• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء السادس عشر) ، تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده) .
                    • الموضوع : من ص 329 الى ص 397 (الأخير) .

من ص 329 الى ص 397 (الأخير)

[سورة الأحزاب (٣٣): الآیات ٤١ الی ٤٨]

﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا اَللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ٤١ وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً ٤٢ هُوَ اَلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ كَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ٤٣ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً ٤٤ يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً ٤٥ وَ دَاعِياً إِلَى اَللَّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِرَاجاً مُنِيراً ٤٦ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اَللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً ٤٧ وَ لاَ تُطِعِ اَلْكَافِرِينَ وَ اَلْمُنَافِقِينَ وَ دَعْ أَذَاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ وَ كَفى‏ بِاللَّهِ وَكِيلاً ٤٨

 (بيان)

آيات تدعو المؤمنين إلى الذكر و التسبيح و تبشرهم و تعدهم الوعد الجميل و تخاطب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بصفاته الكريمة و تأمره أن يبشر المؤمنين و لا يطيع الكافرين و المنافقين، و يمكن أن يكون القبيلان مختلفين في النزول زمانا.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا اَللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً الذكر ما يقابل النسيان و هو توجيه الإدراك نحو المذكور و أما التلفظ بما يدل عليه من أسمائه و صفاته فهو بعض مصاديق الذكر.

قوله تعالى: ﴿وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً التسبيح‏ هو التنزيه و هو مثل الذكر لا يتوقف على اللفظ و إن كان التلفظ بمثل سبحان الله بعض مصاديق التسبيح.

و البكرة أول النهار و الأصيل‏ آخره بعد العصر و تقييد التسبيح بالبكرة و الأصيل

 

 

 لما فيهما من تحول الأحوال فيناسب تسبيحه و تنزيهه من التغير و التحول و كل نقص طار، و يمكن أن يكون البكرة و الأصيل معا كناية عن الدوام كالليل و النهار في قوله:

﴿يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ: حم السجدة: ٣٨.

قوله تعالى: ﴿هُوَ اَلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ المعنى الجامع للصلاة على ما يستفاد من موارد استعمالها هو الانعطاف فيختلف باختلاف ما نسب إليه و لذلك قيل: إن الصلاة من الله الرحمة و من الملائكة الاستغفار و من الناس الدعاء لكن الذي نسب من الصلاة إلى الله سبحانه في القرآن هو الصلاة بمعنى الرحمة الخاصة بالمؤمنين و هي التي تترتب عليها سعادة العقبى و الفلاح المؤبد و لذلك علل تصليته عليهم بقوله: ﴿لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ كَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً.

و قد رتب سبحانه في كلامه على نسيانهم له نسيانه لهم و على ذكرهم له ذكره لهم فقال: ﴿نَسُوا اَللَّهَ فَنَسِيَهُمْ: التوبة: ٦٧ و قال: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ: البقرة: ١٥٢ و تصليته عليهم ذكر منه لهم بالرحمة فإن ذكروه كثيرا و سبحوه بكرة و أصيلا صلى عليهم كثيرا و غشيهم بالنور و أبعدهم من الظلمات.

و من هنا يظهر أن قوله: ﴿هُوَ اَلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ إلخ، في مقام التعليل لقوله:

﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا اَللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً و تفيد التعليل أنكم إن ذكرتم الله كثيرا ذكركم برحمته كثيرا و بالغ في إخراجكم من الظلمات إلى النور و يستفاد منه أن الظلمات إنما هي ظلمات النسيان و الغفلة و النور نور الذكر.

و قوله: ﴿وَ كَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً وضع الظاهر موضع المضمر، أعني قوله:

﴿بِالْمُؤْمِنِينَ و لم يقل: و كان بكم رحيما، ليدل به على سبب الرحمة و هو وصف الإيمان.

قوله تعالى: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً ظاهر السياق أن ﴿تَحِيَّتُهُمْ مصدر مضاف إلى المفعول أي إنهم يحيون - بالبناء للمفعول - يوم يلقون ربهم من عند ربهم و من ملائكته بالسلام أي إنهم يوم اللقاء في أمن و سلام لا يصيبهم مكروه و لا يمسهم عذاب.

و قوله: ﴿وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً أي و هيأ الله لهم ثوابا جزيلا.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً شهادته (ص)

 

 

 على الأعمال أن يتحملها في هذه النشأة و يؤديها يوم القيامة و قد تقدم في قوله: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى اَلنَّاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً: البقرة: ١١٢ و غيره من آيات الشهادة أنه (ص) شهيد الشهداء.

و كونه مبشرا و نذيرا تبشيره المؤمنين المطيعين لله و رسوله بثواب الله و الجنة و إنذاره الكافرين و العاصين بعذاب الله و النار.

قوله تعالى: ﴿وَ دَاعِياً إِلَى اَللَّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِرَاجاً مُنِيراً دعوته إلى الله هي دعوته الناس إلى الإيمان بالله وحده، و لازمه الإيمان بدين الله و تقيد الدعوة بإذن الله يجعلها مساوقة للبعثة.

و كونه (ص) سراجا منيرا هو كونه بحيث يهتدي به الناس إلى سعادتهم و ينجون من ظلمات الشقاء و الضلالة فهو من الاستعارة، و قول بعضهم: إن المراد بالسراج المنير القرآن و التقدير ذا سراج منير تكلف من غير موجب.

قوله تعالى: ﴿وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اَللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً، الفضل‏ من العطاء ما كان من غير استحقاق ممن يأخذه و قد وصف الله عطاءه فقال: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا: الأنعام: ١٦٠ و قال: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاؤُنَ فِيهَا وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ: ق: ٣٥ فبين أنه يعطي من الثواب ما لا يقابل العمل و هو الفضل و لا دليل في الآية يدل على اختصاصه بالآخرة.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تُطِعِ اَلْكَافِرِينَ وَ اَلْمُنَافِقِينَ وَ دَعْ أَذَاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ إلخ، تقدم معنى طاعة الكافرين و المنافقين في أول السورة.

و قوله: ﴿وَ دَعْ أَذَاهُمْ أي اترك ما يؤذونك بالإعراض عنه و عدم الاشتغال به و الدليل على هذا المعنى قوله: ﴿وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ أي لا تستقل بنفسك في دفع أذاهم بل اجعل الله وكيلا في ذلك و كفى بالله وكيلا.

 (بحث روائي)

 في الكافي، بإسناده عن ابن القداح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من شي‏ء إلا

 

 

 و له حد ينتهي إليه إلا الذكر فليس له حد ينتهي إليه فرض الله عز و جل الفرائض فمن أداهن فهو حدهن و شهر رمضان فمن صامه فهو حده و الحج فمن حج فهو حده إلا الذكر فإن الله عز و جل لم يرض منه بالقليل و لم يجعل له حدا ينتهي إليه ثم تلا:

﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا اَللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً فقال: لم يجعل الله له حدا ينتهي إليه .

قال: و كان أبي كثير الذكر لقد كنت أمشي معه و إنه ليذكر الله و آكل معه الطعام و إنه ليذكر الله و لقد كان يحدث القوم ما يشغله ذلك عن ذكر الله و كنت أرى لسانا لازقا بحنكه يقول: لا إله إلا الله .

و كان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتى تطلع الشمس و يأمر بالقراءة من كان يقرأ منا و من كان لا يقرأ منا أمره بالذكر، و البيت الذي يقرأ فيه القرآن و يذكر الله عز و جل فيه يكثر بركته و يحضره الملائكة و يهجره الشياطين و يضي‏ء لأهل السماء كما يضي‏ء الكوكب لأهل الأرض و البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن و لا يذكر الله يقل بركته و يهجره الملائكة و يحضره الشياطين.

و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أ لا أخبركم بخير أعمالكم أرفعها في درجاتكم و أزكاها عند مليككم و خير لكم من الدينار و الدرهم و خير لكم من أن تلقوا عدوكم فتقتلوهم و يقتلوكم؟ فقالوا: بلى. قال: ذكر الله عز و جل كثيرا .

ثم قال: جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: من خير أهل المسجد؟ فقال:

أكثرهم لله ذكرا .

و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): من أعطي لسانا ذاكرا فلقد أعطي خير الدنيا و الآخرة.

و قال في قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قال: لا تستكثر ما عملت من خير لله.

 و فيه، بإسناده عن أبي المعزى رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من ذكر الله في السر فقد ذكر الله كثيرا إن المنافقين كانوا يذكرون الله علانية و لا يذكرونه في السر فقال الله عز و جل: ﴿يُرَاؤُنَ اَلنَّاسَ وَ لاَ يَذْكُرُونَ اَللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً.

أقول: و هو استفادة لطيفة.

 و في الخصال، عن زيد الشحام قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما ابتلي المؤمن

 

 

 بشي‏ء أشد عليه من ثلاث خصال يحرمها. قيل: و ما هي؟ قال: المواساة في ذات يده، و الإنصاف من نفسه، و ذكر الله كثيرا. أما إني لا أقول: سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر و إن كان منه و لكن ذكر الله عند ما أحل له و ذكر الله عند ما حرم عليه.

 و في الدر المنثور، أخرج أحمد و الترمذي و البيهقي عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) سئل أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: الذاكرون الله كثيرا. قلت: يا رسول الله و من الغازي في سبيل الله؟ قال: لو ضرب بسيفه في الكفار و المشركين حتى ينكسر و يختضب دما لكان الذاكرون الله أفضل درجة منه.

و في العلل، بإسناده عن عبد الله بن الحسن عن أبيه عن جده الحسن بن علي (عليه السلام) قال: جاء نفر من اليهود إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فسأله أعلمهم فيما سأله فقال: لأي شي‏ء سميت محمدا و أحمد و أبا القاسم و بشيرا و نذيرا و داعيا؟ فقال (ص): أما الداعي فإني أدعو الناس إلى دين ربي عز و جل، و أما النذير فإني أنذر بالنار من عصاني، و أما البشير فإني أبشر بالجنة من أطاعني. الحديث.

و في تفسير القمي،" :في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ إلى قوله ﴿وَ دَعْ أَذَاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ وَ كَفى‏َ بِاللَّهِ وَكِيلاً أنها نزلت بمكة قبل الهجرة بخمس سنين.

[سورة الأحزاب (٣٣): الآیات ٤٩ الی ٦٢]

﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ اَلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَ سَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ٤٩ يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اَللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اَللَّهُ عَلَيْكَ وَ بَنَاتِ عَمِّكَ وَ بَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَ بَنَاتِ خَالِكَ وَ بَنَاتِ خَالاَتِكَ اَللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَ اِمْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ اَلنَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا

 

 

﴿خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَ كَانَ اَللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ٥٠ تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَ مَنِ اِبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنى‏َ أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَ لاَ يَحْزَنَّ وَ يَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَانَ اَللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً ٥١ لاَ يَحِلُّ لَكَ اَلنِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَ لاَ أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَ كَانَ اَللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ رَقِيباً ٥٢ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ اَلنَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى‏َ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَ لَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي اَلنَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَ اَللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ اَلْحَقِّ وَ إِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ وَ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اَللَّهِ وَ لاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اَللَّهِ عَظِيماً ٥٣ إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيماً ٥٤ لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَ لاَ أَبْنَائِهِنَّ وَ لاَ إِخْوَانِهِنَّ وَ لاَ أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَ لاَ أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَ لاَ نِسَائِهِنَّ وَ لاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَ اِتَّقِينَ اَللَّهَ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلى ‏كُلِّ

 

 

شَيْ‏ءٍ شَهِيداً ٥٥ إِنَّ اَللَّهَ وَ مَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اَلنَّبِيِّ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً ٥٦ إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اَللَّهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً ٥٧ وَ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اِكْتَسَبُوا فَقَدِ اِحْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَ إِثْماً مُبِيناً ٥٨ يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَ بَنَاتِكَ وَ نِسَاءِ اَلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنى‏ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَ كَانَ اَللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ٥٩ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ اَلْمُنَافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْمُرْجِفُونَ فِي اَلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً ٦٠ مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلاً ٦١ سُنَّةَ اَللَّهِ فِي اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اَللَّهِ تَبْدِيلاً ٦٢

(بيان)

تتضمن الآيات أحكاما متفرقة بعضها خاصة بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أزواجه و بعضها عامة.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ اَلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَ سَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً المراد بنكاحهن العقد عليهن بالنكاح، و بالمس الدخول، و بالتمتيع إعطاؤهن شيئا من المال يناسب شأنهن و حالهن و التسريح بالجميل إطلاقهن من غير خصومة و خشونة.

و المعنى: إذا طلقتم النساء بعد النكاح و قبل الدخول فلا عدة لهن للطلاق و يجب

 

 

 تمتيعهن بشي‏ء من المال و السراح الجميل.

و الآية مطلقة تشمل ما إذا فرض لهن فريضة المهر و ما إذا لم يفرض فيقيدها قوله:

﴿وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ: البقرة:

 ٢٣٧ و تبقى حجة فيما لم يفرض لهن فريضة.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اَللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ إلى آخر الآية، يذكر سبحانه لنبيه (ص) بالإحلال سبعة أصناف من النساء: الصنف الأول ما في قوله: ﴿أَزْوَاجَكَ اَللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ و المراد بالأجور المهور، و الثاني ما في قوله: ﴿وَ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اَللَّهُ عَلَيْكَ أي من يملكه من الإماء الراجعة إليه من الغنائم و الأنفال، و تقييد ملك اليمين بكونه مما أفاء الله عليه كتقييد الأزواج بقوله: ﴿اَللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ للتوضيح لا للاحتراز.

و الثالث و الرابع ما في قوله: ﴿وَ بَنَاتِ عَمِّكَ وَ بَنَاتِ عَمَّاتِكَ قيل: يعني نساء قريش، و الخامس و السادس ما في قوله: ﴿وَ بَنَاتِ خَالِكَ وَ بَنَاتِ خَالاَتِكَ قيل: يعني نساء بني زهرة، و قوله: ﴿اَللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ قال في المجمع:، هذا إنما كان قبل تحليل غير المهاجرات ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل.

و السابع ما في قوله: ﴿وَ اِمْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ اَلنَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا و هي المرأة المسلمة التي بذلت نفسها للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بمعنى أن ترضى أن يتزوج بها من غير صداق و مهر فإن الله أحلها له إن أراد أن يستنكحها، و قوله:

﴿خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ إيذان بأن هذا الحكم أي حلية المرأة للرجل ببذل النفس من خصائصه لا يجري في المؤمنين، و قوله بعده: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ تقرير لحكم الاختصاص.

و قوله: ﴿لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ تعليل لقوله في صدر الآية: ﴿إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أو لما في ذيلها من حكم الاختصاص و الأول أظهر و قد ختمت الآية بالمغفرة و الرحمة.

قوله تعالى: ﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ إلخ، الإرجاء التأخير و التبعيد، و هو كناية عن الرد، و الإيواء: الإسكان في المكان و هو كناية عن القبول و الضم إليه.

 

 

 و السياق يدل على أن المراد به أنه (ص) على خيرة من قبول من وهبت نفسها له أو رده.

و قوله: ﴿وَ مَنِ اِبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ، الابتغاء هو الطلب أي و من طلبتها من اللاتي عزلتها و لم تقبلها فلا إثم عليك و لا لؤم أي يجوز لك أن تضم إليك من عزلتها و رددتها من النساء اللاتي وهبن أنفسهن لك بعد العزل و الرد.

و يمكن أن يكون إشارة إلى أن له (ص) أن يقسم بين نسائه و أن يترك القسم فيؤخر من يشاء منهن و يقدم من يشاء و يعزل بعضهن من القسم فلا يقسم لها أو يبتغيها فيقسم لها بعد العزل و هو أوفق لقوله بعده: ﴿وَ مَنِ اِبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنى‏َ أي أقرب ﴿أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ أي يسررن ﴿وَ لاَ يَحْزَنَّ وَ يَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ و ذلك لسرور المتقدمة بما قسمت له و رجاء المتأخرة أن تتقدم بعد.

و قوله: ﴿وَ كَانَ اَللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً أي يعلم مصالح عباده و لا يعاجل في العقوبة.

و في الآية أقوال مختلفة أخر و الذي أوردناه هو الأوفق لوقوعها في سياق سابقتها متصلة بها و به وردت الأخبار عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) كما سيجي‏ء.

قوله تعالى: ﴿لاَ يَحِلُّ لَكَ اَلنِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَ لاَ أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إلخ، ظاهر الآية لو فرضت مستقلة في نفسها غير متصلة بما قبلها تحريم النساء له (ص) إلا من خيرهن فاخترن الله و نفي جواز التبدل بهن يؤيد ذلك.

لكن لو فرضت متصلة بما قبلها و هو قوله: ﴿إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ إلخ، كان مدلولها تحريم ما عدا المعدودات و هي الأصناف الستة التي تقدمت.

و في بعض الروايات عن بعض أئمة أهل البيت (عليه السلام) أن المراد بالآية محرمات النساء المعدودة في قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَ بَنَاتُكُمْ الآية: النساء: ٢٣.

فقوله: ﴿لاَ يَحِلُّ لَكَ اَلنِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ أي من بعد اللاتي اخترن الله و رسوله و هي التسعة على المعنى الأول أو من بعد من عددناه في قولنا: ﴿إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ على المعنى الثاني أو من بعد المحللات و هي المحرمات على المعنى الثالث.

و قوله: ﴿وَ لاَ أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ أي أن تطلق بعضهن و تزوج مكانها

 

 

 من غيرهن، و قوله: ﴿إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ يعني الإماء و هو استثناء من قوله في صدر الآية ﴿لاَ يَحِلُّ لَكَ اَلنِّسَاءُ﴾.

و قوله: ﴿وَ كَانَ اَللَّهُ عَلى‏َ كُلِّ شَيْ‏ءٍ رَقِيباً معناه ظاهر و فيه تحذير عن المخالفة.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ اَلنَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ - إلى قوله - ﴿مِنَ اَلْحَقِّ بيان لأدب الدخول في بيوت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و قوله: ﴿إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ استثناء من النهي، و قوله: ﴿إِلى‏َ طَعَامٍ متعلق بالإذن، و قوله: ﴿غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ أي غير منتظرين لورود إناء الطعام بأن تدخلوا من قبل فتطيلوا المكث في انتظار الطعام و يبينه قوله: ﴿وَ لَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ - أي أكلتم - ﴿فَانْتَشِرُوا، و قوله: ﴿وَ لاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ عطف على قوله: ﴿غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ و هو حال بعد حال، أي غير ماكثين في حال انتظار الإناء قبل الطعام و لا في حال الاستئناس لحديث بعد الطعام.

و قوله: ﴿إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي اَلنَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ تعليل للنهي أي لا تمكثوا كذلك لأن مكثكم ذلك كان يتأذى منه النبي فيستحيي منكم أن يسألكم الخروج و قوله: ﴿وَ اَللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ اَلْحَقِّ أي من بيان الحق لكم و هو ذكر تأذيه و التأديب بالأدب اللائق.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ، ضمير ﴿سَأَلْتُمُوهُنَّ لأزواج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و سؤالهن متاعا كناية عن تكليمهن لحاجة أي إذا مست الحاجة إلى تكليمكم أزواج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فكلموهن من وراء حجاب، و قوله: ﴿ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ بيان لمصلحة الحكم.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اَللَّهِ وَ لاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إلخ، أي ليس لكم إيذاؤه بمخالفة ما أمرتم في نسائه و في غير ذلك و ليس لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم أي نكاحكم أزواجه من بعده كان عند الله عظيما، و في الآية إشعار بأن بعضهم ذكر ما يشير إلى نكاحهم أزواجه بعده و هو كذلك كما سيأتي في البحث الروائي الآتي.

 

 

قوله تعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيماً معناه ظاهر و هو في الحقيقة تنبيه تهديدي لمن كان يؤذي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو يذكر نكاح أزواجه من بعده.

قوله تعالى: ﴿لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ إلى آخر الآية ضمير ﴿عَلَيْهِنَّ لنساء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و الآية في معنى الاستثناء من عموم حكم الحجاب و قد استثنى الآباء و الأبناء و الإخوان و أبناء الإخوان و أبناء الأخوات و هؤلاء محارم، قيل: و لم يذكر الأعمام و الأخوال لأنهم من الممكن أن يصفوهن لأبنائهم.

و استثنى أيضا نساءهن و إضافة النساء إلى ضمير هن يلوح إلى أن المراد النساء المؤمنات دون الكوافر كما مر في قوله تعالى: ﴿أَوْ نِسَائِهِنَّ: النور: ٣١ و استثنى أيضا ما ملكت أيمانهن من العبيد و الإماء.

و قوله: ﴿وَ اِتَّقِينَ اَللَّهَ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلى‏َ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيداً فيه تأكيد الحكم و خاصة من جهة الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في ﴿اِتَّقِينَ اَللَّهَ.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ وَ مَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اَلنَّبِيِّ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً قد تقدم أن أصل الصلاة الانعطاف فصلاته تعالى انعطافه عليه بالرحمة انعطافا مطلقا لم يقيد في الآية بشي‏ء دون شي‏ء و كذلك صلاة الملائكة عليه انعطاف عليه بالتزكية و الاستغفار و هي من المؤمنين الدعاء بالرحمة.

و في ذكر صلاته تعالى و صلاة ملائكته عليه قبل أمر المؤمنين بالصلاة عليه دلالة على أن في صلاة المؤمنين له اتباعا لله سبحانه و ملائكته و تأكيدا للنهي الآتي.

و قد استفاضت الروايات من طرق الشيعة و أهل السنة أن طريق صلاة المؤمنين أن يسألوا الله تعالى أن يصلي عليه و آله.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اَللَّهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً من المعلوم أن الله سبحانه منزه من أن يناله الأذى و كل ما فيه وصمة النقص و الهوان فذكره مع الرسول و تشريكه في إيذائه تشريف للرسول و إشارة إلى أن من قصد رسوله بسوء فقد قصده أيضا بالسوء إذ ليس للرسول بما أنه رسول إلا ربه فمن قصده فقد قصد ربه.

 

 

و قد أوعدهم باللعن في الدنيا و الآخرة و اللعن‏ هو الإبعاد من الرحمة و الرحمة الخاصة بالمؤمنين هي الهداية إلى الاعتقاد الحق و حقيقة الإيمان، و يتبعه العمل الصالح فالإبعاد من الرحمة في الدنيا تحريمه عليه جزاء لعمله فيرجع إلى طبع القلوب كما قال:

﴿لَعَنَّاهُمْ وَ جَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً: المائدة: ١٣ و قال: ﴿وَ لَكِنْ لَعَنَهُمُ اَللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً: النساء: ٤٦ و قال: ﴿أُولَئِكَ اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اَللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى‏َ أَبْصَارَهُمْ: سورة محمد: ٢٣.

و أما اللعن في الآخرة فهو الإبعاد من رحمة القرب فيها و قد قال تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ: المطففين: ١٥.

ثم أوعدهم بأنه أعد لهم أي في الآخرة عذابا مهينا و وصف العذاب بالمهين لأنهم يقصدون باستكبارهم في الدنيا إهانة الله و رسوله فقوبلوا في الآخرة بعذاب يهينهم.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اِكْتَسَبُوا فَقَدِ اِحْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَ إِثْماً مُبِيناً تقييد إيذائهم بغير ما اكتسبوا لأن إيذاءهم بما اكتسبوا كما في القصاص و الحد و التعزير لا إثم فيه.

و أما إيذاؤهم بغير ما اكتسبوا و من دون استحقاق فيعده سبحانه احتمالا للبهتان و الإثم المبين، و البهتان هو الكذب على الغير يواجهه به، و وجه كون الإيذاء من غير اكتساب بهتانا أن المؤذي إنما يؤذي لسبب عنده يعده جرما له يقول: لم قال كذا؟ لم فعل كذا؟ و ليس بجرم فيبهته عند الإيذاء بنسبة الجرم إليه مواجهة و ليس بجرم.

و كونه إثما مبينا لأن الافتراء و البهتان مما يدرك العقل كونه إثما من غير حاجة إلى ورود النهي عنهما شرعا.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَ بَنَاتِكَ وَ نِسَاءِ اَلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ إلخ، الجلابيب‏ جمع جلباب و هو ثوب تشتمل به المرأة فيغطي جميع بدنها أو الخمار الذي تغطي به رأسها و وجهها.

و قوله: ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ أي يتسترن بها فلا تظهر جيوبهن و صدورهن للناظرين.

و قوله: ﴿ذَلِكَ أَدْنى‏َ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ أي ستر جميع البدن أقرب إلى أن

 

 

 يعرفن أنهن أهل الستر و الصلاح فلا يؤذين أي لا يؤذيهن أهل الفسق بالتعرض لهن.

و قيل: المعنى ذلك أقرب من أن يعرفن أنهن مسلمات حرائر فلا يتعرض لهن بحسبان أنهن إماء أو من غير المسلمات من الكتابيات أو غيرهن و الأول أقرب.

قوله تعالى: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ اَلْمُنَافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْمُرْجِفُونَ فِي اَلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ إلخ، الانتهاء عن الشي‏ء الامتناع و الكف عنه، و الإرجاف‏ إشاعة الباطل للاغتمام به و إلقاء الاضطراب بسببه، و الإغراء بالفعل التحريض عليه.

و المعنى: أقسم لئن لم يكف المنافقون و الذين في قلوبهم مرض عن الإفساد و الذين يشيعون الأخبار الكاذبة في المدينة لإلقاء الاضطراب بين المسلمين لنحرضنك عليهم ثم يجاورونك في المدينة بسبب نفيهم عنها إلا زمانا قليلا و هو ما بين صدور الأمر و فعلية إجرائه.

قوله تعالى: ﴿مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلاً الثقف‏ إدراك الشي‏ء و الظفر به، و الجملة حال من المنافقين و من عطف عليهم أي حال كونهم ملعونين أينما وجدوا أخذوا و بولغ في قتلهم فعمهم القتل.

قوله تعالى: ﴿سُنَّةَ اَللَّهِ فِي اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اَللَّهِ تَبْدِيلاً السنة هي الطريقة المعمولة التي تجري بطبعها غالبا أو دائما.

يقول سبحانه هذا النكال الذي أوعدنا به المنافقين و من يحذو حذوهم من النفي و القتل الذريع هي سنة الله التي جرت في الماضين فكلما بالغ قوم في الإفساد و إلقاء الاضطراب بين الناس و تمادوا و طغوا في ذلك أخذناهم كذلك و لن تجد لسنة الله تبديلا فتجري فيكم كما جرت في الأمم من قبلكم.

(بحث روائي)

 في الفقيه، روى عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله عز و جل:

﴿ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَ سَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً قال: متعوهن أي أجملوهن بما قدرتم عليه من معروف

 

 

 فإنهن يرجعن بكآبة و وحشة و هم عظيم و شماتة من أعدائهن فإن الله كريم يستحيي و يحب أهل الحياء إن أكرمكم أشدكم إكراما لحلائلهم.

و في الكافي، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): في رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها. قال: عليه نصف المهر إن كان فرض لها شيئا و إن لم يكن فرض لها فليمتعها على نحو ما يمتع به مثلها من النساء.

 أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة و هي مبنية على تخصيص الآية بآية البقرة كما تقدم في تفسير الآية.

 و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد عن حبيب بن ثابت قال: جاء رجل إلى علي بن الحسين فسأله عن رجل قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق قال: ليس بشي‏ء بدأ الله بالنكاح قبل الطلاق فقال: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ اَلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ:

أقول: و رواه في المجمع، عن حبيب بن ثابت عنه (عليه السلام). و فيه، أخرج ابن ماجة و ابن مردويه عن المسور بن مخرمة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: لا طلاق قبل نكاح و لا عتق قبل ملك:

أقول: و روي مثله عن جابر و عائشة عنه (ص). و في الكافي، بإسناده عن الحضرمي عن أبي جعفر (عليه السلام) و بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ كم أحل له من النساء؟ قال: ما شاء من شي‏ء. و فيه، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت: ﴿لاَ يَحِلُّ لَكَ اَلنِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَ لاَ أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ؟ فقال: لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أن ينكح ما شاء من بنات عمه و بنات عماته و بنات خاله و بنات خالاته و أزواجه اللاتي هاجرن معه .

و أحل له أن ينكح من عرض المؤمنين بغير مهر و هي الهبة و لا تحل الهبة إلا لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأما لغير رسول الله فلا يصلح نكاح إلا بمهر و ذلك معنى قوله تعالى:

﴿وَ اِمْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ و في الدر المنثور، أخرج ابن سعد و ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و الطبراني عن علي بن الحسين: في قوله: ﴿وَ اِمْرَأَةً مُؤْمِنَةً هي أم شريك الأزدية التي وهبت نفسها للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .

 

 

 أقول: و روي أنها خولة بنت الحكيم و أنها ليلى بنت الخطيم و أنها ميمونة، و الظاهر أن الواهبة نفسها عدة من النساء.

 و في الكافي، مسندا عن محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالت: يا رسول الله إن المرأة لا تخطب الزوج و أنا امرأة أيم لا زوج لي منذ دهر و لا ولد فهل لك من حاجة؟ فإن تك فقد وهبت نفسي لك إن قبلتني. فقال لها رسول الله خيرا و دعا لها.

ثم قال: يا أخت الأنصار جزاكم الله عن رسول الله خيرا فقد نصرني رجالكم و رغبت في نساؤكم. فقالت لها حفصة: ما أقل حياءك و أجرأك و أنهمك للرجال.

فقال رسول الله: كفي عنها يا حفصة فإنها خير منك رغبت في رسول الله و لمتها و عبتها.

ثم قال للمرأة: انصرفي رحمك الله فقد أوجب الله لك الجنة لرغبتك في و تعرضك لمحبتي و سروري و سيأتيك أمري إن شاء الله، فأنزل الله عز و جل ﴿وَ اِمْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ اَلنَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ قال:

فأحل الله عز و جل هبة المرأة نفسها للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لا يحل ذلك لغيره. و في المجمع، و قيل: إنها لما وهبت نفسها للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قالت عائشة: ما بال النساء يبذلن أنفسهن بلا مهر؟ فنزلت الآية، فقالت عائشة: ما أرى الله إلا يسارع في هواك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): فإنك إن أطعت الله سارع في هواك.

 و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ قال أبو جعفر و أبو عبد الله (عليه السلام). من أرجى لم ينكح و من آوى فقد نكح.

و في الكافي، بإسناده عن الحضرمي عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله عز و جل:

﴿لاَ يَحِلُّ لَكَ اَلنِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ فقال: إنما عنى به لا يحل لك النساء التي حرم الله عليك في هذه الآية ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَ بَنَاتُكُمْ وَ أَخَوَاتُكُمْ وَ عَمَّاتُكُمْ وَ خَالاَتُكُمْ إلى آخرها.

و لو كان الأمر كما يقولون كان قد أحل لكم ما لم يحل له لأن أحدكم يستبدل كلما أراد و لكن الأمر ليس كما يقولون إن الله عز و جل أحل لنبيه (ص) أن ينكح من النساء ما أراد إلا ما حرم في هذه الآية في سورة النساء.

 

 

 و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم من طريق علي بن زيد عن الحسن: في قوله: ﴿وَ لاَ أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ قال: قصره الله على نسائه التسع اللاتي مات عنهن.

قال علي فأخبرت علي بن الحسين فقال: لو شاء تزوج غيرهن. و لفظ عبد بن حميد فقال: بل كان له أيضا أن يتزوج غيرهن.

و في تفسير القمي، ":و أما قوله عز و جل ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ اَلنَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ فإنه لما أن تزوج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بزينب بنت جحش و كان يحبها فأولم و دعا أصحابه فكان أصحابه إذا أكلوا يحبون أن يتحدثوا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، و كان يحب أن يخلو مع زينب فأنزل الله عز و جل. ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ اَلنَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ و ذلك أنهم كانوا يدخلون بلا إذن فقال عز و جل: ﴿إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى قوله ﴿مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ:

أقول: و روي تفصيل القصة عن أنس بطرق مختلفة.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن سعد عن صالح بن كيسان قال" :نزل حجاب رسول الله على نسائه في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة.

أقول: و رواها أيضا ابن سعد عن أنس و فيه: أن السنة كانت مبتنى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بزينب. و فيه، ":في قوله تعالى: ﴿وَ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا الآية" :أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال ":بلغنا أن طلحة بن عبيد الله قال: أ يحجبنا محمد عن بنات عمنا و يتزوج نساءنا من بعدنا؟ لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده فنزلت الآية. أقول: و قد وردت بذلك عدة من الروايات و في بعضها أنه كان يريد عائشة و أم سلمة.

 و في ثواب الأعمال، عن أبي المعزى عن أبي الحسن (عليه السلام) في حديث قال: قلت:

ما معنى صلاة الله و صلاة ملائكته و صلاة المؤمن؟ قال: صلاة الله رحمة من الله، و صلاة الملائكة تزكية منهم له، و صلاة المؤمنين دعاء منهم له.

 و في الخصال، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث الأربعمائة قال: صلوا على محمد

 

 

 و آل محمد فإن الله تعالى يقبل دعاءكم عند ذكر محمد و دعاءكم و حفظكم إياه إذا قرأتم ﴿إِنَّ اَللَّهَ وَ مَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اَلنَّبِيِّ فصلوا عليه في الصلاة كنتم أو في غيرها.

و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و ابن أبي شيبة و أحمد و عبد بن حميد و البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و ابن مردويه عن كعب بن عجرة قال: قال رجل: يا رسول الله أما السلام عليك فقد علمناه فكيف الصلاة عليك؟ قال: قل: اللهم صل على محمد و على آل محمد كما صليت على إبراهيم و آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد و على آل محمد كما باركت على إبراهيم و آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

 أقول: و قد أورد ثماني عشرة حديثا غير هذه الرواية تدل على تشريك آل النبي معه في الصلاة روتها أصحاب السنن و الجوامع عن عدة من الصحابة منهم ابن عباس و طلحة و أبو سعيد الخدري و أبو هريرة و أبو مسعود الأنصاري و بريدة و ابن مسعود و كعب بن عجرة و علي (عليه السلام) و أما روايات الشيعة فهي فوق حد الإحصاء.

 و فيه، أخرج أحمد و الترمذي عن الحسن بن علي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي.

و في تفسير القمي،" :في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَ بَنَاتِكَ وَ نِسَاءِ اَلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ فإنه كان سبب نزولها أن النساء كن يخرجن إلى المسجد و يصلين خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فإذا كان الليل و خرجن إلى صلاة المغرب و العشاء الآخرة يقعد الشباب لهن في طريقهن فيؤذونهن و يتعرضون لهن فأنزل الله:

﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ الآية.

و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و أبو داود و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن أم سلمة قالت ":لما نزلت هذه الآية ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من أكسية سود يلبسنها.

و في تفسير القمي،" :في قوله تعالى: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ اَلْمُنَافِقُونَ نزلت في قوم منافقين كانوا في المدينة يرجفون برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إذا خرج في بعض غزواته يقولون: قتل و أسر فيغتم المسلمون لذلك و يشكون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأنزل الله عز و جل في ذلك ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ إلى قوله ﴿إِلاَّ قَلِيلاً أي نأمرك بإخراجهم من المدينة إلا قليلا.

 

 

﴿مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلاً و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ﴿مَلْعُونِينَ فوجبت عليهم اللعنة بعد اللعنة بقول الله.

[سورة الأحزاب (٣٣): الآیات ٦٣ الی ٧٣]

﴿يَسْئَلُكَ اَلنَّاسُ عَنِ اَلسَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اَللَّهِ وَ مَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اَلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً ٦٣ إِنَّ اَللَّهَ لَعَنَ اَلْكَافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً ٦٤ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لاَ نَصِيراً ٦٥ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي اَلنَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اَللَّهَ وَ أَطَعْنَا اَلرَّسُولاَ ٦٦ وَ قَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَ كُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا اَلسَّبِيلاَ ٦٧ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ اَلْعَذَابِ وَ اِلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً ٦٨ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى‏ فَبَرَّأَهُ اَللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَ كَانَ عِنْدَ اَللَّهِ وَجِيهاً ٦٩ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ٧٠ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ٧١ إِنَّا عَرَضْنَا اَلْأَمَانَةَ عَلَى اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَ أَشْفَقْنَ مِنْهَا وَ حَمَلَهَا اَلْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ٧٢ لِيُعَذِّبَ اَللَّهُ اَلْمُنَافِقِينَ وَ اَلْمُنَافِقَاتِ وَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ اَلْمُشْرِكَاتِ وَ يَتُوبَ اَللَّهُ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ وَ كَانَ اَللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ٧٣

 

 

 (بيان)

آيات تذكر شأن الساعة و بعض ما يجري على الكفار من عذابها و تأمر المؤمنين بالقول السديد و تعدهم عليه وعدا جميلا ثم تختتم السورة بذكر الأمانة.

قوله تعالى: ﴿يَسْئَلُكَ اَلنَّاسُ عَنِ اَلسَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اَللَّهِ وَ مَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اَلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً تذكر الآية سؤال الناس عن الساعة و إنما كانوا يريدون أن يقدر لهم زمن وقوعها و أنها قريبة أو بعيدة كما يومئ إليه التعبير عنها بالساعة فأمر أن يجيبهم بقصر العلم بها في الله سبحانه و على ذلك جرت الحال كلما ذكرت في القرآن.

و قوله: ﴿وَ مَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اَلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً زيادة في الإبهام و ليعلموا أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مثل غيره في عدم العلم بها و ليس من الستر الذي أسره إليه و ستره من الناس.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لَعَنَ اَلْكَافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً لعن الكفار إبعادهم من الرحمة، و الإعداد التهيئة، و السعير النار التي أشعلت فالتهبت، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لاَ نَصِيراً الفرق بين الولي و النصير أن الولي‏ يلي بنفسه تمام الأمر و المولى عليه بمعزل، و النصير يعين المنصور على بعض الأمر و هو إتمامه فالولي يتولى الأمر كله و النصير يتصدى بعضه، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي اَلنَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اَللَّهَ وَ أَطَعْنَا اَلرَّسُولاَ تقلب وجوههم في النار تحولها لحال بعد حال فتصفر و تسود و تكون كالحة أو انتقالها من جهة إلى جهة لتكون أبلغ في مس العذاب كما يفعل باللحم المشوي.

و قولهم: ﴿يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اَللَّهَ وَ أَطَعْنَا اَلرَّسُولاَ كلام منهم على وجه التحسر و التمني.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَ كُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا اَلسَّبِيلاَ السادة جمع سيد و هو - على ما في المجمع، - المالك المعظم الذي يملك تدبير السواد الأعظم و هو الجمع الأكثر، و الكبراء جمع كبير و لعل المراد به الكبير سنا فالعامة تطيع و تقلد أحد رجلين إما سيد القوم و إما أسنهم.

قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ اَلْعَذَابِ وَ اِلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً الضعفان‏ المثلان

 

 

 و إنما سألوا لهم ضعفي العذاب لأنهم ضلوا في أنفسهم و أضلوا غيرهم، و لذلك أيضا سألوا لهم اللعن الكبير.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى‏َ فَبَرَّأَهُ اَللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَ كَانَ عِنْدَ اَللَّهِ وَجِيهاً نهي عن أن يكونوا كبعض بني إسرائيل فيعاملوا نبيهم بمثل ما عامل به بنو إسرائيل من الإيذاء و ليس المراد مطلق الإيذاء بقول أو فعل و إن كان منهيا عنه بل قوله: ﴿فَبَرَّأَهُ اَللَّهُ يشهد بأنه كان إيذاء من قبيل التهمة و الافتراء المحوج في رفعه إلى التبرئة و التنزيه.

و لعل السكوت عن ذكر ما آذوا به موسى (عليه السلام) يؤيد ما ورد في الحديث أنهم قالوا: ليس لموسى ما للرجال فبرأه الله من قولهم و سيوافيك.

و أوجه ما قيل في إيذائهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه إشارة إلى قصة زيد و زينب، و إن يكن كذلك فمن إيذائه (ص) ما في كثير من روايات القصة من سردها على نحو لا يناسب ساحة قدسه.

و قوله: ﴿وَ كَانَ عِنْدَ اَللَّهِ وَجِيهاً أي ذا جاه و منزلة و الجملة مضافا إلى اشتمالها على التبرئة إجمالا تعلل تبرئته تعالى له و للآية و ما بعدها نوع اتصال بالآيات الناهية عن إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، السديد من السداد و هو الإصابة و الرشاد فالسديد من القول ما يجتمع فيه مطابقة الواقع و عدم كونه لغوا أو ذا فائدة غير مشروعة كالنميمة و غير ذلك فعلى المؤمن أن يختبر صدق ما يتكلم به و أن لا يكون لغوا أو يفسد به إصلاح.

قوله تعالى: ﴿يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً رتب على ملازمة القول السديد إصلاح الأعمال و مغفرة الذنوب و ذلك أن النفس إذا لازمت القول السديد انقطعت عن كذب القول و لغو الحديث و الكلام الذي يترتب عليه فساد، و برسوخ هذه الصفة فيها تنقطع طبعا عن الفحشاء و المنكر و اللغو في الفعل و عند ذلك يصلح أعمال الإنسان فيندم بالطبع على ما ضيعه من عمره في موبقات الذنوب إن كان قد ابتلي بشي‏ء من ذلك و كفى بالندم توبة.

 

 

 و يحفظه الله فيما بقي من عمره عن اقتحام المهلكات و إن رام شيئا من صغائر الذنوب غفر الله له فقد قال الله تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ: النساء: ٣١ فملازمة القول السديد تسوق الإنسان إلى صلاح الأعمال و مغفرة الذنوب بإذن الله.

و قوله: ﴿وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً وعد جميل على الإتيان بجميع الأعمال الصالحة و الاجتناب عن جميع المناهي بترتيب الفوز العظيم على طاعة الله و رسوله.

و بذلك تختتم السورة في معناها في الحقيقة لأن طاعة الله و رسوله هي الكلمة الجامعة بين جميع الأحكام السابقة، من واجبات و محرمات و الآيتان التاليتان كالمتمم لمعنى هذه الآية.

قوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا اَلْأَمَانَةَ عَلَى اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَ أَشْفَقْنَ مِنْهَا وَ حَمَلَهَا اَلْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً إلى قوله ﴿غَفُوراً رَحِيماً الأمانة أيا ما كانت شي‏ء يودع عند الغير ليحتفظ عليه ثم يرده إلى من أودعه، فهذه الأمانة المذكورة في الآية شي‏ء ائتمن الله الإنسان عليه ليحفظ على سلامته و استقامته ثم يرده إليه سبحانه كما أودعه.

و يستفاد من قوله: ﴿لِيُعَذِّبَ اَللَّهُ اَلْمُنَافِقِينَ وَ اَلْمُنَافِقَاتِ إلخ، أنه أمر يترتب على حمله النفاق و الشرك و الإيمان، فينقسم حاملوه باختلاف كيفية حملهم إلى منافق و مشرك و مؤمن.

فهو لا محالة أمر مرتبط بالدين الحق الذي يحصل بالتلبس به و عدم التلبس به النفاق و الشرك و الإيمان.

فهل هو الاعتقاد الحق و الشهادة على توحده تعالى أو مجموع الاعتقاد و العمل بمعنى أخذ الدين الحق بتفاصيله مع الغض عن العمل به، أو التلبس بالعمل به أو الكمال الحاصل للإنسان من جهة التلبس بواحد من هذه الأمور.

و ليست هي الأول أعني التوحيد فإن السماوات و الأرض و غيرهما من شي‏ء توحده تعالى و تسبح بحمده، و قد قال تعالى: ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ: إسراء: ٤٤ و الآية تصرح بإبائها عنه.

 

 

و ليست هي الثاني أعني الدين الحق بتفاصيله فإن الآية تصرح بحمل الإنسان كائنا من كان من مؤمن و غيره له و من البين أن أكثر من لا يؤمن لا يحمله و لا علم له به، و بهذا يظهر أنها ليست بالثالث و هو التلبس بالعمل بالدين الحق تفصيلا.

و ليست هي الكمال الحاصل له بالتلبس بالتوحيد فإن السماوات و الأرض و غيرهما ناطقة بالتوحيد فعلا متلبسة به.

و ليست هي الكمال الحاصل من أخذ دين الحق و العلم به إذ لا يترتب على نفس الاعتقاد الحق و العلم بالتكاليف الدينية نفاق و لا شرك و لا إيمان و لا يستعقب سعادة و لا شقاء و إنما يترتب الأثر على الالتزام بالاعتقاد الحق و التلبس بالعمل.

فبقي أنها الكمال الحاصل له من جهة التلبس بالاعتقاد و العمل الصالح و سلوك سبيل الكمال بالارتقاء من حضيض المادة إلى أوج الإخلاص الذي هو أن يخلصه الله لنفسه فلا يشاركه فيه غيره فيتولى هو سبحانه تدبير أمره و هو الولاية الإلهية.

فالمراد بالأمانة الولاية الإلهية و بعرضها على هذه الأشياء اعتبارها مقيسة إليها و المراد بحملها و الإباء عنه وجود استعدادها و صلاحية التلبس بها و عدمه، و هذا المعنى هو القابل لأن ينطبق على الآية فالسماوات و الأرض و الجبال على ما فيها من العظمة و الشدة و القوة فاقدة لاستعداد حصولها فيها و هو المراد بإبائهن عن حملها و إشفاقهن منها.

لكن الإنسان الظلوم الجهول لم يأب و لم يشفق من ثقلها و عظم خطرها فحملها على ما بها من الثقل و عظم الخطر فتعقب ذلك أن انقسم الإنسان من جهة حفظ الأمانة و عدمه بالخيانة إلى منافق و مشرك و مؤمن بخلاف السماوات و الأرض و الجبال فما منها إلا مؤمن مطيع.

فإن قلت: ما بال الحكيم العليم حمل على هذا المخلوق الظلوم الجهول حملا لا يتحمله لثقله و عظم خطره السماوات و الأرض و الجبال على عظمتها و شدتها و قوتها و هو يعلم أنه أضعف من أن يطيق حمله و إنما حمله على قبولها ظلمه و جهله و أجرأه عليه غروره و غفلته عن عواقب الأمور فما تحميله الأمانة باستدعائه لها ظلما و جهلا إلا كتقليد مجنون ولاية عامة يأبى قبولها العقلاء و يشفقون منها يستدعيها المجنون لفساد عقله و عدم استقامة فكره.

 

 

 قلت: الظلم و الجهل في الإنسان و إن كانا بوجه ملاك اللوم و العتاب فهما بعينهما مصحح حمله الأمانة و الولاية الإلهية فإن الظلم و الجهل إنما يتصف بهما من كان من شأنه الاتصاف بالعدل و العلم فالجبال مثلا لا تتصف بالظلم و الجهل فلا يقال: جبل ظالم أو جاهل لعدم صحة اتصافه بالعدل و العلم و كذلك السماوات و الأرض لا يحمل عليها الظلم و الجهل لعدم صحة اتصافها بالعدل و العلم بخلاف الإنسان.

و الأمانة المذكورة في الآية و هي الولاية الإلهية و كمال صفة العبودية إنما تتحصل بالعلم بالله و العمل الصالح الذي هو العدل و إنما يتصف بهذين الوصفين أعني العلم و العدل الموضوع القابل للجهل و الظلم فكون الإنسان في حد نفسه و بحسب طبعه ظلوما جهولا هو المصحح لحمل الأمانة الإلهية فافهم ذلك.

فمعنى الآيتين‏[1] يناظر بوجه معنى قوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ : التين: ٦.

فقوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا اَلْأَمَانَةَ أي الولاية الإلهية و الاستكمال بحقائق الدين الحق علما و عملا و عرضها هو اعتبارها مقيسة إلى هذه الأشياء.

و قوله: ﴿عَلَى اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلْجِبَالِ أي هذه المخلوقات العظيمة التي خلقها أعظم من خلق الإنسان كما قال: ﴿لَخَلْقُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ اَلنَّاسِ: المؤمن: ٥٧ و قوله: ﴿فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَ أَشْفَقْنَ مِنْهَا إباؤها عن حملها و إشفاقها منها عدم اشتمالها على صلاحية التلبس و تجافيها عن قبولها و في التعبير بالحمل إيماء إلى أنها ثقيلة ثقلا لا يحتملها السماوات و الأرض و الجبال.

و قوله: ﴿وَ حَمَلَهَا اَلْإِنْسَانُ أي اشتمل على صلاحيتها و التهيؤ للتلبس بها على ضعفه و صغر حجمه ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً أي ظالما لنفسه جاهلا بما تعقبه هذه الأمانة لو خانها من وخيم العاقبة و الهلاك الدائم.

و بمعنى أدق لكون الإنسان خاليا بحسب نفسه عن العدل و العلم قابلا للتلبس بما

 

 

 يفاض عليه من ذلك و الارتقاء من حضيض الظلم و الجهل إلى أوج العدل و العلم.

و الظلوم و الجهول‏ وصفان من الظلم و الجهل معناهما من كان من شأنه الظلم و الجهل نظير قولنا: فرس شموس و دابة جموح و ماء طهور أي من شأنها ذلك كما قاله الرازي أو معناهما المبالغة في الظلم و الجهل كما ذكر غيره، و المعنى مستقيم كيفما كانا.

و قوله: ﴿لِيُعَذِّبَ اَللَّهُ اَلْمُنَافِقِينَ وَ اَلْمُنَافِقَاتِ وَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ اَلْمُشْرِكَاتِ اللام للغاية أي كانت عاقبة هذا الحمل أن يعذب الله المنافقين و المنافقات و المشركين و المشركات و ذلك أن الخائن للأمانة يتظاهر في الأغلب بالصلاح و الأمانة و هو النفاق و قليلا ما يتظاهر بالخيانة لها و لعل اعتبار هذا المعنى هو الموجب لتقديم المنافقين و المنافقات في الآية على المشركين و المشركات.

و قوله: ﴿وَ يَتُوبَ اَللَّهُ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ وَ كَانَ اَللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً عطف على ﴿لِيُعَذِّبَ أي و كان عاقبة ذلك أن يتوب الله على المؤمنين و المؤمنات، و التوبة من الله هي رجوعه إلى عبده بالرحمة فيرجع إلى الإنسان إذا آمن به و لم يخن بالرحمة و يتولى أمره و هو ولي المؤمنين فيهديه إليه بالستر على ظلمه و جهله و تحليته بالعلم النافع و العمل الصالح لأنه غفور رحيم.

فإن قلت: ما هو المانع من جعل الأمانة بمعنى التكليف و هو الدين الحق و كون الحمل بمعنى الاستعداد و الصلاحية و الإباء هو فقده و العرض هو اعتبار القياس فيجري فيه حينئذ جميع ما تقدم في بيان الانطباق على الآية.

قلت: نعم لكن التكليف إنما هو مطلوب لكونه مقدمة لحصول الولاية الإلهية و تحقق صفة العبودية الكاملة فهي المعروضة بالحقيقة و المطلوبة لنفسها.

و الالتفات في قوله: ﴿لِيُعَذِّبَ اَللَّهُ من التكلم إلى الغيبة و الإتيان باسم الجلالة للدلالة على أن عواقب الأمور إلى الله سبحانه لأنه الله.

و وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: ﴿وَ يَتُوبَ اَللَّهُ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ للإشعار بكمال العناية في حقهم و الاهتمام بأمرهم.

و لهم في تفسير الأمانة المذكورة في الآية أقوال مختلفة:

فقيل: المراد بها التكاليف الموجبة طاعتها دخول الجنة و معصيتها دخول النار و المراد بعرضها على السماوات و الأرض و الجبال اعتبارها بالنسبة إلى استعدادها و إباؤهن

 

 

عن حملها و إشفاقهن منها عدم استعدادهن لها، و حمل الإنسان لها استعداده، و الكلام جار مجرى التمثيل.

و قيل: المراد بها العقل الذي هو ملاك التكليف و مناط الثواب و العقاب.

و قيل: هي قول لا إله إلا الله.

و قيل: هي الأعضاء فالعين أمانة من الله يجب حفظها و عدم استعمالها إلا فيما يرتضيه الله تعالى، و كذلك السمع و اليد و الرجل و الفرج و اللسان.

و قيل: المراد بها أمانات الناس و الوفاء بالعهود.

و قيل: المراد بها معرفة الله بما فيها و هذا أقرب الأقوال من الحق يرجع بتقريب ما إلى ما قدمنا.

و كذلك اختلف في معنى عرض الأمانة عليها على أقوال:

منها: أن العرض بمعناه الحقيقي غير أن المراد بالسماوات و الأرض و الجبال أهلها فعرضت على أهل السماء من الملائكة و بين لهم أن في خيانتها الإثم العظيم فأبوها و خافوا حملها و عرض على الإنسان فلم يمتنع.

و منها: أنه بمعناه الحقيقي و ذلك أن الله لما خلق هذه الأجرام خلق فيها فهما و قال لها: إني فرضت فريضة و خلقت جنة لمن أطاعني فيها و نارا لمن عصاني فيها فقلن:

نحن مسخرات لما خلقتنا لا نحتمل فريضة و لا نبغي ثوابا و لا عقابا و لما خلق آدم عرض عليه ذلك فاحتمله و كان ظلوما لنفسه جهولا بوخامة عاقبته.

و منها: أن المراد بالعرض المعارضة و المقابلة، و محصل الكلام أنا قابلنا بهذه الأمانة السماوات و الأرض و الجبال فكانت هذه أرجح و أثقل منها.

و منها أن الكلام جار مجرى الفرض و التقدير و المعنى: أنا لو قدرنا أن السماوات و الأرض و الجبال فهما، و عرضنا عليها هذه الأمانة لأبين حملها و أشفقن منها لكن الإنسان تحملها.

و بالمراجعة إلى ما قدمناه يظهر ما في كل من هذه الأقوال من جهات الضعف و الوهن فلا تغفل.

 

 

 (بحث روائي)

 في الكافي، بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: و لا يلعن الله مؤمنا قال الله عز و جل: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لَعَنَ اَلْكَافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لاَ نَصِيراً.

 و في تفسير القمي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): أن بني إسرائيل كانوا يقولون: ليس لموسى ما للرجال، و كان موسى إذا أراد الاغتسال ذهب إلى موضع لا يراه فيه أحد فكان يوما يغتسل على شط نهر و قد وضع ثيابه على صخرة فأمر الله الصخرة فتباعدت عنه حتى نظر بنو إسرائيل إليه فعلموا أن ليس كما قالوا فأنزل الله ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى‏ الآية.

و في المجمع، :و اختلفوا فيما أوذي به موسى على أقوال:

أحدها: أن موسى و هارون صعدا الجبل فمات هارون فقالت بنو إسرائيل: أنت قتلته فأمر الله الملائكة فحملته حتى مروا به على بني إسرائيل و تكلمت الملائكة بموته حتى عرفوا أنه قد مات و برأه الله من ذلك عن علي و ابن عباس .

و ثانيها: أن موسى كان حييا ستيرا يغتسل وحده فقالوا: ما يستتر منا إلا لعيب في جلده إما برص و أما أدرة فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر فمر الحجر بثوبه فطلبه موسى فرآه بنو إسرائيل عريانا كأحسن الرجال خلقا فبرأه الله مما قالوا. رواه أبو هريرة مرفوعا.

أقول: و روى الرواية الأولى في الدر المنثور، أيضا عن ابن مسعود و الثانية أيضا عن أنس و ابن عباس.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر و ابن مردويه عن سهل بن سعد الساعدي قال: ما جلس رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على هذا المنبر قط إلا تلا هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً.

 

 

أقول: و روي ما يقرب منه أيضا عن عائشة و أبي موسى الأشعري و عروة.

 و في نهج البلاغة،: ثم أداء الأمانة فقد خاب من ليس من أهلها إنها عرضت على السماوات المبنية و الأرض المدحوة و الجبال ذات الطول المنصوبة فلا أطول و لا أعرض و لا أعلى و لا أعظم منها و لو امتنع شي‏ء بطول أو عرض أو قوة أو عز لأمتنعن و لكن أشفقن من العقوبة، و عقلن ما جهل من هو أضعف منهن و هو الإنسان إنه كان ظلوما جهولا.

 و في الكافي، بإسناده عن إسحاق بن عمار عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا اَلْأَمَانَةَ الآية، قال: هي ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام).

 أقول: المراد بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) ما كان هو أول فاتح لبابه من هذه الأمة و هو كون الإنسان، بحيث يتولى الله سبحانه أمره بمجاهدته فيه بإخلاص العبودية له دون الولاية بمعنى المحبة أو بمعنى الإمامة و إن كان ظاهر بعض الروايات ذلك بنوع من الجري و الانطباق.

 

 

(٣٤) (سورة سبإ مكية، و هي أربع و خمسون آية) (٥٤)

[سورة سبإ (٣٤): الآیات ١ الی ٩]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْآخِرَةِ وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ اَلْخَبِيرُ ١ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَ مَا يَنْزِلُ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ مَا يَعْرُجُ فِيهَا وَ هُوَ اَلرَّحِيمُ اَلْغَفُورُ ٢ وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا اَلسَّاعَةُ قُلْ بَلى‏ وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ اَلْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ لاَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَ لاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ٣ لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ٤ وَ اَلَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ٥ وَ يَرَى اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ اَلْحَقَّ وَ يَهْدِي إِلى‏ صِرَاطِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَمِيدِ ٦ وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى‏ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ٧ أَفْتَرى‏ عَلَى اَللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي اَلْعَذَابِ وَ اَلضَّلاَلِ

 

 

اَلْبَعِيدِ ٨ أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى‏َ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ اَلْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ اَلسَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ٩

(بيان)

تتكلم السورة حول الأصول الثلاثة أعني الوحدانية و النبوة و البعث فتذكرها و تذكر ما لمنكريها من الاعتراض فيها و الشبه التي ألقوها ثم تدفعها بوجوه الدفع من حكمة و موعظة و مجادلة حسنة و تهتم ببيان أمر البعث أكثر من غيره فتذكره في مفتتح الكلام ثم تعود إليه عودة بعد عودة إلى مختتمه.

و هي مكية بشهادة مقاصد آياتها على ذلك.

قوله تعالى: ﴿اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ إلخ، المطلوب بيان البعث و الجزاء بيانا لا يعتريه شك بالإشارة إلى الحجة التي ينقطع بها الخصم و الأساس الذي يقوم عليه ذلك أمران أحدهما عموم ملكه تعالى لكل شي‏ء من كل جهة حتى يصح له أي تصرف أراد فيها من إبداء و رزق و إماتة و إحياء بالإعادة و جزاء، و ثانيهما كمال علمه تعالى بالأشياء من جميع جهاتها علما لا يطرأ عليه عزوب و زوال حتى يعيد كل من أراد و يجزيه على ما علم من أعماله خيرا أو شرا.

و قد أشير إلى أول الأمرين في الآية الأولى التي نحن فيها و إلى الثانية في الآية الثانية و بذلك يظهر أن الآيتين تمهيد لما في الآية الثالثة و الرابعة.

فقوله: ﴿اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ ثناء عليه على ملكه المنبسط على كل شي‏ء بحيث له أن يتصرف في كل شي‏ء بما شاء و أراد.

و قوله: ﴿وَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْآخِرَةِ تخصيص الحمد بالآخرة لما أن الجملة الأولى تتضمن الحمد في الدنيا فإن النظام المشهود في السماوات و الأرض نظام دنيوي كما يشهد به قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَ اَلسَّمَاوَاتُ».﴾: إبراهيم: ٤٨.

 

 

 و قوله: ﴿وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ اَلْخَبِيرُ ختم الآية بالاسمين الكريمين للدلالة على أن تصرفه في نظام الدنيا ثم تعقيبه بنظام الآخرة مبني على الحكمة و الخبرة فبحكمته عقب الدنيا بالآخرة و إلا لغت الخلقة و بطلت و لم يتميز المحسن من المسي‏ء كما قال:

﴿وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً إلى أن قال ﴿أَمْ نَجْعَلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ اَلْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ: ص: ٢٨، و بخبرته يحشرهم و لا يغادر منهم أحدا و يجزي كل نفس بما كسبت.

و الخبير من أسماء الله الحسنى مأخوذة من الخبرة و هي العلم بالجزئيات فهو أخص من العليم.

قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَ مَا يَنْزِلُ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ مَا يَعْرُجُ فِيهَا الولوج‏ مقابل الخروج و العروج‏ مقابل النزول و كان العلم بالولوج و الخروج و النزول و العروج كناية عن علمه بحركة كل متحرك و فعله و اختتام الآية بقوله: ﴿وَ هُوَ اَلرَّحِيمُ اَلْغَفُورُ كان فيه إشارة إلى أن له رحمة ثابتة و مغفرة ستصيب قوما بإيمانهم.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا اَلسَّاعَةُ قُلْ بَلىَ وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ اَلْغَيْبِ إلخ، يذكر إنكارهم لإتيان الساعة و هي يوم القيامة و هم ينكرونه مع ظهور عموم ملكه و علمه بكل شي‏ء و لا مورد للارتياب في إتيانها مع ذلك كما تقدم فضلا عن إنكار إتيانها و لذلك أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يجيب عن قولهم بقوله: ﴿قُلْ بَلى‏ وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ أي الساعة.

و لما كان السبب العمدة في إنكارهم هو اختلاط الأشياء و منها أبدان الأموات بعضها ببعض و تبدل صورها تبدلا بعد تبدل بحيث لا خبر عن أعيانها فيمتنع إعادتها من دون تميز بعضها من بعض أشار إلى دفع ذلك بقوله: ﴿عَالِمِ اَلْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ أي لا يفوت «عن علمه ﴿مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ لاَ فِي اَلْأَرْضِ.

و قوله: ﴿وَ لاَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَ لاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ تعميم لعلمه لكل شي‏ء و فيه مع ذلك إشارة إلى أن للأشياء كائنة ما كانت ثبوتا في كتاب مبين لا تتغير و لا تتبدل و إن زالت رسومها عن صفحة الكون و قد تقدم بعض الكلام في الكتاب المبين في سورة الأنعام و غيرها.

 

 

قوله تعالى: ﴿لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ اللام في ﴿لِيَجْزِيَ للتعليل و هو متعلق بقوله: ﴿لَتَأْتِيَنَّكُمْ و في قوله: ﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ نوع محاذاة لقوله السابق: ﴿وَ هُوَ اَلرَّحِيمُ اَلْغَفُورُ.

و في الآية بيان أحد السببين لقيام الساعة و هو أن يجزي الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات بالمغفرة و الرزق الكريم و هو الجنة بما فيها و السبب الأخير ما يشير إليه قوله:

﴿وَ اَلَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ إلخ.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ السعي‏ الجد في المشي و المعاجزة المبالغة في الإعجاز و قيل: المسابقة و الكلام مبني على الاستعارة بالكناية كان الآيات مسافة يسيرون فيها سيرا حثيثا ليعجزوا الله و يسبقوه و الرجز كالرجس القذر و لعل المراد به العمل السيئ فيكون إشارة إلى تبدل العمل عذابا أليما عليهم أو سببا لعذابهم، و قيل: الرجز هو سي‏ء العذاب.

و في الآية تعريض للكفار الذين يصرون على إنكار البعث.

قوله تعالى: ﴿وَ يَرَى اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ اَلْحَقَّ الموصول الأول فاعل يرى و الموصول الثاني مفعوله الأول و الحق مفعوله الثاني و المراد بالذين أوتوا العلم العلماء بالله و بآياته، و بالذي أنزل إليه القرآن النازل إليه (ص).

و جملة ﴿وَ يَرَى إلخ، استئناف متعرض لقوله السابق: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أو حال من فاعل كفروا، و المعنى: أولئك يقولون: لا تأتينا الساعة و ينكرونه جهلا، و العلماء بالله و آياته يرون أن هذا القرآن النازل إليك المخبر بأن الساعة آتية هو الحق.

و قوله: ﴿وَ يَهْدِي إِلىَ صِرَاطِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَمِيدِ معطوف على الحق أي و يرون القرآن يهدي إلى صراط من هو عزيز لا يغلب على ما يريد محمود يثنى على جميع أفعاله لأنه لا يفعل مع عزته إلا الجميل و هو الله سبحانه، و في التوصيف بالعزيز الحميد مقابلة لما وصفهم به في قوله: ﴿اَلَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلىَ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ

 

 

 مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ كلام منهم وارد مورد الاستهزاء يعرفون فيه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعضهم لبعض بالقول بالمعاد.

و التمزيق‏ التقطيع و التفريق، و كونهم في خلق جديد استقرارهم فيه أي تجديد خلقتهم بإحيائهم بعد موتهم و وجودهم ثانيا بعد عدمهم، و قوله: ﴿إِذَا مُزِّقْتُمْ ظرف لقوله: ﴿إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ.

و المعنى: و قال الذين كفروا بعضهم لبعض على طريق الاستهزاء بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لإنذاره إياهم بالبعث و الجزاء: هل ندلكم على رجل و المراد به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ينبئكم و يخبركم أنكم ستستقرون في خلق جديد و يتجدد لكم الوجود إذا فرقت أبدانكم كل التفريق و قطعت بحيث لا يتميز شي‏ء منها من شي‏ء.

قوله تعالى: ﴿أَفْتَرىَ عَلَى اَللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ إلخ، الاستفهام للتعجيب فإن القول ببعث الأجساد بعد فنائها عجيب عندهم لا يقول به عاقل إلا لتلبيس الأمر على الناس و إضلالهم لينال بعض ما عندهم و إلا فكيف يلتبس فيه الأمر على عاقل، و لهذا رددوا الأمر بين الافتراء و الجنة في الاستفهام و المعنى: أ هو عاقل يكذب على الله افتراء عليه بالقول بالبعث أم به نوع جنون يتفوه بما بدا له من غير فكر مستقيم.

و قوله: ﴿بَلِ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي اَلْعَذَابِ وَ اَلضَّلاَلِ اَلْبَعِيدِ رد لقولهم و إضراب عن الترديد الذي أتوا به مستفهمين، و محصله أن ذلك ليس افتراء على الله و لا جنون فيه بل هؤلاء الكفار مستقرون في عذاب سيظهر لهم و قد أبعدهم ذلك عن الحق فكانوا في ضلال بعيد لا يسعهم مع ذلك أن يعقلوا الحق و يذعنوا به.

و وضع الموصول موضع الضمير في قوله: ﴿بَلِ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ للدلالة على أن علة وقوعهم فيما وقعوا فيه من العذاب و الضلال عدم إيمانهم بالآخرة.

قوله تعالى: ﴿أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلىَ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ اَلْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ اَلسَّمَاءِ إلخ، وعظ و إنذار لهم باستعظام ما اجترءوا عليه من تكذيب آيات الله و الاستهزاء برسوله فالمراد بقوله: ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ إحاطة السماء و الأرض بهم من بين أيديهم و من خلفهم فأينما نظروا وجدوا سماء تظلهم و أرضا تقلهم لا مفر لهم منهما.

 

 

 و قوله: ﴿إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ اَلْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ اَلسَّمَاءِ أي إذ أحاط بهم الأرض و السماء و هما مدبرتان بتدبيرنا منقادتان مسخرتان لنا أن نشأ نخسف بهم الأرض فنهلكهم أو نسقط عليهم قطعة من السماء فنهلكهم فما لهم لا ينتهون عن هذه الأقاويل؟.

و قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ، أي فيما ذكر من إحاطة السماء و الأرض و كونهما مدبرتين لله سبحانه أن يشأ يخسف بهم الأرض أو يسقط عليهم كسفا من السماء لآية لكل عبد منيب، راجع إلى ربه بالطاعة، فهؤلاء لا يستهينون بهذه الأمور و لا يجترءون على تكذيب هذه الآيات إلا لكونهم مستكبرين عاتين لا يريدون إنابة إلى ربهم و رجوعا إلى طاعته.

[سورة سبإ (٣٤): الآیات ١٠ الی ٢١]

﴿وَ لَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ اَلطَّيْرَ وَ أَلَنَّا لَهُ اَلْحَدِيدَ ١٠ أَنِ اِعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَ قَدِّرْ فِي اَلسَّرْدِ وَ اِعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ١١ وَ لِسُلَيْمَانَ اَلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَ رَوَاحُهَا شَهْرٌ وَ أَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ اَلْقِطْرِ وَ مِنَ اَلْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ اَلسَّعِيرِ ١٢ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَ تَمَاثِيلَ وَ جِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَ قُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اِعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ اَلشَّكُورُ ١٣ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ اَلْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلى‏ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ اَلْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ اَلْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ اَلْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي اَلْعَذَابِ

 

 

اَلْمُهِينِ ١٤ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اُشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ ١٥ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ اَلْعَرِمِ وَ بَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ وَ شَيْ‏ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ١٦ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَ هَلْ نُجَازِي إِلاَّ اَلْكَفُورَ ١٧ وَ جَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ اَلْقُرَى اَلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَ قَدَّرْنَا فِيهَا اَلسَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَ أَيَّاماً آمِنِينَ ١٨ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَ مَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ١٩ وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ ٢٠ وَ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَ رَبُّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ حَفِيظٌ ٢١

(بيان)

تشير الآيات إلى نبذة من قصص داود و سليمان إذ آتاهما الله من فضله إذ أنعم على داود بتسخير الجبال و الطير معه و تليين الحديد له، و سخر لسليمان الريح غدوها شهر و رواحها شهر و سخر الجن يعملون له ما يشاء من محاريب و تماثيل و غيرها و أمرهما بالعمل الصالح شكرا و كانا عبدين شكورين.

ثم إلى قصة سبإ حيث أنعم عليهم بجنتين عن اليمين و الشمال ليعيشوا فيها عيشا

 

 

 رغدا فكفروا بالنعمة و أعرضوا عن الشكر فأرسل عليهم سيل العرم و بدل جنتيهم جنتين دون ذلك و قد كان عمر بلادهم فكفروا فجعلهم أحاديث و مزقهم كل ممزق، كل ذلك لكفرهم النعمة و إعراضهم عن الشكر و لا يجازى إلا الكفور.

وجه اتصال القصص على ما تقدم من حديث البعث أن الله هو المدبر لأمور عباده و هم مغمورون في أنواع نعمه و للمنعم على المنعم عليه الشكر على نعمته و عليه أن يميز بين الشاكرين لنعمته و الكافر بها و إذ لا ميز في هذه النشأة فهناك نشأة أخرى يتميز فيها الفريقان فالبعث لا مفر عنه.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ اَلطَّيْرَ وَ أَلَنَّا لَهُ اَلْحَدِيدَ الفضل‏ العطية و التأويب‏ الترجيع من الأوب بمعنى الرجوع و المراد به ترجيع الصوت بالتسبيح بدليل قوله فيه في موضع آخر: ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا اَلْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِشْرَاقِ وَ اَلطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ: ص: ١٩ و الطير معطوف على محل الجبال و منه يظهر فساد قول بعضهم: إن الأوب‏ بمعنى السير و أن الجبال كانت تسير معه حيثما سار.

و قوله: ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ اَلطَّيْرَ بيان للفضل الذي أوتي داود و قد وضع فيه الخطاب الذي خوطبت به الجبال و الطير فسخرتا به موضع نفس التسخير الذي هو العطية و هو من قبيل وضع السبب موضع المسبب و المعنى: سخرنا الجبال له تئوب معه و الطير، و هذا هو المتحصل من تسخير الجبال و الطير له كما يشير إليه قوله: ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا اَلْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِشْرَاقِ وَ اَلطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ: ص: ١٩ و قوله: ﴿وَ أَلَنَّا لَهُ اَلْحَدِيدَ أي و جعلناه لينا له على ما به من الصلابة.

قوله تعالى: ﴿أَنِ اِعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَ قَدِّرْ فِي اَلسَّرْدِ إلخ، السابغات‏ جمع سابغة و هي الدرع الواسعة، و السرد نسج الدرع، و تقديره الاقتصاد فيه بحيث تتناسب حلقه أي اعمل دروعا واسعة و أجعلها متناسبة الحلق، و جملة ﴿أَنِ اِعْمَلْ إلخ، نوع تفسير لا لأنه الحديد له.

و قوله: ﴿وَ اِعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ معنى الجملة في نفسها ظاهر و هي لوقوعها في سياق بيان إيتاء الفضل و عد النعم تفيد معنى الأمر بالشكر كأنه قيل:

 

 

 و قلنا اشكر النعم أنت و قومك بالعمل الصالح.

قوله تعالى: ﴿وَ لِسُلَيْمَانَ اَلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَ رَوَاحُهَا شَهْرٌ إلخ، أي و سخرنا لسليمان الريح مسير غدو تلك الريح و هو أول النهار إلى الظهر مسير شهر و رواح تلك الريح و هو من الظهر إلى آخر النهار مسير شهر أي أنها تسير في يوم مسير شهرين.

و قوله: ﴿وَ أَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ اَلْقِطْرِ الإسالة إفعال من السيلان بمعنى الجريان و القطر النحاس أي و أذبنا له القطر فسالت كالعين الجارية.

قوله: ﴿وَ مِنَ اَلْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ، أي و جمع من الجن بدليل قوله بعد: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ يعمل بين يديه بإذن ربه مسخرين له ﴿وَ مَنْ يَزِغْ أي ينحرف ﴿عَنْ أَمْرِنَا و لم يطع سليمان ﴿نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ اَلسَّعِيرِ ظاهر السياق أن المراد به عذاب النار في الدنيا دون الآخرة، و في لفظ الآية دلالة على أن المسخر له كان بعض الجن لا جميعهم.

قوله تعالى: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَ تَمَاثِيلَ وَ جِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَ قُدُورٍ رَاسِيَاتٍ إلخ، المحاريب‏ جمع محراب و هو مكان إقامة الصلاة و العبادة، و التماثيل‏ جمع تمثال و هي الصورة المجسمة من الشي‏ء و الجفان‏ جمع جفنة و هي صحفة الطعام، و الجوابي‏ جمع جابية الحوض الذي يجبى أي يجمع فيه الماء، و القدور جمع قدر و هو ما يطبخ فيه الطعام، و الراسيات‏ الثابتات و المراد بكون القدور راسيات كونها ثابتات في أمكنتها لا يزلن عنها لعظمها.

و قوله: ﴿اِعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً خطاب لسليمان و سائر من معه من آل داود أن يعملوا و يعبدوا الله شكرا له، و قوله: ﴿وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ اَلشَّكُورُ أي الشاكر لله شكرا بعد شكر و الجملة إما في مقام ترفيع مقام أهل الشكر بأن المتمكنين في هذا المقام قليلون و هم الأوحديون من الناس، و إما في مقام التعليل كأنه قيل: إنهم قليل فكثروا عدتهم.

قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ اَلْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلى‏َ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ اَلْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ المراد بدابة الأرض الأرضة على ما وردت به الروايات و المنسأة العصا و قوله:

 

 

﴿فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ اَلْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ اَلْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي اَلْعَذَابِ اَلْمُهِينِ الخرور السقوط على الأرض.

و يستفاد من السياق أنه (عليه السلام) لما قبض كان متكئا على عصاه فبقي على تلك الحال قائما متكئا على عصاه زمانا لا يعلم بموته إنس و لا جن فبعث الله عز و جل أرضة فأخذت في أكل منسأته حتى إذا أكلت انكسرت العصا و سقط سليمان على الأرض فعلموا عند ذلك بموته و تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب لعلموا بموت سليمان المستور عنهم و ما لبثوا هذا المقدار من الزمان و هو من حين قبضه إلى خروره - في العذاب المهين المذل لهم.

قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمَالٍ إلخ، سبأ العرب العاربة باليمن سموا - كما قيل - باسم أبيهم سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، و قوله: ﴿عَنْ يَمِينٍ وَ شِمَالٍ أي عن يمين مسكنهم و شماله.

و قوله: ﴿كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ أمر بالأكل من جنتين و هو كناية عن رزقهم منهما، ثم بالشكر له على نعمته و رزقه، و قوله: ﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ أي بلدة ملائمة صالحة للمقام و رب كثير الغفران لا يؤاخذكم بسيئاتكم.

قوله تعالى: ﴿فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ اَلْعَرِمِ وَ بَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ وَ شَيْ‏ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ العرم‏ المسناة التي تحبس الماء، و قيل:

المطر الشديد و قيل غير ذلك، و الأكل‏ بضمتين كل ثمرة مأكولة، و الخمط على ما قيل كل نبت أخذ طعما من المرارة، و الأثل‏ الطرفاء و قيل: شجر يشبهها أعظم منها لا ثمرة له، و السدر معروف، و الأثل و شي‏ء معطوفان على ﴿أُكُلٍ لا على خمط.

و المعنى: فأعرضوا أي قوم سبإ عن الشكر الذي أمروا به فجازيناهم و أرسلنا عليهم سيل العرم فأغرق بلادهم و ذهب بجنتيهم و بدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي ثمرة مرة و ذواتي طرفاء و شي‏ء قليل من السدر.

قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَ هَلْ نُجَازِي إِلاَّ اَلْكَفُورَ ﴿ذَلِكَ إشارة إلى ما ذكر من إرسال السيل و تبديل الجنتين و محله النصب مفعولا ثانيا لجزيناهم و الفرق بين الجزاء و المجازاة كما قيل إن المجازاة لا تستعمل إلا في الشر و الجزاء أعم.

 

 

 و المعنى: جزينا سبأ ذلك الجزاء بسبب كفرهم و إعراضهم عن الشكر أو في مقابلة ذلك و لا نجازي بالسوء إلا من كان كثير الكفران لأنعم الله.

قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ اَلْقُرَى اَلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً إلخ، ضمير ﴿بَيْنَهُمْ لسبإ و الكلام مسوق لبيان تتمة قصتهم المطلوب ذكرها و هو عطف على قوله: ﴿كَانَ لِسَبَإٍ و المراد بالقرى التي باركنا فيها القرى الشامية، و المراد بكون القرى ظاهرة كونها متقاربة يرى بعضها من بعض.

و قوله: ﴿وَ قَدَّرْنَا فِيهَا اَلسَّيْرَ أي جعلنا السير فيها على نسبة مقدرة متناسبة غير مختلفة فالنسبة بين واحدة منها و ما يليها كالنسبة بين ما يليها و ما يليه، و قوله:

﴿سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَ أَيَّاماً آمِنِينَ على تقدير القول أي و قلنا: سيروا في هذه القرى على أمن إن شئتم ليالي و إن شئتم أياما، و المراد قررنا فيها الأمن يسيرون فيها متى ما شاءوا من غير خوف و قلق.

قوله تعالى: ﴿فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إلخ، أي أنعمنا عليهم ما أنعمنا من وفور الفواكه و قرب المنازل و أمن الطرق و سهولة السير و رغد العيش فملوا ذلك و سئموه و قالوا: ﴿رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا أي اجعل أسفارنا ذوات مسافات بعيدة نركب فيها الرواحل و نقطع المفاوز و البوادي و هذا بغي منهم و كفران كما طلبت بنو إسرائيل الثوم و البصل مكان المن و السلوى.

و بالجملة أتم الله نعمه عليهم في السفر بقرب المنازل و أمن الطرق و وفور النعمة كما أتم نعمه عليهم في الحضر و أراد منهم الشكر على ذلك فكفروا بنعمه في السفر كما كفروا بها في الحضر، فأسرع الله في إسعاف ما اقترحوه فخرب بلادهم و فرق جمعهم و شتت شملهم.

فقوله: ﴿فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا اقتراح ضمني لتخريب بلادهم، و قوله:

﴿وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أي بالمعاصي.

و قوله: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَ مَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي أزلنا أعيانهم و آثارهم فلم يبق منهم إلا أحاديث يحدث بها فيما يحدث فعادوا أسماء لا مسمى لهم إلا في وهم المتوهم و خيال المتخيل و فرقناهم كل تفرق فلم يبق من أجزاء وجودهم جزءان

 

 

 مجتمعان إلا فرقنا بينهما فصاروا كسدى لا شبح له بعد ما كانوا مجتمعا ذا قوة و شوكة حتى ضرب بهم المثل «تفرقوا أيادي سبإ».

و قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أي في هذا الذي ذكر من قصتهم لآيات لكل من كثر صبره في جنب الله و كثر شكره لنعمه التي لا تحصى يستدل بتلك الآيات على أن على الإنسان أن يعبد ربه شكرا لنعمه و أن وراءه يوما يبعث فيه و يجزى بعمله.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أي حقق إبليس عليهم ظنه أو وجد ظنه صادقا عليهم إذ قال لربه: ﴿لَأُغْوِيَنَّهُمْ و ﴿لَأُضِلَّنَّهُمْ ﴿وَ لاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ، و قوله: ﴿فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ بيان لتصديقه ظنه.

و منه يظهر أن ضمير الجمع في ﴿عَلَيْهِمْ هاهنا و كذا في الآية التالية لعامة الناس لا لسبإ خاصة و إن كانت الآية منطبقة عليهم.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ ظاهر السياق أن المراد أنهم لم يتبعوه عن سلطان له عليهم يضطرهم إلى اتباعه حتى يكونوا معذورين بل إنما اتبعوه عن سوء اختيارهم فهم يختارون اتباعه فيتسلط عليهم لا أنه يتسلط فيتبعونه، قال تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ: الحجر: ٤٢ و قال حاكيا عن إبليس يوم القيامة:

﴿وَ مَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ» : إبراهيم: ٢٢.

و منشأ اتباعهم له ريب و شك في قلوبهم من الآخرة يظهر منهم بظهور أثره الذي هو الاتباع لإبليس، فإذنه سبحانه لإبليس أن يتسلط عليهم من طريق اختيارهم هذا المقدار من التسلط ليمتاز به أهل الشك في الآخرة من أهل الإيمان به و لا يرفع ذلك مسئوليتهم في اتباعه لكونه عن اختيار منهم.

فقوله: ﴿وَ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ نفي لكل سلطان، و قوله: ﴿إِلاَّ لِنَعْلَمَ أي لنميز ﴿مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ استثناء لسلطانه عليهم من طريق

 

 

 اتباعهم له عن اختيار منهم، و قد وضع فيه الغاية موضع ذي الغاية أي التمييز المذكور موضع التسلط من طريق الاتباع الاختياري.

و تقييد الإيمان و الشك بالآخرة في الآية لمكان أن الرادع الوحيد عن المعصية و الداعي إلى الطاعة هو الإيمان بالآخرة دون الإيمان بالله و رسوله لو لا الآخرة كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ اَلْحِسَابِ: ص: ٢٦ و قوله: ﴿وَ رَبُّكَ عَلى‏َ كُلِّ شَيْ‏ءٍ حَفِيظٌ أي عالم علما لا يفوته المعلوم بنسيان أو سهو أو غير ذلك و فيه تحذير عن الكفران و المعصية و إنذار لأهل الكفر و المعصية.

(بحث روائي)

 في كمال الدين، بإسناده إلى هشام بن سالم عن الصادق (عليه السلام): في حديث يذكر فيه قصة داود (عليه السلام) قال: إنه خرج يقرأ الزبور و كان إذا قرأ الزبور لا يبقى جبل و لا حجر و لا طائر إلا أجابه.

 و في تفسير القمي، ":قوله عز و جل: ﴿أَنِ اِعْمَلْ سَابِغَاتٍ قال: الدروع ﴿وَ قَدِّرْ فِي اَلسَّرْدِ قال: المسامير التي في الحلقة، و قوله عز و جل: ﴿وَ لِسُلَيْمَانَ اَلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَ رَوَاحُهَا شَهْرٌ قال: كانت الريح تحمل كرسي سليمان - فتسير به في الغداة مسيرة شهر و بالعشي مسيرة شهر.

و في الكافي، بإسناده عن داود بن الحصين و عن أبان بن عثمان عن الفضل أبي العباس قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَ تَمَاثِيلَ وَ جِفَانٍ كَالْجَوَابِ قال: ما هي تماثيل الرجال و النساء و لكنها تماثيل الشجر و شبهه.

 و فيه، عن بعض أصحابنا مرفوعا عن هشام بن الحكم قال: قال أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام): يا هشام ثم مدح الله القلة فقال: ﴿وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ اَلشَّكُورُ. أقول: و قد وقع هذا المعنى في عدة روايات و هو ينطبق على أحد المعنيين المتقدمين في ذيل الآية.

 و في العلل، بإسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أمر سليمان بن داود الجن فصنعوا له قبة من قوارير فبينا هو متكئ على عصاه في القبة ينظر إلى الجن كيف ينظرون

 

 

 إليه إذ حانت منه التفاتة فإذا رجل معه في القبة قال له: من أنت؟ قال: أنا الذي لا أقبل الرشا و لا أهاب الملوك أنا ملك الموت. فقبضه و هو قائم متكئ على عصاه في القبة و الجن ينظرون إليه .

قال: فمكثوا سنة يدأبون له حتى بعث الله عز و جل الأرضة فأكلت منسأته و هي العصا، فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين‏ الحديث.

أقول: و بقاؤه (عليه السلام) على حال القيام متكئا على عصاه سنة وارد في عدة من روايات الشيعة و أهل السنة.

و في المجمع، في الحديث عن فروة بن مسيك قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن سبإ أ رجل هو أم امرأة؟ فقال: هو رجل من العرب ولد عشرة تيامن منهم ستة و تشاءم أربعة فأما الذين تيامنوا فالأزد و كندة و مذحج و الأشعرون و أنمار و حمير فقال رجل من القوم: ما أنمار؟ قال: الذين منهم خثعم و بجيلة. و أما الذين تشاءموا فعاملة و جذام و لخم و غسان:

أقول: و رواه في الدر المنثور، عن عدة من أرباب الجوامع و السنن عنه (ص) و المراد بالتيامن و التشاؤم السكونة باليمن و الشام.

 و في الكافي، بإسناده عن سدير قال: سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل. ﴿فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الآية فقال: هؤلاء قوم كانت لهم قرى متصلة ينظر بعضهم إلى بعض و أنهار جارية و أموال ظاهرة فكفروا نعم الله عز و جل و غيروا ما بأنفسهم من عافية الله فغير الله ما بهم من نعمة و الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فأرسل الله عليهم سيل العرم ففرق قراهم و خرب ديارهم و ذهب بأموالهم و أبدلهم مكان جنانهم جنتين ذواتي أكل خمط و أثل و شي‏ء من سدر قليل ثم قال: ﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَ هَلْ نُجَازِي إِلاَّ اَلْكَفُورَ. أقول: و ورد في عدة من الروايات أن القرى التي بارك الله فيها هم أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و القرى الظاهرة هم الوسائط بينهم و بين الناس من حملة أحاديثهم و غيرهم، و هو من بطن القرآن و ليس من التفسير في شي‏ء.

 

 

[سورة سبإ (٣٤): الآیات ٢٢ الی ٣٠]

﴿قُلِ اُدْعُوا اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ لاَ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَ مَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ٢٢ وَ لاَ تَنْفَعُ اَلشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَا ذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا اَلْحَقَّ وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ ٢٣ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ قُلِ اَللَّهُ وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى‏ هُدىً أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ٢٤ قُلْ لاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَ لاَ نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ٢٥ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَ هُوَ اَلْفَتَّاحُ اَلْعَلِيمُ ٢٦ قُلْ أَرُونِيَ اَلَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اَللَّهُ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ ٢٧ وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ٢٨ وَ يَقُولُونَ مَتى‏ هَذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ٢٩ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لاَ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَ لاَ تَسْتَقْدِمُونَ ٣٠

(بيان)

آيات مقررة للتوحيد و احتجاجات حوله.

قوله تعالى: ﴿قُلِ اُدْعُوا اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ إلى

 

 

 آخر الآية، أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يحتج على إبطال ألوهية آلهتهم بعدم قدرتهم على استجابة الدعاء، فقوله: ﴿قُلِ اُدْعُوا اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أي ادعوا الذين زعمتموهم آلهة من دون الله فمفعولا ﴿زَعَمْتُمْ محذوفان لدلالة السياق عليهما و دعاؤهم هو مسألتهم شيئا من الحوائج.

و قوله: ﴿لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ لاَ فِي اَلْأَرْضِ واقع موقع الجواب كأنه قيل: فما ذا يكون إذا دعوهم؟ فقيل: لا يستجيبون لهم بشي‏ء لأنهم ﴿لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ لاَ فِي اَلْأَرْضِ و لو ملكوا لاستجابوا، و لا تتم الربوبية و الألوهية إلا بأن يملك الرب و الإله شيئا مما يحتاج إليه الإنسان فيملكه له و ينعم عليه به فيستحق بإزائه العبادة شكرا له فيعبد، أما إذا لم يملك شيئا فلا يكون ربا و لا إلها.

و قوله: ﴿وَ مَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ كان الملك المنفي في الجملة السابقة ﴿لاَ يَمْلِكُونَ إلخ، الملك المطلق المنبسط على الجميع و المنفي في هذه الجملة الملك المحدود المتبعض الذي ينبسط على البعض دون الكل إما مشاعا أو مفروزا، لكن المشركين ما كانوا يقولون بالملك المشترك بينهم و بين الله سبحانه مشاعا بل كانوا يقولون بملك كل من آلهتهم لنوع من الخلقة أو بعض منها، و أما الله سبحانه فهو رب الأرباب و إله الآلهة.

و على هذا كان من الواجب أن يستجيب آلهتهم إذا دعوا فيما يملكونه من الخلقة و عدم استجابتهم كاشف عن عدم ربوبيتهم و ألوهيتهم.

و قوله: ﴿وَ مَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ أي ليس لله سبحانه منهم كلا أو بعضا من معين يعينه فيما يفرض فيه عجزه عن القيام بأمر تدبيره إذ لو كان له منهم ظهير يظهره على التدبير كان مالكا فيستجيب إذا دعي فيما هو ظهير بالنسبة إليه و إذ ليس فليس.

فتبين مما تقدم أن احتجاج الآية على نفي الملك بانتفاء استجابتهم دعاء الداعي يجري في جميع الصور الثلاث و هي ملكهم لما في السماوات و ما في الأرض مطلقا و ملكهم على وجه الشركة مع الله سبحانه و كونهم أو بعضهم ظهيرا لله سبحانه.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَنْفَعُ اَلشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ المشركون كانوا يقولون بشفاعة آلهتهم كما حكاه الله سبحانه عنهم بقوله: ﴿هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اَللَّهِ: يونس: ١٨

 

 

 و ليس مرادهم بالشفاعة شفاعة يوم القيامة التي يثبتها القرآن الكريم فإنهم ما كانوا يقولون بالمعاد بل الشفاعة في الدنيا لعبادهم عند الله سبحانه ليسعدهم بقضاء حوائجهم و إصلاح شئونهم بتوسط آلهتهم.

و إذ كانت الآلهة مخلوقين لله مملوكين له من كل وجه فلا يملكون الشفاعة من عند أنفسهم مستقلين بها إلا أن يملكهم الله سبحانه ذلك و هو الإذن لهم في أن يشفعوا فأصل شفاعتهم لو شفعوا بإذن الله سبحانه.

و قوله: ﴿إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ يحتمل أن يكون اللام في ﴿لِمَنْ لام الملك و المراد بمن أذن له الشافع من الملائكة، و المعنى: لا تنفع الشفاعة إلا أن يملكه الشافع بالإذن من الله و أن يكون لام التعليل و المراد بمن أذن له المشفوع له، و المعنى: لا تنفع الشفاعة إلا لأجل من أذن له من المشفوع لهم، قال في الكشاف: و هذا يعني الوجه الثاني وجه لطيف و هو الوجه. انتهى.

و هو الوجه فإن الملائكة على ما يستفاد من كلامه تعالى وسائط لإنفاذ الأمر الإلهي و إجرائه، قال تعالى: ﴿لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ: الأنبياء: ٢٧ و قال: ﴿جَاعِلِ اَلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ: فاطر: ١ و الوساطة المذكورة من الشفاعة كما تقدم في مباحث الشفاعة في الجزء الأول من الكتاب.

فالملائكة جميعا شفعاء لكن لا في كل أمر و لكل أحد بل في أمر أذن الله فيه و لمن أذن له فنفي شفاعتهم إلا مع الإذن يناسب المشفوع لهم دون الشفعاء، فالآية في معنى قوله تعالى: ﴿وَ لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ اِرْتَضى‏َ: الأنبياء: ٢٨ لا في معنى قوله:

﴿مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ: يونس: ٣.

قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَا ذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا اَلْحَقَّ وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ التفزيع‏ إزالة الفزع و كشفه و ضمائر الجمع على ما يعطيه السياق للشفعاء و هم الملائكة.

و لازم قوله: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ و هو غاية أن يكون هناك أمر مغيى بها و هو كون قلوبهم في فزع ممتد في انتظار أمر الله سبحانه حتى يرتفع بصدور الأمر منه، فالآية في معنى قوله تعالى: ﴿وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ إلى أن قال ﴿وَ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ هُمْ

 

 

 لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ: النحل: ٥٠ فالفزع‏ هو التأثر و الانقباض من الخوف و هو المراد بسجدتهم تذللا من خوف ربهم من فوقهم.

و بذلك يظهر أن المراد بفزعهم حتى يفزع عنهم أن التذلل غشي قلوبهم و هو تذللهم من حيث إنهم أسباب و شفعاء في نفوذ الأوامر الإلهية و وقوعه على ما صدر و كما أريد، و كشف هذا التذلل هو تلقيهم الأمر الإلهي و اشتغالهم بالعمل كأنهم بحيث لا يظهر من وجودهم إلا فعلهم و طاعتهم لله فيما أمرهم به و أنه لا واسطة بين الله سبحانه و بين الفعل إلا أمره فافهم ذلك.

و إنما نسب الفزع و التفزيع إلى قلوبهم للدلالة على أنهم ذاهلون منصرفون عن أنفسهم و عن كل شي‏ء إلا ربهم و هم على هذه الحالة لا يشعرون بشي‏ء غيره حتى إذا كشف الفزع عن قلوبهم عند صدور الأمر الإلهي بلا مهل و لا تخلف فليس الأمر بحيث يعطل أو يتأخر عن الوقوع، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ: يس: ٨٢ فالمستفاد من الآية نظرا إلى هذا المعنى أنهم في فزع حتى إذا أزيل فزعهم بصدور الأمر الإلهي.

و قوله: ﴿قَالُوا مَا ذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا اَلْحَقَّ يدل على أنهم طوائف كثيرون يسأل بعضهم بعضا عن الأمر الإلهي بعد صدوره و انكشاف الفزع عن قلوب السائلين.

و يتبين منه أن كشف الفزع و نزول الأمر إلى بعضهم أسبق منه إلى بعض آخر فإن لازم السؤال أن يكون المسئول عالما بما سئل عنه قبل السائل.

فلهم مراتب مختلفة و مقامات متفاوتة بعضها فوق بعض تتلقى الدانية منها الأمر الإلهي من العالية من غير تخلف و لا مهلة و هو طاعة الداني منهم للعالي، كما يستفاد ذلك أيضا بالتدبر في قوله تعالى: ﴿وَ مَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ: الصافات: ١٦٤ و قوله في وصف الروح الأمين: ﴿ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي اَلْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ : التكوير: ٢١.

فبينهم مطاع و مطيع و لا طاعة مع ذلك إلا لله سبحانه لأن المطاع منهم لا شأن له إلا إيصال ما وصل إليه من الأمر الإلهي إلى مطيعه الذي دونه، و يمكن أن يستفاد ذلك من توصيف القول بالحق في قوله: ﴿قَالُوا مَا ذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا اَلْحَقَّ أي قال

 

 

 القول الثابت الذي لا سبيل للبطلان و التبدل إليه.

و ما ألطف ختم الآية بقوله تعالى: ﴿وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ أي هو العلي الذي دونه كل شي‏ء و الكبير الذي يصغر عنده كل شي‏ء فليس للملائكة المكرمين إلا تلقي قوله الحق و امتثاله و طاعته كما يريد.

فقد تحصل من الآية الكريمة أن الملائكة فزعون في أنفسهم متذللون في ذواتهم ذاهلون عن كل شي‏ء إلا عن ربهم محدقون إلى ساحة العظمة و الكبرياء في انتظار صدور الأمر حتى يكشف عن قلوبهم الفزع، بصدور الأمر و نزوله و هم مع ذلك طوائف مختلفة ذووا مقامات متفاوتة علوا و دنوا يتوسط كل عال في إيصال الأمر النازل إلى من هو دونه.

فهم مع كونهم شفعاء و أسبابا متوسطة لا يشفعون و لا يتوسطون في حدوث حادث من حوادث الخلق و التدبير إلا بإذن خاص من ربهم في حدوثه فيتحملون الأمر النازل إليهم حتى يحققوه في الكون من غير أن يستقلوا من أنفسهم في شي‏ء أو يستبدوا برأي، و من كان هذا شأنه لا يشعر بشي‏ء إلا طاعة ربه فيما يأمره به كيف يكون ربا مستقلا في أمره مفوضا إليه التدبير يعطي ما يشاء و يمنع ما يشاء؟ و في الآية أقوال مختلفة أخر:

منها: أن ضمير ﴿قُلُوبِهِمْ و ﴿قَالُوا الثاني للمشركين دون الملائكة و ضمير ﴿قَالُوا الأول للملائكة و المعنى: حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين وقت الفزع قالت الملائكة لهم: ما ذا قال ربكم؟ قالت المشركون لهم: الحق فيعترفون بما أنكروه في الدنيا.

و منها: أن ضمير ﴿قُلُوبِهِمْ للملائكة و المراد أن الملائكة الموكلين بالأعمال إذا صعدوا بأعمال العباد إلى السماء و لهم زجل و صوت عظيم خشيت الملائكة أنها الساعة فيفزعون و يخرون سجدا لله سبحانه حتى إذا كشف عن قلوبهم الفزع و علموا أنه ليس الأمر كذلك فسألوا ما ذا قال ربكم؟ قالوا: الحق.

و منها: أن الله لما بعث النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعد فترة بينه و بين عيسى (عليه السلام) لم ينزل فيها شي‏ء من الوحي أنزل الله سبحانه جبريل بالوحي فلما نزل ظنت الملائكة أنه

 

 

 نزل بشي‏ء من أمر الساعة فصعقوا لذلك فجعل جبريل يمر بكل سماء و يكشف الفزع عن الملائكة الساكنين فيها فرفعوا رءوسهم و قال بعضهم لبعض: ما ذا قال ربكم؟ قالوا:

الحق أي الوحي.

و منها: أن الضمير للملائكة و المراد أن الله سبحانه إذا أوحى إلى بعض الملائكة غشي على الملائكة عند سماع الوحي و يصعقون و يخرون سجدا للآية العظيمة فإذا فزع عن قلوبهم سألت الملائكة ذلك الملك الذي أوحي إليه ما ذا قال ربك؟ أو سأل بعضهم بعضا ما ذا قال ربكم؟ فيعلمون أن الأمر في غيرهم.

و أنت بعد التدبر في الآية الكريمة و التأمل فيما قدمناه تعلم وجه الضعف في هذه الأقوال و أن شيئا منها على تقدير صحته في نفسه لا يصلح تفسيرا لها.

قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ قُلِ اَللَّهُ إلخ، احتجاج آخر على المشركين من جهة الرزق الذي هو الملاك العمدة في اتخاذهم الآلهة فإنهم يتعللون في عبادتهم الآلهة بأنها ترضيهم فيوسعون لهم في رزقهم فيسعدون بذلك.

فأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يسألهم من يرزقهم من السماوات و الأرض؟ و الجواب عنه أنه الله سبحانه لأن الرزق خلق في نفسه و لا خالق حتى عند المشركين إلا الله عز اسمه لكنهم يستنكفون عن الاعتراف به بألسنتهم و إن أذعنت به قلوبهم و لذلك أمر أن ينوبهم في الجواب فقال: ﴿قُلِ اَللَّهُ.

و قوله: ﴿وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى‏َ هُدىً أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ، تتمة قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هذا القول بعد إلقاء الحجة القاطعة و وضوح الحق في مسألة الألوهية مبني على سلوك طريق الإنصاف، و مفاده أن كل قول إما هدى أو ضلال لا ثالث لهما نفيا و إثباتا و نحن و أنتم على قولين مختلفين لا يجتمعان فإما أن نكون نحن على هدى و أنتم في ضلال و إما أن تكونوا أنتم على هدى و نحن في ضلال فانظروا بعين الإنصاف إلى ما ألقي إليكم من الحجة و ميزوا المهدي من الضال و المحق من المبطل.

و اختلاف التعبير في قوليه: ﴿لَعَلى‏َ هُدىً و ﴿فِي ضَلاَلٍ بلفظة على و في كما قيل للإشارة إلى أن المهتدي كأنه مستعل على منار يتطلع على السبيل و غايتها التي فيها سعادته، و الضال منغمر في ظلمة لا يدري أين يضع قدمه و إلى أين يسير

 

 

 و ما ذا يراد به؟.

قوله تعالى: ﴿قُلْ لاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَ لاَ نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ أي إن العمل و خاصة عمل الشر لا يتعدى عن عامله و لا يلحق وباله إلا به فلا يسأل عنه غيره فلا تسألون عما أجرمنا بل نحن المسئولون عنه و لا نسأل عما تعملون بل أنتم المسئولون.

و هذا تمهيد لما في الآية التالية من حديث الجمع و الفتح فإن الطائفتين إذا اختلفا في الأعمال خيرا و شرا كان من الواجب أن يفتح بينهما و يتميز كل من الأخرى حتى يلحق به جزاء عمله من خير أو شر أو سعادة أو شقاء و الذي يفتح و يميز هو الرب تعالى.

و في التعبير عن عمل أنفسهم بالإجرام و في ناحية المشركين بقوله: ﴿تَعْمَلُونَ و لم يقل تجرمون أخذ بحسن الأدب في المناظرة.

قوله تعالى: ﴿قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَ هُوَ اَلْفَتَّاحُ اَلْعَلِيمُ لما كان من الواجب أن يلحق بكل من المحسن و المسي‏ء جزاء عمله و كان لازمه التمييز بينهما بالجمع ثم الفرق كان ذلك شأن مدبر الأمر و هو الرب أمر نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم)أن يذكرهم أن الذي يجمع بين الجميع ثم يفتح بينهم بالحق هو الله، فهو رب هؤلاء و أولئك فإنه هو الفتاح العليم يفتح بين كل شيئين بالخلق و التدبير فيتميز بذلك الشي‏ء من الشي‏ء كما قال: ﴿أَنَّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا: الأنبياء: ٣٠ و هو العليم بكل شي‏ء.

فالآية تثبت البعث لتمييز المحسن من المسي‏ء أولا ثم انحصار التمييز و الجزاء في جانبه تعالى بانحصار الربوبية فيه و يبطل بذلك ربوبية من اتخذوه من الأرباب.

و الفتاح من أسماء الله الحسنى و الفتح‏ إيجاد الفصل بين شيئين لفائدة تترتب عليه كفتح الباب للدخول بإيجاد الفصل بين مصراعيه و الفتح بين الشيئين ليتميز كل منهما عن الآخر بذاته و صفاته و أفعاله.

قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرُونِيَ اَلَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اَللَّهُ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ أمر آخر للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يسألهم أن يروه آلهتهم حتى يختبر هل فيهم الصفات الضرورية للإله المستحق للعبادة من الاستقلال بالحياة و العلم و القدرة و السمع و البصر؟ و هذا معنى قوله: ﴿أَرُونِيَ اَلَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ أي ألحقتموهم به شركاء له.

 

 

ثم ردع بنفسه و قال: كلا لا يكونون شركاء له لأنهم إما أن يروه الأصنام بما أنها معبودة لهم معدودة آلهتهم و هي أجسام ميتة خالية عن الحياة و العلم و القدرة و إما أن يروه أرباب هذه الأصنام و هم الملائكة و غيرهم بجعل الأصنام تماثيل مشيرة إليهم و هم و إن لم يخلوا عن حياة و علم و قدرة إلا أن ما لهم من صفات الكمال مفاضة عليهم من الله سبحانه لا استقلال لهم في شي‏ء من هذه الصفات و لا في الأفعال المتفرعة عليها فأين الاستقلال في التدبير الذي يدعون أنه مفوض إليهم فالوجود الواجبي بكماله اللامتناهي يمنع أن يكون في خلقه من يشاركه في شي‏ء من كماله.

اللهم إلا أن يدعوا أنه شاركهم في بعض ما له من الشئون لتدبير خلقه من غير صلاحية لهم ذاتية و هذا ينافي حكمته تعالى.

و قد أشير إلى هذه الحجة بقوله: ﴿بَلْ هُوَ اَللَّهُ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ فإن عزته تعالى و هو منع جانبه أن يعدو إلى حريم كماله عاد لكونه لا يحد بحد تمنع أن يشاركه في شي‏ء من صفات كماله كالربوبية و الألوهية المنتهيتين إلى الذات أحد غيره هذا لو كانت الشركة عن صلاحية ذاتية من الشريك و لو كانت عن إرادة جزافية منه من غير صلاحية حقيقة من الشريك فالحكمة الإلهية تمنع ذلك.

و قد تبين بذلك أن الآية متضمنة لحجة قاطعة برهانية فأحسن التدبر فيها.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ قال الراغب في المفردات:، الكف‏ كف الإنسان و هي ما بها يقبض و يبسط و كففته أصبت كفه، و كففته أصبته بالكف و دفعته بها و تعورف الكف بالدفع على أي وجه كان بالكف كان أو غيرها حتى قيل: رجل مكفوف لمن قبض بصره، و قوله: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ أي كافا لهم عن المعاصي و الهاء فيه للمبالغة كقولهم:

راوية و علامة و نسابة. انتهى.

و يؤيد هذا المعنى توصيفه (ص) بالبشير و النذير، فقوله: ﴿بَشِيراً وَ نَذِيراً حالان يبينان صفته لقوله: ﴿كَافَّةً لِلنَّاسِ.

و ربما قيل: إن التقدير و ما أرسلناك إلا إرساله كافة للناس و لا يخلو من تكلف و بعد. و

 

 

 أما كون كافة بمعنى جميعا و حالا من الناس، و المعنى: و ما أرسلناك إلا للناس جميعا فهم يمنعون عن تقدم الحال على صاحبه المجرور.

و اعلم أن منطوق الآية و إن كان راجعا إلى النبوة و فيها انتقال من الكلام في التوحيد إلى الكلام في النبوة على حد الآيات التالية، لكن في مدلولها حجة أخرى على التوحيد و ذلك أن الرسالة من لوازم الربوبية التي شأنها تدبير الناس في طريق سعادتهم و مسيرهم إلى غايات وجودهم فعموم رسالته (ص) و هو رسول الله تعالى لا رسول غيره دليل على أن الربوبية منحصرة في الله سبحانه فلو كان هناك رب غيره لجاءهم رسوله و لم يعم رسالة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو عمتهم و احتاجوا معه إلى غيره، و هذا معنى قول علي (عليه السلام) - على ما روي - لو كان لربك شريك لأتتك رسله.

و يؤيده ما في ذيل الآية من قوله: ﴿وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ فإن دالة انحصار الرسالة في رسل الله على انحصار الربوبية في الله عز اسمه أمس بجهل الناس من كونه (ص) رسولا كافا لهم عن المعاصي بشيرا و نذيرا.

فمفاد الآية على هذا: لا يمكنهم أن يروك شريكا له و الحال أنا لم نرسلك إلا كافا لجميع الناس بشيرا و نذيرا و لو كان لهم إله غيرنا لم يسع لنا أن نرسلك إليهم و هم عباد لإله آخر و الله أعلم.

قوله تعالى: ﴿وَ يَقُولُونَ مَتى‏َ هَذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ سؤال عن وقت الجمع و الفتح و هو البعث فالآية متصلة بقوله السابق: ﴿قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا الآية، و هذا أيضا من شواهد ما قدمنا من المعنى لقوله: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً و إلا كانت هذه الآية و التي بعدها متخللتين بين قوله: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ الآية، و الآيات التالية المتعرضة لمسألة النبوة.

قوله تعالى: ﴿قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لاَ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَ لاَ تَسْتَقْدِمُونَ أمر منه تعالى أن يجيبهم بأن لهم ميعاد يوم مقضي محتوم لا يتخلف عن الوقوع فهو واقع قطعا و لا يختلف وقت وقوعه البتة أي إن الله وعد به وعدا لا يخلفه إلا أن وقت وقوعه مستور لا يعلمه إلا الله سبحانه.

 

 

 و ما قيل: إن المراد به يوم الموت غير سديد فإنهم لم يسألوا إلا عما تقدم وعده و هو يوم الجمع و الفتح و الجمع ثم الفتح من خصائص يوم القيامة دون يوم الموت.

(بحث روائي)

 في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَا ذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا اَلْحَقَّ وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ و ذلك أن أهل السماوات لم يسمعوا وحيا فيما بين أن بعث عيسى بن مريم إلى أن بعث محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) ، فلما بعث الله جبرئيل إلى محمد سمع أهل السماوات صوت وحي القرآن كوقع الحديد على الصفا فصعق أهل السماوات .

فلما فرغ عن الوحي انحدر جبرئيل كلما مر بأهل سماء فزع عن قلوبهم يقول:

كشف عن قلوبهم، فقال بعض لبعض: ما ذا قال ربكم؟ قالوا: الحق و هو العلي الكبير:

أقول: و روي مثله من طرق أهل السنة موصولا و موقوفا عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و مدلول الرواية على أي حال مصداق من مصاديق الآية و لا تصلح لتفسيرها البتة.

 و في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن ابن عباس و في المجمع عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي. بعثت إلى الناس كافة الأحمر و الأسود و إنما كان النبي يبعث إلى قومه، و نصرت بالرعب يرعب مني عدوي على مسيرة شهر، و أطعمت المغنم، و جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا، و أعطيت الشفاعة فادخرتها لأمتي إلى يوم القيامة و هي إن شاء الله نائلة من لا يشرك بالله شيئا. أقول: و روي أيضا هذا المعنى عن ابن المنذر عن أبي هريرة عنه (ص).

و الرواية معارضة لما ورد مستفيضا أن نوحا كان مبعوثا إلى الناس كافة و ذكر في بعضها إبراهيم (عليه السلام) و في بعضها أن أولي العزم كلهم مبعوثون إلى الدنيا كافة، و تخالف أيضا عموم الشفاعة للأنبياء المستفاد من عدة من الروايات و قد قال تعالى:

﴿وَ لاَ يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ: الزخرف:

 ٨٦ و قد شهد القرآن بأن المسيح (عليه السلام) من الشهداء قال تعالى: ﴿وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً: النساء: ١٥٩.

 

 

 و الروايات من طرق العامة و الخاصة كثيرة في عموم رسالته للناس كافة و ظاهر كثير منها أخذ ﴿كَافَّةً في قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ حالا من ﴿لِلنَّاسِ قدم عليه و يمنعه البصريون من النحاة و يجوزه الكوفيون.

[سورة سبإ (٣٤): الآیات ٣١ الی ٥٤]

﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا اَلْقُرْآنِ وَ لاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لَوْ تَرىَ إِذِ اَلظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى‏ بَعْضٍ اَلْقَوْلَ يَقُولُ اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا لَوْ لاَ أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ٣١ قَالَ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا أَ نَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ اَلْهُدى‏ بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ ٣٢ وَ قَالَ اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ نَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً وَ أَسَرُّوا اَلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا اَلْعَذَابَ وَ جَعَلْنَا اَلْأَغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ٣٣ وَ مَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ٣٤ وَ قَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَ أَوْلاَداً وَ مَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ٣٥ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَقْدِرُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ٣٦ وَ مَا أَمْوَالُكُمْ وَ لاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفى‏ إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ

 

 

لَهُمْ جَزَاءُ اَلضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَ هُمْ فِي اَلْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ٣٧ وَ اَلَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي اَلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ٣٨ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ وَ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَ هُوَ خَيْرُ اَلرَّازِقِينَ ٣٩ وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَ هَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ٤٠ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اَلْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ٤١ فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَ لاَ ضَرًّا وَ نَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ اَلنَّارِ اَلَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ٤٢ وَ إِذَا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ ٤٣ وَ مَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَ مَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ٤٤ وَ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ مَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ٤٥ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى‏ وَ فُرَادى‏ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ٤٦ قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اَللَّهِ وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ ٤٧ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ اَلْغُيُوبِ ٤٨ قُلْ جَاءَ اَلْحَقُّ وَ مَا يُبْدِئُ اَلْبَاطِلُ وَ مَا يُعِيدُ ٤٩ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلى‏ نَفْسِي وَ إِنِ اِهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ٥٠ وَ لَوْ تَرى‏ إِذْ فَزِعُوا فَلاَ فَوْتَ وَ أُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ٥١ وَ قَالُوا آمَنَّا بِهِ وَ أَنَّى لَهُمُ اَلتَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ٥٢ وَ قَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ٥٣ وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ ٥٤

 

 

﴿لَهُمْ جَزَاءُ اَلضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَ هُمْ فِي اَلْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ٣٧ وَ اَلَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي اَلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ٣٨ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ وَ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَ هُوَ خَيْرُ اَلرَّازِقِينَ ٣٩ وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَ هَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ٤٠ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اَلْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ٤١ فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَ لاَ ضَرًّا وَ نَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ اَلنَّارِ اَلَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ٤٢ وَ إِذَا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ ٤٣ وَ مَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَ مَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ٤٤ وَ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ مَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ٤٥ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى‏ وَ فُرَادى‏ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ٤٦ قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اَللَّهِ وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ ٤٧ قُلْ إِنَّ

 

 

رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ اَلْغُيُوبِ ٤٨ قُلْ جَاءَ اَلْحَقُّ وَ مَا يُبْدِئُ اَلْبَاطِلُ وَ مَا يُعِيدُ ٤٩ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلى‏َ نَفْسِي وَ إِنِ اِهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ٥٠ وَ لَوْ تَرى‏ إِذْ فَزِعُوا فَلاَ فَوْتَ وَ أُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ٥١ وَ قَالُوا آمَنَّا بِهِ وَ أَنَّى لَهُمُ اَلتَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ٥٢ وَ قَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ٥٣ وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ ٥٤

(بيان)

فصل آخر من آيات السورة تتكلم في أمر النبوة و ما يرجع إليها و ما يقول المشركون فيها و تتخلص في خلالها بما يجري عليهم يوم الموت أو يوم القيامة، و قد اتصلت بقوله في الفصل السابق: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ الآية، و قد عرفت أن الآية كالبرزخ بين الفصلين تذكر الرسالة و تجعلها دليلا على التوحيد.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا اَلْقُرْآنِ وَ لاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ المراد بالذين كفروا المشركون و المراد بالذي بين يديه الكتب السماوية من التوراة و الإنجيل و ذلك أن المشركين و هم الوثنيون ليسوا قائلين بالنبوة و يتبعها الكتاب السماوي.

و قول بعضهم: إن المراد بالذي بين يديه هو أمر الآخرة مما لا دليل يساعده، و قد أكثر القرآن الكريم من التعبير عن التوراة و الإنجيل بالذي بين يديه، و من الخطإ قول بعضهم: إن المراد بالذين كفروا هم اليهود.

 

 

قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ تَرى‏َ إِذِ اَلظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ إلخ، الظاهر أن اللام في ﴿اَلظَّالِمُونَ للعهد، و هذه الآية و الآيتان بعدها تشير إلى أن وبال هذا الكفر و أساسه ضلال أئمة الكفر و إضلالهم تابعيهم سيلحق بهم و سيندمون عليه و لن ينفعهم الندم.

فقوله: ﴿وَ لَوْ تَرى‏َ خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إذ هم بمعزل عن فهم الخطاب ﴿إِذِ اَلظَّالِمُونَ و هم الكافرون بكتب الله و رسله، الذين ظلموا أنفسهم بالكفر ﴿مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ للحساب و الجزاء يوم القيامة ﴿يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى‏َ بَعْضٍ اَلْقَوْلَ أي يتحاورون و يتراجعون في الكلام متخاصمين ﴿يَقُولُ اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا بيان لرجوع بعضهم إلى بعض في القول و المستضعفون الأتباع الذين استضعفتهم المتبوعون ﴿لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا و هم الأئمة القادة ﴿لَوْ لاَ أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ يريدون أنكم أجبرتمونا على الكفر و حلتم بيننا و بين الإيمان.

﴿قَالَ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا جوابا عن قولهم و ردا لما اتهموهم به من الإجبار و الإكراه ﴿أَ نَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ الاستفهام للإنكار أي أ نحن صرفناكم ﴿عَنِ اَلْهُدى‏َ بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ فبلوغه إليكم بالدعوة النبوية أقوى الدليل على أنا لم نحل بينه و بينكم و كنتم مختارين في الإيمان به و الكفر ﴿بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ متلبسين بالإجرام مستمرين عليه فأجرمتم بالكفر به لما جاءكم من غير أن نجبركم عليه فكفركم منكم و نحن برآء منه.

﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا ردا لقولهم و دعواهم البراءة ﴿بَلْ مَكْرُ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ أي مكركم بالليل و النهار حملنا على الكفر ﴿إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ نَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً و أمثالا من الآلهة أي أنكم لم تزالوا في الدنيا تمكرون الليل و النهار و تخطون الخطط لتستضعفونا و تتآمروا علينا فتحملونا على طاعتكم فيما تريدون، فلم نشعر إلا و نحن مضطرون على الائتمار بأمركم إذ تأمروننا بالكفر و الشرك.

﴿وَ أَسَرُّوا و أخفوا ﴿اَلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا اَلْعَذَابَ و شاهدوا أن لا مناص، و إخفاؤهم الندامة يوم القيامة و هو يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شي‏ء نظير كذبهم على الله و إنكارهم الشرك بالله و حلفهم لله كان بين كل ذلك من قبيل ظهور

 

 

 ملكاتهم الرذيلة التي رسخت في نفوسهم فقد كانوا يسرون الندامة في الدنيا خوفا من شماتة الأعداء و كذلك يفعلون يوم القيامة مع ظهور ما أسروا و اليوم يوم تبلى السرائر كما يكذبون بمقتضى ملكة الكذب مع ظهور أنهم كاذبون في قولهم.

ثم ذكر سبحانه أخذهم للعذاب فقال: ﴿وَ جَعَلْنَا اَلْأَغْلاَلَ السلاسل ﴿فِي أَعْنَاقِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فصارت أعمالهم أغلالا في أعناقهم تحبسهم في العذاب.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ المترفون‏ اسم مفعول من الإتراف و هو الزيادة في التنعيم، و فيه إشعار بأن الإتراف يفضي إلى الاستكبار على الحق كما تفيده الآية اللاحقة.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَ أَوْلاَداً وَ مَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ضمير الجمع للمترفين، و من شأن الإتراف و الترفه و التقلب في نعم الدنيا أن يتعلق قلب الإنسان بها و يستعظمها فيرى السعادة فيها سواء وافق الحق أم خالفه فلا يذكر إلا ظاهر الحياة و ينسى ما وراءه.

و لذا حكى سبحانه عنهم ذلك إذ قالوا: ﴿نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَ أَوْلاَداً فلا سعادة إلا فيها و لا شقوة معها ﴿وَ مَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ في آخرة، و لم ينفوا العذاب إلا للغفلة و الانصراف عما وراء كثرة الأموال و الأولاد فإذ كانت هي السعادة و الفلاح فحسب فالعذاب في فقدها و لا عذاب معها.

و هاهنا وجه آخر و هو أنهم لغرورهم بما رزقوا به من المال و الولد ظنوا أن لهم كرامة على الله سبحانه و هم على كرامتهم عليهم ما داموا، و المعنى: أنا ذوو كرامة على الله بما أوتينا من كثرة الأموال و الأولاد و نحن على كرامتنا فما نحن بمعذبين لو كان هناك عذاب.

فتكون الآية في معنى قوله: ﴿وَ لَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَ مَا أَظُنُّ اَلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى‏َ رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى‏َ حم السجدة: ٥٠ قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَقْدِرُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ

 

 

 لاَ يَعْلَمُونَ الآية و ما يتلوها إلى تمام أربع آيات جواب عن قولهم: ﴿نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً إلخ، و قد أجيب عنه بوجهين أحدهما أن أمر الرزق من الأموال و الأولاد سعة و ضيقا بيد الله على ما تستدعيه الحكمة و المصلحة و هيأ من الأسباب لا بمشية الإنسان و لا لكرامة له على الله فربما بسط في رزق مؤمن أو كافر أو عاقل ذي حزم أو أحمق خفيف العقل، و ربما بسط على واحد ثم قدر له. فلا دلالة في الإتراف على سعادة أو كرامة.

و هذا معنى قوله: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي نسبه إلى نفسه لأنهم لم يكونوا يرون الله ربا لأنفسهم و الرزق من شئون الربوبية ﴿يَبْسُطُ أي يوسع ﴿اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ من عباده بحسب الحكمة و المصلحة ﴿وَ يَقْدِرُ أي يضيق ﴿وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ فينسبونه ما لم يؤتوه إلى الأسباب الظاهرية الاتفاقية ثم إذا أوتوه نسبوه إلى حزمهم و حسن تدبيرهم أنفسهم و كفى به دليلا على الحمق.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَمْوَالُكُمْ وَ لاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفى‏َ إلى آخر الآيتين هذا هو الجواب الثاني عن قولهم: ﴿نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَ أَوْلاَداً وَ مَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ و محصله أن انتفاء العذاب المترتب على القرب من الله لا يترتب على الأموال و الأولاد إذ لا توجب الأموال و الأولاد قربا و زلفى من الله حتى ينتفي معها العذاب الإلهي فوضع تقريب المال في الآية موضع انتفاء العذاب من قبيل وضع السبب موضع المسبب.

و هذا معنى قوله: ﴿وَ مَا أَمْوَالُكُمْ وَ لاَ أَوْلاَدُكُمْ التي تعتمدون عليها في السعادة و انتفاء عذاب الله ﴿بِالَّتِي أي بالجماعة التي ﴿تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفى‏َ أي تقريبا.

﴿إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً في ماله و ولده بأن أنفق من أمواله في سبيل الله و بث الإيمان و العمل الصالح في أولاده بتربية دينية ﴿فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ اَلضِّعْفِ لعله من إضافة الموصوف إلى الصفة أي الجزاء المضاعف من جهة أنهم اهتدوا و هدوا و أيضا من جهة تضعيف الحسنات إلى عشر أضعافها و زيادة ﴿وَ هُمْ فِي اَلْغُرُفَاتِ أي في القباب العالية ﴿آمِنُونَ من العذاب فما هم بمعذبين.

﴿وَ اَلَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أي يجدون في آياتنا و هم يريدون أن يعجزونا أو أن يسبقونا ﴿أُولَئِكَ فِي اَلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ و إن كثرت أموالهم و أولادهم.

 

 

 و في قوله: ﴿وَ مَا أَمْوَالُكُمْ وَ لاَ أَوْلاَدُكُمْ إلخ، انتقال إلى خطاب عامة الناس من الكفار و غيرهم و الوجه فيه أن ما ذكره من الحكم حكم الأموال و الأولاد سواء في ذلك المؤمن و الكافر فالمال و الولد إنما يؤثران أثرهما الجميل إذا كان هناك إيمان و عمل صالح فيهما و إلا فلا يزيدان إلا وبالا.

قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ وَ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَ هُوَ خَيْرُ اَلرَّازِقِينَ قال في مجمع البيان،: يقال: أخلف‏ الله له و عليه إذا أبدل له ما ذهب عنه. انتهى.

سياق الآية يدل على أن المراد بالإنفاق فيها الإنفاق في وجوه البر و المراد بيان أن هذا النحو من الإنفاق لا يضيع عند الله بل يخلفه و يرزق بدله.

فقوله في صدر الآية: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ يَقْدِرُ للإشارة إلى أن أمر الرزق في سعته و ضيقه إلى الله سبحانه لا ينقص بالإنفاق و لا يزيد بالإمساك ثم قال: ﴿وَ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ قليلا كان أو كثيرا و أيا ما كان من المال ﴿فَهُوَ يُخْلِفُهُ و يرزقكم بدله إما في الدنيا و إما في الآخرة ﴿وَ هُوَ خَيْرُ اَلرَّازِقِينَ فإنه يرزق جودا و رزق غيره معاملة في الحقيقة و معاوضة، و لأنه الرازق في الحقيقة و غيره ممن يسمى رازقا واسطة لوصول الرزق.

قوله تعالى: ﴿وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَ هَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ المراد بهم جميعا بشهادة السياق العابدون و المعبودون جميعا.

و قوله: ﴿ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَ هَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ليس سؤال استخبار عن أصل عبادتهم لهم و لو كان كذلك لم يسعهم إنكارها لأنهم عبدوهم في الدنيا و قد أنكروها كما في الآية بل المراد السؤال عن رضاهم بعبادتهم على حد قوله تعالى لعيسى بن مريم: ﴿أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللَّهِ.

و الغرض من السؤال تبكيت المشركين و إقناطهم من نصرة الملائكة و شفاعتهم لهم و قد عبدوهم في الدنيا لذلك.

 

 

 قوله تعالى: ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اَلْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ أخذت الملائكة في جوابهم عن سؤاله تعالى بجوامع الأدب فنزهوه سبحانه أولا تنزيها مطلقا فيه تنزيهه من أن يعبدوا من دونه ثم نفوا رضاهم بعبادة المشركين لهم لكن لا بالتصريح بنفي الرضا بالعبادة و لا بالتفوه بعبادتهم صونا لساحة المخاطبة عما يقرع السمع بذلك، و لو تصورا لا تصديقا بل أجابوا بقصر ولايتهم فيه تعالى و نفيها عنهم ليدل على نفي الرضا بعبادتهم لهم على طريق الكناية فإن الرضا بعبادتهم لازمه الموالاة بينهم، و الموالاة بينهم تنافي قصر الولاية في الله سبحانه فإذا انحصرت الولاية فيه تعالى لم تكن موالاة و إذا لم تكن موالاة لم يكن رضا.

ثم قالوا على ما حكاه الله سبحانه: ﴿بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اَلْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ و الجن هم الطائفة الثانية من الطوائف الثلاث التي يعبدهم الوثنيون و هم الملائكة و الجن و القديسون من البشر، و الأقدم في استحقاق العبادة عندهم هم الطائفتان الأوليان و الطائفة الثالثة ملحقة بهما بعد الكمال و إن كانوا أفضل منهما.

و الإضراب في قولهم: ﴿بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اَلْجِنَّ يدل على أن الجن كانوا على رضى من عبادتهم لهم.

و هؤلاء من الجن هم الذين يعدهم الوثنيون مبادئ الشرور في العالم فيعبدونهم اتقاء من شرورهم كما يعبدون الملائكة طمعا في خيراتهم لما أنهم مباد للخيرات لا كما قيل: إن المراد بالجن إبليس و ذريته و قبيله و معنى عبادتهم لهم طاعتهم فيما دعوهم إليه من عبادة الملائكة أو مطلق المعاصي، و يرده ما وقع في الآية من التعبير بلفظ الإيمان دون الطاعة و لا ما قيل: إنهم كانوا يتمثلون لهم و يخيلون لهم أنهم الملائكة فيعبدونهم و لا ما قيل: إنهم كانوا يدخلون أجواف الأصنام إذا عبدت فيعبدون بعبادتها.

و لعل الوجه في نسبة الإيمان بهم إلى أكثرهم دون جميعهم أن أكثرهم يعبدون الآلهة اتقاء من طروق الشر من قبلهم، و مبادئ الشر عندهم مطلقا الجن لا كما قيل: إن المراد بالأكثر الكل، و هو مبني على تفسير العبادة بمعنى الطاعة و قد عرفت ما فيه.

قوله تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَ لاَ ضَرًّا وَ نَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا

 

 

 ذُوقُوا عَذَابَ اَلنَّارِ اَلَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ نوع تفريع على تبري الملائكة منهم و قد بين تبري عامة المتبوعين من تابعيهم و التابعين من متبوعيهم في مواضع كقوله تعالى: ﴿وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ: فاطر: ١٤ و قوله: ﴿ثُمَّ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً: العنكبوت: ٢٥. و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا تُتْلى‏َ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ إلخ، خطابهم هذا لعامتهم بعد استماع الآيات تنبيه لهم على الجد في التمسك بدين آبائهم و تحريض لهم عليه (ص)، و في توصيف الآيات بالبينات نوع عتبى كأنه قيل: إذا تتلى عليهم هذه الآيات و هي بينة لا ريب فيها فبدلا من أن يدعوا عامتهم إلى اتباعها حثوهم على الإصرار على تقليد آبائهم و حرضوهم عليه - و في إضافة الآباء إلى ضمير ﴿يَصُدَّكُمْ مبالغة في التحريض و الإثارة.

و قوله: ﴿وَ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً معطوف على ﴿قَالُوا أي و قالوا مشيرا إلى الآيات البينات إشارة تحقير ليس هذا إلا كلاما مصروفا عن وجهه مكذوبا به على الله، بدلا من أن يقولوا: إنها آيات بينات نازلة من عند الله تعالى و قد أشاروا إلى الآيات البينات بهذا دلالة على أنهم لم يفهموا منها إلا أنها شي‏ء ما لا أزيد من ذلك.

ثم غير سبحانه السياق و قال: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ و مجي‏ء الحق لهم بلوغه و ظهوره لهم، و الأخذ بوصف الكفر للإشعار بالتعليل و المعنى: و الذين كفروا بعثهم الكفر إلى أن يقولوا للحق الصريح الذي بلغهم و ظهر لهم هذا سحر ظاهر سحريته و بطلانه.

و أكد إصرارهم على دحض الحق باتباع الهوى من غير دليل يدل عليه بقوله:

﴿وَ مَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَ مَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ و الجملة حالية أي و عد الذين كفروا - أي كفار قريش - الحق الصريح الظاهر لهم سحرا مبينا و الحال أنا لم نعطهم كتبا يدرسونها حتى يميزوا بها الحق من الباطل و لم نرسل إليهم قبلك من رسول ينذرهم و يبين لهم ذلك فيقولوا استنادا إلى الكتاب الإلهي أو إلى قول الرسول النذير: إنه حق أو باطل.

 

 

قوله تعالى: ﴿وَ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ مَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ضميرا الجمع الأول و الثاني لكفار قريش و من يتلوهم و الثالث و الرابع للذين من قبلهم، و المعشار العشر و النكير الإنكار، و المراد به في الآية لازمه و هو الأخذ بالعذاب.

و المعنى: و كذب بالحق من الآيات الذين كانوا من قبل كفار قريش من الأمم الماضية و لم يبلغ كفار قريش عشر ما آتيناهم من القوة و الشدة فكذب أولئك الأقوام رسلي فكيف كان أخذي بالعذاب و ما أهون أمر قريش. و الالتفات في الآية إلى التكلم لاستعظام الجرم و تهويل المؤاخذة.

قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى‏َ وَ فُرَادى‏َ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ المراد بالموعظة الوصية كناية أو تضمينا، و قوله: ﴿أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ أي تنهضوا لأجل الله و لوجهه الكريم، و قوله‏﴿ مَثْنى‏َ وَ فُرَادى‏َ أي اثنين اثنين و واحدا واحدا كناية عن التفرق و تجنب التجمع و الغوغاء فإن الغوغاء لا شعور لها و لا فكر و كثيرا ما تميت الحق و تحيي الباطل.

و قوله: ﴿مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ استئناف ﴿إِنَّمَا نافية و يشهد بذلك قوله بعد:

﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ و يمكن أن يكون ﴿إِنَّمَا استفهامية أو موصولة و ﴿مِنْ جِنَّةٍ بيانا له.

و المراد بصاحبكم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) نفسه و الوجه في التعبير به تذكرتهم بصحبته الممتدة لهم أربعين سنة من حين ولادته إلى حين بعثته ليتذكروا أنهم لم يعهدوا منه اختلالا في فكر أو خفة في رأي أو أي شي‏ء يوهم أن به جنونا.

و المعنى: قل لهم: إنما أوصيكم بالعظة أن تنهضوا و تنتصبوا لوجه الله متفرقين حتى يصفو فكركم و يستقيم رأيكم اثنين اثنين و واحدا واحدا و تتفكروا في أمري فقد صاحبتكم طول عمري على سداد من الرأي و صدق و أمانة ليس في من جنة. ما أنا إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد في يوم القيامة فأنا ناصح لكم غير خائن.

قوله تعالى: ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إلخ، كناية عن عدم سؤال أجر على الدعوة فإنه إذا وهبهم كما سألهم من أجر فليس له عليهم أجر مسئول

 

 

 و لازمه أن لا يسألهم و هذا تطييب لنفوسهم أن لا يتهموه بأنه جعل الدعوة ذريعة إلى نيل مال أو جاه.

ثم تمم القول بقوله: ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اَللَّهِ وَ هُوَ عَلى‏َ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ لئلا يرد عليه قوله بأنه دعوى غير مسموعة فإن الإنسان لا يروم عملا بغير غاية فدفعه بأن لعملي أجرا لكنه على الله لا عليكم و هو يشهد عملي و هو على كل شي‏ء شهيد.

قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ اَلْغُيُوبِ القذف‏ الرمي، و قوله:

﴿عَلاَّمُ اَلْغُيُوبِ خبر بعد خبر أو خبر لمبتدء محذوف و هو الضمير الراجع إليه تعالى.

و مقتضى سياق الآيات السابقة أن المراد بالحق المقذوف القرآن النازل إليه بالوحي من عنده تعالى الذي هو قول فصل يحق الحق و يبطل الباطل فهو الحق المقذوف إليه (ص) من عند علام الغيوب فيدمغ الباطل و يزهقه، قال تعالى: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ: الأنبياء: ١٨ و قال: ﴿قُلْ جَاءَ اَلْحَقُّ وَ زَهَقَ اَلْبَاطِلُ إِنَّ اَلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً: إسراء: ٨١.

قوله تعالى: ﴿قُلْ جَاءَ اَلْحَقُّ وَ مَا يُبْدِئُ اَلْبَاطِلُ وَ مَا يُعِيدُ المراد بمجي‏ء الحق على ما تهدي إليه الآية السابقة نزول القرآن المبطل بحججه القاطعة و براهينه الساطعة لكل باطل من أصله.

و قوله: ﴿وَ مَا يُبْدِئُ اَلْبَاطِلُ وَ مَا يُعِيدُ أي ما يظهر أمرا ابتدائيا جديدا بعد مجي‏ء الحق و ما يعيد أمرا كان قد أظهره من قبل إظهارا ثانيا بنحو الإعادة فهو كناية عن بطلان الباطل و سقوطه عن الأثر من أصله بالحق الذي هو القرآن.

قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلى‏َ نَفْسِي وَ إِنِ اِهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ بيان لأثر الحق الذي هو الوحي فإنه عرفه حقا مطلقا فالحق إذا كان حقا من كل جهة لم يخطئ في إصابة الواقع في جهة من الجهات و إلا كان باطلا من تلك الجهة فالوحي يهدي و لا يخطئ البتة.

و لذا قال تأكيدا لما تقدم: ﴿قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ و فرض مني ضلال ﴿فَإِنَّمَا أَضِلُّ مستقرا ذلك الضلال ﴿عَلى‏َ نَفْسِي فإن للإنسان من نفسه أن يضل ﴿وَ إِنِ اِهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي فوحيه حق لا يحتمل ضلالا و لا يؤثر إلا الهدى.

 

 

 و قد علل الكلام بقوله: ﴿إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ للدلالة على أنه يسمع الدعوة و لا يحجبه عنها حاجب البعد و قد مهد له قبلا وصفه تعالى في قذف الحق بأنه علام الغيوب فلا يغيب عنه أمر يخل بأمره و يمنع نفوذ مشيته هداية الناس بالوحي قال تعالى: ﴿عَالِمُ اَلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلى‏َ غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ اِرْتَضى‏َ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَ أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى‏َ كُلَّ شَيْ‏ءٍ عَدَداً: الجن: ٢٨.

قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ تَرى‏َ إِذْ فَزِعُوا فَلاَ فَوْتَ وَ أُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ظاهر السياق السابق و يشعر به قوله الآتي: ﴿وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ أن الآيات الأربع وصف حال مشركي قريش و من يلحق بهم حال الموت.

فقوله: ﴿وَ لَوْ تَرى‏َ إِذْ فَزِعُوا أي حين فزع هؤلاء المشركون عند الموت ﴿فَلاَ فَوْتَ أي لا يفوتون الله بهرب أو تحصن أو أي حائل آخر.

و قوله: ﴿وَ أُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ كناية عن عدم فصل بينهم و بين من يأخذهم و قد عبر بقوله: ﴿أُخِذُوا مبنيا للمفعول ليستند الأخذ إليه سبحانه، و قد وصف نفسه بأنه قريب، و كشف عن معنى قربه بقوله: ﴿وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَ لَكِنْ لاَ تُبْصِرُونَ: الواقعة: ٨٥ و أزيد منه في قوله: ﴿مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ: ق: ١٦ و أزيد منه في قوله: ﴿أَنَّ اَللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ: الأنفال: ٢٤ فبين أنه أقرب إلى الإنسان من نفسه و هذا الموقف هو المرصاد الذي ذكره في قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ: الفجر:

 ١٤ فكيف يتصور فوت الإنسان منه و هو أقرب إليه من نفسه؟ أو من ملائكته المكرمين الذين يأخذون الأمر منه تعالى من غير حاجب يحجبهم عنه أو واسط يتوسط بينه و بينهم.

فقوله: ﴿وَ أُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ نوع تمثيل لقربه تعالى من الإنسان بحسب ما نتصوره من معنى القرب لاحتباسنا في سجن الزمان و المكان و أنسنا بالأمور المادية و إلا فالأمر أعظم من ذلك.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا آمَنَّا بِهِ وَ أَنَّى لَهُمُ اَلتَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ التناوش‏ التناول و ضمير ﴿بِهِ للقرآن على ما يعطيه السياق.

و المراد بكونهم في مكان بعيد أنهم في عالم الآخرة و هي دار تعين الجزاء و هي

 

 

 أبعد ما يكون من عالم الدنيا التي هي دار العمل و موطن الاكتساب بالاختيار و قد تبدل الغيب شهادة لهم و الشهادة غيبا كما تشير إليه الآية التالية.

قوله تعالى: ﴿وَ قَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ حال من الضمير في ﴿وَ أَنَّى لَهُمُ اَلتَّنَاوُشُ و المراد بقوله: ﴿وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ رميهم عالم الآخرة و هم في الدنيا بالظنون مع عدم علمهم به و كونه غائبا عن حواسهم إذ كانوا يقولون: لا بعث و لا جنة و لا نار، و قيل: المراد به رميهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالسحر و الكذب و الافتراء و الشعر.

و العناية في إطلاق المكان البعيد على الدنيا بالنسبة إلى الآخرة نظيره إطلاقه على الآخرة بالنسبة إلى الدنيا و قد تقدمت الإشارة إليه.

و معنى الآيتين: و قال المشركون حينما أخذوا آمنا بالحق الذي هو القرآن و أنى لهم تناول الإيمان به إيمانا يفيد النجاة من مكان بعيد و هو الآخرة و الحال أنهم كفروا به من قبل في الدنيا و هم ينفون أمور الآخرة بالظنون و الأوهام من مكان بعيد و هو الدنيا.

قوله تعالى: ﴿وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ ظاهر السياق أن المراد بما يشتهون اللذائذ المادية الدنيوية التي يحال بينهم و بينها بالموت، و المراد بأشياعهم من قبل أشباههم من الأمم الماضية أو موافقوهم في المذهب، و قوله: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ تعليل لقوله: ﴿كَمَا فُعِلَ إلخ.

و المعنى: و وقعت الحيلولة بين المشركين المأخوذين و بين ما يشتهون من ملاذ الدنيا كما فعل ذلك بأشباههم من مشركي الأمم الدارجة من قبلهم إنهم كانوا في شك مريب من الحق أو من الآخرة فيقذفونها بالغيب.

و اعلم أن ما قدمناه من الكلام في هذه الآيات الأربع مبني على ما يعطيه ظاهر السياق و قد استفاضت الروايات من طرق الشيعة و أهل السنة أن الآيات ناظرة إلى خسف جيش السفياني بالبيداء و هو من علائم ظهور المهدي (عليه السلام) المتصلة به فعلى تقدير نزول الآيات في ذلك يكون ما قدمناه من المعنى من باب جري الآيات فيه.

 

 

 (بحث روائي)

في تفسير القمي، ":في قوله تعالى: ﴿وَ أَسَرُّوا اَلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا اَلْعَذَابَ قال:

يسرون الندامة في النار إذا رأوا ولي الله فقيل: يا بن رسول الله و ما يغنيهم أسرارهم الندامة و هم في العذاب؟ قال: يكرهون شماتة الأعداء:.

أقول: و رواه أيضا عن أبي عبد الله (عليه السلام). و فيه،: و ذكر رجل عند أبي عبد الله (عليه السلام) الأغنياء و وقع فيهم فقال أبو عبد الله (عليه السلام): اسكت فإن الغني إذا كان وصولا لرحمه بارا بإخوانه أضعف الله له الأجر ضعفين لأن الله يقول: ﴿وَ مَا أَمْوَالُكُمْ وَ لاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفى‏َ إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ اَلضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَ هُمْ فِي اَلْغُرُفَاتِ آمِنُونَ.

 و في أمالي الشيخ، بإسناده إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث يقول فيه: حتى إذا كان يوم القيامة حسب لهم ثم أعطاهم بكل واحدة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله عز و جل: ﴿جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً و قال: ﴿فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ اَلضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَ هُمْ فِي اَلْغُرُفَاتِ آمِنُونَ.

 و في الكافي، بإسناده عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): من صدق بالخلف جاد بالعطية.

 و فيه، بإسناده عن سماعة عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): من أيقن بالخلف سخت نفسه بالنفقة.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: إن لكل يوم نحسا فادفعوا نحس ذلك اليوم بالصدقة، ثم قال: اقرءوا مواضع الخلف فإني سمعت الله يقول: ﴿وَ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ إذا لم ينفقوا كيف يخلف؟

 و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى:

﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ و ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) سأل قومه أن يودوا أقاربه و لا يؤذوهم. و أما قوله: ﴿فَهُوَ لَكُمْ يقول: ثوابه لكم.

 

 

 و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا الآية،: أخرج الحاكم و صححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): يخرج رجل يقال له السفياني في عمق دمشق و عامة من يتبعه من كلب فيقتل حتى يبقر بطون النساء و يقتل الصبيان فيجمع لهم قيس فيقتلها حتى لا يمنع ذنب تلعة و يخرج رجل من أهل بيتي فيبلغ السفياني فيبعث إليه جندا من جنده فيهزمهم فيسير إليه السفياني بمن معه حتى إذا صار ببيداء من الأرض خسف بهم فلا ينجو منهم إلا المخبر منهم. أقول: و الرواية مستفيضة من طرق أهل السنة مختصرة أو مفصلة و قد رووها من طرق مختلفة عن ابن عباس و ابن مسعود و حذيفة و أبي هريرة و جد عمرو بن شعيب و أم سلمة و صفية و عائشة و حفصة أزواج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و نفيرة امرأة القعقاع عن سعيد بن جبير موقوفا.

 و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ تَرى‏ إِذْ فَزِعُوا فَلاَ فَوْتَ: حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن منصور بن يونس عن أبي خالد الكابلي قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): و الله لكأني أنظر إلى القائم (عليه السلام) و قد أسند ظهره إلى الحجر ثم ينشد الله حقه ثم يقول: يا أيها الناس من يحاجني في الله. فأنا أولى بالله أيها الناس من يحاجني بآدم فأنا أولى بآدم. أيها الناس من يحاجني في نوح فأنا أولى بنوح. أيها الناس من يحاجني بإبراهيم فأنا أولى بإبراهيم. أيها الناس من يحاجني بموسى فأنا أولى بموسى. أيها الناس من يحاجني بعيسى فأنا أولى بعيسى. أيها الناس من يحاجني بمحمد فأنا أولى بمحمد. أيها الناس من يحاجني بكتاب الله فأنا أولى بكتاب الله .

ثم ينتهي إلى المقام فيصلي ركعتين و ينشد الله حقه. ثم قال أبو جعفر (عليه السلام):

هو و الله المضطر في كتاب الله في قوله: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ اَلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَ يَكْشِفُ اَلسُّوءَ وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ اَلْأَرْضِ.

فيكون أول من يبايعه جبرئيل ثم الثلاثمائة و الثلاثة عشر فمن كان ابتلي بالمسير وافى و من لم يبتل بالمسير فقد عن فراشه و هو قول أمير المؤمنين (عليه السلام): هم المفقودون عن فرشهم و ذلك قول الله: ﴿فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اَللَّهُ جَمِيعاً قال:

الخيرات الولاية، و قال في موضع آخر: ﴿وَ لَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ اَلْعَذَابَ إِلى‏ أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ

 

 

و هم أصحاب القائم (عليه السلام) يجتمعون و الله إليه في ساعة واحدة.

فإذا جاء إلى البيداء يخرج إليه جيش السفياني فيأمر الله عز و جل الأرض فيأخذ بأقدامهم و هو قوله عز و جل: ﴿وَ لَوْ تَرىَ إِذْ فَزِعُوا فَلاَ فَوْتَ وَ أُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ وَ قَالُوا آمَنَّا بِهِ يعني بالقائم من آل محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) ﴿وَ أَنَّى لَهُمُ اَلتَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ﴾﴿وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ يعني أن لا يعذبوا ﴿كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ يعني من كان قبلهم من المكذبين هلكوا ﴿مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ.

 تم و الحمد لله .

 

 

بعض المواضیع المبحوث عنها فی هذا الجزء

 

 

 

[1]  فالآية الاولى تحاذي الاولى و الثانية تحاذي الثانية و الثالثة.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=2110
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 05 / 20
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 03