• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء السادس عشر) ، تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده) .
                    • الموضوع : من ص 1 الى ص 82 .

من ص 1 الى ص 82

 

 

 

الميزان في تفسير القرآن

الجزء السادس عشر

 

 

 

 

 

 

تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سرّه

 

 

 

 

 

المیزان فی تفسیر القرآن

کتاب علمی ، فنی ، فلسفی، ادبی،

 تاریخی ، روائی، اجتماعی، حدیث

یفسر القرآن بالقرآن

تالیف

العلامه السيد محمد حسین الطباطبائی

المجلد السادس عشر

منشورات

موسسه الاعلمی للمطبوعات

بیروت-لبنان

 

 

 

حقوق الطبع و التقلید محفوظه و مسجله للناشر

١٣٩٣ه – ١٩٧٣م

 

 

 

 

 

 

تمتاز هذه الطبعه عن غیرها بالتحقیق و التصحیح الکامل

واضافات و تغییرات هامه من قبل المولف

 

 

 

(٢٨) (سورة القصص مكية، و هي ثمان و ثمانون آية) (٨٨)

[سورة القصص (٢٨): الآیات ١ الی ١٤]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ طسم ١ تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ اَلْمُبِينِ ٢ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى‏ وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ٣ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي اَلْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ ٤ وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوَارِثِينَ ٥ وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هَامَانَ وَ جُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ٦ وَ أَوْحَيْنَا إِلى‏ أُمِّ مُوسى‏ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اَلْيَمِّ وَ لاَ تَخَافِي وَ لاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جَاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ ٧ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هَامَانَ وَ جُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ٨ وَ قَالَتِ اِمْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسى‏ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ٩ وَ أَصْبَحَ

 

 

فُؤَادُ أُمِّ مُوسى‏ فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلى‏ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ ١٠ وَ قَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ١١ وَ حَرَّمْنَا عَلَيْهِ اَلْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى‏ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ١٢ فَرَدَدْنَاهُ إِلى‏ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَ لاَ تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ١٣ وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اِسْتَوى‏ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ ١٤

(بيان)

غرض السورة الوعد الجميل للمؤمنين و هم بمكة قبل الهجرة شرذمة قليلون يستضعفهم فراعنة قريش و طغاتها و اليوم يوم شدة و عسرة و فتنة بأن الله سيمن عليهم و يجعلهم أئمة و يجعلهم الوارثين و يمكن لهم و يرى طغاة قومهم منهم ما كانوا يحذرون يقص تعالى للمؤمنين من قصة موسى و فرعون أنه خلق موسى في حين كان فرعون في أوج قدرته يستضعف بني إسرائيل يذبح أبناءهم و يستحيي نساءهم فرباه في حجر عدو، حتى إذا استوى و بلغ أشده نجاه و أخرجه من بينهم إلى مدين ثم رده إليهم رسولا منه بسلطان مبين حتى إذا أغرق فرعون و جنوده أجمعين و جعل بني إسرائيل هم الوارثين و أنزل التوراة على موسى هدى و بصائر للمؤمنين.

و على هذا المجرى يجري حال المؤمنين و فيه وعد لهم بالملك و العزة و السلطان و وعد للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) برده إلى معاد.

و انتقل من القصة إلى بيان أن من الواجب في حكمة الله أن ينزل كتابا من عنده للدعوة الحقة ثم ذكر طعنهم في دعوة القرآن بقولهم: لو لا أوتي مثل ما أوتي موسى

 

 

 و الجواب عنه، و تعللهم عن الإيمان بقولهم: إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا و الجواب عنه و فيه التمثل بقصة قارون و خسفه.

و السورة مكية كما يشهد بذلك سياق آياتها، و ما أوردناه من الآيات فصل من قصة موسى و فرعون من يوم ولد موسى إلى بلوغه أشده.

قوله تعالى: ﴿طسم تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ اَلْمُبِينِ تقدم الكلام فيه في نظائره.

قوله تعالى: ﴿نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى‏َ وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿مِنْ للتبعيض و ﴿بِالْحَقِّ متعلق بقوله: ﴿نَتْلُوا أي نتلو تلاوة متلبسة بالحق فهو من عندنا و بوحي منا من غير أن يداخل في إلقائه الشياطين، و يمكن أن يكون متعلقا بنبإ أي حال كون النبإ الذي نتلوه عليك متلبسا بالحق لا مرية فيه.

و قوله: ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ اللام فيه للتعليل و هو متعلق بقوله: ﴿نَتْلُوا أي نتلو عليك من نبإهما لأجل قوم يؤمنون بآياتنا.

و محصل المعنى: نتلو عليك بعض نبإ موسى و فرعون تلاوة بالحق لأجل أن يتدبر فيه هؤلاء الذين يؤمنون بآياتنا ممن اتبعوك و هم طائفة أذلاء مستضعفون في أيدي فراعنة قريش و طغاة قومهم فيتحققوا أن الله الذي آمنوا به و برسوله و تحملوا كل أذى في سبيله هو الله الذي أنشأ موسى (عليه السلام) لإحياء الحق و إنجاء بني إسرائيل و إعزازهم بعد ذلتهم هاتيك الذلة يذبح أبناءهم و يستحيي نساءهم و قد علا فرعون و أنشب فيهم مخالب قهره و أحاط بهم بجوره.

أنشأه و الجو ذلك الجو المظلم الذي لا مطمع فيه فرباه في حجر عدوه ثم أخرجه من مصر ثم أعاده إليهم بسلطان فأنجى به بني إسرائيل و أفنى بيده فرعون و جنوده و جعلهم أحاديث و أحلاما.

فهو الله جل شأنه يقص على نبيه قصتهم و يرمز له و لهم بقوله: ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أنه سيفعل بهؤلاء مثل ما فعل بأولئك و يمن على هؤلاء المستضعفين و يجعلهم أئمة و يجعلهم الوارثين حذو ما صنع ببني إسرائيل.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي اَلْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ إلخ، العلو في الأرض كناية عن التجبر و الاستكبار، و الشيع‏ جمع شيعة و هي

 

 

 الفرقة، قال في المجمع:، الشيع: الفرق و كل فرقة شيعة و سموا بذلك لأن بعضهم يتابع بعضا. انتهى. و كان المراد بجعل أهل الأرض و كأنهم أهل مصر و اللام للعهد فرقا إلقاء الاختلاف بينهم لئلا يتفق كلمتهم فيثوروا عليه و يقلبوا عليه الأمور على ما هو من دأب الملوك في بسط القدرة و تقوية السلطة، و استحياء النساء إبقاء حياتهن.

و محصل المعنى: أن فرعون علا في الأرض و تفوق فيها ببسط السلطة على الناس و إنفاذ القدرة فيهم و جعل أهلها شيعا و فرقا مختلفة لا تجتمع كلمتهم على شي‏ء و بذلك ضعف عامة قوتهم على المقاومة دون قوته و الامتناع من نفوذ إرادته.

و هو يستضعف طائفة منهم و هم بنو إسرائيل و هم أولاد يعقوب (عليه السلام) و قد قطنوا بمصر منذ أحضر يوسف (عليه السلام) أباه و إخوته و أشخصهم هناك فسكنوها و تناسلوا بها حتى بلغوا الألوف.

و كان فرعون هذا و هو ملك مصر المعاصر لموسى (عليه السلام) يعاملهم معاملة الأسراء الأرقاء و يزيد في تضعيفهم حتى بلغ من استضعافه لهم أن أمر بتذبيح أبنائهم و استبقاء نسائهم و كان فيه إفناء رجالهم بقتل الأبناء الذكور و فيه فناء القوم.

و السبب في ذلك أنه كان من المفسدين في الأرض فإن الخلقة العامة التي أوجدت الإنسان لم يفرق في بسط الوجود بين شعب و شعب من الشعوب الإنسانية ثم جهز الكل بما يهديهم إلى حياة اجتماعية بالتمتع من أمتعة الحياة الأرضية و لكل ما يعادل قيمته في المجتمع و ما يساوي زنته في التعاون.

هذا هو الإصلاح الذي يهتف به الصنع و الإيجاد، و التعدي عن ذلك بتحرير قوم و تعبيد آخرين و تمتيع شعب بما لا يستحقونه و تحريم غيرهم ما يصلحون له هو الإفساد الذي يسوق الإنسانية إلى البيد و الهلاك.

و في الآية تصوير الظرف الذي ولد فيه موسى (عليه السلام) و قد أحدقت الأسباب المبيدة لبني إسرائيل على إفنائه.

قوله تعالى: ﴿وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ إلى قوله ﴿مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ الأصل في معنى المن - على ما يستفاد من كلام الراغب الثقل و منه تسمية ما يوزن به منا، و المنة النعمة الثقيلة و من عليه منا أي أثقله بالنعمة. قال: و يقال

 

 

 ذلك على وجهين أحدهما بالفعل كقوله: ﴿وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا أي نعطيهم من النعمة ما يثقلهم و الثاني بالقول كقوله: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا و هو مستقبح إلا عند كفران النعمة. انتهى ملخصا.

و تمكينهم في الأرض إعطاؤهم فيها مكانا يملكونه و يستقرون فيه، و عن الخليل أن المكان مفعل من الكون و لكثرته في الكلام أجري مجرى فعال. فقيل: تمكن و تمسكن نحو تمنزل انتهى.

و قوله: ﴿وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ إلخ الأنسب أن يكون حالا من ﴿طَائِفَةً و التقدير يستضعف طائفة منهم و نحن نريد أن نمن على الذين استضعفوا إلخ و قيل: معطوف على قوله: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي اَلْأَرْضِ و الأول أظهر، و ﴿نُرِيدُ على أي حال لحكاية الحال الماضية.

و قوله: ﴿وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً عطف تفسير على قوله: ﴿نَمُنَّ و كذا ما بعده من الجمل المتعاقبة.

و المعنى: أن الظرف كان ظرف علو فرعون، و تفريقه بين الناس و استضعافه لبني إسرائيل استضعافا يبيدهم و يفنيهم و الحال أنا نريد أن ننعم على هؤلاء الذين استضعفوا من كل وجه نعمة تثقلهم و ذلك بأن نجعلهم أئمة يقتدى بهم فيكونوا متبوعين بعد ما كانوا تابعين، و نجعلهم الوارثين لها بعد ما كانت بيد غيرهم و نمكن لهم في الأرض بأن نجعل لهم مكانا يستقرون فيه و يملكونه بعد ما لم يكن لهم من المكان إلا ما أراد غيرهم أن يبوئهم فيه و يقرهم عليه، و نري فرعون و هو ملك مصر و هامان و هو وزيره و جنودهما منهم أي من هؤلاء الذين استضعفوا ما كانوا يحذرون و هو أن يظهروا عليهم فيذهبوا بملكهم و مالهم و سنتهم كما قالوا في موسى و أخيه لما أرسلا إليهم: ﴿يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَ يَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ اَلْمُثْلى‏َ طه: ٦٣.

و الآية تصور ما في باطن هذا الظرف الهائل الذي قضى على بني إسرائيل أن لا يعيش منهم متنفس و لا يبقى منهم نافخ نار و قد أحاطت بهم قدرة فرعون الطاغية و ملأ أقطار وجودهم رعبه و هو يستضعفهم حتى يقضي عليهم بالبيد هذا ظاهر الأمر و في باطنه الإرادة الإلهية تعلقت بأن تنجيهم منهم و تحول ثقل النعمة من آل فرعون

 

 

 الأقوياء العالين إلى بني إسرائيل الأذلاء المستضعفين و تبدل من الأسباب ما كان على بني إسرائيل لهم و ما كان لآل فرعون عليهم و الله يحكم لا معقب لحكمه.

قوله تعالى: ﴿وَ أَوْحَيْنَا إِلى‏َ أُمِّ مُوسى‏َ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اَلْيَمِّ إلى آخر الآية، الإيحاء هو التكليم الخفي و يستعمل في القرآن في تكليمه تعالى بعض خلقه بنحو الإلهام و الإلقاء في القلب كما في قوله: ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى‏َ لَهَا:

الزلزال: ٥ و قوله: ﴿وَ أَوْحى‏َ رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ: النحل: ٦٨ و قوله في أم موسى:

﴿وَ أَوْحَيْنَا إِلى‏َ أُمِّ مُوسى‏َ الآية أو بنحو آخر كما في الأنبياء و الرسل، و في غيره تعالى كما في قوله: ﴿إِنَّ اَلشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلى‏َ أَوْلِيَائِهِمْ: الأنعام: ١٢١، و الإلقاء الطرح، و اليم‏ البحر و النهر الكبير.

و قوله: ﴿وَ أَوْحَيْنَا إِلى‏َ أُمِّ مُوسى‏َ في الكلام إيجاز بالحذف و التقدير و حبلت أم موسى به و الحال هذه الحال من الشدة و الحدة و وضعته و أوحينا إليها إلخ.

و المعنى: و قلنا بنوع من الإلهام لأم موسى لما وضعته: أرضعيه ما دمت لا تخافين عليه من قبل فرعون فإذا خفت عليه أن يطلع عليه آل فرعون فيأخذوه و يقتلوه فألقيه في البحر و هو النيل على ما وردت به الرواية و لا تخافي عليه القتل و لا تحزني لفقده و مفارقته إياك إنا رادوه إليك بعد ذلك و جاعلوه من المرسلين فيكون رسولا إلى آل فرعون و بني إسرائيل.

فقوله: ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ تعليل للنهي في قوله: ﴿وَ لاَ تَحْزَنِي كما يشهد به أيضا قوله بعد: ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلى‏َ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَ لاَ تَحْزَنَ و الفرق بين الخوف و الحزن بحسب المورد أن الخوف إنما يكون في مكروه محتمل الوقوع و الحزن في مكروه قطعي الوقوف.

قوله تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هَامَانَ وَ جُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ الالتقاط أصابه الشي‏ء و أخذه من غير طلب، و منه اللقطة و اللام في قوله: ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً للعاقبة على ما قيل و الحزن‏ بفتحتين و الحزن‏ بالضم فالسكون بمعنى واحد كالسقم و السقم، و المراد بالحزن سبب الحزن فإطلاق الحزن عليه مبالغة في سببيته لحزنهم.

 

 

 و الخاطئين اسم فاعل من خطئ يخطأ خطأ كعلم يعلم علما كما أن المخطئ اسم فاعل من أخطأ يخطئ إخطاء، و الفرق بين الخاطئ و المخطئ على ما ذكره الراغب أن الخاطئ‏ يطلق على من أراد فعلا لا يحسنه ففعله قال تعالى: ﴿إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْأً كَبِيراً، و قال: ﴿وَ إِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ، و المخطئ‏ يستعمل فيمن أراد فعلا يحسنه فوقع منه غيره و اسم مصدره الخطأ بفتحتين، قال تعالى: ﴿وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً: النساء: ٩٢ و المعنى الجامع هو العدول عن الجهة. انتهى ملخصا.

فقوله: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هَامَانَ وَ جُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ أي فيما كانوا يفعلونه في أبناء بني إسرائيل و موسى تحذرا من انهدام ملكهم و ذهاب سلطانهم بيدهم إرادة لتغيير المقادير عن مجاريها فقتلوا الجم الغفير من الأبناء و لا شأن لهم في ذلك و تركوا موسى حيث التقطوه و ربوه في حجورهم و كان هو الذي بيده انقراض دولتهم و زوال ملكهم.

و المعنى: فأصابه آل فرعون و أخذوه من اليم و كان غاية ذلك أن يكون لهم عدوا و سبب حزن إن فرعون و هامان و جنودهما كانوا خاطئين في قتل الأبناء و ترك موسى: أرادوا أن يقضوا على من سيقضي عليهم فعادوا يجتهدون في حفظه و يجدون في تربيته.

و بذلك يظهر أن تفسير بعضهم كونهم خاطئين بأنهم كانوا مذنبين فعاقبهم الله أن ربي عدوهم على أيديهم ليس بسديد.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالَتِ اِمْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسى‏َ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ شفاعة من امرأة فرعون و قد كانت عنده حينما جاءوا إليه بموسى و هو طفل ملتقط من اليم تخاطب فرعون بقوله: ﴿قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ أي هو قرة عين لنا ﴿لاَ تَقْتُلُوهُ و إنما خاطب بالجمع لأن شركاء القتل كانوا كثيرين من سبب و مباشر و آمر و مأمور.

و إنما قالت ما قالت لأن الله سبحانه ألقى محبة منه في قلبها فعادت لا تملك نفسها دون أن تدفع عنه القتل و تضمه إليها، قال تعالى فيما يمن به على موسى (عليه السلام):

﴿وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلى‏َ عَيْنِي: طه: ٣٩.

 

 

 و قوله: ﴿عَسى‏َ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً قالته لما رأت في وجهه من آثار الجلال و سيماء الجذبة الإلهية، و في قولها: ﴿أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً دلالة على أنهما كانا فاقدين للابن.

و قوله: ﴿وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ جملة حالية أي قالت ما قالت و شفعت له و صرفت عنه القتل و القوم لا يشعرون ما ذا يفعلون و ما هي حقيقة الحال و ما عاقبته؟ قوله تعالى: ﴿وَ أَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسى‏َ فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلى‏َ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ الإبداء بالشي‏ء إظهاره، و الربط على الشي‏ء شدة و هو كناية عن التثبيت.

و المراد بفراغ فؤاد أم موسى فراغه و خلوة من الخوف و الحزن و كان لازم ذلك أن لا يتوارد عليه خواطر مشوشة و أوهام متضاربة يضطرب بها القلب فيأخذها الجزع فتبدي ما كان عليها أن تخفيه من أمر ولدها.

و ذلك أن ظاهر السياق أن سبب عدم إبدائها له فراغ قلبها و سبب فراغ قلبها الربط على قلبها و سبب الربط هو قوله تعالى لها فيما أوحى إليها: ﴿لاَ تَخَافِي وَ لاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ إلخ.

و قوله: ﴿إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لاَ إلخ‏﴿ إِنْ مخففة من الثقيلة أي إنها قربت من أن تظهر الأمر و تفشي السر لو لا أن ثبتنا قلبها بالربط عليه، و قوله:

﴿لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أي الواثقين بالله في حفظه فتصبر و لا تجزع عليه فلا يبدو أمره.

و المجموع أعني قوله: ﴿إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ إلى آخر الآية في مقام البيان لقوله:

﴿وَ أَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسى‏َ فَارِغاً و محصل معنى الآية و صار قلب أم موسى بسبب وحينا خاليا من الخوف و الحزن المؤديين إلى إظهار الأمر، لو لا أن ثبتنا قلبها بسبب الوحي لتكون واثقة بحفظ الله له لقربت من أن تظهر أمره لهم بالجزع عليه.

و بما تقدم يظهر ضعف بعض ما قيل في تفسير جمل الآية كقول بعضهم في ﴿وَ أَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسى‏َ فَارِغاً أي صفرا من العقل لما دهمها من الخوف و الحيرة حين سمعت بوقوع الطفل في يد فرعون، و قول آخرين: أي فارغا من الوحي الذي أوحي إليها

 

 

بالنسيان، و ما قيل: أي فارغا من كل شي‏ء إلا ذكر موسى أي صار فارغا له. فإنها جميعا وجوه لا يحتمل شيئا منها السياق.

و نظير ذلك في الضعف قولهم: إن جواب لو لا محذوف و التقدير لو لا أن ربطنا على قلبها لأبدته و أظهرته، و الوجه في تقديرهم ذلك ما قيل: إن لو لا شبيهه بأدوات الشرط فلها الصدر و لا يتقدم جوابها عليها. و قد تقدمت المناقشة فيه في الكلام على قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِهَا لَوْ لاَ أَنْ رَأى‏َ بُرْهَانَ رَبِّهِ: يوسف: ٢٤.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ قال في المجمع:، القص‏ اتباع الأثر و منه القصص في الحديث لأنه يتبع فيه الثاني الأول.

و قال: و معنى بصرت به عن جنب أبصرته عن جنابة أي عن بعد. انتهى.

و المعنى: و قالت أم موسى لأخته اتبعي أثر موسى حتى ترين إلام يئول أمره فرأته عن بعد و قد أخذه خدم فرعون و هم لا يشعرون بأنها تقصه و تراقبه.

قوله تعالى: ﴿وَ حَرَّمْنَا عَلَيْهِ اَلْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى‏َ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ نَاصِحُونَ التحريم في الآية تكويني لا تشريعي و معناه جعله بحيث لا يقبل ثدي مرضع و يمتنع من ارتضاعها.

و قوله: ﴿مِنْ قَبْلُ أي من قبل حضورها هناك و مجيئها إليهم و المراضع جمع مرضعة كما قيل.

و قوله: ﴿فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى‏َ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ نَاصِحُونَ تفريع على ما تقدمه غير أن السياق يدل على أن هناك حذفا كأنه قيل: و حرمنا عليه المراضع غير أمه من قبل أن تجي‏ء أخته فكلما أتوا له بمرضع لترضعه لم يقبل ثديها فلما جاءت أخته و رأت الحال قالت عند ذلك لآل فرعون: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لنفعكم و هم له ناصحون؟.

قوله تعالى: ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلى‏َ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَ لاَ تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ تفريع على ما تقدمه مع تقدير ما يدل عليه السياق، و المحصل أنها قالت: هل أدلكم على أهل بيت كذا فأنعموا لها بالقبول فدلتهم على أمه فسلموه إليها فرددناه إلى أمه بنظم هذه الأسباب.

 

 

 و قوله: ﴿كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَ لاَ تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ إلخ، تعليل للرد و المراد بالعلم هو اليقين بالمشاهدة فإنها كانت تعلم من قبل أن وعد الله حق و كانت مؤمنة و إنما أريد بالرد أن توقن بالمشاهدة أن وعد الله حق.

و المراد بوعد الله مطلق الوعد الإلهي بدليل قوله: ﴿وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أي لا يوقنون بذلك و يرتابون في مواعده تعالى و لا تطمئن إليها نفوسهم، و محصله أن توقع بمشاهدة حقية هذا الذي وعدها الله به أن مطلق وعده تعالى حق.

و ربما يقال: إن المراد بوعد الله خصوص الوعد المذكور في الآية السابقة: ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جَاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ و لا يلائمه قوله بعد: ﴿وَ لَكِنَّ إلخ على ما تقدم.

قوله تعالى: ﴿وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اِسْتَوى‏َ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ بلوغ الأشد أن يعمر الإنسان ما تشتد عند ذلك قواه و يكون في الغالب في الثمان عشرة، و الاستواء الاعتدال و الاستقرار فالاستواء في الحياة استقرار الإنسان في أمر حياته و يختلف في الأفراد و هو على الأغلب بعد بلوغ الأشد، و قد تقدم الكلام في معنى الحكم و العلم و إيتائهما و معنى الإحسان في مواضع من الكتاب.

بحث روائي

 في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب رض: في قوله تعالى: ﴿وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ قال: يوسف و ولده. أقول: لعل المراد بنو إسرائيل، و إلا فظهور الآية في خلافه غير خفي.

 و في معاني الأخبار، بإسناده عن محمد بن سنان عن المفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) نظر إلى علي و الحسن و الحسين (عليه السلام) فبكى و قال: أنتم المستضعفون بعدي. قال المفضل: فقلت له: ما معنى ذلك؟ قال:

معناه أنكم الأئمة بعدي إن الله عز و جل يقول: ﴿وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوَارِثِينَ فهذه الآية جارية فينا إلى يوم القيامة.

 

 

 أقول: و الروايات من طرق الشيعة في كون الآية في أئمة أهل البيت (عليه السلام) كثيرة و بهذه الرواية يظهر أنها جميعا من قبيل الجري و الانطباق.

 و في نهج البلاغة،: لتعطفن الدنيا عليا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها و تلا عقيب ذلك ﴿وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوَارِثِينَ.

 و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿وَ أَوْحَيْنَا إِلىَ أُمِّ مُوسىَ إلى آخر الآية:

 حدثني أبي عن الحسن بن محبوب عن العلاء بن رزين عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إنه لما حملت به أمه لم يظهر حملها إلا عند وضعها له و كان فرعون قد وكل بنساء بني إسرائيل نساء من القبط يحفظنهن و ذلك أنه كان لما بلغه عن بني إسرائيل أنهم يقولون: إنه يولد فينا رجل يقال له: موسى بن عمران يكون هلاك فرعون و أصحابه على يده فقال فرعون عند ذلك: لأقتلن ذكور أولادهم حتى لا يكون ما يريدون و فرق بين الرجال و النساء و حبس الرجال في المحابس.

فلما وضعت أم موسى بموسى نظرت إليه و حزنت عليه و اغتمت و بكت و قالت:

يذبح الساعة فعطف الله عز و جل قلب الموكلة بها عليه فقالت لأم موسى: ما لك قد اصفر لونك؟ فقالت أخاف أن يذبح ولدي فقالت: لا تخافي و كان موسى لا يراه أحد إلا أحبه و هو قول الله: ﴿وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾.

فأحبته القبطية الموكلة بها و أنزل الله على أم موسى التابوت، و نوديت ضعيه في التابوت فألقيه في اليم و هو البحر ﴿وَ لاَ تَخَافِي وَ لاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جَاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ فوضعته في التابوت و أطبقته عليه و ألقته في النيل.

و كان لفرعون قصر على شط النيل متنزه فنظر من قصره و معه آسية امرأته إلى سواد في النيل ترفعه الأمواج و الرياح تضربه حتى جاءت به إلى باب قصر فرعون - فأمر فرعون بأخذه فأخذ التابوت و رفع إليه فلما فتحه وجد فيه صبيا فقال:

هذا إسرائيلي فألقى الله في قلب فرعون محبة شديدة و كذلك في قلب آسية.

و أراد فرعون أن يقتله فقالت آسية: ﴿لاَ تَقْتُلُوهُ عَسىَ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لاَ يَشْعُرُونَ أنه موسى.

 

 

 و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ إلخ، عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : و الذي يحلف به لو أقر فرعون بأن يكون له قرة عين كما أقرت امرأته لهداه الله به كما هداها و لكنه أبى للشقاء الذي كتبه الله عليه.

 و في المعاني، بإسناده عن محمد بن نعمان الأحول عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: ﴿وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اِسْتَوى‏ قال: أشده ثمان عشرة سنة ﴿وَ اِسْتَوىَ التحى.

[سورة القصص (٢٨): الآیات ١٥ الی ٢١]

﴿وَ دَخَلَ اَلْمَدِينَةَ عَلىَ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ اَلَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى اَلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى‏ فَقَضى‏ عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ١٥ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ ١٦ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ١٧ فَأَصْبَحَ فِي اَلْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا اَلَّذِي اِسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسى‏ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ١٨ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسى‏ أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ اَلْمُصْلِحِينَ ١٩ وَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ يَسْعى‏ قَالَ يَا مُوسى‏ إِنَّ اَلْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ اَلنَّاصِحِينَ ٢٠

 

 

فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ ٢١

(بيان)

فصل ثان من قصة موسى (عليه السلام) فيه ذكر بعض ما وقع بعد بلوغه أشده فأدى إلى خروجه من مصر و قصده مدين.

قوله تعالى: ﴿وَ دَخَلَ اَلْمَدِينَةَ عَلىَ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا إلخ، لا ريب أن المدينة التي دخلها على حين غفلة من أهلها هي مصر، و أنه كان يعيش عند فرعون، و يستفاد من ذلك أن القصر الملكي الذي كان يسكنه فرعون كان خارج المدينة و أنه خرج منه و دخل المدينة على حين غفلة من أهلها، و يؤيد ما ذكرنا ما سيأتي من قوله: ﴿وَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ يَسْعى‏َ على ما سيجي‏ء من الاستظهار.

و حين الغفلة من أهل المدينة هو حين يدخل الناس بيوتهم فتتعطل الأسواق و تخلو الشوارع و الأزقة من المارة كالظهيرة و أواسط الليل.

و قوله: ﴿فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ أي يتنازعان و يتضاربان، و قوله: ﴿هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هَذَا مِنْ عَدُوِّهِ حكاية حال تمثل به الواقعة، و معناه: أن أحدهما كان إسرائيليا من متبعيه في دينه فإن بني إسرائيل كانوا ينتسبون يومئذ إلى آبائهم إبراهيم و إسحاق و يعقوب (عليه السلام) في دينهم و إن كان لم يبق لهم منه إلا الاسم و كانوا يتظاهرون بعبادة فرعون و الآخر قبطيا عدوا له لأن القبط كانوا أعداء بني إسرائيل، و من الشاهد أيضا على كون هذا الرجل قبطيا قوله في موضع آخر يخاطب ربه: ﴿وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ: الشعراء: ١٤.

و قوله: ﴿فَاسْتَغَاثَهُ اَلَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى اَلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ الاستغاثة: الاستنصار من الغوث بمعنى النصرة أي طلب الإسرائيلي من موسى أن ينصره على عدوه القبطي.

و قوله: ﴿فَوَكَزَهُ مُوسى‏َ فَقَضى‏َ عَلَيْهِ ضميرا ﴿فَوَكَزَهُ و ﴿عَلَيْهِ للذي من عدوه و الوكز على ما ذكره الراغب و غيره الطعن و الدفع و الضرب بجمع الكف،

 

 

 و القضاء هو الحكم و القضاء عليه كناية عن الفراغ من أمره بموته، و المعنى: فدفعه أو ضربه موسى بالوكز فمات، و كان قتل خطإ و لو لا ذلك لكان من حق الكلام أن يعبر بالقتل.

و قوله: ﴿قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ الإشارة بهذا إلى ما وقع بينهما من الاقتتال حتى أدى إلى موت القبطي و قد نسبه نوع نسبة إلى عمل الشيطان إذ قال: ﴿هَذَا مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ و ﴿مِنْ ابتدائية تفيد معنى الجنس أو نشوئية، و المعنى: هذا الذي وقع من المعاداة و الاقتتال من جنس العمل المنسوب إلى الشيطان أو ناش من عمل الشيطان فإنه هو الذي أوقع العداوة و البغضاء بينهما و أغرى على الاقتتال حتى أدى ذلك إلى مداخلة موسى و قتل القبطي بيده فأوقعه ذلك في خطر عظيم و قد كان يعلم أن الواقعة لا تبقى خفية مكتومة و أن القبط سيثورون عليه و أشرافهم و ملؤهم و على رأسهم فرعون سينتقمون منه و من كل من تسبب إلى ذلك أشد الانتقام.

فعند ذلك تنبه (عليه السلام) أنه أخطأ فيما فعله من الوكز الذي أورده مورد الهلكة و لا ينسب الوقوع في الخطإ إلى الله سبحانه لأنه لا يهدي إلا إلى الحق و الصواب فقضي أن ذلك منسوب إلى الشيطان.

و فعله ذاك و إن لم يكن معصية منه لوقوعه خطأ و كون دفاعه عن الإسرائيلي دفعا لكافر ظالم، لكن الشيطان كما يوقع بوسوسته الإنسان في الإثم و المعصية كذلك يوقعه في أي مخالفة للصواب يقع بها في الكلفة و المشقة كما أوقع آدم و زوجه فيما أوقع من أكل الشجرة المنهية فأدى ذلك إلى خروجهما من الجنة.

فقوله: ﴿هَذَا مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ انزجار منه عما وقع من الاقتتال المؤدي إلى قتل القبطي و وقوعه في عظيم الخطر و ندم منه على ذلك، و قوله: ﴿إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ إشارة منه إلى أن فعله كان من الضلال المنسوب إلى الشيطان و إن لم يكن من المعصية التي فيها إثم و مؤاخذة بل خطأ محضا لا ينسب إلى الله بل إلى الشيطان الذي هو عدو مضل مبين، فكان ذلك منه نوعا من سوء التدبير و ضلال السعي يسوقه إلى عاقبة وخيمة و لذا لما اعترض عليه فرعون بقوله: ﴿وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ اَلَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ

 

 

 مِنَ اَلْكَافِرِينَ أجابه بقوله: ﴿فَعَلْتُهَا إِذاً وَ أَنَا مِنَ اَلضَّالِّينَ: الشعراء: ٢٠.

قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ اعتراف منه عند ربه بظلمه نفسه حيث أوردها مورد الخطر و ألقاها في التهلكة، و منه يظهر أن المراد بالمغفرة المسئولة في قوله: ﴿فَاغْفِرْ لِي هو إلغاء تبعة فعله و إنجاؤه من الغم و تخليصه من شر فرعون و ملئه، كما يظهر من قوله تعالى: ﴿وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ اَلْغَمِّ: طه: ٤٠.

و هذا الاعتراف بالظلم و سؤال المغفرة نظير ما وقع من آدم و زوجه المحكي في قوله تعالى: ﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَ تَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ الأعراف: ٢٣.

قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ قيل:

الباء في قوله: ﴿بِمَا أَنْعَمْتَ للسببية و المعنى رب بسبب ما أنعمت علي، لك علي أن لا أكون معينا للمجرمين فيكون عهدا منه لله تعالى و قيل: الباء للقسم و الجواب محذوف و المعنى: أقسم بما أنعمت علي لأتوبن أو لأمتنعن فلن أكون ظهيرا للمجرمين، و قيل:

القسم استعطافي و هو القسم الواقع في الإنشاء كقولك بالله زرني، و المعنى أقسمك أن تعطف علي و تعصمني فلن أكون ظهيرا للمجرمين.

و الوجه الأول هو الأوجه لأن المراد بقوله: ﴿بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ على ما ذكروه أما إنعامه تعالى عليه إذ حفظه و خلصه من قتل فرعون و رده إلى أمه، و أما إنعامه عليه إذ قبل توبته من قتل القبطي و غفر له بناء على أنه علم مغفرته تعالى بإلهام أو رؤيا أو نحوهما و كيف كان فهو إقسام بغيره تعالى، و المعنى أقسم بحفظك إياي أو أقسم بمغفرتك لي، و لم يعهد في كلامه تعالى حكاية قسم من غيره بغيره بهذا النحو.

و قوله: ﴿فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ قيل: المراد بالمجرم من أوقع غيره في الجرم أو من أدت إعانته إلى جرم كالإسرائيلي الذي خاصمه القبطي فأوقعت إعانته موسى في جرم القتل فيكون في لفظ المجرمين مجاز في النسبة من حيث تسمية السبب الموقع في الجرم مجرما.

و قيل: المراد بالمجرمين فرعون و قومه و المعنى: أقسم بإنعامك علي لأتوبن فلن ـ

 

 

أكون معينا لفرعون و قومه بصحبتهم و ملازمتهم و تكثير سوادهم كما كنت أفعله إلى هذا اليوم.

و رد هذا الوجه الثاني بأنه لا يناسب المقام.

و الحق أن قوله: ﴿رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ عهد من موسى (عليه السلام) أن لا يعين مجرما على إجرامه شكرا لله تعالى على ما أنعم عليه، و المراد بالنعمة و قد أطلقت إطلاقا الولاية الإلهية على ما يشهد به قوله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَدَاءِ وَ اَلصَّالِحِينَ: النساء: ٦٩.

و هؤلاء أهل الصراط المستقيم مأمونون من الضلال و الغضب لقوله تعالى: ﴿اِهْدِنَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ اَلضَّالِّينَ الفاتحة:

 ٧ و ترتب الامتناع عن إعانة المجرمين على الإنعام بهذا المعنى ظاهر لا سترة عليه.

و من هنا يظهر أن المراد بالمجرمين أمثال فرعون و قومه دون أمثال الإسرائيلي الذي أعانه فلم يكن في إعانته جرم و لا كان وكز القبطي جرما حتى يتوب (عليه السلام) منه كيف؟ و هو (عليه السلام) من أهل الصراط المستقيم الذين لا يضلون بمعصيته، و قد نص تعالى على كونه من المخلصين الذين لا سبيل للشيطان إليهم بالإغواء حيث قال: ﴿إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَ كَانَ رَسُولاً نَبِيًّا: مريم: ٥١.

و قد نص تعالى أيضا آنفا بأنه آتاه حكما و علما و أنه من المحسنين و من المتقين من أمره أن لا تستخفه عصبية قومية أو غضب في غير ما ينبغي أو إعانة و نصرة لمجرم في إجرامه.

و قد كرر ﴿قَالَ ثلاثا حيث قيل: ﴿قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ و ذلك لاختلاف السياق في الجمل الثلاث فالجملة الأولى قضاء منه و حكم، و الجملة الثانية استغفار و دعاء، و الجملة الثالثة عهد و التزام.

قوله تعالى: ﴿فَأَصْبَحَ فِي اَلْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا اَلَّذِي اِسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسى‏َ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ تقييد ﴿فَأَصْبَحَ بقوله: ﴿فِي اَلْمَدِينَةِ دليل على أنه بقي في المدينة و لم يرجع إلى قصر فرعون، و الاستصراخ‏ الاستغاثة برفع الصوت من الصراخ بمعنى الصياح، و الغواية إخطاء الصواب خلاف الرشد.

 

 

 و المعنى: فأصبح موسى في المدينة و لم يرجع إلى بلاط فرعون و الحال أنه خائف من فرعون ينتظر الشر ففاجأه أن الإسرائيلي الذي استنصره على القبطي بالأمس يستغيث به رافعا صوته على قبطي آخر قال موسى للإسرائيلي توبيخا و تأنيبا:

إنك لغوي مبين لا تسلك سبيل الرشد و الصواب لأنه كان يخاصم و يقتتل قوما ليس في مخاصمتهم و المقاومة عليهم إلا الشر كل الشر.

قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسى‏َ أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إلى آخر الآية، ذكر جل المفسرين أن ضمير ﴿قَالَ للإسرائيلي الذي كان يستصرخه و ذلك أنه ظن أن موسى إنما يريد أن يبطش به لما سمعه يعاتبه قبل بقوله: ﴿إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ فهاله ما رأى من إرادته البطش فقال:

﴿يَا مُوسى‏َ أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إلخ، فعلم القبطي عند ذلك أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس فرجع إلى فرعون فأخبره الخبر فائتمروا بموسى و عزموا على قتله.

و ما ذكروه في محله لشهادة السياق بذلك فلا يعبأ بما قيل: إن القائل هو القبطي دون الإسرائيلي، هذا و معنى باقي الآية ظاهر. و في قوله: ﴿أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا تعريض للتوراة الحاضرة حيث تذكر أن المتقاتلين هذين كانا جميعا إسرائيليين، و فيه أيضا تأييد أن القائل: ﴿يَا مُوسى‏َ أَ تُرِيدُ إلخ، الإسرائيلي دون القبطي لأن سياقه سياق اللوم و الشكوى.

قوله تعالى: ﴿وَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ يَسْعى‏َ قَالَ يَا مُوسى‏َ إِنَّ اَلْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ إلخ، الائتمار المشاورة، و النصيحة خلاف الخيانة.

و الظاهر كون قوله: ﴿مِنْ أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ قيدا لقوله: ﴿جَاءَ فسياق القصة يعطي أن الائتمار كان عند فرعون و بأمر منه، و أن هذا الرجل جاء من هناك و قد كان قصر فرعون في أقصى المدينة و خارجها فأخبر موسى بما قصدوه من قتله و أشار عليه بالخروج من المدينة.

و هذا الاستئناس من الكلام يؤيد ما تقدم أن قصر فرعون الذي كان يسكنه كان خارج المدينة، و معنى الآية ظاهر.

 

 

 قوله تعالى: ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ فيه تأييد أنه ما كان يرى قتله القبطي خطأ جرما لنفسه.

(بحث روائي)

في تفسير القمي، قال :فلم يزل موسى عند فرعون في أكرم كرامة حتى بلغ مبلغ الرجال و كان ينكر عليه ما يتكلم به موسى (عليه السلام) من التوحيد حتى هم به فخرج موسى من عنده و دخل المدينة فإذا رجلان يقتتلان أحدهما يقول بقول موسى و الآخر يقول بقول فرعون فاستغاثه الذي من شيعته فجاء موسى فوكز صاحب فرعون فقضى عليه و توارى في المدينة.

فلما كان الغد جاء آخر فتشبث بذلك الرجل الذي يقول بقول موسى فاستغاث بموسى فلما نظر صاحبه إلى موسى قال له. ﴿أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ؟ فخلى عن صاحبه و هرب.

 و في العيون، بإسناده إلى علي بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون و عنده الرضا (عليه السلام) فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أ ليس من قولك: إن الأنبياء معصومون؟ قال: بلى. قال: فأخبرني عن قول الله: ﴿فَوَكَزَهُ مُوسىَ فَقَضىَ عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ قال الرضا (عليه السلام): إن موسى (عليه السلام) دخل مدينة من مدائن فرعون على حين غفلة من أهلها و ذلك بين المغرب و العشاء فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته و هذا من عدوه فقضى على العدو بحكم الله تعالى ذكره فوكزه فمات، قال: ﴿هَذَا مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطَانِ يعني الاقتتال الذي وقع بين الرجلين لا ما فعله موسى (عليه السلام) من قتله ﴿إِنَّهُ يعني الشيطان ﴿عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ.

قال المأمون: فما معنى قول موسى: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي؟ قال: يقول: وضعت نفسي غير موضعها بدخول هذه المدينة فاغفر لي أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني فغفر له إنه هو الغفور الرحيم. قال موسى: رب بما أنعمت علي من القوة حتى قتلت رجلا بوكزة فلن أكون ظهيرا للمجرمين بل أجاهدهم بهذه القوة حتى ترضى.

 

 

 فأصبح موسى (عليه السلام) في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه على آخر قال له موسى إنك لغوي مبين قاتلت رجلا بالأمس و تقاتل هذا اليوم لأؤدبنك و أراد أن يبطش به فلما أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما و هو من شيعته ﴿قَالَ: يَا مُوسىَ أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ اَلْمُصْلِحِينَ. قال المأمون: جزاك الله عن أنبيائه خيرا يا أبا الحسن.

[سورة القصص (٢٨): الآیات ٢٢ الی ٢٨]

﴿وَ لَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسىَ رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ اَلسَّبِيلِ ٢٢ وَ لَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ اَلنَّاسِ يَسْقُونَ وَ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ اِمْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ اَلرِّعَاءُ وَ أَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ٢٣ فَسَقى‏ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى اَلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ٢٤ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اِسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَ قَصَّ عَلَيْهِ اَلْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ ٢٥ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اِسْتَأْجَرْتَ اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ ٢٦ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلى‏ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ مَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اَللَّهُ مِنَ اَلصَّالِحِينَ ٢٧

 

 

قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أَيَّمَا اَلْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَ اَللَّهُ عَلى‏ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ٢٨

(بيان)

فصل ثالث من قصته (عليه السلام) يذكر فيه خروجه من مصر إلى مدين عقيب قتله القبطي خوفا من فرعون و تزوجه هناك بابنة شيخ كبير لم يسم في القرآن لكن تذكر روايات أئمة أهل البيت (عليه السلام) و بعض روايات أهل السنة أنه هو شعيب النبي المبعوث إلى مدين.

قوله تعالى: ﴿وَ لَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسىَ رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ اَلسَّبِيلِ قال في المجمع:، تلقاء الشي‏ء حذاؤه، و يقال: فعل ذلك من تلقاء نفسه أي من حذاء داعي نفسه. و قال: سواء السبيل‏ وسط الطريق انتهى.

و مدين على ما في مراصد الاطلاع -، مدينة قوم شعيب و هي تجاه تبوك على بحر القلزم بينهما ست مراحل و هي أكبر من تبوك و بها البئر التي استقى منها موسى لغنم شعيب (عليه السلام) انتهى، و يقال: إنه كان بينهما و بين مصر مسيرة ثمان و كانت خارجة من سلطان فرعون و لذا توجه إليها.

و المعنى: و لما صرف وجهه بعد الخروج من مصر حذاء مدين قال: أرجو من ربي أن يهديني وسط الطريق فلا أضل بالعدول عنه و الخروج منه إلى غيره.

و السياق - كما ترى - يعطي أنه (عليه السلام) كان قاصدا لمدين و هو لا يعرف الطريق الموصلة إليها فترجى أن يهديه ربه.

قوله تعالى: ﴿وَ لَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ اَلنَّاسِ يَسْقُونَ إلخ الذود الحبس و المنع، و المراد بقوله: ﴿تَذُودَانِ﴾ أنهما يحبسان أغنامهما من أن ترد الماء أو تختلط بأغنام القوم كما أن المراد بقوله: ﴿يَسْقُونَ سقيهم أغنامهم و مواشيهم، و الرعاء جمع الراعي و هو الذي يرعى الغنم.

 

 

و المعنى: و لما ورد موسى ماء مدين وجد على الماء جماعة من الناس يسقون أغنامهم و وجد بالقرب منهم مما يليه امرأتين تحبسان أغنامهما و تمنعانها أن ترد المورد قال موسى مستفسرا عنهما حيث وجدهما تذودان الغنم و ليس على غنمهما رجل :

ما شأنكما؟ قالتا لا نسقي غنمنا أي عادتنا ذلك حتى يصدر الراعون و يخرجوا أغنامهم و أبونا شيخ كبير - لا يقدر أن يتصدى بنفسه أمر السقي و لذا تصدينا الأمر.

قوله تعالى: ﴿فَسَقىَ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى اَلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فهم» (عليه السلام) من كلامهما أن تأخرهما في السقي نوع تعفف و تحجب منهما و تعد من الناس عليهما فبادر إلى ذلك و سقى لهما.

و قوله: ﴿ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى اَلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ أي انصرف إلى الظل ليستريح فيه و الحر شديد و قال ما قال، و قد حمل الأكثرون قوله:

﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إلخ على سؤال طعام يسد به الجوع، و عليه فالأولى أن يكون المراد بقوله ﴿لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ القوة البدنية التي كان يعمل بها الأعمال الصالحة التي فيها رضى الله كالدفاع عن الإسرائيلي و الهرب من فرعون بقصد مدين و سقي غنم شعيب و اللام في ﴿لِمَا أَنْزَلْتَ بمعنى إلى و إظهار الفقر إلى هذه القوة التي أنزلها الله إليه من عنده بالإفاضة كناية عن إظهار الفقر إلى شي‏ء من الطعام تستبقى به هذه القوة النازلة الموهوبة.

و يظهر منه أنه (عليه السلام) كان ذا مراقبة شديدة في أعماله فلا يأتي بعمل و لا يريده و إن كان مما يقتضيه طبعه البشري إلا ابتغاء مرضاة ربه و جهادا فيه، و هذا ظاهر بالتدبر في القصة فهو القائل لما وكز القبطي: ﴿رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ثم القائل لما خرج من مصر خائفا يترقب: ﴿رَبِّ نَجِّنِي مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ ثم القائل لما أخذ في السلوك: ﴿عَسى‏َ رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ اَلسَّبِيلِ ثم القائل لما سقى و تولى إلى الظل: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ثم القائل لما آجر نفسه شعيبا و عقد على بنته: ﴿وَ اَللَّهُ عَلى‏َ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ.

و ما نقل عن بعضهم أن اللام في ﴿لِمَا أَنْزَلْتَ للتعليل و كذا قول بعضهم إن المراد بالخير خير الدين و هو النجاة من الظالمين بعيد مما يعطيه السياق.

 

 

 قوله تعالى: ﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اِسْتِحْيَاءٍ إلى آخر الآية. ضمير إحداهما للمرأتين، و تنكير الاستحياء للتفخيم و المراد بكون مشيها على استحياء ظهور التعفف من مشيتها، و قوله: ﴿لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ما مصدرية أي ليعطيك جزاء سقيك لنا، و قوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُ وَ قَصَّ عَلَيْهِ اَلْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ إلخ يلوح إلى أن شعيبا استفسره حاله فقص عليه قصته فطيب نفسه بأنه نجا منهم إذ لا سلطان لهم على مدين.

و عند ذلك تمت استجابته تعالى لموسى (عليه السلام) أدعيته الثلاثة فقد كان سأل الله تعالى عند خروجه من مصر أن ينجيه من القوم الظالمين فأخبره شعيب (عليه السلام) بالنجاة و ترجى أن يهديه سواء السبيل و هو في معنى الدعاء فورد مدين، و سأله الرزق فدعاه شعيب ليجزيه أجر ما سقى و زاد تعالى فكفاه رزق عشر سنين و وهب له زوجا يسكن إليها.

قوله تعالى: ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اِسْتَأْجَرْتَ اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ إطلاق الاستيجار يفيد أن المراد استخدامه لمطلق حوائجه التي تستدعي من يقوم مقامه و إن كانت العهدة باقتضاء المقام رعي الغنم.

و قوله: ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اِسْتَأْجَرْتَ إلخ، في مقام التعليل لقوله: ﴿اِسْتَأْجِرْهُ و هو من وضع السبب موضع المسبب و التقدير استأجره لأنه قوي أمين و خير من استأجرت هو القوي الأمين.

و في حكمها بأنه قوي أمين دلالة على أنها شاهدت من نحو عمله في سقي الأغنام ما استدلت به على قوته و كذا من ظهور عفته في تكليمهما و سقي أغنامهما ثم في صحبته لها عند ما انطلق إلى شعيب حتى أتاه ما استدلت به على أمانته.

و من هنا يظهر أن هذه القائلة: ﴿يَا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ إلخ، هي التي جاءته و أخبرته بدعوة أبيها له كما وردت به روايات أئمة أهل البيت (عليه السلام) و ذهب إليه جمع من المفسرين.

قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلى‏َ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ إلخ، عرض من شعيب لموسى (عليه السلام) أن يأجره نفسه ثماني سنين أو عشرا

 

 

 قبال تزويجه إحدى ابنتيه و ليس بعقد قاطع و من الدليل عدم تعين المعقودة في كلامه (عليه السلام).

فقوله: ﴿إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ دليل على حضورهما إذ ذاك، و قوله: ﴿عَلى‏َ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ أي على أن تأجرني نفسك أي تكون أجيرا لي ثماني حجج، و الحجج‏ جمع حجة و المراد بها السنة بعناية أن كل سنة فيها حجة للبيت الحرام، و به يظهر أن حج البيت و هو من شريعة إبراهيم (عليه السلام) - كان معمولا به عندهم.

و قوله: ﴿فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ أي فإن أتممته عشر سنين فهو من عندك و باختيار منك من غير أن تكون ملزما من عندي.

و قوله: ﴿وَ مَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ إخبار عن نحو ما يريده منه من الخدمة و أنه عمل غير موصوف بالمشقة و أنه مخدوم صالح.

و قوله: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اَللَّهُ مِنَ اَلصَّالِحِينَ أي إني من الصالحين و ستجدني منهم إن شاء الله فالاستثناء متعلق بوجدان موسى إياه منهم لا بكونه في نفسه منهم.

قوله تعالى: ﴿قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أَيَّمَا اَلْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَ اَللَّهُ عَلى‏َ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ الضمير لموسى (عليه السلام).

و قوله: ﴿ذَلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أي ذلك الذي ذكرته و قررته من المشارطة و المعاهدة و عرضته علي ثابت بيننا ليس لي و لا لك أن نخالف ما شارطناه، و قوله: ﴿أَيَّمَا اَلْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ بيان للأجل المردد المضروب في كلام شعيب (عليه السلام) و هو قوله: ﴿ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ أي لي أن أختار أي الأجلين شئت فإن اخترت الثماني سنين فليس لك أن تعدو علي و تلزمني بالزيادة و إن اخترت الزيادة و خدمتك عشرا فليس لك أن تعدو علي بالمنع من الزيادة.

و قوله: ﴿وَ اَللَّهُ عَلى‏َ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ توكيل له تعالى فيما يشارطان يتضمن إشهاده تعالى على ما يقولان و إرجاع الحكم و القضاء بينهما إليه لو اختلفا، و لذا اختار التوكيل على الإشهاد لأن الشهادة و القضاء كليهما إليه تعالى، و هذا كقول يعقوب (عليه السلام) حين أخذ الموثق من بنيه أن يردوا إليه ابنه فيما يحكيه الله: ﴿فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اَللَّهُ عَلى‏َ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ: يوسف: ٦٦.

 

 

 (بحث روائي)

 في كتاب كمال الدين، بإسناده إلى سدير الصيرفي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل: ﴿وَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ يَسْعى‏ قَالَ يَا مُوسى‏ إِنَّ اَلْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ اَلنَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ من مصر بغير ظهر و لا دابة و لا خادم تخفضه أرض و ترفعه أخرى حتى انتهى إلى أرض مدين.

فانتهى إلى أصل شجرة فنزل فإذا تحتها بئر و إذا عندها أمة من الناس يسقون و إذا جاريتان ضعيفتان و إذا معهما غنيمة لهما قال ما خطبكما قالتا أبونا شيخ كبير و نحن جاريتان ضعيفتان لا نقدر أن نزاحم الرجال فإذا سقى الناس سقينا فرحمهما فأخذ دلوهما فقال لهما: قدما غنمكما فسقى لهما ثم رجعتا بكرة قبل الناس.

ثم تولى موسى إلى الشجرة فجلس تحتها و قال: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فروي أنه قال ذلك و هو محتاج إلى شق تمرة فلما رجعتا إلى أبيهما قال: ما أعجلكما في هذه الساعة قالتا: وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا. فقال لإحداهما اذهبي فادعيه لي فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت: ﴿إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا.

فروي أن موسى (عليه السلام) قال لها: وجهني إلى الطريق و امشي خلفي فإنا بني يعقوب لا ننظر في أعجاز النساء، فلما جاءه و قص عليه القصص قال: ﴿لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ.

قال: ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلىَ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ فروي أنه قضى أتمهما لأن الأنبياء (عليه السلام) لا تأخذ إلا بالفضل و التمام.

أقول: و روى ما في معناه القمي في تفسيره.

 و في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل حكاية عن موسى (عليه السلام): ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ قال: سأل الطعام. أقول: و روى العياشي عن حفص عنه (عليه السلام): مثله، و لفظه إنما عنى الطعام:

 

 

 و أيضا عن ليث عن أبي جعفر (عليه السلام) مثله‏، و في نهج البلاغة،: مثله و لفظه و الله ما سأله إلا خبزا يأكله. و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لما سقى موسى للجاريتين ثم تولى إلى الظل فقال: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ قال: إنه يومئذ فقير إلى كف من تمر.

و في تفسير القمي، قال :قالت إحدى بنات شعيب: ﴿يَا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اِسْتَأْجَرْتَ اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ، فقال لها شعيب (عليه السلام): أما قوته فقد عرفتنيه أنه يستقي الدلو وحده فبم عرفت أمانته؟ فقالت: إنه لما قال لي: تأخري عني و دليني على الطريق فإنا من قوم لا ينظرون في أدبار النساء عرفت أنه ليس من الذين ينظرون أعجاز النساء فهذه أمانته:

أقول: و روي مثله في المجمع، عن علي (عليه السلام).

 و في المجمع، و روى الحسن بن سعيد عن صفوان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: رسائل أيتهما التي قالت: إن أبي يدعوك؟ قال: التي تزوج بها. قيل: فأي الأجلين قضى؟ قال: أوفاهما و أبعدهما عشر سنين. قيل: فدخل بها قبل أن يمضي الشرط أو بعد انقضائه؟ قال: قبل أن ينقضي. قيل له: فالرجل يتزوج المرأة و يشترط لأبيها إجارة شهرين أ يجوز ذلك؟ قال: إن موسى علم أنه سيتم له شرطه. قيل: كيف؟ قال: علم أنه سيبقى حتى يفي.

أقول: و روى قضاء عشر سنين في الدر المنثور، عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعدة طرق.

 و في تفسير العياشي، و قال الحلبي: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن البيت أ كان يحج قبل أن يبعث النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ؟ قال: نعم و تصديقه في القرآن قول شعيب حين قال لموسى (عليه السلام) حيث تزوج: ﴿عَلى‏َ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ و لم يقل ثماني سنين.

[سورة القصص (٢٨): الآیات ٢٩ الی ٤٢]

﴿فَلَمَّا قَضىَ مُوسَى اَلْأَجَلَ وَ سَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ اَلطُّورِ

 

 

نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ اُمْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ اَلنَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ٢٩ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ اَلْوَادِ اَلْأَيْمَنِ فِي اَلْبُقْعَةِ اَلْمُبَارَكَةِ مِنَ اَلشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسى‏ إِنِّي أَنَا اَللَّهُ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ ٣٠ وَ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسى‏ أَقْبِلْ وَ لاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ اَلْآمِنِينَ ٣١ اُسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَ اُضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ اَلرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى‏ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ ٣٢ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ٣٣ وَ أَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ٣٤ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَ مَنِ اِتَّبَعَكُمَا اَلْغَالِبُونَ ٣٥ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسى‏ بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا اَلْأَوَّلِينَ ٣٦ وَ قَالَ مُوسى‏ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدى‏ مِنْ عِنْدِهِ وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ اَلدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلظَّالِمُونَ ٣٧ وَ قَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى اَلطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى‏ إِلَهِ مُوسى‏ وَ إِنِّي

 

 

لَأَظُنُّهُ مِنَ اَلْكَاذِبِينَ ٣٨ وَ اِسْتَكْبَرَ هُوَ وَ جُنُودُهُ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ ٣٩ فَأَخَذْنَاهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اَلْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلظَّالِمِينَ ٤٠ وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى اَلنَّارِ وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ لاَ يُنْصَرُونَ ٤١ وَ أَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا لَعْنَةً وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ اَلْمَقْبُوحِينَ ٤٢

(بيان)

فصل آخر من قصة موسى (عليه السلام) و قد أودع فيه إجمال قصته من حين سار بأهله من مدين قاصدا لمصر و بعثته بالرسالة إلى فرعون و ملئه لإنجاء بني إسرائيل و تكذيبهم له إلى أن أغرقهم الله في اليم و تنتهي القصة إلى إيتائه الكتاب و كأنه هو العمدة في سرد القصة.

قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضىَ مُوسَى اَلْأَجَلَ وَ سَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ اَلطُّورِ نَاراً إلخ، المراد بقضائه الأجل إتمامه مدة خدمته لشعيب (عليه السلام) و المروي أنه قضى أطول الأجلين، و الإيناس‏ الإبصار و الرؤية، و الجذوة من النار القطعة منها، و الاصطلاء الاستدفاء.

و السياق يشهد أن الأمر كان بالليل و كانت ليلة شديدة البرد و قد ضلوا الطريق فرأى من جانب الطور و قد أشرفوا عليه نارا فأمر أهله أن يمكثوا ليذهب إلى ما آنسه لعله يجد هناك من يخبره بالطريق أو يأخذ قطعة من النار فيصطلوا بها، و قد وقع في القصة من سورة طه موضع قوله: ﴿لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ إلخ قوله: ﴿لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى اَلنَّارِ هُدىً طه: ١٠، و هو أدل على كونهم ضلوا الطريق.

و كذا في قوله خطابا لأهله: ﴿اُمْكُثُوا إلخ، شهادة على أنه كان معها من يصح

 

 

 معه خطاب‏[1] الجمع.

قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ اَلْوَادِ اَلْأَيْمَنِ فِي اَلْبُقْعَةِ اَلْمُبَارَكَةِ مِنَ اَلشَّجَرَةِ إلخ قال في المفردات:، شاطئ‏ الوادي جانبه، و قال: أصل الوادي‏ الموضع الذي يسيل منه الماء و منه سمي المنفرج بين الجبلين واديا و جمعه أودية انتهى و البقعة القطعة من الأرض على غير هيئة التي إلى جنبها.

و المراد بالأيمن الجانب الأيمن مقابل الأيسر و هو صفة الشاطئ و لا يعبأ بما قاله بعضهم: إن الأيمن من اليمين مقابل الأشأم من الشؤم.

و البقعة المباركة قطعة خاصة من الشاطئ الأيمن في الوادي كانت فيه الشجرة التي نودي منها، و مباركتها لتشرفها بالتقريب و التكليم الإلهي و قد أمر بخلع نعليه فيها لتقدسها كما قال تعالى في القصة من سورة طه: ﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ اَلْمُقَدَّسِ طُوىً: طه: ١٢.

و لا ريب في دلالة الآية على أن الشجرة كانت مبدءا للنداء و التكليم بوجه غير أن الكلام و هو كلام الله سبحانه لم يكن قائما بها كقيام الكلام بالمتكلم منا فلم تكن إلا حجابا احتجب سبحانه به فكلمه من ورائه بما يليق بساحة قدسه من معنى الاحتجاب و هو على كل شي‏ء محيط، قال تعالى: ﴿وَ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اَللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ: الشورى: ٥١.

و من هنا يظهر ضعف ما قيل: إن الشجرة كانت محل الكلام لأن الكلام عرض يحتاج إلى محل يقوم به.

و كذا ما قيل: إن هذا التكليم أعلى منازل الأنبياء (عليه السلام) أن يسمعوا كلام الله سبحانه من غير واسطة و مبلغ. و ذلك أنه كان كلاما من وراء حجاب و الحجاب واسطة و ظاهر آية الشورى المذكورة آنفا أن أعلى التكليم هو الوحي من غير واسطة حجاب أو رسول مبلغ.

 

 

 

و قوله: ﴿أَنْ يَا مُوسى‏َ إِنِّي أَنَا اَللَّهُ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ أن فيه تفسيرية، و فيه إنباء عن الذات المتعالية المسماة باسم الجلالة الموصوفة بوحدانية الربوبية النافية لمطلق الشرك إذ كونه ربا للعالمين جميعا و الرب‏ هو المالك المدبر لملكه الذي يستحق العبادة من مملوكيه لا يدع شيئا من العالمين يكون مربوبا لغيره حتى يكون هناك رب غيره و إله معبود سواه.

ففي الآية إجمال ما فصله في سورة طه في هذا الفصل من النداء من الإشارة إلى الأصول الثلاثة أعني التوحيد و النبوة و المعاد إذ قال: ﴿إِنَّنِي أَنَا اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِذِكْرِي إِنَّ اَلسَّاعَةَ آتِيَةٌ الآيات: طه: ١٤-١٦.

قوله تعالى: ﴿وَ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ تقدم تفسيره في سورة النمل.

قوله تعالى: ﴿يَا مُوسى‏َ أَقْبِلْ وَ لاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ اَلْآمِنِينَ بتقدير القول أي قيل له: أقبل و لا تخف إنك من الآمنين، و في هذا الخطاب تأمين له، و به يظهر معنى قوله في هذا الموضع من القصة في سورة النمل: ﴿يَا مُوسى‏َ لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ اَلْمُرْسَلُونَ: النمل: ١٠ و أنه تأمين معناه أنك مرسل و المرسلون آمنون لدي و ليس من العتاب و التوبيخ في شي‏ء.

قوله تعالى: ﴿اُسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ المراد بسلوك يده في جيبه إدخاله فيه، و المراد بالسوء على ما قيل البرص.

و الظاهر أن في هذا التقييد تعريضا لما في التوراة الحاضرة في هذا[2] الموضع من القصة: ثم قال له الرب أيضا: أدخل يدك في عبك فأدخل يده في عبه ثم أخرجها و إذا يده برصاء مثل الثلج.

قوله تعالى: ﴿وَ اُضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ اَلرَّهْبِ إلى آخر الآية، الرهب‏ بالفتح فالسكون و بفتحتين و بالضم فالسكون الخوف، و الجناح‏ قيل: المراد به اليد و قيل: العضد.

 

 

 

 قيل: المراد بضم الجناح إليه من الرهب أن يجمع يديه على صدره إذا عرضه الخوف عند مشاهدة انقلاب العصا حية ليذهب ما في قلبه من الخوف.

و قيل: إنه لما ألقى العصا و صارت حية بسط يديه كالمتقي و هما جناحاه فقيل له: اضمم إليك جناحك أي لا تبسط يديك خوف الحية فإنك آمن من ضررها.

و الوجهان كما ترى مبنيان على كون الجملة أعني قوله: ﴿وَ اُضْمُمْ إلخ، من تتمة قوله: ﴿أَقْبِلْ وَ لاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ اَلْآمِنِينَ و هذا لا يلائم تخلل قوله: ﴿اُسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ إلخ، بين الجملتين بالفصل من غير عطف.

و قيل: الجملة كناية عن الأمر بالعزم على ما أراده الله سبحانه منه و الحث على الجد في أمر الرسالة لئلا يمنعه ما يغشاه من الخوف في بعض الأحوال.

و لا يبعد أن يكون المراد بالجملة الأمر بأن يأخذ لنفسه سيماء الخاشع المتواضع فإن من دأب المتكبر المعجب بنفسه أن يفرج بين عضديه و جنبيه كالمتمطي في مشيته فيكون في معنى ما أمر الله به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من التواضع للمؤمنين بقوله: ﴿وَ اِخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ: الحجر: ٨٨ على بعض المعاني.

قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ إشارة إلى قتله القبطي بالوكز و كان يخاف أن يقتلوه قصاصا.

قوله تعالى: ﴿وَ أَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ قال في المجمع:، يقال: فلان ردء لفلان إذا كان ينصره و يشد ظهره. انتهى.

و قوله: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ تعليل لسؤاله إرسال هارون معه، و السياق يدل على أنه كان يخاف أن يكذبوه فيغضب و لا يستطيع بيان حجته للكنة كانت في لسانه لا أنه سأل إرساله لئلا يكذبوه فإن من يكذبه لا يبالي أن يكذب هارون معه و من الدليل على ذلك ما وقع في سورة الشعراء في هذا الموضع من القصة من قوله: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَ يَضِيقُ صَدْرِي وَ لاَ يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلى‏َ هَارُونَ: الشعراء: ١٣.

فمحصل المعنى: أن أخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معينا لي يبين

 

 

 صدقي في دعواي إذا خاصموني إني أخاف أن يكذبون فلا أستطيع بيان صدق دعواي.

قوله تعالى: ﴿قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَ مَنِ اِتَّبَعَكُمَا اَلْغَالِبُونَ شد عضده بأخيه كناية عن تقويته به، و عدم الوصول إليهما كناية عن عدم التسلط عليهما بالقتل و نحوه كأن الطائفتين يتسابقان و إحداهما متقدمة دائما و الأخرى لا تدركهم بالوصول إليهم فضلا أن يسبقوهم.

و المعنى: قال سنقويك و نعينك بأخيك هارون و نجعل لكما سلطة و غلبة عليهم فلا يتسلطون عليكما بسبب آياتنا التي نظهركما بها. ثم قال: ﴿أَنْتُمَا وَ مَنِ اِتَّبَعَكُمَا اَلْغَالِبُونَ و هو بيان لقوله: ﴿وَ نَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً إلخ، يوضح أن هذا السلطان يشملهما و من اتبعهما من الناس.

و قد ظهر بذلك أن السلطان بمعنى القهر و الغلبة و قيل: هو بمعنى الحجة و الأولى حينئذ أن يكون قوله: ﴿بِآيَاتِنَا متعلقا بقوله: ﴿اَلْغَالِبُونَ لا بقوله: ﴿فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا و قد ذكروا في الآية وجوها أخر لا جدوى في التعرض لها.

قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسى‏َ بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً إلخ، أي سحر موصوف بأنه مفترى و المفترى اسم مفعول بمعنى المختلق أو مصدر ميمي وصف به السحر مبالغة.

و الإشارة في قوله: ﴿مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً إلى ما جاء به من الآيات أي ليس ما جاء به من الخوارق إلا سحرا مختلقا افتعله فنسبه إلى الله كذبا.

و الإشارة في قوله: ﴿وَ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا اَلْأَوَّلِينَ إلى ما جاء به من الدعوة و أقام عليها حجة الآيات، و أما احتمال أن يراد بها الإشارة إلى الآيات فلا يلائمه تكرار اسم الإشارة على أنهم كانوا يدعون أنهم سيأتون بمثلها كما حكى الله عن فرعون في قوله: ﴿فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ: طه: ٥٨ على أن عدم معهودية السحر و عدم مسبوقيته بالمثل لا ينفعهم شيئا حتى يدعوه.

فالمعنى: أن ما جاء به موسى دين مبتدع لم ينقل عن آبائنا الأولين أنهم اتخذوه في وقت من الأوقات، و يناسبه ما حكي في الآية التالية من قول موسى: ﴿رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدى‏َ إلخ.

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ مُوسى‏َ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدى‏َ مِنْ عِنْدِهِ وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ اَلدَّارِ إلخ، مقتضى السياق كونه جوابا من موسى عن قولهم: ﴿وَ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا اَلْأَوَّلِينَ في رد دعوى موسى، و هو جواب مبني على التحدي كأنه يقول: إن ربي و هو رب العالمين له الخلق و الأمر هو أعلم منكم بمن جاء بالهدى و من تكون له عاقبة الدار و هو الذي أرسلني رسولا جائيا بالهدى و هو دين التوحيد و وعدني أن من أخذ بديني فله عاقبة الدار، و الحجة على ذلك الآيات البينات التي آتانيها من عنده.

فقوله: ﴿رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدى‏َ مِنْ عِنْدِهِ يريد به نفسه و المراد بالهدى الدعوة الدينية التي جاء بها.

و قوله: ﴿وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ اَلدَّارِ المراد بعاقبة الدار إما الجنة التي هي الدار الآخرة التي يسكنها السعداء كما قال تعالى حكاية عنهم: ﴿وَ أَوْرَثَنَا اَلْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ اَلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ: الزمر: ٧٤ و إما عاقبة الدار الدنيا كما في قوله: ﴿قَالَ مُوسى‏َ لِقَوْمِهِ اِسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَ اِصْبِرُوا إِنَّ اَلْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ اَلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ : الأعراف: ١٢٨ و إما الأعم الشامل للدنيا و الآخرة، و الثالث أحسن الوجوه ثم الثاني كما يؤيده تعليله بقوله: ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلظَّالِمُونَ.

و في قوله: ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلظَّالِمُونَ تعريض لفرعون و قومه و فيه نفي أن تكون لهم عاقبة الدار فإنهم بنوا سنة الحياة على الظلم و فيه انحراف عن العدالة الاجتماعية التي تهدي إليها فطرة الإنسان الموافقة للنظام الكوني.

قال بعض المفسرين: و الوجه في عطف قوله: ﴿وَ قَالَ مُوسى‏َ رَبِّي أَعْلَمُ إلخ، على قولهم: ﴿مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً إلخ حكاية القولين ليوازن السامع بينهما ليميز صحيحهما من الفاسد. انتهى. و ما قدمناه من كون قول موسى (عليه السلام) مسوقا لرد قولهم أوفق للسياق.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي إلى آخر الآية، فيه تعريض لموسى بما جاء به من الدعوة الحقة المؤيدة بالآيات المعجزة يريد أنه لم يتبين له حقية ما يدعو إليه موسى و لا كون ما أتى به من الخوارق آيات معجزة من

 

 

 عند الله و أنه ما علم لهم من إله غيره.

فقوله: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي سوق للكلام في صورة الإنصاف ليقع في قلوب الملأ موقع القبول كما هو ظاهر قوله المحكي في موضع آخر: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرى‏َ وَ مَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ اَلرَّشَادِ: المؤمن: ٢٩.

فمحصل المعنى: أنه ظهر للملإ أنه لم يتضح له من دعوة موسى و آياته أن هناك إلها هو رب العالمين و لا حصل له علم بأن هناك إلها غيره ثم أمر هامان أن يبني له صرحا لعله يطلع إلى إله موسى.

و بذلك يظهر أن قوله: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي من قبيل قصر القلب فقد كان موسى (عليه السلام) يثبت الألوهية لله سبحانه و ينفيها عن غيره و هو ينفيها عنه تعالى و يثبتها لنفسه، و أما سائر الآلهة التي كان يعبدها هو و قومه فلا تعرض لها.

و قوله: ﴿فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى اَلطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً المراد بالإيقاد على الطين تأجيج النار عليه لصنعة الأجر المستعمل في الأبنية، و الصرح البناء العالي المكشوف من صرح الشي‏ء إذا ظهر ففي الجملة أمر باتخاذ الأجر و بناء قصر عال منه.

و قوله: ﴿لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى‏َ إِلَهِ مُوسى‏َ نسب الإله إلى موسى بعناية أنه هو الذي يدعو إليه، و الكلام من وضع النتيجة موضع المقدمة و التقدير: اجعل لي صرحا أصعد إلى أعلى درجاته فأنظر إلى السماء لعلي أطلع إلى إله موسى كأنه كان يرى أنه تعالى جسم ساكن في بعض طبقات الجو أو الأفلاك فكان يرجو إذا نظر من أعلى الصرح أن يطلع إليه أو كان هذا القول من قبيل التعمية على الناس و إضلالهم.

و يمكن أن يكون المراد أن يبني له رصدا يترصد الكواكب فيرى هل فيها ما يدل على بعثة رسول أو حقية ما يصفه موسى (عليه السلام)، و يؤيد هذا قوله على ما حكى في موضع آخر: ﴿يَا هَامَانُ اِبْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ اَلْأَسْبَابَ أَسْبَابَ اَلسَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلى‏َ إِلَهِ مُوسى‏َ وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً: المؤمن: ٣٧.

و قوله: ﴿وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ اَلْكَاذِبِينَ ترق منه من الجهل الذي يدل عليه قوله:

﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي إلى الظن بعدم الوجود و قد كان كاذبا في قوله هذا و لا يقوله إلا تمويها و تعمية على الناس و قد خاطبه موسى بقوله: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ

 

 

 هَؤُلاَءِ إِلاَّ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ: إسراء: ١٠٢.

و ذكر بعضهم أن قوله: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي من قبيل نفي المعلوم بنفي العلم فيما لو كان لبان فيكون نظير قوله: ﴿قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اَللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ لاَ فِي اَلْأَرْضِ: يونس: ١٨ و أنت خبير بأنه لا يلائم ذيل الآية.

قوله تعالى: ﴿وَ اِسْتَكْبَرَ هُوَ وَ جُنُودُهُ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ أي كانت حالهم حال من يترجح عنده عدم الرجوع و ذلك أنهم كانوا موقنين في أنفسهم كما قال تعالى: ﴿وَ جَحَدُوا بِهَا وَ اِسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا.

قوله تعالى: ﴿فَأَخَذْنَاهُ وَ جُنُودَهُ إلخ النبذ الطرح، و اليم‏ البحر و الباقي ظاهر.

و في الآية من الاستهانة بأمرهم و تهويل العذاب الواقع بهم ما لا يخفى.

قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى اَلنَّارِ وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ لاَ يُنْصَرُونَ الدعوة إلى النار هي الدعوة إلى ما يستوجب النار من الكفر و المعاصي لكونها هي التي تتصور لهم يوم القيامة نارا يعذبون فيها أو المراد بالنار ما يستوجبها مجازا من باب إطلاق المسبب و إرادة سببه.

و معنى جعلهم أئمة يدعون إلى النار، تصييرهم سابقين في الضلال يقتدي بهم اللاحقون و لا ضير فيه لكونه بعنوان المجازاة على سبقهم في الكفر و الجحود و ليس من الإضلال الابتدائي في شي‏ء.

و قيل: المراد بجعلهم أئمة يدعون إلى النار تسميتهم بذلك على حد قوله:

﴿وَ جَعَلُوا اَلْمَلاَئِكَةَ اَلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ اَلرَّحْمَنِ إِنَاثاً: الزخرف: ١٩.

و فيه أن الآية التالية على ما سيجي‏ء من معناها لا تلائمه. على أن كون الجعل في الآية المستشهد بها بمعنى التسمية غير مسلم.

و قوله: ﴿وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ لاَ يُنْصَرُونَ أي لا تنالهم شفاعة من ناصر.

قوله تعالى: ﴿وَ أَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا لَعْنَةً وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ اَلْمَقْبُوحِينَ بيان للازم ما وصفهم به في الآية السابقة فهم لكونهم أئمة يقتدي بهم من خلفهم في الكفر و المعاصي لا يزال يتبعهم ضلال الكفر و المعاصي من مقتديهم و متبعيهم و عليهم من الأوزار مثل ما للمتبعين فيتبعهم لعن مستمر باستمرار الكفر و المعاصي بعدهم.

 

 

 فالآية في معنى قوله: ﴿وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَ أَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ: العنكبوت: ١٣ و قوله: ﴿وَ نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَ آثَارَهُمْ: يس: ١٢ و تنكير اللعنة للدلالة على تفخيمها و استمرارها.

و كذا لما لم ينلهم يوم القيامة نصر ناصر كانوا بحيث يتنفر و يشمئز عنهم النفوس و يفر منهم الناس و لا يدنو منهم أحد و هو معنى القبح و قد وصف الله تعالى من قبح منظرهم شيئا كثيرا في كلامه.

(بحث روائي)

 في المجمع، روى الواحدي بالإسناد عن ابن عباس قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أوفاهما و أبطأهما. أقول: و روي ما في معناه بالإسناد عن أبي ذر عنه (ص).

 و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن مقسم قال: لقيت الحسن بن علي بن أبي طالب رض فقلت له: أي الأجلين قضى موسى؟ الأول أو الآخر؟ قال: الآخر.

و في المجمع، روى أبو بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما قضى موسى الأجل و سار بأهله نحو البيت أخطأ الطريق فرأى نارا ﴿قَالَ لِأَهْلِهِ اُمْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً.

 و عن كتاب طب الأئمة، بإسناده عن جابر الجعفي عن الباقر (عليه السلام) في حديث قال: و قال الله عز و جل في قصة موسى (عليه السلام): ﴿وَ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ يعني من غير برص.

 و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿وَ أَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي قال الراوي: فقلت لأبي جعفر (عليه السلام): فكم مكث موسى (عليه السلام) غائبا عن أمه حتى رده الله عز و جل عليها؟ قال: ثلاثة أيام.

قال: فقلت: فكان هارون أخا موسى (عليه السلام) لأبيه و أمه؟ قال: نعم أ ما تسمع الله عز و جل يقول: ﴿يَا بْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لاَ بِرَأْسِي؟ فقلت:

 

 

فأيهما كان أكثر سنا؟ قال: هارون. قلت: فكان الوحي ينزل عليهما جميعا؟ قال:

كان الوحي ينزل على موسى و موسى يوحيه إلى هارون .

فقلت له: أخبرني عن الأحكام و القضاء و الأمر و النهي كان ذلك إليهما؟ قال:

كان موسى الذي يناجي ربه و يكتب العلم و يقضي بين بني إسرائيل و هارون يخلفه إذا غاب من قومه للمناجاة. قلت: فأيهما مات قبل صاحبه؟ قال: مات هارون قبل موسى و ماتا جميعا في التيه. قلت: فكان لموسى ولد؟ قال: لا كان الولد لهارون و الذرية له.

 أقول: و آخر الرواية لا يوافق روايات أخر تدل على أنه كان له ولد، و في التوراة الحاضرة أيضا دلالة على ذلك.

 في جوامع الجامع،: في قوله تعالى: ﴿وَ اِسْتَكْبَرَ هُوَ وَ جُنُودُهُ قال (عليه السلام) فيما حكاه عن ربه عز و جل: الكبرياء ردائي و العظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار.

 و في الكافي، بإسناده عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: إن الأئمة في كتاب الله عز و جل إمامان قال الله تبارك و تعالى: ﴿وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لا بأمر الناس يقدمون أمر الله قبل أمرهم و حكم الله قبل حكمهم. قال:

﴿وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى اَلنَّارِ يقدمون أمرهم قبل أمر الله و حكمهم قبل حكم الله و يأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله عز و جل.

(كلام حول قصص موسى و هارون (عليه السلام)) في فصول‏

١ - منزلة موسى عند الله و موقفه العبودي:

كان (عليه السلام) أحد الخمسة أولي العزم الذين هم سادة الأنبياء و لهم كتاب و شريعة كما خصهم الله تعالى بالذكر في قوله:

﴿وَ إِذْ أَخَذْنَا مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسىَ وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً: الأحزاب: ٧، و قال: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَ مَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسىَ وَ عِيسى‏: الشورى: ١٣

 

 

 و لقد امتن الله سبحانه عليه و على أخيه في قوله: ﴿وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلىَ مُوسىَ وَ هَارُونَ: الصافات: ١١٤ و سلم عليهما في قوله: ﴿سَلاَمٌ عَلىَ مُوسىَ وَ هَارُونَ : الصافات: ١٢٠.

و أثنى على موسى (عليه السلام) بأجمل الثناء في قوله: ﴿وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ مُوسىَ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَ كَانَ رَسُولاً نَبِيًّا وَ نَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ اَلطُّورِ اَلْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا: مريم:

 ٥٢ و قال: ﴿وَ كَانَ عِنْدَ اَللَّهِ وَجِيهاً: الأحزاب: ٦٩ و قال: ﴿وَ كَلَّمَ اَللَّهُ مُوسى‏ تَكْلِيماً: النساء: ١٦٤.

و ذكره في جملة من ذكرهم من الأنبياء في سورة الأنعام الآية ٨٤-٨٨ فأخبر أنهم كانوا محسنين صالحين و أنه فضلهم على العالمين و اجتباهم و هداهم إلى صراط مستقيم. و ذكره في جملة الأنبياء في سورة مريم ثم ذكر في الآية ٥٨ منها أنهم الذين أنعم الله عليهم.

فاجتمع بذلك له (عليه السلام) معنى الإخلاص و التقريب و الوجاهة و الإحسان و الصلاح و التفضيل و الاجتباء و الهداية و الإنعام و قد مر البحث عن معاني هذه الصفات في مواضع تناسبها من هذا الكتاب و كذا البحث عن معنى النبوة و الرسالة و التكليم.

و ذكر الكتاب النازل عليه و هو التوراة فوصفها بأنها إمام و رحمة (سورة الأحقاف: ١٢) و بأنها فرقان و ضياء و ذكر: (الأنبياء: ٤٨) و بأن فيها هدى و نور : (المائدة: ٤٤) و قال: ﴿وَ كَتَبْنَا لَهُ فِي اَلْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ: الأعراف: ١٤٥.

غير أنه تعالى ذكر في مواضع من كلامه أنهم حرفوها و اختلفوا فيها. و قصة بخت نصر و فتحه فلسطين ثانيا و هدمه الهيكل و إحراقه التوراة و حشره اليهود إلى بابل سنة خمسمائة و ثمان و ثمانين قبل المسيح ثم فتح كورش الملك بابل سنة خمسمائة و ثمان و ثلاثين قبل المسيح و إذنه لليهود أن يرجعوا إلى فلسطين ثانيا و كتابة عزراء الكاهن التوراة لهم معروف في التواريخ و قد تقدمت الإشارة إليه في الجزء الثالث من الكتاب في قصص المسيح (عليه السلام).

 ٢ - قصص موسى (عليه السلام) في القرآن:

هو (عليه السلام) أكثر الأنبياء ذكرا في

 

 

 القرآن الكريم فقد ذكر اسمه على ما عدوه في مائة و ستة و ستين موضعا من كلامه تعالى، و أشير إلى قصته إجمالا أو تفصيلا في أربع و ثلاثين سورة من سور القرآن، و قد اختص من بين الأنبياء بكثرة المعجزات، و قد ذكر في القرآن شي‏ء كثير من معجزاته الباهرة كصيرورة عصاه ثعبانا، و اليد البيضاء، و الطوفان، و الجراد، و القمل، و الضفادع، و الدم، و فلق البحر، و إنزال المن و السلوى، و انبجاس العيون من الحجر بضرب العصا، و إحياء الموتى، و رفع الطور فوق القوم و غير ذلك.

و قد ورد في كلامه تعالى طرف من قصصه (عليه السلام) من دون استيفائها في كل ما دق و جل بل بالاقتصار على فصول منها يهم ذكرها لغرض الهداية و الإرشاد على ما هو دأب القرآن الكريم في الإشارة إلى قصص الأنبياء و أممهم.

و هذه الفصول التي فيها كليات قصصه هي أنه تولد بمصر في بيت إسرائيلي حينما كانوا يذبحون المواليد الذكور من بني إسرائيل بأمر فرعون و جعلت أمه إياه في تابوت و ألقته في البحر و أخذ فرعون إياه ثم رده إلى أمه للإرضاع و التربية و نشأ في بيت فرعون.

ثم بلغ أشده و قتل القبطي و هرب من مصر إلى مدين خوفا من فرعون و ملئه أن يقتلوه قصاصا.

ثم مكث في مدين عند شعيب النبي (عليه السلام) و تزوج إحدى بنتيه.

ثم لما قضى موسى الأجل و سار بأهله آنس من جانب الطور نارا و قد ضلوا الطريق في ليلة شاتية فأوقفهم مكانهم و ذهب إلى النار ليأتيهم بقبس أو يجد على النار هدى فلما أتاها ناداه الله من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة و كلمه و اجتباه و آتاه معجزة العصا و اليد البيضاء في تسع آيات و اختاره للرسالة إلى فرعون و ملئه و إنجاء بني إسرائيل و أمره بالذهاب إليه.

فأتى فرعون و دعاه إلى كلمة الحق و أن يرسل معه بني إسرائيل و لا يعذبهم و أراه آية العصا و اليد البيضاء فأبى و عارضة بسحر السحرة و قد جاءوا بسحر عظيم من ثعابين و حيات فألقى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى و هارون و أصر فرعون على جحوده و هدد السحرة و لم يؤمن.

 

 

 فلم يزل موسى (عليه السلام) يدعوه و ملأه و يريهم الآية بعد الآية كالطوفان و الجراد و القمل و الضفادع و الدم آيات مفصلات و هم يصرون على استكبارهم، و كلما وقع عليهم الرجز قالوا: يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك و لنرسلن معك بني إسرائيل فلما كشف الله عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون.

فأمره الله أن يسري بني إسرائيل ليلا فساروا حتى بلغوا ساحل البحر فعقبهم فرعون بجنوده فلما تراءى الفريقان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين فأمر بأن يضرب بعصاه البحر فانفلق الماء فجاوزوا البحر و اتبعهم فرعون و جنوده حتى إذا اداركوا فيها جميعا أطبق الله عليهم الماء فأغرقهم عن آخرهم.

و لما أنجاهم الله من فرعون و جنوده و أخرجهم إلى البر و لا ماء فيه و لا كلاء أكرمهم الله فأنزل عليهم المن و السلوى و أمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم فشربوا منها و أكلوا منهما و ظللهم الغمام.

ثم واعد الله موسى أربعين ليلة لنزول التوراة بجبل الطور فاختار قومه سبعين رجلا ليسمعوا تكليمه تعالى إياه فسمعوا ثم قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة و هم ينظرون ثم أحياهم الله بدعوة موسى، و لما تم الميقات أنزل الله عليه التوراة و أخبره أن السامري قد أضل قومه بعده فعبدوا العجل.

فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا فأحرق العجل و نسفه في اليم و طرد السامري و قال له: اذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس و أما القوم فأمروا أن يتوبوا و يقتلوا أنفسهم فتيب عليهم بعد ذلك ثم استكبروا عن قبول شريعة التوراة حتى رفع الله الطور فوقهم.

ثم إنهم ملوا المن و السلوى و قالوا لن نصبر على طعام واحد و سألوه أن يدعو ربه أن يخرج لهم مما تنبت الأرض من بقلها و قثائها و فومها و عدسها و بصلها فأمروا أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لهم فأبوا فحرمها الله عليهم و ابتلاهم بالتيه يتيهون في الأرض أربعين سنة.

و من قصص موسى (عليه السلام) ما ذكره الله في سورة الكهف من مضيه مع فتاه إلى

 

 

 مجمع البحرين للقاء العبد الصالح و صحبته حتى فارقه.

٣ - منزلة هارون (عليه السلام) عند الله و موقفه العبودي:

أشركه الله تعالى مع موسى (عليه السلام) في سورة الصافات في المن و إيتاء الكتاب و الهداية إلى الصراط المستقيم و في التسليم و أنه من المحسنين و من عباده المؤمنين (الصافات: ١١٤-١٢٢) و عده مرسلا (طه: ٤٧) و نبيا (مريم: ٥٣) و أنه ممن أنعم عليهم (مريم: ٥٨) و أشركه مع من عدهم من الأنبياء في سورة الأنعام في صفاتهم الجميلة من الإحسان و الصلاح و الفضل و الاجتباء و الهداية (الإنعام: ٨٤-٨٨).

و في دعاء موسى ليلة الطور: ﴿وَ اِجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً: طه: ٣٥.

و كان (عليه السلام) ملازما لأخيه في جميع مواقفه يشاركه في عامة أمره و يعينه على جميع مقاصده.

و لم يرد في القرآن الكريم مما يختص به من القصص إلا خلافته لأخيه حين غاب عن القوم للميقات و قال لأخيه هارون اخلفني في قومي و أصلح و لا تتبع سبيل المفسدين و لما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا و قد عبدوا العجل ألقى الألواح و أخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القول استضعفوني و كادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء و لا تجعلني مع القوم الظالمين قال رب اغفر لي و لأخي و أدخلنا في رحمتك و أنت أرحم الراحمين.

٤ - قصة موسى (عليه السلام)

في التوراة الحاضرة: قصصه (عليه السلام) موضوعة فيما عدا السفر الأول من أسفار التوراة الخمسة و هي: سفر الخروج و سفر اللاويين و سفر العدد و سفر التثنية تذكر فيها تفاصيل قصصه (عليه السلام) من حين ولادته إلى حين وفاته و ما أوحي إليه من الشرائع و الأحكام.

غير أن فيها اختلافات في سرد القصة مع القرآن في أمور غير يسيرة.

و من أهمها أنها تذكر أن نداء موسى و تكليمه من الشجرة كان في أرض مدين

 

 

قبل أن يسير بأهله و ذلك حين كان يرعى غنم يثرون‏[3] حمية كاهن مديان فساق الغنم إلى وراء البرية و جاء إلى جبل الله حوريب و ظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليقة فناداه الله و كلمه بما كلمه و أرسله إلى فرعون لإنجاء بني إسرائيل.[4]

و منها ما ذكرت أن فرعون الذي أرسل إليه موسى غير فرعون الذي أخذ موسى و رباه ثم هرب منه موسى لما قتل القبطي خوفا من القصاص.[5]

و منها أنها لم تذكر إيمان السحرة لما ألقوا عصيهم فصارت حيات فتلقفتها عصا موسى بل تذكر أنهم كانوا عند فرعون و عارضوا موسى في آيتي الدم و الضفادع فأتوا بسحرهم مثل ما أتى به موسى (عليه السلام) معجزة.[6]

و منها أنها تذكر أن الذي صنع لهم العجل فعبدوه هو هارون النبي أخو موسى (عليه السلام) و ذلك أنه لما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون و قالوا له: قم اصنع لنا آلهة تسير إمامنا لأن هذا (موسى) الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ما ذا أصابه؟ فقال لهم هارون: انزعوا أقراط الشعب التي في آذان نسائكم و بنيكم و بناتكم و أتوني بها.

فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم و أتوا بها إلى هارون فأخذ ذلك من أيديهم و صوره بالإزميل فصبغه عجلا مسبوكا فقالوا أ هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر.[7]

و في الآيات القرآنية تعريضات للتوراة في هذه المواضع من قصصه (عليه السلام) غير خفية على المتدبر فيها.

و هناك اختلافات جزئية كثيرة كما وقع في التوراة في قصة قتل القبطي أن

 

 

 المتضاربين ثانيا كانا جميعا إسرائيليين.[8]

و أيضا وقع فيها أن الذي ألقى العصا فتلقفت حيات السحرة هو هارون ألقاها بأمر موسى.[9]

و أيضا لم تذكر فيها قصة انتخاب السبعين رجلا للميقات و نزول الصاعقة عليهم و إحياءهم بعده.

و أيضا فيها أن الألواح التي كانت مع موسى لما نزل من الجبل و ألقاها كانت لوحين من حجر و هما لوحا الشهادة[10]. إلى غير ذلك من الاختلافات.

[سورة القصص (٢٨): الآیات ٤٣ الی ٥٦]

﴿وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا اَلْقُرُونَ اَلْأُولىَ بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ٤٣ وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ اَلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلى‏ مُوسَى اَلْأَمْرَ وَ مَا كُنْتَ مِنَ اَلشَّاهِدِينَ ٤٤ وَ لَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ اَلْعُمُرُ وَ مَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَ لَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ٤٥ وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ اَلطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَ لَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ٤٦ وَ لَوْ لاَ أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْ لاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً

 

 

﴿فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَ نَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ ٤٧ فَلَمَّا جَاءَهُمُ اَلْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْ لاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسىَ أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسى‏ مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَ قَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ٤٨ قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ هُوَ أَهْدى‏ مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ٤٩ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اِتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ ٥٠ وَ لَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ اَلْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ٥١ اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ٥٢ وَ إِذَا يُتْلى‏ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ٥٣ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ اَلسَّيِّئَةَ وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ٥٤ وَ إِذَا سَمِعُوا اَللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَ قَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَ لَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي اَلْجَاهِلِينَ ٥٥ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ٥٦

(بيان)

سياق الآيات يشهد أن المشركين من قوم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) راجعوا بعض أهل الكتاب و استفتوهم في أمره (ص) و عرضوا عليهم بعض القرآن النازل عليه و هو

 

 

 مصدق للتوراة فأجابوا بتصديقه و الإيمان بما يتضمنه القرآن من المعارف الحقة و أنهم كانوا يعرفونه بأوصافه قبل أن يبعث كما قال تعالى: ﴿وَ إِذَا يُتْلى‏َ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ.

فساء المشركين ذلك و شاجروهم و أغلظوا عليهم في القول و قالوا: إن القرآن سحر و التوراة سحر مثله ﴿سِحْرَانِ تَظَاهَرَا و ﴿إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ فأعرض الكتابيون عنهم و قالوا: ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي اَلْجَاهِلِينَ.

هذا ما يلوح إليه الآيات الكريمة بسياقها، و هو سبحانه لما ساق قصة موسى (عليه السلام) و أنبأ أنه كيف أظهر قوما مستضعفين معبدين معذبين يذبح أبناؤهم و تستحيي نساؤهم على قوم عالين مستكبرين طغاة مفسدين بوليد منهم رباه في حجر عدوه الذي يذبح بأمره الألوف من أبنائهم ثم أخرجه لما نشأ من بينهم ثم بعثه و رده إليهم و أظهره عليهم حتى أغرقهم أجمعين و أنجى شعب إسرائيل فكانوا هم الوارثين.

عطف القول على الكتاب السماوي الذي هو المتضمن للدعوة و به تتم الحجة و هو الحامل للتذكرة فذكر أنه أنزل التوراة على موسى (عليه السلام) فيه بصائر للناس و هدى و رحمة لعلهم يتذكرون فينتهون عن معصية الله بعد ما أهلك القرون الأولى بمعاصيهم.

و كذا أنزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) القرآن و قص عليه قصص موسى (عليه السلام) و لم يكن هو شاهدا لنزول التوراة عليه و لا حاضرا في الطور لما ناداه و كلمه، و قص عليه ما جرى بين موسى و شعيب (عليه السلام) و لم يكن هو ثاويا في مدين يتلو عليهم آياته و لكن أنزله و قص عليه ما قصه رحمة منه لينذر به قوما ما أتاهم من نذير من قبله لأنهم بسبب كفرهم و فسوقهم في معرض نزول العذاب و أصابه المصيبة فلو لم ينزل الكتاب و لم يبلغ الدعوة لقالوا: ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك و كانت الحجة لهم على الله سبحانه.

فلما جاءهم الحق من عنده ببعثة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و نزول القرآن قالوا: ﴿لَوْ لاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى‏َ أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسى‏َ مِنْ قَبْلُ حين راجعوا أهل الكتاب في أمره فصدقوه فقال المشركون: ﴿سِحْرَانِ تَظَاهَرَا يعنون التوراة و القرآن، و قالوا ﴿إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ.

 

 

ثم لقن سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم)الحجة عليهم بقوله: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ هُوَ أَهْدى‏َ مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أي إن من الواجب في حكمة الله أن يكون هناك كتاب نازل من عند الله يهدي إلى الحق و تتم به الحجة على الناس و هم يعرفون فإن لم تكن التوراة و القرآن كتابي هدى و كافيين لهداية الناس فهناك كتاب هو أهدى منهما و ليس كذلك إذ ما في الكتابين من المعارف الحقة مؤيدة بالإعجاز و بدلالة البراهين العقلية. على أنه ليس هناك كتاب سماوي هو أهدى منهما فالكتابان كتابا هدى و القوم في الإعراض عنهما متبعون للهوى ضالون عن الصراط المستقيم و هو قوله:

﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ إلخ.

ثم مدح سبحانه قوما من أهل الكتاب راجعهم المشركون في أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و القرآن فأظهروا لهم الإيمان و التصديق و أعرضوا عن لغو القول الذي جبهوهم به.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا اَلْقُرُونَ اَلْأُولى‏َ بَصَائِرَ لِلنَّاسِ إلخ اللام للقسم أي أقسم لقد أعطينا موسى الكتاب و هو التوراة بوحيه إليه.

و قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا اَلْقُرُونَ اَلْأُولى‏َ أي الأجيال السابقة على نزول التوراة كقوم نوح و من بعدهم من الأمم الهالكة و لعل منهم قوم فرعون، و في هذا التقييد إشارة إلى مسيس الحاجة حينئذ إلى نزول الكتاب لاندراس معالم الدين الإلهي بمضي الماضين و ليشار في الكتاب الإلهي إلى قصصهم و حلول العذاب الإلهي بهم بسبب تكذيبهم لآيات الله ليعتبر به المعتبرون و يتذكر به المتذكرون.

و قوله: ﴿بَصَائِرَ لِلنَّاسِ جمع بصيرة بمعنى ما يبصره به و كان المراد بها الحجج البينة التي يبصر بها الحق و يميز بها بينه و بين الباطل، و هي حال من الكتاب و قيل:

مفعول له.

و قوله: ﴿وَ هُدىً بمعنى الهادي أو ما يهتدى به و كذا قوله: ﴿وَ رَحْمَةً بمعنى ما يرحم به و هما حالان من الكتاب كبصائر، و قيل: كل منهما مفعول له.

و المعنى: و أقسم لقد أعطينا موسى الكتاب و هو التوراة من بعد ما أهلكنا

 

 

 الأجيال الأولى فاقتضت الحكمة تجديد الدعوة و الإنذار حال كون الكتاب حججا بينة يبصر بها الناس المعارف الحقة و هدى يهتدون به إليها و رحمة يرحمون بسبب العمل بشرائعه و أحكامه لعلهم يتذكرون فيفقهون ما يجب عليهم من الاعتقاد و العمل.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ اَلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلى‏َ مُوسَى اَلْأَمْرَ وَ مَا كُنْتَ مِنَ اَلشَّاهِدِينَ الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و الغربي صفة محذوفة الموصوف و المراد جانب الوادي الغربي أو جانب الجبل الغربي.

و قوله: ﴿إِذْ قَضَيْنَا إِلى‏َ مُوسَى اَلْأَمْرَ كان القضاء مضمن معنى العهد، و المراد بعهد الأمر إليه على ما قيل أحكام أمر نبوته بإنزال التوراة إليه و أما العهد إليه بأصل الرسالة فيدل عليه قوله بعد: ﴿وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ اَلطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا و قوله:

﴿وَ مَا كُنْتَ مِنَ اَلشَّاهِدِينَ تأكيد لسابقه.

و المعنى: و ما كنت حاضرا و شاهدا حين أنزلنا التوراة على موسى في الجانب الغربي من الوادي أو الجبل.

قوله تعالى: ﴿وَ لَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ اَلْعُمُرُ تطاول العمر تمادي الأمد و الجملة استدراك عن النفي في قوله: ﴿وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ اَلْغَرْبِيِّ، و المعنى:

ما كنت حاضرا هناك شاهدا لما جرى فيه و لكنا أوجدنا أجيالا بعده فتمادى بهم الأمد ثم أنزلنا عليك قصته و خبر نزول الكتاب عليه ففي الكلام إيجاز بالحذف لدلالة المقام عليه.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَ لَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ الثاوي‏ المقيم يقال: ثوى في المكان إذا أقام فيه، و الضمير في ﴿عَلَيْهِمُ لمشركي مكة الذين كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يتلو عليهم آيات الله التي تقص ما جرى على موسى (عليه السلام) في مدين زمن كونه فيه.

و قوله: ﴿وَ لَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ استدراك من النفي في صدر الآية.

و المعنى: و ما كنت مقيما في أهل مدين و هم شعيب و قومه مشاهدا لما جرى على موسى هناك تتلو على المشركين آياتنا القاصة لخبره هناك و لكنا كنا مرسلين لك إلى قومك موحين بهذه الآيات إليك لتتلوها عليهم.

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ اَلطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَ لَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إلى آخر الآية، الظاهر من مقابلة الآية لقوله السابق: ﴿وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ اَلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إلخ، إن المراد بهذا النداء ما كان من الشجرة في الليلة التي آنس فيها من جانب الطور نارا.

و قوله: ﴿وَ لَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إلخ، استدراك عن النفي السابق، و الظاهر أن ﴿رَحْمَةً مفعول له، و الالتفات عن التكلم بالغير إلى الغيبة في قوله: ﴿مِنْ رَبِّكَ للدلالة على كمال عنايته تعالى به (ص).

و قوله: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ الظاهر أن المراد بهذا القوم أهل عصر الدعوة النبوية أو هم و من يقارنهم من آبائهم فإن العرب خلت فيهم رسل منهم كهود و صالح و شعيب و إسماعيل (عليه السلام).

و المعنى: و ما كنت حاضرا في جانب الطور إذ نادينا موسى و كلمناه و اخترناه للرسالة حتى تخبر عن هذه القصة إخبار الحاضر المشاهد و لكن لرحمة منا أخبرناك بها لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون.

قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ لاَ أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا إلخ، المراد بما قدمت أيديهم ما اكتسبوه من السيئات من طريق الاعتقاد و العمل بدليل ذيل الآية، و المراد بالمصيبة التي تصيبهم أعم من مصيبة الدنيا و الآخرة فإن الإعراض عن الحق بالكفر و الفسوق يستتبع المؤاخذة الإلهية في الدنيا كما يستتبعها في الآخرة، و قد تقدم بعض الكلام فيه في ذيل قوله: ﴿وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى‏َ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ: الأعراف: ٩٦ و غيره.

و قوله: ﴿فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْ لاَ أَرْسَلْتَ متفرع على ما تقدمه على تقديم عدم إرسال الرسول و جواب لو لا محذوف لظهوره و التقدير: لما أرسلنا رسولا.

و محصل المعنى: أنه لو لا أنه تكون لهم الحجة علينا على تقدير عدم إرسال الرسول و أخذهم بالعذاب بما قدمت أيديهم من الكفر و الفسوق لما أرسلنا إليهم رسولا لكنهم يقولون ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك التي يتلوها علينا و نكون من المؤمنين.

قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ اَلْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْ لاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى‏َ

 

 

إلخ، أي فأرسلنا إليهم الرسول بالحق و أنزلنا الكتاب فلما جاءهم الحق من عندنا و الظاهر أنه الكتاب النازل على الرسول و هو القرآن النازل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .

و المراد بقولهم: ﴿لَوْ لاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى‏َ أي لو لا أوتي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مثل التوراة التي أوتيها موسى (عليه السلام)، و كأنهم يريدون به أن ينزل القرآن جملة واحدة كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً: الفرقان: ٣٢.

و قد أجاب الله عن قولهم بقوله: ﴿أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسى‏َ مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا يعنون القرآن و التوراة ﴿وَ قَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ. و الفرق بين القولين أن الأول كفر بالكتابين و الثاني كفر بأصل النبوة و لعله الوجه لتكرار ﴿قَالُوا في الكلام.

قوله تعالى: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ هُوَ أَهْدى‏َ مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ تفريع على كون القرآن و التوراة سحرين تظاهرا، و لا يصح هذا التفريع إلا إذا كان من الواجب أن يكون بين الناس كتاب من عند الله سبحانه يهديهم و يجب عليهم اتباعه فإذا كانا سحرين باطلين كان الحق غيرهما، و هو كذلك على ما تبين بقوله:

﴿وَ لَوْ لاَ أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ إلخ، إن للناس على الله أن ينزل عليهم الكتاب و يرسل إليهم الرسول، و لذلك أمر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم)أن يطالبهم بكتاب غيرهما هو أهدى منهما ليتبعه.

ثم الكتابان لو كانا سحرين تظاهرا كانا باطلين مضلين لا هدى فيهما حتى يكون غيرهما من الكتاب الذي يأتون به أهدى منهما - لاستلزام صيغة التفضيل اشتراك المفضل و المفضل عليه في أصل الوصف لكن المقام لما كان مقام المحاجة ادعى أن الكتابين هاديان لا مزيد عليهما في الهداية فإن لم يقبل الخصم ذلك فليأت بكتاب يزيد عليهما في معنى ما يشتملان عليه من بيان الواقع فيكون أهدى منهما.

و القرآن الكريم و إن كان يصرح بتسرب التحريف و الخلل في التوراة الحاضرة و ذلك لا يلائم عدها كتاب هدى بقول مطلق لكن الكلام في التوراة الواقعية النازلة على موسى (عليه السلام) و هي التي يصدقها القرآن.

 

 

 على أن موضوع الكلام هما معا و القرآن يقوم التوراة الحاضرة ببيان ما فيها من الخلل فهما معا هدى لا كتاب أهدى منهما.

و قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أي في دعوى أنهما سحران تظاهرا.

قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ إلى آخر الآية، الاستجابة و الإجابة بمعنى واحد، قال في الكشاف: هذا الفعل يتعدى إلى الدعاء بنفسه و إلى الداعي باللام، و يحذف الدعاء إذا عدي إلى الداعي في الغالب فيقال:

استجاب الله دعاءه أو استجاب له، و لا يكاد يقال: استجاب له دعاءه. انتهى.

فقوله: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ تفريع على قوله: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ هُوَ أَهْدى‏َ مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ أي فإن قلت لهم كذا و كلفتهم بذلك فلم يأتوا بكتاب هو أهدى من القرآن و التوراة و تعين أن لا هدى أتم و أكمل من هداهما و هم مع ذلك يرمونها بالسحر و يعرضون عنهما فاعلم أنهم ليسوا في طلب الحق و لا بصدد اتباع ما هو صريح حجة العقل و إنما يتبعون أهواءهم و يدافعون عن مشتهيات طباعهم بمثل هذه الأباطيل:

﴿سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ﴿إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ.

و يمكن أن يكون المراد بقوله: ﴿أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ إنهم إن لم يأتوا بكتاب هو أهدى منهما و هم غير مؤمنين بهما فاعلم أنهم إنما يبنون سنة الحياة على اتباع الأهواء و لا يعتقدون بأصل النبوة و أن لله دينا سماويا نازلا عليهم من طريق الوحي و عليهم أن يتبعوه و يسلكوا مسلك الحياة بهدى ربهم، و ربما أيد هذا المعنى قوله بعد: ﴿وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اِتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اَللَّهِ إلخ.

و قوله: ﴿وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اِتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اَللَّهِ استفهام إنكاري و المراد به استنتاج أنهم ضالون، و قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ تعليل لكونهم ضالين باتباع الهوى فإن اتباع الهوى إعراض عن الحق و انحراف عن صراط الرشد و ذلك ظلم و الله لا يهدي القوم الظالمين و غير المهتدي هو الضال.

و محصل الحجة أنهم إن لم يأتوا بكتاب هو أهدى منهما و ليسوا مؤمنين بهما فهم متبعون للهوى، و متبع الهوى ظالم و الظالم غير مهتد و غير المهتدي ضال فهم ضالون.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ اَلْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ التوصيل‏ تفعيل من

 

 

 الوصل يفيد التكثير كالقطع و التقطيع و القتل و التقتيل، و الضمير لمشركي مكة و المعنى أنزلنا عليهم القرآن موصولا بعضه ببعض: الآية بعد الآية، و السورة إثر السورة من وعد و وعيد و معارف و أحكام و قصص و عبر و حكم و مواعظ لعلهم يتذكرون.

قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ الضميران للقرآن و قيل: للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) . و الأول أوفق للسياق، و في الآية و ما بعدها مدح طائفة من مؤمني أهل الكتاب بعد ما تقدم في الآيات السابقة من ذم المشركين من أهل مكة.

و سياق ذيل الآيات يشهد على أن هؤلاء الممدوحين طائفة خاصة من أهل الكتاب آمنوا به فلا يعبأ بما قيل إن المراد بهم مطلق المؤمنين منهم.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا يُتْلى‏َ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إلخ، ضمائر الإفراد للقرآن، و اللام في ﴿اَلْحَقُّ للعهد و المعنى و إذا يقرأ القرآن عليهم قالوا: آمنا به إنه الحق الذي نعهده من ربنا فإنه عرفناه من قبل.

و قوله: ﴿إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ تعليل لكونه حقا معهودا عندهم أي إنا كنا من قبل نزوله مسلمين له أو مؤمنين للدين الذي يدعو إليه و يسميه إسلاما.

و قيل: الضميران للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ما تقدم أوفق للسياق، و كيف كان فهم يعنون بذلك ما قرءوه في كتبهم من أوصاف النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الكتاب النازل عليه كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْرَاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ: الأعراف: ١٥٧ و قوله: ﴿أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ: الشعراء: ١٩٧.

قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ اَلسَّيِّئَةَ إلخ في الآية وعد جميل لهم على ما فعلوا و مدح لهم على حسن سلوكهم و مداراتهم مع جهلة المشركين و لذا كان الأقرب إلى الفهم أن يكون المراد بإيتائهم أجرهم مرتين إيتاؤهم أجر الإيمان بكتابهم و أجر الإيمان بالقرآن و صبرهم على الإيمان بعد الإيمان بما فيهما من كلفة مخالفة الهوى.

و قيل: المراد إيتاؤهم الأجر بما صبروا على دينهم و على أذى الكفار و تحمل المشاق و قد عرفت ما يؤيده السياق.

 

 

 و قوله: ﴿وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ اَلسَّيِّئَةَ إلخ الدرء الدفع، و المراد بالحسنة و السيئة قيل: الكلام الحسن و الكلام القبيح، و قيل: العمل الحسن و السيئ و هما المعروف و المنكر، و قيل: الخلق الحسن و السيئ و هما الحلم و الجهل، و سياق الآيات أوفق للمعنى الأخير فيرجع المعنى إلى أنهم يدفعون أذى الناس عن أنفسهم بالمدارأة، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا سَمِعُوا اَللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَ قَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَ لَكُمْ أَعْمَالُكُمْ إلخ، المراد باللغو لغو الكلام بدليل تعلقه بالسمع، و المراد سقط القول الذي لا ينبغي الاشتغال به من هذر أو سب و كل ما فيه خشونة، و لذا لما سمعوه أعرضوا عنه و لم يقابلوه بمثله و قالوا: ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا وَ لَكُمْ أَعْمَالُكُمْ و هو متاركة، و قوله: ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ أي أمان منا لكم، و هو أيضا متاركة و توديع تكرما كما قال تعالى: ﴿وَ إِذَا خَاطَبَهُمُ اَلْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً.

و قوله: ﴿لاَ نَبْتَغِي اَلْجَاهِلِينَ أي لا نطلبهم بمعاشرة و مجالسة، و فيه تأكيد لما تقدمه، و هو حكاية عن لسان حالهم إذ لو تلفظوا به لكان من مقابلة السيئ بالسيئ.

قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ المراد بالهداية الإيصال إلى المطلوب و مرجعه إلى إفاضة الإيمان على القلب و معلوم أنه من شأنه تعالى لا يشاركه فيه أحد، و ليس المراد بها إراءة الطريق فإنه من وظيفة الرسول لا معنى لنفيه عنه، و المراد بالاهتداء قبول الهداية.

لما بين في الآيات السابقة حرمان المشركين و هم قوم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من نعمة الهداية و ضلالهم باتباع الهوى و استكبارهم عن الحق النازل عليهم و إيمان أهل الكتاب به و اعترافهم بالحق ختم القول في هذا الفصل من الكلام بأن أمر الهداية إلى الله لا إليك يهدي هؤلاء و هم من غير قومك الذين تدعوهم و لا يهدي هؤلاء و هم قومك الذين تحب اهتداءهم و هو أعلم بالمهتدين.

(بحث روائي)

 في الدر المنثور، أخرج البزار و ابن المنذر و الحاكم و صححه و ابن مردويه عن أبي

 

 

 سعيد الخدري قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما أهلك الله قوما و لا قرنا و لا أمة و لا أهل قرية بعذاب من السماء منذ أنزل التوراة على وجه الأرض غير القرية التي مسخت قردة. أ لم تر إلى قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا اَلْقُرُونَ اَلْأُولى‏ ؟ أقول: و في دلالة الآية على الإهلاك بخصوص العذاب السماوي ثم انقطاعه بنزول التوراة خفاء.

 و فيه،: في قوله تعالى: ﴿وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ اَلطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا الآية،: أخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: لما قرب الله موسى إلى طور سيناء نجيا قال: أي رب هل أحد أكرم عليك مني؟ قربتني نجيا و كلمتني تكليما. قال:

نعم، محمد أكرم علي منك. قال: فإن كان محمد أكرم عليك مني فهل أمة محمد أكرم من بني إسرائيل؟ فلقت لهم البحر و أنجيتهم من فرعون و عمله و أطعمتهم المن و السلوى.

قال: نعم، أمة محمد أكرم علي من بني إسرائيل. قال: إلهي أرنيهم. قال: إنك لن تراهم و إن شئت أسمعتك صوتهم. قال: نعم إلهي.

فنادى ربنا أمة محمد: أجيبوا ربكم، فأجابوا و هم في أصلاب آبائهم و أرحام أمهاتهم إلى يوم القيامة فقالوا: لبيك أنت ربنا حقا و نحن عبيدك حقا. قال: صدقتم و أنا ربك و أنتم عبيدي حقا قد غفرت لكم قبل أن تدعوني و أعطيتكم قبل أن تسألوني فمن لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة.

قال ابن عباس: فلما بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم) أراد أن يمن عليه بما أعطاه و بما أعطى أمته فقال: يا محمد ﴿وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ اَلطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا.

أقول: و رواه فيه أيضا بطرق أخرى عن غيره، و روى هذا المعنى أيضا الصدوق في العيون، عن الرضا (عليه السلام) لكن حمل الآية على هذا المعنى يوجب اختلال السياق و فساد ارتباط الجمل المتقدمة و المتأخرة بعضها ببعض.

 و في البصائر، بإسناده عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن (عليه السلام): في قول الله عز و جل: ﴿وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اِتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اَللَّهِ يعني من اتخذ دينه هواه بغير هدى من أئمة الهدى).

 

 

أقول: و روي مثله بإسناده عن المعلى عن أبي عبد الله (عليه السلام) و هو من الجري أو من البطن.

و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ الآيات، نزل قوله:

﴿اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ و ما بعده في عبد الله بن سلام و تميم الداري و الجارود و العبدي و سلمان الفارسي فإنهم لما أسلموا نزلت فيهم الآيات. عن قتادة.

و قيل: نزلت في أربعين رجلا من أهل الإنجيل كانوا مسلمين بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قبل مبعثه اثنان و ثلاثون من الحبشة أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب وقت قدومه و ثمانية قدموا من الشام منهم بحيراء و أبرهة و الأشرف و أيمن و إدريس و نافع و تميم.

أقول: و روي غير ذلك.

 و فيه،: في معنى قوله تعالى: ﴿وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ اَلسَّيِّئَةَ و قيل: يدفعون بالحلم جهل الجاهل. عن يحيى بن سلام، و معناه يدفعون بالمدارأة مع الناس أذاهم عن أنفسهم: و روي مثل ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام). و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و مسلم و الترمذي و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: يا عماه قل: لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله يوم القيامة، فقال: لو لا أن يعيرني قريش - يقولون ما حمله عليها إلا جزعه من الموت لأقررت بها عليك فأنزل الله عليه: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أقول: و روي ما في معناه عن ابن عمر و ابن المسيب و غيرهما، و روايات أئمة أهل البيت (عليه السلام) مستفيضة على إيمانه و المنقول من أشعار مشحون بالإقرار على صدق النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و حقية دينه، و هو الذي آوى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) صغيرا و حماه بعد البعثة و قبل الهجرة فقد كان أثر مجاهدته وحده في حفظ نفسه الشريفة في العشر سنين قبل الهجرة يعدل أثر مجاهدة المهاجرين و الأنصار بأجمعهم في العشر سنين بعد الهجرة.

[سورة القصص (٢٨): الآیات ٥٧ الی ٧٥]

﴿وَ قَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدىَ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ

 

 

﴿لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى‏َ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٥٧ وَ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَ كُنَّا نَحْنُ اَلْوَارِثِينَ ٥٨ وَ مَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ اَلْقُرى‏َ حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَ مَا كُنَّا مُهْلِكِي اَلْقُرى‏َ إِلاَّ وَ أَهْلُهَا ظَالِمُونَ ٥٩ وَ مَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَمَتَاعُ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ زِينَتُهَا وَ مَا عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى‏َ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ ٦٠ أَ فَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ مِنَ اَلْمُحْضَرِينَ ٦١ وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ٦٢ قَالَ اَلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ٦٣ وَ قِيلَ اُدْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَ رَأَوُا اَلْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ ٦٤ وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَا ذَا أَجَبْتُمُ اَلْمُرْسَلِينَ ٦٥ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ اَلْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ ٦٦ فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَعَسى‏َ أَنْ يَكُونَ مِنَ اَلْمُفْلِحِينَ ٦٧ وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَ يَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اَللَّهِ وَ تَعَالى‏َ عَمَّا يُشْرِكُونَ ٦٨ وَ رَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ مَا يُعْلِنُونَ ٦٩

 

 

وَ هُوَ اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْأُولى‏َ وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُ اَلْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٧٠ قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اَللَّهُ عَلَيْكُمُ اَللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى‏َ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اَللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَ فَلاَ تَسْمَعُونَ ٧١ قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اَللَّهُ عَلَيْكُمُ اَلنَّهَارَ سَرْمَداً إِلى‏َ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اَللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَ فَلاَ تُبْصِرُونَ ٧٢ وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ٧٣ وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ٧٤ وَ نَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ اَلْحَقَّ لِلَّهِ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ٧٥

(بيان)

تذكر الآيات عذرا آخر مما اعتذر به مشركو مكة عن الإيمان بكتاب الله بعد ما ذكرت عذرهم السابق: ﴿لَوْ لاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى‏ و ردته و هو قولهم: إن آمنا بما جاء به كتابك من الهدى و هو دين التوحيد تخطفنا مشركو العرب من أرضنا بالقتل و السبي و النهب و سلب الأمن و السلام.

فرده تعالى بأنا جعلنا لهم حرما آمنا يحترمه العرب و يجبى إليه ثمرات كل شي‏ء فلا موجب لخوفهم من تخطفهم.

على أن تنعمهم بالأموال و الأولاد و بطر معيشتهم لا يضمن لهم الأمن من الهلاك حتى يرجحوه على اتباع الهدى فكم من قرية بطرت معيشتها أهلكها الله و استأصلها و ورثها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا.

 

 

 على أن الذي يؤثرونه على اتباع الهدى إنما هو متاع الحياة الدنيا العاجلة و لا يختاره عاقل على الحياة الآخرة الخالدة التي عند الله سبحانه.

على أن الخلق و الأمر لله فإذا اختار شيئا و أمر به فليس لأحد أن يخالفه إلى ما يشتهيه لنفسه فيختار ما يميل إليه طبعه ثم استشهد تعالى بقصة قارون و خسفه به و بداره الأرض.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدىَ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا إلى آخر الآية. التخطف‏ الاختلاس بسرعة، و قيل الخطف و التخطف الاستلاب من كل وجه، و كان تخطفهم من أرضهم استعارة أريد به القتل و السبي و نهب الأموال كأنهم و ما يتعلق بهم من أهل و مال يؤخذون فتخلو منهم أرضهم، و المراد بالأرض أرض مكة و الحرم بدليل قوله بعد: ﴿أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً و القائل بعض مشركي مكة.

و الجملة مسوقة للاعتذار عن الإيمان بأنهم إن آمنوا تخطفتهم العرب من أرضهم أرض مكة لأنهم مشركون لا يرضون بإيمانهم و رفض أوثانهم فهو من قبيل إبداء المانع ففيه اعتراف بحقية أصل الدعوة و أن الكتاب بما يشتمل عليه حق لكن خطر التخطف مانع من قبوله و الإيمان به، و لهذا عبر بقوله: ﴿إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدىَ مَعَكَ و لم يقل:

إن نتبع كتابك أو دينك أو ما يقرب من ذلك.

و قوله: ﴿أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً قيل: التمكين‏ مضمن معنى الجعل و المعنى أ و لم نجعل لهم حرما آمنا ممكنين إياهم، و قيل: حرما منصوبا على الظرفية و المعنى: أ و لم نمكن لهم في حرم، و ﴿آمِناً صفة ﴿حَرَماً أي حرما ذا أمن، و عد الحرم ذا أمن و المتلبس بالأمن أهله من المجاز في النسبة، و الجملة معطوفة على محذوف و التقدير أ و لم نعصمهم و نجعل لهم حرما آمنا ممكنين إياهم.

و هذا جواب أول منه تعالى لقولهم: ﴿إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدىَ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا و محصله: أنا مكناهم في أرض جعلناها حرما ذا أمن تحترمه العرب فلا موجب لخوفهم أن يتخطفوا منها أن آمنوا.

و قوله: ﴿يُجْبىَ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ الجباية الجمع، و الكل للتكثير لا للعموم لعدم إرادة العموم قطعا، و المعنى: يجمع إلى الحرم ثمرات كثير من الأشياء، و الجملة

 

 

 صفة لحرما جي‏ء بها لما عسى أن يتوهم أنهم يتضررون إن آمنوا بانقطاع الميرة.

و قوله: ﴿رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا مفعول مطلق أو حال من ثمرات، و قوله: ﴿وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ استدراك عن جميع ما تقدم أي إنا نحن حفظناهم في أمن و رزقناهم من كل الثمرات لكن أكثرهم جاهلون بذلك فيحسبون أن الذي يحفظهم من تخطف العرب هو شركهم و عبادتهم الأصنام.

قوله تعالى: ﴿وَ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا إلى آخر الآية البطر الطغيان عند النعمة، و ﴿مَعِيشَتَهَا منصوب بنزع الخافض أي و كم أهلكنا من قرية طغت في معيشتها.

و قوله: ﴿فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً أي إن مساكنهم الخربة الخاوية على عروشها مشهودة لكم نصب أعينكم باقية على خرابها لم تعمر و لم تسكن بعد هلاكهم إلا قليلا منها.

و بذلك يظهر أن الأنسب كون ﴿إِلاَّ قَلِيلاً استثناء من ﴿مَسَاكِنُهُمْ لا من قوله: ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ بأن يكون المعنى لم تسكن من بعدهم إلا زمانا قليلا إذ لا يسكنها إلا المارة يوما أو بعض يوم في الأسفار.

و قوله: ﴿وَ كُنَّا نَحْنُ اَلْوَارِثِينَ حيث ملكوها ثم تركوها فلم يخلفهم غيرنا فنحن ورثناهم مساكنهم، و في الجملة أعني قوله: ﴿كُنَّا نَحْنُ اَلْوَارِثِينَ عناية لطيفة فإنه تعالى هو المالك لكل شي‏ء ملكا حقيقيا مطلقا فهو المالك لمساكنهم و قد ملكها إياهم بتسليطهم عليها ثم نزعها من أيديهم بإهلاكهم و بقيت بعدهم لا مالك لها إلا هو فسمى نفسه وارثا لهم بعناية أنه الباقي بعدهم و هو المالك لما كان بأيديهم كان ملكهم الاعتباري انتقل إليه و لا انتقال هناك بالحقيقة و إنما ظهر ملكه الحقيقي بزوال ملكهم الاعتباري.

و الآية جواب ثان منه تعالى لقولهم: ﴿إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدىَ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا و محصله أن مجرد عدم تخطف العرب لكم من أرضكم لا يضمن لكم البقاء و لا يحفظ لكم أرضكم و التنعم فيها كما تشاءون فكم من قرية بالغة في التنعم ذات أشر و بطر أهلكنا أهلها و بقيت مساكنهم خالية غير مسكونة لا وارث لها إلا الله.

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ مَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ اَلْقُرى‏َ حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً أم القرى هي أصلها و كبيرتها التي ترجع إليها و في الآية بيان السنة الإلهية في عذاب القرى بالاستئصال و هو أن عذاب الاستئصال لا يقع منه تعالى إلا بعد إتمام الحجة عليهم بإرسال رسول يتلو عليهم آيات الله، و إلا بعد كون المعذبين ظالمين بالكفر بآيات الله و تكذيب رسوله.

و في تعقيب الآية السابقة بهذه الآية الشارحة لسنته تعالى في إهلاك القرى تخويف لأهل مكة المشركين بالإيماء إلى أنهم لو أصروا على كفرهم كانوا في معرض نزول العذاب لأن الله قد بعث في أم قراهم و هي مكة رسولا يتلو عليهم آياته و هم مع ذلك ظالمون بتكذيب رسولهم.

و بذلك يظهر النكتة في الالتفات من التكلم بالغير إلى الغيبة في قوله: ﴿وَ مَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ اَلْقُرى‏َ فإن في الإيماء إلى حصول شرائط العذاب فيهم لو كذبوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) تقوية لنفسه و تأكيدا لحجته، و أما العدول بعده إلى سياق التكلم بالغير في قوله:

﴿وَ مَا كُنَّا مُهْلِكِي اَلْقُرى‏َ فهو رجوع إلى السياق السابق بعد قضاء الوطر.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَمَتَاعُ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا إلخ الإيتاء: الإعطاء و ﴿مِنْ شَيْ‏ءٍ بيان لما لإفادة العموم أي كل شي‏ء أوتيتموه، و المتاع‏ ما يتمتع به و الزينة ما ينضم إلى الشي‏ء ليفيده جمالا و حسنا، و الحياة الدنيا الحياة المؤجلة المقطوعة التي هي أقرب الحياتين منا و تقابلها الحياة الآخرة التي هي خالدة مؤبدة، و المراد بما عند الله الحياة الآخرة السعيدة التي عند الله و جواره و لذا عد خيرا و أبقى.

و المعنى: أن جميع النعم الدنيوية التي أعطاكم الله إياها متاع و زينة زينت بها هذه الحياة الدنيا التي هي أقرب الحياتين منكم و هي بائدة فانية و ما عند الله من ثوابه في الدار الآخرة المترتب على اتباع الهدى و الإيمان بآيات الله خير و أبقى فينبغي أن تؤثروه على متاع الدنيا و زينتها أ فلا تعقلون.

و الآية جواب ثالث عن قولهم: ﴿إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدى‏َ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا محصله لنسلم أنكم إن اتبعتم الهدى تخطفكم العرب من أرضكم لكن الذي تفقدونه هو متاع الحياة الدنيا و زينتها الفانية فما بالكم تؤثرونه على ما عند الله من ثواب اتباع

 

 

 الهدى و سعادة الحياة الآخرة و هي خير و أبقى.

قوله تعالى: ﴿أَ فَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ مِنَ اَلْمُحْضَرِينَ الآية إلى تمام سبع آيات إيضاح لمضمون الآية السابقة و هو أن إيثار اتباع الهدى أولى من تركه و التمتع بمتاع الحياة الدنيا ببيان آخر فيه مقايسة حال من اتبع الهدى و ما يلقاه من الوعد الحسن الذي وعده الله، من حال من لم يتبعه و اقتصر على التمتع من متاع الحياة الدنيا و سيستقبله يوم القيامة الإحضار و تبري آلهته منه و عدم استجابتهم لدعوته و مشاهدة العذاب و السؤال عن إجابتهم الرسل.

فقوله: ﴿أَ فَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ الاستفهام إنكاري، و الوعد الحسن هو وعده تعالى بالمغفرة و الجنة كما قال تعالى: ﴿وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ: المائدة: ٩، و لا يكذب وعده تعالى قال: ﴿أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ: يونس: ٥٥.

و قوله: ﴿كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا أي و هو محروم من ذلك الوعد الحسن لاقتصاره على التمتع بمتاعها، و الدليل على هذا التقييد المقابلة بين الوعد و التمتيع.

و قوله: ﴿ثُمَّ هُوَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ مِنَ اَلْمُحْضَرِينَ أي للعذاب، أو للسؤال و المؤاخذة و ﴿ثُمَّ للترتيب الكلامي و إتيان الجملة اسمية كما فيما يقابلها من قوله: ﴿فَهُوَ لاَقِيهِ للدلالة على التحقق.

قوله تعالى: ﴿وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ الشركاء هم الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا و كونهم شركاء عندهم لكونهم يعطونهم أو ينسبون إليهم بعض ما هو من شئونه تعالى كالعبادة و التدبير، و في قوله: ﴿يُنَادِيهِمْ إشارة إلى بعدهم و خذلانهم يومئذ.

قوله تعالى: ﴿قَالَ اَلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا آلهتهم الذين يرونهم شركاء لله سبحانه صنفان صنف منهم عباد لله مكرمون كالملائكة المقربين و عيسى بن مريم (عليه السلام)، و صنف منهم كعتاة الجن و مدعي الألوهية من الإنس كفرعون و نمرود و غيرهما و قد ألحق الله سبحانه بهم كل مطاع في باطل

 

 

كإبليس و قرناء الشياطين و أئمة الضلال كما قال: ﴿أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا اَلشَّيْطَانَ إلى أن قال ﴿وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً: يس: ٦٢، و قال:

﴿أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ الجاثية: ٢٣، و قال: ﴿اِتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَ رُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اَللَّهِ: التوبة: ٣١.

و الذين يشير إليهم قوله: ﴿قَالَ اَلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ هم من الصنف الثاني بدليل ذكرهم إغواءهم و تبريهم من عبادتهم و هؤلاء المشركون و إن كانوا أنفسهم أيضا ممن حق عليهم القول كما يشير إليه قوله: ﴿حَقَّ اَلْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ اَلْجِنَّةِ وَ اَلنَّاسِ أَجْمَعِينَ: الم السجدة: ١٣، و لكن المراد بهم في الآية المبحوث عنها المتبوعون منهم الذين ينتهي إليهم الشرك و الضلال.

و إيراد قول هؤلاء الشركاء مع عدم ذكر أن المسئولين أشاروا إليهم لعله للإشارة إلى أنهم ضلوا عنهم في هذا الموقف كما في قوله تعالى: ﴿وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ حم السجدة: ٤٨.

و قوله: ﴿رَبَّنَا هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ أَغْوَيْنَا أي هؤلاء يشيرون إلى المشركين هم الذين أغويناهم و الجملة توطئة للجملة التالية.

و قوله: ﴿أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا أي كانت غوايتهم بإغوائنا لغوايتنا أنفسنا فكما كنا غوينا باختيارنا من غير إلجاء كذلك هم غووا باختيار منهم من غير إلجاء، و الدليل على هذا المعنى ما حكاه الله عن إبليس يومئذ إذ قال: ﴿وَ مَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ.

إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ: إبراهيم: ٢٢ و قال حاكيا لتساؤل الظالمين و قرنائهم: ﴿وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى‏َ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اَلْيَمِينِ قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَ مَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ: الصافات: ٣٢ أي ما كان ليصل إليكم منا و نحن غاوون غير الغواية.

و من هنا يظهر أن لقولهم: ﴿أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا معنى آخر، و هو أنهم اكتسبوا نظير الوصف الذي كان فينا غير أنا نتبرأ منهم حيث لم نلجئهم إلى الغواية ما كانوا يعبدوننا بإلجاء.

 

 

 و قوله: ﴿تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ تبر منهم مطلقا حيث لم يكن لهم أن يلجئوهم و يسلبوا منهم الاختيار، و قوله ﴿مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ أي بإلجاء منا، أو لتبرينا من أعمالهم فإن من تبرأ من عمل لم ينتسب إليه و إلى هذا المعنى يئول قوله تعالى في مواضع من كلامه في وصف هذا الموقف: ﴿وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ: الأنعام: ٢٤ ﴿وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ: حم السجدة: ٤٨ ﴿وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَ قَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ: يونس: ٢٨ إلى غير ذلك من الآيات فافهم.

و قيل: المعنى تبرأنا إليك من أعمالهم ما كانوا إيانا يعبدون بل كانوا يعبدون أهواءهم أو كانوا يعبدون الشياطين. و لا يخلو من سخافة.

و لكون كل من قوليه: ﴿تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ ﴿مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ في معنى قوله:

﴿أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا جي‏ء بالفصل من غير عطف.

قوله تعالى: ﴿وَ قِيلَ اُدْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَ رَأَوُا اَلْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ المراد بشركائهم الآلهة التي كانوا شركاء لله بزعمهم و لذا أضافهم إليهم. و المراد بدعوتهم دعوتهم إياهم لينصروهم و يدفعوا عنهم العذاب و لذا قال:

﴿وَ رَأَوُا اَلْعَذَابَ بعد قوله: ﴿فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ.

و قوله: ﴿لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ قيل: جواب لو محذوف لدلالة الكلام عليه و التقدير لو أنهم كانوا يهتدون لرأوا العذاب أي اعتقدوا أن العذاب حق، و يمكن أن يكون لو للتمني أي ليتهم كانوا يهتدون.

قوله تعالى: ﴿وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَا ذَا أَجَبْتُمُ اَلْمُرْسَلِينَ معطوف على قوله السابق: ﴿وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ إلخ، سئلوا أولا: عن شركائهم و أمروا أن يستنصروهم، و ثانيا: عن جوابهم للمرسلين إليهم من عند الله.

و المعنى: ما ذا قلتم في جواب من أرسل إليكم من رسل الله فدعوكم إلى الإيمان و العمل الصالح؟.

قوله تعالى: ﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ اَلْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ العمى استعارة عن

 

 

 جعل الإنسان بحيث لا يهتدي إلى خبر، و كان مقتضى الظاهر أن ينسب العمى إليهم لا إلى الأنباء لكن عكس الأمر فقيل: ﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ اَلْأَنْبَاءُ للدلالة على أخذهم من كل جانب و سد جميع الطرق و تقطع الأسباب بهم كما قال: ﴿وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ اَلْأَسْبَابُ: البقرة: ١٦٦ فلسقوط الأسباب عن التأثير يومئذ لا تهتدي إليهم الأخبار و لا يجدون شيئا يعتذرون به للتخلص من العذاب.

و قوله: ﴿فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ تفريع على عمى الأنباء من قبيل تفرع بعض أفراد العام عليه أي لا يسأل بعضهم بعضا ليعدوا به عذرا يعتذرون به عن تكذيبهم الرسل و ردهم الدعوة.

و قد فسر صدر الآية و ذيلها بتفاسير كثيرة مختلفة لا جدوى في التعرض لها فرأينا الصفح عنها أولى.

قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَعَسى‏َ أَنْ يَكُونَ مِنَ اَلْمُفْلِحِينَ أي هذه حال من كفر و لم يرجع إلى الله سبحانه فأما من رجع و آمن و عمل صالحا فمن المرجو أن يكون من المفلحين، و عسى - كما قيل - للتحقيق على عادة الكرام أو للترجي من قبل التائب، و المعنى: فليتوقع الفلاح.

قوله تعالى: ﴿وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَ يَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اَللَّهِ وَ تَعَالى‏َ عَمَّا يُشْرِكُونَ الخيرة بمعنى التخير كالطيرة بمعنى التطير.

و الآية جواب رابع عن قولهم: ﴿إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدى‏َ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا و الذي يتضمنه حجة قاطعة.

بيان ذلك: أن الخلق و هو الصنع و الإيجاد ينتهي إليه تعالى كما قال: ﴿اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ: الزمر: ٦٢ فلا مؤثر في الوجود بحقيقة معنى التأثير غيره تعالى فلا شي‏ء هناك يلجئه تعالى على فعل من الأفعال فإن هذا الشي‏ء المفروض إما مخلوق له منته في وجوده إليه فوجوده و آثار وجوده ينتهي إليه تعالى و لا معنى لتأثير الشي‏ء و لا لتأثير أثره في نفسه و إما غير مخلوق له و لا منته في وجوده إليه يؤثر فيه بالإلجاء و القهر و لا مؤثر في الوجود غيره و لا أن هناك شيئا لا ينتهي في وجوده إليه تعالى فلا يعطيه شي‏ء أثرا و لا يمنعه شي‏ء من أثر كما قال: ﴿وَ اَللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ: الرعد: ٤١ و قال:

﴿وَ اَللَّهُ غَالِبٌ عَلى‏َ أَمْرِهِ: يوسف: ٢١.

 

 

 و إذ لا قاهر يقهره على فعل و لا مانع يمنعه عن فعل فهو مختار بحقيقة معنى الاختيار هذا بحسب التكوين و التشريع يتبعه فإن حقيقة التشريع هي أنه فطر الناس على فطرة لا تستقيم إلا بإتيان أمور هي الواجبات و ما في حكمها و ترك أمور هي المحرمات و ما في حكمها فما ينتفع به الإنسان في كماله و سعادته هو الذي أمر به و ندب إليه و ما يتضرر به هو الذي نهى عنه و حذر منه.

فله تعالى أن يختار في مرحلة التشريع من الأحكام و القوانين ما يشاء كما أن له أن يختار في مرحلة التكوين من الخلق و التدبير ما يشاء، و هذا معنى قوله: ﴿وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَ يَخْتَارُ و قد أطلق إطلاقا.

و الظاهر أن قوله: ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إشارة إلى اختياره التكويني فإن معنى إطلاقه أنه لا تقصر قدرته عن خلق شي‏ء و لا يمنعه شي‏ء عما يشاؤه و بعبارة أخرى لا يمتنع عن مشيته شي‏ء لا بنفسه و لا بمانع يمنع و هذا هو الاختيار بحقيقة معناه، و قوله:

﴿وَ يَخْتَارُ إشارة إلى اختياره التشريعي الاعتباري و يكون عطفه على قوله: ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ من عطف المسبب على سببه لكون التشريع و الاعتبار متفرعا على التكوين و الحقيقة.

و يمكن حمل قوله: ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ على الاختيار التكويني و قوله: ﴿وَ يَخْتَارُ على الأعم من الحقيقة و الاعتبار لكن الوجه السابق أوجه، و من الدليل عليه كون المنفي في قوله الآتي: ﴿مَا كَانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ هو الاختيار التشريعي الاعتباري، و الاختيار المثبت في قوله ﴿وَ يَخْتَارُ يقابله فالمراد إثبات الاختيار التشريعي الاعتباري.

ثم لا ريب في أن الإنسان له اختيار تكويني بالنسبة إلى الأفعال الصادرة عنه بالعلم و الإرادة و إن لم يكن اختيارا مطلقا فإن للأسباب و العلل الخارجية دخلا في أفعاله إذ أكله لقمة من الطعام مثلا متوقف على تحقق مادة الطعام خارجا و قابليته و ملائمته و قربه منه و مساعدة أدوات الأخذ و القبض و الالتقام و المضغ و البلع و غير ذلك مما لا يحصى. فصدور الفعل الاختياري عنه مشروط بموافقة الأسباب الخارجية الداخلية في تحقق فعله، و الله سبحانه في رأس تلك الأسباب جميعا و إليه ينتهي الكل و هو الذي خلق الإنسان منعوتا بنعت الاختيار و أعطاه خيرته كما أعطاه خلقه.

 

 

 ثم إن الإنسان يرى بالطبع لنفسه اختيارا تشريعيا اعتباريا فيما يشاؤه من فعل أو ترك بحذاء اختياره التكويني فله أن يفعل ما يشاء و يترك ما يشاء من غير أن يكون لأحد من بني نوعه أن يحمله على شي‏ء أو يمنعه عن شي‏ء لكونهم أمثالا له لا يزيدون عليه بشي‏ء في معنى الإنسانية و لا يملكون منه شيئا، و هذا هو المراد بكون الإنسان حرا بالطبع.

فالإنسان مختار في نفسه حر بالطبع إلا أن يملك غيره من نفسه شيئا فيسلب بنفسه عن نفسه الحرية كما أن الإنسان الاجتماعي يسلب عن نفسه الحرية بالنسبة إلى موارد السنن و القوانين الجارية في مجتمعة بدخوله في المجتمع و إمضائه ما يجري فيه من سنن و قوانين سواء كانت دينية أو اجتماعية، و كما أن المتقاتلين يملك كل منهما الآخر من نفسه ما يغلب عليه فللغالب منهما أن يفعل بأسيره ما يشاء، و كما أن الأجير إذا ابتاع عمله و آجر نفسه فليس بحر في عمله إذ المملوكية لا تجامع الحرية.

فالإنسان بالنسبة إلى سائر بني نوعه حر في عمله مختار في فعله إلا أن يسلب باختيار منه شيئا من اختياره فيملك غيره، و الله سبحانه يملك الإنسان في نفسه و في فعله الصادر منه ملكا مطلقا بالملك التكويني و بالملك الوضعي الاعتباري فلا خيرة له و لا حرية بالنسبة إلى ما يريده منه تشريعا بأمر أو نهي تشريعيين كما لا خيرة و لا حرية له بالنسبة إلى ما يشاؤه بمشيته التكوينية.

و هذا هو المراد بقوله: ﴿مَا كَانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ أي لا اختيار لهم إذا اختار الله سبحانه لهم شيئا من فعل أو ترك حتى يختاروا لأنفسهم ما يشاءون و إن خالف ما اختاره الله و الآية قريبة المعنى من قوله تعالى: ﴿وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ: الأحزاب: ٣٦ و للقوم في تفسير الآية أقاويل مختلفة غير مجدية أغمضنا عنها من أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى المطولات.

و قوله: ﴿سُبْحَانَ اَللَّهِ وَ تَعَالى‏َ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن شركهم باختيارهم أصناما آلهة يعبدونها من دون الله.

و هاهنا معنى آخر أدق أي تنزه و تعالى عن شركهم بادعاء أن لهم خيرة بالنسبة إلى ما يختاره تعالى بقبوله أو رده فإن الخيرة بهذا المعنى لا تتم إلا بدعوى الاستقلال في

 

 

 الوجود و الاستغناء عنه تعالى و لا تتم إلا مع الاشتراك معه تعالى في صفة الألوهية.

و في قوله: ﴿وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ التفات من التكلم بالغير إلى الغيبة و النكتة فيه تأييد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تقويته و تطييب نفسه بإضافة صفة الرب إليه فإن معناه أن ما أرسله به من الحكم ماض غير مردود فلا خيرة لهم في قبوله و رده، و لأنهم لا يقبلون ربوبيته.

و في قوله: ﴿سُبْحَانَ اَللَّهِ وضع الظاهر موضع المضمر و النكتة فيه إرجاع الأمر إلى الذات المتعالية التي هي المبدأ للتنزه و التعالي عن كل ما لا يليق بساحة قدسه فإنه تعالى يتصف بكل كمال و يتنزه عن كل نقص لأنه هو الله عز اسمه.

قوله تعالى: ﴿وَ رَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ مَا يُعْلِنُونَ الإكنان‏ الإخفاء و الإعلان‏ الإظهار، و لكون الصدر يعد مخزنا للأسرار نسب الإكنان إلى الصدور و الإعلان إليهم أنفسهم.

و لعل تعقيب الآية السابقة بهذه الآية للإشارة إلى أنه تعالى إنما اختار لهم ما اختار لعلمه بما في ظاهرهم و باطنهم من أوساخ الشرك و المعصية فطهرهم بذلك بحكمته.

قوله تعالى: ﴿وَ هُوَ اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْأُولى‏َ وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُ اَلْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ظاهر السياق أن الضمير في صدر الآية راجع إلى ﴿رَبُّكَ في الآية السابقة، و الظاهر على هذا أن اللام في اسم الجلالة للتلميح إلى معنى الوصف، و قوله: ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ تأكيد للحصر المستفاد من قوله: ﴿هُوَ اَللَّهُ كأنه قيل: و هو الإله المتصف وحده بالألوهية لا إله إلا هو.

و على ذلك فالآية كالمتمم لبيان الآية السابقة كأنه قيل: هو سبحانه مختار له أن يختار عليهم أن يعبدوه وحده، و هو يعلم ظاهرهم و باطنهم فله أن يقضي عليهم أن يعبدوه وحده و هو الإله المستحق للعبادة وحده فيجب عليهم أن يعبدوه وحده.

و يكون ما في ذيل الآية من قوله: ﴿لَهُ اَلْحَمْدُ إلخ، وجوها ثلاثة توجه كونه تعالى معبودا مستحقا للعبادة وحده.

أما قوله: ﴿لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْأُولى‏َ وَ اَلْآخِرَةِ فلأن كل كمال موجود في الدنيا و الآخرة نعمة نازلة منه تعالى يستحق بها جميل الثناء، و كل جميل من هذه النعم ـ

 

 

الموهوبة مترشحة من كمال ذاتي من صفاته الذاتية يستحق بها الثناء فله كل الثناء و لا يستقل شي‏ء غيره بشي‏ء من الثناء يثنى عليه به إلا و ينتهي إليه و العبادة ثناء بقول أو فعل فهو المعبود المستحق للعبادة وحده.

و أما قوله: ﴿وَ لَهُ اَلْحُكْمُ فلأنه سبحانه هو المالك على الإطلاق لا يملك غيره إلا ما ملكه إياه و هو المالك لما ملكه و هو سبحانه مالك في مرحلة التشريع و الاعتبار كما أنه مالك في مرحلة التكوين و الحقيقة، و من آثار ملكه أن يقضي على عبيده و مملوكيه أن لا يعبدوا إلا إياه.

و أما قوله: ﴿وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فلأن الرجوع للحساب و الجزاء و إذ كان هو المرجع فهو المحاسب المجازي و إذ كان هو المحاسب المجازي وحده فهو الذي يجب أن يعبد وحده و له دين يجب أن يتعبد به وحده.

قوله تعالى: ﴿قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اَللَّهُ عَلَيْكُمُ اَللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى‏َ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ إلى آخر الآية، السرمد على فعلل بمعنى الدائم، و قيل: هو من السرد و الميم زائدة و معناه المتتابع المطرد، و تقييده بيوم القيامة إذ لا ليل بعد يوم القيامة.

و قوله: ﴿مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اَللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ﴾ أي من الإله الذي ينقض حكمه تعالى و يأتيكم بضياء تستضيئون به و تسعون في طلب المعاش، هذا ما يشهد به السياق، و يجري نظيره في قوله الآتي: ﴿مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اَللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ إلخ.

و بذلك يندفع ما استشكل على الآيتين من أنه لو فرض تحقق جعل الليل سرمدا إلى يوم القيامة لم يتصور معه الإتيان بضياء أصلا لأن الذي يأتي به إما هو الله تعالى و إما هو غيره أما غيره فعجزه عن ذلك ظاهر، و أما الله تعالى فإتيانه به يستلزم اجتماع الليل و النهار و هو محال و المحال لا يتعلق به القدرة و لا الإرادة، و كذا الكلام في جانب النهار.

و ربما أجيب عنه بأن المراد بقوله: ﴿إِنْ جَعَلَ اَللَّهُ عَلَيْكُمُ إن أراد الله أن يجعل عليكم. و هو كما ترى.

و كان مقتضى الظاهر أن يقال: من إله غير الله يأتيكم بنهار، على ما يقتضيه سياق المقابلة بين الليل و النهار في الكلام لكن العدول إلى ذكر الضياء بدل النهار من قبيل

 

 

 الإلزام في الحجة بأهون ما يفرض و أيسره ليظهر بطلان مدعى الخصم أتم الظهور كأنه قيل: لو كان غيره تعالى إله يدبر أمر العالم فإن جعل الله الليل سرمدا فليقدر أن يأتي بالنهار، تنزلنا عن ذلك فليقدر أن يأتي بضياء ما تستضيئون به لكن لا قدرة لشي‏ء على ذلك إن القدرة كلها لله سبحانه.

و لا يجري نظير هذا الوجه في الآية التالية في الليل حتى يصح أن يقال مثلا: من إله غير الله يأتيكم بظلمة لأن المأتي به إن كان ظلمة ما لم تكف للسكن و إن كان ظلمة ممتدة كانت هي الليل.

و تنكير ﴿بِضِيَاءٍ يؤيد ما ذكر من الوجه، و قد أوردوا وجوها أخرى في ذلك لا تخلو من تعسف.

و قوله: ﴿أَ فَلاَ تَسْمَعُونَ أي سمع تفهم و تفكر حتى تتفكروا فتفهموا أن لا إله غيره تعالى.

قوله تعالى: ﴿قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اَللَّهُ عَلَيْكُمُ اَلنَّهَارَ سَرْمَداً إِلى‏َ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اَللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أي تستريحون فيه مما أصابكم من تعب السعي للمعاش.

و قوله: ﴿أَ فَلاَ تُبْصِرُونَ أي إبصار تفهم و تذكر و إذ لم يبصروا و لم يسمعوا فهم عمي صم، و من اللطيف تذييل الآيتين بقوله: ﴿أَ فَلاَ تَسْمَعُونَ ﴿أَ فَلاَ تُبْصِرُونَ و لعل آية النهار خص بالإبصار لمناسبة ضوء النهار الإبصار و بقي السمع لآية الليل و هو لا يخلو من مناسبة معه.

قوله تعالى: ﴿وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الآية بمنزلة نتيجة الحجة المذكورة في الآيتين السابقتين سيقت بعد إبطال دعوى الخصم في صورة الإخبار الابتدائي لثبوته من غير معارض.

و قوله: ﴿لِتَسْكُنُوا فِيهِ اللام للتعليل و الضمير لليل، أي جعل لكم الليل لتستريحوا فيه، و قوله: ﴿لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي و جعل لكم النهار لتطلبوا من رزقه الذي هو عطيته فرجوع ﴿لِتَسْكُنُوا و ﴿لِتَبْتَغُوا إلى الليل و النهار بطريق اللف و النشر المرتب، و قوله: ﴿وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ راجع إليهما جميعا.

 

 

 و قوله: ﴿وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ في معنى قولنا: جعل لكم و ذلك رحمة منه و فيه إشارة إلى أن التكوين كالسكون و الابتغاء و التشريع و هو هدايتهم إلى الشكر من آثار صفة رحمته تعالى فافهم ذلك.

قوله تعالى: ﴿وَ يَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ تقدم تفسيره و قد كررت الآية لحاجة مضمون الآية التالية إليها.

قوله تعالى: ﴿وَ نَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إلى آخر الآية، إشارة إلى ظهور بطلان مزعمتهم لهم يوم القيامة، و المراد بالشهيد شهيد الأعمال كما تقدمت الإشارة إليه مرارا و لا ظهور للآية في كونه هو النبي المبعوث إلى الأمة نظرا إلى إفراد الشهيد و ذكر الأمة إذ الأمة هي الجماعة من الناس و لا ظهور و لا نصوصية له في الجماعة الذين أرسل إليهم نبي و إن كانت من مصاديقها.

و قوله: ﴿فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ أي طالبناهم بالحجة القاطعة على ما زعموا أن لله شركاء.

و قوله: ﴿فَعَلِمُوا أَنَّ اَلْحَقَّ لِلَّهِ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ أي غاب عنهم زعمهم الباطل أن لله سبحانه شركاء فعلموا عند ذلك أن الحق في الألوهية لله وحده فالمراد بالضلال الغيبة على طريق الاستعارة. كذا فسروه، ففي الكلام تقديم و تأخير و الأصل فضل عنهم ما كانوا يفترون فعلموا أن الحق لله.

و على هذا فقوله: ﴿أَنَّ اَلْحَقَّ لِلَّهِ نظير ما يقال في القضاء بين المتخاصمين إذا تداعيا في حق يدعيه كل لنفسه: أن الحق لفلان لا لفلان كأنه تعالى يخاصم المشركين حيث يدعون أن الألوهية بمعنى المعبودية حق لشركائهم فيدعي تعالى أنه حقه فيطالبهم البرهان على دعواهم فيضل عنهم البرهان فيعلمون عندئذ أن هذا الحق لله فالألوهية حق ثابت لا ريب فيه فإذا لم يكن حقا لغيره تعالى فهو حق له.

و هذا وجه بظاهره وجيه لا بأس به لكن الحقيقة التي يعطيها كلامه تعالى أن من خاصة يوم القيامة أن الحق يتمحض فيه للظهور ظهورا مشهودا لا ستر عليه فليرتفع به كل باطل يلتبس به الأمر و يتشبه بالحق، و لازمه أن يظهر أمر الألوهية ظهورا لا ستر عليه فيرتفع به افتراء الشركاء ارتفاعا مترتبا عليه لا أن يفتقد الدليل على الشركاء

 

 

 فيستنتج منه توحده تعالى بالألوهية على سبيل الاحتجاجات الفكرية فافهم ذلك.

و بذلك يندفع أولا ما يرد على الوجه السابق أن المستفاد من كلامه تعالى أنهم لا حجة عقلية لهم على مدعاهم و لا موجب على هذا لتأخر علمهم أن الحق لله إلى يوم القيامة، و يرتفع ثانيا حديث التقديم و التأخير المذكور الذي لا نكتة له ظاهرا إلا رعاية السجع.

و من الممكن أن يكون ﴿اَلْحَقَّ في قوله: ﴿فَعَلِمُوا أَنَّ اَلْحَقَّ لِلَّهِ مصدرا فيرجع معنى الجملة إلى معنى قوله: ﴿وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ اَلْمُبِينُ: النور: ٢٥ فكون الحق لله هو كونه تعالى حقا إن أريد به الحق في ذاته أو كونه منتهيا إليه قائما به إن أريد به غيره، كما قال تعالى: ﴿اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾: آل عمران: ٦٠ و لم يقل:

الحق مع ربك.

(بحث روائي)

 في تفسير القمي، ":في قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدىَ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا الآية، قال: نزلت في قريش حين دعاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى الإسلام و الهجرة و قالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا فقال الله عز و جل: ﴿أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبىَ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ.

 أقول: و روي هذا المعنى في كشف المحجة، و روضة الواعظين، للمفيد و رواه في الدر المنثور، عن ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عباس.

 و في الدر المنثور، أخرج النسائي و ابن المنذر عن ابن عباس :أن الحارث بن عامر بن نوفل الذي قال: ﴿إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدىَ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا. و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَ يَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ الآية، قال: يختار الله عز و جل الإمام و ليس لهم أن يختاروا.

أقول: و هو من الجري مبنيا على وجوب نصب الإمام المعصوم من قبل الله تعالى كالنبي، و قد مر تفصيل الكلام فيه.

 

 

 و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: ﴿وَ نَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً يقول: من هذه الأمة إمامها.

 أقول: و هو من الجري.

 [سورة القصص (٢٨): الآیات ٧٦ الی ٨٤]

﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسىَ فَبَغىَ عَلَيْهِمْ وَ آتَيْنَاهُ مِنَ اَلْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي اَلْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ اَلْفَرِحِينَ ٧٦ وَ اِبْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اَللَّهُ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ وَ لاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ اَلدُّنْيَا وَ أَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اَللَّهُ إِلَيْكَ وَ لاَ تَبْغِ اَلْفَسَادَ فِي اَلْأَرْضِ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ اَلْمُفْسِدِينَ ٧٧ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلى‏ عِلْمٍ عِنْدِي أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اَللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ اَلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً وَ لاَ يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ اَلْمُجْرِمُونَ ٧٨ فَخَرَجَ عَلى‏ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ اَلَّذِينَ يُرِيدُونَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ٧٩ وَ قَالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اَللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً وَ لاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ اَلصَّابِرُونَ ٨٠ فَخَسَفْنَا بِهِ وَ بِدَارِهِ اَلْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَ مَا كَانَ مِنَ اَلمُنْتَصِرِينَ ٨١ وَ أَصْبَحَ اَلَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ  

 

 

يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اَللَّهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ يَقْدِرُ لَوْ لاَ أَنْ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلْكَافِرُونَ ٨٢ تِلْكَ اَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فَسَاداً وَ اَلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ٨٣ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَ مَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى اَلَّذِينَ عَمِلُوا اَلسَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ٨٤

(بيان)

قصة قارون من بني إسرائيل ذكرها الله سبحانه بعد ما حكى قول المشركين:

﴿إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدىَ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا و أجاب عنه بما مر من الأجوبة ليعتبروا بها فقد كانت حاله تمثل حالهم ثم أداه الكفر بالله إلى ما أدى ما أدى من سوء العاقبة فليحذروا أن يصيبهم مثل ما أصابه، فقد آتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة فظن أنه هو الذي جمعه بعلمه و جودة فكره و حسن تدبيره فآمن العذاب الإلهي و آثر الحياة الدنيا على الآخرة و بغى الفساد في الأرض فخسف الله به و بداره الأرض فلما كان له من فئة ينصرونه من دون الله و ما كان من المنتصرين.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسىَ فَبَغىَ عَلَيْهِمْ وَ آتَيْنَاهُ مِنَ اَلْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي اَلْقُوَّةِ قال في المجمع:، البغي‏ طلب العتو بغير حق.

قال: و المفاتح‏ جمع مفتح و المفاتيح جمع مفتاح و معناهما واحد و هو عبارة عما يفتح به الأغلاق. قال: و ناء بحمله ينوء نوءا إذا نهض به مع ثقله عليه. انتهى. و قال غيره:

ناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله و هو الأوفق للآية.

و قال في المجمع، أيضا: العصبة الجماعة الملتف بعضها ببعض. و قال: و اختلف في معنى العصبة فقيل: ما بين عشرة إلى خمسة عشر عن مجاهد، و قيل: ما بين عشرة

 

 

 إلى أربعين عن قتادة، و قيل أربعون رجلا عن أبي صالح‏[11]، و قيل: ما بين الثلاثة إلى العشرة عن ابن عباس، و قيل: إنهم الجماعة يتعصب بعضهم لبعض. انتهى. و يزيف غير القولين الأخيرين قول إخوة يوسف: ﴿وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ: يوسف: ٨ و هم تسعة نفر.

و المعنى: أن قارون كان من بني إسرائيل فطلب العتو عليهم بغير حق و أعطيناه من الكنوز ما إن مفاتيحه لتثقل الجماعة ذوي القوة، و ذكر جمع من المفسرين أن المراد بالمفاتح الخزائن، و ليس بذاك.

قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ اَلْفَرِحِينَ فسر الفرح بالبطر و هو لازم الفرح و السرور المفرط بمتاع الدنيا فإنه لا يخلو من تعلق شديد بالدنيا ينسي الآخرة و يورث البطر و الأشر، و لذا قال تعالى: ﴿وَ لاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَ اَللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ: الحديد: ٢٣.

و لذا أيضا علل النهي بقوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ اَلْفَرِحِينَ.

قوله تعالى: ﴿وَ اِبْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اَللَّهُ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ إلى آخر الآية أي و اطلب فيما أعطاك الله من مال الدنيا تعمير الدار الآخرة بإنفاقه في سبيل الله و وضعه فيما فيه مرضاته تعالى.

و قوله: ﴿وَ لاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ اَلدُّنْيَا أي لا تترك ما قسم الله لك و رزقك من الدنيا ترك المنسي و اعمل فيه لآخرتك لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا هو ما يعمل به لآخرته فهو الذي يبقى له.

و قيل: معناه لا تنس أن نصيبك من الدنيا و قد أقبلت عليك شي‏ء قليل مما أوتيت و هو ما تأكله و تشربه و تلبسه مثلا و الباقي فضل ستتركه لغيرك فخذ منها ما يكفيك و أحسن بالفضل و هذا وجه جيد. و هناك وجوه أخر غير ملائمة للسياق.

و قوله: ﴿وَ أَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اَللَّهُ إِلَيْكَ أي أنفقه لغيرك إحسانا كما آتاكه الله إحسانا من غير أن تستحقه و تستوجبه، و هذه الجملة من قبيل عطف التفسير لقوله:

﴿وَ لاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ اَلدُّنْيَا على أول الوجهين السابقين و متممة له على الوجه الثاني.

 

 

 

و قوله: ﴿وَ لاَ تَبْغِ اَلْفَسَادَ فِي اَلْأَرْضِ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ اَلْمُفْسِدِينَ أي لا تطلب الفساد في الأرض بالاستعانة بما آتاك الله من مال و ما اكتسبت به من جاه و حشمة إن الله لا يحب المفسدين لبناء الخلقة على الصلاح و الإصلاح.

قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلى‏َ عِلْمٍ عِنْدِي إلى آخر الآية. لا شك أن قوله ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلى‏َ عِلْمٍ عِنْدِي جواب عن جميع ما قاله المؤمنون من قومه و نصحوه به و كان كلامهم مبنيا على أن ما له من الثروة إنما آتاه الله إحسانا إليه و فضلا منه من غير استيجاب و استحقاق فيجب عليه أن يبتغي فيه الدار الآخرة و يحسن به إلى الناس و لا يفسد في الأرض بالاستعلاء و الاستكبار و البطر.

فأجاب بنفي كونه إنما أوتيه إحسانا من غير استحقاق و دعوى أنه إنما أوتيه على استحقاق بما عنده من العلم بطرق اقتناء المال و تدبيره و ليس عند غيره ذلك، و إذا كان ذلك باستحقاق فقد استقل بملكه و له أن يفعل فيما اقتناه من المال بما شاء و يستدره في أنواع التنعم و بسط السلطة و العلو و البلوغ إلى الآمال و الأماني.

و هذه المزعمة التي ابتلي بها قارون فأهلكته أعني زعمه أن الذي حصل له الكنوز و ساق إليه القوة و الجمع هو نبوغه العلمي في اكتساب العزة و قدرته النفسانية لا غير مزعمة عامة بين أبناء الدنيا لا يرى الواحد منهم فيما ساقه إليه التقدير و وافقته الأسباب الظاهرة من عزة عاجلة و قوة مستعارة إلا أن نفسه هي الفاعلة له و علمه هو السائق له إليه و خبرته هي الماسكة له لأجله.

و إلى عموم هذه المزعمة و ركون الإنسان إليها بالطبع يشير قوله تعالى: ﴿فَإِذَا مَسَّ اَلْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلى‏َ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قَدْ قَالَهَا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنى‏َ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاَءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَ مَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ: الزمر: ٥٢، و قال: ﴿أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً وَ آثَاراً فِي اَلْأَرْضِ فَمَا أَغْنى‏َ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ وَ حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا

 

 

 بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ: المؤمن: ٨٣ و عرض الآيات على قصة قارون لا يبقي شكا في أن المراد بالعلم في كلام ما قدمناه.

و في قوله: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ من غير إسناد الإيتاء إلى الله سبحانه كما في قول الناصحين له: ﴿فِيمَا آتَاكَ اَللَّهُ نوع إعراض عن ذكره تعالى و إزراء بساحة كبريائه.

و قوله: ﴿أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اَللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ اَلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً استفهام توبيخي و جواب عن قوله: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلى‏َ عِلْمٍ عِنْدِي بأيسر ما يمكن أن يتنبه به لفساد قوله فإنه كان يرى أن الذي اقتنى به المال و هو يبقيه له و يمتعه منه هو علمه الذي عنده و هو يعلم أنه كان فيمن قبله من القرون من هو أشد منه قوة و أكثر جمعا، و كان ما له من القوة و الجمع عن علم عنده على زعمه، و قد أهلكه الله بجرمه، فلو كان العلم الذي يغتر و يتبجح به هو السبب الجامع للمال الحافظ له الممتع منه و لم يكن بإيتاء الله فضلا و إحسانا لنجاهم من الهلاك و متعهم من أموالهم و دافعوا بقوتهم و انتصروا بجمعهم.

و قوله: ﴿وَ لاَ يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ اَلْمُجْرِمُونَ ظاهر السياق أن المراد به بيان السنة الإلهية في تعذيب المجرمين و إهلاكهم بذنوبهم فيكون كناية عن عدم إمهالهم و الإصغاء إلى ما لفقوه من المعاذير أو هيئوه من التذلل و الإنابة ليرجو بذلك النجاة كما أن أولي الطول و القوة من البشر إذا أرادوا تعذيب من يتحكمون عليه سألوه عن ذنبه ليقضوا عليه بالجرم ثم العذاب، و ربما صرف المجرم بما لفقه من المعاذير عذابهم عن نفسه لكن الله سبحانه لعلمه بحقيقة الحال لا يسأل المجرمين عن ذنوبهم و إنما يقضي عليهم قضاء فيأتيهم عذاب غير مردود.

و الظاهر على هذا أن تكون الجملة من تتمة التوبيخ السابق و يكون جوابا عن إسناده ثروته إلى علمه، و محصله أن المؤاخذة الإلهية ليست كمؤاخذة الناس حتى إذا لاموه أو نصحوه صرف عن نفسه ذلك بما لفقه من الجواب حتى ينتفع في ذلك بعلمه، بل هو سبحانه عليم شهيد لا يسأل المجرم عن ذنبه و إنما يؤاخذه بذنبه، و أيضا يؤاخذه بغتة و هو لا يشعر.

هذا ما يعطيه السياق في معنى الآية و لهم فيها أقاويل أخرى:

 

 

 فقيل: المراد بالعلم في قوله: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلى‏َ عِلْمٍ عِنْدِي علم التوراة فإنه كان أعلم بني إسرائيل بها.

و قيل: المراد علم الكيمياء و كان قد تعلمه من موسى و يوشع بن نون و كالب بن يوقنا و المراد بكون العلم عنده اختصاصه به دون سائر الناس و قد صنع به مقدارا كثيرا من الذهب.

و قيل: المراد بالعلم علم استخراج الكنوز و الدفائن و قد استخرج به كنوزا و دفائن كثيرة.

و قيل: المراد بالعلم علم الله تعالى و المعنى: أوتيته على علم من الله و تخصيص منه قصدني به، و معنى قوله: ﴿عِنْدِي هو كذلك في ظني و رأيي.

و قيل: العلم علم الله لكنه بمعنى المعلوم، و المعنى أوتيته على خير علمه الله تعالى عندي، و ﴿عَلى‏َ على جميع هذه الأقوال للاستعلاء و جوز أن تكون للتعليل.

و قيل: المراد بالسؤال في قوله: ﴿وَ لاَ يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ اَلْمُجْرِمُونَ سؤال يوم القيامة و المنفي سؤال الاستعلام لأن الله أعلم بذنوبهم لا حاجة له إلى السؤال و الملائكة يعلمونها من صحائف أعمالهم و يعرفونهم بسيماهم و أما قوله تعالى: ﴿وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ: الصافات: ٢٤ فهو سؤال تقريع و توبيخ لا سؤال استعلام، و يمكن أن يكون السؤال في الآيتين بمعنى واحد و النفي و الإثبات باعتبار اختلاف المواقف يوم القيامة فيسألون في موقف و لا يسألون في آخر فلا تناقض بين الآيتين.

و قيل: الضمير في قوله: ﴿عَنْ ذُنُوبِهِمُ لمن هو أشد و المراد بالمجرمين غيرهم و المعنى: لا يسأل عن ذنوب من أهلكه الله من أهل القرون السابقة غيرهم من المجرمين.

و هذه كلها وجوه من التفسير لا يلائمها السياق.

قوله تعالى: ﴿فَخَرَجَ عَلى‏َ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ اَلَّذِينَ يُرِيدُونَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ الحظ هو النصيب من السعادة و البخت.

و قوله: ﴿يُرِيدُونَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا أي يجعلونها الغاية المطلوبة في مساعيهم ليس لهم وراءها غاية فهم على جهل من الآخرة و ما أعد الله لعباده فيها من الثواب قال تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ»

 

 

: النجم: ٣٠ و لذلك عدوا ما أوتيه قارون من المال سعادة عظيمة له من دون قيد و شرط.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اَللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً إلخ، الويل‏ الهلاك و يستعمل للدعاء بالهلاك و زجرا عما لا يرتضي، و هو في المقام زجرا عن التمني.

و القائلون بهذا القول هم المؤمنون أهل العلم بالله يخاطبون به أولئك الجهلة الذين تمنوا أن يؤتوا مثل ما أوتي قارون و عدوه سعادة عظيمة على الإطلاق، و مرادهم أن ثواب الله خير لمن آمن و عمل صالحا مما أوتي قارون فإن كانوا مؤمنين صالحين فليتمنوه.

و قوله: ﴿وَ لاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ اَلصَّابِرُونَ التلقية التفهيم و التلقي التفهم و الأخذ، و الضمير على ما قالوا للكلمة المفهومة من السياق، و المعنى: و ما يفهم هذه الكلمة و هي قولهم: ﴿ثَوَابُ اَللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً إلا الصابرون.

و قيل: الضمير للسيرة أو الطريقة و معنى تلقيها فهمها أو التوفيق للعمل بها.

و الصابرون هم المتلبسون بالصبر عند الشدائد و على الطاعات و عن المعاصي، و وجه كونهم هم المتلقين لهذه الكلمة أو السيرة أو الطريقة أن التصديق بكون ثواب الآخرة خيرا من الحظ الدنيوي و هو لا ينفك عن الإيمان و العمل الصالح الملازمين لترك كثير من الأهواء و الحرمان عن كثير من المشتهيات لا يتحقق إلا ممن له صفة الصبر على مرارة مخالفة الطبع و عصيان النفس الأمارة.

قوله تعالى: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَ بِدَارِهِ اَلْأَرْضَ إلى آخر الآية، الضميران لقارون و الجملة متفرعة على بغيه.

و قوله: ﴿فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَ مَا كَانَ مِنَ اَلمُنْتَصِرِينَ الفئة الجماعة يميل بعضهم إلى بعض، و في النصر و الانتصار معنى المنع و الامتناع، و محصل المعنى: فما كان له جماعة يمنعونه العذاب و ما كان من الممتنعين على خلاف ما كان يظن أن الذي يجلب إليه الخير و يدفع عنه الشر هو قوته و جمعه اللذان اكتسبهما بعلمه فلم يقه جمعه و لم تفده قوته من دون الله و بان أن الله سبحانه هو الذي آتاه ما آتاه.

فالفاء في قوله: ﴿فَمَا كَانَ لتفريع الجملة على قوله: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ إلخ، أي فظهر بخسفنا به و بداره الأرض بطلان ما كان يدعيه لنفسه من الاستحقاق و الاستغناء

 

 

 عن الله سبحانه و أن الذي يجلب إليه الخير و يدفع عنه الشر هو قوته و جمعه و قد اكتسبهما بنبوغه العلمي.

قوله تعالى: ﴿وَ أَصْبَحَ اَلَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اَللَّهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ يَقْدِرُ إلخ، ذكروا أن «وي» كلمة تندم و ربما تستعمل للتعجب و كلا المعنيين يقبلان الانطباق على المورد و إن كان التندم أسبق إلى الذهن.

و قوله: ﴿وَيْكَأَنَّ اَللَّهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ يَقْدِرُ اعتراف منهم ببطلان ما كان يزعمه قارون و هم يصدقونه أن القوة و الجمع في الدنيا بنبوغ الإنسان في علمه و جودة تدبيره لا بفضل من الله سبحانه بل سعة الرزق و ضيقه بمشية من الله.

و المقام مقام التحقيق دون التشبيه المناسب للشك و التردد لكنهم إنما استعملوا في كلامهم ﴿وَيْكَأَنَّ للدلالة على ابتداء ترددهم في قول قارون و قد قبلوه و صدقوه من قبل و هذه صنعة شائعة في الاستعمال.

و الدليل على ذلك قولهم بعده: ﴿لَوْ لاَ أَنْ مَنَّ اَللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا على طريق الجزم و التحقيق.

و قوله: ﴿وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ اَلْكَافِرُونَ تندم منهم ثانيا و انتزاع مما كان لازم تمنيتهم مكان قارون.

قوله تعالى: ﴿تِلْكَ اَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فَسَاداً وَ اَلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ الآية و ما بعدها بمنزلة النتيجة المستخرجة من القصة.

و قوله: ﴿تِلْكَ اَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ الإشارة إليها بلفظ البعيد للدلالة على شرفها و بهائها و علو مكانتها و هو الشاهد على أن المراد بها الدار الآخرة السعيدة و لذا فسروها بالجنة.

و قوله: ﴿نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فَسَاداً أي نختصها بهم و إرادة العلو هو الاستعلاء و الاستكبار على عباد الله و إرادة الفساد فيها ابتغاء معاصي الله تعالى فإن الله بنى شرائعه التي هي تكاليف للإنسان على مقتضيات فطرته و خلقته و لا تقتضي فطرته إلا ما يوافق النظام الأحسن الجاري في الحياة الإنسانية الأرضية فكل معصية تقضي إلى فساد في الأرض بلا واسطة أو بواسطة، قال تعالى: ﴿ظَهَرَ

 

 

 اَلْفَسَادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنَّاسِ: الروم: ٤١.

و من هنا ظهر أن إرادة العلو من مصاديق إرادة الفساد و إنما أفردت و خصت بالذكر اعتناء بأمرها، و محصل المعنى: تلك الدار الآخرة السعيدة تخصها بالذين لا يريدون فسادا في الأرض بالعلو على عباد الله و لا بأي معصية أخرى.

و الآية عامة يخصصها قوله تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً: النساء: ٣١.

و قوله: ﴿وَ اَلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ أي العاقبة المحمودة الجميلة و هي الدار الآخرة السعيدة أو العاقبة السعيدة في الدنيا و الآخرة لكن سياق الآيتين يؤيد الأول.

قوله تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا أي لأنها تتضاعف له بفضل من الله، قال تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا: الأنعام: ١٦٠.

قوله تعالى: ﴿وَ مَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى اَلَّذِينَ عَمِلُوا اَلسَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أي لا يزيدون على ما عملوا شيئا و فيه كمال العدل، كما أن في جزاء الحسنة بخير منها كمال الفضل.

و كان مقتضى الظاهر في قوله: ﴿فَلاَ يُجْزَى اَلَّذِينَ عَمِلُوا إلخ، الإضمار و لعل في وضع الموصول موضع الضمير إشارة إلى أن هذا الجزاء إنما هو لمن أكثر من اقتراف المعصية و أحاطت به الخطيئة كما يفيده جمع السيئات، و قوله: ﴿كَانُوا يَعْمَلُونَ الدال على الإصرار و الاستمرار، و أما من جاء بالسيئة و الحسنة فمن المرجو أن يغفر الله له كما قال: ﴿وَ آخَرُونَ اِعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ: التوبة: ١٠٢.

و ليعلم أن الملاك في الحسنة و السيئة على الأثر الحاصل منها عند الإنسان و بها تسمى الأعمال حسنة أو سيئة و عليها - لا على متن العمل الخارجي الذي هو نوع من الحركة - يثاب الإنسان أو يعاقب، قال تعالى: ﴿وَ إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اَللَّهُ: البقرة: ٢٨٤.

و به يظهر الجواب عما استشكل على إطلاق الآية بأن التوحيد حسنة و لا يعقل خير منه و أفضل، فالآية إما خاصة بغير الاعتقادات الحقة أو مخصصة بالتوحيد.

 

 

 و ذلك أن الأثر الحاصل من التوحيد يمكن أن يفرض ما هو خير منه و إن لم يقبله التوحيد بحسب الاعتبار.

على أن التوحيد أيا ما فرض يقبل الشدة و الضعف و الزيادة و النقيصة و إذا ضوعف عند الجزاء كما تقدم كان مضاعفه خيرا من غيره.

(بحث روائي)

 في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة في المصنف و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه عن ابن عباس ":أن قارون كان من قوم موسى، قال: كان ابن عمه و كان يبتغي العلم حتى جمع علما فلم يزل في أمره ذلك حتى بغى على موسى و حسده.

فقال له موسى (عليه السلام): إن الله أمرني أن آخذ الزكاة فأبى فقال: إن موسى يريد أن يأكل أموالكم جاءكم بالصلاة و جاءكم بأشياء فاحتملتموها فتحتملوه أن تعطوه أموالكم؟ قالوا: لا نحتمل فما ترى؟ فقال لهم: أرى أن أرسل إلى بغي من بغايا بني إسرائيل فنرسلها إليه فترميه بأنه أرادها على نفسها فأرسلوا إليها فقالوا لها: نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنه فجر بك. قالت نعم .

فجاء قارون إلى موسى (عليه السلام) قال: اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربك قال: نعم، فجمعهم فقالوا له: بم أمرك ربك؟ قال: أمرني أن تعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا و أن تصلوا الرحم و كذا و كذا و قد أمرني في الزاني إذا زنى و قد أحصن أن يرجم. قالوا: و إن كنت أنت؟ قال: نعم. قالوا: فإنك قد زنيت، قال: أنا؟.

فأرسلوا إلى المرأة فجاءت فقالوا: ما تشهدين على موسى؟ فقال لها موسى (عليه السلام): أنشدتك بالله إلا ما صدقت. قالت: أما إذا نشدتني فإنهم دعوني و جعلوا لي جعلا على أن أقذفك بنفسي و أنا أشهد أنك بري‏ء و أنك رسول الله -.

فخر موسى (عليه السلام) ساجدا يبكي فأوحى الله إليه: ما يبكيك؟ قد سلطناك على الأرض فمرها فتطيعك، فرفع رأسه فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعناقهم - فجعلوا يقولون: يا

 

 

[1]  و في التوراة الحاضرة أنه حمل معه إلى مصر امرأته و بنيه (سفر الخروج الإصحاح الرابع آية ٢٠).

[2]  سفر الخروج الإصحاح الرابع آية ٦.

[3]  تسمي التوراة أبا زوجة موسى يثرون كاهن مديان.

[4]  الإصحاح الثالثة من سفر الخروج.

[5]  سفر الخروج، الإصحاح الثاني. الآية ٢٣.

[6]  الإصحاح السابع و الثامن من سفر الخروج.

[7]  الإصحاح الثاني و الثلاثون من سفر الخروج.

[8]  الإصحاح الثاني من سفر الخروج.

[9]  الإصحاح السابع من سفر الخروج.

[10]  الإصحاح الثاني من سفر الخروج.

[11]  و روى في الدر المنثور عن أبي صالح سبعين.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=2106
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 05 / 20
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 03