• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء السابع عشر) ، تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده) .
                    • الموضوع : من ص 1 الى ص 82 .

من ص 1 الى ص 82

 

 

 

الميزان في تفسير القرآن

الجزء السابع عشر

 

 

 

 

 

 

تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سرّه

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تمتاز هذه الطبعه عن غیرها بالتحقیق و التصحیح الکامل

واضافات و تغییرات هامه من قبل المولف

 (٣٥) سورة فاطر مكية و هي خمس و أربعون آية (٤٥)

 

 

[سورة فاطر (٣٥): آیة ١]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ جَاعِلِ اَلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنىَ وَ ثُلاَثَ وَ رُبَاعَ يَزِيدُ فِي اَلْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اَللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ١

(بيان)

غرض السورة بيان الأصول الثلاثة: وحدانيته تعالى في ربوبيته و رسالة الرسول و المعاد إليه و تقرير الحجة لذلك و قد توسل لذلك بعد جمل من نعمه العظيمة السماوية و الأرضية و الإشارة إلى تدبيره المتقن لأمر العالم عامة و الإنسان خاصة.

و قد قدم على هذا التفصيل الإشارة الإجمالية إلى انحصار فتح الرحمة و إمساكها و هو إفاضة النعمة و الكف عنها فيه تعالى بقوله: ﴿مَا يَفْتَحِ اَللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا الآية.

و قدم على ذلك الإشارة إلى وسائط هذه الرحمة المفتوحة و النعم الموهوبة و هم الملائكة المتوسطون بينه تعالى و بين خلقه في حمل أنواع النعم من عنده تعالى و إيصالها إلى خلقه فافتتح السورة بذكرهم.

 

 

 

 و السورة مكية كما يدل عليه سياق آياتها، و قد استثنى بعضهم آيتين و هما قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اَللَّهِ الآية و قوله: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتَابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنَا الآية و هو غير ظاهر من سياق الآيتين.

قوله تعالى: ﴿اَلْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ الفطرعلى ما ذكره الراغب هو الشق طولا فإطلاق الفاطر عليه تعالى بعناية استعارية كأنه شق العدم فأخرج من بطنها السماوات و الأرض فمحصل معناه أنه موجد السماوات و الأرض إيجادا ابتدائيا من غير مثال سابق، فيقرب معناه من معنى البديع و المبدع و الفرق بين الإبداع و الفطر أن العناية في الإبداع متعلقة بنفي المثال السابق و في الفطر بطرد العدم و إيجاد الشي‏ء من رأس لا كالصانع الذي يؤلف مواد مختلفة فيظهر به صورة جديدة لم تكن.

و المراد بالسماوات و الأرض مجموع العالم المشهود فيشملهما و ما فيهما من مخلوق فيكون من قبيل إطلاق معظم الأجزاء و إرادة الكل مجازا، أو المراد نفس السماوات و الأرض اعتناء بشأنهما لكبر خلقتهما و عجيب أمرهما كما قال‏﴿لَخَلْقُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ اَلنَّاسِ المؤمن - ٥٧.

و كيف كان فقوله: ﴿فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ من أسمائه تعالى أجري صفة لله و المراد بالوصف الاستمرار دون الماضي فقط لأن الإيجاد مستمر و فيض الوجود غير منقطع و لو انقطع لانعدمت الأشياء.

و الإتيان بالوصف بعد الوصف للإشعار بأسباب انحصار الحمد فيه تعالى كأنه قيل: الحمد لله على ما أوجد السماوات و الأرض و على ما جعل الملائكة رسلا أولي أجنحة فهو تعالى محمود ما أتى فيما أتى إلا الجميل.

قوله تعالى: ﴿جَاعِلِ اَلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنىَ وَ ثُلاَثَ وَ رُبَاعَ الملائكة جمع ملك بفتح اللام و هم موجودات خلقهم الله و جعلهم وسائط بينه و بين العالم المشهود وكلهم بأمور العالم التكوينية و التشريعية عباد مكرمون لا يعصون الله فيما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون.

فقوله تعالى: ﴿جَاعِلِ اَلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً يشعر بل يدل على كون جميع الملائكة و الملائكة جمع محلى باللام مفيد للعموم رسلا وسائط بينه و بين خلقه في إجراء

 

 

 

 أوامره التكوينية و التشريعية.

و لا موجب لتخصيص الرسل في الآية بالملائكة النازلين على الأنبياء (عليه السلام) و قد أطلق القرآن الرسل على غيرهم من الملائكة كقوله تعالى‏﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا الأنعام: - ٦١، و قوله‏﴿إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ يونس: - ٢١، و قوله‏﴿وَ لَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرىَ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ اَلْقَرْيَةِ العنكبوت: - ٣١.

و الأجنحة جمع جناح و هو من الطائر بمنزلة اليد من الإنسان يتوسل به إلى الصعود إلى الجو و النزول منه و الانتقال من مكان إلى مكان بالطيران.

فوجود الملك مجهز بما يفعل به نظير ما يفعله الطائر بجناحه فينتقل به من السماء إلى الأرض بأمر الله و يعرج به منها إليها و من أي موضع إلى أي موضع، و قد سماه القرآن جناحا و لا يستوجب ذلك إلا ترتب الغاية المطلوبة من الجناح عليه و أما كونه من سنخ جناح غالب الطير ذا ريش و زغب فلا يستوجبه مجرد إطلاق اللفظ كما لم يستوجبه في نظائره كألفاظ العرش و الكرسي و اللوح و القلم و غيرها.

و قوله: ﴿أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنىَ وَ ثُلاَثَ وَ رُبَاعَ صفة للملائكة، و مثنى و ثلاث و رباع ألفاظ دالة على تكرر العدد أي اثنين اثنين و ثلاثة ثلاثة و أربعة أربعة كأنه قيل: جعل الملائكة بعضهم ذا جناحين و بعضهم ذا ثلاثة أجنحة و بعضهم ذا أربعة أجنحة.

و قوله: ﴿يَزِيدُ فِي اَلْخَلْقِ مَا يَشَاءُ لا يخلو من إشعار بحسب السياق بأن منهم من يزيد أجنحته على أربعة.

و قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ عَلىَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ تعليل لجميع ما تقدمه أو الجملة الأخيرة و الأول أظهر.

(بحث روائي)

 في البحار، عن الإختصاص بإسناده عن المعلى بن محمد رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز و جل خلق الملائكة من نور، الخبر.

 

 

 

و في تفسير القمي، قال الصادق (عليه السلام): خلق الله الملائكة مختلفة و قد أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) جبرئيل و له ستمائة جناح على ساقه الدر مثل القطر على البقل قد ملأ ما بين السماء و الأرض و قال إذا أمر الله عز و جل ميكائيل بالهبوط إلى الدنيا صارت رجله في السماء السابعة و الأخرى في الأرض السابعة، و إن لله ملائكة أنصافهم من برد و أنصافهم من نار يقولون: يا مؤلفا بين البرد و النار ثبت قلوبنا على طاعتك .

و قال: إن لله ملكا بعد ما بين شحمة أذنه إلى عينه مسيرة خمسمائة عام بخفقان الطير .

و قال: إن الملائكة لا يأكلون و لا يشربون و لا ينكحون و إنما يعيشون بنسيم العرش، و إن لله عز و جل ملائكة ركعا إلى يوم القيامة و إن لله عز و جل ملائكة سجدا إلى يوم القيامة .

ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام) : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : ما من شي‏ء مما خلق الله عز و جل أكثر من الملائكة و إنه ليهبط في كل يوم أو في كل ليلة سبعون ألف ملك، فيأتون البيت الحرام فيطوفون به ثم يأتون رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ثم يأتون أمير المؤمنين (عليه السلام) فيسلمون ثم يأتون الحسين (عليه السلام) فيقيمون عنده فإذا كان عند السحر وضع لهم معراج إلى السماء ثم لا يعودون أبدا .

و قال أبو جعفر (عليه السلام) : إن الله عز و جل خلق إسرافيل و جبرائيل و ميكائيل من تسبيحة واحدة، و جعل لهم السمع و البصر و جودة العقل و سرعة الفهم .

و قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في خلقة الملائكة: و ملائكة خلقتهم و أسكنتهم سماواتك فليس فيهم فترة، و لا عندهم غفلة، و لا فيهم معصية، هم أعلم خلقك بك و أخوف خلقك منك، و أقرب خلقك منك، و أعملهم بطاعتك، لا يغشاهم نوم العيون و لا سهو العقول، و لا فترة الأبدان لم يسكنوا الأصلاب، و لم تضمهم الأرحام، و لم تخلقهم من ماء مهين أنشأتهم إنشاء فأسكنتهم سماواتك و أكرمتهم بجوارك، و ائتمنتهم على وحيك، و جنبتهم الآفات، و وقيتهم البليات، و طهرتهم من الذنوب، و لو لا قوتك لم يقووا، و لو لا تثبيتك لم يثبتوا، و لو لا رحمتك لم يطيعوا، و لو لا أنت لم يكونوا .

 

 

 

 أما إنهم على مكانتهم منك و طاعتهم إياك و منزلتهم عندك و قلة غفلتهم عن أمرك لو عاينوا ما خفي عنهم منك لاحتقروا أعمالهم، و لآزروا على أنفسهم، و لعلموا أنهم لم يعبدوك حق عبادتك سبحانك خالقا و معبودا ما أحسن بلاءك عند خلقك. و في البحار، عن الدر المنثور، عن أبي العلاء بن سعد: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال يوما لجلسائه: أطت السماء و حق لها أن تئط ليس منها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد. ثم قرأ ﴿وَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ وَ إِنَّا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ. و عن الخصال، بإسناده عن محمد بن طلحة يرفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: الملائكة على ثلاثة أجزاء فجزء لهم جناحان و جزء لهم ثلاثة أجنحة و جزء لهم أربعة أجنحة:.

أقول: و رواه في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن طلحة مثله، و لعل المراد به وصف أغلب الملائكة حتى لا يعارض سياق الآية و الروايات الأخر.

و عن التوحيد، بإسناده عن أبي حيان التيمي عن أبيه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: ليس أحد من الناس إلا و معه ملائكة حفظ يحفظونه من أن يتردى في بئر أو يقع عليه حائط أو يصيبه سوء فإذا حان أجله خلوا بينه و بين ما يصيبه الخبر.

 و عن البصائر، عن السياري عن عبد الله بن أبي عبد الله الفارسي و غيره رفعوه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الكروبيين قوم من شيعتنا من الخلق الأول جعلهم الله خلف العرش لو قسم نور واحد منهم على أهل الأرض لكفاهم. ثم قال: إن موسى (عليه السلام) لما أن سأل ربه ما سأل أمر واحدا من الكروبيين فتجلى للجبل فجعله دكا. و عن الصحيفة السجادية، و كان من دعائه على حملة العرش و كل ملك مقرب: اللهم و حملة عرشك الذين لا يفترون من تسبيحك، و لا يسأمون من تقديسك، و لا يستحسرون عن عبادتك، و لا يؤثرون التقصير على الجد في أمرك، و لا يغفلون عن الوله إليك، و إسرافيل صاحب الصور الشاخص الذي ينتظر منك الإذن و حلول الأمر فينبه بالنفخة صرعى رهائن القبور، و ميكائيل ذو الجاه عندك و المكان الرفيع من طاعتك و جبريل الأمين على وحيك المطاع في سماواتك المكين لديك المقرب عندك، و الروح الذي هو على ملائكة الحجب و الروح الذي هو من أمرك.

 

 

 

 اللهم فصل عليهم و على الملائكة الذين من دونهم من سكان سماواتك و أهل الأمانة على رسالاتك، و الذين لا يدخلهم سأمة من دءوب و لا إعياء من لغوب و لا فتور و لا تشغلهم عن تسبيحك الشهوات و لا يقطعهم عن تعظيمك سهو الغفلات، الخشع الأبصار فلا يرومون النظر إليك، النواكس الأذقان الذين قد طالت رغبتهم فيما لديك المستهترون بذكر آلائك و المتواضعون دون عظمتك و جلال كبريائك، و الذين يقولون إذا نظروا إلى جهنم تزفر على أهل معصيتك سبحانك ما عبدناك حق عبادتك .

فصل عليهم و على الروحانيين من ملائكتك و أهل الزلفة عندك و حمال الغيب إلى رسلك و المؤتمنين على وحيك و قبائل الملائكة الذين اختصصتهم لنفسك و أغنيتهم عن الطعام و الشراب بتقديسك و أسكنتهم بطون أطباق سماواتك، و الذين هم على أرجائها إذا نزل الأمر بتمام وعدك .

و خزان المطر و زواجر السحاب و الذي بصوت زجره يسمع زجل الرعود، و إذا سبحت به حفيفة السحاب التمعت صواعق البروق، و مشيعي الثلج و البرد و الهابطين مع قطر المطر إذا نزل، و القوام على خزائن الرياح، و الموكلين بالجبال فلا تزول، و الذين عرفتهم مثاقيل المياه و كيل ما يحويه لواعج الأمطار و عوالجها و رسلك من الملائكة إلى أهل الأرض بمكروه ما ينزل من البلاء و محبوب الرخاء .

و السفرة الكرام البررة و الحفظة الكرام الكاتبين، و ملك الموت و أعوانه، و منكر و نكير، و مبشر و بشير، و رؤمان فتان القبور، و الطائفين بالبيت المعمور، و مالك و الخزنة، و رضوان و سدنة الجنان، و الذين لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون، و الذين يقولون: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، و الزبانية الذين إذا قيل لهم: «خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه» ابتدروه سراعا و لم ينظروه، و من ألهمنا ذكره و لم نعلم مكانه منه و بأي أمر وكلته، و سكان الهواء و الأرض و الماء، و من منهم على الخلق .

فصل عليهم يوم تأتي كل نفس معها سائق و شهيد و صل عليهم صلاة تزيدهم كرامة على كرامتهم و طهارة على طهارتهم. الدعاء.

 و في البحار، عن الدر المنثور، عن ابن شهاب: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) سأل جبرئيل

 

 

 

 أن يتراءى له في صورته فقال جبرئيل: إنك لن تطيق ذلك. قال: إني أحب ذلك فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى المصلى في ليلة مقمرة فأتاه جبرئيل في صورته فغشي على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حين رآه ثم أفاق و جبرئيل مسنده و واضع إحدى يديه على صدره و الأخرى بين كتفيه فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : ما كنت أرى أن شيئا ممن يخلق هكذا فقال جبرئيل: فكيف لو رأيت إسرافيل إن له لاثني عشر جناحا جناح في المشرق و جناح في المغرب و إن العرش على كاهله، و إنه ليتضأل الأحيان لعظمة الله حتى يصير مثل الوصع‏[1] حتى ما يحمل عرشه إلا عظمته.

 و في الصافي، عن التوحيد، بإسناده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث قال: و قوله في آخر الآيات: ﴿مَا زَاغَ اَلْبَصَرُ وَ مَا طَغىَ لَقَدْ رَأىَ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ اَلْكُبْرىَ رأى جبرئيل في صورته مرتين هذه المرة و مرة أخرى و ذلك أن خلق جبرئيل عظيم فهو من الروحانيين الذين لا يدرك خلقهم و صفتهم إلا الله.

 و عن الخصال، بإسناده عن محمد بن مروان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : إن جبرئيل أتاني فقال: إنا معشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه كلب و لا تمثال جسد و لا إناء يبال فيه.

 أقول: و هناك روايات أخرى في صفة الملائكة فوق حد الإحصاء واردة في باب المعاد و معراج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أبواب متفرقة أخرى، و فيما أوردناه أنموذج كاف في ذلك.

 و في العيون، في باب ما جاء عن الرضا (عليه السلام) من الأخبار المجموعة بإسناده عنه (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا، و قرأ ﴿يَزِيدُ فِي اَلْخَلْقِ مَا يَشَاءُ.

و في التوحيد، بإسناده عن زرارة عن عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

سمعته يقول: إن القضاء و القدر خلقان من خلق الله يزيد في الخلق ما يشاء.

 و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿يَزِيدُ فِي اَلْخَلْقِ مَا يَشَاءُ: روى أبو هريرة عن النبي

 

 

 

 (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: هو الوجه الحسن و الصوت الحسن و الشعر الحسن.

 أقول: و الروايات الثلاث الأخيرة من قبيل الجري و الانطباق.

(كلام في الملائكة)

تكرر ذكر الملائكة في القرآن الكريم و لم يذكر منهم بالتسمية إلا جبريل و ميكال و ما عداهما مذكور بالوصف كملك الموت و الكرام الكاتبين و السفرة الكرام البررة و الرقيب و العتيد و غير ذلك.

و الذي ذكره الله سبحانه في كلامه و تشايعه الأحاديث السابقة من صفاتهم و أعمالهم هو أولا: أنهم موجودات مكرمون هم وسائط بينه تعالى و بين العالم المشهود فما من حادثة أو واقعة صغيرة أو كبيرة إلا و للملائكة فيها شأن و عليها ملك موكل أو ملائكة موكلون بحسب ما فيها من الجهة أو الجهات و ليس لهم في ذلك شأن إلا إجراء الأمر الإلهي في مجراه أو تقريره في مستقره كما قال تعالى ﴿لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ الأنبياء: - ٢٧.

و ثانيا: أنهم لا يعصون الله فيما أمرهم به فليست لهم نفسية مستقلة ذات إرادة مستقلة تريد شيئا غير ما أراد الله سبحانه فلا يستقلون بعمل و لا يغيرون أمرا حملهم الله إياه بتحريف أو زيادة أو نقصان قال تعالى‏﴿لاَ يَعْصُونَ اَللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ التحريم: - ٦.

و ثالثا: أن الملائكة على كثرتهم على مراتب مختلفة علوا و دنوا فبعضهم فوق بعض و بعضهم دون بعض فمنهم آمر مطاع و منهم مأمور مطيع لأمره، و الآمر منهم آمر بأمر الله حامل له إلى المأمور و المأمور مأمور بأمر الله مطيع له، فليس لهم من أنفسهم شي‏ء البتة قال تعالى‏﴿وَ مَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ الصافات: - ١٦٤ و قال‏﴿مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ التكوير: - ٢١، و قال‏﴿قَالُوا مَا ذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا اَلْحَقَّ سبأ: - ٢٣.

و رابعا: أنهم غير مغلوبين لأنهم إنما يعملون بأمر الله و إرادته ﴿وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ لاَ فِي اَلْأَرْضِ فاطر: - ٤٤، و قد قال الله‏﴿وَ اَللَّهُ غَالِبٌ عَلىَ

 

 

 

 أَمْرِهِ يوسف: - ٢١، و قال‏﴿إِنَّ اَللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ الطلاق: - ٣.

و من هنا يظهر أن الملائكة موجودات منزهة في وجودهم عن المادة الجسمانية التي هي في معرض الزوال و الفساد و التغير و من شأنها الاستكمال التدريجي الذي تتوجه به إلى غايتها، و ربما صادفت الموانع و الآفات فحرمت الغاية و بطلت دون البلوغ إليها.

و من هنا يظهر أن ما ورد في الروايات من صور الملائكة و أشكالهم و هيئاتهم الجسمانية كما تقدم نبذة منها في البحث الروائي السابق إنما هو بيان تمثلاتهم و ظهوراتهم للواصفين من الأنبياء و الأئمة (عليه السلام) ، و ليس من التصور و التشكل في شي‏ء ففرق بين التمثل و التشكل فتمثل الملك إنسانا هو ظهوره لمن يشاهده في صورة الإنسان فهو في ظرف المشاهدة و الإدراك ذو صورة الإنسان و شكله و في نفسه و الخارج من ظرف الإدراك ملك ذو صورة ملكية و هذا بخلاف التشكل و التصور فإنه لو تشكل بشكل الإنسان و تصور بصورته صار إنسانا في نفسه من غير فرق بين ظرف الإدراك و الخارج عنه فهو إنسان في العين و الذهن معا؟ و قد تقدم كلام في معنى التمثل في تفسير سورة مريم.

و لقد صدق الله سبحانه ما تقدم من معنى التمثل في قوله في قصة المسيح و مريم‏﴿

فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيًّا مريم: - ١٧ و قد تقدم تفسيره.

و أما ما شاع في الألسن أن الملك جسم لطيف يتشكل بأشكال مختلفة إلا الكلب و الخنزير، و الجن جسم لطيف يتشكل بأشكال مختلفة حتى الكلب و الخنزير فمما لا دليل عليه من عقل و لا نقل من كتاب أو سنة معتبرة، و أما ما ادعاه بعضهم من إجماع المسلمين على ذلك فمضافا إلى منعه لا دليل على حجيته في أمثال هذه المسائل الاعتقادية.

[سورة فاطر (٣٥): الآیات ٢ الی ٨]

﴿مَا يَفْتَحِ اَللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَ مَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ ٢ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ اُذْكُرُوا

 

 

 

نِعْمَتَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اَللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ٣ وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَ إِلَى اَللَّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ ٤ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا وَ لاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ اَلْغَرُورُ ٥ إِنَّ اَلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ اَلسَّعِيرِ ٦ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ ٧ أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اَللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اَللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ٨

(بيان)

لما أشار إلى الملائكة و هم وسائط في وصول النعم إلى الخليقة أشار إلى نفس النعم إشارة كلية فذكر أن عامة النعم من الله سبحانه لا غير فهو الرازق لا يشاركه فيه أحد، ثم احتج بالرازقية على الربوبية ثم على المعاد و أن وعده تعالى بالبعث و عذاب الكافرين و مغفرة المؤمنين الصالحين حق، و في الآيات تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم).

قوله تعالى: ﴿مَا يَفْتَحِ اَللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَ مَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ إلخ المعنى أن ما يؤتيه الله الناس من النعمة و هو الرزق فلا مانع عنه

 

 

 

و ما يمنع فلا مؤتي له فكان مقتضى الظاهر أن يقال: ما يرسل الله للناس إلخ. كما عبر في الجملة الثانية بالإرسال لكنه عدل عن الإرسال إلى الفتح لما وقع مكررا في كلامه أن لرحمته خزائن كقوله‏﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ اَلْعَزِيزِ اَلْوَهَّابِ ص: - ٩ و قوله‏ ﴿ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ اَلْإِنْفَاقِ الإسراء: - ١٠٠ و التعبير بالفتح أنسب من الإرسال في الخزائن ففيه إشارة إلى أن الرحمة التي يؤتاها الناس مخزونة في خزائن محيطة بالناس لا يتوقف نيلهم منها إلا إلى فتحها من غير مئونة زائدة.

و قد عبر عن الرزق الذي هو النعمة بالرحمة للدلالة على أن إفاضته تعالى لهذه النعم ناشئة من مجرد الرحمة من غير توقع لنفع يعود إليه أو كمال يستكمل به.

و قوله: ﴿وَ مَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ أي و ما يمنع من الرحمة فلا مرسل له من دونه، و في التعبير بقوله: ﴿مِنْ بَعْدِهِ إشارة إلى أنه تعالى أول في المنع كما أنه أول في الإعطاء.

و قوله: ﴿وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ تقرير للحكم المذكور في الآية الكريمة بالاسمين الكريمين فهو تعالى لكونه عزيزا لا يغلب إذا أعطى فليس لمانع أن يمنع عنه و إذا منع فليس لمعط أن يعطيه، و هو تعالى حكيم إذا أعطى أعطى عن حكمة و مصلحة و إذا منع منع عن حكمة و مصلحة و بالجملة لا معطي إلا الله و لا مانع إلا هو، و منعه و إعطائه عن حكمة.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اَللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ إلخ. لما قرر في الآية السابقة أن الإعطاء و المنع لله سبحانه لا يشاركه في ذلك أحد احتج في هذه الآية بذلك على توحده في الربوبية.

و تقرير الحجة أن الإله إنما يكون إلها معبودا لربوبيته و هي ملكة تدبير أمر الناس و غيرهم، و الذي يملك تدبير الأمر بهذه النعم التي يتقلب فيها الناس و غيرهم و يرتزقون بها هو الله سبحانه دون غيره من الآلهة التي اتخذوها لأنه سبحانه هو الذي خلقها دونهم و الخلق لا ينفك عن التدبير و لا يفارقه فهو سبحانه إلهكم لا إله إلا هو لأنه ربكم الذي يدبر أمركم بهذه النعم التي تتقلبون فيها و إنما كان ربا مدبرا بهذه النعم لأنه

 

 

 

 خالقها و خالق النظام الذي يجري عليها.

و بذلك يظهر أن المراد بالناس المخاطبين الوثنيون و غيرهم ممن اتخذ لله شريكا.

و قوله: ﴿اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ المراد بالذكر ما يقابل النسيان دون الذي الذكر اللفظي.

و قوله: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اَللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ الرزق‏ هو ما يمد به البقاء و مبدؤه السماء بواسطة الأشعة و الأمطار و غيرهما و الأرض بواسطة النبات و الحيوان و غيرهما.

و بذلك يظهر أيضا أن في الآية إيجازا لطيفا فقد بدلت الرحمة في الآية السابقة نعمة في هذه الآية أولا ثم النعمة رزقا ثانيا و كان مقتضى سياق الآيتين أن يقال: هل من رازق أو هل من منعم أو هل من راحم لكن بدل ذلك من قوله: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ ليكون إشارة إلى برهان ثان ينقطع به الخصام، فإنهم يرون تدبير العالم لآلهتهم بإذن الله فلو قيل: هل من رازق أو منعم غير الله لم ينقطع الخصام و أمكن أن يقولوا نعم آلهتنا بتفويض التدبير من الله إليهم لكن لما قيل: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ أشير بالوصف إلى أن الرازق و المدبر هو خالق الرزق لا غير فانقطع الخصام و لم يمكنهم إلا أن يجيبوا بنفي خالق غير الله يرزقهم من السماء و الأرض.

و قوله: ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ اعتراض بالتوحيد يفيد التعظيم نظير قوله: ﴿وَ قَالُوا اِتَّخَذَ اَللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ.

أي لا معبود بالحق إلا هو لأن المستحق للعبادة هو الذي ينعم عليكم و يرزقكم و ليس إلا الله.

و قوله: ﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ توبيخ متفرع على ما سبغ من البرهان أي فإذا كان الأمر هكذا و أنتم تقرون بذلك فإلى متى تصرفون عن الحق إلى الباطل و من التوحيد إلى الإشراك.

و في إعراب الآية أعني قوله: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اَللَّهِ إلخ. بين القوم مشاجرات طويلة و الذي يناسب ما تقدم من تقرير البرهان أن ﴿مِنْ زائدة للتعميم، و قوله:

 

 

 

﴿غَيْرُ اَللَّهِ صفة لخالق تابع لمحله، و كذا قوله: ﴿يَرْزُقُكُمْ إلخ. و ﴿مِنْ خَالِقٍ مبتدأ محذوف الخبر و هو موجود، و قوله: ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ اعتراض، و قوله: ﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ تفريع على ما تقدمه.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَ إِلَى اَللَّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أي و إن يكذبوك بعد استماع هذه البراهين الساطعة فلا تحزن فليس ذلك ببدع فقد كذبت رسل من قبلك كذبتهم أممهم و أقوامهم و إلى الله ترجع عامة الأمور فيجازيهم بما يستحقونه بتكذيبهم الحق بعد ظهوره فليسوا بمعجزين بتكذيبهم.

و من هنا يظهر أن قوله؟ ﴿فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ من قبيل وضع السبب موضع المسبب و أن قوله: ﴿وَ إِلَى اَللَّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ معطوف على قوله: ﴿فَقَدْ كُذِّبَتْ إلخ.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا وَ لاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ اَلْغَرُورُ خطاب عام للناس يذكرهم بالمعاد كما كان الخطاب العام السابق يذكرهم بتوحده تعالى في الربوبية و الألوهية.

فقوله: ﴿إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ أي وعده أنه يبعثكم فيجازي كل عامل بعمله إن خيرا و إن شرا ﴿حَقٌّ أي ثابت واقع، و قد صرح بهذا الوعد في قوله الآتي: ﴿اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ.

و قوله: ﴿فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا النهي و إن كان متوجها إلى الحياة الدنيا صورة لكنه في الحقيقة متوجه إليهم، و المعنى إذا كان وعد الله حقا فلا تغتروا بالحياة الدنيا بالاشتغال بزينتها و التلهي بما ينسيكم يوم الحساب من ملاذها و ملاهيها و الاستغراق في طلبها و الإعراض عن الحق.

و قوله: ﴿وَ لاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ اَلْغَرُورُ الغرور بفتح الغين صيغة مبالغة من الغرور بالضم و هو الذي يبالغ في الغرور و من عادته ذلك، و الظاهر كما قيل إن المراد به الشيطان و يؤيده التعليل الواقع في الآية التالية: ﴿إِنَّ اَلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ إلخ.

و معنى غروره بالله توجيهه أنظارهم إلى مظاهر حلمه و عفوه تعالى تارة و مظاهر

 

 

 

 ابتلائه و استدراجه و كيده أخرى فيرون أن الاشتغال بالدنيا و نسيان الآخرة و الإعراض عن الحق و الحقيقة لا يستعقب عقوبة و لا يستتبع مؤاخذة، و أن أبناء الدنيا كلما أمعنوا في طلبهم و توغلوا في غفلتهم و استغرقوا في المعاصي و الذنوب زادوا في عيشهم طيبا و في حياتهم راحة و بين الناس جاها و عزة فيلقي الشيطان عند ذلك في قلوبهم أن لا كرامة إلا في التقدم في الحياة الدنيا، و لا خبر عما وراءها و ليس ما تتضمنه الدعوة الحقة من الوعد و الوعيد و تخبر به النبوة من البعث و الحساب و الجنة و النار إلا خرافة.

فالمراد بغرور الشيطان الإنسان بالله اغترار الإنسان بما يعامل به الله الإنسان على غفلته و ظلمه.

و ربما قيل: إن المراد بالغرور الدنيا الغارة للإنسان و أن قوله: ﴿وَ لاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ اَلْغَرُورُ تأكيد لقوله: ﴿فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا بتكراره معنى.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إلخ. تعليل للنهي المتقدم في قوله: ﴿وَ لاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ اَلْغَرُورُ و المراد بعداوة الشيطان أنه لا شأن له إلا إغواء الإنسان و تحريمه سعادة الحياة و حسن العاقبة، و المراد باتخاذ الشيطان عدوا التجنب من اتباع دعوته إلى الباطل و عدم طاعته فيما يشير إليه في وساوسه و تسويلاته و لذلك علل عداوته بقوله: ﴿إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ.

فقوله؟ ﴿إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ اَلسَّعِيرِ في مقام تعليل ما تقدمه و الحزب‏ هو العدة من الناس يجمعهم غرض واحد، و اللام في ﴿لِيَكُونُوا للتعليل فكونهم من أصحاب السعير علة غائية لدعوته، و السعير النار المسعرة و هو من أسماء جهنم في القرآن.

قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ هذا هو الوعد الحق الذي ذكره الله سبحانه، و تنكير العذاب للدلالة على التفخيم على أن لهم دركات و مراتب مختلفة من العذاب باختلاف كفرهم و فسوقهم فالإبهام أنسب و يجري نظير الوجهين في قوله: ﴿مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ.

قوله تعالى: ﴿أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اَللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ تقرير و بيان للتقسيم الذي تتضمنه الآية السابقة أعني تقسيم الناس إلى كافر

 

 

 

 له عذاب شديد و مؤمن عامل بالصالحات له مغفره و أجر كبير و المراد أنهما لا يستويان فلا تستوي عاقبة أمرهما.

فقوله: ﴿أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً مبتدأ خبره محذوف أي كمن ليس كذلك، و الفاء لتفريع الجملة على معنى الآية السابقة، و الاستفهام للإنكار، و المراد بمن زين له سوء عمله فرآه حسنا الكافر و يشير به إلى أنه منكوس فهمه مغلوب على عقله يرى عمله على غير ما هو عليه و المعنى أنه لا يستوي من زين له عمله السيئ فرآه حسنا و الذي ليس كذلك بل يرى السيئ سيئا.

و قوله: ﴿فَإِنَّ اَللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ تعليل للإنكار السابق في قوله: ﴿أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً أي الكافر الذي شأنه ذلك و المؤمن الذي بخلافه لا يستويان لأن الله يضل أحدهما بمشيته و هو الكافر الذي يرى السيئة حسنة و يهدي الآخر بمشيته و هو المؤمن الذي يعمل الصالحات و يرى السيئة سيئة.

و هذا الإضلال إضلال على سبيل المجازاة و ليس إضلالا ابتدائيا فلا ضير في انتسابه إلى الله سبحانه.

و بالجملة اختلاف الكافر و المؤمن في عاقبتهما بحسب الوعد الإلهي بالعذاب و الرحمة لاختلافهما بالإضلال و الهداية الإلهيين و اختلافهما بالإضلال و الهداية باختلافهما في رؤية السيئة حسنة و عدمها.

و قوله: ﴿فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ الحسرات‏ جمع حسرة و هي الغم لما فأت و الندم عليه، و هي منصوبة لأنه مفعول لأجله و المراد بذهاب النفس عليهم هلاكها فيهم لأجل الحسرات الناشئة من عدم إيمانهم.

و الجملة متفرعة على الفرق السابق أي إذا كانت الطائفتان مختلفتين بالإضلال و الهداية من جانب الله فلا تهلك نفسك حسرات عليهم إذ كذبوك و كفروا بك فإن الله هو الذي يضلهم جزاء لكفرهم و رؤيتهم السيئة حسنة و هو عليم بما يصنعون فلا يختلط عليه الأمر و لا يفعل بهم إلا الحق و لا يجازيهم إلا بالحق.

و من هنا يظهر أن قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ في موضع التعليل لقوله:

 

 

 

﴿فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ فلا ينبغي للرسول (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يهلك نفسه عليهم حسرات حيث ضلوا و حقت عليهم كلمة العذاب فإن الله هو الذي يضلهم لصنعهم و هو عليم بما يصنعون.

[سورة فاطر (٣٥): الآیات ٩ الی ١٤]

﴿وَ اَللَّهُ اَلَّذِي أَرْسَلَ اَلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلىَ بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ اَلنُّشُورُ ٩ مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ اَلْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَ اَلَّذِينَ يَمْكُرُونَ اَلسَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَ مَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ١٠ وَ اَللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَ مَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى‏ وَ لاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَ مَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيرٌ ١١ وَ مَا يَسْتَوِي اَلْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَ هَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَ تَرَى اَلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ١٢ يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهَارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهَارَ فِي اَللَّيْلِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ اَلْمُلْكُ وَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ١٣ إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا

 

 

 

دُعَاءَكُمْ وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اِسْتَجَابُوا لَكُمْ وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَ لاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ١٤

(بيان)

احتجاجات على وحدانيته تعالى في ألوهيته بعد جملة من النعم السماوية و الأرضية التي يتنعم بها الإنسان و لا خالق لها و لا مدبر لأمرها إلا الله سبحانه، و فيها بعض الإشارة إلى البعث.

قوله تعالى: ﴿وَ اَللَّهُ اَلَّذِي أَرْسَلَ اَلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلىَ بَلَدٍ مَيِّتٍ إلخ.

العناية في المقام بتحقق وقوع الأمطار و إنبات النبات بها، و لذلك قال: ﴿اَللَّهُ اَلَّذِي أَرْسَلَ اَلرِّيَاحَ و هذا بخلاف ما في سورة الروم من قوله‏﴿اَللَّهُ اَلَّذِي يُرْسِلُ اَلرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً الروم: - ٤٨.

و قوله: ﴿فَتُثِيرُ سَحَاباً عطف على ﴿أَرْسَلَ و الضمير للرياح و الإتيان بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية و الإثارة إفعال من ثار الغبار يثور ثورانا إذا انتشر ساطعا.

و قوله: ﴿فَسُقْنَاهُ إِلى‏َ بَلَدٍ مَيِّتٍ أي إلى أرض لا نبات فيها ﴿فَأَحْيَيْنَا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا و أنبتنا فيها نباتا بعد ما لم تكن، و نسبة الإحياء إلى الأرض و إن كانت مجازية لكن نسبته إلى النبات حقيقية و أعمال النبات من التغذية و النمو و توليد المثل و ما يتعلق بذلك أعمال حيوية تنبعث من أصل الحياة.

و لذلك شبه البعث و إحياء الأموات بعد موتهم بإحياء الأرض بعد موتها أي إنبات النبات بعد توقفه عن العمل و ركوده في الشتاء فقال: ﴿كَذَلِكَ اَلنُّشُورُ أي البعث فالنشور بسط الأموات يوم القيامة بعد إحيائهم و إخراجهم من القبور.

و في قوله: ﴿فَسُقْنَاهُ إِلىَ بَلَدٍ مَيِّتٍ إلخ. التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير فهو تعالى في قوله: ﴿وَ اَللَّهُ اَلَّذِي أَرْسَلَ بنعت الغيبة و في قوله: ﴿فَسُقْنَاهُ إلخ. بنعت التكلم مع الغير و لعل النكتة في ذلك هي أنه لما قال: ﴿وَ اَللَّهُ اَلَّذِي أَرْسَلَ اَلرِّيَاحَ أخذ لنفسه نعت

 

 

 

الغيبة و يتبعه فيه الإرسال فإن فعل الغائب غائب، ثم لما قال: ﴿فَتُثِيرُ سَحَاباً على نحو حكاية الحال الماضية صار المخاطب كأنه يرى الفعل و يشاهد الرياح و هي تثير السحاب و تنشره في الجو فصار كأنه يرى من يرسل الرياح لأن مشاهدة الفعل كادت أن لا تنفك عن مشاهدة الفاعل فلما ظهر تعالى بنعت الحضور غير سياق كلامه من الغيبة إلى التكلم و اختار لفظ التكلم مع الغير للدلالة على العظمة.

و قوله: ﴿فَأَحْيَيْنَا بِهِ اَلْأَرْضَ و لم يقل: فأحييناه مع كفايته و كذا قوله:

﴿بَعْدَ مَوْتِهَا مع جواز الاكتفاء بما تقدمه للأخذ بصريح القول الذي لا ارتياب دونه.

قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ اَلْعِزَّةُ جَمِيعاً قال الراغب في المفردات،:

العزة حالة مانعة للإنسان من أن يغلب من قولهم: أرض عزاز أي صلبة قال تعالى:

﴿أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ اَلْعِزَّةَ فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً انتهى.

فالصلابة هو الأصل في معنى العزة ثم توسع فاستعمل العزيز فيمن يقهر و لا يقهر كقوله تعالى‏﴿يَا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ مَسَّنَا يوسف: - ٨٨. و كذا العزة بمعنى الغلبة قال تعالى‏﴿وَ عَزَّنِي فِي اَلْخِطَابِ (ص): - ٢٣ و العزة بمعنى القلة و صعوبة المنال، قال تعالى‏﴿وَ إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ حم السجدة: - ٤١ و العزة بمعنى مطلق الصعوبة قال تعالى‏﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ التوبة: - ١٢٨: «و العزة بمعنى الأنفة و الحمية قال تعالى ﴿بَلِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقَاقٍ ص: - ٢ إلى غير ذلك.

ثم إن العزة بمعنى كون الشي‏ء قاهرا غير مقهور أو غالبا غير مغلوب تختص بحقيقة معناها بالله عز و جل إذ غيره تعالى فقير في ذاته ذليل في نفسه لا يملك لنفسه شيئا إلا أن يرحمه الله و يؤتيه شيئا من العزة كما فعل ذلك بالمؤمنين به قال تعالى‏﴿وَ لِلَّهِ اَلْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ المنافقون: - ٨.

و بذلك يظهر أن قوله: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ اَلْعِزَّةُ جَمِيعاً ليس بمسوق لبيان اختصاص العزة بالله بحيث لا ينالها غيره و أن من أرادها فقد طلب محالا و أراد ما لا يكون بل المعنى من كان يريد العزة فليطلبها منه تعالى لأن العزة له جميعا لا توجد عند غيره بالذات.

فوضع قوله: ﴿فَلِلَّهِ اَلْعِزَّةُ جَمِيعاً في جزاء الشرط من قبيل وضع السبب موضع

 

 

 

 المسبب و هو طلبها من عنده أي اكتسابها منه بالعبودية التي لا تحصل إلا بالإيمان و العمل الصالح.

قوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ الكلم كما قيل اسم جنس جمعي يذكر و يؤنث، و قال في المجمع،: و الكلم جمع كلمة يقال؟ هذا كلم و هذه كلم فيذكر و يؤنث، و كل جمع ليس بينه و بين واحده إلا الهاء يجوز فيه التذكير و التأنيث انتهى.

و المراد بالكلم على أي حال ما يفيد معنى تاما كلاميا و يشهد به توصيفه بالطيب فطيب الكلم هو ملاءمته لنفس سامعه و متكلمه بحيث تنبسط منه و تستلذه و تستكمل به و ذلك إنما يكون بإفادته معنى حقا فيه سعادة النفس و فلاحها.

و بذلك يظهر أن المراد به ليس مجرد اللفظ بل بما أن له معنى طيبا فالمراد به الاعتقادات الحقة التي يسعد الإنسان بالإذعان لها و بناء عمله عليها و المتيقن منها كلمة التوحيد التي يرجع إليها سائر الاعتقادات الحقة و هي المشمولة لقوله تعالى‏﴿أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَ فَرْعُهَا فِي اَلسَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا إبراهيم: - ٢٥ و تسمية الاعتقاد قولا و كلمة أمر شائع بينهم.

و صعود الكلم الطيب إليه تعالى هو تقربه منه تعالى اعتلاء و هو العلي الأعلى رفيع الدرجات، و إذ كان اعتقادا قائما بمعتقده فتقربه منه تعالى تقرب المعتقد به منه، و قد فسروا صعود الكلم الطيب بقبوله تعالى له و هو من لوازم المعنى.

ثم إن الاعتقاد و الإيمان إذا كان حق الاعتقاد صادقا إلى نفسه صدقه العمل و لم يكذبه أي يصدر عنه العمل على طبقه فالعمل من فروع العلم و آثاره التي لا تنفك عنه، و كلما تكرر العمل زاد الاعتقاد رسوخا و جلاء و قوي في تأثيره فالعمل الصالح و هو العمل الحري بالقبول الذي طبع عليه بذل العبودية و الإخلاص لوجهه الكريم يعين الاعتقاد الحق في ترتب أثره عليه و هو الصعود إليه تعالى و هو المعزى إليه بالرفع فالعمل الصالح يرفع الكلم الطيب.

فقد تبين بما مر معنى قوله: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ و أن ضمير ﴿إِلَيْهِ لله سبحانه و المراد بالكلم الطيب الاعتقاد الحق كالتوحيد، و بصعوده

 

 

 

 تقربه منه تعالى، و بالعمل الصالح ما كان على طبق الاعتقاد الحق و يلائمه و أن الفاعل في ﴿يَرْفَعُهُ ضمير مستكن راجع إلى العمل الصالح و ضمير المفعول راجع إلى الكلم الطيب.

و لهم في الآية أقوال أخر:

فقد قيل: إن المراد بصعود الكلم الطيب قبوله و الإثابة عليه كما تقدمت الإشارة إليه، و قيل: المراد صعود الملائكة بما كتب من الإيمان و الطاعات إلى الله سبحانه، و قيل: المراد صعودهم به إلى السماء فسمي الصعود إلى السماء صعودا إلى الله مجازا.

و قيل: إن فاعل ﴿يَرْفَعُهُ ضمير عائد إلى الكلم الطيب و ضمير المفعول للعمل الصالح و المعنى أن الكلم الطيب يرفع العمل الصالح أي أن العمل الصالح لا ينفع إلا إذا صدر عن التوحيد، و قيل: فاعل ﴿يَرْفَعُهُ ضمير مستكن راجع إليه تعالى و المعنى العمل الصالح يرفعه الله.

و جملة هذه الوجوه لا تخلو من بعد و الأسبق إلى الذهن ما قدمناه من المعنى.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ يَمْكُرُونَ اَلسَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَ مَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ذكروا أن ﴿اَلسَّيِّئَاتِ وصف قائم مقام موصوف محذوف و هو المكرات، و وضع اسم الإشارة موضع الضمير في ﴿مَكْرُ أُولَئِكَ للدلالة على أنهم متعينون لا مختلطون بغيرهم و المعنى و الذين يمكرون المكرات السيئات لهم عذاب شديد و مكر أولئك الماكرين هو يبور و يهلك فلا يستعقب أثرا حيا فيه سعادتهم و عزتهم.

و قد بان أن المراد بالسيئات أنواع المكرات و الحيل التي يتخذها المشركون وسائل لكسب العزة، و الآية مطلقة، و قيل: المراد المكرات التي اتخذتها قريش على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في دار الندوة و غيرها من إثبات أو إخراج أو قتل فرد الله كيدهم إليهم و أخرجهم إلى بدر و قتلهم و أثبتهم في القليب فجمع عليهم الإثبات و الإخراج و القتل و هذا وجه حسن لكن الآية مطلقة.

و وجه اتصال ذيل الآية بصدرها أعني اتصال قوله: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ إلى آخر الآية بقوله: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ اَلْعِزَّةُ جَمِيعاً أن المشركين كانوا يعتزون بآلهتهم كما قال تعالى‏﴿وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا مريم: - ٨١ فدعاهم الله سبحانه و هم يطلبون العز إلى نفسه بتذكيرهم أن العزة لله جميعا و بين تعالى ذلك بأن

 

 

 

 توحيده يصعد إليه و العمل الصالح يرفعه فيكتسب الإنسان بالتقرب منه عزة من منبع العزة و أما الذين يمكرون كل مكر سيئ لاكتساب العزة فلهم عذاب شديد و ما مكروه من المكر بائر هالك لا يصعد إلى محل و لا يكسب لهم عزا.

قوله تعالى: ﴿وَ اَللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً إلخ. يشير تعالى إلى خلق الإنسان فابتدأ خلقه من تراب و هو المبدأ البعيد الذي تنتهي إليه الخلقة ثم من نطفة و هي مبدأ قريب تتعلق به الخلقة.

و قيل المراد بخلقهم من تراب خلق أبيهم آدم من تراب فإن الشي‏ء يضاف إلى أصله و قيل: بل المراد خلق آدم نفسه و قيل: بل المراد خلقهم خلقا إجماليا من تراب في ضمن خلق آدم من تراب و الخلق التفصيلي هو من نطفة كما قال: ﴿ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ.

و الفرق بين الوجوه الثلاثة أن في الأول نسبة الخلق من تراب إليهم على طريق المجاز العقلي، و في الثاني المراد بخلقهم خلق آدم و لا مجاز في النسبة، و في الثالث المراد خلق كل واحد من الأفراد من التراب حقيقة من غير مجاز إلا أنه خلق إجمالي لا تفصيلي و بهذا يفارق ما قدمناه من الوجه.

و يمكن تأييد القول الأول بقوله تعالى‏﴿خَلَقَ اَلْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ الرحمن: - ١٤، و الثاني بنحو قوله‏﴿وَ بَدَأَ خَلْقَ اَلْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ السجدة: - ٨، و الثالث بقوله‏﴿وَ لَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ الأعراف: - ١١ و لكل وجه.

و قوله: ﴿ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً أي ذكورا و إناثا، و قيل: أي قدر بينكم الزوجية و زوج بعضكم من بعض، و هو كما ترى، و قيل: أي أصنافا و شعوبا. و هو كسابقه.

و قوله: ﴿وَ مَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى‏َ وَ لاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ من زائدة لتأكيد النفي، و الباء في ﴿بِعِلْمِهِ للمصاحبة و هو حال من الحمل و الوضع، و المعنى ما تحمل و لا تضع أنثى إلا و علمه يصاحب حمله و وضعه، و ذكر بعضهم أنه حال من الفاعل و أن كونه حالا من الحمل و الوضع و كذا من مفعوليهما أي المحمول و الموضوع خلاف الظاهر و هو ممنوع.

 

 

 

 و قوله: ﴿وَ مَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ أي و ما يمد و يزاد في عمر أحد فيكون معمرا و لا ينقص من عمره أي عمر أحد إلا في كتاب.

فقوله: ﴿وَ مَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ من قبيل قوله‏﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً يوسف: - ٢٦ فوضع معمر موضع نائب الفاعل و هو أحد بعناية أنه بعد تعلق التعمير به يصير معمرا و إلا فتعمير المعمر لا معنى له.

و قوله: ﴿وَ لاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ الضمير في ﴿عُمُرِهِ راجع إلى ﴿مُعَمَّرٍ باعتبار موصوفه المحذوف و هو أحد و المعنى و لا ينقص من عمر أحد و إلا فنقص عمر المفروض معمرا تناقض خارق للفرض.

و قوله: ﴿إِلاَّ فِي كِتَابٍ و هو اللوح المحفوظ الذي لا سبيل للتغيير إليه فقد كتب فيه أن فلانا يزاد في عمره كذا لسبب كذا و فلانا ينقص من عمره كذا لسبب كذا و أما كتاب المحو و الإثبات فهو مورد التغير و سياق الآية يفيد وصف العلم الثابت و لهم في قوله: ﴿وَ مَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ وجوه أخر ضعيفة لا جدوى في التعرض لها.

و قوله: ﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيرٌ تعليل و تقرير لما في الآية من وصف خلق الإنسان و كيفية إحداثه و إبقائه و المعنى أن هذا التدبير الدقيق المتين المهيمن على كليات الحوادث و جزئياتها المقرر كل شي‏ء في مقره على الله يسير لأنه الله العليم القدير المحيط بكل شي‏ء بعلمه و قدرته فهو تعالى رب الإنسان كما أنه رب كل شي‏ء.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا يَسْتَوِي اَلْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَ هَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ إلى آخر الآية قيل: العذب‏ من الماء طيبه، و الفرات‏ الماء الذي يكسر العطش أو البارد كما في المجمع، و السائغ‏ هو الذي يسهل انحداره في الحلق لعذوبته و الأجاج‏ الذي يحرق لملوحته أو المر.

و قوله: ﴿وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا اللحم الطري‏ الغض الجديد، و المراد لحم السمك أو السمك و الطير، البحري و الحلية المستخرجة من البحر اللؤلؤ و المرجان و الأصداف قال تعالى‏﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اَللُّؤْلُؤُ وَ اَلْمَرْجَانُ الرحمن: - ٢٢.

و في الآية تمثيل للمؤمن و الكافر بالبحر العذب و المالح يتبين به عدم تساوي المؤمن

 

 

 

 و الكافر في الكمال الفطري و إن تشاركا في غالب الخواص الإنسانية و آثارها فالمؤمن باق على فطرته الأصلية ينال بها سعادة الحياة الدائمة و الكافر منحرف فيها متلبس بما لا تستطيبه الفطرة الإنسانية و سيعذب بأعماله فمثلهما مثل البحرين المختلفين عذوبة و ملوحة فهما مختلفان من حيث البقاء على فطرة الماء الأصلية و هي العذوبة و الخروج عنها بالملوحة و إن اشتركا في بعض الآثار التي ينتفع بها، فمن كل منهما تأكلون لحما طريا و هو لحم السمك و الطير المصطاد من البحر و تستخرجون حلية تلبسونها كاللؤلؤ و المرجان و الأصداف.

فظاهر الآية أن الحلية المستخرجة مشتركة بين البحر العذب و البحر المالح لكن جمعا من المفسرين استشكلوا ذلك بأن اللؤلؤ و المرجان إنما يستخرجان من البحر المالح دون العذب، و قد أجابوا عنه بأجوبة مختلفة.

منها أن الآية مسوقة لبيان اشتراك البحرين في مطلق الفائدة و إن اختص ببعضها كأنه قيل: و من كل تنتفعون و تستفيدون كما تأكلون منهما لحما طريا و تستخرجون من البحر المالح حلية تلبسونها و ترى الفلك فيه مواخر.

و منها أنه شبه المؤمن و الكافر بالعذب و الأجاج ثم فضل الأجاج على الكافر بأن في الأجاج بعض النفع و الكافر لا نفع في وجوده فالآية على طريقة قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ثم قال‏﴿وَ إِنَّ مِنَ اَلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ اَلْأَنْهَارُ وَ إِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ اَلْمَاءُ وَ إِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اَللَّهِ البقرة: - ٧٤.

و منها أن قوله: ﴿وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا من تتمة التمثيل على معنى أن البحرين و إن اشتركا في بعض المنافع تفاوتا فيما هو المقصود بالذات لأن أحدهما خالطه ما خرج به عن صفاء فطرته و المؤمن و الكافر و إن اتفقا أحيانا في بعض المكارم كالشجاعة و السخاوة متفاوتان فيما هو الأصل لبقاء أحدهما على صفاء الفطرة الأصلية دون الآخر.

و منها أنه لا مانع من أن يخرج اللؤلؤ من المياه العذبة و إن لم نره فالإشكال باختصاص الحلية بالماء المالح ممنوع.

و منها منع أصل الدعوى و هو كون الآية ﴿وَ مَا يَسْتَوِي اَلْبَحْرَانِ إلخ. تمثيلا

 

 

 

 للمؤمن و الكافر بل هي واقعة في سياق تعداد النعم لإثبات الربوبية كقوله قبلا: ﴿وَ اَللَّهُ اَلَّذِي أَرْسَلَ اَلرِّيَاحَ و قوله بعدا: ﴿يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهَارِ إلخ. فالآية مسوقة لبيان نعمة البحر و اختلافه بالعذوبة و الملوحة و ما فيهما من المنافع المشتركة و المختصة.

و يؤيد هذا الوجه أن نظير الآية في سورة النحل واقعة في سياق الآيات العادة لنعم الله سبحانه و هو قوله‏﴿وَ هُوَ اَلَّذِي سَخَّرَ اَلْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَ تَرَى اَلْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ: النحل: - ١٤.

و الحق أن أصل الاستشكال في غير محله و أن البحرين يشتركان في وجود الحلية فيهما كما هو مذكور في الكتب الباحثة عن هذه الشئون مشروح فيها[2]

قوله تعالى: ﴿وَ تَرَى اَلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ضمير ﴿فِيهِ للبحر، و مواخر جمع ماخرة من المخر بمعنى الشق عدت السفينة ماخرة لشقها الماء بجؤجؤتها.

قيل: إنما أفرد ضمير الخطاب في قوله: ﴿تَرَى بخلاف الخطابات المتقدمة و المتأخرة لأن الخطاب لكل أحد يتأتى منه الرؤية دون المنتفعين بالبحرين فقط.

و قوله: ﴿لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي مخر الفلك البحر بتسخيره لتطلبوا من عطائه و هو الرزق و رجاء أن تشكروا الله سبحانه، و قد تقدم أن الترجي الذي تفيده «لعل» في كلامه تعالى قائم بالمقام دون المتكلم.

و قد قيل في هذه الآية: ﴿وَ تَرَى اَلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ و في سورة النحل: ﴿وَ تَرَى اَلْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ فاختلفت الآيتان في تقديم ﴿فِيهِ على ﴿مَوَاخِرَ و تأخيره منه و عطف ﴿لِتَبْتَغُوا و عدمه.

و لعل النكتة في ذلك أن آية النحل مصدرة بكلمة التسخير فهي مسوقة لبيان كيفية التسخير و الأنسب لذلك تأخير ﴿فِيهِ﴾ ليتعلق بمواخر و يشير إلى مخر البحر

 

 

 

 فيصرح بالتسخير بخلاف ما هاهنا ثم التسخير له غايات كثيرة منها ابتغاء الفضل و الأنسب لذلك عطف ﴿لِتَبْتَغُوا﴾ على محذوف ليدل على عدم انحصار الغاية في ابتغاء الفضل بخلاف ما هاهنا فإن الغرض بيان أنه الرازق المدبر ليرتدع المكذبون و قد تقدم ذكر تكذيبهم عن تكذيبهم و يكفي في ذلك بيان ابتغائهم الفضل غاية من غير حاجة إلى العطف.

و الله أعلم.

و قال في روح المعاني، في المقام: و الذي يظهر لي في ذلك أن آية النحل سيقت لتعداد النعم كما يؤذن بذلك سوابقها و لواحقها و تعقيب الآيات بقوله سبحانه: ﴿وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا فكان الأهم هناك تقديم ما هو نعمة و هو مخر الفلك للماء بخلاف ما هنا فإنه إنما سيق استطرادا أو تتمة للتمثيل كما علمت آنفا فقدم فيه ﴿فِيهِ إيذانا بأنه ليس المقصود بالذات ذلك، و كان الاهتمام بما هناك اقتضى أن يقال في تلك الآية: ﴿وَ لِتَبْتَغُوا بالواو و مخالفة ما هنا لذلك اقتضت ترك الواو في قوله: ﴿لِتَبْتَغُوا انتهى.

قوله تعالى: ﴿يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهَارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهَارَ فِي اَللَّيْلِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى إلخ. إيلاج الليل في النهار قصر النهار بطول الليل و إيلاج النهار في الليل قصر الليل بطول النهار، و المراد بالجملتين الإشارة إلى اختلاف الليل و النهار في الطول و القصر المستمر في أيام السنة بتغير الأيام و لذا عبر بقوله: ﴿يُولِجُ الدال على استمرار التغيير بخلاف جريان الشمس و القمر فإنه ثابت على حاله و لذا عبر فيه بقوله: ﴿وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى و العناية صورية مسامحية.

و قوله: ﴿ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ بمنزلة النتيجة لما تقدم أي إذا كان أمر خلقكم و تدبيركم برا و بحرا و أرضا و سماء منتسبا إليه مدبرا بتدبيره فذلكم الله ربكم الذي يملككم و يدبر أمركم.

و قوله: ﴿لَهُ اَلْمُلْكُ مستنتج مما قبله و توطئة و تمهيد لما بعده من قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ﴾.

و قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ القطمير على ما قاله الراغب الأثر على رأس النواة و ذلك مثل للشي‏ء الطفيف، و في المجمع، القطمير لفافة النواة و قيل: الحبة في بطن النواة انتهى و الكلام على أي حال مبالغة في نفي أصل الملك

 

 

 

 و المراد بالذين تدعون من دون الله آلهتهم الذين كانوا يدعونها من الأصنام و أربابها.

قوله تعالى: ﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اِسْتَجَابُوا لَكُمْ إلخ.

بيان و تقرير لما تقدم من قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ أي تصديق كونهم لا يملكون شيئا أنكم إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم لأن الأصنام جمادات لا شعور لها و لا حس و أرباب الأصنام كالملائكة و القديسين من البشر في شغل شاغل من ذلك على أنهم لا يملكون سمعا من عند أنفسهم فلا يسمعون إلا بإسماعه.

و قوله: ﴿وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اِسْتَجَابُوا لَكُمْ إذ لا قدرة لهم على الاستجابة قولا و لا فعلا أما الأصنام فظاهر و أما أرباب الأصنام فقدرتهم من الله سبحانه و لن يأذن الله لأحد أن يستجيب أحدا يدعوه بالربوبية قال تعالى‏﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ اَلْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لاَ اَلْمَلاَئِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً النساء: - ١٧٢.

و قوله: ﴿وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ أي يردون عبادتكم إليكم و يتبرءون منكم بدلا من أن يكونوا شفعاء لكم ﴿«إِذْ تَبَرَّأَ اَلَّذِينَ اُتُّبِعُوا مِنَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا البقرة: - ١٦٦.

فالآية في نفي الاستجابة و كفر الشركاء يوم القيامة في معنى قوله‏﴿وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى‏َ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ وَ هُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَ إِذَا حُشِرَ اَلنَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَ كَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ الأحقاف: - ٦.

و قوله: ﴿وَ لاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ أي لا يخبرك عن حقيقة الأمر مخبر مثل مخبر خبير و هو خطاب خاص بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعد الإعراض عن خطابهم لعدم تفقههم بالبيان الحق أو خطاب عام في صورة الخطاب الخاص خوطب به السامع أي من كان كقوله:

﴿وَ تَرَى اَلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ الآية السابقة، و قوله‏﴿وَ تَرَى اَلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ الآية:

الكهف: - ١٧، و قوله‏﴿وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَ هُمْ رُقُودٌ الكهف: - ١٨.

(بحث روائي)

 في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ اَلنُّشُورُ حدثني أبي عن ابن أبي عمير

 

 

 

 عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا أراد الله أن يبعث الخلق أمطر السماء على الأرض أربعين صباحا فاجتمعت الأوصال و نبتت اللحوم.

 أقول: و في هذا المعنى عدة روايات أخر.

 و في الدر المنثور، أخرج الطيالسي و أحمد و عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في الأسماء و الصفات عن أبي رزين العقيلي قال: قلت: يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى؟ قال: أ ما مررت بأرض مجدبة ثم مررت بها مخصبة تهتز خضراء؟ قال: بلى. قال: كذلك يحيي الله الموتى و كذلك النشور. و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : إن لكل قول مصداقا من عمل يصدقه أو يكذبه فإذا قال ابن آدم و صدق قوله بعمله رفع قوله بعمله إلى الله، و إذا قال و خالف عمله قوله رد قوله على عمله الخبيث و هوى به في النار.

 و في التوحيد، بإسناده عن زيد بن علي عن أبيه (عليه السلام) في حديث قال: و إن لله تبارك و تعالى بقاعا في سماواته فمن عرج به إلى بقعة منها فقد عرج به إليه. أ لا تسمع الله عز و جل يقول: ﴿تَعْرُجُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ إِلَيْهِ و يقول في قصة عيسى بن مريم (عليه السلام) ﴿بَلْ رَفَعَهُ اَللَّهُ و يقول عز و جل: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ.

أقول: و عن الفقيه، مثله. و في نهج البلاغة،: و لو لا إقرارهن‏[3] له بالربوبية و إذعانهن له بالطواعية[4] لما جعلهن موضعا لعرشه و لا مسكنا لملائكته و لا مصعدا للكلم الطيب و العمل الصالح من خلقه. و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) : في قوله تعالى: ﴿وَ مَا يَسْتَوِي اَلْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَ هَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ الأجاج المر.

 و فيه ":في قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ قال: الجلدة الرقيقة التي على ظهر النوى.

 

 

 

[سورة فاطر (٣٥): الآیات ١٥ الی ٢٦]

﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَرَاءُ إِلَى اَللَّهِ وَ اَللَّهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ ١٥ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ١٦ وَ مَا ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ بِعَزِيزٍ ١٧ وَ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏ وَ إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى‏ حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ‏ءٌ وَ لَوْ كَانَ ذَا قُرْبى‏ إِنَّمَا تُنْذِرُ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ وَ مَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَ إِلَى اَللَّهِ اَلْمَصِيرُ ١٨ وَ مَا يَسْتَوِي اَلْأَعْمى‏ وَ اَلْبَصِيرُ ١٩ وَ لاَ اَلظُّلُمَاتُ وَ لاَ اَلنُّورُ ٢٠ وَ لاَ اَلظِّلُّ وَ لاَ اَلْحَرُورُ ٢١ وَ مَا يَسْتَوِي اَلْأَحْيَاءُ وَ لاَ اَلْأَمْوَاتُ إِنَّ اَللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَ مَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ ٢٢ إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ ٢٣ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ ٢٤ وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتَابِ اَلْمُنِيرِ ٢٥ ثُمَّ أَخَذْتُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ٢٦

(بيان)

لما بين لهم أن الخلق و التدبير إليه تعالى فهو ربهم له الملك دون الذين يدعون من دونه فهم لا يملكون شيئا حتى يقوموا بتدبيره، أخذ يبين ذلك ببيان آخر مشوب

 

 

 

 بالوعيد و التهديد و هو أنه تعالى غني عنهم و هم فقراء إليه فله أن يذهبهم و يأت بخلق جديد إن شاء جزاء بما كسبوا.

ثم وجه الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بما حاصله أن هذه المؤاخذة و الإهلاك لا يشمل إلا هؤلاء المكذبين دون المؤمنين الذين يؤثر فيهم إنذار النبي (عليه السلام) فبينهما فرق ظاهر و هو (ص) نذير كالنذر الماضين و حاله كحال من قبله من المنذرين و إن يكذبوه فقد كذبت الأنبياء الماضين مكذبو أممهم فأخذهم الله أخذا شديدا و سيأخذ المكذبين من هذه الأمة.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَرَاءُ إِلَى اَللَّهِ وَ اَللَّهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ لا ريب أن في الآية نوع تمهيد بالنسبة إلى الآيتين التاليتين يتبين بها مضمونهما و هي مع ذلك مستقلة في مفادها.

بيان ذلك: أن السياق يشعر بأن أعمال هؤلاء المكذبين كانت تكشف عن أنهم كانوا يتوهمون أن لهم أن يستغنوا عن الله سبحانه بعبادة آلهتهم و أن لله إليهم حاجة و لذلك يدعوهم إلى نفسه بالدعوة الإلهية التي يقوم بها رسله فهناك غنى و فقر و لهم نصيب من الغنى و لله نصيب من الفقر تعالى عن ذلك.

فرد الله سبحانه زعمهم ذلك بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَرَاءُ إِلَى اَللَّهِ وَ اَللَّهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ﴾ فقصر الفقر فيهم و قصر الغنى فيه سبحانه فكل الفقر فيهم و كل الغنى فيه سبحانه، و إذ كان الغنى و الفقر و هما الوجدان و الفقدان متقابلين لا يرتفعان عن موضوعهما كان لازم القصر السابق قصر آخر و هو قصرهم في الفقر و قصره تعالى في الغنى فليس لهم إلا الفقر و ليس له تعالى إلا الغنى.

فالله سبحانه غني بالذات له أن يذهبهم و يستغني عنهم و هم فقراء بالذات ليس لهم أن يستغنوا عنه بغيره.

و الملاك في غناه تعالى عنهم و فقرهم أنه تعالى خالقهم و مدبر أمرهم و إليه الإشارة بأخذ لفظ الجلالة في بيان فقرهم و بيان غناه، و الإشارة إلى الخلق و التدبير في قوله:

﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ و كذا توصيفه تعالى بالحميد و هو المحمود في فعله

 

 

 

 الذي هو خلقه و تدبيره.

فيعود معنى الكلام إلى نحو من قولنا: يا أيها الناس أنتم بما أنكم مخلوقون مدبرون لله الفقراء إلى الله فيكم كل الفقر و الحاجة و الله بما أنه الخالق المدبر، الغني لا غنى سواه.

و على هذا لا ضير في قصر الفقر في الناس سواء أريد به المكذبون خاصة أو عامة الناس مع كون غيرهم من المخلوقات فقراء إلى الله كمثلهم و ذلك أن عموم علة الحكم يعمم الحكم فكأنه قيل: أنتم معاشر الخليقة الفقراء إلى خالقكم المدبر لأمركم و هو الغني الحميد.

و قد أجيب عن إشكال قصر الفقر في الناس مع عمومه لغيرهم بوجوه من الجواب:

منها أن في قصر الفقر في الناس مبالغة في فقرهم كأنهم لكثرة افتقارهم و شدة احتياجهم هم الفقراء فحسب و أن افتقار سائر الخلائق بالنسبة إلى فقرهم بمنزلة العدم و لذلك قال تعالى: ﴿خُلِقَ اَلْإِنْسَانُ ضَعِيفاً و لا يرد الجن لأنهم لا يحتاجون في المطعم و الملبس و غيرهما كما يحتاج الإنسان.

و منها أن المراد الناس و غيرهم و هو على طريقة تغليب الحاضر على الغائب و أولي العلم على غيرهم.

و منها أن الوجه حمل اللام في الناس على العهد و في الفقراء على الجنس لأن المخاطبين في الآية هم الذين خوطبوا في قوله: ﴿ذَلِكُمُ اَللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ اَلْمُلْكُ الآية أي ذلكم المعبود هو الذي وصف بصفات الجلال لا الذين تدعون من دونه و أنتم أشد الخلائق احتياجا إليه.

و منها أن القصر إضافي بالنسبة إليه تعالى لا حقيقي.

و غير خفي عليك أن مفاد الآية و سياقها لا يلائم شيئا من هذه الأجوبة نعم يمكن توجيه الجواب الأخير بما يرجع إلى ما قدمناه من الوجه.

و تذييل الآية بصفة الحميد للإشارة إلى أنه غني محمود الأفعال إن أعطى و إن منع لأنه إذا أعطى لم يعطه لبدل لغناه عن الجزاء و الشكر و كل بدل مفروض و إن منع لم يتوجه إليه لائمة إذ لا حق لأحد عليه و لا يملك منه شي‏ء.

قوله تعالى: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَ مَا ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ بِعَزِيزٍ أي

 

 

 

 إن يرد إذهابكم يذهبكم أيها الناس لأنه غني عنكم لا يستضر بذهابكم و يأت بخلق جديد يحمدونه و يثنون عليه لا لحاجة منه إليهم بل لأنه حميد و مقتضاه أن يجود فيحمد و ليس ذلك على الله بصعب لقدرته المطلقة لأنه الله عز اسمه.

فقد بان أن مضمون الآية متفرع على مضمون الآية السابقة فقوله: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ متفرع على كونه تعالى غنيا، و قوله: ﴿وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ متفرع على كونه تعالى حميدا، و قد فرع مضمون الجملتين في موضع آخر على غناه و رحمته قال تعالى‏﴿ وَ رَبُّكَ اَلْغَنِيُّ ذُو اَلرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ الأنعام: - ١٣٣.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىَ إلخ. قال الراغب: الوزر بفتحتين الملجأ الذي يلتجأ إليه من الجبل، قال تعالى: ﴿كَلاَّ لاَ وَزَرَ و الوزر بالكسر فالسكون الثقل تشبيها بوزر الجبل، و يعبر به عن الإثم كما يعبر عنه بالثقل قال تعالى:

﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً الآية كقوله: ﴿لَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَ أَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ. انتهى فالمعنى لا تحمل نفس حاملة للإثم إثم نفس أخرى و لازم ذلك أن لا تؤاخذ نفس إلا بما حملت من إثم نفسها و اكتسبته من الوزر.

و الآية كأنه دفع دخل يشعر به آخرها كأنه لما قال: إن يشأ يذهبكم و يأت بآخرين، فهددهم بالإهلاك و الإفناء، قيل: هؤلاء المكذبون أخذوا بوزرهم فما حال المؤمنين؟ أ يؤخذون بوزر غيرهم؟.

فأجيب أن لا تزر وازرة وزر أخرى و لا تحمل نفس حمل غيرها الذي أثقلها و إن كانت ذات قربى.

فهؤلاء المكذبون هم المعنيون بالتهديد و لا تنفع فيهم دعوتك و إنذارك لأنهم مطبوع على قلوبهم، و إنما ينفع إنذارك الذين يخشون ربهم بالغيب و يقيمون الصلاة و الفريقان لا يستويان لأن مثلهم مثل الأعمى و البصير، و الظلمات و النور، و الظل و الحرور، و الأحياء و الأموات.

فقوله: ﴿وَ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىَ أي لا تحمل نفس حاملة للوزر و الإثم إثم نفس أخرى حاملة.

و قوله: ﴿وَ إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلىَ حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ‏ءٌ وَ لَوْ كَانَ ذَا قُرْبىَ أي

 

 

 

 و إن تدع نفس مثقلة أثقلها حملها من الإثم غيرها إلى ما حملته من الإثم ليحمله عنها لا يستجاب لها و لا يحمل من حملها شي‏ء و لو كان المدعو ذا قربى للداعي كالأب و الأم و الأخ و الأخت.

و قوله: ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ أي هؤلاء المكذبون لا ينتفعون بالإنذار و لا تتحقق معهم حقيقة الإنذار لأنهم مطبوع على قلوبهم إنما تنذر و ينفع إنذارك الذين يخشون ربهم بالغيب و يقيمون الصلاة التي هي أفضل العبادات و أهمها و بالجملة يؤمنون بالله و يعبدونه أي الذين يخشون ربهم بالغيب و يقيمون الصلاة إثر إنذارك لا أنهم يخشون ربهم و يصلون ثم ينذرون بعد ذلك حتى يلزم تحصيل الحاصل فالآية كقوله‏﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً يوسف: - ٣٦.

و قوله: ﴿وَ مَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ بدل الخشية و إقامة الصلاة من التزكي للإشارة إلى أن المطلوب بالدعوة و الإنذار هو التزكي و تزكية النفس تلبسها بالخشية من الله على الغيب و إقامة الصلاة.

و فيه تقرير و تأكيد لما تقدم من كونه تعالى غنيا حميدا فهو تعالى لا ينتفع بما يدعو إليه من التزكي بل الذي تزكى فإنما يتزكى لنفع نفسه.

و قد ختم الآية بقوله: ﴿وَ إِلَى اَللَّهِ اَلْمَصِيرُ للدلالة على أن تزكية من تزكى لا تذهب سدى، فإن كلا من الفريقين صائرون إلى ربهم لا محالة و هو يحاسبهم و يجازيهم فيجازي هؤلاء المتزكين أحسن الجزاء.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا يَسْتَوِي اَلْأَعْمىَ وَ اَلْبَصِيرُ الظاهر أنه عطف على قوله: ﴿وَ إِلَى اَللَّهِ اَلْمَصِيرُ تعليل في صورة التمثيل لعدم مساواة هؤلاء المتزكين لأولئك المكذبين، و قيل: عطف على قوله السابق: ﴿وَ مَا يَسْتَوِي اَلْبَحْرَانِ.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ اَلظُّلُمَاتُ وَ لاَ اَلنُّورُ تكرار حروف النفي مرة بعد مرة في الآية و ما يليها لتأكيد النفي.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ اَلظِّلُّ وَ لاَ اَلْحَرُورُ الحرور شدة حر الشمس على ما قيل و قيل:

هو السموم و قيل: السموم يهب نهارا و الحرور يهب ليلا و نهارا.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ مَا يَسْتَوِي اَلْأَحْيَاءُ وَ لاَ اَلْأَمْوَاتُ إلى آخر الآية عطف على قوله:

﴿وَ مَا يَسْتَوِي اَلْأَعْمى‏ وَ اَلْبَصِيرُ و إنما كرر قوله: ﴿مَا يَسْتَوِي و لم يعطف ﴿اَلْأَحْيَاءُ وَ لاَ اَلْأَمْوَاتُ على قوله: ﴿اَلْأَعْمىَ وَ اَلْبَصِيرُ كرابعته لطول الفصل فأعيد ﴿مَا يَسْتَوِي لئلا يغيب المعنى عن ذهن السامع فهو كقوله‏﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اَللَّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ إلى أن قال ﴿كَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ الخ. التوبة: - ٨.

و الجمل المتوالية المترتبة أعني قوله: ﴿وَ مَا يَسْتَوِي اَلْأَعْمىَ وَ اَلْبَصِيرُ إلى قوله ﴿وَ مَا يَسْتَوِي اَلْأَحْيَاءُ وَ لاَ اَلْأَمْوَاتُ تمثيلات للمؤمن و الكافر و تبعات أعمالهما.

و قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ و هو المؤمن كان ميتا فأحياه الله فأسمعه لما في نفسه من الاستعداد لذلك قال تعالى‏﴿أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً الأنعام: - ١٢٢، و أما النبي (عليه السلام) فإنما هو وسيلة و الهدى هدى الله.

و قوله: ﴿وَ مَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ أي الأموات و المراد بهم الكفار المطبوع على قلوبهم.

قوله تعالى: ﴿إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ قصر إضافي أي ليس لك إلا إنذارهم و أما هداية من اهتدى منهم و إضلال من ضل و لم يهتد جزاء له بسيئ عمله فإنما ذلك لله سبحانه.

و لم يذكر البشير مع النذير مع كونه (ص) متلبسا بالوصفين معا لأن المقام مقام الإنذار فالمناسب هو التعرض لوصف الإنذار مع أنه مذكور في الآية التالية.

قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ المفاد على ما يقتضيه السياق إنا أرسلناك بالتبشير و الإنذار و ليس ببدع مستغرب فما من أمة من الأمم إلا و قد خلا و مضى فيها نذير فذلك من سنن الله الجارية في خلقه.

و ظاهر السياق أن المراد بالنذير الرسول المبعوث من عند الله و فسر بعضهم النذير بمطلق من يقوم بالعظة و الإنذار من نبي أو عالم غير نبي و هو خلاف ظاهر الآية.

نعم ليس من الواجب أن يكون نذير كل أمة من أفرادها فقد قال تعالى: ﴿خَلاَ فِيهَا و لم يقل: «خلا منها».

قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ

 

 

 

 وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتَابِ اَلْمُنِيرِ البينات‏ هي الآيات المعجزة التي تشهد على حقية الرسل، و الزبر جمع زبور و لعل المراد بها بقرينة مقابلتها للكتاب الصحائف و الكتب التي فيها ذكر الله تعالى من غير أن تتضمن الأحكام و الشرائع، و الكتاب المنير الكتاب المنزل من السماء المتضمن للشرائع ككتاب نوح و إبراهيم و توراة موسى و إنجيل عيسى (عليه السلام) ، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَخَذْتُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ الأخذ كناية عن التعذيب، و النكير الإنكار، و الباقي ظاهر.

(كلام في معنى عموم الإنذار)

قد تقدم في أبحاث النبوة في الجزء الثاني و في قصص نوح (عليه السلام) في الجزء العاشر من الكتاب ما يدل من طريق العقل على عموم النبوة و يؤيده الكتاب.

فلا تخلو أمة من الأمم الإنسانية عن ظهور ما للدعوة الحقة النبوية فيها و أما كون نبي كل أمة من نفس تلك الأمة فلا دليل عليه، و قد عرفت أن قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ الآية مفاده ذلك.

و أما فعلية الإنذار بحيث يبلغ كل فرد فرد من الأمة مضافا إلى أصل الاقتضاء و اطراد الدعوة في كل واحد واحد فحكومة العلل و الأسباب المتزاحمة في هذه النشأة المادية لا توافقه كما لا توافق سائر المقتضيات العامة التي قدرها الصنع كما أن في بنية كل مولود إنساني أن يعمر عمرا طبيعيا و الحوادث تحول بين أكثر الأفراد و بين ذلك، و كل مولود إنساني مجهز بجهاز التناسل للاستيلاد و الإيلاد و كثير من الأفراد يموت قبل بلوغه فلا يبلغ ذلك إلى غير ذلك من النظائر.

فالنبوة و الإنذار عام لكل أمة و لا يستلزم استلزاما ضروريا أن تبلغ الدعوة كل شخص من أشخاصها بل من الجائز أن تبلغ بلا واسطة أو معها بعض الأمة و تتخلف عن بعض لحيلولة علل و أسباب مزاحمة بينه و بين البلوغ فمن توجهت منهم إليه الدعوة و بلغته تمت عليه الحجة و من توجهت إليه و لم تبلغه لم تتم عليه الحجة و كان من المستضعفين

 

 

 

 و كان أمره إلى الله قال تعالى‏﴿إِلاَّ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجَالِ وَ اَلنِّسَاءِ وَ اَلْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً النساء: - ٩٨.

(بحث روائي)

 في الدر المنثور،: في قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏َ: أخرج أحمد و الترمذي و صححه و النسائي و ابن ماجة عن عمرو بن الأحوص: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال في حجة الوداع: ألا لا يجني جان إلا على نفسه لا يجني والد على ولده و لا مولود على والده. و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَ مَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ قال: هؤلاء الكفار لا يسمعون منك كما لا يسمع أهل القبور.

 و في الدر المنثور، أخرج أبو سهل السري بن سهل الجنديسابوري الخامس من حديثه من طريق عبد القدوس عن أبي صالح عن ابن عباس" :في قوله: ﴿إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ اَلْمَوْتىَ ﴿وَ مَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ قال كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يقف على القتلى يوم بدر و يقول:

هل وجدتم ما وعد ربكم حقا يا فلان بن فلان أ لم تكفر بربك؟ أ لم تكذب نبيك؟ أ لم تقطع رحمك؟ فقالوا: يا رسول الله أ يسمعون ما تقول؟ قال: ما أنتم بأسمع منهم لما أقول: فأنزل الله: ﴿إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ اَلْمَوْتىَ﴾﴿وَ مَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ مثل ضربه الله للكفار أنهم لا يسمعون لقوله. أقول: و في الرواية ما لا يخفى من لوائح الوضع فساحة النبي (عليه السلام) أجل من أن يقول ما ليس له به علم من ربه حتى ينزل الله عليه آية تكذبه فيما يدعيه و يخبر به.

على أن ما نقله من الآية لا يطابق المصحف فصدره مأخوذ من سورة النمل الآية ٨٠ و ذيله مأخوذ من سورة فاطر الآية ٢٢.

على أن سياق الآية مكي في سياق آيات سابقة و لاحقة مكية.

 و في الإحتجاج، في احتجاج الصادق (عليه السلام) : قال السائل فأخبرني عن المجوس أ فبعث إليهم نبيا؟ فإني أجد لهم كتبا محكمة و مواعظ بليغة و أمثالا شافية، و يقرون

 

 

 

 بالثواب و العقاب، و لهم شرائع يعملون بها. قال: ما من أمة إلا خلا فيها نذير، و قد بعث إليهم نبي بكتاب من عند الله فأنكروه و جحدوا كتابه.

[سورة فاطر (٣٥): الآیات ٢٧ الی ٣٨]

﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَ مِنَ اَلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَ غَرَابِيبُ سُودٌ ٢٧ وَ مِنَ اَلنَّاسِ وَ اَلدَّوَابِّ وَ اَلْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اَللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ اَلْعُلَمَاءُ إِنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ٢٨ إِنَّ اَلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اَللَّهِ وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَ عَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ٢٩ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ٣٠ وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ اَلْكِتَابِ هُوَ اَلْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اَللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ٣١ ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتَابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اَللَّهِ ذَلِكَ هُوَ اَلْفَضْلُ اَلْكَبِيرُ ٣٢ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ٣٣ وَ قَالُوا اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا اَلْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ٣٤ اَلَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ

 

 

 

﴿اَلْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ٣٥ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضىَ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَ لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ٣٦ وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ اَلَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَ جَاءَكُمُ اَلنَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ٣٧ إِنَّ اَللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ اَلصُّدُورِ ٣٨

(بيان)

رجوع إلى ذكر آيات أخر من آيات التوحيد و فيها انتقال إلى حديث الكتاب و أنه حق نازل من عند الله تعالى و قد انجر الكلام في الفصل السابق من الآيات إلى ذكر النبوة و الكتاب حيث قال: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً و قال: ﴿جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتَابِ اَلْمُنِيرِ فكان من الحري أن يتعرض لصفة الكتاب و ما تستتبعه من الآثار.

قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا إلخ. حجة أخرى على التوحيد و هو أن الله سبحانه ينزل الماء من السماء بالأمطار و هو أقوى العوامل المعينة لخروج الثمرات، و لو كان خروجها عن مقتضى طباع هذا العامل و هو واحد لكان جميعها ذا لون واحد فاختلاف الألوان يدل على وقوع التدبير الإلهي.

و القول بأن اختلافها منوط باختلاف العوامل المؤثرة فيها و منها اختلاف العناصر الموجودة فيها نوعا و قدرا و خصوصية التأليف.

مدفوع بأن الكلام منقول حينئذ إلى اختلاف نفس العناصر و هي منتهية إلى

 

 

 

 المادة المشتركة التي لا اختلاف فيها فاختلاف العناصر المكونة منها يدل على عامل آخر وراء المادة يدبر أمرها و يسوقها إلى غايات مختلفة.

و الظاهر أن المراد باختلاف ألوان الثمرات اختلاف نفس ألوانها و يلزمه اختلافات أخر من حيث الطعم و الرائحة و الخواص، و قيل المراد باختلاف الألوان اختلاف الأنواع فكثيرا ما يطلق اللون في الفواكه و الأطعمة على النوع كما يقال: قدم فلان ألوانا من الطعام و الفاكهة فهو من الكناية، و قوله بعد: ﴿وَ مِنَ اَلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ لا يخلو من تأييد للوجه الأول.

و في قوله: ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ إلخ. التفات من الغيبة إلى التكلم. قيل: إن ذلك لكمال الاعتناء بالفعل لما فيه من الصنع البديع المنبئ عن كمال القدرة و الحكمة.

و نظير الوجه يجري في قوله السابق: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً و أما ما في الآية السابقة من قوله: ﴿ثُمَّ أَخَذْتُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ فلعل الوجه فيه أن أمرهم إلى الله لا يتخلل بينه و بينهم أحد حتى يشفع لهم أو ينصرهم فينجوا من العذاب.

و قوله: ﴿وَ مِنَ اَلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَ غَرَابِيبُ سُودٌ الجدد بالضم فالفتح جمع جدة بضم الجيم و هي الطريقة و الجادة، و البيض‏ و الحمر جمع أبيض و أحمر، و الظاهر أن قوله: ﴿مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا صفة لجدد و ﴿أَلْوَانُهَا فاعل ﴿مُخْتَلِفٌ و لو كانت الجملة مبتدأ و خبرا لقيل: مختلفة ألوانها كما قيل، و الغرابيب‏ جمع غربيب و هو الأسود الشديد السواد و منه الغراب و ﴿سُودٌ بدل أو عطف بيان لغرابيب.

و المعنى: أ لم تر أن من الجبال طرائق بيض و حمر و سود مختلف ألوانها، و المراد إما الطرق المسلوكة في الجبال و لها ألوان مختلفة، و إما نفس الجبال التي هي خطوط مختلفة ممدودة على وجه الأرض بيض و حمر و سود مختلف ألوانها.

قوله تعالى: ﴿وَ مِنَ اَلنَّاسِ وَ اَلدَّوَابِّ وَ اَلْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ أي و من الناس و الدواب التي تدب في الأرض و الأنعام كالإبل و الغنم و البقر بعض مختلف ألوانه بالبياض و الحمرة و السواد كاختلاف الثمرات و الجبال في ألوانها.

 

 

 

 و قيل: قوله: ﴿كَذَلِكَ خبر لمبتدإ محذوف، و التقدير الأمر كذلك فهو تقرير إجمالي للتفصيل المتقدم من اختلاف الثمرات و الجبال و الناس و الدواب و الأنعام.

و قيل: ﴿كَذَلِكَ متعلق بقوله: ﴿يَخْشَى في قوله: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اَللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ اَلْعُلَمَاءُ و الإشارة إلى ما تقدم من الاعتبار بالثمرات و الجبال و غيرهما و المعنى إنما يخشى الله كذلك الاعتبار بالآيات من عباده العلماء، و هو بعيد لفظا و معنى.

قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اَللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ اَلْعُلَمَاءُ استئناف يوضح أن الاعتبار بهذه الآيات إنما يؤثر أثره و يورث الإيمان بالله حقيقة و الخشية منه بتمام معنى الكلمة في العلماء دون الجهال، و قد مر أن الإنذار إنما ينجح فيهم حيث قال: ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ فهذه الآية كالموضحة لمعنى تلك تبين أن الخشية حق الخشية إنما توجد في العلماء.

و المراد بالعلماء العلماء بالله و هم الذين يعرفون الله سبحانه بأسمائه و صفاته و أفعاله معرفة تامة تطمئن بها قلوبهم و تزيل وصمة الشك و القلق عن نفوسهم و تظهر آثارها في أعمالهم فيصدق فعلهم قولهم، و المراد بالخشية حينئذ حق الخشية و يتبعها خشوع في باطنهم و خضوع في ظاهرهم. هذا ما يستدعيه السياق في معنى الآية.

و قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ يفيد معنى التعليل فلعزته تعالى و كونه قاهرا غير مقهور و غالبا غير مغلوب من كل جهة يخشاه العارفون، و لكونه غفورا كثير المغفرة للآثام و الخطيئات يؤمنون به و يتقربون إليه و يشتاقون إلى لقائه.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اَللَّهِ وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَ عَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ تلاوة الكتاب قراءة القرآن و قد أثنى عليها الله سبحانه، و إقامة الصلاة إدامة إتيانها و حفظها من أن تترك، و الإنفاق من الرزق سرا و علانية بذل المال سرا تحذرا من الرياء و زوال الإخلاص في الإنفاق المسنون، و بذل المال علانية ليشيع بين الناس كما في الإنفاق الواجب.

و قوله: ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ أي لن تهلك بالخسران، و ذكر بعضهم أن قوله: ﴿يَرْجُونَ إلخ. خبر إن في صدر الآية و عند بعضهم الخبر مقدر يتعلق به قوله:

﴿لِيُوَفِّيَهُمْ إلخ «أي فعلوا ما فعلوا ليوفيهم أجورهم» إلخ.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ متعلق بقوله: ﴿يَتْلُونَ و ما عطف عليه في الآية السابقة أي إنهم عملوا ما عملوا لأن يوفيهم و يؤتيهم إيتاء تاما كاملا أجورهم و ثوابات أعمالهم.

و قوله: ﴿وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ يمكن أن يراد بهذه الزيادة تضعيف الثواب أضعافا كما في قوله‏﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا الأنعام: - ١٦٠ و قوله‏﴿مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اَللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ البقرة: - ٢٦١، و يمكن أن يراد بها زيادة ليست من سنخ ثواب الأعمال كما في قوله‏﴿لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ فِيهَا وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ ق: - ٣٥.

و قوله: ﴿إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ تعليل لمضمون الآية و زيادة فهو تعالى لكونه غفورا يغفر زلاتهم و لكونه شكورا يثيبهم و يزيد من فضله.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ اَلْكِتَابِ هُوَ اَلْحَقُّ ضمير الفصل و اللام في قوله: ﴿هُوَ اَلْحَقُّ للتأكيد لا للقصر أي هو حق لا يشوبه باطل.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتَابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا إلى آخر الآية.

يقال: أورثه‏ مالا كذا أي تركه فيهم يقومون بأمره بعده و قد كان هو القائم بأمره المتصرف فيه، و كذا إيراث العلم و الجاه و نحوهما تركه عند الغير يقوم بأمره بعد ما كان عند غيره ينتفع به فإيراث القوم الكتاب تركه عندهم يتناولونه خلفا عن سلف و ينتفعون به.

و تصح هذه النسبة و إن كان القائم به بعض القوم دون كلهم، قال تعالى‏﴿وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْهُدى‏َ وَ أَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اَلْكِتَابَ هُدىً وَ ذِكْرى‏َ لِأُولِي اَلْأَلْبَابِ المؤمن: - ٥٤، و قال ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا اَلنَّبِيُّونَ اَلَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَ اَلرَّبَّانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبَارُ بِمَا اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اَللَّهِ المائدة: - ٤٤، و قال‏﴿ وَ إِنَّ اَلَّذِينَ أُورِثُوا اَلْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ الشورى: - ١٤. فبنو إسرائيل أورثوا الكتاب و إن كان المؤدون حقه القائمون بأمره بعضهم لا جميعهم.

و المراد بالكتاب في الآية على ما يعطيه السياق هو القرآن الكريم كيف؟ و قوله في الآية السابقة: ﴿وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ اَلْكِتَابِ نص فيه، فاللام في الكتاب

 

 

 

 للعهد دون الجنس فلا يعبأ بقول من يقول: إن اللام للجنس و المراد بالكتاب مطلق الكتاب السماوي المنزل على الأنبياء.

و الاصطفاء أخذ صفوة الشي‏ء و يقرب من معنى الاختيار و الفرق أن الاختيار أخذ الشي‏ء من بين الأشياء بما أنه خيرها و الاصطفاء أخذه من بينها بما أنه صفوتها و خالصها.

و قوله: ﴿مِنْ عِبَادِنَا يحتمل أن يكون ﴿مِنْ للتبيين أو للابتداء أو للتبعيض الأقرب إلى الذهن أن يكون بيانية و قد قال تعالى‏﴿وَ سَلاَمٌ عَلى‏َ عِبَادِهِ اَلَّذِينَ اِصْطَفى‏َ النمل: - ٥٩.

و اختلفوا في هؤلاء المصطفين من عباده من هم؟ فقيل: هم الأنبياء، و قيل: هم بنو إسرائيل الداخلون في قوله‏﴿إِنَّ اَللَّهَ اِصْطَفى‏َ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرَاهِيمَ وَ آلَ عِمْرَانَ عَلَى اَلْعَالَمِينَ آل عمران: - ٣٣، و قيل: هم أمة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) فقد أورثوا القرآن من نبيهم إليه يرجعون و به ينتفعون علماؤهم بلا واسطة و غيرهم بواسطتهم، و قيل: هم العلماء من الأمة المحمدية.

و قيل: و هو المأثور عن الصادقين (عليه السلام) في روايات كثيرة مستفيضة إن المراد بهم ذرية النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من أولاد فاطمة (عليه السلام) و هم الداخلون في آل إبراهيم في قوله‏﴿إِنَّ اَللَّهَ اِصْطَفى‏َ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرَاهِيمَ آل عمران: - ٣٣، و قد نص النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على علمهم بالقرآن و إصابة نظرهم فيه و ملازمتهم إياه بقوله‏ في الحديث المتواتر المتفق عليه: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض‏».

و على هذا فالمعنى بعد ما أوحينا إليك القرآن ثم للتراخي الرتبي أورثنا ذريتك إياه و هم الذين اصطفينا من عبادنا إذا اصطفينا آل إبراهيم و إضافة العباد إلى نون العظمة للتشريف.

و قوله: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ يحتمل أن يكون ضمير ﴿فَمِنْهُمْ راجعا إلى ﴿اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنَا فيكون الطوائف الثلاث الظالم لنفسه و المقتصد و السابق بالخيرات شركاء في الوراثة و إن كان الوارث الحقيقي العالم بالكتاب و الحافظ له هو السابق بالخيرات.

 

 

 

و يحتمل أن يكون راجعا إلى ﴿عِبَادِنَا من غير إفادة الإضافة للتشريف فيكون قوله: ﴿فَمِنْهُمْ مفيدا للتعليل و المعنى إنما أورثنا الكتاب بعض عبادنا و هم المصطفون لا جميع العباد لأن من عبادنا من هو ظالم لنفسه و منهم مقتصد و منهم سابق و لا يصلح الكل للوراثة.

و يمكن تأييد أول الاحتمالين بأن لا مانع من نسبة الوراثة إلى الكل مع قيام البعض بها حقيقة كما نجد نظيره في قوله تعالى‏﴿وَ أَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اَلْكِتَابَ المؤمن: - ٥٤.

و ما في الآية من المقابلة بين الظالم لنفسه و المقتصد و السابق بالخيرات يعطي أن المراد بالظالم لنفسه من عليه شي‏ء من السيئات و هو مسلم من أهل القرآن لكونه مصطفى و وارثا، و المراد بالمقتصد المتوسط الذي هو في قصد السبيل و سواء الطريق و المراد بالسابق بالخيرات بإذن الله من سبق الظالم و المقتصد إلى درجات القرب فهو إمام غيره بإذن الله بسبب فعل الخيرات قال تعالى‏﴿وَ اَلسَّابِقُونَ اَلسَّابِقُونَ أُولَئِكَ اَلْمُقَرَّبُونَ الواقعة: - ١١.

و قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ هُوَ اَلْفَضْلُ اَلْكَبِيرُ أي ما تقدم من الإيراث هو الفضل الكبير من الله لا دخل للكسب فيه.

هذا ما يعطيه السياق و تفيده الأخبار من معنى الآية و فيها للقوم اختلاف عجيب فقد اختلف في ﴿ثُمَّ فقيل: هي للتراخي بحسب الأخبار، و قيل: للتراخي الرتبي، و قيل: للتراخي الزماني. ثم العطف على ﴿أَوْحَيْنَا أو على ﴿اَلَّذِي أَوْحَيْنَا.

و اختلف في ﴿أَوْرَثْنَا فقيل: هو على ظاهره، و قيل: معناه حكمنا بإيراثه و قدرناه، و اختلف في ﴿اَلْكِتَابَ فقيل: المراد به القرآن، و قيل: جنس الكتب السماوية، و اختلف في ﴿اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنَا فقيل: المراد بهم الأنبياء، و قيل: بنو إسرائيل، و قيل: أمة محمد، و قيل: العلماء منهم، و قيل: ذرية النبي من ولد فاطمة (عليه السلام) .

و اختلف في ﴿مِنْ عِبَادِنَا فقيل: من للتبعيض أو للابتداء أو للتبيين و يختلف المراد من العباد بحسب اختلاف معنى ﴿مِنْ و كذا إضافة ﴿عِبَادِنَا للتشريف على بعض الوجوه و لغيره على بعضها.

 

 

 

 و اختلف في ﴿فَمِنْهُمْ فقيل: مرجع الضمير ﴿اَلَّذِينَ و قيل: ﴿عِبَادِنَا﴾ و اختلف في الظالم لنفسه و المقتصد و السابق فقيل الظالم من كان ظاهره خيرا من باطنه و المقتصد من استوى ظاهره و باطنه و السابق من كان باطنه خيرا من ظاهره، و قيل: السابق هم السابقون الماضون في عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من أصحابه و المقتصد من تبع أثرهم و لحق بهم من الصحابة و الظالم لنفسه غيرهم، و قيل: الظالم من غلبت عليه السيئة و المقتصد المتوسط حالا و السابق هو المقرب إلى الله السابق في الدرجات.

و هناك أقوال متفرقة أخر تركنا إيرادها و لو ضربت الاحتمالات بعضها في بعض جاوز الألف.

قوله تعالى: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ التحلية هي التزيين و الأساور جمع أسورة و هي جمع سوار بكسر السين قال الراغب: سوار المرأة معرب و أصله دستواره. انتهى.

و قوله: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ إلخ. ظاهره أنه بيان للفضل الكبير قال في المجمع: هذا تفسير للفضل كأنه قيل: ما ذلك الفضل؟ فقال: هي جنات أي جزاء جنات أو دخول جنات و يجوز أن يكون بدلا من الفضل كأنه قال: ذلك دخول جنات. انتهى.

و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا اَلْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ قيل: المراد بالحزن الذي يحمدون الله على إذهابه بإدخالهم الجنة الحزن الذي كان يتوجه إليهم في الحياة الدنيا و ما يحف بها من الشدائد و النوائب.

و قيل: المراد به الحزن الذي كان قد أحاط بهم بعد الارتحال من الدنيا، و قيل الدخول في جنة الآخرة إشفاقا مما اكتسبوه من السيئات.

و على هذا فالقول قول الظالم لنفسه منهم أو قوله و قول المقتصد و أما السابق بالخيرات منهم فلا سيئة في صحيفة أعماله حتى يعذب بها. و هذا الوجه أنسب لقولهم في آخر حمدهم: ﴿إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ.

قوله تعالى: ﴿اَلَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ اَلْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ المقامة الإقامة، و دار المقامة المنزل الذي لا خروج منه و لا تحول.

 

 

 

 و النصب‏ بفتحتين التعب و المشقة، و اللغوب‏ بضم اللام: العي و التعب في طلب المعاش و غيره.

و المعنى: الذي جعلنا حالين في دار الخلود من فضله من غير استحقاق منا عليه لا يمسنا في هذه الدار و هي الجنة مشقة و تعب و لا يمسنا فيها عي و لا كلال في طلب ما نريد أي إن لنا فيها ما نشاء.

و في قوله: ﴿مِنْ فَضْلِهِ مناسبة خاصة مع قوله السابق: ﴿ذَلِكَ هُوَ اَلْفَضْلُ اَلْكَبِيرُ.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ إلى آخر الآية اللام في ﴿لَهُمْ للاختصاص و يفيد كون النار جزاء لهم لا ينفك عنهم، و قوله: ﴿لاَ يُقْضى‏َ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا أي لا يحكم عليهم بالموت حتى يموتوا فهم أحياء على ما هم فيه من شدة العذاب و لا يخفف عنهم من عذاب النار كذلك نجزي كل كفور شديد الكفران أو كثيره.

قوله تعالى: ﴿وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا إلى آخر الآية في المجمع،:

الاصطراخ‏ الصياح و النداء بالاستغاثة افتعال من الصراخ انتهى.

و قوله: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا إلخ. بيان لاصطراخهم، و قوله: ﴿أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ إلخ. جواب اصطراخهم و قوله: ﴿فَذُوقُوا و قوله: ﴿فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ كل منهما متفرع على ما قبله.

و المعنى، و هؤلاء الذين في النار من الكفار يصطرخون و يصيحون بالاستغاثة فيها قائلين: ربنا أخرجنا من النار نعمل صالحا غير سيئ غير الذي كنا نعمل فيقال لهم ردا عليهم: - كلا - أ و لم نعمركم عمرا يتذكر فيه من تذكر و جاءكم النذير فأنذركم هذا العذاب فلم تتذكروا و لم تؤمنوا؟ فذوقوا العذاب فما للظالمين من نصير ينصرهم ليتخلصوا من العذاب.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ اَلصُّدُورِ فيعاملكم بما في باطنكم من الاعتقاد و آثار الأعمال و يحاسبكم عليه سواء وافق ظاهركم باطنكم أو خالف قال تعالى‏﴿إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اَللَّهُ البقرة: - ٢٨٤، و قال‏﴿يَوْمَ تُبْلَى اَلسَّرَائِرُ الطارق: - ٩.

 

 

 

 (بحث روائي)

 في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اَللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ اَلْعُلَمَاءُ الآية: روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: يعني بالعلماء من صدق قوله فعله، و من لم يصدق فعله قوله فليس بعالم. و في الحديث أعلمكم بالله أخوفكم لله.

 أقول: و في روضة الكافي، بإسناده عن أبي حمزة عن علي بن الحسين (عليه السلام) ما في معناه.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و الترمذي و الحاكم عن الحسن قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : العلم علمان: علم في القلب فذاك العلم النافع، و علم على اللسان فذاك حجة الله على خلقه.

 و في المجمع، روى ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال: في قوله: ﴿وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ: هو الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليه معروفا في الدنيا.

 و في الكافي، بإسناده عن أحمد بن عمر قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتَابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا الآية قال: فقال: ولد فاطمة (عليه السلام) ، و السابق بالخيرات الإمام و المقتصد العارف بالإمام و الظالم لنفسه الذي لا يعرف الإمام.

 و عن كتاب سعد السعود، لابن طاووس في حديث لأبي إسحاق السبيعي عن الباقر (عليه السلام) : في الآية قال: هي لنا خاصة يا أبا إسحاق أما السابق بالخيرات فعلي بن أبي طالب و الحسن و الحسين و الشهيد منا، و أما المقتصد فصائم بالنهار و قائم بالليل، و أما الظالم لنفسه ففيه ما في الناس و هو مغفور له.

أقول: المراد بالشهيد بقرينة الروايات الأخر الإمام.

 و في معاني الأخبار، مسندا عن الصادق (عليه السلام) : في الآية قال: الظالم يحوم حوم نفسه و المقتصد يحوم حوم قلبه و السابق بالخيرات يحوم حوم ربه.

 

 

 

 أقول: الحوم و الحومان‏ الدوران، و دوران الظالم لنفسه حوم نفسه اتباعه أهواءها و سعيه في تحصيل ما يرضيها، و دوران المقتصد حوم قلبه اشتغاله بما يزكي قلبه و يطهره بالزهد و التعبد، و دوران السابق بالخيرات حوم ربه إخلاصه له تعالى فيذكره و ينسى غيره فلا يرجو إلا إياه و لا يقصد إلا إياه.

و اعلم أن الروايات من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) في كون الآية خاصة بولد فاطمة (عليه السلام) كثيرة جدا.

 و في الدر المنثور، أخرج الفاريابي و أحمد و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و الحاكم و ابن مردويه و البيهقي عن أبي الدرداء سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتَابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اَللَّهِ فأما الذين سبقوا فأولئك يدخلون الجنة بغير حساب، و أما الذين اقتصدوا فأولئك الذين يحاسبون حسابا يسيرا، و أما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون في طول المحشر ثم هم الذين يلقاهم الله برحمة فهم الذين يقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب و لا يمسنا فيها لغوب:.

أقول: و رواه في المجمع، عن أبي الدرداء عنه (ص) و في معناه أحاديث أخر، و هناك ما يخالفها و لا يعبأ به كما فيه، عن ابن مردويه عن عمر عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : في قوله:

﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قال: الكافر. و في تفسير القمي، ":في قوله تعالى: ﴿لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ قال:

النصب العناء و اللغوب الكسل و الضجر.

 و في نهج البلاغة، و قال: العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة.:

أقول: و رواه عنه (عليه السلام) في المجمع، و رواه في الدر المنثور، عن ابن جرير عنه (عليه السلام) . - و في الدر المنثور، أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول و البيهقي في سننه و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إذا كان يوم القيامة قيل: أين أبناء الستين و هو المعمر

 

 

 

 الذي قال الله: ﴿أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ.:

أقول: و روي ذلك بطرق أخرى عن سهل بن سعد و أبي هريرة عنه (ص).

و في المجمع،: و قيل هو توبيخ لابن ثماني عشرة سنة و روي ذلك عن الباقر (عليه السلام) .:

أقول: و رواه في الفقيه، عنه (عليه السلام) مضمرا.

[سورة فاطر (٣٥): الآیات ٣٩ الی ٤٥]

﴿هُوَ اَلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي اَلْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ لاَ يَزِيدُ اَلْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَ لاَ يَزِيدُ اَلْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً ٣٩ قُلْ أَ رَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَرُونِي مَا ذَا خَلَقُوا مِنَ اَلْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي اَلسَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلى‏ بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ اَلظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً ٤٠ إِنَّ اَللَّهَ يُمْسِكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَ لَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ٤١ وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى‏ مِنْ إِحْدَى اَلْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً ٤٢ اِسْتِكْبَاراً فِي اَلْأَرْضِ وَ مَكْرَ اَلسَّيِّئِ وَ لاَ يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ اَلْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللَّهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللَّهِ تَحْوِيلاً ٤٣ أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا

 

 

 

كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ لاَ فِي اَلْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً ٤٤ وَ لَوْ يُؤَاخِذُ اَللَّهُ اَلنَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى‏ ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَ لَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً ٤٥

(بيان)

احتجاج على توحيد الربوبية كقوله: ﴿هُوَ اَلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي اَلْأَرْضِ الآية، و قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يُمْسِكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ الآية، و على نفي ربوبية شركائهم ﴿قُلْ أَ رَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ الآية و توبيخ و تهديد لهم على نقضهم ما أبرموه باليمين و مكرهم السيئ.

ثم تسجيل أن الله لا يعجزه شي‏ء و إنما يمهل من أمهله من هؤلاء الظالمين إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم جازاهم ما يستحقونه و بذلك تختتم السورة.

قوله تعالى: ﴿هُوَ اَلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي اَلْأَرْضِ إلخ. الخلائف‏ جمع خليفة، و كون الناس خلائف في الأرض هو قيام كل لاحق منهم مقام سابقه و سلطته على التصرف و الانتفاع منها كما كان السابق مسلطا عليه و هم إنما نالوا هذه الخلافة من جهة نوع الخلقة و هو الخلقة من طريق النسل و الولادة فإن هذا النوع من الخلقة يقسم المخلوق إلى سلف و خلف.

فجعل الخلافة الأرضية نوع من التدبير مشوب بالخلق غير منفك عنه و لذلك استدل به على توحده تعالى في ربوبيته لأنه مختص به تعالى لا مجال لدعواه لغيره.

فقوله: ﴿هُوَ اَلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي اَلْأَرْضِ حجة على توحده تعالى في ربوبيته

 

 

 

و انتفائها عن شركائهم: تقريره أن الذي جعل الخلافة الأرضية في العالم الإنساني هو ربهم المدبر لأمرهم، و جعل الخلافة لا ينفك عن نوع الخلقة فخالق الإنسان هو رب الإنسان لكن الخالق هو الله سبحانه حتى عند الخصم فالله هو رب الإنسان.

و قوله: ﴿فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي فالله سبحانه هو رب الإنسان فمن كفر و ستر هذه الحقيقة و نسب الربوبية إلى غيره تعالى فعلى ضرره كفره.

و قوله: ﴿وَ لاَ يَزِيدُ اَلْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَ لاَ يَزِيدُ اَلْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً بيان لكون كفرهم عليهم و هو أن كفرهم يورث لهم مقتا عند ربهم و المقت شدة البغض لأن فيه إعراضا عن عبوديته و استهانة بساحته، و يورث لهم خسارا في أنفسهم لأنهم بدلوا السعادة الإنسانية شقاء و وبالا سيصيبهم في مسيرهم و منقلبهم إلى دار الجزاء.

و إنما عبر عن أثر الكفر بالزيادة لأن الفطرة الإنسانية بسيطة ساذجة واقعة في معرض الاستكمال و الازدياد فإن أسلم الإنسان زاده ذلك كمالا و قربا من الله و إن كفر زاده ذلك مقتا عند الله و خسارا.

و إنما قيد المقت بقوله: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ دون الخسار لأن الخسار من تبعات تبديل الإيمان كفرا و السعادة شقاء و هو أمر عند أنفسهم و أما المقت و شدة البغض فمن عند الله سبحانه.

و الحب و البغض المنسوبان إلى الله سبحانه من صفات الأفعال و هي معان خارجة عن الذات غير قائمة بها، و معنى حبه تعالى لأحد انبساط رحمته عليه و انجذابها إليه و بغضه تعالى لأحد انقباض رحمته منه و ابتعادها عنه.

قوله تعالى: ﴿قُلْ أَ رَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ إلى آخر الآية إضافة الشركاء إليهم بعناية أنهم يدعون أنهم شركاء لله فهي إضافة لامية مجازية.

و في الآية تلقين النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) الحجة على نفي ربوبية آلهتهم الذين كانوا يعبدونهم و تقرير الحجة أنهم لو كانوا أربابا آلهة من دون الله لكان لهم شي‏ء من تدبير العالم فكانوا خالقين لما يدبرونه لأن الخلق و التدبير لا ينفك أحدهما عن الآخر و لو كانوا خالقين لدل

 

 

 

 عليه دليل و الدليل إما من العالم أو من قبل الله سبحانه أما العالم فلا شي‏ء منه يدل على كونه مخلوقا لهم و لو بنحو الشركة و هو قوله: ﴿أَرُونِي مَا ذَا خَلَقُوا مِنَ اَلْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي اَلسَّمَاوَاتِ.

و أما من قبله تعالى فلو كان لكان كتابا سماويا نازلا من عنده سبحانه يعترف بربوبيتهم و يجوز للناس أن يعبدوهم و يتخذوهم آلهة، و لم ينزل كتاب على هذه الصفة و هم معترفون بذلك و هو قوله: ﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلىَ بَيِّنَةٍ مِنْهُ.

و إنما عبر عن نفي خالقيتهم في الأرض بقوله: ﴿أَرُونِي مَا ذَا خَلَقُوا مِنَ اَلْأَرْضِ و لم يقل: أنبئوني أ لهم شرك في الأرض؟ و عبر في السماوات بقوله: ﴿أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي اَلسَّمَاوَاتِ و لم يقل: أم ما ذا خلقوا من السماوات.

لأن المراد بالأرض - على ما يدل عليه سياق الاحتجاج - العالم الأرضي و هو الأرض بما فيها و ما عليها و المراد بالسماوات العالم السماوي المشتمل على السماوات و ما فيها و ما عليها فقوله: ﴿مَا ذَا خَلَقُوا مِنَ اَلْأَرْضِ في معنى أ لهم شرك في الأرض و لا يكون إلا بخلق شي‏ء منها، و قوله: ﴿أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي اَلسَّمَاوَاتِ في معنى أم ما ذا خلقوا من السماوات، و قد اكتفى بذكر الخلق في جانب الأرض إشارة إلى أن الشرك في الربوبية لا يكون إلا بخلق.

و قوله: ﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلىَ بَيِّنَةٍ مِنْهُ أي بل آتيناهم كتابا فهم على بينة منه أي على حجة ظاهرة من الكتاب أن لشركائهم شركة معنا و ذلك بدلالته على أنهم شركاء لله.

و قد قال: ﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً و لم يقل: أم لهم كتاب و نحو ذلك ليتأكد النفي و الإنكار فإن قولنا: أم لهم كتاب و نحو ذلك إنكار لوجود الكتاب لكن قوله: ﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً إنكار لوجود الكتاب ممن ينزل الكتاب لو نزل.

و قد تبين بما تقدم أن ضمير الجمع في ﴿آتَيْنَاهُمْ و في ﴿فَهُمْ عَلىَ بَيِّنَةٍ للمشركين فلا يعبأ بما قيل: إن الضميرين للشركاء.

و قوله: ﴿بَلْ إِنْ يَعِدُ اَلظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً إضراب عما تقدم من الاحتجاج بأن الذي حملهم على الشرك ليس هو حجة تحملهم عليه و يعتمدون عليها بل

 

 

 

 غرور بعضهم بعضا بوعد الشفاعة و الزلفى فأسلافهم يغرون أخلافهم و رؤساؤهم و أئمتهم يغرون مرءوسيهم و تابعيهم و يعدونهم شفاعة الشركاء عند الله سبحانه و لا حقيقة لها.

و حجة الآية عامة على المشركين عبدة الأصنام و هم الذين يعبدون الملائكة و الجن و قديسي البشر و يتخذون لهم أصناما يتوجهون إليها، و على الذين يعبدون روحاني الكواكب و يتوجهون إلى الكواكب ثم يتخذون للكواكب أصناما، و على الذين يعبدون الملائكة و العناصر من غير أن يتخذوا لها أصناما كما ينقل عن الفرس القدماء، و على الذين يعبدون بعض البشر كالنصارى للمسيح (عليه السلام) .

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يُمْسِكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَ لَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إلخ. قيل: إن الآية استئناف مقرر لغاية قبح الشرك و هوله أي إن الله تعالى يحفظ السماوات و الأرض كراهة أن تزولا أو لئلا تزولا و تضمحلا لأن الممكن كما يحتاج إلى الواجب حال إيجاده يحتاج إليه حال بقائه. انتهى.

و الظاهر أنه تعالى لما استدل على توحده في الربوبية يجعل الخلافة في النوع الإنساني بقوله: ﴿هُوَ اَلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي اَلْأَرْضِ الآية ثم نفى الشركة مطلقا بالحجة عمم الحجة بحيث تشمل الخلق كله أعني السماوات و الأرض فاحتج على توحده بإبقاء الخلق بعد إحداثه فإن من البين الذي لا يرتاب فيه أن حدوث الشي‏ء و أصل تلبسه بالوجود بعد العدم غير بقائه و تلبسه بالوجود بعد الوجود على نحو الاستمرار فبقاء الشي‏ء بعد حدوثه يحتاج إلى إيجاد بعد إيجاد على نحو الاتصال و الاستمرار.

و إبقاء الشي‏ء بعد إحداثه كما أنه إيجاد بعد الإيجاد كذلك هو تدبير لأمره فإنك إن دققت النظر وجدت أن النظام الجاري في الكون إنما يجري بالإحداث و الإبقاء فقط. و الموجد و الخالق هو الله سبحانه حتى عند الخصم فالله سبحانه هو الخالق المدبر للسماوات و الأرض وحده لا شريك له.

فقوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يُمْسِكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ الإمساك بمعناه المعروف و قوله: ﴿أَنْ تَزُولاَ﴾ - و تقديره كراهة أن تزولا أو لئلا تزولا متعلق به، و قيل:

الإمساك بمعنى المنع أو بمعنى الحفظ و على أي حال فالإمساك كناية عن الإبقاء و هو الإيجاد بعد الإيجاد على سبيل الاتصال و الاستمرار، و الزوال هو الاضمحلال و البطلان.

 

 

 

 و نقل عن بعضهم أنه فسر الزوال بالانتقال المكاني، و المعنى أن الله يمنع السماوات و الأرض من أن ينتقل شي‏ء منهما عن مكانه الذي استقر فيه فيرتفع أو ينخفض انتهى و الشأن في تصور مراده تصورا صحيحا.

و قوله: ﴿وَ لَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ السياق يعطي أن المراد بالزوال هاهنا الإشراف على الزوال إذ نفس الزوال لا يجتمع معه الإمساك و المعنى و أقسم لئن أشرفتا على الزوال لم يمسكهما أحد من بعد الله سبحانه إذ لا مفيض للوجود غيره و يمكن أن يكون المراد بالزوال معناه الحقيقي و المراد بالإمساك القدرة على الإمساك و قد تبين أن ﴿مِنْ الأولى زائدة للتأكيد و الثانية للابتداء، و ضمير ﴿مِنْ بَعْدِهِ راجع إليه تعالى، و قيل: راجع إلى الزوال.

و قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً فهو لحلمه لا يعجل إلى أمر و لمغفرة يستر جهات العدم في الأشياء، و مقتضى الاسمين أن يمسك السماوات و الأرض أن تزولا إلى أجل مسمى.

و قال في إرشاد العقل السليم،: إنه كان حليما غفورا غير معاجل بالعقوبة التي تستوجبها جناياتهم حيث أمسكهما و كانتا جديرتين بأن تهدا هدا حسبما قال تعالى:

﴿تَكَادُ اَلسَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ اَلْأَرْضُ انتهى.

قوله تعالى: ﴿وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى‏َ مِنْ إِحْدَى اَلْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً قال الراغب: الجهد بفتح الجيم و الجهد بضمها الطاقة و المشقة إلى أن قال و قال تعالى: ﴿وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ أي حلفوا و اجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم. انتهى.

و قال: النفر الانزعاج عن الشي‏ء و إلى الشي‏ء كالفزع إلى الشي‏ء و عن الشي‏ء يقال: نفر عن الشي‏ء نفورا قال تعالى: ﴿مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً انتهى.

قيل‏[5] بلغ قريشا قبل مبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا: لعن الله اليهود و النصارى أتتهم الرسل فكذبوهم فوالله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم انتهى، و سياق الآية يصدق هذا النقل و يؤيده.

 

 

 

 

 فقوله: ﴿وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ الضمير لقريش و قد حلفوا هذا الحلف قبل بعثة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بدليل قوله بعد: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ، و المقسم به قوله: ﴿لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ إلخ.

و قوله: ﴿لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى‏َ مِنْ إِحْدَى اَلْأُمَمِ أي إحدى الأمم التي جاءهم نذير كاليهود و النصارى و إنما قال: ﴿لَيَكُونُنَّ أَهْدى‏َ مِنْ إِحْدَى اَلْأُمَمِ و لم يقل: أهدى منهم لأن المعنى أنهم كانوا أمة ما جاءهم نذير ثم لو جاءهم نذير كانوا أمة ذات نذير كإحدى تلك الأمم المنذرة ثم بتصديق النذير يصيرون أهدى من التي ماثلوها و هو قوله: ﴿أَهْدى‏َ مِنْ إِحْدَى اَلْأُمَمِ فافهمه.

و قيل: إن مقتضى المقام العموم، و قوله: ﴿إِحْدَى اَلْأُمَمِ عام و إن كان نكرة في سياق الإثبات و اللام في ﴿اَلْأُمَمِ للعهد، و المعنى ليكونن أهدى من كل واحدة من تلك الأمم التي كذبوا رسلهم من اليهود و النصارى و غيرهم.

و قيل: المعنى ليكونن أهدى من أمة يقال فيها: إحدى الأمم تفضيلا لها على غيرها من الأمم كما يقال: هو واحد القوم و واحد عصره. انتهى.

و لا يخلو الوجه الأخير عن تكلف و بعد.

و قوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً المراد بالنذير النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و النفور التباعد و الهرب.

قوله تعالى: ﴿اِسْتِكْبَاراً فِي اَلْأَرْضِ وَ مَكْرَ اَلسَّيِّئِ وَ لاَ يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ قال الراغب: المكر صرف الغير عما يقصده بحيلة، و ذلك ضربان: مكر محمود و ذلك أن يتحرى بذلك فعل جميل و على ذلك قال تعالى: ﴿وَ اَللَّهُ خَيْرُ اَلْمَاكِرِينَ و مذموم و هو أن يتحرى به فعل قبيح قال تعالى: ﴿لاَ يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ انتهى.

و قال أيضا: قال عز و جل: ﴿وَ لاَ يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ أي لا ينزل و لا يصيب. قيل: و أصله حق فقلب نحو زل و زال و قد قرئ فأزلهما الشيطان و أزالهما و على هذا ذمه و ذامه. انتهى.

و قوله: ﴿اِسْتِكْبَاراً فِي اَلْأَرْضِ مفعول لأجله لقوله: ﴿نُفُوراً أي نفروا عنه

 

 

 

 و تباعدوا للاستكبار في الأرض و قوله: ﴿وَ مَكْرَ اَلسَّيِّئِ معطوف على ﴿اِسْتِكْبَاراً و مفعول لأجله مثله، و قيل: معطوف على ﴿نُفُوراً و الإضافة فيه من إضافة الموصوف إلى الصفة بدليل قوله ثانيا: ﴿وَ لاَ يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ إلخ.

و قوله: ﴿وَ لاَ يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ أي لا يصيب و لا ينزل المكر السيئ إلا بأهله و لا يستقر إلا فيه، فإن المكر السيئ و إن كان ربما أصاب به مكروه للممكور به، لكنه سيزول و لا يدوم إلا أن أثره السيئ بما أنه المكر سيئ يبقى في نفس الماكر و سيظهر فيه و يجزى به إما في الدنيا و إما في الآخرة البتة، و لهذا فسر الآية في مجمع البيان، بقوله: و المعنى لا ينزل جزاء المكر السيئ إلا بمن فعله.

و الكلام مرسل إرسال المثل كقوله تعالى‏﴿إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلى‏َ أَنْفُسِكُمْ يونس: - ٢٣ ﴿فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلى‏َ نَفْسِهِ الفتح: - ١٠.

و قوله: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ اَلْأَوَّلِينَ النظر و الانتظار بمعنى التوقع و الفاء للتفريع و الجملة استنتاج مما تقدمها و الاستفهام للإنكار و المعنى و إذ مكروا المكر السيئ و المكر السيئ يحيق بأهله فهم لا ينتظرون إلا السنة الجارية في الأمم الماضين و هي العذاب الإلهي النازل بهم إثر مكرهم و تكذيبهم بآيات الله.

و قوله: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللَّهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللَّهِ تَحْوِيلاً تبديل السنة أن توضع العافية و النعمة موضع العذاب، و تحويلها أن ينقل العذاب من قوم يستحقونه إلى غيرهم، و سنة الله لا تقبل تبديلا و لا تحويلا لأنه تعالى على صراط مستقيم لا يقبل حكمه تبعيضا و لا استثناء.

و قد أخذ الله بالعذاب هؤلاء المشركين الماكرين يوم بدر فقتل عامتهم. و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو لكل سامع.

قوله تعالى: ﴿أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً استشهاد على سنته الجارية في الأمم الماضية و قد كانوا أشد قوة من مشركي مكة فأخذهم الله بالعذاب لما مكروا و كذبوا.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ لاَ فِي اَلْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً

 

 

 

 قَدِيراً تتميم لسابق البيان لمزيد إنذارهم و تخويفهم، و المحصل ليتقوا الله و ليؤمنوا به و لا يمكروا به و لا يكذبوا فإن سنة الله في ذلك هي العذاب كما يشهد به ما جرى في الأمم السابقة من الإهلاك و التعذيب و قد كانوا أشد قوة منهم و الله سبحانه لا يعجزه شي‏ء في السماوات و الأرض بقوة أو مكر فإنه عليم على الإطلاق لا يغفل و لا يجهل حتى ينخدع بمكر أو حيلة قدير على الإطلاق لا يقاومه شي‏ء.

قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ يُؤَاخِذُ اَللَّهُ اَلنَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى‏َ ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ إلخ.

المراد بالمؤاخذة المؤاخذة الدنيوية كما يدل عليه قوله الآتي: ﴿وَ لَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى‏َ أَجَلٍ مُسَمًّى إلخ. و المراد بالناس جميعهم فإن الآية مسبوقة بذكر مؤاخذة بعضهم و هم الماكرون المكذبون بآيات الله، و المراد بما كسبوا المعاصي التي اكتسبوها بقرينة المؤاخذة التي هي العذاب و قد قال في نظيره الآية من سورة النحل‏﴿وَ لَوْ يُؤَاخِذُ اَللَّهُ اَلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ النحل: - ٦١.

و المراد بظهرها ظهر الأرض لأن الناس يعيشون عليه على أن الأرض تقدم ذكرها في الآية السابقة.

و المراد بالدابة كل ما يدب في الأرض من إنسان ذكر أو أنثى أو كبير أو صغير و احتمل أن يكون المراد كل ما يدب في الأرض من حيوان و إهلاك غير الإنسان من أنواع الحيوان إنما هو لكونها مخلوقة للإنسان كما قال تعالى‏﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً البقرة: - ٢٩.

و قول بعضهم: ذلك لشؤم المعاصي و قد قال تعالى: ﴿وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً مدفوع بأن شؤم المعصية لا يتعدى العاصي إلى غيره و قد قال تعالى‏﴿وَ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏َ فاطر: - ١٨، و أما الآية أعني قوله‏﴿وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً الأنفال: - ٢٥ فمدلولها على ما تقدم من تفسيرها اختصاص الفتنة بالذين ظلموا منهم خاصة لا عمومها لهم و لغيرهم فراجع.

و قوله: ﴿وَ لَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى‏َ أَجَلٍ مُسَمًّى و هو الموت أو القيامة و قوله: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً أي فيجازي كلا بما عمل فإنه بصير بهم عليم بأعمالهم لأنهم عباده و كيف يمكن أن يجهل الخالق خلقه و الرب عمل عبده؟.

 

 

 

 و قد بان بما تقدم أن قوله: ﴿فَإِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً من وضع السبب موضع المسبب الذي هو الجزاء.

و الآية أعني قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ يُؤَاخِذُ اَللَّهُ اَلنَّاسَ إلخ. واقعة موقع الجواب عن سؤال مقدر ناش عن الآية السابقة فإنه تعالى لما أنذر أهل المكر و التكذيب من المشركين بالمؤاخذة و استشهد بما جرى في الأمم السابقة و ذكر أنه لا يعجزه شي‏ء في السماوات و الأرض كأنه قيل: فإذا لم يعجزه شي‏ء في السماوات و الأرض فكيف يترك سائر الناس على ما هم عليه من المعاصي؟ و ما ذا يمنعه أن يؤاخذهم بما كسبوا؟ فأجاب أنه لو يؤاخذ جميع الناس بما كسبوا من المعاصي كما يؤاخذ هؤلاء الماكرين المكذبين ما ترك على ظهر الأرض أحدا منهم يدب و يتحرك، و قد قضى سبحانه أن يعيشوا في الأرض و يعمروها إذ قال‏﴿ وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إِلى‏َ حِينٍ البقرة: - ٣٦ فلا يؤاخذهم و لكن يؤخرهم إلى أجل مسمى و هو الموت أو البعث فإذا جاء أجلهم عاملهم بما عملوا إنه كان بعباده بصيرا.

(بحث روائي)

 في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم من طريق سفيان عن أبي زكريا الكوفي عن رجل حدثه أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إياكم و المكر السيئ فإنه لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله و لهم من الله طالب.

 و في تفسير القمي، حدثني أبي عن النوفلي عن السكوني عن جعفر عن أبيه (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : سبق العلم، و جف القلم، و مضى القضاء و تم القدر بتحقيق الكتاب، و تصديق الرسل، و بالسعادة من الله لمن آمن و اتقى و بالشقاء لمن كذب و كفر، و بالولاية من الله عز و جل للمؤمنين، و بالبراءة منه المشركين.

ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : إن الله عز و جل يقول: يا ابن آدم بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، و بإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد، و بفضل نعمتي عليك قويت على معصيتي، و بقوتي و عصمتي و عافيتي أديت إلي فرائضي و أنا أولى بحسناتك منك و أنت أولى بذنبك مني، الخير مني إليك واصل بما أوليتك به و الشر منك إليك بما جنيت جزاء

 

 

 

و بكثير من تسلطي لك انطويت على طاعتي، و بسوء ظنك بي قنطت من رحمتي .

فلي الحمد و الحجة عليك بالبيان، و لي السبيل عليك بالعصيان، و لك الجزاء الحسن عندي بالإحسان، لم أدع تحذيرك، و لم آخذك عند غرتك و هو قوله عز و جل: ﴿وَ لَوْ يُؤَاخِذُ اَللَّهُ اَلنَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى‏َ ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ، لم أكلفك فوق طاقتك، و لم أحملك من الأمانة إلا ما أقررت بها على نفسك، و رضيت لنفسي منك بما رضيت به لنفسك مني ثم قال عز و جل: ﴿وَ لَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى‏َ أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً.

(٣٦) سورة يس مكية و هي ثلاث و ثمانون آية (٨٣)

[سورة يس (٣٦): الآیات ١ الی ١٢]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ يس ١ وَ اَلْقُرْآنِ اَلْحَكِيمِ ٢ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ ٣ عَلىَ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ٤ تَنْزِيلَ اَلْعَزِيزِ اَلرَّحِيمِ ٥ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ٦ لَقَدْ حَقَّ اَلْقَوْلُ عَلى‏ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ٧ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى اَلْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ٨ وَ جَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ٩ وَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ١٠ إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اِتَّبَعَ اَلذِّكْرَ وَ خَشِيَ اَلرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَ أَجْرٍ كَرِيمٍ ١١ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ اَلْمَوْتى‏ وَ نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَ آثَارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ١٢

 

 

 

(بيان)

غرض السورة بيان الأصول الثلاثة للدين فهي تبتدئ بالنبوة و تصف حال الناس في قبول الدعوة و ردها و أن غاية الدعوة الحقة إحياء قوم بركوبهم صراط السعادة و تحقيق القول على آخرين و بعبارة أخرى تكميل الناس في طريقي السعادة و الشقاء.

ثم تنتقل السورة إلى التوحيد فتعد جملة من آيات الوحدانية ثم تنتقل إلى ذكر المعاد فتذكر بعث الناس للجزاء و امتياز المجرمين يومئذ من المتقين و تصف ما تئول إليه حال كل من الفريقين.

ثم ترجع إلى ما بدأت فتلخص القول في الأصول الثلاثة و تستدل عليها و عند ذلك تختتم السورة.

و من غرر الآيات فيها قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فالسورة عظيمة الشأن تجمع أصول الحقائق و أعراقها و قد ورد من طرق العامة و الخاصة: أن لكل شي‏ء قلبا و قلب القرآن يس‏[6] و السورة مكية بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ﴿يس وَ اَلْقُرْآنِ اَلْحَكِيمِ إلى قوله ﴿فَهُمْ غَافِلُونَ إقسام منه تعالى بالقرآن الحكيم على كون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من المرسلين، و قد وصف القرآن بالحكيم لكونه مستقرا فيه الحكمة و هي حقائق المعارف و ما يتفرع عليها من الشرائع و العبر و المواعظ.

و قوله: ﴿إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ مقسم عليه كما تقدم.

و قوله: ﴿عَلىَ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ خبر بعد خبر لقوله: ﴿إِنَّكَ، و تنكير الصراط كما قيل للدلالة على التفخيم و توصيفه بالمستقيم للتوضيح فإن الصراط هو الطريق

 

 

 

 الواضح المستقيم، و المراد به الطريق الذي يوصل عابريه إلى الله تعالى أي إلى السعادة الإنسانية التي فيها كمال العبودية لله و القرب، و قد تقدم في تفسير الفاتحة بعض ما ينفع في هذا المقام من الكلام.

و قوله: ﴿تَنْزِيلَ اَلْعَزِيزِ اَلرَّحِيمِ وصف للقرآن مقطوع عن الوصفية منصوب على المدح، و المصدر بمعنى المفعول و محصل المعنى أعني بالقرآن ذاك المنزل الذي أنزله الله العزيز الرحيم الذي استقر فيه العزة و الرحمة.

و التذييل بالوصفين للإشارة إلى أنه قاهر غير مقهور و غالب غير مغلوب فلا يعجزه إعراض المعرضين عن عبوديته و لا يستذله جحود الجاحدين و تكذيب المكذبين، و أنه ذو رحمة واسعة لمن يتبع الذكر و يخشاه بالغيب لا لينتفع بإيمانهم بل ليهديهم إلى ما فيه سعادتهم و كمالهم فهو بعزته و رحمته أرسل الرسول و أنزل عليه القرآن الحكيم لينذر الناس فيحق كلمة العذاب على بعضهم و يشمل الرحمة منهم آخرين.

و قوله: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ تعليل للإرسال و التنزيل و ﴿قَوْماً نافية و الجملة صفة لقوله: ﴿قَوْماً و المعنى إنما أرسلك و أنزل عليك القرآن لتنذر و تخوف قوما لم ينذر آباؤهم فهم غافلون.

و المراد بالقوم إن كان هو قريش و من يلحق بهم فالمراد بآبائهم آباؤهم الأدنون فإن الأبعدين من آبائهم كان فيهم النبي إسماعيل ذبيح الله، و قد أرسل إلى العرب رسل آخرون كهود و صالح و شعيب (عليه السلام) ، و إن كان المراد جميع الناس المعاصرين نظرا إلى عموم الرسالة فكذلك أيضا فآخر رسول معروف بالرسالة قبله (ص) هو عيسى (عليه السلام) و بينهما زمان الفترة.

و اعلم أن ما ذكرناه في تركيب الآيات هو الذي يسبق منها إلى الفهم و قد أوردوا في ذلك وجوها أخر بعيدة عن الفهم تركناها من أرادها فليراجع المطولات.

قوله تعالى: ﴿لَقَدْ حَقَّ اَلْقَوْلُ عَلىَ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ اللام للقسم أي أقسم لقد ثبت و وجب القول على أكثرهم، و المراد بثبوت القول عليهم صيرورتهم مصاديق يصدق عليهم القول.

و المراد بالقول الذي حق عليهم كلمة العذاب التي تكلم بها الله سبحانه في بدء

 

 

 

 الخلقة مخاطبا بها إبليس‏﴿فَالْحَقُّ وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ص: - ٨٥ و المراد بتبعية إبليس طاعته فيما يأمر به بالوسوسة و التسويل بحيث تثبت الغواية و ترسخ في النفس كما يشير إليه قوله تعالى خطابا لإبليس‏﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ الحجر: - ٤٣.

و لازمه الطغيان و الاستكبار على الحق كما يشير إليه ما يحكيه الله من تساؤل المتبوعين و التابعين في النار﴿ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ الصافات: - ٣٢، و قوله‏ ﴿وَ لَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ اَلْعَذَابِ عَلَى اَلْكَافِرِينَ قِيلَ اُدْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى اَلْمُتَكَبِّرِينَ الزمر: - ٧٢.

و لازمه الانكباب على الدنيا و الإعراض عن الآخرة بالمرة و رسوخ ذلك في نفوسهم قال تعالى‏﴿وَ لَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اَللَّهِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اِسْتَحَبُّوا اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا عَلَى اَلْآخِرَةِ وَ أَنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكَافِرِينَ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ طَبَعَ اَللَّهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصَارِهِمْ وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْغَافِلُونَ النحل: - ١٠٨ فيطبع الله على قلوبهم و من آثاره أن لا سبيل لهم إلى الإيمان قال تعالى‏﴿إِنَّ اَلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ يونس: - ٩٦.

و بما تقدم ظهر أن الفاء في قوله: ﴿فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ للتفريع لا للتعليل كما احتمله بعضهم.

قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى اَلْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ الأعناق‏ جمع عنق بضمتين و هو الجيد، و الأغلال‏ جمع غل بالكسر و هي على ما قيل ما تشد به اليد إلى العنق للتعذيب و التشديد، و مقمحون‏ اسم مفعول من الإقماح و هو رفع الرأس كأنهم قد ملأت الأغلال ما بين صدورهم إلى أذقانهم فبقيت رءوسهم مرفوعة إلى السماء لا يتأتى لهم أن ينكسوها فينظروا إلى ما بين أيديهم من الطريق فيعرفوها و يميزوها من غيرها.

و تنكير قوله: ﴿أَغْلاَلاً للتفخيم و التهويل.

و الآية في مقام التعليل لقوله السابق: ﴿فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ.

 

 

 

قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ السد الحاجز بين الشيئين، و قوله: ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ﴾﴿وَ مِنْ خَلْفِهِمْ كناية عن جميع الجهات، و الغشي و الغشيان‏ التغطية يقال: غشيه كذا أي غطاه و أغشى الأمر فلانا أي جعل الأمر يغطيه، و الآية متممة للتعليل السابق و قوله: ﴿جَعَلْنَا معطوف على ﴿جَعَلْنَا المتقدم.

و عن الرازي في تفسيره في معنى التشبيه في الآيتين أن المانع عن النظر في الآيات قسمان: قسم يمنع عن النظر في الأنفس فشبه ذلك بالغل الذي يجعل صاحبه مقمحا لا يرى نفسه و لا يقع بصره على بدنه، و قسم يمنع عن النظر في الآفاق فشبه ذلك بالسد المحيط فإن المحاط بالسد لا يقع نظره على الآفاق فلا يظهر له ما فيها من الآيات فمن ابتلي بهما حرم عن النظر بالكلية.

و معنى الآيتين أنهم لا يؤمنون لأنا جعلنا في أعناقهم أغلالا نشد بها أيديهم على أعناقهم فهي إلى الأذقان فهم مرفوعة رءوسهم باقون على تلك الحال و جعلنا من جميع جهاتهم سدا فجعلناه يغطيهم فهم لا يبصرون فلا يهتدون.

ففي الآيتين تمثيل لحالهم في حرمانهم من الاهتداء إلى الإيمان و تحريمه تعالى عليهم ذلك جزاء لكفرهم و غوايتهم و طغيانهم في ذلك.

و قد تقدم في قوله تعالى‏﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً البقرة: - ٢٦ في الجزء الأول من الكتاب أن ما وقع في القرآن من هذه الأوصاف و نظائرها التي وصف بها المؤمنون و الكفار يكشف عن حياة أخرى للإنسان في باطن هذه الحياة الدنيوية مستورة عن الحس المادي ستظهر له إذا انكشفت الحقائق بالموت أو البعث، و عليه فالكلام في أمثال هذه الآيات جار في مجرى الحقيقة دون المجاز كما عليه القوم.

قوله تعالى: ﴿وَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ عطف تفسير و تقرير لما تتضمنه الآيات الثلاث المتقدمة و تلخيص للمراد و تمهيد لما يتلوه من قوله:

﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اِتَّبَعَ اَلذِّكْرَ الآية.

و احتمل أن يكون عطفا على قوله: ﴿لاَ يُبْصِرُونَ و المعنى فهم لا يبصرون

 

 

 

 و يستوي عليهم إنذارك و عدم إنذارك لا يؤمنون و الوجه الأول أقرب إلى الفهم.

قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اِتَّبَعَ اَلذِّكْرَ وَ خَشِيَ اَلرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَ أَجْرٍ كَرِيمٍ القصر للإفراد، و المراد بالإنذار الإنذار النافع الذي له أثر، و بالذكر القرآن الكريم، و باتباعه تصديقه و الميل إليه إذا تليت آياته، و التعبير بالماضي للإشارة إلى تحقق الوقوع، و المراد بخشية الرحمن بالغيب خشيته تعالى من وراء الحجاب و قبل انكشاف الحقيقة بالموت أو البعث، و قيل: أي حال غيبته من الناس بخلاف المنافق و هو بعيد.

و قد علقت الخشية على اسم الرحمن الدال على صفة الرحمة الجالبة للرجاء للإشعار بأن خشيتهم خوف مشوب برجاء و هو الذي يقر العبد في مقام العبودية فلا يأمن و لا يقنط.

و تنكير ﴿بِمَغْفِرَةٍ و ﴿أَجْرٍ كَرِيمٍ للتفخيم أي فبشره بمغفرة عظيمة من الله و أجر كريم لا يقدر قدره و هو الجنة، و الدليل على جميع ما تقدم هو السياق.

و المعنى: إنما تنذر الإنذار النافع الذي له أثر، من اتبع القرآن إذا تليت عليه آياته و مال إليه و خشي الرحمن خشية مشوبة بالرجاء فبشره بمغفرة عظيمة و أجر كريم لا يقدر قدره.

قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ اَلْمَوْتى‏َ وَ نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَ آثَارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ المراد بإحياء الموتى إحياؤهم للجزاء.

و المراد بما قدموا الأعمال التي عملوها قبل الوفاة فقدموها على موتهم، و المراد بآثارهم ما تركوها لما بعد موتهم من خير يعمل به كتعليم علم ينتفع به أو بناء مسجد يصلى فيه أو ميضاة يتوضأ فيها، أو شر يعمل به كوضع سنة مبتدعة يستن بها أو بناء مفسقة يعصى الله فيها.

و ربما قيل: إن المراد بما قدموا النيات و بآثارهم الأعمال المترتبة المتفرعة عليها و هو بعيد من السياق.

و المراد بكتابة ما قدموا و آثارهم ثبتها في صحائف أعمالهم و ضبطها فيها بواسطة كتبة الأعمال من الملائكة و هذه الكتابة غير كتابة الأعمال و إحصائها في الإمام المبين

 

 

 

الذي هو اللوح المحفوظ و إن توهم بعضهم أن المراد بكتابة ما قدموا و آثارهم هو إحصاؤها في الكتاب المبين و ذلك أنه تعالى يثبت في كلامه كتابا يحصي كل شي‏ء ثم لكل أمة كتابا يحصي أعمالهم ثم لكل إنسان كتابا يحصي أعماله كما قال‏﴿وَ لاَ رَطْبٍ وَ لاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ الأنعام: - ٥٩، و قال‏﴿كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى‏َ إِلى‏َ كِتَابِهَا الجاثية: - ٢٨، و قال‏﴿وَ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً الإسراء: - ١٣، و ظاهر الآية أيضا يقضي بنوع من البينونة بين كتاب الأعمال و الإمام المبين حيث فرق بينهما بالخصوص و العموم و اختلاف التعبير بالكتابة و الإحصاء.

و قوله: ﴿وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ هو اللوح المحفوظ من التغيير الذي يشتمل على تفصيل قضائه سبحانه في خلقه فيحصي كل شي‏ء و قد ذكر في كلامه تعالى بأسماء مختلفة كاللوح المحفوظ و أم الكتاب و الكتاب المبين و الإمام المبين كل منها بعناية خاصة.

و لعل العناية في تسميته إماما مبينا أنه لاشتماله على القضاء المحتوم متبوع للخلق مقتدى لهم و كتب الأعمال كما سيأتي في تفسير سورة الجاثية مستنسخة منه قال تعالى‏﴿ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ الجاثية: - ٢٩.

و قيل: المراد بالإمام المبين صحف الأعمال و ليس بشي‏ء، و قيل: علمه تعالى و هو كسابقه نعم لو أريد به العلم الفعلي كان له وجه.

و من عجيب القول في هذا المقام ما ذكره بعضهم أن الذي كتب في اللوح المحفوظ هو ما كان و ما يكون إلى يوم القيامة لا حوادث العالم إلى أبد الآبدين و ذلك أن اللوح عند المسلمين جسم و كل جسم متناهي الأبعاد كما يشهد به الأدلة و بيان كل شي‏ء فيه على الوجه المعروف عندنا دفعة مقتض لكون المتناهي ظرفا لغير المتناهي و هو محال بالبديهة فالوجه تخصيص عموم كل شي‏ء و القول بأن المراد به الحوادث إلى يوم القيامة هذا.

و هو تحكم و سنتعرض له تفصيلا.

و الآية في معنى التعليل بالنسبة إلى ما تقدمها كأنه تعالى يقول: ما أخبرنا به و وصفناه من حال أولئك الذين حق عليهم القول و هؤلاء الذين يتبعون الذكر و يخشون

 

 

 

 ربهم بالغيب هو كذلك لأن أمر حياة الكل إلينا و أعمالهم و آثارهم محفوظة عندنا فنحن على علم و خبرة بما تئول إليه حال كل من الفريقين.

(بحث روائي)

في تفسير القمي، ":في قوله تعالى: ﴿فَهُمْ مُقْمَحُونَ قال: قد رفعوا رءوسهم.

 و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) : في قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ الهدى، أخذ الله سمعهم و أبصارهم و قلوبهم و أعمالهم عن الهدى .

نزلت في أبي جهل بن هشام و نفر من أهل بيته و ذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قام يصلي و قد حلف أبو جهل لعنه الله لئن رآه يصلي ليدمغه [7]فجاءه و معه حجر و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قائم يصلي فجعل كلما رفع الحجر ليرميه أثبت الله عز و جل يده إلى عنقه و لا يدور الحجر بيده فلما رجع إلى أصحابه سقط الحجر من يده .

ثم قام رجل آخر و هو رهطه أيضا فقال أنا أقتله - فلما دنا منه فجعل يسمع قراءة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأرعب فرجع إلى أصحابه فقال حال بيني و بينه كهيئة الفحل يخطر بذنبه فخفت أن أتقدم.

و قوله تعالى: ﴿وَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ فلم يؤمن من أولئك الرهط من بني مخزوم أحد. أقول:و روي نحو منه في الدر المنثور، عن البيهقي في الدلائل عن ابن عباس و فيه" :أن ناسا من بني مخزوم تواطئوا بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ليقتلوه منهم أبو جهل و الوليد بن المغيرة فبينا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قائم يصلي يسمعون قراءته فأرسلوا إليه الوليد ليقتله فانطلق حتى أتى المكان الذي يصلي فيه فجعل يسمع قراءته و لا يراه فانطلق إليهم فأعلمهم ذلك فأتوه فلما انتهوا إلى المكان الذي يصلي فيه سمعوا قراءته فيذهبون إليه فيسمعون أيضا من

 

 

 

 خلفهم فانصرفوا فلم يجدوا إليه سبيلا. فذلك قوله: ﴿وَ جَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا الآية.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه و أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال : كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يقرأ في المسجد فيجهر بالقراءة حتى تأذى به ناس من قريش حتى قاموا ليأخذوه و إذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم و إذا هم لا يبصرون فجاءوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالوا: ننشدك الله و الرحم يا محمد و لم يكن بطن من بطون قريش إلا و للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيهم قرابة فدعا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) حتى ذهب ذلك عنهم فنزلت: ﴿يس وَ اَلْقُرْآنِ اَلْحَكِيمِ إلى قوله ﴿أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ. قال: فلم يؤمن من ذلك النفر أحد.

 أقول: و قد رووا القصة بأشكال مختلفة في بعضها أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قرأ الآيات فاحتجب منهم فلم يروه و دفع الله عنه شرهم و كيدهم، و في بعضها أن الآيات من أول السورة إلى قوله: ﴿فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ نزلت في القصة فقوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا إلى آخر الآيتين يقص صنع الله بهم في ستر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن أبصارهم و قوله:

﴿وَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ إلخ يخبر عن عدم إيمان ذاك النفر.

و أنت خبير بأن سياق الآيات يأبى الانطباق على هذه الروايات بما فيها من القصة فهو سياق متناسق منسجم يصف حال طائفتين من الناس و هم الذين حق عليهم القول فهم لا يؤمنون و الذين يتبعون الذكر و يخشون ربهم بالغيب.

و أين ذلك من حمل قوله: ﴿لَقَدْ حَقَّ اَلْقَوْلُ عَلىَ أَكْثَرِهِمْ على الناس المنذرين و حمل قوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ و ﴿جَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا الآيتين على قصة أبي جهل و رهطه، و حمل قوله: ﴿وَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ على رهطه و أضف إلى ذلك حمل قوله: ﴿وَ نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَ آثَارَهُمْ على قصة قوم من الأنصار بالمدينة و سيوافيك خبره فيختل بذلك السياق و تنثلم وحدة النظم.

فالحق أن الآيات نازلة دفعة ذات سياق واحد تصف حال الناس و تفرقهم عند بلوغ الدعوة و وقوع الإنذار على فرقتين، و لا مانع من وقوع القصة و احتجاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من أعدائه بالآيات.

 و فيه، أخرج عبد الرزاق و الترمذي و حسنه و البزار و ابن جرير و ابن المنذر

 

 

 

 و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن أبي سعيد الخدري قال" :كان بنو سلمة في ناحية من المدينة فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فأنزل الله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ اَلْمَوْتى‏ وَ نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَ آثَارَهُمْ فدعاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: إنه يكتب آثاركم ثم قرأ عليهم الآية فتركوا.

 و فيه، أخرج الفاريابي و أحمد في الزهد و عبد بن حميد و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و الطبراني و ابن مردويه عن ابن عباس قال ":كانت الأنصار منازلهم بعيدة من المسجد فأرادوا أن ينتقلوا قريبا من المسجد فنزلت ﴿وَ نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَ آثَارَهُمْ فقالوا: بل نمكث مكاننا.

 أقول: و الكلام في الروايتين كالكلام فيما تقدمهما.

 و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن جرير بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : من سن سنة حسنة فله أجرها و أجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شي‏ء. و من سن سنة سيئة كان عليه وزرها و وزر من عمل بها من بعده لا ينقص من أوزارهم شي‏ء. ثم تلا هذه الآية ﴿وَ نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَ آثَارَهُمْ.

 و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ أي في كتاب مبين و هو محكم، و

 ذكر ابن عباس عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : أنا و الله الإمام المبين أبين الحق من الباطل ورثته من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) .

و في معاني الأخبار، بإسناده إلى أبي الجارود عن أبي جعفر عن أبيه عن جده (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في حديث: أنه قال في علي (عليه السلام) إنه الإمام الذي أحصى الله تبارك و تعالى فيه علم كل شي‏ء. أقول: الحديثان لو صحا لم يكونا من التفسير في شي‏ء بل مضمونهما من بطن القرآن و إشاراته، و لا مانع من أن يرزق الله عبدا وحده و أخلص العبودية له العلم بما في الكتاب المبين و هو (عليه السلام) سيد الموحدين بعد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .

 

 

 

[سورة يس (٣٦): الآیات ١٣ الی ٣٢]

﴿وَ اِضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ اَلْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا اَلْمُرْسَلُونَ ١٣ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اِثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ١٤ قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَ مَا أَنْزَلَ اَلرَّحْمَنُ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ ١٥ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ١٦ وَ مَا عَلَيْنَا إِلاَّ اَلْبَلاَغُ اَلْمُبِينُ ١٧ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَ لَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ١٨ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ١٩ وَ جَاءَ مِنْ أَقْصَا اَلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى‏َ قَالَ يَا قَوْمِ اِتَّبِعُوا اَلْمُرْسَلِينَ ٢٠ اِتَّبِعُوا مَنْ لاَ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَ هُمْ مُهْتَدُونَ ٢١ وَ مَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ اَلَّذِي فَطَرَنِي وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٢٢ أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ اَلرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَ لاَ يُنْقِذُونِ ٢٣ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ٢٤ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ٢٥ قِيلَ اُدْخُلِ اَلْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ٢٦ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ اَلْمُكْرَمِينَ ٢٧ وَ مَا أَنْزَلْنَا عَلى‏َ قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ مَا كُنَّا مُنْزِلِينَ ٢٨ إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ٢٩ يَا حَسْرَةً عَلَى اَلْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ٣٠ أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ

 

 

 

أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ اَلْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ ٣١ وَ إِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ٣٢

(بيان)

مثل مشتمل على الإنذار و التبشير ضربه الله سبحانه لعامة القوم يشير فيه إلى الرسالة الإلهية و ما تستتبعه الدعوة الحقة من المغفرة و الأجر الكريم لمن آمن بها و اتبع الذكر و خشي الرحمن بالغيب، و من العذاب الأليم لمن كفر و كذب بها فحق عليه القول، و فيه إشارة إلى وحدانيته تعالى و معاد الناس إليه جميعا.

و لا منافاة بين إخباره بأنهم لا يؤمنون سواء أنذروا أم لم ينذروا و بين إنذارهم لأن في البلاغ إتماما للحجة و تكميلا للسعادة أو الشقاوة قال تعالى‏﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيىَ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ الأنفال: - ٤٢، و قال‏﴿وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لاَ يَزِيدُ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً الإسراء: - ٨٢.

قوله تعالى: ﴿وَ اِضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ اَلْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا اَلْمُرْسَلُونَ المثل‏ كلام أو قصة يمثل به مقصد من المقاصد فيتضح للمخاطب، و لما كانت قصتهم توضح ما تقدم من الوعد و الوعيد أمر نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يضربها مثلا لهم.

و الظاهر أن ﴿مَثَلاً مفعول ثان لقوله: ﴿اِضْرِبْ و مفعوله الأول قوله:

﴿أَصْحَابَ اَلْقَرْيَةِ و المعنى و اضرب لهم أصحاب القرية و حالهم هذه الحال مثلا و قد قدم المفعول الثاني تحرزا عن الفصل المخل.

قوله تعالى: ﴿إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اِثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ التعزيز من العزة بمعنى القوة و المنعة، و قوله: ﴿إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ بيان تفصيلي لقوله: ﴿إِذْ جَاءَهَا اَلْمُرْسَلُونَ.

و المعنى: و اضرب لهم مثلا أصحاب القرية و هم في زمان أرسلنا إليهم رسولين اثنين من رسلنا فكذبوهما أي الرسولين فقويناهما برسول ثالث فقالت الرسل إنا إليكم

 

 

 

 مرسلون من جانب الله.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَ مَا أَنْزَلَ اَلرَّحْمَنُ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ كانوا يرون أن البشر لا ينال النبوة و الوحي، و يستدلون على ذلك بأنفسهم حيث لا يجدون من أنفسهم شيئا من ذاك القبيل فيسرون الحكم إلى نفوس الأنبياء مستندين إلى أن حكم الأمثال واحد.

و على هذا التقرير يكون معنى قوله: ﴿وَ مَا أَنْزَلَ اَلرَّحْمَنُ مِنْ شَيْ‏ءٍ لم ينزل الله وحيا و لو نزل شيئا على بشر لنلناه من نفوسنا كما تدعون أنتم ذلك، و تعبيرهم عن الله سبحانه بالرحمن إنما هو لكونهم كسائر الوثنيين معترفين بالله سبحانه و اتصافه بكرائم الصفات‏[8] كالخلق و الرحمة و الملك غير أنهم يرون أنه فوض أمر التدبير إلى مقربي خلقه كالملائكة الكرام فهم الأرباب المدبرون و الآلهة المعبودون، و أما الله عز اسمه فهو رب الأرباب و إله الآلهة.

و من الممكن أن يكون ذكر اسم الرحمن في الحكاية دون المحكي فيكون التعبير به لحلمه و رحمته تعالى قبل إنكارهم و تكذيبهم للحق الصريح.

و قوله: ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ بمنزلة النتيجة لصدر الآية، و محصل قولهم إنكم بشر مثلنا و لا نجد نحن على بشريتنا في نفوسنا شيئا من الوحي النازل الذي تدعونه و أنتم مثلنا فما أنزل الرحمن شيئا من الوحي فدعواكم كاذبة و إذ ليس لكم إلا هذه الدعوى فإن أنتم إلا تكذبون.

و يظهر بما تقدم نكتة الحصر في قوله: ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ و كذا الوجه في نفي الفعل و لم يقل: إن أنتم إلا كاذبون لأن المراد نفي الفعل في الحال دون الاستمرار و الاستقبال.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَ مَا عَلَيْنَا إِلاَّ اَلْبَلاَغُ اَلْمُبِينُ لم يحك الله سبحانه عن هؤلاء الرسل جوابا عن حجة قومهم ﴿مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا إلخ.

 

 

 

 

 كما نقل عن الرسل المبعوثين إلى الأمم الدارجة لما احتجت أممهم بمثل هذه الحجة ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا فردتها رسلهم بقولهم‏﴿إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَمُنُّ عَلى‏َ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إبراهيم: - ١١ و قد مر تقريره.

بل حكى عنهم أنهم ذكروا للقوم أنهم مرسلون إليهم مأمورون بتبليغ الرسالة ليس عليهم إلا ذلك و أنهم في غنى عن تصديقهم لهم و إيمانهم بهم و يكفيهم فيه أن يعلم ربهم بأنهم مرسلون لا حاجة لهم إلى أزيد من ذلك.

فقوله: ﴿قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ إخبار عن رسالتهم و قد أكد الكلام بأن المشددة المكسورة و اللام، و الاستشهاد بعلم ربهم بذلك، و قوله: ﴿رَبُّنَا يَعْلَمُ معترض بمنزلة القسم، و المعنى إنا مرسلون إليكم صادقون في دعوى الرسالة و يكفينا في ذلكم علم ربنا الذي أرسلنا بها و لا حاجة لنا فيه إلى تصديقكم لنا و لا نفع لنا فيه من أجر و نحوه و لا يهمنا تحصيله منكم بل الذي يهمنا هو تبليغ الرسالة و إتمام الحجة.

و قوله: ﴿وَ مَا عَلَيْنَا إِلاَّ اَلْبَلاَغُ اَلْمُبِينُ البلاغ‏ هو التبليغ و المراد به تبليغ الرسالة أي لم يؤمر و لم نكلف إلا بتبليغ الرسالة و إتمام الحجة.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَ لَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ القائلون أصحاب القرية و المخاطبون هم الرسل، و التطير هو التشؤم و قولهم: ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا إلخ. تهديد منهم للرسل.

و المعنى: قالت أصحاب القرية لرسلهم، إنا تشأمنا بكم و نقسم لئن لم تنتهوا عن التبليغ و لم تكفوا عن الدعوة لنرجمنكم بالحجارة و ليصلن إليكم و ليقعن بكم منا عذاب أليم.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ القائلون هم الرسل يخاطبون به أصحاب القرية.

و قوله: ﴿طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ الطائر في الأصل هو الطير و كان يتشاءم به ثم توسع و استعمل في كل ما يتشاءم به، و ربما يستعمل فيما يستقبل الإنسان من الحوادث، و ربما يستعمل في البخت الشقي الذي هو أمر موهوم يرونه مبدأ لشقاء الإنسان و حرمانه من كل خير.

 

 

 

 و كيف كان فقوله: ﴿طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ ظاهر معناه أن الذي ينبغي أن تتشأموا به هو معكم و هو حالة إعراضكم عن الحق الذي هو التوحيد و إقبالكم إلى الباطل الذي هو الشرك.

و قيل: المعنى طائركم أي حظكم و نصيبكم من الخير و الشر معكم من أفعالكم إن خيرا فخير و إن شرا فشر، هذا و هو أخذ الطائر بالمعنى الثاني لكن قوله بعد: ﴿أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ أنسب بالنسبة إلى المعنى الأول.

و قوله: ﴿أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ استفهام توبيخي و المراد بالتذكير تذكيرهم بالحق من وحدانيته تعالى و رجوع الكل إليه و نحوهما و جزاء الشرط محذوف في الكلام تلويحا إلى أنه مما لا ينبغي أن يذكر أو يتفوه به و التقدير أ إن ذكرتم بالحق قابلتموه بمثل هذا الجحود الشنيع و الصنيع الفظيع من التطير و التوعد.

و قوله: ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ أي مجاوزون للحد في المعصية و هو إضراب عما تقدم و المعنى بل السبب الأصلي في جحودكم و تكذيبكم للحق أنكم قوم تستمرون على الإسراف و مجاوزة الحد.

قوله تعالى: ﴿وَ جَاءَ مِنْ أَقْصَا اَلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى‏َ قَالَ يَا قَوْمِ اِتَّبِعُوا اَلْمُرْسَلِينَ أقصى المدينة أبعد مواضعها بالنسبة إلى مبدإ مفروض، و قد بدلت القرية في أول الكلام مدينة هنا للدلالة على عظمها و السعي‏ هو الإسراع في المشي.

و وقع نظير هذا التعبير في قصة موسى و القبطي و فيها ﴿وَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ يَسْعى‏َ فقدم «رجل» هناك و أخر هاهنا و لعل النكتة في ذلك أن الاهتمام هناك بمجي‏ء الرجل و إخباره موسى بائتمار الملإ لقتله فقدم الرجل ثم أشير إلى اهتمام الرجل نفسه بإيصال الخبر و إبلاغه فجي‏ء بقوله: ﴿يَسْعى‏َ حالا مؤخرا بخلاف ما هاهنا فالاهتمام بمجيئه من أقصى المدينة ليعلم أن لا تواطؤ بينه و بين الرسل في أمر الدعوة فقدم ﴿مِنْ أَقْصَا اَلْمَدِينَةِ و أخر الرجل و سعيه.

و قد اشتد الخلاف بينهم في اسم الرجل و اسم أبيه و حرفته و شغله و لا يهمنا الاشتغال بذلك في فهم المراد و لو توقف عليه الفهم بعض التوقف لأشار سبحانه في كلامه إليه و لم يهمله.

 

 

 

 و إنما المهم هو التدبر في حظه من الإيمان في هذا الموقف الذي انتهض فيه لتأييد الرسل (عليه السلام) و نصرتهم فقد كان على ما يعطيه التدبر في المنقول من كلامه رجلا نور الله سبحانه قلبه بنور الإيمان يؤمن بالله إيمان إخلاص يعبده لا طمعا في جنة أو خوفا من نار بل لأنه أهل للعبادة و لذلك كان من المكرمين و لم يصف الله سبحانه في كلامه بهذا الوصف إلا ملائكته المقربين و عباده المخلصين، و قد خاصم القوم فخصمهم و أبطل ما تعلق به القوم من الحجة على عدم جواز عبادة الله سبحانه و وجوب عبادة آلهتهم و أثبت وجوب عبادته وحده و صدق الرسل في دعواهم الرسالة ثم آمن بهم.

قوله تعالى: ﴿اِتَّبِعُوا مَنْ لاَ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَ هُمْ مُهْتَدُونَ بيان لقوله: ﴿اِتَّبِعُوا اَلْمُرْسَلِينَ و في وضع قوله: ﴿مَنْ لاَ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَ هُمْ مُهْتَدُونَ في هذه الآية موضع قوله: ﴿اَلْمُرْسَلِينَ في الآية السابقة إشعار بالعلية و بيانها أن عدم جواز اتباع قائل في قوله إنما يكون لأحد أمرين: إما لكون قوله ضلالا و القائل به ضالا و لا يجوز اتباع الضال في ضلاله، و إما لأن القول و إن كان حقا و الحق واجب الاتباع لكن لقائله غرض فاسد يريد أن يتوسل إليه بكلمة الحق كاقتناء المال و اكتساب الجاه و المقام و نحو ذلك، و أما إذا كان القول حقا و كان القائل بريئا من الغرض الفاسد منزها من الكيد و المكر و الخيانة كان من الواجب اتباعه في قوله، و هؤلاء الرسل مهتدون في قولهم:

لا تعبدوا إلا الله، و هم لا يريدون منكم أجرا من مال أو جاه فمن الواجب عليكم أن تتبعوهم في قولهم.

أما أنهم مهتدون فلقيام الحجة على صدق ما يدعون إليه من التوحيد و كونه حقا، و الحجة هي قوله: ﴿وَ مَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ إلى تمام الآيتين.

و أما أنهم لا يريدون منكم أجرا فلما دل عليه قولهم: ﴿رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ و قد تقدم تقريره.

و بهذا البيان يتأيد ما قدمناه من كون قولهم: ﴿رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ مسوقا لنفي إرادتهم من القوم أجرا أو غير ذلك.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ اَلَّذِي فَطَرَنِي وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إلى قوله ﴿وَ لاَ يُنْقِذُونِ شرع في استفراغ الحجة على التوحيد و نفي الآلهة في آيتين

 

 

 

و اختار لذلك سياق التكلم وحده إلا في جملة اعترض بها في خلال الكلام و هي قوله:

﴿وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ و ذلك بإجراء الحكم في نفسه بما أنه إنسان أوجده الله و فطره حتى يجري في كل إنسان هو مثله و الأفراد أمثال فقوله: ﴿وَ مَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ إلخ. في معنى و ما للإنسان لا يعبد إلخ. أ يتخذ الإنسان من دونه آلهة إلخ.

و قد عبر عنه تعالى بقوله: ﴿اَلَّذِي فَطَرَنِي للإشعار بالعلية فإن فطره تعالى للإنسان و إيجاده له بعد العدم لازمه رجوع كل ما للإنسان من ذات و صفات و أفعال إليه تعالى و قيامه به و ملكه له فليس للإنسان إلا العبودية محضة فعلى الإنسان أن ينصب نفسه في مقام العبودية و يظهرها بالنسبة إليه تعالى و هذا هو العبادة فعليه أن يعبده تعالى لأنه أهل لها.

و هذا هو الذي أشرنا إليه آنفا أن الرجل كان يعبد الله بالإخلاص له لا طمعا في جنة و لا خوفا من نار بل لأنه أهل للعبادة.

و إذ كان الإيمان به تعالى و عبادته هكذا أمرا لا يناله عامة الناس فإن الأكثرين منهم إنما يعبدون خوفا أو طمعا أو لكليهما التفت الرجل بعد بيان حال نفسه إلى القوم فقال: ﴿وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يريد به إنذارهم بيوم الرجوع و أنه تعالى سيحاسبهم على ما عملوا فيجازيهم بمساوئ أعمالهم فقوله: ﴿وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ كالمعترضة الخارجة عن السياق أو هي هي.

ثم إن الآيتين حجتان قائمتان على إبطال ما احتج به الوثنية و بنوا على ذلك عبادة الأصنام و أربابها.

توضيح ذلك أنهم قالوا: إن الله سبحانه أجل من أن يحيط به حس أو خيال أو عقل لا يناله شي‏ء من القوى الإدراكية فلا يمكن التوجه إليه بالعبادة فسبيل العبادة أن نتوجه إلى مقربي حضرته و الأقوياء من خلقه كالملائكة الكرام و الجن و القديسين من البشر حتى يكونوا شفعاء لنا عند الله في إيصال الخيرات و دفع الشرور و المكاره.

و الجواب عن أولى الحجتين بما حاصله أن الإنسان و إن كان لا يحيط علما بالذات المتعالية لكنه يعرفه تعالى بصفاته الخاصة به مثل كونه فاطرا له موجدا إياه فله أن يتوجه إليه من طريق هذه الصفات و إنكار إمكانه مكابرة، و هذا الجواب هو الذي

 

 

 

 أشار إليه بقوله: ﴿وَ مَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ اَلَّذِي فَطَرَنِي.

و عن الثانية أن هؤلاء الآلهة إن كانت لهم شفاعة كانت مما أفاضه الله عليهم و الله سبحانه لا يعطيهم ذلك إلا فيما لا تتعلق به منه إرادة حاتمة و لازمه أن شفاعتهم فيما أذن الله لهم فيه كما قال‏﴿مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ يونس ٣ أما إذا أراد الله شيئا إرادة حتم فلا تنفع شفاعتهم شيئا في المنع عن نفوذها فاتخاذهم آلهة و عدمه سواء في عدم التأثير لجلب خير أو دفع شر، و إلى ذلك أشار بقوله: ﴿أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ اَلرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَ لاَ يُنْقِذُونِ.

و تعبيره عنه تعالى بالرحمن إشارة إلى سعة رحمته و كثرتها و أن النعم كلها من عنده و تدبير الخير و الشر إليه و يتحصل من هنا برهان آخر على وحدانيته تعالى في الربوبية، إذ لما كان جميع النعم و كذا النظام الجاري فيها، من رحمته و قائمة به من غير استقلال في شي‏ء منها كان المستقل بالتدبير هو تعالى حتى أن تدبير الملائكة لو فرض تدبيرهم لشي‏ء من رحمته و تدبيره تعالى و كانت الربوبية له تعالى وحده و كذا الألوهية.

قوله تعالى: ﴿إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ تسجيل للضلال على اتخاذ الآلهة.

قوله تعالى: ﴿إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ من كلام الرجل خطابا للرسل و قوله: ﴿فَاسْمَعُونِ كناية عن الشهادة بالتحمل، و قوله: ﴿إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ إلخ.

تجديد الشهادة بالحق و تأكيد للإيمان فإن ظاهر السياق أنه إنما قال: ﴿إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ بعد محاجته خطابا للرسل ليستشهدهم على إيمانه و ليؤيدهم بإيمانهم بمرأى من القوم و مسمع.

و قيل: إنه خطاب للقوم تأييدا للرسل، و المعنى إني آمنت بالله فاسمعوا مني فإني لا أبالي بما يكون منكم على ذلك أو المعنى إني آمنت بالله فاسمعوا مني و آمنوا به أو أنه أراد به أن يغضبهم و يشغلهم عن الرسل بنفسه حيث إنه رأى أنهم بصدد الإيقاع بهم. هذا.

و فيه أنه لا يلائمه التعبير عن الله سبحانه بقوله: ﴿بِرَبِّكُمْ فإن القوم ما كانوا يتخذونه تعالى ربا لهم و إنما كانوا يعبدون الأرباب من دون الله سبحانه.

و رد بأن المعنى إني آمنت بربكم الذي قامت الحجة على ربوبيته لكم و هو الله سبحانه. و فيه أنه تقييد من غير مقيد.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿قِيلَ اُدْخُلِ اَلْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ اَلْمُكْرَمِينَ الخطاب للرجل و هو - كما يفيده السياق - يلوح إلى أن القوم قتلوه فنودي من ساحة العزة أن ادخل الجنة كما يؤيده قوله بعد: ﴿وَ مَا أَنْزَلْنَا عَلى‏َ قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ إلخ فوضع قوله: ﴿قِيلَ اُدْخُلِ اَلْجَنَّةَ موضع الإخبار عن قتلهم إياه إشارة إلى أنه لم يكن بين قتله بأيديهم و بين أمره بدخول الجنة أي فصل و انفكاك كأن قتله بأيديهم هو أمره بدخول الجنة.

و المراد بالجنة على هذا جنة البرزخ دون جنة الآخرة، و قول بعضهم: إن المراد بها جنة الآخرة و المعنى سيقال له: ادخل الجنة يوم القيامة و التعبير بالماضي لتحقق الوقوع تحكم من غير دليل كما قيل: إن الله رفعه إلى السماء فقيل له ادخل الجنة فهو حي يتنعم فيها إلى قيام الساعة، و هو تحكم كسابقه.

و قيل: إن القائل: ﴿اُدْخُلِ اَلْجَنَّةَ هو القوم قالوا له ذاك حين قتله استهزاء و فيه أنه لا يلائم ما أخبر الله سبحانه عنه بقوله بعد: ﴿قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ إلخ فإن ظاهره أنه تمنى علم قومه بما هو فيه بعد استماع نداء ﴿اُدْخُلِ اَلْجَنَّةَ و لم يسبق من الكلام ما يصح أن يبتني عليه قوله ذاك.

و قوله: ﴿قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ اَلْمُكْرَمِينَ استئناف كسابقه كالجواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: فما ذا كان بعد تأييده للرسل؟ فقيل: ﴿قِيلَ اُدْخُلِ اَلْجَنَّةَ ثم قيل: فما ذا كان بعد؟ فقيل: ﴿قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ إلخ و هو نصح منه لقوله ميتا كما كان ينصحهم حيا.

و ﴿بِمَا في قوله: ﴿بِمَا غَفَرَ لِي إلخ مصدرية، و قوله: ﴿وَ جَعَلَنِي عطف على ﴿غَفَرَ و المعنى بمغفرة ربي لي و جعله إياي من المكرمين.

و موهبة الإكرام و إن كانت وسيعة ينالها كثيرون كالإكرام بالنعمة كما في قوله‏﴿ فَأَمَّا اَلْإِنْسَانُ إِذَا مَا اِبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، الفجر: - ١٥ و قوله‏ ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللَّهِ أَتْقَاكُمْ الحجرات: - ١٣ فإن كرامة العبد عند الله إكرام منه له لكنه لم يعد من المكرمين بوصف الإطلاق إلا طائفتين من خلقه: الملائكة الكرام كما في قوله‏﴿بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ

 

 

 

الأنبياء: - ٢٧، و الكاملين في إيمانهم من المؤمنين سواء كانوا من المخلصين بكسر اللام كما في قوله‏﴿أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ المعارج: - ٣٥، أو من المخلصين بفتح اللام كما في قوله‏ ﴿إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ إلى أن قال ﴿وَ هُمْ مُكْرَمُونَ الصافات: - ٤٢.

و الآية من أدلة وجود البرزخ.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَنْزَلْنَا عَلى‏َ قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ مَا كُنَّا مُنْزِلِينَ الضميران للرجل، و ﴿مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد قتله، و ﴿مِنْ الأولى و الثالثة لابتداء الغاية، و الثانية مزيدة لتأكيد النفي.

و الآية توطئة للآية التالية، و هي مسوقة لبيان هوان أمر القوم و الانتقام منهم بإهلاكهم على الله سبحانه و أنه لا يحتاج في إهلاكهم إلى عدة و عدة حتى ينزل من السماء جندا من الملائكة يقاتلونهم فيهلكونهم فلم يفعل ذلك فيهم و لا فعل ذلك في إهلاك من أهلك من الأمم الماضين و إنما أهلكهم بصيحة واحدة تقضي عليهم.

قوله تعالى: ﴿إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ أي ما كان الأمر الذي كان سبب إهلاكهم بمشيتنا إلا صيحة واحدة، و تأنيث الفعل لتأنيث الخبر و تنكير ﴿صَيْحَةً و توصيفها بالوحدة للاستحقار، و الخمود السكون و استئناف الجملة لكونها كالجواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فما ذا كان سبب إهلاكهم؟ فقيل: إن كانت إلا صيحة واحدة.

و المعنى: كان سبب هلاكهم أيسر أمر و هي صيحة واحدة ففاجأهم السكون فصاروا ساكنين لا يسمع لهم حس و هم عن آخرهم موتى لا يتحركون.

قوله تعالى: ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى اَلْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي يا ندامة العباد و نداء الحسرة عليهم أبلغ من إثباتها لهم، و سبب الحسرة ما يتضمنه قوله: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إلخ.

و من هذا السياق يستفاد أن المراد بالعباد عامة الناس و تتأكد الحسرة بكونهم عبادا فإن رد العبد دعوة مولاه و تمرده عنه أشنع من رد غيره نصيحة الناصح.

و بذلك يظهر سخافة قول من قال: إن المراد بالعباد الرسل أو الملائكة أو هما

 

 

 

 جميعا. و كذا قول من قال: إن المراد بالعباد الناس لكن المتحسر هو الرجل.

و ظهر أيضا أن قوله: ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى اَلْعِبَادِ إلخ من قول الله تعالى لا من تمام قول الرجل.

قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ اَلْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ توبيخ لأولئك الذين نودي عليهم بالحسرة، و ﴿مِنَ اَلْقُرُونِ بيان لكم، و القرون‏ جمع قرن و هو أهل عصر واحد.

و قوله: ﴿أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ بيان لقوله: ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ اَلْقُرُونِ ضمير الجمع الأول للقرون و الثاني و الثالث للعباد.

و المعنى: أ لم يعتبروا بكثرة المهلكين بأمر الله من القرون الماضية و أنهم مأخوذون بأخذ إلهي لا يتمكنون من الرجوع إلى ما كانوا يترفون فيه؟ و للقوم في مراجع الضمائر و في معنى الآية أقوال أخر بعيدة عن الفهم تركنا إيرادها.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ لفظة ﴿إِنْ حرف نفي و ﴿كُلٌّ مبتدأ تنوينه عوض عن المضاف إليه، و ﴿لَمَّا بمعنى إلا، و جميع‏ بمعنى مجموع، و لدينا ظرف متعلق به، و محضرون خبر بعد خبر و هو جميع، و احتمل بعضهم أن يكون صفة لجميع.

و المعنى: و ما كلهم إلا مجموعون لدينا محضرون للحساب و الجزاء يوم القيامة فالآية في معنى قوله‏﴿ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ اَلنَّاسُ وَ ذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ هود - ١٠٣.

(بحث روائي)

 في المجمع، قالوا :بعث عيسى رسولين من الحواريين إلى مدينة أنطاكية - فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له و هو حبيب صاحب يس فسلما عليه فقال الشيخ لهما: من أنتما؟ قالا: رسولا عيسى ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن فقال:

أ معكما آية؟ قالا نعم نحن نشفي المريض و نبرئ الأكمه و الأبرص بإذن الله تعالى فقال

 

 

 

الشيخ: إن لي ابنا مريضا صاحب فراش منذ سنين قالا: فانطلق بنا إلى منزل نتطلع حاله فذهب بهما فمسحا ابنه فقام في الوقت بإذن الله تعالى صحيحا ففشا الخبر في المدينة و شفى الله على أيديهما كثيرا من المرضى .

و كان لهم ملك يعبد الأصنام فأنهي الخبر إليه فدعاهما فقال لهما: من أنتما؟ قالا: رسولا عيسى جئنا ندعوك من عبادة ما لا يسمع و لا يبصر إلى عبادة من يسمع و يبصر. قال الملك: و لنا إله سوى آلهتنا؟ قالا: نعم من أوجدك و آلهتك. قال:

قوما حتى أنظر في أمركما فأخذهما الناس في السوق و ضربوهما .

قال وهب بن منبه: بعث عيسى هذين الرسولين إلى أنطاكية فأتياها و لم يصلا إلى ملكها و طالت مدة مقامهما فخرج الملك ذات يوم فكبرا و ذكرا الله فغضب الملك و أمر بحبسهما و جلد كل واحد منهما مائة جلدة .

فلما كذب الرسولان و ضربا، بعث عيسى شمعون الصفا رأس الحواريين على أمرهما لينصرهما فدخل شمعون البلد متنكرا فجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به فرفعوا خبره إلى الملك فدعاه و رضي عشرته و أنس به و أكرمه. ثم قال له ذات يوم: أيها الملك بلغني أنك حبست رجلين في السجن و ضربتهما حين دعواك إلى غير دينك فهل سمعت قولهما؟ قال الملك: حال الغضب بيني و بين ذلك. قال: فإن رأى الملك دعاهما حتى نتطلع ما عندهما .

فدعاهما الملك فقال لها شمعون: من أرسلكما إلى هاهنا؟ قالا: الله الذي خلق كل شي‏ء لا شريك له. قال: و ما آتاكما؟ قالا: ما تتمناه، فأمر الملك حتى جاءوا بغلام مطموس العينين و موضع عينيه كالجبهة فما زالا يدعوان الله حتى انشق موضع البصر فأخذا بندقتين من الطين فوضعا في حدقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما فتعجب الملك ثم قال شمعون للملك: أ رأيت لو سألت إلهك حتى يصنع صنيعا مثل هذا؟ فيكون لك و لأهلك شرفا. فقال الملك: ليس لي عنك سر إن إلهنا الذي نعبده لا يضر و لا ينفع .

ثم قال الملك للرسولين: إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنا به و بكما. قالا:

إلهنا قادر على كل شي‏ء فقال، الملك إن هاهنا ميتا مات منذ سبعة أيام لم ندفنه حتى يرجع أبوه و كان غائبا فجاءوا بالميت و قد تغير و أروح فجعلا يدعوان ربهما علانية و جعل

 

 

 

[1]  بفتح الصاد و سكونها طائر أصفر من العصفور.

[2]  و قد ذكر وجود الحلية في الماء العذب في مادة صدف من دائرة المعارف للبستاني و ذكر أيضا في أمريكا{L      Eneylopodia L} و بريطانيا{L         Enylopoedia L} وجودها فيه و سميت عدة من الأنهار العذبة في أمريكا و أوربا و آسيا يستخرج منها اللؤلؤ.

[3]  الضمير للسماوات.

[4]  الطاعة

[5]  رواه في الدر المنثور عن أبي هلال و عن ابن جريح.

[6]  رواه الصدوق في ثواب الأعمال عن أبي عبد الله ع و السيوطي في الدر المنثور عن أنس و أبي هريرة و معقل بن يسار عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ).

[7]  دمغه أي شجه حتى بلغت الشجة دماغه.

[8]  لكنهم مختلفون في تفسيرها و الصابئون يفسرونها بالنفي فمعنى العالم و القادر عندهم من ليس بجاهل و عاجز.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=2111
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 05 / 21
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 03