مفاجأة الليل عقيب ذهاب النهار، و السلخ في الآية بمعنى الإخراج و لذلك عدي بمن و لو كان بمعنى النزع كما في قولنا: سلخت الإهاب عن الشاة تعين ١٣١ تعديه بعن دون من.
و يؤيد ذلك أنه تعالى عبر في مواضع من كلامه عن ورود كل من الليل و النهار عقيب الآخر بإيلاجه فيه فقال في مواضع من كلامه﴿يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهَارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهَارَ فِي اَللَّيْلِ﴾ الحج: - ٦١ فإذا كان ورود النهار بعد الليل إيلاجا للنهار في الليل اعتبارا كان مفاجأة الليل بعد النهار إخراجا للنهار من الليل اعتبارا.
كأن الليل أطبق عليهم و أحاطت بهم ظلمته ثم ولج فيه النهار فوسعهم نوره و ضياؤه ثم خرج منه ففاجأهم الليل ثانيا بانطباق الظلام و إحاطته بما أضاءه النهار ففي الكلام نوع من الاستعارة بالكناية.
و لعل فيما ذكرناه من الوجه كفاية عما أطنبوا فيه من البحث في معنى سلخ النهار من الليل ثم مفاجأة الليل.
قوله تعالى: ﴿وَ اَلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ﴾ جريها حركتها و قوله ﴿لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا﴾ اللام بمعنى إلى أو للغاية، و المستقر مصدر ميمي أو اسم زمان أو مكان، و المعنى أنها تتحرك نحو مستقرها أو حتى تنتهي إلى مستقرها أي استقرارها و سكونها بانقضاء أجلها أو زمن استقرارها أو محله.
و أما جريها و هو حركتها فظاهر النظر الحسي يثبت لها حركة دورية حول الأرض لكن الأبحاث العلمية تقضي بالعكس و تكشف أن لها مع سياراتها حركة انتقالية نحو النسر الواقع.
و كيف كان فمحصل المعنى أن الشمس لا تزال تجري ما دام النظام الدنيوي على حاله حتى تستقر و تسكن بانقضاء أجلها فتخرب الدنيا و يبطل هذا النظام، و هذا المعنى يرجع بالمال إلى معنى القراءة المنسوبة إلى أهل البيت و غيرهم: «و الشمس تجري لا مستقر لها» كما قيل.
و أما حمل جريها على حركتها الوضعية حول مركزها فهو خلاف ظاهر الجري الدال على الانتقال من مكان إلى مكان.
و قوله: ﴿ذَلِكَ تَقْدِيرُ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ﴾ أي الجري المذكور تقدير و تدبير ممن لا يغلبه غالب في إرادته و لا يجهل جهات الصلاح في أفعاله.
قوله تعالى: ﴿وَ اَلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ اَلْقَدِيمِ﴾ المنازل جمع منزل اسم مكان من النزول و الظاهر أن المراد به المنازل الثمانية و العشرون التي يقطعها القمر في كل ثمانية و عشرين يوما و ليلة تقريبا.
و العرجون عود عذق النخلة من بين الشمراخ إلى منبته و هو عود أصفر مقوس يشبه الهلال، و القديم العتيق.
و قد اختلفت الأنظار في معنى الآية للاختلاف في تركيبها، و أقرب التقديرات من الفهم قول من قال: إن التقدير و القمر قدرناه ذا منازل أو قدرنا له منازل حتى عاد هلالا يشبه العرجون العتيق المصفر لونه.
تشير الآية إلى اختلاف مناظر القمر بالنسبة إلى أهل الأرض فإن نوره مكتسب من الشمس يستنير بها نصف كرته تقريبا و ما يقرب من النصف الآخر غير المسامت للشمس مظلم ثم يتغير موضع الاستنارة و لا يزال كذلك حتى يعود إلى الوضع الأول و يعرض ذلك أن يظهر لأهل الأرض في صورة هلال ثم لا يزال ينبسط عليه النور حتى يتبدر ثم لا يزال ينقص حتى يعود إلى ما كان عليه أوله.
و لاختلاف صوره آثار بارزة في البر و البحر و حياة الناس على ما بين في الأبحاث المربوطة.
فالآية الكريمة تذكر من آية القمر أحواله الطارئة له بالنسبة إلى الأرض و أهلها دون حاله في نفسه و دون حاله بالنسبة إلى الشمس فقط.
و من هنا لا يبعد أن يقال في قوله تعالى: ﴿وَ اَلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا﴾ إن المراد بقوله: ﴿تَجْرِي﴾ الإشارة إلى ما يعطيه ظاهر الحس من حركتها اليومية و الفصلية و السنوية و هي حالها بالنسبة إلينا، و بقوله: ﴿لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا﴾ حالها في نفسها و هي سكونها بالنسبة إلى سياراتها المتحركة حولها كأنه قيل: و آية لهم أن الشمس على استقرارها تجري عليهم و قد دبر العزيز العليم بذلك كينونة العالم الأرضي و حياة أهله و الله أعلم.
قوله تعالى: ﴿لاَ اَلشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ اَلْقَمَرَ وَ لاَ اَللَّيْلُ سَابِقُ اَلنَّهَارِ وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ لفظة ينبغي تدل على الترجح و نفي ترجح الإدراك من الشمس نفي وقوعه منها، و المراد به أن التدبير ليس مما يجري يوما و يقف آخر بل هو تدبير دائم غير مختل و لا منقوض حتى ينقضي الأجل المضروب منه تعالى لذلك.
فالمعنى أن الشمس و القمر ملازمان لما خط لهما من المسير فلا تدرك الشمس القمر حتى يختل بذلك التدبير المعمول بهما و لا الليل سابق النهار و هما متعاقبان في التدبير فيتقدم الليل و النهار فيجتمع ليلتان ثم نهاران بل يتعاقبان.
و لم يتعرض لنفي إدراك القمر للشمس و لا لنفي سبق النهار الليل لأن المقام مقام بيان انحفاظ النظم الإلهي عن الاختلال و الفساد فنفى إدراك ما هو أعظم و أقوى و هو الشمس لما هو أصغر و أضعف و هو القمر، و يعلم منه حال العكس و نفى سبق الليل الذي هو افتقاده للنهار الذي هو ليله و الليل مضاف إليه متأخر طبعا منه و يعلم به حال العكس.
و قوله: ﴿وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ أي كل من الشمس و القمر و غيرهما من النجوم و الكواكب يجرون في مجرى خاص به كما تسبح السمكة في الماء فالفلك هو المدار الفضائي الذي يتحرك فيه الجرم العلوي، و لا يبعد حينئذ أن يكون المراد بالكل كل من الشمس و القمر و الليل و النهار و إن كان لا يوجد في كلامه تعالى ما يشهد على ذلك.
و الإتيان بضمير الجمع الخاص بالعقلاء في قوله ﴿يَسْبَحُونَ﴾ لعله للإشارة إلى كونها مطاوعة لمشيته مطيعة لأمره تعالى كالعقلاء كما في قوله﴿ثُمَّ اِسْتَوىَ إِلَى اَلسَّمَاءِ وَ هِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ حم السجدة: - ١١.
و للمفسرين في جمل الآية آراء أخر مضطربة أضربنا عنها من أراد الوقوف عليها فليراجع المفصلات.
قوله تعالى: ﴿وَ آيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي اَلْفُلْكِ اَلْمَشْحُونِ﴾ قال الراغب: الذرية أصلها الصغار من الأولاد، و تقع في التعارف على الصغار و الكبار معا، و يستعمل للواحد و الجمع و أصله للجمع. انتهى، و الفلك السفينة، و المشحون المملوء.
آية أخرى من آيات ربوبيته تعالى و هو جريان تدبيره في البحر حيث يحمل ذريتهم في الفلك المشحون بهم و بأمتعتهم يجوزون به من جانب إلى جانب للتجارة و غيرها، و لا حامل لهم فيه و لا حافظ لهم عن الغرق إلا هو تعالى و الخواص التي يستفيدون منها في ركوب البحر أمور مسخرة له تعالى منتهية إلى خلقه على أن هذه الأسباب لو لم تنته إليه تعالى لم تغن طائلا.
و إنما نسبت الحمل إلى الذرية دونهم أنفسهم فلم يقل: أنا حملناهم لإثارة الشفقة و الرحمة.
قوله تعالى: ﴿وَ خَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ﴾ المراد به على ما فسروه الأنعام قال تعالى﴿وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْفُلْكِ وَ اَلْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ﴾ الزخرف: - ١٢ و قال﴿ وَ عَلَيْهَا وَ عَلَى اَلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ﴾ المؤمن - ٨٠.
و فسر بعضهم الفلك المذكور في الآية السابقة بسفينة نوح (عليه السلام) و ما في هذه الآية بالسفن و الزوارق المعمولة بعدها و هو تفسير رديء و مثله تفسير ما في هذه الآية بالإبل خاصة.
و ربما فسر ما في هذه الآية بالطيارات و السفن الجوية المعمولة في هذه الأعصار و التعميم أولى.
قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَ لاَ هُمْ يُنْقَذُونَ﴾ الصريخ هو الذي يجيب الصراخ و يغيث، الاستغاثة و الإنقاذ هو الإنجاء من الغرق.
و الآية متصلة بقوله السابق: ﴿أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي اَلْفُلْكِ اَلْمَشْحُونِ﴾ أي إن الأمر إلى مشيتنا فإن نشأ نغرقهم فلا يغيثهم مغيث و لا ينقذهم منقذ.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَ مَتَاعاً إِلى حِينٍ﴾ استثناء مفرغ و التقدير لا ينجون بسبب من الأسباب و أمر من الأمور إلا لرحمة منا تنالهم و لتمتع إلى حين الأجل المسمى الذي قدرناه لهم.
قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اِتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَ مَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ لما ذكر الآيات الدالة على الربوبية ذمهم على عدم رعايتهم حقها و عدم إقبالهم عليها و عدم ترتيبهم عليها آثارها فإذا قيل لهم هذه الآيات البينات ناطقة أن ربكم الله فاتقوا معصيته في حالكم الحاضرة و ما قدمتم من المعاصي، أو عذاب الشرك و المعاصي التي أنتم مبتلون بها و ما خلفتم وراءكم، أو اتقوا ما بين أيديكم من الشرك و المعاصي في الحياة الدنيا و ما خلفكم من العذاب في الآخرة، أعرضوا عنه و لم يستجيبوا له على ما هو دأبهم في جميع الآيات التي ذكروا بها.
و من هنا يظهر أولا أن المراد بما بين أيديهم و ما خلفهم الشرك و المعاصي التي هم مبتلون بها في حالهم الحاضرة و ما كانوا مبتلين به قبل، أو العذاب الذي استوجبوه ـ
بذلك و المآل واحد، أو الشرك و المعاصي في الدنيا و العذاب في الآخرة و هو أوجه الوجوه.
و ثانيا: أن حذف جواب إذا للدلالة على أن حالهم بلغت من الجرأة على الله و الاستهانة بالحق مبلغا لا يستطاع معها ذكر ما يجيبون به داعي الحق إذا دعاهم إلى التقوى فيجب أن يترك أسفا و لا يذكر، و قد دل عليه بقوله: ﴿وَ مَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَ مَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ المراد بإتيان الآيات موافاتها لهم بالمشاهدة أو بالتلاوة و الذكر، و أيضا هي أعم من أن تكون آية آفاقية أو أنفسية، أو تكون آية معجزة كالقرآن فهم معرضون عنها جميعا.
قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اَللَّهُ﴾ إلى آخر الآية كان قوله:
﴿وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اِتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَ مَا خَلْفَكُمْ﴾ متعرضا لجوابهم إذا دعوا إلى عبادة الله و هي أحد ركني الدين الحق، و هذه الآية تعرضت لجوابهم إذا دعوا إلى الشفقة على خلق الله و هو الركن الآخر و معلوم أن جوابهم الرد دون القبول.
فقوله: ﴿وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اَللَّهُ﴾ يتضمن دعوتهم إلى الإنفاق على الفقراء و المساكين من أموالهم و في التعبير عن الأموال بما رزقهم الله إشعار بأن المالك لها حقيقة هو الله الذي رزقهم بها و سلطهم عليها، و هو الذي خلق الفقراء و المساكين و أقام حاجتهم إلى ما عند هؤلاء من فضل المؤن الذي لا يفتقرون إليه فلينفقوا عليهم و ليحسنوا و ليجملوا و الله يحب الإحسان و جميل الفعل.
و قوله: ﴿قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اَللَّهُ أَطْعَمَهُ﴾ جوابهم للدعوة إلى الإنفاق، و إنما أظهر القائل الذين كفروا و مقتضى المقام الإضمار للإشارة إلى أن كفرهم بالحق و إعراضهم عنه باتباع الشهوات هو الذي دعاهم إلى الاعتذار بمثل هذا العذر المبني على الإعراض عما تدعو إليه الفطرة من الشفقة على خلق الله و إصلاح ما فسد في المجتمع كما أن الإظهار في قوله: ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ للإشارة إلى أن قائل ﴿أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اَللَّهُ﴾ هم الذين آمنوا.
و في قولهم: ﴿أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اَللَّهُ أَطْعَمَهُ﴾ إشعار بأن المؤمنين إنما قالوا لهم:
﴿أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اَللَّهُ﴾ بعنوان أنه مما يشاؤه الله و يريده حكما دينيا فردوه بأن إرادة الله لا تتخلف عن مراده فلو شاء أن يطعمهم أطعمهم أي وسع في رزقهم و جعلهم أغنياء.
و هذه مغالطة منهم خلطوا فيه بين الإرادة التشريعية المبنية على الابتلاء و الامتحان و هداية العباد إلى ما فيه صلاح حالهم في دنياهم و آخرتهم و من الجائز أن تتخلف عن المراد بالعصيان، و بين الإرادة التكوينية التي لا تتخلف عن المراد و من المعلوم أن مشيئة الله و إرادته المتعلقة بإطعام الفقراء و الإنفاق عليهم من المشيئة التشريعية دون التكوينية فتخلفها في مورد الفقراء إنما يدل على عصيان الذين كفروا و تمردهم عما أمروا به لا على عدم تعلق الإرادة به و كذب مدعيه.
و هذه مغالطة بنوا عليها جل ما افتعلوه من سنن الوثنية و قد حكى الله سبحانه ذلك عنهم في قوله﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَ لاَ آبَاؤُنَا وَ لاَ حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ النحل: - ٣٥، و قوله﴿سَيَقُولُ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَ لاَ آبَاؤُنَا وَ لاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ﴾ الأنعام: - ١٤٨، و قوله﴿ وَ قَالُوا لَوْ شَاءَ اَلرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ﴾ الزخرف: - ٢٠.
و قوله: ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾ من تمام قول الذين كفروا يخاطبون به المؤمنين أي إنكم في ضلال مبين في دعواكم أن الله أمرنا بالإنفاق و شاء منا ذلك.
(بحث روائي)
في المجمع، روي عن علي بن الحسين زين العابدين و أبي جعفر الباقر و جعفر الصادق (عليه السلام) : «لا مستقر لها» بنصب الراء.
و في الدر المنثور، أخرج سعيد بن منصور و أحمد البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و البيهقي عن أبي ذر قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن قوله تعالى: ﴿وَ اَلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا﴾ قال:
مستقرها تحت العرش. أقول: و قد روي هذا المعنى عن أبي ذر عنه (ص) من طرق الخاصة و العامة
مختصرة و مطولة، و في بعضها أنها بعد الغروب تصعد سماء سماء حتى تصل إلى ما دون العرش فتسجد و تستأذن في الطلوع و تبقى على ذلك حتى تكسى نورا و يؤذن لها في الطلوع.
و الرواية إن صحت فهي مؤولة.
و في روضة الكافي، بإسناده عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله عز و جل خلق الشمس قبل القمر و خلق النور قبل الظلمة.
و في المجمع، روى العياشي في تفسيره بالإسناد عن الأشعث بن حاتم قال: كنت بخراسان حيث اجتمع الرضا و الفضل بن سهل و المأمون في الإيوان بمرو فوضعت المائدة فقال الرضا (عليه السلام) : إن رجلا من بني إسرائيل سألني بالمدينة فقال: النهار خلق قبل أم الليل؟ فما عندكم؟ قال: و أداروا الكلام فلم يكن عندهم في ذلك شيء .
فقال الفضل للرضا: أخبرنا بها أصلحك الله. قال: نعم من القرآن أم من الحساب قال له الفضل من جهة الحساب فقال: قد علمت يا فضل إن طالع الدنيا السرطان و الكواكب في مواضع شرفها فزحل في الميزان و المشتري في السرطان و المريخ في الجدي و الشمس في الحمل و الزهرة في الحوت و عطارد في السنبلة و القمر في الثور فتكون الشمس في العاشر وسط السماء فالنهار قبل الليل، و من القرآن قوله تعالى: ﴿وَ لاَ اَللَّيْلُ سَابِقُ اَلنَّهَارِ﴾ أي الليل قد سبقه النهار.:
أقول: نقل الآلوسي في روح المعاني، هذا الحديث ثم قال: و في الاستدلال بالآية بحث ظاهر، و أما بالحساب فله وجه في الجملة و رأى المنجمون أن ابتداء الدورة دائرة نصف النهار و له موافقة لما ذكر و الذي يغلب على الظن عدم صحة الخبر من مبتدئه فالرضا أجل من أن يستدل بالآية على ما سمعت من دعواه انتهى.
و قد اختلط عليه الأمر في تحصيل حقيقة معنى الليل و النهار.
توضيحه: أن الليل و النهار متقابلان تقابل العدم و الملكة كالعمى و البصر فكما أن العمى ليس مطلق عدم البصر حتى يكون الجدار مثلا أعمى لعدم البصر فيه بل هو عدم البصر مما من شأنه أن يتصف بالبصر كالإنسان كذلك الليل ليس هو مطلق عدم النور بل هو زمان عدم استضاءة ناحية من نواحي الأرض بنور الشمس و من المعلوم أن
عدم الملكة يتوقف في تحققه على تحقق الملكة المقابلة له قبله حتى يتعين بالإضافة إليه فلو لا البصر لم يتحقق عمى و لو لا النهار لم يتحقق الليل.
فمطلق الليل بمعناه الذي هو به ليل مسبوق الوجود بالنهار و قوله: ﴿وَ لاَ اَللَّيْلُ سَابِقُ اَلنَّهَارِ﴾ و إن كان ناظرا إلى الترتيب المفروض بين النهر و الليالي و أن هناك نهارا و ليلا و نهارا و ليلا و أن واحدا من هذه الليالي لا يسبق النهار الذي بجنبه.
لكنه تعالى أخذ في قوله: ﴿وَ لاَ اَللَّيْلُ سَابِقُ اَلنَّهَارِ﴾ مطلق الليل و نفى تقدمه على مطلق النهار و لم يقل: إن واحدا من الليالي الواقعة في هذا الترتيب لا يسبق النهار الواقع في الترتيب قبله.
فالحكم في الآية مبني على ما يقتضيه طبيعة الليل و النهار بحسب التقابل الذي أودعه الله بينهما و قد استفيد منه الحكم بانحفاظ الترتيب في تعاقب الليل و النهار فإن كل ليل هو افتقاد النهار الذي هو يتلوه فلا يتقدم عليه و إلى هذا يشير (عليه السلام) بعد ذكر الآية بقوله: «أي الليل قد سبقه النهار» يعني أن سبق النهار الليل هو خلقه قبله و ليس كما يتوهم أن هناك نهر أو ليالي موجودة ثم يتعين لكل منها محله.
و قول المعترض: «و أما بالحساب فله وجه في الجملة» لا يدرى وجه قوله: في الجملة و هو وجه تام مبني على تسليم أصول التنجيم صحيح بالجملة على ذلك التقدير لا في الجملة.
و كذا قوله: «و رأى المنجمون أن ابتداء الدورة دائرة نصف النهار و له موافقة لما ذكر» لا محصل له لأن دائرة نصف النهار و هي الدائرة المارة على القطبين و نقطة ثالثة بينهما غير متناهية في العدد لا تتعين لها نقطة معينة في السماء دون نقطة أخرى فيكون كون الشمس في إحداهما نهارا للأرض دون أخرى.
و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اِتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَ مَا خَلْفَكُمْ﴾: روى الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: معناه اتقوا ما بين أيديكم من الذنوب و ما خلفكم من العقوبة.
[سورة يس (٣٦): الآیات ٤٨ الی ٦٥]
﴿وَ يَقُولُونَ مَتىَ هَذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ٤٨ مَا يَنْظُرُونَ﴾
﴿إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ ٤٩ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَ لاَ إِلىَ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ٥٠ وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ اَلْأَجْدَاثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ٥١ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ اَلرَّحْمَنُ وَ صَدَقَ اَلْمُرْسَلُونَ ٥٢ إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ٥٣ فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ لاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ٥٤ إِنَّ أَصْحَابَ اَلْجَنَّةِ اَلْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ٥٥ هُمْ وَ أَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى اَلْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُنَ ٥٦ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَ لَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ٥٧ سَلاَمٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ٥٨ وَ اِمْتَازُوا اَلْيَوْمَ أَيُّهَا اَلْمُجْرِمُونَ ٥٩ أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا اَلشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ٦٠ وَ أَنِ اُعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ٦١ وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ٦٢ هَذِهِ جَهَنَّمُ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ٦٣ اِصْلَوْهَا اَلْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ٦٤ اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْوَاهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ٦٥﴾
(بيان)
لما فرغ من تفصيل آيات التوحيد المشار إليه إجمالا في أول الكلام شرع في تفصيل خبر المعاد و ذكر كيفية قيام الساعة و إحضارهم للحساب و الجزاء و ما يجزى به أصحاب الجنة و ما يجازى به المجرمون كل ذلك تبيينا لما تقدم من إجمال خبر المعاد.
قوله تعالى: ﴿وَ يَقُولُونَ مَتىَ هَذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ كلام منهم وارد مورد الاستهزاء مبني على الإنكار، و لعله لذلك جيء باسم الإشارة الموضوعة للقريبة و لأن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين كثيرا ما كانوا يسمعونهم حديث يوم القيامة و ينذرونهم به، و الوعد يستعمل في الخير و الشر إذا ذكر وحده و إذا قابل الوعيد تعين الوعد للخير و الوعيد للشر.
قوله تعالى: ﴿مَا يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ﴾ النظر بمعنى الانتظار، و المراد بالصيحة نفخة الصور الأولى بإعانة السياق، و توصيف الصيحة بالوحدة للإشارة إلى هوان أمرهم على الله جلت عظمته فلا حاجة إلى مئونة زائدة، و ﴿يَخِصِّمُونَ﴾ أصله يختصمون من الاختصام بمعنى المجادلة و المخاصمة.
و الآية جواب لقولهم: ﴿مَتى هَذَا اَلْوَعْدُ﴾ مسوقة سوق الاستهزاء بهم و الاستهانة بأمرهم كما كان قولهم كذلك، و المعنى ما ينتظر هؤلاء القائلون: متى هذا الوعد في سؤالهم عن وقت الوعد المنبئ عن الانتظار إلا صيحة واحدة يسيرة علينا بلا مئونة و لا تكلف تأخذهم فلا يسعهم أن يفروا و ينجوا منها و الحال أنهم غافلون عنها يختصمون فيما بينهم.
قوله تعالى: ﴿فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَ لاَ إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ أي يتفرع على هذه الصيحة بما أنها تفاجئهم و لا تمهلهم أن يموتوا من فورهم فلا يستطيعوا توصية على أن الموت يعمهم جميعا دفعة فلا يترك منهم أحدا يوصى إليه و لا أن يرجعوا إلى أهلهم إذا كانوا في الخارج من بيوتهم مثلا.
قوله تعالى: ﴿وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ اَلْأَجْدَاثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ﴾ هذه هي نفخة الصور الثانية التي بها الإحياء و البعث، و الأجداث جمع جدث و هو القبر و النسل الإسراع في المشي و في التعبير عنه بقوله: ﴿إِلى رَبِّهِمْ﴾ تقريع لهم لأنهم كانوا ينكرون
ربوبيته و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ اَلرَّحْمَنُ وَ صَدَقَ اَلْمُرْسَلُونَ﴾ البعث الإقامة، و المرقد محل الرقاد و المراد به القبر، و تعبيرهم عنه تعالى بالرحمن نوع استرحام و قد كانوا يقولون في الدنيا﴿ وَ مَا اَلرَّحْمَنُ﴾ الفرقان: - ٦٠، و قوله: ﴿وَ صَدَقَ اَلْمُرْسَلُونَ﴾ عطف على قوله: ﴿هَذَا مَا وَعَدَ اَلرَّحْمَنُ﴾ و الجملة الفعلية قد تعطف على الاسمية.
و قولهم: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا مبني على إنكارهم البعث و هم في الدنيا و رسوخ أثر الإنكار و الغفلة عن يوم الجزاء في نفوسهم و هم لا يزالون مستغرقين في الأهواء فإذا قاموا من قبورهم مسرعين إلى المحشر فاجأهم الورود في عالم لا يستقبلهم فيه إلا توقع الشر فأخذهم الفزع الأكبر و الدهشة التي لا تقوم لها الجبال و لذا يتبادرون أولا إلى دعوة الويل و الهلاك كما كان ذلك دأبهم في الدنيا عند الوقوع في المخاطر ثم سألوا عمن بعثهم من مرقدهم لأن الذي أحاط بهم من الدهشة أذهلهم من كل شيء.
ثم ذكروا ما كانت الرسل (عليه السلام) يذكرونهم به من الوعد الحق بالبعث و الجزاء فشهدوا بحقية الوعد و استعصموا بالرحمة فقالوا: ﴿هَذَا مَا وَعَدَ اَلرَّحْمَنُ﴾ على ما هو دأبهم في الدنيا حيث يكيدون عدوهم إذا ظهر عليهم بالتملق و إظهار الذلة و الاعتراف بالظلم و التقصير ثم صدقوا الرسل بقولهم: ﴿وَ صَدَقَ اَلْمُرْسَلُونَ﴾.
و بما تقدم ظهر أولا وجه دعوتهم بالويل إذا بعثوا.
و ثانيا وجه سؤالهم عمن بعثهم من مرقدهم الظاهر في أنهم جاهلون به أولا ثم إقرارهم بأنه الذي وعده الرحمن و تصديقهم المرسلين فيما بلغوا عنه تعالى.
و يظهر أيضا أن قوله: ﴿مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾ إلخ و قوله: ﴿هَذَا مَا وَعَدَ اَلرَّحْمَنُ﴾ إلخ. من قولهم.
و قيل: قوله: ﴿وَ صَدَقَ اَلْمُرْسَلُونَ﴾ عطف على مدخول ﴿مَا﴾ و ﴿مَا﴾ موصولة أو مصدرية و ﴿هَذَا مَا وَعَدَ اَلرَّحْمَنُ﴾ إلخ جواب من الله أو من الملائكة أو من المؤمنين لقولهم: ﴿مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾؟.
و غير خفي أنه خلاف الظاهر و خاصة على تقدير كون ﴿مَا﴾ مصدرية و لو كان قوله: ﴿هَذَا مَا وَعَدَ اَلرَّحْمَنُ﴾ إلخ. جوابا من الله أو الملائكة لقولهم: ﴿مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾ لأجيب بالفاعل دون الفعل لأنهم سألوا عن فاعل البعث! و ما قيل: إن العدول إليه لتذكير كفرهم و تقريعهم عليه مع تضمنه الإشارة إلى الفاعل هذا. لا يغني طائلا.
و ظهر أيضا أن قوله: ﴿هَذَا مَا وَعَدَ اَلرَّحْمَنُ﴾ مبتدأ و خبر، و قيل ﴿هَذَا﴾ صفة لمرقدنا بتأويل اسم الإشارة إلى المشتق و ﴿مَا﴾ مبتدأ خبره محذوف تقديره ما وعد الرحمن حق و هو بعيد عن الفهم.
قوله تعالى: ﴿إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ اسم كان محذوف و التقدير إن كانت الفعلة أو النفخة إلا نفخة واحدة تفاجئهم أنهم مجموع محضرون لدينا من غير تأخير و مهلة.
و التعبير بقوله: ﴿لَدَيْنَا﴾ لأن اليوم يوم الحضور لفصل القضاء عند الله سبحانه.
قوله تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ لاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي في هذا اليوم يقضي بينهم قضاء عدلا و يحكم حكما حقا فلا تظلم نفس شيئا.
و قوله: ﴿وَ لاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ عطف تفسير لقوله: ﴿فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً﴾ و هو في الحقيقة بيان برهاني لانتفاء الظلم يومئذ لدلالته على أن جزاء أعمال العاملين يومئذ نفس أعمالهم، و لا يتصور مع ذلك ظلم لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه و تحميل العامل عمله وضع الشيء في موضعه ضرورة.
و خطاب الآية من باب تمثيل يوم القيامة و إحضاره و إحضار من فيه بحسب العناية الكلامية، و ليس كما توهم حكاية عما سيقال لهم أو يخاطبون به من جانب الله سبحانه أو الملائكة أو المؤمنين يوم القيامة فلا موجب له من جهة السياق.
و المخاطب بقوله: ﴿وَ لاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ السعداء و الأشقياء جميعا.
و ما قيل عليه أن الحصر يأبى التعميم فإنه تعالى يوفي المؤمنين أجورهم و يزيدهم من فضله أضعافا مضاعفة مدفوع بأن الحصر في الآية نازل إلى جزاء العمل و أجره و ما
يدل من الآيات على المزيد كقوله﴿لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ فِيهَا وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ ق: - ٣٥ أمر وراء الجزاء و الأجر خارج عن طور العمل.
و ربما أجيب عنه بأن معنى الآية أن الصالح لا ينقص ثوابه و الطالح لا يزاد عقابه فإن الحكمة تنافيه أما زيادة الثواب و نقض العقاب فلا مانع منه أو أن المراد بقوله:
﴿لاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أنكم لا تجزون إلا من جنس عملكم إن خيرا فخير و إن شرا فشر.
و فيه أن مدلول الآية لو كان ما ذكر اندفع الإشكال لكن الشأن في دلالتها على ذلك.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَصْحَابَ اَلْجَنَّةِ اَلْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ﴾ الشغل الشأن الذي يشغل الإنسان و يصرفه عما عداه، و الفاكه من الفكاهة و هي التحدث بما يسر أو التمتع و التلذذ و لا فعل له من الثلاثي المجرد على ما قيل.
و قيل: ﴿فَاكِهُونَ﴾ معناه ذوو فاكهة نحو لابن و تامر و يبعده أن الفاكهة مذكورة في السياق و لا موجب لتكرارها.
و المعنى أن أصحاب الجنة في هذا اليوم في شأن يشغلهم عن كل شيء دونه و هو التنعم في الجنة متمتعون فيها.
قوله تعالى: ﴿هُمْ وَ أَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى اَلْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُنَ﴾ الظلال جمع ظل و قيل جمع ظلة بالضم و هي السترة من الشمس من سقف أو شجر أو غير ذلك، و الأريكة كل ما يتكأ عليه من وسادة أو غيرها.
و المعنى: هم أي أصحاب الجنة و أزواجهم من حلائلهم المؤمنات في الدنيا أو من الحور العين في ظلال أو أستار من الشمس و غيرها متكئون على الأرائك اتكاء الأعزة.
قوله تعالى: ﴿لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَ لَهُمْ مَا يَدَّعُونَ﴾ الفاكهة ما يتفكه به من الثمرات كالتفاح و الأترج و نحوهما، و قوله: ﴿يَدَّعُونَ﴾ من الادعاء بمعنى التمني أي لهم في الجنة فاكهة و لهم فيها ما يتمنونه و يطلبونه.
قوله تعالى: ﴿سَلاَمٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ سلام مبتدأ محذوف الخبر و التنكير للتفخيم و التقدير سلام عليهم أو لهم سلام، و ﴿قَوْلاً﴾ مفعول مطلق لفعل محذوف و التقدير
أقوله قولا من رب رحيم.
و الظاهر أن السلام منه تعالى و هو غير سلام الملائكة المذكور في قوله﴿وَ اَلْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى اَلدَّارِ﴾ الرعد: - ٢٤.
قوله تعالى: ﴿وَ اِمْتَازُوا اَلْيَوْمَ أَيُّهَا اَلْمُجْرِمُونَ﴾ أي و نقول اليوم للمجرمين امتازوا من أصحاب الجنة و هو تمييزهم منهم يوم القيامة و إنجاز لما في قوله في موضع آخر﴿ أَمْ نَجْعَلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ اَلْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾ ص: - ٢٨، و قوله ﴿أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ اِجْتَرَحُوا اَلسَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَ مَمَاتُهُمْ﴾ الجاثية: - ٢١.
قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا اَلشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ العهد الوصية، و المراد بعبادة الشيطان طاعته فيما يوسوس و يأمر به إذ لا طاعة إلا لله أو من أمر بطاعته، و قد علل النهي عن طاعته بكونه عدوا مبينا لأن العدو لا يريد بعدوه خيرا.
و قيل: المراد بعبادته عبادة الآلهة من دون الله و إنما نسبت إلى الشيطان لكونها بتسويله و تزيينه، و هو تكلف من غير موجب.
و إنما وجه الخطاب إلى المجرمين بعنوان أنهم بنو آدم لأن عداوة الشيطان إنما نشبت أول ما نشبت بآدم حيث أمر أن يسجد له فأبى و استكبر فرجم ثم عاد ذريته بعداوته و أوعدهم كما حكاه الله تعالى إذ قال﴿أَ رَأَيْتَكَ هَذَا اَلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلىَ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ الإسراء: - ٦٢.
و أما عهده تعالى و وصيته إلى بني آدم أن لا يطيعوه فهو الذي وصاهم به بلسان رسله و أنبيائه و حذرهم عن اتباعه كقوله تعالى﴿يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ اَلشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ﴾ الأعراف: - ٢٧: و قوله﴿وَ لاَ يَصُدَّنَّكُمُ اَلشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ الزخرف: - ٦٢.
و قيل: المراد بالعهد عهده تعالى إليهم في عالم الذر حيث قال: ﴿أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلى﴾. و قد عرفت مما قدمناه في تفسير آية الذر أن العهد الذي هناك هو بوجه عين العهد الذي وجه إليهم في الدنيا.
قوله تعالى: ﴿وَ أَنِ اُعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ عطف تفسير لما سبقه، و قد تقدم كلام في معنى الصراط المستقيم في تفسير قوله: ﴿اِهْدِنَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ﴾ من سورة الفاتحة.
قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾ الجبل الجماعة و قيل: الجماعة الكثيرة و الكلام مبني على التوبيخ و العتاب.
قوله تعالى: ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ أي كان يستمر عليكم الإيعاد بها مرة بعد مرة بلسان الأنبياء و الرسل (عليه السلام) و أول ما أوعد الله سبحانه بها حين قال لإبليس﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ الحجر: - ٤٣ و في لفظ الآية إشارة إلى إحضار جهنم يومئذ.
قوله تعالى: ﴿اِصْلَوْهَا اَلْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ الصلا. اللزوم و الاتباع، و قيل: مقاساة الحرارة و يظهر بقوله: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ أن الخطاب للكفار و هم المراد بالمجرمين.
قوله تعالى: ﴿اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْوَاهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ أي يشهد كل منها بما كانوا يكسبونه بواسطته فالأيدي بالمعاصي التي كسبوها بها و الأرجل بالمعاصي الخاصة بها على ما يعطيه السياق.
و من هنا يظهر أن كل عضو ينطق بما يخصه من العمل و أن ذكر الأيدي و الأرجل من باب الأنموذج و لذا ذكر في موضع آخر السمع و البصر و الفؤاد كما في سورة الإسراء الآية ٣٦. و في موضع آخر الجلود كما في سورة حم السجدة الآية ٢٠، و سيأتي بعض ما يتعلق به من الكلام في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله.
(بحث روائي)
في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿مَا يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ الآية - قال:
ذلك في آخر الزمان يصاح فيهم صيحة و هم في أسواقهم يتخاصمون فيموتون كلهم في مكانهم لا يرجع أحد منهم إلى منزله و لا يوصي بوصية، و ذلك قوله عز و جل:
﴿فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَ لاَ إِلىَ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾.
و في المجمع، في الحديث :تقوم الساعة و الرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعان فما يطويانه حتى تقوم الساعة، و الرجل يرفع أكلته إلى فيه حتى تقوم الساعة، و الرجل يليط[1]
حوضه ليسقي ماشيته فما يسقيها حتى تقوم.:
أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و كذا عن قتادة عنه (ص) مرسلا. و في تفسير القمي،" :و قوله عز و جل: ﴿وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ اَلْأَجْدَاثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ﴾ قال:. من القبور:
و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) : في قوله:
تعالى ﴿يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾ فإن القوم كانوا في القبور فلما قاموا حسبوا أنهم كانوا نياما و قالوا: ﴿يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا﴾. قالت الملائكة: ﴿هَذَا مَا وَعَدَ اَلرَّحْمَنُ وَ صَدَقَ اَلْمُرْسَلُونَ﴾.
و في الكافي، بإسناده إلى أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أبو ذر رحمه الله يقول في خطبته: و ما بين الموت و البعث إلا كنومة نمتها ثم استيقظت منها.
و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَصْحَابَ اَلْجَنَّةِ اَلْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ﴾ قال يفاكهون النساء و يلاعبونهن.
و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) : في قوله عز و جل: ﴿فِي ظِلاَلٍ عَلَى اَلْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُنَ﴾ الأرائك السرر عليها الحجال.
و فيه، :في قوله عز و جل: ﴿سَلاَمٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ قال: السلام منه هو الأمان. و قوله: ﴿وَ اِمْتَازُوا اَلْيَوْمَ أَيُّهَا اَلْمُجْرِمُونَ﴾ قال: إذا جمع الله الخلق يوم القيامة - بقوا قياما على أقدامهم حتى يلجمهم العرق فينادون: يا رب حاسبنا و لو إلى النار قال:
فيبعث الله رياحا فتضرب بينهم و ينادي مناد: ﴿وَ اِمْتَازُوا اَلْيَوْمَ أَيُّهَا اَلْمُجْرِمُونَ﴾ فيميز بينهم فصار المجرمون في النار، و من كان في قلبه الإيمان صار إلى الجنة.
أقول: و قد ورد في بعض الروايات أن الله سبحانه يتجلى لهم فيشتغلون به عن كل من سواه ما دام التجلي و المراد به ارتفاع كل حجاب بينهم و بين ربهم دون الرؤية
البصرية التي لا تتحقق إلا بمقارنة الجهات و الأبعاد فإنها مستحيلة في حقه تعالى.
و في اعتقادات الصدوق، قال (عليه السلام) : من أصغى إلى ناطق فقد عبده فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، و إن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس.
و في الكافي، بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: و ليست تشهد الجوارح على مؤمن إنما تشهد على من حقت عليه كلمة العذاب فأما المؤمن فيعطى كتابه بيمينه قال الله عز و جل ﴿فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتَابَهُمْ وَ لاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ الإسراء: - ٧١.
و في تفسير العياشي، عن مسعد بن صدقة عن جعفر بن محمد عن جده قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة يصف هول يوم القيامة: ختم الله على الأفواه فلا تكلم و تكلمت الأيدي و شهدت الأرجل و نطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون الله حديثا.
أقول: و في هذا المعنى روايات أخر يأتي بعضها في ذيل تفسير قوله تعالى﴿ شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصَارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ﴾ الآية: حم السجدة: - ٢٠، و تقدم بعضها في الكلام على قوله﴿إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ﴾الإسراء: - ٣٦.
[سورة يس (٣٦): الآیات ٦٦ الی ٨٣]
﴿وَ لَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلىَ أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا اَلصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ٦٦ وَ لَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلىَ مَكَانَتِهِمْ فَمَا اِسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَ لاَ يَرْجِعُونَ ٦٧ وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي اَلْخَلْقِ أَ فَلاَ يَعْقِلُونَ ٦٨ وَ مَا عَلَّمْنَاهُ اَلشِّعْرَ وَ مَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ ٦٩ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ اَلْقَوْلُ
عَلَى اَلْكَافِرِينَ ٧٠ أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ٧١ وَ ذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَ مِنْهَا يَأْكُلُونَ ٧٢ وَ لَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَ مَشَارِبُ أَ فَلاَ يَشْكُرُونَ ٧٣ وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ٧٤ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَ هُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ٧٥ فَلاَ يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَ مَا يُعْلِنُونَ ٧٦ أَ وَ لَمْ يَرَ اَلْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ٧٧ وَ ضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ اَلْعِظَامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ ٧٨ قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ٧٩ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلشَّجَرِ اَلْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ٨٠ أَ وَ لَيْسَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلىَ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلىَ وَ هُوَ اَلْخَلاَّقُ اَلْعَلِيمُ ٨١ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ٨٢ فَسُبْحَانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٨٣﴾
(بيان)
بيان تلخيصي للمعاني السابقة في سياق آخر ففيه تهديد لهم بالعذاب، و الإشارة إلى أنه (ص) رسول و أن كتابه ذكر و قرآن و ليس بشاعر و لا كتابه بشعر، و الإشارة إلى خلق الأنعام آية للتوحيد، و الاحتجاج على الميعاد.
قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلىَ أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا اَلصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ﴾ قال في مجمع البيان،: الطمس محو الشيء حتى يذهب أثره فالطمس على العين كالطمس على الكتاب و مثله الطمس على المال و هو إذهابه حتى لا يقع عليه إدراك، و أعمى مطموس و طميس و هو أن يذهب الشق الذي بين الجفنين، انتهى.
فقوله: ﴿وَ لَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلىَ أَعْيُنِهِمْ﴾ أي لو أردنا لأذهبنا أعينهم فصارت ممسوحة لا أثر منها فذهبت به أبصارهم و بطل أبصارهم.
و قوله: ﴿فَاسْتَبَقُوا اَلصِّرَاطَ﴾ أي أرادوا السبق إلى الطريق الواضح الذي لا يخطئ قاصده و لا يظل سالكه فلم يبصروه و لن يبصروه فالاستبعاد المفهوم من قوله: ﴿فَأَنَّى يُبْصِرُونَ﴾ كناية عن الامتناع.
و قول بعضهم: إن المراد باستباق الصراط مبادرتهم إلى سلوك طريق الحق و عدم اهتدائهم إليها، لا يخلو من بعد.
قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلىَ مَكَانَتِهِمْ فَمَا اِسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ قال في المجمع،: و المسخ قلب الصورة إلى خلقة مشوهة كما مسخ قوم قردة و خنازير و قال:
و المكانة و المكان واحد. انتهى. و المراد بمسخهم على مكانتهم تشوية خلقهم و هم قعود في مكانهم الذي هم فيه من غير أن يغيرهم عن حالهم بعلاج و تكلف بل بمجرد المشية فهو كناية عن كونه هينا سهلا عليه تعالى من غير أي صعوبة.
و قوله: ﴿فَمَا اِسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ أي مضيا في العذاب و لا يرجعون إلى حالهم قبل العذاب و المسخ فالمضي و الرجوع كنايتان عن الرجوع إلى حال السلامة و البقاء على حال العذاب و المسخ.
و قيل: المراد مضيهم نحو مقاصدهم و رجوعهم إلى منازلهم و أهليهم و لا يخلو من بعد.
قوله تعالى: ﴿وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي اَلْخَلْقِ أَ فَلاَ يَعْقِلُونَ﴾ التعمير التطويل في العمر، و التنكيس تقليب الشيء بحيث يعود أعلاه أسفله و يتبدل قوته ضعفا و زيادته نقصا و الإنسان في عهد الهرم منكس الخلق يتبدل قوته ضعفا و علمه جهلا و ذكره نسيانا.
و الآية في مقام الاستشهاد بتنكيس الخلق على إمكان مضمون الآيتين السابقتين و المراد أن الذي ينكس خلق الإنسان إذا عمره قادر على أن يطمس على أعينهم و على أن يمسخهم على مكانتهم.
و في قوله: ﴿أَ فَلاَ يَعْقِلُونَ﴾ توبيخهم على عدم التعقل و حثهم على التدبر في هذه الأمور و الاعتبار بها.
قوله تعالى: ﴿وَ مَا عَلَّمْنَاهُ اَلشِّعْرَ وَ مَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ﴾ عطف و رجوع إلى ما تقدم في صدر السورة من تصديق رسالة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و كون كتابه تنزيلا من عنده تعالى.
فقوله: ﴿وَ مَا عَلَّمْنَاهُ اَلشِّعْرَ﴾ نفى أن يكون علمه الشعر و لازمه أن يكون بحيث لا يحسن قول الشعر لا أن يحسنه و يمتنع من قوله للنهي من الله متوجه إليه، و لا أن النازل من القرآن ليس بشعر و إن أمكنه (ص) أن يقوله.
و به يظهر أن قوله: ﴿وَ مَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ في مقام الامتنان عليه بأنه نزهه عن أن يقول شعرا فالجملة في مقام دفع الدخل و المحصل أن عدم تعليمنا إياه الشعر ليس يوجب نقصا فيه و لا أنه تعجيز له بل لرفع درجته و تنزيه ساحته عما يتعاوره العارف بصناعة الشعر فيقع في معرض تزيين المعاني بالتخيلات الشعرية الكاذبة التي كلما أمعن فيها كان الكلام أوقع في النفس، و تنظيم الكلام بأوزان موسيقية ليكون أوقع في السمع، فلا ينبغي له (ص) أن يقول الشعر و هو رسول من الله و آية رسالته و متن دعوته القرآن المعجز في بيانه الذي هو ذكر و قرآن مبين.
و قوله: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ﴾ تفسير و توضيح لقوله: ﴿وَ مَا عَلَّمْنَاهُ اَلشِّعْرَ وَ مَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ بما أن لازم معناه أن القرآن ليس بشعر فالحصر المستفاد من
قوله: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ﴾ إلخ من قصر القلب و المعنى ليس هو بشعر ما هو إلا ذكر و قرآن مبين.
و معنى كونه ذكرا و قرآنا أنه ذكر مقروء من الله ظاهر ذلك.
قوله تعالى: ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ اَلْقَوْلُ عَلَى اَلْكَافِرِينَ﴾ تعليل متعلق بقوله: ﴿وَ مَا عَلَّمْنَاهُ اَلشِّعْرَ﴾ و المعنى و لم نعلمه الشعر لينذر بالقرآن المنزه من أن يكون شعرا من كان حيا «إلخ» أو متعلق بقوله: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ﴾ إلخ و المعنى ليس ما يتلوه على الناس إلا ذكرا و قرآنا مبينا نزلناه إليه لينذر من كان حيا «إلخ» و مآل الوجهين واحد.
و الآية كما ترى تعد غاية إرسال الرسول و إنزال القرآن إنذار من كان حيا و هو كناية عن كونه يعقل الحق و يسمعه و حقيقة القول و وجوبه على الكافرين فمحاذاة الآية لما في صدر السورة من الآيات في هذا المعنى ظاهر.
قوله تعالى: ﴿أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ﴾ ذكر آية من آيات التوحيد تدل على ربوبيته تعالى و تدبيره للعالم الإنساني و هي نظيرة ما تقدم في ضمن آيات التوحيد السابقة من إحياء الأرض الميتة بإخراج الحب و الثمرات و تفجير العيون.
و المراد بكون الأنعام مما عملته أيديه تعالى عدم إشراكهم في خلقها و اختصاصه به تعالى فعمل الأيدي كناية عن الاختصاص.
و قوله: ﴿فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ﴾ تفريع على قوله: ﴿خَلَقْنَا لَهُمْ﴾ فإن المعنى خلقنا لأجلهم فهي مخلوقة لأجل الإنسان و لازمه اختصاصها به و ينتهي الاختصاص إلى الملك فإن الملك الاعتباري الذي في المجتمع من شعب الاختصاص.
و بذلك يظهر ما في قول بعضهم: إن في تفرع قوله: ﴿فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ﴾ على قوله: ﴿خَلَقْنَا لَهُمْ﴾ خفاء، و الظاهر تفرعها على مقدر و التقدير خلقناها لهم فهم لها مالكون، و أنت خبير بعدم خفاء تفرعها على ﴿خَلَقْنَا لَهُمْ﴾ و عدم الحاجة إلى تقدير.
و قيل: الملك بمعنى القدرة و القهر، و فيه أنه مفهوم من قوله بعد: ﴿وَ ذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ﴾ و التأسيس خير من التأكيد. ـ
قوله تعالى: ﴿وَ ذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَ مِنْهَا يَأْكُلُونَ﴾ تذليل الأنعام جعلها منقادة لهم غير عاصية و هو تسخيرها لهم، و الركوب بفتح الراء الحمولة كالإبل و البقر، و قوله: ﴿وَ مِنْهَا يَأْكُلُونَ﴾ أي من لحمها يأكلون.
قوله تعالى: ﴿وَ لَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَ مَشَارِبُ أَ فَلاَ يَشْكُرُونَ﴾ المراد بالمنافع ما ينتفعون به من شعرها و وبرها و جلودها و غير ذلك، و المشارب جمع مشرب مصدر ميمي بمعنى المفعول و المراد بها الألبان، و الكلام في معنى الشكر كالكلام فيما تقدم في قوله: ﴿وَ مَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَ فَلاَ يَشْكُرُونَ﴾.
و معنى الآيات الثلاث: أ و لم يعلموا أنا خلقنا لأجلهم و لتدبير أمر حياتهم الدنيا أنعاما من الإبل و البقر و الغنم فتفرع على ذلك أنهم مالكون لها ملكا يصحح لهم أنواع تصرفاتهم فيها من غير معارض، و ذللناها لهم بجعلها مسخرة لهم منقادة غير عاصية فمنها ركوبهم الذي يركبونه، و منها أي من لحومها يأكلون، و لهم فيها منافع ينتفعون بأشعارها و أوبارها و جلودها و مشروبات من ألبانها يشربونها أ فلا يشكرون الله على هذا التدبير الكامل الذي يكشف عن ربوبيته لهم؟ أ و لا يعبدونه شكرا لأنعمه؟.
قوله تعالى: ﴿وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ﴾ ضمائر الجمع للمشركين، و المراد بالآلهة الأصنام أو الشياطين و فراعنة البشر دون الملائكة المقربين و الأولياء من الإنسان لعدم ملاءمة ذيل الكلام: ﴿وَ هُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ﴾ لذلك.
و إنما اتخذوهم آلهة رجاء أن ينصروا من ناحيتهم لأن عامتهم تتخذ إلها زعما منهم أن تدبير أمره مفوض إلى من اتخذه إلها من خير أو شر فيعبده العابد منهم ليرضيه بعبادته فلا يسخط فيقطع النعمة أو يرسل النقمة.
قوله تعالى: ﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَ هُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ﴾ أي لا يستطيع هؤلاء الآلهة الذين اتخذوهم آلهة نصر هؤلاء المشركين لأنهم لا يملكون شيئا من خير أو شر.
و قوله: ﴿وَ هُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ﴾ الظاهر أن أول الضميرين للمشركين و ثانيهما للآلهة من دون الله و المراد أن المشركين جند للآلهة و ذلك أن من لوازم معنى الجندية التبعية و الملازمة و المشركون هم المعدودون أتباعا لآلهتهم مطيعين لهم دون العكس.
و المراد بالإحضار في قوله: ﴿مُحْضَرُونَ﴾ الإحضار للجزاء يوم القيامة قال تعالى﴿وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ اَلْجِنَّةِ نَسَباً وَ لَقَدْ عَلِمَتِ اَلْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ الصافات: - ١٥٨ و قال﴿وَ لَوْ لاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ اَلْمُحْضَرِينَ﴾ الصافات: - ٥٧. و محصل المعنى لا يستطيع الآلهة المتخذون نصر المشركين و هم أي المشركون لهم أي لآلهتهم أتباع مطيعون محضرون معهم يوم القيامة.
و أما قول القائل: إن المعنى أن المشركين جند لآلهتهم معدون للذب عنهم في الدنيا، أو إن المعنى و هم أي الآلهة لهم أي للمشركين جند محضرون لعذاب المشركين يوم القيامة لأنهم وقود النار التي يعذب بها المشركون، أو محضرون لعذابهم إظهارا لعجزهم عن النصر أو لإقناط المشركين عن شفاعتهم فهي معان رديئة.
قوله تعالى: ﴿فَلاَ يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَ مَا يُعْلِنُونَ﴾ الفاء لتفريع النهي عن الحزن على حقيقة اتخاذهم الآلهة من دون الله رجاء للنصر أي إذا كان هذا حقيقة حالهم أن الذين استنصروهم لا يستطيعون نصرهم أبدا و أنهم سيحضرون معهم للعذاب فلا يحزنك قولهم ما قالوا به من الشرك فإنا لسنا بغافلين عنهم حتى يعجزونا أو يفسدوا علينا بعض الأمر بل نعلم ما يسرون من أقوالهم و ما يعلنون، و في تركيب الآية بعض أقوال رديئة أضربنا عنه.
قوله تعالى: ﴿أَ وَ لَمْ يَرَ اَلْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ رجوع إلى ما تقدم من حديث البعث و الاحتجاج عليه إثر إنكارهم، و لا يبعد أن يكون بيانا تفصيليا لقولهم المشار إليه في قوله تعالى: ﴿فَلاَ يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ﴾ إلخ و المراد بالرؤية العلم القطعي أي أ و لم يعلم الإنسان علما قاطعا أنا خلقناه من نطفة، و تنكير نطفة للتحقير و الخصيم المصر على خصومته و جداله.
و الاستفهام للتعجب و المعنى من العجيب أن الإنسان يعلم أنا خلقناه من نطفة مهينة فيفاجئه أنه خصيم مجادل مبين.
قوله تعالى: ﴿وَ ضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ اَلْعِظَامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ﴾ الرميم البالي من العظام، و ﴿نَسِيَ خَلْقَهُ﴾ حال من فاعل ضرب، و قوله: ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِ اَلْعِظَامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ﴾ بيان للمثل الذي ضربه الإنسان، و لذلك جيء به مفصولا
من غير عطف لأن الكلام في معنى أن يقال: فما ذا ضرب مثلا؟ فقيل قال من يحيي العظام و هي رميم.
و المعنى و ضرب الإنسان لنا مثلا و قد نسي خلقه من نطفة لأول مرة، و لو كان ذاكره لم يضرب المثل الذي ضربه و هو قوله: «من يحيي العظام و هي بالية؟» لأنه كان يرد على نفسه و يجيب عن المثل الذي ضربه بخلقه الأول كما لقنه الله تعالى لنبيه (ص) جوابا عنه.
قوله تعالى: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ تلقين الجواب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .
الإنشاء هو الإيجاد الابتدائي و تقييده بقوله ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ للتأكيد، و قوله:
﴿وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ إشارة إلى أنه تعالى لا ينسى و لا يجهل شيئا من خلقه فإذا كان هو خالق هذه العظام لأول مرة و هو لا يجهل شيئا مما كانت عليه قبل الموت و بعده فإحياؤه ثانيا بمكان من الإمكان لثبوت القدرة و انتفاء الجهل و النسيان.
قوله تعالى: ﴿اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلشَّجَرِ اَلْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ﴾ بيان لقوله: ﴿اَلَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ و الإيقاد إشعال النار.
و الآية مسوقة لرفع استبعاد جعل الشيء الموات شيئا ذا حياة و الحياة و الموت متنافيان و الجواب أنه لا استبعاد فيه فإنه هو الذي جعل لكم من الشجر الأخضر الذي يقطر ماء نارا فإذا أنتم منه توقدون و تشعلون النار، و المراد به على المشهور بين المفسرين شجر[2]
المرخ و العفار كانوا يأخذون منهما على خضرتهما فيجعل العفار زندا أسفل و يجعل المرخ زندا أعلى فيسحق الأعلى على الأسفل فتنقدح النار بإذن الله فحصول الحي من الميت ليس بأعجب من انقداح النار من الشجرة الخضراء و هما متضادان.
قوله تعالى: ﴿أَ وَ لَيْسَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلىَ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلىَ وَ هُوَ اَلْخَلاَّقُ اَلْعَلِيمُ﴾ الاستفهام للإنكار و الآية بيان للحجة السابقة المذكورة في قوله
: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ إلخ. ببيان أقرب إلى الذهن و ذلك بتبديل إنشائهم أول مرة من خلق السماوات و الأرض الذي هو أكبر من خلق الإنسان كما قال تعالى﴿لَخَلْقُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ اَلنَّاسِ﴾ المؤمن: - ٥٧.
فالآية في معنى قولنا: و كيف يمكن أن يقال: إن الله الذي خلق عوالم السماوات و الأرض بما فيها من سعة الخلقة البديعة و عجيب النظام العام المتضمن لما لا يحصى من الأنظمة الجزئية المدهشة للعقول المحيرة للألباب و العالم الإنساني جزء يسير منها، لا يقدر أن يخلق مثل هؤلاء الناس، بلى و إنه خلاق عليم.
و المراد بمثلهم قيل: هم و أمثالهم و فيه أنه مغاير لمعنى مثل على ما يعرف من اللغة و العرف.
و قيل: المراد بمثلهم هم أنفسهم بنحو الكناية على حد قولهم: مثلك غني عن كذا أي أنت غني عنه، و فيه أنه لو كان كناية لصح التصريح به لكن لا وجه لقولنا: أ و ليس الذي خلق السماوات و الأرض بقادر على أن يخلقهم فإن الكلام في بعثهم لا في خلقهم و المشركون معترفون بأن خالقهم هو الله سبحانه.
و قيل: ضمير ﴿مِثْلَهُمْ﴾ للسماوات و الأرض فإنهما تشملان ما فيهما من العقلاء فأعيد إليهما ضمير العقلاء تغليبا فالمراد أن الله الخالق للعالم قادر على خلق مثله.
و فيه أن المقام مقام إثبات بعث الإنسان لا بعث السماوات و الأرض. على أن الكلام في الإعادة و خلق مثل الشيء ليس إعادة لعينه بل بالضرورة.
فالحق أن يقال: إن المراد بخلق مثلهم إعادتهم للجزاء بعد الموت كما يستفاد من كلام الطبرسي رحمه الله في مجمع البيان،.
بيانه أن الإنسان مركب من نفس و بدن، و البدن في هذه النشأة في معرض التحلل و التبدل دائما فهو لا يزال يتغير أجزاؤه و المركب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه فهو في كل آن غيره في الآن السابق بشخصه و شخصية الإنسان محفوظة بنفسه روحه المجردة المنزهة عن المادة و التغيرات الطارئة من قبلها المأمونة من الموت و الفساد.
و المتحصل من كلامه تعالى أن النفس لا تموت بموت البدن و أنها محفوظة حتى ترجع
إلى الله سبحانه كما تقدم استفادته من قوله تعالى﴿وَ قَالُوا أَ إِذَا ضَلَلْنَا فِي اَلْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلىَ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ الم السجدة: - ١١.
فالبدن اللاحق من الإنسان إذا اعتبر بالقياس إلى البدن السابق منه كان مثله لا عينه لكن الإنسان ذا البدن اللاحق إذا قيس إلى الإنسان ذي البدن السابق كان عينه لا مثله لأن الشخصية بالنفس و هي واحدة بعينها.
و لما كان استبعاد المشركين في قولهم: ﴿مَنْ يُحْيِ اَلْعِظَامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ﴾ راجعا إلى خلق البدن الجديد دون النفس أجاب سبحانه بإثبات إمكان خلق مثلهم و أما عودهم بأعيانهم فهو إنما يتم بتعلق النفوس و الأرواح المحفوظة عند الله بالأبدان المخلوقة جديدا، فيكون الأشخاص الموجودين في الدنيا من الناس بأعيانهم كما قال تعالى﴿أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللَّهَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلىَ أَنْ يُحْيِيَ اَلْمَوْتىَ﴾ الأحقاف - ٣٣ فعلق الإحياء على الموتى بأعيانهم فقال: ﴿عَلىَ أَنْ يُحْيِيَ اَلْمَوْتىَ﴾ و لم يقل: على أن يحيي أمثال الموتى.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ الآية من غرر الآيات القرآنية تصف كلمة الإيجاد و تبين أنه تعالى لا يحتاج في إيجاد شيء مما أراده إلى ما وراء ذاته المتعالية من سبب يوجد له ما أراده أو يعينه في إيجاده أو يدفع عنه مانعا يمنعه.
و قد اختلف تعبيره تعالى عن هذه الحقيقة في كلامه فقال﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ النحل: - ٤٠، و قال﴿وَ إِذَا قَضىَ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ البقرة: - ١١٧.
فقوله: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ﴾ الظاهر أن المراد بالأمر الشأن، و قوله في آية النحل المنقولة آنفا: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ﴾ إن كان يؤيد كون الأمر بمعنى القول و هو الأمر اللفظي بلفظة كن إلا أن التدبر في الآيات يعطي أن الغرض فيها وصف الشأن الإلهي عند إرادة خلق شيء من الأشياء لا بيان أن قوله تعالى عند خلق شيء من الأشياء هذا القول دون غيره، فالوجه حمل القول على الأمر بمعنى الشأن بمعنى أنه جيء به لكونه
مصداقا للشأن لا حمل الأمر على القول بمعنى ما يقابل النهي.
و قوله: ﴿إِذَا أَرَادَ شَيْئاً﴾ أي إذا أراد إيجاد شيء كما يعطيه سياق الآية و قد ورد في عدة من الآيات القضاء مكان الإرادة كقوله: ﴿إِذَا قَضىَ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[3] و لا ضير فالقضاء هو الحكم و القضاء و الحكم و الإرادة من الله شيء واحد و هو كون[4] الشيء الموجود بحيث ليس له من الله سبحانه إلا أن يوجد فمعنى إذا أردناه إذا أوقفناه موقف تعلق الإرادة.
و قوله: ﴿أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ﴾ خبر إنما أمره أي يخاطبه بكلمة كن و من المعلوم أن ليس هناك لفظ يتلفظ به و إلا احتاج في وجوده إلى لفظ آخر و هلم جرا فيتسلسل و لا أن هناك مخاطبا ذا سمع يسمع الخطاب فيوجد به لأدائه إلى الخلف فالكلام تمثيل لإفاضته تعالى وجود الشيء من غير حاجة إلى شيء آخر وراء ذاته المتعالية و من غير تخلف و لا مهل.
و به يظهر فساد ما ذكره بعضهم حيث قال: الظاهر أن هناك قولا لفظيا هو لفظ كن و إليه ذهب معظم السلف و شئون الله تعالى وراء ما تصل إليه الأفهام فدع عنك الكلام و الخصام. انتهى.
و ذلك أن ما ذكره من كون شئونه تعالى وراء طور الأفهام لو أبطل الحجة العقلية القطعية بطلت بذلك المعارف الدينية من أصلها فصحة الكتاب مثلا بما يفيده من المعارف الحقيقية إنما تثبت بالحجة العقلية فلو بطلت الحجة العقلية بكتاب أو سنة أو شيء آخر مما يثبت هو بها لكان ذلك الدليل المبطل مبطلا لنفسه أولا فلا تزل قدم بعد ثبوتها.
و من المعلوم أن ليس هناك إلا الله عز اسمه و الشيء الذي يوجد لا ثالث بينهما و إسناد العلية و السببية إلى إرادته دونه تعالى و الإرادة صفة فعلية منتزعة من مقام الفعل كما تقدم يستلزم انقطاع حاجة الأشياء إليه تعالى من رأس لاستيجابه استغناء الأشياء بصفة منتزعة منها عنه تعالى و تقدس.
و من المعلوم أن ليس هناك أمر ينفصل عنه تعالى يسمى إيجادا و وجودا ثم يتصل بالشيء فيصير به موجودا و هو ظاهر فليس بعده تعالى إلا وجود الشيء فحسب.
و من هنا يظهر أن كلمة الإيجاد و هي كلمة كن هي وجود الشيء الذي أوجده لكن بما أنه منتسب إليه قائم به و أما من حيث انتسابه إلى نفسه فهو موجود لا إيجاد و مخلوق لا خلق.
و يظهر أيضا أن الذي يفيض منه تعالى لا يقبل مهلة و لا نظرة و لا يتحمل تبدلا و لا تغيرا، و لا يتلبس بتدريج و ما يتراءى في الخلق من هذه الأمور إنما يتأتى في الأشياء في ناحية نفسها لا من الجهة التي تلي ربها سبحانه و هذا باب ينفتح منه ألف باب.
و في الآيات للتلويح إلى هذه الحقائق إشارات لطيفة كقوله تعالى﴿كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ آل عمران: - ٥٩، و قوله تعالى﴿وَ مَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ القمر: ٥٠، و قوله تعالى﴿وَ كَانَ أَمْرُ اَللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً﴾ الأحزاب: - ٣٨ إلى غير ذلك.
و قوله في آخر الآية: ﴿فَيَكُونُ﴾ بيان لطاعة الشيء المراد له تعالى و امتثاله لأمر ﴿كُنْ﴾ و لبسه الوجود.
قوله تعالى: ﴿فَسُبْحَانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ الملكوت مبالغة في معنى الملك كالرحموت و الرهبوت في معنى الرحمة و الرهبة.
و انضمام الآية إلى ما قبلها يعطي أن المراد بالملكوت الجهة التالية له تعالى من وجهي وجود الأشياء، و بالملك الجهة التالية للخلق أو الأعم الشامل للوجهين. و عليه يحمل قوله تعالى﴿وَ كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ﴾ الأنعام: - ٧٥. و قوله﴿أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ ﴾الأعراف: - ١٨٥: و قوله﴿قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ المؤمنون: - ٨٨.
و جعل الملكوت بيده تعالى للدلالة على أنه متسلط عليها لا نصيب فيها لغيره.
و مآل المعنى قوله: ﴿فَسُبْحَانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ تنزيهه تعالى عما استبعدوا منكرين للمعاد لغفلتهم عن أن ملكوت كل شيء بيده و في قبضته.
و قوله: ﴿وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ خطاب لعامة الناس من مؤمن و مشرك، و بيان لنتيجة البيان السابق بعد التنزيه.
(بحث روائي)
في تفسير القمي، ":في قوله تعالى: ﴿وَ مَا عَلَّمْنَاهُ اَلشِّعْرَ وَ مَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ الآية قال:
كانت قريش تقول: إن هذا الذي يقوله محمد شعر فرد الله عليهم فقال: ﴿وَ مَا عَلَّمْنَاهُ اَلشِّعْرَ وَ مَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ﴾ و لم يقل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) شعرا قط.
و في المجمع، روي عن الحسن :أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يتمثل بهذا البيت: كفى الإسلام و الشيب للمرء ناهيا فقال له أبو بكر: يا رسول الله إنما قال: كفى الشيب و الإسلام للمرء ناهيا و أشهد أنك رسول الله و ما علمك الله الشعر و ما ينبغي لك. و فيه، عن عائشة أنها قالت ":كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يتمثل ببيت أخي بني قيس:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا *** و يأتيك بالأخبار من لم تزود
فجعل يقول: و يأتيك من لم تزود بالأخبار فيقول أبو بكر: ليس هكذا يا رسول الله فيقول: إني لست بشاعر و لا ينبغي لي:.
أقول: و روي في الدر المنثور، الخبرين عن الحسن و عائشة كما رواه و روي في الدر المنثور غير ذلك مما تمثل به (ص).
و قال في المجمع، فأما قوله:
أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب
فقد قال قوم: إن هذا ليس بشعر، و قال آخرون: إنما هو اتفاق منه و ليس يقصد إلى شعر انتهى. و البيت منقول عنه (ص) و قد أكثروا من البحث فيه و طرح الرواية أهون من نفي كونه شعرا أو شعرا مقصودا إليه.
و فيه،: في قوله تعالى: ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا﴾ الآية و يجوز أن يكون المراد بمن كان حيا عاقلا: و روي ذلك عن علي (عليه السلام) .
و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) : في قوله تعالى:
﴿وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ ﴾ إلى قوله ﴿مُحْضَرُونَ﴾ يقول: لا تستطيع الآلهة لهم نصرا و هم للآلهة جند محضرون.
و عن تفسير العياشي، عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاء أبي بن خلف فأخذ عظما باليا من حائط ففته ثم قال: إذا كنا عظاما و رفاتا أ إنا لمبعوثون خلقا؟ فأنزل الله: ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِ اَلْعِظَامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾.:
أقول: و روي مثله في الدر المنثور، بطرق كثيرة عن ابن عباس و عروة بن الزبير و عن قتادة و السدي و عكرمة و روي أيضا عن ابن عباس" :أن القائل هو العاص بن وائل و بطريق آخر عنه أن القائل هو عبد الله بن أبي.
و في الإحتجاج،: في احتجاج أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) : قال السائل: أ فيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق؟ قال (ص): بل هو باق إلى وقت ينفخ في الصور فعند ذلك تبطل الأشياء و تنفى فلا حس و لا محسوس ثم أعيدت الأشياء كما بدأها مدبرها و ذلك أربعمائة سنة يسبت فيها الخلق و ذلك بين النفختين.
قال: و أنى له بالبعث و البدن قد بلي و الأعضاء قد تفرقت فعضو ببلدة تأكله سباعها و عضو بأخرى تمزقه هوامها و عضو قد صار ترابا يبنى به مع الطين في حائط.
قال (ص): إن الذي أنشأه من غير شيء و صوره على غير مثال كان سبق إليه قادر أن يعيده كما بدأه.
قال: أوضح لي ذلك. قال (ص): إن الروح مقيمة في مكانها روح المحسن في ضياء و فسحة، و روح المسيء في ضيق و ظلمة و البدن يصير ترابا كما منه خلق و ما تقذف به السباع و الهوام من أجوافها فما أكلته و مزقته كل ذلك في التراب محفوظ - عند من لا يعزب عنه مثقال ذرة في ظلمات الأرض و يعلم عدد الأشياء و وزنها و إن تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في التراب.
فإذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر النشور فتربو الأرض ثم تمخض مخض السقاء فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء و الزبد من اللبن إذا مخض
فيجتمع تراب كل قالب إلى قالبه فينتقل بإذن الله القادر إلى حيث الروح فتعود الصور بإذن المصور كهيئتها و يلج الروح فيها فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا.
و في نهج البلاغة،: يقول لما أراد كونه: كن فيكون، لا بصوت يقرع و لا نداء يسمع و إنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه و مثله لم يكن من قبل ذلك كائنا و لو كان قديما لكان إلها ثانيا.
و فيه،: يقول و لا يلفظ و يريد و لا يضمر.
و في الكافي، بإسناده عن صفوان بن يحيى قال.: قلت لأبي الحسن (عليه السلام) : أخبرني عن الإرادة من الله و من الخلق قال: فقال: الإرادة من الخلق الضمير و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، و أما من الله فإرادته إحداثه لا غير ذلك لأنه لا يروي و لا يهم و لا يتفكر، و هذه الصفات منفية عنه و هي صفات الخلق.
فإرادة الله الفعل لا غير ذلك يقول له: كن فيكون بلا لفظ و لا نطق بلسان و لا همة و لا تفكر و لا كيف لذلك كما أنه لا كيف له.
أقول: و الروايات عنهم (عليه السلام) في كون إرادته من صفات الفعل مستفيضة.
(٣٧) سورة الصافات مكية و هي مائة و اثنان و ثمانون آية (١٨٢)
[سورة الصافات (٣٧): الآیات ١ الی ١١]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ وَ اَلصَّافَّاتِ صَفًّا ١ فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً ٢ فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً ٣ إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ٤ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا وَ رَبُّ اَلْمَشَارِقِ ٥ إِنَّا زَيَّنَّا اَلسَّمَاءَ اَلدُّنْيَا بِزِينَةٍ اَلْكَوَاكِبِ ٦ وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ ٧ لاَ يَسَّمَّعُونَ إِلَى اَلْمَلَإِ اَلْأَعْلى وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ
جَانِبٍ ٨ دُحُوراً وَ لَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ٩ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ اَلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ١٠ فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لاَزِبٍ ١١﴾
(بيان)
في السورة احتجاج على التوحيد، و إنذار للمشركين و تبشير للمخلصين من المؤمنين، و بيان ما يئول إليه حال كل من الفريقين ثم ذكر عدة من عباده المؤمنين ممن من الله عليهم و قضى أن ينصرهم على عدوهم، و في خاتمة السورة ما هو بمنزلة محصل الغرض منها و هو تنزيهه و السلام على عباده المرسلين و تحميده تعالى فيما فعل و السورة مكية بشهادة سياقها.
قوله تعالى: ﴿وَ اَلصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً﴾ الصافات على ما قيل جمع صافة و هي جمع صاف، و المراد بها على أي حال الجماعة التي تصطف أفرادها و الزاجرات من الزجر و هو الصرف عن الشيء بالتخويف بذم أو عقاب و التاليات من التلاوة بمعنى القراءة.
و قد أقسم الله تعالى بهذه الطوائف الثلاث: الصافات و الزاجرات و التاليات و قد اختلفت كلماتهم في المراد بها:
فأما الصافات فقيل: إن المراد بها الملائكة تصف أنفسها في السماء صفوفا كصفوف المؤمنين في الصلاة، و قيل: إنها الملائكة تصف أجنحتها في الهواء إذا أرادت النزول إلى الأرض واقفة في انتظار أمر الله تعالى، و قيل: إنها الجماعة من المؤمنين يقومون في الصلاة أو في الجهاد مصطفين.
و أما الزاجرات فقيل: إنها الملائكة تزجر العباد عن المعاصي فيوصله الله إلى قلوب الناس في صورة الخطرات كما يوصل وساوس الشياطين، و قيل: إنها الملائكة الموكلة بالسحاب تزجرها و تسوقها إلى حيث أراد الله سبحانه، و قيل: هي زواجر
القرآن و هي آياته الناهية عن القبائح، و قيل: هم المؤمنون يرفعون أصواتهم بالقرآن عند قراءته فيزجرون الناس عن المنهيات.
و أما التاليات فقيل: هم الملائكة يتلون الوحي على النبي الموحى إليه، و قيل:
هي الملائكة تتلو الكتاب الذي كتبه الله و فيها ذكر الحوادث، و قيل: جماعة قراء القرآن يتلونه في الصلاة.
و يحتمل و الله العالم أن يكون المراد بالطوائف الثلاث المذكورة في الآيات طوائف الملائكة النازلين بالوحي المأمورين بتأمين الطريق و دفع الشياطين عن المداخلة فيه و إيصاله إلى النبي مطلقا أو خصوص محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) كما يستفاد من قوله تعالى﴿عَالِمُ اَلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلىَ غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ اِرْتَضىَ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَ أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ﴾ الجن: - ٢٨.
و عليه فالمعنى أقسم بالملائكة الذين يصفون في طريق الوحي صفا فبالذين يزجرون الشياطين و يمنعونهم عن المداخلة في الوحي فبالذين يتلون على النبي الذكر و هو مطلق الوحي أو خصوص القرآن كما يؤيده التعبير عنه بتلاوة الذكر.
و يؤيد ما ذكرنا وقوع حديث رمي الشياطين بالشهب بعد هذه الآيات، و كذا قوله بعد: ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا﴾ الآية كما سنشير إليه.
و لا ينافي ذلك إسناد النزول بالقرآن إلى جبرئيل وحده في قوله﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلىَ قَلْبِكَ﴾ البقرة: - ٩٧ و قوله﴿نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ عَلىَ قَلْبِكَ﴾ الشعراء: - ١٩٤ لأن الملائكة المذكورين أعوان جبرئيل فنزولهم به نزوله به و قد قال تعالى﴿فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾ عبس: - ١٦، و قال حكاية عنهم﴿وَ مَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾ مريم: - ٦٤، و قال﴿وَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ وَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ﴾ الصافات: - ١٦٦ و هذا كنسبة التوفي إلى الرسل من الملائكة في قوله﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ الأنعام: - ٦١ و إلى ملك الموت و هو رئيسهم في قوله﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ﴾السجدة: - ١١.
و لا ضير في التعبير عن الملائكة بلفظ الإناث: الصافات و الزاجرات و التاليات ـ
لأن موصوفها الجماعة، و التأنيث لفظي.
و هذه أول سورة في القرآن صدرت بالقسم و قد أقسم الله سبحانه في كلامه بكثير من خلقه كالسماء و الأرض و الشمس و القمر و النجم و الليل و النهار و الملائكة و الناس و البلاد و الأثمار، و ليس ذلك إلا لما فيها من الشرف باستناد خلقها إليه تعالى و هو قيومها المنبع لكل شرف و بهاء.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ﴾ الخطاب لعامة الناس و هو مقسم به، و هو كلام مسوق بدليل كما سيأتي.
قوله تعالى: ﴿رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا وَ رَبُّ اَلْمَشَارِقِ﴾ خبر بعد خبر لأن، أو خبر لمبتدإ محذوف و التقدير هو رب السماوات «إلخ» أو بدل من واحد.
و في سوق الأوصاف إشعار بعلة كون الإله واحدا كما أن خصوصية القسم مشعر بعلة كونه رب السماوات و الأرض و ما بينهما.
كأنه قيل إن إلهكم لواحد لأن الملاك في ألوهية الإله و هي كونه معبودا بالحق أن يكون ربا يدبر الأمر على ما تعترفون و هو سبحانه رب السماوات و الأرض و ما بينهما الذي يدبر أمرها و يتصرف في جميعها.
و كيف لا؟ و هو تعالى يوحي إلى نبيه فيتصرف في السماء و سكانها بإرسال ملائكة يصطفون بينها و بين الأرض و هناك مجال الشياطين فيزجرونهم و هو تصرف منه فيما بين السماء و الأرض و في الشياطين ثم يتلون الذكر على نبيه و فيه تكميل للناس و تربية لهم سواء صدقوا أم كذبوا ففي الوحي تصرف منه في السماوات و الأرض و ما بينهما فهو على وحدانيته رب الجميع المدبر لأمرها و الإله الواحد.
و قوله: ﴿وَ رَبُّ اَلْمَشَارِقِ﴾ أي مشارق الشمس باختلاف الفصول أو المراد مشارق مطلق النجوم أو مطلق المشارق، و في تخصيص المشارق بالذكر مناسبة لطلوع الوحي بملائكته من السماء و قد قال تعالى﴿وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ اَلْمُبِينِ﴾ التكوير - ٢٣، و قال﴿وَ هُوَ بِالْأُفُقِ اَلْأَعْلىَ﴾ النجم: - ٧.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا اَلسَّمَاءَ اَلدُّنْيَا بِزِينَةٍ اَلْكَوَاكِبِ﴾ المراد بالزينة ما يزين به،
و الكواكب بيان أو بدل من الزينة و قد تكرر حديث تزيين السماء الدنيا بزينة الكواكب في كلامه كقوله﴿وَ زَيَّنَّا اَلسَّمَاءَ اَلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾ حم السجدة: - ١٢ و قوله﴿:
«وَ لَقَدْ زَيَّنَّا اَلسَّمَاءَ اَلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾ الملك: - ٥، و قوله﴿أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى اَلسَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَ زَيَّنَّاهَا﴾ ق: - ٦.
و لا يخلو من ظهور في كون السماء الدنيا من السماوات السبع التي يذكرها القرآن هو عالم الكواكب فوق الأرض و إن وجهه بعضهم بما يوافق مقتضى الهيئة القديمة أو الجديدة.
قوله تعالى: ﴿وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ﴾ حفظا مفعول مطلق لفعل محذوف و التقدير و حفظناها حفظا من كل شيطان مارد، و المراد بالشيطان الشرير من الجن و المارد الخبيث العاري من الخير.
قوله تعالى: ﴿لاَ يَسَّمَّعُونَ إِلَى اَلْمَلَإِ اَلْأَعْلىَ وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ﴾ أصل ﴿لاَ يَسَّمَّعُونَ﴾ لا يتسمعون و التسمع الإصغاء، و هو كناية عن كونهم ممنوعين مدحورين و بهذه العناية صار وصفا لكل شيطان و لو كان بمعنى الإصغاء صريحا أفاد لغوا من الفعل إذ لو كانوا لا يصغون لم يكن وجه لقذفهم.
و الملأ من الناس الأشراف منهم الذين يملئون العيون، و الملأ الأعلى هم الذين يريد الشياطين التسمع إليهم و هم الملائكة الكرام الذين هم سكنة السماوات العلى على ما يدل عليه كلامه تعالى كقوله﴿لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً﴾ الإسراء: - ٩٥.
و قصدهم من التسمع إلى الملإ الأعلى الاطلاع على أخبار الغيب المستوردة عن هذا العالم الأرضي كالحوادث المستقبلة و الأسرار المكنونة كما يشير إليه قوله تعالى﴿وَ مَا تَنَزَّلَتْ بِهِ اَلشَّيَاطِينُ وَ مَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَ مَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ اَلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ﴾ الشعراء: - ٢١٢، و قوله حكاية عن الجن﴿وَ أَنَّا لَمَسْنَا اَلسَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ اَلْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً﴾ الجن: - ٩.
و قوله: ﴿وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ﴾ القذف الرمي و الجانب الجهة.
قوله تعالى: ﴿دُحُوراً وَ لَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ﴾ الدحور الطرد و الدفع، و هو مصدر بمعنى المفعول منصوب حالا أي مدحورين أو مفعول له أو مفعول مطلق، و الواصب الواجب اللازم.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَنْ خَطِفَ اَلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾ الخطفة الاختلاس و الاستلاب، و الشهاب ما يرى في الجو كالكوكب المنقض، و الثقوب الركوز و سمي الشهاب ثاقبا لأنه لا يخطئ هدفه و غرضه.
و المراد بالخطفة اختلاس السمع و قد عبر عنه في موضع آخر باستراق السمع قال تعالى﴿إِلاَّ مَنِ اِسْتَرَقَ اَلسَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ﴾ الحجر: - ١٨، و الاستثناء من ضمير الفاعل في قوله: ﴿لاَ يَسَّمَّعُونَ﴾ و جوز بعضهم كون الاستثناء منقطعا.
و معنى الآيات الخمس: أنا زينا السماء التي هي أقرب السماوات منكم أو السماء السفلى بزينة و هي الكواكب، و حفظناها حفظا من كل شيطان خبيث عار من الخير ممنوعين من الإصغاء إلى الملإ الأعلى للاطلاع إلى ما يلقون بين أنفسهم من أخبار الغيب و يرمون من كل جهة حال كونهم مطرودين و لهم عذاب لازم لا يفارقهم إلا من اختلس من أخبارهم الاختلاسة فأتبعه شهاب ثاقب لا يخطئ غرضه.
(كلام في معنى الشهب)
أورد المفسرون أنواعا من التوجيه لتصوير استراق السمع من الشياطين و رميهم بالشهب و هي مبنية على ما يسبق إلى الذهن من ظاهر الآيات و الأخبار أن هناك أفلاكا محيطة بالأرض تسكنها جماعات الملائكة و لها أبواب لا يلج فيها شيء إلا منها و أن في السماء الأولى جمعا من الملائكة بأيديهم الشهب يرصدون المسترقين للسمع من الشياطين فيقذفونهم بالشهب.
و قد اتضح اليوم اتضاح عيان بطلان هذه الآراء و يتفرع على ذلك بطلان الوجوه التي أوردوها في تفسير الشهب و هي وجوه كثيرة أودعوها في المطولات كالتفسير الكبير، للرازي و روح المعاني، للآلوسي و غيرهما.
و يحتمل و الله العالم أن هذه البيانات في كلامه تعالى من قبيل الأمثال المضروبة تصور بها الحقائق الخارجة عن الحس في صورة المحسوس لتقريبها من الحس و هو القائل عز و جل﴿وَ تِلْكَ اَلْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَ مَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ اَلْعَالِمُونَ﴾ العنكبوت: - ٤٣.
و هو كثير في كلامه تعالى و منه العرش و الكرسي و اللوح و الكتاب و قد تقدمت الإشارة إليها و سيجيء بعض منها.
و على هذا يكون المراد من السماء التي تسكنها الملائكة عالما ملكوتيا ذا أفق أعلى نسبته إلى هذا العالم المشهود نسبة السماء المحسوسة بأجرامها إلى الأرض، و المراد باقتراب الشياطين من السماء و استراقهم السمع و قذفهم بالشهب اقترابهم من عالم الملائكة للاطلاع على أسرار الخلقة و الحوادث المستقبلة و رميهم بما لا يطيقونه من نور الملكوت، أو كرتهم على الحق لتلبيسه و رمي الملائكة إياهم بالحق الذي يبطل أباطيلهم.
و إيراده تعالى قصة استراق الشياطين للسمع و رميهم بالشهب عقيب الإقسام بملائكة الوحي و حفظهم إياه عن مداخلة الشياطين لا يخلو من تأييد لما ذكرناه و الله أعلم.
(بيان)
قوله تعالى: ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لاَزِبٍ﴾ اللازب الملتزق بعضه ببعض بحيث يلزمه ما جاوره، و قال في مجمع البيان،: اللازب و اللازم بمعنى. انتهى.
و المراد بقوله: ﴿مَنْ خَلَقْنَا﴾ إما الملائكة المشار إليهم في الآيات السابقة و هم حفظة الوحي و رماة الشهب، و إما غير الناس من الخلق العظيم كالسماوات و الأرض و الملائكة، و التعبير بلفظ أولي العقل للتغليب.
و المعنى: فإذا كان الله هو رب السماوات و الأرض و ما بينهما و الملائكة فاسألهم أن يفتوا أ هم أشد خلقا أم غيرهم ممن خلقنا فهم أضعف خلقا لأنا خلقناهم من طين ملتزق فليسوا بمعجزين لنا.
(بحث روائي)
في تفسير القمي، ":في قوله تعالى: ﴿وَ اَلصَّافَّاتِ صَفًّا﴾ قال: الملائكة و الأنبياء.
و فيه، عن أبيه و يعقوب بن يزيد عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : إن هذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض. الحديث.
و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ﴿عَذَابٌ وَاصِبٌ﴾
أي دائم موجع قد وصل إلى قلوبهم.
و فيه، عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : في حديث المعراج: قال: فصعد جبرئيل و صعدت معه إلى سماء الدنيا و عليها ملك يقال له: إسماعيل و هو صاحب الخطفة التي قال الله عز و جل:
﴿إِلاَّ مَنْ خَطِفَ اَلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾ و تحته سبعون ألف ملك تحت كل ملك سبعون ألف ملك. الحديث.
أقول: و الروايات في هذا الباب كثيرة أوردنا بعضا منها في تفسير قوله تعالى﴿ إِلاَّ مَنِ اِسْتَرَقَ اَلسَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ﴾ الحجر: - ١٨ و سيأتي بعضها في تفسير سورتي الملك و الجن إن شاء الله تعالى.
و في نهج البلاغة،: ثم جمع سبحانه من حزن الأرض و سهلها و عذبها و سبخها تربة سنها بالماء حتى خلصت و لاطها بالبلة حتى لزبت.
[سورة الصافات (٣٧): الآیات ١٢ الی ٧٠]
﴿بَلْ عَجِبْتَ وَ يَسْخَرُونَ ١٢ وَ إِذَا ذُكِّرُوا لاَ يَذْكُرُونَ ١٣ وَ إِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ١٤ وَ قَالُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ ١٥ أَ إِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً وَ عِظَاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ١٦ أَ وَ آبَاؤُنَا اَلْأَوَّلُونَ ١٧ قُلْ نَعَمْ وَ أَنْتُمْ دَاخِرُونَ ١٨ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ ١٩ وَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ اَلدِّينِ ٢٠ هَذَا يَوْمُ اَلْفَصْلِ اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ٢١ اُحْشُرُوا اَلَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْوَاجَهُمْ وَ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ٢٢ مِنْ دُونِ اَللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِرَاطِ اَلْجَحِيمِ ٢٣ وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ
مَسْؤُلُونَ ٢٤ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ ٢٥ بَلْ هُمُ اَلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ٢٦ وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ٢٧ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اَلْيَمِينِ ٢٨ قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ٢٩ وَ مَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ ٣٠ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ ٣١ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ٣٢ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي اَلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ٣٣ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ٣٤ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ٣٥ وَ يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ٣٦ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَ صَدَّقَ اَلْمُرْسَلِينَ ٣٧ إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا اَلْعَذَابِ اَلْأَلِيمِ ٣٨ وَ مَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ٣٩ إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ ٤٠ أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ٤١ فَوَاكِهُ وَ هُمْ مُكْرَمُونَ ٤٢ فِي جَنَّاتِ اَلنَّعِيمِ ٤٣ عَلى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ٤٤ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ٤٥ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ٤٦ لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَ لاَ هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ ٤٧ وَ عِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ اَلطَّرْفِ
عِينٌ ٤٨ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ٤٩ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ٥٠ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ٥١ يَقُولُ أَ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُصَدِّقِينَ ٥٢ أَ إِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً وَ عِظَاماً أَ إِنَّا لَمَدِينُونَ ٥٣ قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ٥٤ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ اَلْجَحِيمِ ٥٥ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ٥٦ وَ لَوْ لاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ اَلْمُحْضَرِينَ ٥٧ أَ فَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ٥٨ إِلاَّ مَوْتَتَنَا اَلْأُولى وَ مَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ٥٩ إِنَّ هَذَا لَهُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ ٦٠ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ اَلْعَامِلُونَ ٦١ أَ ذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ اَلزَّقُّومِ ٦٢ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ٦٣ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ اَلْجَحِيمِ ٦٤ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُسُ اَلشَّيَاطِينِ ٦٥ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُنَ مِنْهَا اَلْبُطُونَ ٦٦ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ٦٧ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى اَلْجَحِيمِ ٦٨ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ ٦٩ فَهُمْ عَلى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ٧٠﴾
(بيان)
حكاية استهزائهم بآيات الله و بعض أقاويلهم المبنية على الكفر و إنكار المعاد و الرد عليهم بتقرير أمر البعث و ما يجري عليهم فيه من الشدة و ألوان العذاب و ما يكرم الله به عباده المخلصين من النعمة و الكرامة.
و فيها ذكر تخاصم أهل النار يوم القيامة، و ذكر محادثة بين أهل الجنة و أخرى بين بعضهم و بعض أهل النار.
قوله تعالى: ﴿بَلْ عَجِبْتَ وَ يَسْخَرُونَ وَ إِذَا ذُكِّرُوا لاَ يَذْكُرُونَ﴾ أي بل عجبت يا محمد من تكذيبهم إياك مع دعوتك إياهم إلى كلمة الحق، و هم يسخرون و يهزءون من تعجبك منهم أو من دعائك إياهم إلى الحق، و إذا ذكروا بآيات الله الدالة على التوحيد و دين الحق لا يذكرون و لا يتنبهون.
قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ﴾ في مجمع البيان،: سخر و استسخر بمعنى واحد. انتهى.
و المعنى: و إذا رأوا هؤلاء المشركون أية معجزة من آيات الله المعجزة كالقرآن و شق القمر يستهزءون بها.
قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ في إشارتهم إلى الآية بلفظة هذا إشعار منهم أنهم لا يفقهون منها إلا أنها شيء ما من غير زيادة و هو من أقوى الإهانة و الاستسخار.
قوله تعالى: ﴿أَ إِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً وَ عِظَاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَ وَ آبَاؤُنَا اَلْأَوَّلُونَ﴾ إنكار منهم للبعث مبني على الاستبعاد فمن المستبعد عند الوهم أن يموت الإنسان فيتلاشى بدنه و يعود ترابا و عظاما ثم يعود إلى صورته الأولى.
و من الدليل على أن الكلام مسوق لإفادة الاستبعاد تكرارهم الاستفهام الإنكاري
بالنسبة إلى آبائهم الأولين فإن استبعاد الوهم لبعثهم و قد انمحت رسومهم و لم يبق منهم إلا أحاديث أشد و أقوى من استبعاده بعثهم أنفسهم.
و لو كان إنكارهم البعث مبنيا على أنهم ينعدمون بالموت فتستحيل إعادتهم كان الحكم فيهم و في آبائهم على نهج واحد و لم يحتج إلى تجديد استفهام بالنسبة إلى آبائهم.
قوله تعالى: ﴿قُلْ نَعَمْ وَ أَنْتُمْ دَاخِرُونَ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ﴾ أمر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يجيبهم بأنهم مبعوثون.
و قوله: ﴿وَ أَنْتُمْ دَاخِرُونَ﴾ أي صاغرون مهانون أذلاء، و هذا في الحقيقة احتجاج بعموم القدرة و نفوذ الإرادة من غير مهلة، فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون و لذا عقبه بقوله: ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ﴾ و قد قال تعالى﴿ وَ لِلَّهِ غَيْبُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا أَمْرُ اَلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ اَلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اَللَّهَ عَلىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ النحل - ٧٧.
و قوله: ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ إلخ الفاء لإفادة التعليل و الجملة تعليل لقوله:
﴿وَ أَنْتُمْ دَاخِرُونَ﴾ و في التعبير بزجرة إشعار باستذلالهم.
قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ اَلدِّينِ هَذَا يَوْمُ اَلْفَصْلِ اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ معطوف على قوله: ﴿يَنْظُرُونَ﴾ المشعر بأنهم مبهوتون مدهوشون متفكرون ثم يتنبهون بكونه يوم البعث فيه الدين و الجزاء و هم يحذرون منه بما كفروا و كذبوا و لذا قالوا: يوم الدين، و لم يقولوا يوم البعث، و التعبير بالماضي لتحقق الوقوع.
و قوله: ﴿هَذَا يَوْمُ اَلْفَصْلِ اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ قيل هو كلام بعضهم لبعض و قيل: كلام الملائكة أو كلامه تعالى لهم، و يؤيده الآية التالية، و الفصل هو التمييز بين الشيئين و سمي يوم الفصل لكونه يوم التمييز بين الحق و الباطل بقضائه و حكمه تعالى أو التمييز بين المجرمين و المتقين قال تعالى﴿وَ اِمْتَازُوا اَلْيَوْمَ أَيُّهَا اَلْمُجْرِمُونَ﴾ يس: - ٥٩.
قوله تعالى: ﴿اُحْشُرُوا اَلَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْوَاجَهُمْ وَ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلىَ صِرَاطِ اَلْجَحِيمِ﴾ من كلامه تعالى للملائكة و المعنى و قلنا للملائكة: احشروهم و قيل: هو من كلام الملائكة بعضهم لبعض.
و الحشر على ما ذكره الراغب إخراج الجماعة عن مقرهم و إزعاجهم عنه إلى الحرب و نحوها.
و المراد بالذين ظلموا على ما يؤيده آخر الآية المشركون و لا كل المشركين بل المعاندون للحق الصادون عنه منهم قال تعالى﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى اَلظَّالِمِينَ اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ﴾ الأعراف: - ٤٤ ٤٥، و التعبير بالماضي في المقام يفيد فائدة الوصف فليس المراد بالذين ظلموا من تحقق منه ظلم ما و لو مرة واحدة بل تعريف لهم بحاصل ما اكتسبوا في حياتهم الدنيا كما لو قيل:
ما ذا فعل فلان في حياته فيقال ظلم، فالفعل يفيد فائدة الوصف، و في كلامه تعالى من ذلك شيء كثير كقوله تعالى﴿وَ سِيقَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى اَلْجَنَّةِ زُمَراً﴾ الزمر: - ٧٣: «و قوله ﴿وَ سِيقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلىَ جَهَنَّمَ زُمَراً﴾ الزمر: - ٧١ و قوله﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا اَلْحُسْنىَ وَ زِيَادَةٌ﴾ يونس - ٢٦.
و قوله: ﴿وَ أَزْوَاجَهُمْ﴾ الظاهر أن المراد به قرناؤهم من الشياطين قال تعالى﴿ وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ اَلرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴾ إلى أن قال ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ اَلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ اَلْقَرِينُ﴾ الزخرف: - ٣٨.
و قيل: المراد بالأزواج الأشباه و النظائر فأصحاب الزنا يحشرون مع أصحاب الزنا و أصحاب الخمر مع أصحاب الخمر و هكذا.
و فيه أن لازمه أن يراد بالذين ظلموا طائفة خاصة من أصحاب كل معصية و اللفظ لا يساعد عليه على أن ذيل الآية لا يناسبه.
و قيل: المراد بالأزواج نساؤهم الكافرات و هو ضعيف كسابقه.
و قوله: ﴿وَ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ﴾ الظاهر أن المراد به الأصنام التي يعبدونها نظرا إلى ظاهر لفظة ﴿مَا﴾ فالآية نظيرة قوله﴿إِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ الأنبياء: - ٩٨.
و يمكن أن يكون المراد بلفظة ﴿مَا﴾ ما يعم أولي العقل من المعبودين كالفراعنة و النماردة، و أما الملائكة المعبودون و المسيح (عليه السلام) فيخرجهم من العموم قوله
تعالى﴿إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنىَ أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ الأنبياء: - ١٠١.
و قوله: ﴿فَاهْدُوهُمْ إِلىَ صِرَاطِ اَلْجَحِيمِ﴾ الجحيم من أسماء جهنم في القرآن و هو من الجحمة بمعنى شدة تأجج النار على ما ذكره الراغب.
و المراد بهدايتهم إلى صراطها إيصالهم إليه و إيقاعهم فيه بالسوق، و قيل:
تسمية ذلك بالهداية من الاستهزاء، و قال في مجمع البيان،: إنما عبر عن ذلك بالهداية من حيث كان بدلا من الهداية إلى الجنة كقوله: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ من حيث إن هذه البشارة وقعت لهم بدلا من البشارة بالنعيم. انتهى.
قوله تعالى: ﴿وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ اَلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ﴾ قال في المجمع، يقال: وقفت أنا و وقفت غيري أي يعدي و لا يعدي - و بعض بني تميم يقول: أوقفت الدابة و الدار. انتهى.
فقوله: ﴿وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ﴾ أي احبسوهم لأنهم مسئولون أي حتى يسأل عنهم. و السياق يعطي أن هذا الأمر بالوقوف و السؤال إنما يقع في صراط الجحيم.
و اختلفت كلماتهم فيما هو السؤال عنه فقيل: يسألون عن قول لا إله إلا الله، و قيل: عن شرب الماء البارد استهزاء بهم، و قيل: عن ولاية علي (عليه السلام) .
و هذه الوجوه لو صحت فإنما تشير إلى مصاديق ما يسأل عنه و السياق يشهد أن السؤال هو ما يشتمل عليه قوله: ﴿مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ﴾ أي لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم تفعلونه في الدنيا فتستعينون به على حوائجكم و مقاصدكم، و ما يتلوه من قوله: ﴿بَلْ هُمُ اَلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ﴾ أي مسلمون لا يستكبرون يدل على أن المراد بقوله:
﴿مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ﴾ السؤال عن استكبارهم عن طاعة الحق كما كانوا يستكبرون في الدنيا.
فالسؤال عن عدم تناصرهم سؤال عن سبب الاستكبار الذي كانوا عليه في الدنيا فقد تبين به أن المسئول عنه هو كل حق أعرضوا عنه في الدنيا من اعتقاد حق أو عمل صالح استكبارا على الحق تظاهرا بالتناصر.
قوله تعالى: ﴿وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلىَ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ﴾ إلى قوله ﴿إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ﴾ تخاصم واقع بين الأتباع و المتبوعين يوم القيامة، و التعبير عنه بالتساؤل لأنه في معنى
سؤال بعضهم بعضا تلاوما و تعاتبا يقول التابعون لمتبوعيهم: لم أضللتمونا؟ فيقول المتبوعون: لم قبلتم منا و لا سلطان لنا عليكم؟.
فقوله: ﴿وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلىَ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ﴾ البعض الأول هم المعترضون و البعض الثاني المعترض عليهم كما يعطيه سياق التساؤل و تساؤلهم تخاصمهم.
و قوله: ﴿قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اَلْيَمِينِ﴾ أي من جهة الخير و السعادة فاستعمال اليمين فيها شائع كثير كقوله﴿وَ أَصْحَابُ اَلْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ اَلْيَمِينِ ﴾الواقعة: - ٢٧ و المعنى أنكم كنتم تأتوننا من جهة الخير و السعادة فتقطعون الطريق و تحولون بيننا و بين الخير و السعادة و تضلوننا.
و قيل: المراد باليمين الدين و هو قريب من الوجه السابق، و قيل: المراد باليمين القهر و القوة كما في قوله تعالى﴿فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ﴾ الصافات: - ٩٣ و لا يخلو من وجه نظرا إلى جواب المتبوعين.
و قوله: ﴿قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَ مَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ ﴾ إلى قوله ﴿غَاوِينَ﴾ جواب المتبوعين بتبرئة أنفسهم من إشقاء التابعين و أن جرمهم مستند إلى سوء اختيار أنفسهم.
فقالوا: بل لم تكونوا مؤمنين أي لم نكن نحن السبب الموجب لإجرامكم و هلاككم بخلوكم عن الإيمان بل لم تكونوا مؤمنين لا أنا جردناكم من الإيمان.
ثم قالوا: ﴿وَ مَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ﴾ و هو في معنى الجواب على فرض التسليم كأنه قيل: و لو فرض أنه كان لكم إيمان فما كان لنا عليكم من سلطان حتى نسلبه منكم و نجردكم منه. على أن سلطان المتبوعين إنما هو بالتابعين فهم الذين يعطونهم السلطة و القوة فيتسلطون عليهم أنفسهم.
ثم قالوا: ﴿بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ﴾ و الطغيان هو التجاوز عن الحد و هو إضراب عن قوله: ﴿لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ كأنه قيل: و لم يكن سبب هلاككم مجرد الخلو من الإيمان بل كنتم قوما طاغين كما كنا مستكبرين طاغين فتعاضدنا جميعا على ترك سبيل الرشد و اتخاذ سبيل الغي فحق علينا كلمة العذاب التي قضى بها الله سبحانه قال تعالى:
﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً﴾ النبأ: - ٢٢ و قال﴿فَأَمَّا مَنْ طَغىَ وَ آثَرَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا فَإِنَّ اَلْجَحِيمَ هِيَ اَلْمَأْوىَ﴾ النازعات: - ٣٩.
و لهذا المعنى عقب قوله: ﴿بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ﴾ بقوله: ﴿فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ﴾ أي لذائقون العذاب.
ثم قالوا: ﴿فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ﴾ و هو متفرع على ثبوت كلمة العذاب و آخر الأسباب لهلاكهم فإن الطغيان يستتبع الغواية ثم نار جهنم، قال تعالى لإبليس ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ الحجر: - ٤٣.
فكأنه قيل: فلما تلبستم بالطغيان حل بكم الغواية بأيدينا من غير سلطان لنا عليكم إلا اتباعكم لنا و اتصالكم بنا فسرى إليكم ما فينا من الصفة و هي الغواية فالغاوي لا يتأتى منه إلا الغواية و الإناء لا يترشح منه إلا ما فيه، و بالجملة إنكم لم تجبروا و لم تسلبوا الاختيار منذ بدأتم في سلوك سبيل الهلاك إلى أن وقعتم في ورطته و هي الغواية فحق عليكم القول.
قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي اَلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ﴾ إلى قوله ﴿يَسْتَكْبِرُونَ﴾ ضمير ﴿فَإِنَّهُمْ﴾ للتابعين و المتبوعين فهم مشتركون في العذاب لاشتراكهم في الظلم و تعاونهم على الجرم من غير مزية لبعضهم على بعض.
و استظهر بعضهم أن المغوين أشد عذابا و ذلك في مقابلة أوزارهم و أوزار أمثال أوزارهم فالشركة لا تقتضي المساواة و الحق أن الآيات مسوقة لبيان اشتراكهم في الظلم و الجرم و العذاب اللاحق بهم من قبله، و يمكن مع ذلك أن يلحق بكل من المتبوعين و التابعين ألوان من العذاب ناشئة عن خصوص شأنهم قال تعالى﴿وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَ أَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ العنكبوت: - ١٣، و قال﴿رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ اَلنَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَ لَكِنْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ الأعراف: - ٣٨.
و قوله: ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ﴾ تأكيد لتحقيق العذاب، و المراد بالمجرمين المشركون بدليل قوله بعد: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ أي إذا
عرض عليهم التوحيد أن يؤمنوا به أو كلمة الإخلاص أن يقولوها استمروا على استكبارهم و لم يقبلوا.
قوله تعالى: ﴿وَ يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَ صَدَّقَ اَلْمُرْسَلِينَ﴾ قولهم هذا إنكار منهم للرسالة بعد استكبارهم عن التوحيد و إنكارهم له.
و قوله: ﴿بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَ صَدَّقَ اَلْمُرْسَلِينَ﴾ رد لقولهم: ﴿لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾ حيث رموه (عليه السلام) بالشعر و الجنون و فيه رمي لكتاب الله بكونه شعرا و من هفوات الجنون فرد عليهم بأن ما جاء به حق و فيه تصديق الرسل السابقين فليس بباطل من القول كالشعر و هفوة الجنون و ليس ببدع غير مسبوق في معناه.
قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا اَلْعَذَابِ اَلْأَلِيمِ﴾ تهديد لهم بالعذاب لاستكبارهم و رميهم الحق بالباطل.
قوله تعالى: ﴿وَ مَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي لا ظلم فيه لأنه نفس عملكم يرد إليكم.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ ﴾ إلى قوله ﴿بَيْضٌ مَكْنُونٌ﴾ استثناء منقطع من ضمير ﴿لَذَائِقُوا﴾ أو من ضمير ﴿مَا تُجْزَوْنَ﴾ و لكل وجه و المعنى على الأول لكن عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم و ليسوا بذائقي العذاب الأليم و المعنى على الثاني لكن عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم وراء جزاء عملهم و سيجيء الإشارة إلى معناه.
و احتمال كون الاستثناء متصلا ضعيف لا يخلو من تكلف.
و قد سماهم الله سبحانه عباد الله المخلصين فأثبت لهم عبودية نفسه و العبد هو الذي لا يملك لنفسه شيئا من إرادة و لا عمل فهؤلاء لا يريدون إلا ما أراده الله و لا يعملون إلا له.
ثم أثبت لهم أنهم مخلصون بفتح اللام أي إن الله تعالى أخلصهم لنفسه فلا يشاركه فيهم أحد فلا تعلق لهم بشيء غيره تعالى من زينة الحياة الدنيا و لا من نعم العقبى و ليس في قلوبهم إلا الله سبحانه.
و من المعلوم أن من كانت هذه صفته كان التذاذه و تنعمه غير ما يلتذ و يتنعم غيره و ارتزاقه بغير ما يرتزق به سواه و إن شاركهم في ضروريات المأكل و المشرب و من هنا يتأيد أن المراد بقوله: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ﴾ الإشارة إلى أن رزقهم في الجنة و هم عباد مخلصون رزق خاص لا يشبه رزق غيرهم و لا يختلط بما يتمتع به من دونهم و إن اشتركا في الاسم.
فقوله: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ﴾ أي رزق خاص متعين ممتاز من رزق غيرهم فكونه معلوما كناية عن امتيازه كما في قوله﴿وَ مَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ﴾ الصافات: - ١٦٤ و الإشارة بلفظ البعيد للدلالة على علو مقامهم.
و أما ما فسره بعضهم أن المراد بكون رزقهم معلوما كونه معلوم الخصائص مثل كونه غير مقطوع و لا ممنوع حسن المنظر لذيذ الطعم طيب الرائحة، و كذا ما ذكره آخرون أن المراد أنه معلوم الوقت لقوله﴿وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا ﴾مريم: - ٦٢ و كذا قول القائل: إن المراد به الجنة فهي وجوه غير سديدة.
و من هنا يظهر أن أخذ قوله: ﴿إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ﴾ استثناء من ضمير ﴿وَ مَا تُجْزَوْنَ﴾ لا يخلو من وجه كما تقدمت الإشارة إليه.
و قوله: ﴿فَوَاكِهُ وَ هُمْ مُكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ اَلنَّعِيمِ﴾ الفواكه جمع فاكهة و هي ما يتفكه به من الأثمار بيان لرزقهم المعلوم غير أنه تعالى شفعه بقوله: ﴿وَ هُمْ مُكْرَمُونَ﴾ للدلالة على امتياز هذا الرزق أعني الفاكهة مما عند غيرهم بأنها مقارنة لإكرام خاص يخصهم قبال اختصاصهم بالله سبحانه و كونه لهم لا يشاركهم فيه شيء.
و في إضافة الجنات إلى النعيم إشارة إلى ذلك فقد تقدم في قوله﴿فَأُولَئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ الآية: النساء: - ٦٩، و قوله﴿وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ المائدة: - ٣ و غيرهما أن حقيقة النعمة هي الولاية و هي كونه تعالى هو القائم بأمر عبده.
و قوله: ﴿عَلىَ سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾ السرر جمع سرير و هو معروف و كونهم متقابلين معناه استئناس بعضهم ببعض و استمتاعهم بنظر بعضهم في وجه بعض من غير أن يرى بعضهم قفا بعض.
و قوله: ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ﴾ الكأس إناء الشراب و نقل عن كثير من اللغويين أن إناء الشراب لا يسمى كأسا إلا و فيه الشراب فإن خلا منه فهو قدح و المعين من الشراب الظاهر منه من عان الماء إذا ظهر و جرى على وجه الأرض، و المراد بكون الكأس من معين صفاء الشراب فيها و لذا عقبه بقوله: ﴿بَيْضَاءَ﴾.
و قوله: ﴿بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ﴾ أي صافية في بياضها لذيذة للشاربين فاللذة مصدر أريد به الوصف مبالغة أو هي مؤنث لذ بمعنى لذيذ كما قيل.
و قوله: ﴿لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَ لاَ هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ﴾ الغول الإضرار و الإفساد، قال الراغب: الغول إهلاك الشيء من حيث لا يحس به انتهى. فنفي الغول عن الخمر نفي مضارها و الإنزاف فسر بالسكر المذهب للعقل و أصله إذهاب الشيء تدريجا.
و محصل المعنى: أنه ليس فيها مضار الخمر التي في الدنيا و لا إسكارها بإذهاب العقل.
و قوله: ﴿وَ عِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ اَلطَّرْفِ عِينٌ﴾ وصف للحور التي يرزقونها و قصور طرفهن كناية عن نظرهن نظرة الغنج و الدلال و يؤيده ذكر العين بعده و هو جمع عيناء مؤنث أعين و هي الواسعة العين في جمال.
و قيل: المراد بقاصرات الطرف أنهن قصرن طرفهن على أزواجهن لا يردن غيرهم لحبهن لهم، و بالعين أن أعينهن شديدة في سوادها شديدة في بياضها.
و قوله: ﴿كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ﴾ البيض معروف و هو اسم جنس واحدته بيضة و المكنون هو المستور بالادخار قيل: المراد تشبيههن بالبيض الذي كنه الريش في العش أو غيره في غيره فلم تمسه الأيدي و لم يصبه الغبار، و قيل: المراد تشبيههن ببطن البيض قبل أن يقشر و قبل أن تمسه الأيدي.
قوله تعالى: ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلىَ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ﴾ إلى قوله ﴿فَلْيَعْمَلِ اَلْعَامِلُونَ﴾ حكاية محادثة تقع بين أهل الجنة فيسأل بعضهم عن أحوال بعض و يحدث بعضهم بما جرى عليه في الدنيا و تنتهي المحادثة إلى تكليمهم بعض أهل النار و هو في سواء الجحيم.
فقوله: ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلىَ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ﴾ ضمير الجمع لأهل الجنة من عباد الله
المخلصين و تساؤلهم كما تقدم سؤال بعضهم عن بعض و ما جرى عليه.
و قوله: ﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ﴾ أي قال قائل من أهل الجنة المتسائلين إني كان لي في الدنيا مصاحب يختص بي من الناس. كذا يعطي السياق.
و قيل: المراد بالقرين القرين من الشياطين و فيه أن القرآن إنما يثبت قرناء الشياطين في المعرضين عن ذكر الله و المخلصون في عصمة إلهية من قرين الشياطين و كذا من تأثير الشيطان فيهم كما حكى عن إبليس استثناءهم من الإغواء﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ﴾ ص: - ٨٣ نعم ربما أمكن أن يتعرض لهم الشيطان من غير تأثير فيهم لكنه غير أثر القرين.
و قوله: ﴿يَقُولُ أَ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُصَدِّقِينَ أَ إِذَا مِتْنَا وَ كُنَّا تُرَاباً وَ عِظَاماً أَ إِنَّا لَمَدِينُونَ﴾ ضمير ﴿يَقُولُ﴾ للقرين، و مفعول ﴿اَلْمُصَدِّقِينَ﴾ البعث للجزاء و قد قام مقامه قوله:
﴿أَ إِذَا مِتْنَا﴾ إلخ و المدينون المجزيون.
و المعنى: كأن يقول لي قريني مستبعدا منكرا أ إنك لمن المصدقين للبعث للجزاء أ إذا متنا و كنا ترابا و عظاما فتلاشت أبداننا و تغيرت صورها أ إنا لمجزيون بالإحياء و الإعادة؟ فهذا مما لا ينبغي أن يصدق.
و قوله: ﴿قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ﴾ ضمير ﴿قَالَ﴾ للقائل المذكور قبلا، و الاطلاع الإشراف و المعنى ثم قال القائل المذكور مخاطبا لمحادثيه من أهل الجنة: هل أنتم مشرفون على النار حتى تروا قريني و الحال التي هو فيها؟.
و قوله: ﴿فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ اَلْجَحِيمِ﴾ السواء الوسط و منه سواء الطريق أي وسطه و المعنى فأشرف القائل المذكور على النار فرآه أي قرينه في وسط الجحيم.
و قوله: ﴿قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ﴾ ﴿إِنْ﴾ مخففة من الثقيلة، و الإرداء السقوط من مكان عال كالشاهق و يكنى به عن الهلاك و المعنى أقسم بالله إنك قربت أن تهلكني و تسقطني فيما سقطت فيه من الجحيم.
و قوله: ﴿وَ لَوْ لاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ اَلْمُحْضَرِينَ﴾ المراد بالنعمة التوفيق و الهداية
الإلهية، و الإحضار الإشخاص للعذاب قال في مجمع البيان،: و لا يستعمل «أحضر» مطلقا إلا في الشر.
و المعنى و لو لا توفيق ربي و هدايته لكنت من المحضرين للعذاب مثلك.
و قوله: ﴿أَ فَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا اَلْأُولىَ وَ مَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ الاستفهام للتقرير و التعجيب، و المراد بالموتة الأولى هي الموتة عن الحياة الدنيا و أما الموتة عن البرزخ المدلول عليها بقوله﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اِثْنَتَيْنِ﴾ المؤمن: - ١١ فلم يعبأ بها لأن الموت الذي يزعم الزاعم فيه الفناء و البطلان هو الموت الدنيوي.
و المعنى على ما في الكلام من الحذف و الإيجاز ثم يرجع القائل المذكور إلى نفسه و أصحابه فيقول متعجبا أ نحن خالدون منعمون فما نحن بميتين إلا الموتة الأولى و ما نحن بمعذبين؟.
قال في مجمع البيان،: و يريدون به التحقيق لا الشك و إنما قالوا هذا القول لأن لهم في ذلك سرورا مجددا و فرحا مضاعفا و إن كان قد عرفوا أنهم سيخلدون في الجنة و هذا كما أن الرجل يعطى المال الكثير فيقول مستعجبا: كل هذا المال لي؟ و هو يعلم أن ذلك له و هذا كقوله:
أ بطحاء مكة هذا الذي أراه عيانا و هذا أنا؟
قال: و لهذا عقبه بقوله: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ﴾ انتهى.
و قوله: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ﴾ هو من تمام قول القائل المذكور و فيه إعظام لموهبة الخلود و ارتفاع العذاب و شكر للنعمة.
و قوله: ﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ اَلْعَامِلُونَ﴾ ظاهر السياق أنه من قول القائل المذكور و الإشارة بهذا إلى الفوز أو الثواب أي لمثل هذا الفوز أو الثواب فليعمل العاملون في دار التكليف، و قيل: هو من قول الله سبحانه و قيل: من قول أهل الجنة.
و اعلم أن لهم أقوالا مختلفة في نسبة أكثر الجمل السابقة إلى قول الله تعالى أو قول الملائكة أو قول أهل الجنة غير القائل المذكور و الذي أوردناه هو الذي يساعد عليه السياق.
قوله تعالى: ﴿أَ ذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ اَلزَّقُّومِ ﴾ إلى قوله ﴿يُهْرَعُونَ﴾ مقايسة بين ما هيأه الله نزلا لأهل الجنة مما وصفه من الرزق الكريم و بين ما أعده نزلا لأهل النار من شجرة الزقوم التي طلعها كأنه رءوس الشياطين و شراب من حميم.
فقوله: ﴿أَ ذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ اَلزَّقُّومِ﴾ الإشارة بذلك إلى الرزق الكريم المذكورة سابقا المعد لورود أهل الجنة و النزل بضمتين ما يهيأ لورود الضيف فيقدم إليه إذا ورد من الفواكه و نحوها.
و الزقوم - على ما قيل - اسم شجرة صغيرة الورق مرة كريهة الرائحة ذات لبن إذا أصاب جسد إنسان تورم تكون في تهامة و البلاد المجدبة المجاورة للصحراء سميت به الشجرة الموصوفة بما في الآية من الأوصاف، و قيل: إن قريشا ما كانت تعرفه و سيأتي ذلك في البحث الروائي.
و لفظة خير في الآية بمعنى الوصف دون التفضيل إذ لا خيرية في الزقوم أصلا فهو كقوله﴿مَا عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اَللَّهْوِ﴾ الجمعة: - ١١ و الآية على ما يعطيه السياق من كلامه تعالى.
و قوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ﴾ الضمير لشجرة الزقوم، و الفتنة المحنة و العذاب.
و قوله: ﴿إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ اَلْجَحِيمِ﴾ وصف لشجرة الزقوم، و أصل الجحيم قعرها، و لا عجب في نبات شجرة في النار و بقائها فيها فحياة الإنسان و بقاؤه خالدا فيها أعجب و الله يفعل ما يشاء.
و قوله: ﴿طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُسُ اَلشَّيَاطِينِ﴾ الطلع حمل النخلة أو مطلق الشجرة أول ما يبدو، و تشبيه ثمرة الزقوم برءوس الشياطين بعناية أن الأوهام العامية تصور الشيطان في أقبح صورة كما تصور الملك في أحسن صورة و أجملها قال تعالى﴿مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ يوسف: - ٣١، و بذلك يندفع ما قيل: إن الشيء إنما يشبه بما يعرف و لا معرفة لأحد برءوس الشياطين.
و قوله: ﴿فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُنَ مِنْهَا اَلْبُطُونَ﴾ الفاء للتعليل يبين به كونها نزلا للظالمين يأكلون منها، و في قوله: ﴿فَمَالِؤُنَ مِنْهَا اَلْبُطُونَ﴾ إشارة إلى تسلط جوع
شديد عليهم يحرصون به على الأكل كيفما كان.
و قوله: ﴿ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ﴾ الشوب المزيج و الخليط، و الحميم الماء الحار البالغ في حرارته، و المعنى ثم إن لأولئك الظالمين زيادة عليها لخليطا مزيجا من ماء حار بالغ الحرارة يشربونه فيختلط به ما ملئوا منه البطون من الزقوم.
و قوله: ﴿ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى اَلْجَحِيمِ﴾ أي إنهم بعد شرب الحميم يرجعون إلى الجحيم فيستقرون فيها و يعذبون، و في الآية تلويح إلى أن الحميم خارج الجحيم.
و قوله: ﴿إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلىَ آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ﴾ ألفيت كذا أي وجدته و صادفته، و الإهراع الإسراع و المعنى أن سبب أكلهم و شربهم ثم رجوعهم إلى الجحيم أنهم صادفوا آباءهم ضالين و هم مقلدون و أتباع لهم و هم أصلهم و مرجعهم فهم يسرعون على آثارهم فجوزوا بنزل كذلك و الرجوع إلى الجحيم جزاء وفاقا.
(بحث روائي)
في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن ابن جريح: في قوله تعالى: ﴿بَلْ عَجِبْتَ﴾ قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : عجبت بالقرآن حين أنزل و يسخر منه ضلال بني آدم.
و في تفسير القمي، ":في قوله تعالى: ﴿اُحْشُرُوا اَلَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ قال: الذين ظلموا آل محمد (عليه السلام) حقهم ﴿وَ أَزْوَاجَهُمْ﴾ قال: أشباههم.
أقول: صدر الرواية من الجري.
و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ﴾ قيل: عن ولاية علي (عليه السلام) عن أبي سعيد الخدري.:
أقول: و رواه الشيخ في الأمالي، بإسناده إلى أنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و في العيون، عن علي و عن الرضا (عليه السلام) عنه (ص)، و في تفسير القمي، عن الإمام (عليه السلام) .
و في الخصال، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : لا تزول قدم
عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، و شبابه فيما أبلاه، و عن ماله من أين كسبه و فيما أنفقه، و عن حبنا أهل البيت.:
أقول: و روي في العلل عنه (ص) مثله. و في نهج البلاغة،: اتقوا الله في عباده و بلاده فإنكم مسئولون حتى عن البقاع و البهائم. و في الدر المنثور، أخرج البخاري في تأريخه و الترمذي و الدارمي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و ابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : ما من داع دعا إلى شيء إلا كان موقوفا يوم القيامة لازما به لا يفارقه و إن دعا رجل رجلا ثم قرأ ﴿وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ﴾.
و في روضة الكافي، بإسناده عن محمد بن إسحاق المدني عن أبي جعفر (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في حديث: و أما قوله: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ﴾ قال: يعلمه[5] الخدام فيأتون به إلى أولياء الله قبل أن يسألوهم إياه. أما قوله: ﴿فَوَاكِهُ وَ هُمْ مُكْرَمُونَ﴾ قال: فإنهم لا يشتهون شيئا في الجنة إلا أكرموا به.
و في تفسير القمي، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) : ﴿فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ اَلْجَحِيمِ﴾ يقول: في وسط الجحيم.
و فيه،: في قوله تعالى: ﴿أَ فَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ﴾: إلخ بإسناده عن أبيه عن علي بن مهزيار و الحسن بن محبوب عن النضر بن سويد عن درست عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة و أهل النار النارجيء بالموت و يذبح كالكبش بين الجنة و النار ثم يقال: خلود فلا موت أبدا فيقول أهل الجنة: ﴿أَ فَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا اَلْأُولى وَ مَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ اَلْعَامِلُونَ﴾.
أقول: و حديث ذبح الموت في صورة كبش يوم القيامة من المشهورات رواه الشيعة و أهل السنة، و هو تمثل الخلود يومئذ.
و في المجمع،" :في قوله تعالى: ﴿شَجَرَةُ اَلزَّقُّومِ﴾ روي أن قريشا لما سمعت هذه
الآية قالت: ما نعرف هذه الشجرة قال ابن الزبعري: الزقوم بكلام البربر التمر و الزبد و في رواية بلغة اليمن فقال أبو جهل لجاريته: يا جارية زقمينا فأتته الجارية بتمر و زبد فقال لأصحابه: تزقموا بهذا الذي يخوفكم به محمد فيزعم أن النار تنبت الشجر و النار تحرق الشجر فأنزل الله سبحانه ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ﴾.
أقول: و هذا المعنى مروي بطرق عديدة.
[سورة الصافات (٣٧): الآیات ٧١ الی ١١٣]
﴿وَ لَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ اَلْأَوَّلِينَ ٧١ وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ ٧٢ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلْمُنْذَرِينَ ٧٣ إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ ٧٤ وَ لَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ اَلْمُجِيبُونَ ٧٥ وَ نَجَّيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ ٧٦ وَ جَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ اَلْبَاقِينَ ٧٧ وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ ٧٨ سَلاَمٌ عَلى نُوحٍ فِي اَلْعَالَمِينَ ٧٩ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ ٨٠ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ ٨١ ثُمَّ أَغْرَقْنَا اَلْآخَرِينَ ٨٢ وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ٨٣ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ٨٤ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ مَا ذَا تَعْبُدُونَ ٨٥ أَ إِفْكاً آلِهَةً دُونَ اَللَّهِ تُرِيدُونَ ٨٦ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ ٨٧ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي اَلنُّجُومِ ٨٨ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ٨٩ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ٩٠ فَرَاغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَ لاَ تَأْكُلُونَ ٩١﴾
﴿مَا لَكُمْ لاَ تَنْطِقُونَ ٩٢ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ ٩٣ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ٩٤ قَالَ أَ تَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ٩٥ وَ اَللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ ٩٦ قَالُوا اِبْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي اَلْجَحِيمِ ٩٧ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ اَلْأَسْفَلِينَ ٩٨ وَ قَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ ٩٩ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ اَلصَّالِحِينَ ١٠٠ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ ١٠١ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ اَلسَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي اَلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَا ذَا تَرى قَالَ يَا أَبَتِ اِفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اَللَّهُ مِنَ اَلصَّابِرِينَ ١٠٢ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ ١٠٣ وَ نَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ١٠٤ قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ ١٠٥ إِنَّ هَذَا لَهُوَ اَلْبَلاَءُ اَلْمُبِينُ ١٠٦ وَ فَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ١٠٧ وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ ١٠٨ سَلاَمٌ عَلى إِبْرَاهِيمَ ١٠٩ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ ١١٠ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ ١١١ وَ بَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ اَلصَّالِحِينَ ١١٢ وَ بَارَكْنَا عَلَيْهِ وَ عَلى إِسْحَاقَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ١١٣﴾
(بيان)
تعقيب لغرض السياق السابق المتعرض لشركهم و تكذيبهم بآيات الله و تهديدهم بأليم العذاب يقول: إن أكثر الأولين ضلوا كضلالهم و كذبوا الرسل المنذرين كتكذيبهم و يستشهد بقصص نوح و إبراهيم و موسى و هارون و إلياس و لوط و يونس (عليه السلام) و ما في الآيات المنقولة إشارة إلى قصة نوح و خلاصة قصص إبراهيم (عليه السلام) .
قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ اَلْأَوَّلِينَ ﴾ إلى قوله ﴿اَلْمُخْلَصِينَ﴾ كلام مسوق لإنذار مشركي هذه الأمة بتنظيرهم للأمم الهالكين من قبلهم فقد ضل أكثرهم كما ضل هؤلاء و أرسل إليهم رسل منذرون كما أرسل منذر إلى هؤلاء فكذبوا فكان عاقبة أمرهم الهلاك إلا المخلصين منهم.
و اللام في ﴿لَقَدْ ضَلَّ﴾ للقسم و كذا في ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا﴾ و المنذرين الأول بكسر الذال المعجمة و هم الرسل و الثاني بفتح الذال المعجمة و هم الأمم الأولون، و ﴿إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ﴾ إن كان المراد بهم من في الأمم من المخلصين كان استثناء متصلا و إن عم الأنبياء كان منقطعا إلا بتغليبه غير الأنبياء عليهم و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ اَلْمُجِيبُونَ﴾ اللامان للقسم و هو يدل على كمال العناية بنداء نوح و إجابته تعالى، و قد مدح تعالى نفسه في إجابته فإن التقدير فلنعم المجيبون نحن، و جمع المجيب لإفادة التعظيم و قد كان نداء نوح على ما يفيده السياق دعاءه على قومه و استغاثته بربه المنقولين في قوله تعالى﴿وَ قَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكَافِرِينَ دَيَّاراً﴾ نوح: - ٢٦، و في قوله تعالى﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾ القمر: - ١٠.
قوله تعالى: ﴿وَ نَجَّيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ﴾ الكرب على ما ذكره الراغب الغم الشديد و المراد به الطوفان أو أذى قومه، و المراد بأهله أهل بيته و المؤمنون به من قومه و قد قال تعالى في سورة هود﴿: «قُلْنَا اِحْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ
اِثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ اَلْقَوْلُ وَ مَنْ آمَنَ﴾ هود: - ٤٠ و الأهل كما يطلق على زوج الرجل و بنيه يطلق على كل من هو من خاصته.
قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ اَلْبَاقِينَ﴾ أي الباقين من الناس بعد قرنهم و قد بحثنا في هذا المعنى في قصة نوح من سورة هود.
قوله تعالى: ﴿وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ﴾ المراد بالترك الإبقاء و بالآخرين الأمم الغابرة غير الأولين، و قد ذكرت هذه الجملة بعد ذكر إبراهيم (عليه السلام) أيضا في هذه السورة و قد بدلت في القصة بعينها من سورة الشعراء من قوله﴿وَ اِجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي اَلْآخِرِينَ﴾ الشعراء: - ٨٤ و استفدنا منه هناك أن المراد بلسان صدق كذلك أن يبعث الله بعده من يقوم بدعوته و يدعو إلى ملته و هي دين التوحيد.
فيتأيد بذلك أن المراد بالإبقاء في الآخرين هو إحياؤه تعالى دعوة نوح (عليه السلام) إلى التوحيد و مجاهدته في سبيل الله عصرا بعد عصر و جيلا بعد جيل إلى يوم القيامة.
قوله تعالى: ﴿سَلاَمٌ عَلىَ نُوحٍ فِي اَلْعَالَمِينَ﴾ المراد بالعالمين جميعها لكونه جمعا محلى باللام مفيدا للعموم، و الظاهر أن المراد به عالمو البشر و أممهم و جماعاتهم إلى يوم القيامة فإنه تحية من عند الله مباركة طيبة تهدى إليه من قبل الأمم الإنسانية ما جرى فيها شيء من الخيرات اعتقادا أو عملا فإنه (عليه السلام) أول من انتهض لدعوة التوحيد و دحض الشرك و ما يتبعه من العمل و قاسى في ذلك أشد المحنة فيما يقرب من ألف سنة لا يشاركه في ذلك أحد فله نصيب من كل خير واقع بينهم إلى يوم القيامة، و لا يوجد في كلامه تعالى سلام على هذه السعة على أحد ممن دونه.
و قيل: المراد بالعالمين عوالم الملائكة و الثقلين من الجن و الإنس.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ﴾ تعليل لما امتن عليه من الكرامة كإجابة ندائه و تنجيته و أهله من الكرب العظيم و إبقاء ذريته و تركه عليه في الآخرين و السلام عليه في العالمين، و تشبيه جزائه بجزاء عموم المحسنين من حيث أصل الجزاء الحسن لا في خصوصياته فلا يوجب ذلك اشتراك الجميع فيما اختص به (عليه السلام) و هو ظاهر.
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ﴾ تعليل لإحسانه المدلول عليه بالجملة السابقة و ذلك لأنه (عليه السلام) لكونه عبدا لله بحقيقة معنى الكلمة كان لا يريد و لا يفعل إلا ما يريده الله، و لكونه من المؤمنين حقا كان لا يرى من الاعتقاد إلا الحق و سرى ذلك إلى جميع أركان وجوده و من كان كذلك لا يصدر منه إلا الحسن الجميل فكان من المحسنين.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا اَلْآخَرِينَ﴾ ثم للتراخي الكلامي دون الزماني و المراد بالآخرين قومه المشركون.
قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ﴾ الشيعة هم القوم المشايعون لغيرهم الذاهبون على أثرهم و بالجملة كل من وافق غيره في طريقته فهو من شيعته تقدم أو تأخر قال تعالى ﴿وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ﴾ سبأ: - ٥٤.
و ظاهر السياق أن ضمير ﴿شِيعَتِهِ﴾ لنوح أي إن إبراهيم كان ممن يوافقه في دينه و هو دين التوحيد، و قيل: الضمير لمحمد (صلى الله عليه وآله و سلم) و لا دليل عليه من جهة اللفظ.
قيل: و من حسن الإرداف في نظم الآيات تعقيب قصة نوح (عليه السلام) و هو آدم الثاني أبو البشر بقصة إبراهيم (عليه السلام) و هو أبو الأنبياء إليه تنتهي أنساب جل الأنبياء بعده و على دينه تعتمد أديان التوحيد الحية اليوم كدين موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و أيضا نوح (عليه السلام) نجاه الله من الغرق و إبراهيم (عليه السلام) نجاه الله من الحرق.
قوله تعالى: ﴿إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ مجيئه ربه كناية عن تصديقه له و إيمانه به، و يؤيد ذلك أن المراد بسلامة القلب عروه عن كل ما يضر التصديق و الإيمان بالله سبحانه من الشرك الجلي و الخفي و مساوئ الأخلاق و آثار المعاصي و أي تعلق بغيره ينجذب إليه الإنسان و يختل به صفاء توجهه إليه سبحانه.
و بذلك يظهر أن المراد بالقلب السليم ما لا تعلق له بغيره تعالى كما في الحديث و سيجيء إن شاء الله في البحث الروائي الآتي.
و قيل: المراد به السالم من الشرك، و يمكن أن يوجه بما يرجع إلى الأول و قيل:
المراد به القلب الحزين، و هو كما ترى.
و الظرف في الآية متعلق بقوله سابقا ﴿مِنْ شِيعَتِهِ﴾ و الظروف يغتفر فيها ما لا
يغتفر في غيرها، و قيل متعلق باذكر المقدر.
قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ مَا ذَا تَعْبُدُونَ﴾ أي أي شيء تعبدون؟ و إنما سألهم عن معبودهم و هو يرى أنهم يعبدون الأصنام تعجبا و استغرابا.
قوله تعالى: ﴿أَ إِفْكاً آلِهَةً دُونَ اَللَّهِ تُرِيدُونَ﴾ أي تقصدون آلهة دون الله إفكا و افتراء، إنما قدم الإفك و الآلهة لتعلق عنايته بذلك.
قوله تعالى: ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي اَلنُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ﴾ لا شك أن ظاهر الآيتين أن إخباره (عليه السلام) بأنه سقيم مرتبط بنظرته في النجوم و مبني عليه و نظرته في النجوم إما لتشخيص الساعة و خصوص الوقت كمن به حمى ذات نوبة يعين وقتها بطلوع كوكب أو غروبها أو وضع خاص من النجوم و إما للوقوف على الحوادث المستقبلة التي كان المنجمون يرون أن الأوضاع الفلكية تدل عليها، و قد كان الصابئون مبالغين فيها و كان في عهده (عليه السلام) منهم جم غفير.
فعلى الوجه الأول لما أراد أهل المدينة أن يخرجوا كافة إلى عيد لهم نظر إلى النجوم و أخبرهم أنه سقيم ستعتريه العلة فلا يقدر على الخروج معهم.
و على الوجه الثاني نظر (عليه السلام) حينذاك إلى النجوم نظرة المنجمين فأخبرهم أنها تدل على أنه سيسقم فليس في وسعه الخروج معهم.
و أول الوجهين أنسب لحاله (عليه السلام) و هو في إخلاص التوحيد بحيث لا يرى لغيره تعالى تأثيرا، و لا دليل لنا قويا يدل على أنه (عليه السلام) لم يكن به في تلك الأيام سقم أصلا، و قد أخبر القرآن بإخباره بأنه سقيم و ذكر سبحانه قبيل ذلك أنه جاء ربه بقلب سليم فلا يجوز عليه كذب و لا لغو من القول.
و لهم في الآيتين وجوه أخر أوجهها أن نظرته في النجوم و إخباره بالسقم من المعاريض في الكلام و المعاريض أن يقول الرجل شيئا يقصد به غيره و يفهم منه غير ما يقصده فلعله نظر (عليه السلام) في النجوم نظر الموحد في صنعه تعالى يستدل به عليه تعالى و على وحدانيته و هم يحسبون أنه ينظر إليها نظر المنجم فيها ليستدل بها على الحوادث ثم قال:
إني سقيم يريد أنه سيعتريه سقم فإن الإنسان لا يخلو في حياته من سقم ما و مرض ما
كما قال﴿وَ إِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ الشعراء: - ٨٠ و هم يحسبون أنه يخبر عن سقمه يوم يخرجون فيه لعيد لهم، و المرجح عنده لجميع ذلك ما كان يهتم به من الرواغ إلى أصنامهم و كسرها.
لكن هذا الوجه مبني على أنه كان صحيحا غير سقيم يومئذ، و قد سمعت أن لا دليل يدل عليه.
على أن المعاريض غير جائزة على الأنبياء لارتفاع الوثوق بذلك عن قولهم.
قوله تعالى: ﴿فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ﴾ ضمير الجمع للقوم و ضمير الإفراد لإبراهيم (عليه السلام) أي خرجوا من المدينة و خلفوه.
قوله تعالى: ﴿فَرَاغَ إِلىَ آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَ لاَ تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنْطِقُونَ﴾ الروغ و الرواغ و الروغان الحياد و الميل، و قيل أصله الميل في جانب ليخدع من يريده.
و في قوله: ﴿أَ لاَ تَأْكُلُونَ﴾؟ تأييد لما ذكروا أن المشركين كانوا يضعون أيام أعيادهم طعاما عند آلهتهم.
و قوله: ﴿أَ لاَ تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنْطِقُونَ﴾؟ تكليم منه لآلهتهم و هي جماد و هو يعلم أنها جماد لا تأكل و لا تنطق لكن الوجد و شدة الغيظ حمله على أن يمثل موقفها موقف العقلاء ثم يؤاخذها مؤاخذة العقلاء كما يفعل بالمجرمين.
فنظر إليها و هي ذوات أبدان كهيئة من يتغذى و يأكل و عندها شيء من الطعام فامتلأ غيظا و جاش وجدا فقال: ﴿أَ لاَ تَأْكُلُونَ﴾؟ فلم يسمع منها جوابا فقال: ﴿مَا لَكُمْ لاَ تَنْطِقُونَ﴾؟ و أنتم آلهة يزعم عبادكم أنكم عقلاء قادرون مدبرون لأمورهم فلما لم يسمع لها حسا راغ عليها ضربا باليمين.
قوله تعالى: ﴿فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ﴾ أي تفرع على ذاك الخطاب أن مال على آلهتهم يضربهم ضربا باليد اليمنى أو بقوة بناء على كون المراد باليمين القوة.
و قول بعضهم: إن المراد باليمين القسم و المعنى مال عليهم ضربا بسبب القسم الذي سبق منه و هو قوله﴿تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ﴾ الأنبياء: - ٥٧ بعيد.
قوله تعالى: ﴿فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ﴾ الزف و الزفيف الإسراع في المشي أي فجاءوا
إلى إبراهيم و الحال أنهم يسرعون اهتماما بالحادثة التي يظنون أنه الذي أحدثها.
و في الكلام إيجاز و حذف من خبر رجوعهم إلى المدينة و وقوفهم على ما فعل بالأصنام و تحقيقهم الأمر و ظنهم به (عليه السلام) مذكور في سورة الأنبياء.
قوله تعالى: ﴿قَالَ أَ تَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَ اَللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ﴾ فيه إيجاز و حذف من حديث القبض عليه و الإتيان به على أعين الناس و مسألته و غيرها.
و الاستفهام للتوبيخ و فيه مع ذلك احتجاج على بطلان طريقتهم فهو يقول: لا يصلح ما نحته الإنسان بيده أن يكون ربا للإنسان معبودا له و الله سبحانه خلق الإنسان و ما يعمله و الخلق لا ينفك عن التدبير فهو رب الإنسان و من السفه أن يترك هذا و يعبد ذاك.
و قد بان بذلك أن الأظهر كون ما في قوله: ﴿مَا تَنْحِتُونَ﴾ موصولة و التقدير ما تنحتونه، و كذا في قوله: ﴿وَ مَا تَعْمَلُونَ﴾ و جوز بعضهم كون ﴿مَا﴾ فيها مصدرية و هو في أولهما بعيد جدا.
و لا ضير في نسبة الخلق إلى ما عمله الإنسان أو إلى عمله لأن ما يريده الإنسان و يعمله من طريق اختياره مراد الله سبحانه من طريق إرادة الإنسان و اختياره و لا يوجب هذا النوع من تعلق الإرادة بالفعل بطلان تأثير إرادة الإنسان و خروج الفعل عن الاختيار و صيرورته مجبرا عليه، و هو ظاهر.
و لو كان المراد نسبة خلق أعمالهم إلى الله سبحانه بلا واسطة لا من طريق إرادتهم بل بتعلق إرادته بنفس عملهم و أفاد الجبر لكان القول أقرب إلى أن يكون عذرا لهم من أن يكون توبيخا و تقبيحا، و كانت الحجة لهم لا عليهم.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا اِبْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي اَلْجَحِيمِ﴾ البنيان مصدر بنى يبني و المراد به المبني، و الجحيم النار في شدة تأججها.
قوله تعالى: ﴿فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ اَلْأَسْفَلِينَ﴾ الكيد الحيلة و المراد احتيالهم إلى إهلاكه و إحراقه بالنار.
و قوله: ﴿فَجَعَلْنَاهُمُ اَلْأَسْفَلِينَ﴾ كناية عن جعل إبراهيم فوقهم لا يؤثر فيه كيدهم
شيئا إذ قال سبحانه﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاَماً عَلىَ إِبْرَاهِيمَ﴾ الأنبياء: - ٦٩.
و قد اختتم بهذا فصل من قصص إبراهيم (عليه السلام) و هو انتهاضه أولا على عبادة الأوثان و اختصامه لعبادها و انتهاء أمره إلى إلقائه النار و إبطاله تعالى كيدهم.
قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلىَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ فصل آخر من قصصه (عليه السلام) يذكر عزمه على المهاجرة من بين قومه و استيهابه من الله ولدا صالحا و إجابته إلى ذلك و قصة ذبحه و نزول الفداء.
فقوله: ﴿وَ قَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلىَ رَبِّي﴾ إلخ كالإنجاز لما وعدهم به مخاطبا لآزر﴿ وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَ أَدْعُوا رَبِّي عَسىَ أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ﴾مريم: - ٤٨ و منه يعلم أن مراده بالذهاب إلى ربه الذهاب إلى مكان يتجرد فيه لعبادته تعالى و دعائه و هو الأرض المقدسة.
و قول بعضهم: إن المراد أذهب إلى حيث أمرني ربي لا شاهد عليه.
و كذا قول بعضهم: إن المراد أني ذاهب إلى لقاء ربي حيث يلقونني في النار فأموت و ألقى ربي سيهديني إلى الجنة.
و فيه كما قيل إن ذيل الآية لا يناسبه و هو قوله: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ اَلصَّالِحِينَ﴾ و كذا قوله بعده: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ﴾.
قوله تعالى: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ اَلصَّالِحِينَ﴾ حكاية دعاء إبراهيم (عليه السلام) و مسألته الولد أي قال: ﴿رَبِّ هَبْ لِي ﴾«إلخ» و قد قيده بكونه من الصالحين.
قوله تعالى: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ﴾ أي فبشرناه أنا سنرزقه غلاما حليما و فيه إشارة إلى أنه يكون ذكرا و يبلغ حد الغلمان، و أخذ الغلومة في وصفه مع أنه بلغ مبلغ الرجال للإشارة إلى حاله التي يظهر فيها صفة كماله و صفاء ذاته و هو حلمه الذي مكنه من الصبر في ذات الله إذ قال: ﴿يَا أَبَتِ اِفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اَللَّهُ مِنَ اَلصَّابِرِينَ﴾.
و لم يوصف في القرآن من الأنبياء بالحلم إلا هذا النبي الكريم في هذه الآية و أبوه في قوله تعالى﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ﴾ هود: - ٧٥.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ اَلسَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرىَ فِي اَلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَا ذَا تَرىَ﴾ إلخ الفاء في أول الآية فصيحة تدل على محذوف و التقدير فلما ولد له و نشأ و بلغ معه السعي، و المراد ببلوغ السعي بلوغه من العمر مبلغا يسعى فيه لحوائج الحياة عادة و هو سن الرهاق، و المعنى فلما راهق الغلام قال له يا بني «إلخ».
و قوله: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرىَ فِي اَلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾ هي رؤيا إبراهيم ذبح ابنه، و قوله: ﴿إِنِّي أَرىَ﴾ يدل على تكرر هذه الرؤيا له كما في قوله﴿وَ قَالَ اَلْمَلِكُ إِنِّي أَرىَ﴾ الخ: يوسف: - ٣٣.
و قوله: ﴿فَانْظُرْ مَا ذَا تَرىَ﴾ هو من الرأي بمعنى الاعتقاد أي فتفكر فيما قلت و عين ما هو رأيك فيه، و هذه الجملة دليل على أن إبراهيم (عليه السلام) فهم من منامه أنه أمر له بالذبح مثل له في مثال نتيجة الأمر و لذا طلب من ابنه الرأي فيه و هو يختبره بما ذا يجيبه؟.
و قوله: ﴿قَالَ يَا أَبَتِ اِفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اَللَّهُ مِنَ اَلصَّابِرِينَ﴾ جواب ابنه، و قوله: ﴿يَا أَبَتِ اِفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ إظهار رضا بالذبح في صورة الأمر و قد قال:
افعل ما تؤمر و لم يقل اذبحني إشارة إلى أن أباه مأمور بأمر ليس له إلا ائتماره و طاعته.
و قوله: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اَللَّهُ مِنَ اَلصَّابِرِينَ﴾ تطييب منه لنفس أبيه أنه لا يجزع منه و لا يأتي بما يهيج وجد الوالد عن ولده المزمل بدمائه، و قد زاد في كلامه صفاء على صفاء إذ قيد وعده بالصبر بقوله: ﴿إِنْ شَاءَ اَللَّهُ﴾ فأشار إلى أن اتصافه بهذه الصفة الكريمة أعني الصبر ليس له من نفسه و لا أن زمامه بيده بل هو من مواهب الله و مننه إن يشأ تلبس به و له أن لا يشاء فينزعه منه.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ الإسلام الرضا و الاستسلام: و التل الصرع و الجبين أحد جانبي الجبهة و اللام في ﴿لِلْجَبِينِ﴾ لبيان ما وقع عليه الصراع كقوله﴿يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً﴾ الإسراء: - ١٠٧، و المعنى فلما استسلما إبراهيم و ابنه لأمر الله و رضيا به و صرعة إبراهيم على جبينه.
و جواب لما محذوف إيماء إلى شدة المصيبة و مرارة الواقعة.
قوله تعالى: ﴿وَ نَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّؤْيَا﴾ معطوف على جواب
لما المحذوف، و قوله: ﴿قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّؤْيَا﴾ أي أوردتها مورد الصدق و جعلتها صادقة و امتثلت الأمر الذي أمرناك فيها أي إن الأمر فيها كان امتحانيا يكفي في امتثاله تهيؤ المأمور للفعل و إشرافه عليه فحسب.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ اَلْبَلاَءُ اَلْمُبِينُ﴾ الإشارة بكذلك إلى قصة الذبح بما أنها محنة شاقة و ابتلاء شديد و الإشارة بهذا إليها أيضا و هو تعليل لشدة الأمر.
و المعنى: إنا على هذه الوتيرة نجزي المحسنين فنمتحنهم امتحانات شاقة صورة هينة معنى فإذا أتموا الابتلاء جزيناهم أحسن الجزاء في الدنيا و الآخرة، و ذلك لأن الذي ابتلينا به إبراهيم لهو البلاء المبين.
قوله تعالى: ﴿وَ فَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ أي و فدينا ابنه بذبح عظيم و كان كبشا أتى به جبرئيل من عند الله سبحانه فداء على ما في الأخبار، و المراد بعظمة الذبح عظمة شأنه بكونه من عند الله سبحانه و هو الذي فدى به الذبيح.
قوله تعالى: ﴿وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ﴾ تقدم الكلام فيه.
قوله تعالى: ﴿سَلاَمٌ عَلىَ إِبْرَاهِيمَ﴾ تحية منه تعالى عليه، و في تنكير سلام تفخيم له.
قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ﴾ تقدم تفسير الآيتين.
قوله تعالى: ﴿وَ بَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ اَلصَّالِحِينَ﴾ الضمير لإبراهيم (عليه السلام) .
و اعلم أن هذه الآية المتضمنة للبشرى بإسحاق بوقوعها بعد البشرى السابقة بقوله: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ﴾ المتعقبة بقوله: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ اَلسَّعْيَ﴾ إلى آخر القصة ظاهرة كالصريحة أو هي صريحة في أن الذبيح غير إسحاق و هو إسماعيل (عليه السلام) و قد فصلنا القول في ذلك في قصص إبراهيم (عليه السلام) من سورة الأنعام.
قوله تعالى: ﴿وَ بَارَكْنَا عَلَيْهِ وَ عَلىَ إِسْحَاقَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ
مُبِينٌ﴾ المباركة على شيء جعل الخير و النماء و الثبات فيه أي و جعلنا فيما أعطينا إبراهيم و إسحاق الخير الثابت و النماء.
و يمكن أن يكون قوله: ﴿وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا﴾ إلخ قرينة على أن المراد بقوله:
﴿بَارَكْنَا﴾ إعطاء البركة و الكثرة في أولاده و أولاد إسحاق، و الباقي ظاهر.
(بحث روائي)
في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ قال: القلب السليم الذي يلقى الله عز و جل و ليس فيه أحد سواه.
و فيه، قال :القلب السليم من الشك.
و في روضة الكافي، بإسناده عن حجر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال أبو جعفر (عليه السلام) : عاب آلهتهم فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم. قال أبو جعفر (عليه السلام) : و الله ما كان سقيما و ما كذب.
أقول: و في معناه روايات أخر و في بعضها:
ما كان إبراهيم سقيما و ما كذب إنما عنى سقيما في دينه مرتادا.
و قد تقدم الروايات في قصة حجاج إبراهيم (عليه السلام) قومه و كسره الأصنام و إلقائه في النار في تفسير سور الأنعام و مريم و الأنبياء و الشعراء.
و في التوحيد، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث: و قد سأله رجل عما اشتبه عليه من الآيات قال: و قد أعلمتك أن رب شيء من كتاب الله عز و جل تأويله غير تنزيله و لا يشبه كلام البشر و سأنبئك بطرف منه فتكتفي إن شاء الله .
من ذلك قول إبراهيم (عليه السلام) : ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلىَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ فذهابه إلى ربه توجهه إليه عبادة و اجتهادا و قربة إلى الله عز و جل أ لا ترى أن تأويله غير تنزيله؟.
و فيه، بإسناده عن الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: يا فتح إن لله إرادتين و مشيئتين: إرادة حتم، و إرادة عزم ينهى و هو يشاء ذلك و يأمر و هو
لا يشاء أ و ما رأيت أنه نهى آدم و زوجته عن أن يأكلا من الشجرة و هو يشاء ذلك؟ و لو لم يشأ لم يأكلا، و لو أكلا لغلبت شهوتهما مشيئة الله تعالى، و أمر إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل (عليه السلام) و شاء أن لا يذبحه و لو لم يشأ أن لا يذبحه لغلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله عز و جل. قلت: فرجت عني فرج الله عنك.
و عن أمالي الشيخ، بإسناده إلى سليمان بن يزيد قال: حدثنا علي بن موسى قال:
حدثني أبي عن أبيه عن أبي جعفر عن أبيه عن آبائه (عليه السلام) قال: الذبيح إسماعيل (عليه السلام) :
أقول: و روي مثله في المجمع، عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) ، و بهذا المضمون روايات كثيرة أخرى عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) ، و قد وقع في بعض رواياتهم أنه إسحاق و هو مطروح لمخالفة الكتاب.
و عن الفقيه،: سئل الصادق (عليه السلام) عن الذبيح من كان؟ فقال إسماعيل لأن الله تعالى ذكر قصته في كتابه ثم قال: ﴿وَ بَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ اَلصَّالِحِينَ﴾.
أقول: هذا ما تقدم في بيان الآية أن الآية بسياقها ظاهرة بل صريحة في ذلك.
و في المجمع، عن ابن إسحاق :أن إبراهيم كان إذا زار إسماعيل و هاجر حمل على البراق فيغدو من الشام فيقيل بمكة و يروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام - حتى إذا بلغ معه السعي رأى في المنام أن[6] يذبحه فقال له: يا بني خذ الحبل و المدية[7] ثم انطلق بنا إلى هذا الشعب لنحتطب.
فلما خلا إبراهيم بابنه في شعب ثبير أخبره بما قد ذكره الله عنه فقال: يا أبت اشدد رباطي حتى لا أضطرب و اكفف عني ثيابك حتى لا ينتضح من دمي شيئا فتراه أمي و اشحذ شفرتك و أسرع مر السكين على حلقي ليكون أهون علي فإن الموت شديد فقال له إبراهيم: نعم العون أنت يا بني على أمر الله .
ثم ساق القصة و فيها ثم انحنى إليه بالمدية و قلب جبرئيل المدية على قفاها و اجتر
الكبش من قبل ثبير و اجتر الغلام من تحته و وضع الكبش مكان الغلام، و نودي من ميسرة مسجد الخيف: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا. أقول: و الروايات في القصة كثيرة و لا تخلو من اختلاف.
و فيه،: روى العياشي بإسناده عن بريد بن معاوية العجلي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : كم كان بين بشارة إبراهيم بإسماعيل و بين بشارته بإسحاق (عليه السلام) ؟ قال:
كان بين البشارتين خمس سنين قال الله سبحانه ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ﴾ يعني إسماعيل و هي أول بشارة بشر الله به إبراهيم (عليه السلام) في الولد.
[سورة الصافات (٣٧): الآیات ١١٤ الی ١٣٢]
﴿وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلىَ مُوسىَ وَ هَارُونَ ١١٤ وَ نَجَّيْنَاهُمَا وَ قَوْمَهُمَا مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ ١١٥ وَ نَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ اَلْغَالِبِينَ ١١٦ وَ آتَيْنَاهُمَا اَلْكِتَابَ اَلْمُسْتَبِينَ ١١٧ وَ هَدَيْنَاهُمَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ ١١٨ وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي اَلْآخِرِينَ ١١٩ سَلاَمٌ عَلى مُوسى وَ هَارُونَ ١٢٠ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ ١٢١ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ ١٢٢ وَ إِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ ١٢٣ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَ لاَ تَتَّقُونَ ١٢٤ أَ تَدْعُونَ بَعْلاً وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ اَلْخَالِقِينَ ١٢٥ اَللَّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبَائِكُمُ اَلْأَوَّلِينَ ١٢٦ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ١٢٧ إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ ١٢٨ وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ ١٢٩ سَلاَمٌ عَلى إِلْيَاسِينَ ١٣٠ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ ١٣١ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ ١٣٢﴾
(بيان)
ملخص قصة موسى و هارون و إشارة إلى قصة إلياس (عليه السلام) . و بيان ما أنعم الله عليهم و عذاب مكذبيهم و جانب الرحمة يربو فيها على جانب العذاب و التبشير يزيد على الإنذار.
قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلىَ مُوسىَ وَ هَارُونَ﴾ المن الإنعام و من المحتمل أن يكون المراد به ما سيعده مما أنعم عليهما و على قومهما من التنجية و النصر و إيتاء الكتاب و الهداية و غيرها فيكون قوله: ﴿وَ نَجَّيْنَاهُمَا﴾ إلخ من عطف التفسير.
قوله تعالى: ﴿وَ نَجَّيْنَاهُمَا وَ قَوْمَهُمَا مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ﴾ و هو الغم الشديد من استضعاف فرعون لهم يسومهم سوء العذاب و يذبح أبناءهم و يستحيي نساءهم.
قوله تعالى: ﴿وَ نَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ اَلْغَالِبِينَ﴾ و هو الذي أدى إلى خروجهم من مصر و جوازهم البحر و هلاك فرعون و جنوده.
و بذلك يندفع ما توهم أن مقتضى الظاهر أن يذكر النصر قبل التنجية لتوقفها عليه، و ذلك أن النصر إنما يكون فيما إذا كان للمنصور قوة ما لكنها لا تكفي لدفع الشر فتتم بالنصر و كان لبني إسرائيل عند الخروج من مصر بعض القوة فناسب إطلاق النصر على إعانتهم على ذلك بخلاف أصل تخليصهم من يد فرعون فإنهم كانوا أسراء مستعبدين لا قوة لهم فلا يناسب هذا الاعتبار إلا ذكر التنجية دون النصر.
قوله تعالى: ﴿وَ آتَيْنَاهُمَا اَلْكِتَابَ اَلْمُسْتَبِينَ﴾ أي يستبين المجهولات الخفية فيبينها و هي التي يحتاج إليها الناس في دنياهم و آخرتهم.
قوله تعالى: ﴿وَ هَدَيْنَاهُمَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ﴾ المراد بها الهداية بتمام معنى الكلمة، و لذا خصها بهما و لم يشرك فيها معهما قومهما، و لقد تقدم كلام في معنى الهداية إلى الصراط المستقيم في سورة الفاتحة.
قوله تعالى: ﴿وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي اَلْآخِرِينَ﴾ إلى قوله ﴿اَلْمُؤْمِنِينَ﴾ تقدم تفسيرها.
قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ﴾ قيل: إنه (عليه السلام) من آل هارون كان
مبعوثا إلى بعلبك[8] و لم يذكر في كلامه ما يستشهد به عليه.
قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَ لاَ تَتَّقُونَ أَ تَدْعُونَ بَعْلاً وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ اَلْخَالِقِينَ﴾ إلى قوله ﴿اَلْأَوَّلِينَ﴾ شطر من دعوته (عليه السلام) يدعو قومه فيها إلى التوحيد و يوبخهم على عبادة بعل صنم كان لهم و ترك عبادة الله سبحانه.
و كلامه (عليه السلام) على ما فيه من التوبيخ و اللوم يتضمن حجة تامة على توحيده تعالى فإن قوله: ﴿وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ اَلْخَالِقِينَ اَللَّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبَائِكُمُ اَلْأَوَّلِينَ﴾ يوبخهم أولا على ترك عبادة أحسن الخالقين، و الخلق و الإيجاد كما يتعلق بذوات الأشياء يتعلق بالنظام الجاري فيها الذي يسمى تدبيرا فكما أن الخلق إليه تعالى فالتدبير أيضا إليه فهو المدبر كما أنه الخالق، و أشار إلى ذلك بقوله: ﴿اَللَّهَ رَبَّكُمْ﴾ بعد وصفه تعالى بأحسن الخالقين.
ثم أشار إلى أن ربوبيته تعالى لا تختص بقوم دون قوم كالأصنام التي يتخذ كل قوم بعضا منها دون بعض فيكون صنم ربا لقوم دون آخرين بل هو تعالى رب لهم و لآبائهم الأولين لا يختص ببعض دون بعض لعموم خلقه و تدبيره، و إليه أشار بقوله:
﴿اَللَّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبَائِكُمُ اَلْأَوَّلِينَ﴾.
قوله تعالى: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ أي مبعوثون ليحضروا العذاب، و قد تقدم أن الإحضار إذا أطلق أفاد معنى الشر.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ﴾ دليل على أنه كان في قومه جمع منهم.
قوله تعالى: ﴿وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ﴾ إلى قوله ﴿اَلْمُؤْمِنِينَ﴾ تقدم الكلام في نظائرها.
(بحث روائي)
في تفسير القمي، ":في قوله تعالى: ﴿أَ تَدْعُونَ بَعْلاً﴾ قال كان لهم صنم يسمونه بعلا.
و في المعاني، بإسناده إلى قادح عن الصادق جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عن علي
(عليه السلام) : في قول الله عز و جل: «سلام على آل يس» قال: يس محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) و نحن آل يس.:
أقول: و عن العيون، عن الرضا (عليه السلام) مثله، و هو مبني على قراءة آل يس كما قرأه نافع و ابن عامر و يعقوب و زيد.
(كلام في قصة إلياس (عليه السلام) )
١ - قصته في القرآن:
لم يذكر اسمه (عليه السلام) في القرآن الكريم إلا في هذا الموضع و في سورة الأنعام عند ذكر هداية الأنبياء حيث قال﴿وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ اَلصَّالِحِينَ﴾ الأنعام: - ٨٥.
و لم يذكر تعالى من قصته في هذه السورة إلا أنه كان يدعو إلى عبادة الله سبحانه قوما كانوا يعبدون بعلا فآمن به و أخلص الإيمان قوم منهم و كذبه آخرون و هم جل القوم و إنهم لمحضرون.
و قد أثنى الله سبحانه عليه في سورة الأنعام بما أثنى به على الأنبياء عامة و أثنى عليه في هذه السورة بأنه من عباده المؤمنين المحسنين و حياة بالسلام بناء على القراءة المشهورة ﴿سَلاَمٌ عَلىَ إِلْيَاسِينَ﴾.
٢ - الأحاديث فيه:
ورد فيه (عليه السلام) أخبار مختلفة متهافتة كغالب الأخبار الواردة في قصص الأنبياء، الحاكية للعجائب كالذي روي عن ابن مسعود :أن إلياس هو إدريس و ما عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : أن الخضر هو إلياس، و ما عن وهب و كعب الأحبار و غيرهما :أن إلياس حي لا يموت إلى النفخة الأولى، و ما عن وهب :أن إلياس سأل الله أن يريحه من قومه فأرسل الله إليه دابة كهيئة الفرس في لون النار فوثب إليه فانطلق به فكساه الله الريش و النور و قطع عنه لذة المطعم و المشرب فصار في الملائكة، و ما عن كعب الأحبار :أن إلياس صاحب الجبال و البر و أنه الذي سماه الله بذي النون، و ما عن الحسن :أن إلياس موكل بالفيافي و الخضر موكل بالجبال، و ما عن أنس :أن
إلياس لاقى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في بعض أسفاره فقعدا يتحدثان ثم نزل عليهما مائدة من السماء فأكلا و أطعماني ثم ودعه و ودعني ثم رأيته مر على السحاب نحو السماء إلى غير ذلك[9]
و في بعض أخبار الشيعة أنه (عليه السلام) حي مخلد[10] لكنها ضعاف و ظاهر آيات القصة لا يساعد عليه.
و في البحار، في قصة إلياس (عليه السلام) عن قصص الأنبياء، بالإسناد عن الصدوق بإسناده إلى وهب بن منبه، و رواه الثعلبي في العرائس، عن ابن إسحاق و علماء الأخبار أبسط منه و الحديث طويل جدا، و ملخصه :أنه بعد انشعاب ملك بني إسرائيل و تقسمه بينهم سار سبط منهم إلى بعلبك و كان لهم ملك منهم يعبد صنما اسمه بعل و يحمل الناس على عبادته.
و كانت له مرأة فاجرة قد تزوجت قبله بسبعة من الملوك و ولدت تسعين ولدا سوى أبناء الأبناء، و كان الملك يستخلفها إذ غاب فتقضي بين الناس، و كان له كاتب مؤمن حكيم قد خلص من يدها ثلاثمائة مؤمن تريد قتلهم، و كان في جوار قصر الملك رجل مؤمن له بستان و كان الملك يحترم جواره و يكرمه .
ففي بعض ما غاب الملك قتلت المرأة الجار المؤمن و غصبت بستانه فلما رجع و علم به عاتبها فاعتذرت إليه و أرضته فآلى الله تعالى على نفسه أن ينتقم منهما إن لم يتوبا فأرسل إليهم إلياس (عليه السلام) يدعوهم إلى عبادة الله و أخبرهما بما آلى الله فاشتد غضبهم عليه و هموا بتعذيبه و قتله فهرب منهم إلى أصعب جبل هناك فلبث فيه سبع سنين يعيش بنبات الأرض و ثمار الشجر .
فأمرض الله ابنا للملك يحبه حبا شديدا فاستشفع ببعل فلم ينفعه فقيل له: إنه غضبان عليك إن لم تقتل إلياس فأرسل إليه فئة من قومه ليخدعوه و يقبضوا عليه فأرسل الله إليهم نارا فأحرقتهم ثم أرسل إليه فئة أخرى من ذوي البأس مع كاتبه
المؤمن فذهب معه إلياس صونا له من غضب الملك لكن الله سبحانه أمات ابنه فشغله حزنه عن إلياس فرجع سالما.
ثم لما طال الأمر نزل إلياس من الجبل و استخفى عند أم يونس بن متى في بيتهاو يونس طفل رضيع ثم خرج بعد ستة أشهر إلى الجبل ثانيا و اتفق أن مات بعده يونس ثم أحياه الله بدعاء إلياس بعد ما خرجت أمه في طلبه فوجدته فتضرعت إليه .
ثم إنه سأل الله أن ينتقم له من بني إسرائيل و يمسك عنهم الأمطار فأجيب و سلط الله عليهم القحط فأجهدوا سنين فندموا فجاءوه فتابوا و أسلموا فدعا الله فأرسل عليهم المطر فسقاهم و أحيا بلادهم .
فشكوا إليه هدم الجدران و عدم البذر من الحبوب فأوحى إليه أن يأمرهم أن يبذروا الملح فأنبت لهم الحمص و أن يبذروا الرمل فأنبت لهم منه الدخن .
ثم لما كشف الله عنهم الضر نقضوا العهد و عادوا إلى أخبث ما كانوا عليه فأمل ذلك إلياس فدعا الله أن يريحه منهم فأرسل الله إليه فرسا من نار فوثب عليه إلياس فرفعه الله إلى السماء و كساه الريش و النور فكان مع الملائكة .
ثم سلط الله على الملك و امرأته عدوا فقصدهما و ظهر عليهما فقتلهما و ألقى جيفتهما في بستان ذلك الرجل المؤمن الذي قتلاه و غصبوا بستانه. و أنت بالتأمل فيما تقصه الرواية لا ترتاب في ضعفها.
[سورة الصافات (٣٧): الآیات ١٣٣ الی ١٤٨]
﴿وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ ١٣٣ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ١٣٤ إِلاَّ عَجُوزاً فِي اَلْغَابِرِينَ ١٣٥ ثُمَّ دَمَّرْنَا اَلْآخَرِينَ ١٣٦ وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ١٣٧ وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ ١٣٨
وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ ١٣٩ إِذْ أَبَقَ إِلَى اَلْفُلْكِ اَلْمَشْحُونِ ١٤٠ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ اَلْمُدْحَضِينَ ١٤١ فَالْتَقَمَهُ اَلْحُوتُ وَ هُوَ مُلِيمٌ ١٤٢ فَلَوْ لاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ اَلْمُسَبِّحِينَ ١٤٣ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ١٤٤ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ ١٤٥ وَ أَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ١٤٦ وَ أَرْسَلْنَاهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ١٤٧ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلى حِينٍ ١٤٨﴾
(بيان)
خلاصة قصة لوط (عليه السلام) ثم قصة يونس (عليه السلام) و ابتلاء الله تعالى له بالحوت مأخوذا بما أعرض عن قومه عند ارتفاع العذاب عنهم بعد نزوله و إشرافه عليهم.
قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ﴾ و إنما نجاه و أهله من العذاب النازل على قومه و هو الخسف و أمطار حجارة من سجيل على ما ذكره الله تعالى في سائر كلامه.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ عَجُوزاً فِي اَلْغَابِرِينَ﴾ أي في الباقين في العذاب المهلكين به و هي امرأة لوط.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ دَمَّرْنَا اَلْآخَرِينَ﴾ التدمير الإهلاك، و الآخرين قومه الذين أرسل إليهم.
قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ فإنهم على طريق الحجاز إلى الشام، و المراد بالمرور عليهم المرور على ديارهم الخربة و هي اليوم مستورة بالماء على ما قيل.
قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى اَلْفُلْكِ اَلْمَشْحُونِ﴾ أي السفينة
المملوءة من الناس و الإباق هرب العبد من مولاه.
و المراد بإباقه إلى الفلك خروجه من قومه معرضا عنهم و هو (عليه السلام) و إن لم يعص في خروجه ذلك ربه و لا كان هناك نهي من ربه عن الخروج لكن خروجه إذ ذاك كان ممثلا لإباق العبد من خدمة مولاه فأخذه الله بذلك، و قد تقدم بعض الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى﴿وَ ذَا اَلنُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ الأنبياء: - ٨٧.
قوله تعالى: ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ اَلْمُدْحَضِينَ﴾ المساهمة المقارعة و الإدحاض الغلبة أي فقارع من في السفينة فكان من المغلوبين، و قد كان عرض لسفينتهم الحوت فاضطروا إلى أن يلقوا واحدا منهم في البحر ليبتلعه و يخلي السفينة فقارعوا فأصابت يونس (عليه السلام) .
قوله تعالى: ﴿فَالْتَقَمَهُ اَلْحُوتُ وَ هُوَ مُلِيمٌ﴾ الالتقام الابتلاع، و مليم من ألام أي دخل في اللوم كأحرم إذا دخل في الحرم أو بمعنى صار ذا ملامة.
قوله تعالى: ﴿فَلَوْ لاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ اَلْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ عده من المسبحين و هم الذين تكرر منهم التسبيح و تمكن منهم حتى صار وصفا لهم يدل على دوام تلبسه زمانا بالتسبيح. قيل: أي من المسبحين قبل التقام الحوت إياه، و قيل:
بل في بطن الحوت، و قيل: أي كان من المسبحين قبل التقام الحوت و في بطنه.
و الذي حكي من تسبيحه في كلامه تعالى قوله في سورة الأنبياء﴿فَنَادىَ فِي اَلظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظَّالِمِينَ﴾ الأنبياء: - ٨٧ و لازم ذلك أن يكون من المسبحين في بطن الحوت خاصة أو فيه و فيما قبله فاحتمال كون المراد تسبيحه قبل التقام الحوت مرجوح لا ينبغي أن يصار إليه.
على أن تسبيحه مع اعترافه بالظلم في قوله: ﴿سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظَّالِمِينَ﴾ على ما سيجيء تسبيح له تعالى عما كان يشعر به[11] فعله من ترك قومه و ذهابه على وجهه، و قوله: ﴿فَلَوْ لاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ اَلْمُسَبِّحِينَ﴾ إلخ يدل على أن تسبيحه كان هو السبب المستدعي لنجاته، و لازم ذلك أن يكون إنما ابتلي بما ابتلي به لينزهه تعالى فينجو بذلك من الغم الذي ساقه إليه فعله إلى ساحة العافية.
و بذلك يظهر أن العناية في الكلام إنما هي بتسبيحه في بطن الحوت خاصة فخير الأقوال الثلاثة أوسطها.
فالظاهر أن المراد بتسبيحه نداؤه في الظلمات بقوله: ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظَّالِمِينَ﴾ و قد قدم التهليل ليكون كالعلة المبينة لتسبيحه كأنه يقول:
لا معبود بالحق يتوجه إليه غيرك فأنت منزه مما كان يشعر به فعلى أني آبق منك معرض عن عبوديتك متوجه إلى سواك إني كنت ظالما لنفسي في فعلي فها أنا متوجه إليك متبرئ مما كان يشعر به فعلى من التوجه عنك إلى غيرك.
فهذا معنى تسبيحه و لو لا ذلك منه لم ينج أبدا إذ كان سبب نجاته منحصرا في التسبيح و التنزيه بالمعنى الذي ذكر.
و بذلك يظهر أن المراد بقوله: ﴿لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ تأبيد مكثه في بطنه إلى أن يبعث فيخرج منه كالقبر الذي يقبر فيه الإنسان و يلبث فيه حتى يبعث فيخرج منه قال تعالى﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَ فِيهَا نُعِيدُكُمْ وَ مِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرىَ﴾ طه: - ٥٥.
و لا دلالة في الآية على كونه (عليه السلام) على تقدير اللبث حيا في بطن الحوت إلى يوم يبعثون أو ميتا و بطنه قبره مع بقاء بدنه و بقاء جسد الحوت على حالهما أو بنحو آخر فلا مساغ لاختلافهم في كونه (عليه السلام) حيا على هذا التقدير أو ميتا و بطنه قبره، و أن المراد بيوم يبعثون النفخة الأولى التي فيها يموت الخلائق أو النفخة الثانية أو التأجيل بيوم القيامة كناية عن طول اللبث.
قوله تعالى: ﴿فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ﴾ النبذ طرح الشيء و الرمي به، و العراء المكان الذي لا سترة فيه يستظل بها من سقف أو خباء أو شجر.
و المعنى على ما يعطيه السياق أنه صار من المسبحين فأخرجناه من بطن الحوت و طرحناه خارج الماء في أرض لا ظل فيها يستظل به و هو سقيم.
قوله تعالى: ﴿وَ أَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ﴾ اليقطين من نوع القرع و يكون ورقه عريضا مستديرا و قد أنبتها الله عليه ليستظل بورقها.
قوله تعالى: ﴿وَ أَرْسَلْنَاهُ إِلىَ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ أو في مورد الترقي و تفيد معنى بل، و المراد بهذه الجماعة أهل نينوى.
[2] المرخ بالفتح فالسكون و الخاء المعجمة، و العفار بعين مفتوحة ثم الفاء ثم الراء المهملة شجرتان تشتعلان بسحق أحدهما على الآخر.
[3] البقرة: ١٧، آل عمران: ٤٧، مريم: ٣٥، المؤمن: ٦٨.
[4] فإن هذه الإرادة صفة فعلية خارجة عن الذات منتزعة عن مقام الفعل.
[8] و لعلهم أخذوه من بعل فقد قيل: أن بعلبك سمي به لأن بعلا كان منصوبا في معبد فيه.
[9] رواه في الدر المنثور في تفسير آيات القصة.
[10] رواه في البحار عن قصص الأنبياء.
[11] و هو أن الله لا يقدر عليه كما قال تعالى: «و ظن أن لن نقدر عليه».
|