• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء الرابع عشر) ، تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده) .
                    • الموضوع : من ص 329 الى ص 420 (الأخير) .

من ص 329 الى ص 420 (الأخير)

و منها: أن الحرام بمعنى الواجب أي واجب على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون و استدل على إتيان الحرام بمعنى الواجب بقول الخنساء:

و إن حراما لا أرى الدهر باكيا *** على شجوة إلا بكيت على صخر

 و منها: أن متعلق الحرمة محذوف و التقدير حرام على قرية أهلكناها بالذنوب أي وجدناها هالكة بها أن يتقبل منهم عمل لأنهم لا يرجعون إلى التوبة.

و منها: أن المراد بعدم الرجوع عدم الرجوع إلى الله سبحانه بالبعث لا عدم الرجوع إلى الدنيا و المعنى على استقامة اللفظ و ممتنع على قرية أهلكناها بطغيان أهلها أن لا يرجعوا إلينا للمجازاة؛ و أنت خبير بما في كل من هذه الوجوه من الضعف.

قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ الحدب‏ بفتحتين الارتفاع من الأرض بين الانخفاض، و النسول‏ الخروج بإسراع و منه نسلان الذئب، و السياق يقتضي أن يكون قوله: ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ إلخ. غاية للتفصيل المذكور في قوله: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصَّالِحَاتِ﴾ إلى آخر الآيتين، و أن يكون ضمير الجمع راجعا إلى يأجوج و مأجوج.

و المعنى: لا يزال الأمر يجري هذا المجرى نكتب الأعمال الصالحة للمؤمنين و نشكر سعيهم و نهلك القرى الظالمة و نحرم رجوعهم بعد الهلاك إلى الزمان الذي يفتح فيه يأجوج و مأجوج أي سدهم أو طريقهم المسدود و هم أي يأجوج و مأجوج يخرجون إلى سائر الناس من ارتفاعات الأرض مسرعين نحوهم و هو من أشراط الساعة و أمارات القيامة كما يشير إليه بقوله: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَ كَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا وَ تَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً الكهف: ٩٩ و قد استوفينا الكلام في معنى يأجوج و مأجوج و السد المضروب دونهم في تفسير سورة الكهف.

و قيل: ضمير الجمع للناس و المراد خروجهم من قبورهم إلى أرض المحشر.

و فيه أن سياق ما قبل الجملة ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ إلخ. و ما بعدها ﴿وَ اِقْتَرَبَ اَلْوَعْدُ اَلْحَقُّ لا يناسب هذا المعنى، و كذا نفس الجملة من جهة كونها حالا. على أن النسول من كل حدب و قد اشتملت عليه الجملة لا يصدق على الخروج من القبور

 

 

 

 و لذا قرأ صاحب هذا القول و هو مجاهد الجدث بالجيم و الثاء المثلثة و هو القبر.

قوله تعالى: ﴿وَ اِقْتَرَبَ اَلْوَعْدُ اَلْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إلخ. المراد بالوعد الحق الساعة، و شخوص‏ البصر نظره بحيث لا تطرف أجفانه، كذا ذكره الراغب و هو لازم كمال اهتمام الناظر بما ينظر إليه بحيث لا يشتغل بغيره و يكون غالبا في الشر الذي يظهر للإنسان بغتة.

و قوله: ﴿يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا حكاية قول الكفار إذا شاهدوا الساعة بغتة فدعوا لأنفسهم بالويل مدعين أنهم غفلوا عما يشاهدونه كأنهم أغفلوا إغفالا ثم أضربوا عن ذلك بالاعتراف بأن الغفلة لم تنشأ إلا عن ظلمهم بالاشتغال بما ينسي الآخرة و يغفل عنها من أمور الدنيا فقالوا: ﴿بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ .

قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ الحصب‏ الوقود، و قيل: الحطب، و قيل: أصله ما يرمى في النار فيكون أعم.

و المراد بقوله: ﴿وَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ و لم يقل: و من تعبدون مع تعبيره تعالى عن الأصنام في أغلب كلامه بألفاظ تختص بأولي العقل كما في قوله بعد: ﴿مَا وَرَدُوهَا الأصنام و التماثيل التي كانوا يعبدونها دون المعبودين من الأنبياء و الصلحاء و الملائكة كما قيل و يدل على ذلك قوله بعد: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنى‏َ إلخ.

و الظاهر أن هذه الآيات من خطابات يوم القيامة للكفار و فيها القضاء بدخولهم في النار و خلودهم فيها لا أنها إخبار في الدنيا بما سيجري عليهم في الآخرة و استدلال على بطلان عبادة الأصنام و اتخاذهم آلهة من دون الله.

و قوله: ﴿أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ اللام لتأكيد التعدي أو بمعنى إلى، و ظاهر السياق أن الخطاب شامل للكفار و الآلهة جميعا أي أنتم و آلهتكم تردون جهنم أو تردون إليها.

قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَ كُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ تفريع و إظهار لحقيقة حال الآلهة التي كانوا يعبدونها لتكون لهم شفعاء، و قوله: ﴿وَ كُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ أي كل منكم و من الآلهة.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَ هُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ الزفير هو الصوت برد النفس إلى داخل و لذا فسر بصوت الحمار، و كونهم لا يسمعون جزاء عدم سمعهم في الدنيا كلمة الحق كما أنهم لا يبصرون جزاء لإعراضهم عن النظر في آيات الله في الدنيا.

و في الآية عدول عن خطاب الكفار إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إعراضا عن خطابهم ليبين سوء حالهم لغيرهم، و عليه فضمائر الجمع للكفار خاصة لا لهم و للآلهة معا.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنى‏َ أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ الحسنى‏ مؤنث أحسن و هي وصف قائم مقام موصوفه و التقدير العدة أو الموعدة الحسنى بالنجاة أو بالجنة و الموعدة بكل منهما وارد في كلامه تعالى قال: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ نَذَرُ اَلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا مريم: ٧٢ و قال: ﴿وَعَدَ اَللَّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ التوبة: ٧٢.

قوله تعالى: ﴿لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا إلى قوله ﴿تُوعَدُونَ الحسيس‏ الصوت الذي يحس به، و الفزع الأكبر الخوف الأعظم و قد أخبر سبحانه عن وقوعه في نفخ الصور حيث قال: ﴿وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ النمل: ٨٧.

و قوله: ﴿وَ تَتَلَقَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ أي بالبشرى و هي قولهم: ﴿هَذَا يَوْمُكُمُ اَلَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ .

قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَطْوِي اَلسَّمَاءَ كَطَيِّ اَلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ إلى آخر الآية، قال في المفردات،: و السجل‏ قيل: حجر كان يكتب فيه ثم سمي كل ما يكتب فيه سجلا قال تعالى: ﴿كَطَيِّ اَلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ أي كطيه لما كتب فيه حفظا له، انتهى. و هذا أوضح معنى قيل في معنى هذه الكلمة و أبسطه.

و على هذا فقوله: ﴿لِلْكُتُبِ مفعول طي كما أن السجل فاعله و المراد أن السجل و هو الصحيفة المكتوب فيها الكتاب إذا طوي انطوى بطيه الكتاب و هو الألفاظ أو المعاني التي لها نوع تحقق و ثبوت في السجل بتوسط الخطوط و النقوش فغاب الكتاب بذلك و لم يظهر منه عين و لا أثر كذلك السماء تنطوي بالقدرة الإلهية كما قال:

﴿وَ اَلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ الزمر: ٦٧ فتغيب عن غيره و لا يظهر منها عين و لا أثر غير أنها لا تغيب عن عالم الغيب و إن غاب عن غيره كما لا يغيب الكتاب عن السجل

 

 

 

 و إن غاب عن غيره.

فطي السماء على هذا رجوعها إلى خزائن الغيب بعد ما نزلت منها و قدرت كما قال تعالى: ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ الحجر: ٢١ و قال مطلقا: ﴿وَ إِلَى اَللَّهِ اَلْمَصِيرُ آل عمران: ٢٨ و قال: ﴿إِنَّ إِلى‏َ رَبِّكَ اَلرُّجْعى‏َ العلق: ٨.

و لعله بالنظر إلى هذا المعنى قيل: إن قوله: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ناظر إلى رجوع كل شي‏ء إلى حاله التي كان عليها حين ابتدأ خلقه و هي أنه لم يكن شيئا مذكورا كما قال تعالى: ﴿وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً مريم: ٩، و قال ﴿هَلْ أَتى‏َ عَلَى اَلْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ اَلدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً : الدهر: ١.

و هذا معنى ما نسب إلى ابن عباس أن معنى الآية يهلك كل شي‏ء كما كان أول مرة و هو و إن كان مناسبا للاتصال بقوله: ﴿يَوْمَ نَطْوِي اَلسَّمَاءَ إلخ. ليقع في مقام التعليل له لكن الأغلب على سياق الآيات السابقة بيان الإعادة بمعنى إرجاع الأشياء بعد فنائها لا الإعادة بمعنى إفناء الأشياء و إرجاعها إلى حالها قبل ظهورها بالوجود.

فظاهر سياق الآيات أن المراد نبعث الخلق كما بدأناه فالكاف في قوله: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ للتشبيه و ﴿كَمَا مصدرية و ﴿أَوَّلَ خَلْقٍ مفعول ﴿بَدَأْنَا و المراد أنا نعيد الخلق كابتدائه في السهولة من غير أن يعز علينا.

و قوله: ﴿وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ أي وعدناه وعدا ألزمنا ذلك و وجب علينا الوفاء به و إنا كنا فاعلين لما وعدنا و سنتنا ذلك.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ كَتَبْنَا فِي اَلزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ اَلذِّكْرِ أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ اَلصَّالِحُونَ الظاهر أن المراد بالزبور كتاب داود (عليه السلام) و قد سمي بهذا الاسم في قوله:

﴿وَ آتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً النساء: ١٦٣، إسراء: ٥٥، و قيل: المراد به القرآن، و قيل:

مطلق الكتب المنزلة على الأنبياء أو على الأنبياء بعد موسى و لا دليل على شي‏ء من ذلك.

و المراد بالذكر قيل: هو التوراة و قد سماها الله به في موضعين من هذه السورة و هما قوله: ﴿فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ الآية - ٧ و قوله: ﴿وَ ذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ الآية - ٤٨ منها، و قيل: هو القرآن و قد سماه الله ذكرا في مواضع من كلامه و كون

 

 

 

الزبور بعد الذكر على هذا القول بعدية رتبية لا زمانية و قيل: هو اللوح المحفوظ و هو كما ترى.

و قوله: ﴿أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ اَلصَّالِحُونَ الوراثة و الإرث‏ على ما ذكره الراغب انتقال قنية إليك من غير معاملة.

و المراد من وراثة الأرض انتقال التسلط على منافعها إليهم و استقرار بركات الحياة بها فيهم، و هذه البركات إما دنيوية راجعة إلى الحياة الدنيا كالتمتع الصالح بأمتعتها و زيناتها فيكون مؤدى الآية أن الأرض ستطهر من الشرك و المعصية و يسكنها مجتمع بشري صالح يعبدون الله و لا يشركون به شيئا كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ إلى قوله ﴿يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً النور: ٥٥.

و إما أخروية و هي مقامات القرب التي اكتسبوها في حياتهم الدنيا فإنها من بركات الحياة الأرضية و هي نعيم الآخرة كما يشير إليه قوله تعالى حكاية عن أهل الجنة: ﴿وَ قَالُوا اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا اَلْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ اَلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ الزمر: ٧٤ و قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ اَلْوَارِثُونَ اَلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْفِرْدَوْسَ المؤمنون: ١١.

و من هنا يظهر أن الآية مطلقة و لا موجب لتخصيصها بإحدى الوراثتين كما فعلوه فهم بين من يخصها بالوراثة الأخروية تمسكا بما يناسبها من الآيات، و ربما استدلوا لتعينه بأن الآية السابقة تذكر الإعادة و لا أرض بعد الإعادة حتى يرثها الصالحون، و يرده أن كون الآية معطوفة على سابقتها غير متعين فمن الممكن أن تكون معطوفة على قوله السابق: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصَّالِحَاتِ كما سنشير إليه.

و بين من يخصها بالوراثة الدنيوية و يحملها على زمان ظهور الإسلام أو ظهور المهدي (عليه السلام) الذي أخبر به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في الأخبار المتواترة المروية من طرق الفريقين، و يتمسك لذلك بالآيات المناسبة له التي أومأنا إلى بعضها.

و بالجملة الآية مطلقة تعم الوراثتين جميعا غير أن الذي يقتضيه الاعتبار بالسياق أن تكون معطوفة على قوله السابق: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصَّالِحَاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ إلخ.

 

 

 

 المشير إلى تفصيل حال المختلفين في أمر الدين من حيث الجزاء الأخروي و تكون هذه الآية مشيرة إلى تفصيلها من حيث الجزاء الدنيوي، و يكون المحصل أنا أمرناهم بدين واحد لكنهم تقطعوا و اختلفوا فاختلف مجازاتنا لهم أما في الآخرة فللمؤمنين سعي مشكور و عمل مكتوب و للكافرين خلاف ذلك، و أما في الدنيا فللصالحين وراثة الأرض بخلاف غيرهم.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ البلاغ‏ هو الكفاية، و أيضا ما به بلوغ البغية، و أيضا نفس البلوغ، و معنى الآية مستقيم على كل من المعاني الثلاثة، و الإشارة بهذا إلى ما بين في السورة من المعارف.

و المعنى: أن فيما بيناه في السورة أن الرب واحد لا رب غيره يجب أن يعبد من طريق النبوة و يستعد بذلك ليوم الحساب، و أن جزاء المؤمنين كذا و كذا و جزاء الكافرين كيت و كيت كفاية لقوم عابدين إن أخذوه و عملوا به كفاهم و بلغوا بذلك بغيتهم.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ أي أنك رحمة مرسلة إلى الجماعات البشرية كلهم و الدليل عليه الجمع المحلى باللام و ذلك مقتضى عموم الرسالة.

و هو (ص) رحمة لأهل الدنيا من جهة إتيانه بدين في الأخذ به سعادة أهل الدنيا في دنياهم و أخراهم.

و هو (ص) رحمة لأهل الدنيا من حيث الآثار الحسنة التي سرت من قيامه بالدعوة الحقة في مجتمعاتهم مما يظهر ظهورا بالغا بقياس الحياة العامة البشرية اليوم إلى ما قبل بعثته (ص) و تطبيق إحدى الحياتين على الأخرى.

قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحى‏َ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي إن الذي يوحى إلي من الدين ليس إلا التوحيد و ما يتفرع عليه و ينحل إليه سواء كان عقيدة أو حكما و الدليل على هذا الذي ذكرنا ورود الحصر على الحصر و ظهوره في الحصر الحقيقي.

قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى‏َ سَوَاءٍ الإيذان كما قيل إفعال من الإذن و هو العلم بالإجازة في شي‏ء و ترخيصه ثم تجوز به عن مطلق العلم و اشتق منه

 

 

 

 الأفعال و كثيرا ما يتضمن معنى التحذير و الإنذار.

و قوله: ﴿عَلى‏َ سَوَاءٍ الظاهر أنه حال من مفعول ﴿آذَنْتُكُمْ و المعنى فإن أعرضوا عن دعوتك و تولوا عن الإسلام لله بالتوحيد فقل: أعلمتكم أنكم على خطرها لكونكم مساوين في الاعلام أو في الخطر، و قيل: أعلمتكم بالحرب و هو بعيد في سورة مكية.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعْلَمُ اَلْجَهْرَ مِنَ اَلْقَوْلِ وَ يَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ تتمة قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) المأمور به.

و المراد بقوله: ﴿مَا تُوعَدُونَ ما يشير إليه قوله: ﴿آذَنْتُكُمْ عَلى‏َ سَوَاءٍ من العذاب المهدد به أمر (ص) أولا أن يعلمهم الخطر إن تولوا عن الإسلام، و ثانيا أن ينفي عن نفسه العلم بقرب وقوعه و بعده و يعلله بقصر العلم بالجهر من قولهم - و هو طعنهم في الإسلام و استهزاؤهم علنا - و ما يكتمون من ذلك في الله سبحانه فهو العالم بحقيقة الأمر.

و منه يعلم أن منشأ توجه العذاب إليهم هو ما كانوا يطعنون به في الإسلام في الظاهر و ما يبطنون من المكر كأنه قيل: إنهم يستحقون العذاب بإظهارهم القول في هذه الدعوة الإلهية و إضمارهم المكر عليه فهددهم به لكن لما كنت لا تحيط بظاهر قولهم و باطن مكرهم و لا تقف على مقدار اقتضاء جرمهم العذاب من جهة قرب الأجل و بعده فأنف العلم بخصوصية قربه و بعده عن نفسك و أرجع العلم بذلك إلى الله سبحانه وحده.

و قد علم بذلك أن المراد بالجهر من القول ما أظهره المشركون من القول في الإسلام طعنا و استهزاء، و بما كانوا يكتمون ما أبطنوه عليه من المكر و الخدعة.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَ مَتَاعٌ إِلى‏َ حِينٍ من تتمة قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) المأمور به و ضمير ﴿لَعَلَّهُ على ما قيل كناية عن غير مذكور و لعله راجع إلى الإيذان المأمور به، و المعنى و ما أدري لعل هذا الإيذان الذي أمرت به أي مراده تعالى من أمره لي بإعلام الخطر امتحان لكم ليظهر به ما في باطنكم في أمر الدعوة فهو يريد به أن يمتحنكم و يمتعكم إلى حين و أجل استدراجا و إمهالا.

قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اُحْكُمْ بِالْحَقِّ وَ رَبُّنَا اَلرَّحْمَنُ اَلْمُسْتَعَانُ عَلى‏َ مَا تَصِفُونَ

 

 

 

الضمير في ﴿قَالَ للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الآية حكاية قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن دعوتهم إلى الحق و ردهم له و توليهم عنه فكأنه (ص) لما دعاهم و بلغ إليهم ما أمر بتبليغه فأنكروا و شددوا فيه أعرض عنهم إلى ربه منيبا إليه و قال: ﴿رَبِّ اُحْكُمْ بِالْحَقِّ و تقييد الحكم بالحق توضيحي لا احترازي فإن حكمه تعالى لا يكون إلا حقا فكأنه قيل:

رب احكم بحكمك الحق و المراد ظهور الحق لمن كان و على من كان.

ثم التفت (ص) إليهم و قال: ﴿وَ رَبُّنَا اَلرَّحْمَنُ اَلْمُسْتَعَانُ عَلى‏َ مَا تَصِفُونَ و كأنه يشير به إلى سبب إعراضه عنهم و رجوعه إلى الله سبحانه و سؤاله أن يحكم بالحق فهو سبحانه ربه و ربهم جميعا فله أن يحكم بين مربوبيه، و هو كثير الرحمة لا يخيب سائله المنيب إليه، و هو الذي يحكم لا معقب لحكمه و هو الذي يحق الحق و يبطل الباطل بكلماته فهو (ص) في كلمته: ﴿رَبِّ اُحْكُمْ بِالْحَقِّ راجع الذي هو ربه و ربهم و سأله برحمته أن يحكم بالحق و استعان به على ما يصفونه من الباطل و هو نعتهم دينهم بما ليس فيه و طعنهم في الدين الحق بما هو بري‏ء من ذلك.

و قد ظهر بما تقدم بعض ما في مفردات الآية الكريمة من النكات كالالتفات من الخطاب إلى الغيبة في ﴿قَالَ و التعبير عنه تعالى أولا بربي و ثانيا بربنا و توصيفه بالرحمن و المستعان إلى غير ذلك.

(بحث روائي)

 و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿وَ حَرَامٌ عَلىَ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا الآية: روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: كل قرية أهلكها الله بعذاب فإنهم لا يرجعون.

 و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما نزلت هذه الآية يعني قوله: ﴿إِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ وجد منها أهل مكة وجدا شديدا فدخل عليهم عبد الله بن الزبعري و كفار قريش يخوضون في هذه الآية، فقال ابن الزبعري: أ محمد تكلم بهذه الآية؟ فقالوا: نعم قال ابن الزبعري: لئن اعترف بها لأخصمنه فجمع بينهما.

 

 

 

 فقال: يا محمد أ رأيت الآية التي قرأت آنفا فينا و في آلهتنا خاصة أم الأمم و آلهتهم؟ فقال: بل فيكم و في آلهتكم و في الأمم و في آلهتهم إلا من استثنى الله فقال ابن الزبعري: خصمتك و الله أ لست تثني على عيسى خيرا؟ و قد عرفت أن النصارى يعبدون عيسى و أمه و أن طائفة من الناس يعبدون الملائكة أ فليس هؤلاء مع الآلهة في النار: فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لا فضجت قريش و ضحكوا قالت قريش: خصمك ابن الزبعري. فقال رسول الله: قلتم الباطل أ ما قلت: إلا من استثنى الله و هو قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنى‏ أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَ هُمْ فِي مَا اِشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ .

 أقول: و قد روي الحديث أيضا من طرق أهل السنة لكن المتن في هذا الطريق أمتن مما ورد من طريقهم و أسلم و هو ما عن ابن عباس قال ":لما نزلت: ﴿إِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ شق ذلك على أهل مكة و قالوا شتم الآلهة فقال ابن الزبعري: أنا أخصم لكم محمدا ادعوه لي فدعي فقال: يا محمد هذا شي‏ء لآلهتنا خاصة أم لكل من عبد من دون الله؟ قال: بل لكل من عبد من دون الله - فقال ابن الزبعري: خصمت و رب هذه البنية يعني الكعبة. أ لست تزعم يا محمد أن عيسى عبد صالح و أن عزير عبد صالح و أن الملائكة صالحون؟ قال: بلى قال: فهذه النصارى تعبد عيسى و هذه اليهود تعبد عزيرا و هذه بنو مليح تعبد الملائكة فضج أهل مكة و فرحوا.

فنزلت: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنىَ عزير و عيسى و الملائكة ﴿أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ و نزلت ﴿وَ لَمَّا ضُرِبَ اِبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ .

و في هذا المتن أولا: ذكر اسم عزير و الواقعة في أوائل البعثة بمكة و لم يذكر اسمه في شي‏ء من السور المكية و إنما ذكر في سورة التوبة و هي من أواخر ما نزلت بالمدينة.

و ثانيا: قوله: «و هذه اليهود تعبد عزيرا و اليهود لا تعبد عزيرا و إنما قالوا عزير ابن الله تشريفا كما قالوا نحن أبناء الله و أحباؤه.

و ثالثا: ما اشتمل عليه من نزول قوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنىَ أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ بعد اعتراف النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعموم قوله: ﴿إِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ لكل

 

 

 

 معبود من دون الله، و نقض ابن الزبعري ذلك بعيسى و عزير و الملائكة و هذا من ورود البيان بعد وقت الحاجة و أشد تأييدا لوقوع التهمة.

و رابعا: اشتماله على نزول قوله: ﴿وَ لَمَّا ضُرِبَ اِبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً الآية في الواقعة و لا ارتباط لمضمونها بها أصلا.

و نظيره ما شاع بينهم أن ابن الزبعري اعترض بذلك على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال له:

يا غلام ما أجهلك بلغة قومك لأني قلت: و ما تعبدون، و ما لم يعقل، و لم أقل:

و من تعبدون.

و فيه من الخلل ما نسب إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من قوله: إني قلت كذا و لم أقل كذا و من الواجب أن يجل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من أن يتلفظ في آية قرآنية بمثل «قلت كذا و لم أقل كذا» و نقل عن الحافظ ابن حجر أن الحديث لا أصل له و لم يوجد في شي‏ء من كتب الحديث لا مسند و لا غير مسند.

و نظيره في الضعف ما ورد في حديث آخر يقص هذه القصة أن ابن الزبعري قال: أ أنت قلت ذلك؟ قال: نعم قال: قد خصمتك و رب الكعبة أ ليس اليهود عبدوا عزيرا و النصارى عبدوا المسيح و بنو مليح عبدوا الملائكة؟ فقال (ص): بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك فأنزل الله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنى‏َ الحديث و ذلك أن الحجة المنسوبة إليه (ص) في الحديث تنفع ابن الزبعري أكثر مما تضره فإن الحجة كما تخرج عزيرا و عيسى و الملائكة عن شمول الآية كذلك تخرج الآلهة التي هي أصنام فإنها تشارك المذكورين في أنها لا خبر لها عن عبادة عابديها و لا رضى منها بذلك إذ لا شعور لها فتختص الآية بالشياطين و لا تشمل الأصنام و هو خلاف ما نسب إليه (ص) من دعوى شمول الآية لآلهتهم و تصديقه.

و نظيره في الضعف ما في الدر المنثور، عن البزار عن ابن عباس قال" :نزلت هذه الآية ﴿إِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ثم نسخها قوله:

﴿إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنىَ أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ .

و وجه الضعف ظاهر و لو كان هناك شي‏ء فهو التخصيص.

 

 

 

 و في أمالي الصدوق، عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في حديث: يا علي أنت و شيعتك على الحوض تسقون من أحببتم و تمنعون من كرهتم و أنتم الآمنون يوم الفزع الأكبر في ظل العرش، يفزع الناس و لا تفزعون، و يحزن الناس و لا تحزنون فيكم نزلت هذه الآية ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنىَ أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ و فيكم نزلت ﴿لاَ يَحْزُنُهُمُ اَلْفَزَعُ اَلْأَكْبَرُ وَ تَتَلَقَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ اَلَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ .

 أقول: معنى نزولها فيهم جريها فيهم أو دخولهم فيمن نزلت فيه و قد وردت روايات كثيرة في جماعة من المؤمنين عدوا ممن تجري فيه الآيتان و خاصة الثانية كمن قرأ القرآن محتسبا، و أم به قوما محتسبا، و رجل أذن محتسبا و مملوك أدى حق الله و حق مواليه‏ رواه في المجمع، عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم):، و المتحابين في الله و المدلجين في الظلم و المهاجرين‏ روى في الدر المنثور، الأول عن أبي الدرداء، و الثاني عن أبي أمامة، و الثالث عن الخدري جميعا عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد عد في أحاديث أئمة أهل البيت (عليه السلام) ممن تجري فيه الآية خلق كثير.

 و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد عن علي: في قوله: ﴿كَطَيِّ اَلسِّجِلِّ قال: ملك:.

أقول: و رواه أيضا عن ابن أبي حاتم و ابن عساكر عن الباقر (عليه السلام) في حديث. و في تفسير القمي،: :و أما قوله: ﴿يَوْمَ نَطْوِي اَلسَّمَاءَ كَطَيِّ اَلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ قال:

السجل اسم الملك الذي يطوي الكتب، و معنى يطويها يفنيها فتتحول دخانا و الأرض نيرانا.

 و في نهج البلاغة، في وصف الأموات: استبدلوا بظهر الأرض بطنا و بالسعة ضيقا، و بالأهل غربة، و بالنور ظلمة، فجاءوها كما فارقوها حفاة عراة قد ظعنوا عنها بأعمالهم إلى الحياة الدائمة و الدار الباقية كما قال سبحانه: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ . أقول: استشهاده (عليه السلام) بالآية يقبل الانطباق على كل من معنيي الإعادة أعني إعادة الخلق إلى ما بدءوا منه و إعادة الخلق بمعنى إحيائهم بعد موتهم كما كانوا قبل موتهم، و قد تقدم المعنيان في بيان الآية.

 

 

 

 و في المجمع، و يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال: تحشرون يوم القيامة حفاة عراة عزلا ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ :

أقول: و روى مثله في نور الثقلين عن كتاب الدوريستي بإسناده عن ابن عباس عنه (ص).

 و في تفسير القمي،: :و قوله: ﴿وَ لَقَدْ كَتَبْنَا فِي اَلزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ اَلذِّكْرِ قال الكتب كلها ذكر ﴿أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ اَلصَّالِحُونَ قال: القائم و أصحابه قال: و الزبور فيه ملاحم و التحميد و التمجيد و الدعاء.

أقول: و الروايات في المهدي (عليه السلام) و ظهوره و ملئه الأرض قسطا و عدلا بعد ما ملئت ظلما و جورا من طرق العامة و الخاصة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أئمة أهل البيت (عليه السلام) بالغة حد التواتر، من أراد الوقوف عليها فليراجع مظانها من كتب العامة و الخاصة.

 و في الدر المنثور، أخرج البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إنما أنا رحمة مهداة.

 

 

 

(٢٢) سورة الحج مدنية و هي ثمان و سبعون آية (٧٨)

[سورة الحج (٢٢): الآیات ١ الی ٢]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ اَلسَّاعَةِ شَيْ‏ءٌ عَظِيمٌ ١ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَ تَرَى اَلنَّاسَ سُكَارى‏ وَ مَا هُمْ بِسُكَارى‏ وَ لَكِنَّ عَذَابَ اَللَّهِ شَدِيدٌ ٢

(بيان)

السورة تخاطب المشركين بأصول الدين إنذارا و تخويفا كما كانوا يخاطبون في السور النازلة قبل الهجرة في سياق يشهد بأن لهم بعد شوكة و قوة، و تخاطب المؤمنين بمثل الصلاة و مسائل الحج و عمل الخير و الإذن في القتال و الجهاد في سياق يشهد بأن لهم مجتمعا حديث العهد بالانعقاد قائما على ساق لا يخلو من عدة و عدة و شوكة.

و يتعين بذلك أن السورة مدنية نزلت بالمدينة ما بين هجرة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و غزوة بدر و غرضها بيان أصول الدين بيانا تفصيليا ينتفع بها المشرك و الموحد و فروعها بيانا إجماليا ينتفع بها الموحدون من المؤمنين إذ لم يكن تفاصيل الأحكام الفرعية مشرعة يومئذ إلا مثل الصلاة و الحج كما في السورة.

و لكون دعوة المشركين إلى الأصول من طريق الإنذار و كذا ندب المؤمنين إلى إجمال الفروع بلسان الأمر بالتقوى بسط الكلام في وصف يوم القيامة و افتتح السورة بالزلزلة التي هي من أشراطها و بها خراب الأرض و اندكاك الجبال.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ اَلسَّاعَةِ شَيْ‏ءٌ عَظِيمٌ الزلزلة و الزلزال‏ شدة الحركة على الحال الهائلة و كأنه مأخوذ بالاشتقاق الكبير من زل بمعنى زلق فكرر للمبالغة و الإشارة إلى تكرر الزلة، و هو شائع في نظائره مثل ذب و ذبذب و دم و دمدم و كب و كبكب و دك و دكدك و رف و رفرف و غيرها.

 

 

 

 الخطاب يشمل الناس جميعا من مؤمن و كافر و ذكر و أنثى و حاضر و غائب و موجود بالفعل و من سيوجد منهم، و ذلك بجعل بعضهم من الحاضرين وصلة إلى خطاب الكل لاتحاد الجميع بالنوع.

و هو أمر الناس أن يتقوا ربهم فيتقيه الكافر بالإيمان و المؤمن بالتجنب عن مخالفة أوامره و نواهيه في الفروع، و قد علل الأمر بعظم زلزلة الساعة فهو دعوة من طريق الإنذار.

و إضافة الزلزلة إلى الساعة لكونها من أشراطها و أماراتها، و قيل: المراد بزلزلة الساعة شدتها و هولها، و لا يخلو من بعد من جهة اللفظ.

قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ الذهول‏ الذهاب عن الشي‏ء مع دهشة، و الحمل‏ بالفتح الثقل المحمول في الباطن كالولد في البطن و بالكسر الثقل المحمول في الظاهر كحمل بعير قاله الراغب. و قال في مجمع البيان،: الحمل‏ بفتح الحاء ما كان في بطن أو على رأس شجرة، و الحمل‏ بكسر الحاء ما كان على ظهر أو على رأس.

قال في الكشاف،: إن قيل: لم قيل: ﴿مُرْضِعَةٍ دون مرضع؟ قلت: المرضعة التي هي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبي، و المرضع التي شأنها أن ترضع و إن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به فقيل: مرضعة ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه و قد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة.

و قال: فإن قلت: لم قيل أولا: ترون ثم قيل: ترى على الإفراد؟ قلت: لأن الرؤية أولا علقت بالزلزلة فجعل الناس جميعا رائين لها، و هي معلقة أخيرا بكون الناس على حال السكر فلا بد أن يجعل كل واحد منهم رائيا لسائرهم انتهى.

و قوله: ﴿وَ تَرَى اَلنَّاسَ سُكَارى‏َ وَ مَا هُمْ بِسُكَارى‏َ نفى السكر بعد إثباته للدلالة على أن سكرهم و هو ذهاب العقول و سقوطها في مهبط الدهشة و البهت ليس معلولا للخمر بل شدة عذاب الله هي التي أوقعتها فيما وقعت و قد قال تعالى: ﴿إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ هود: ١٠٢.

و ظاهر الآية أن هذه الزلزلة قبل النفخة الأولى التي يخبر تعالى عنها بقوله: ﴿وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اَللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى‏َ فَإِذَا هُمْ

 

 

 

 قِيَامٌ يَنْظُرُونَ الزمر: ٦٨ و ذلك لأن الآية تفرض الناس في حال عادية تفاجئهم فيها زلزلة الساعة فتنقلب حالهم من مشاهدتها إلى ما وصف، و هذا قبل النفخة التي تموت بها الأحياء قطعا.

و قيل: إنها تمثيل شدة العذاب أي لو كان هناك راء يراها لكانت الحال هي الحال، و وقوع الآية في مقام الإنذار و التخويف لا يناسبه تلك المناسبة إذ الإنذار بعذاب لا يعلم به لا وجه له.

(بحث روائي)

 في الدر المنثور، أخرج سعيد بن منصور و أحمد و عبد بن حميد و الترمذي و صححه و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه من طرق عن الحسن و غيره عن عمران بن حصين قال :لما نزلت ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ اَلسَّاعَةِ شَيْ‏ءٌ عَظِيمٌ إلى قوله: ﴿وَ لَكِنَّ عَذَابَ اَللَّهِ شَدِيدٌ أنزلت عليه هذه و هو في سفر فقال: أ تدرون أي يوم ذلك؟ قالوا: الله و رسوله أعلم قال: ذلك يوم يقول الله لآدم: ابعث بعث النار. قال: يا رب و ما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة و تسعة و تسعين إلى النار و واحدا إلى الجنة.

فأنشأ المسلمون يبكون فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): قاربوا و سددوا فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية فتؤخذ العدة من الجاهلية فإن تمت و إلا أكملت من المنافقين، و ما مثلكم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير.

ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبروا ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبروا، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا. قال: فلا أدري قال: الثلثين، أم لا؟.

 أقول: و هي مروية بطرق أخرى كثيرا عن عمران و ابن عباس و أبي سعيد الخدري و أبي موسى و أنس مع اختلاف في المتون و أعدلها ما أوردناه.

و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿وَ تَرَى اَلنَّاسَ سُكَارى‏َ قال: يعني ذاهبة

 

 

 

 عقولهم من الحزن و الفزع متحيرين‏

[سورة الحج (٢٢): الآیات ٣ الی ١٦]

﴿وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اَللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ٣ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَ يَهْدِيهِ إِلى‏َ عَذَابِ اَلسَّعِيرِ ٤ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ اَلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي اَلْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلى‏َ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى‏َ أَرْذَلِ اَلْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَ تَرَى اَلْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا اَلْمَاءَ اِهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ٥ ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّهُ يُحْيِ اَلْمَوْتى‏َ وَ أَنَّهُ عَلى‏َ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ٦ وَ أَنَّ اَلسَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَ أَنَّ اَللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ ٧ وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اَللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لاَ هُدىً وَ لاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ ٨ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ لَهُ فِي اَلدُّنْيَا خِزْيٌ وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ عَذَابَ اَلْحَرِيقِ ٩ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَ أَنَّ اَللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ١٠ وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ

 

 

 

﴿يَعْبُدُ اَللَّهَ عَلىَ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اِطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ اِنْقَلَبَ عَلىَ وَجْهِهِ خَسِرَ اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ اَلْخُسْرَانُ اَلْمُبِينُ ١١ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَ مَا لاَ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ اَلضَّلاَلُ اَلْبَعِيدُ ١٢ يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ اَلْمَوْلى‏ وَ لَبِئْسَ اَلْعَشِيرُ ١٣ إِنَّ اَللَّهَ يُدْخِلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ إِنَّ اَللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ١٤ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اَللَّهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى اَلسَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ١٥ وَ كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَ أَنَّ اَللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ ١٦  

(بيان)

تذكر الآيات أصنافا من الناس من مصر على الباطل مجادل في الحق أو متزلزل فيه و تصف حالهم و تبين ضلالهم و سوء مآلهم و تذكر المؤمنين و أنهم مهتدون في الدنيا منعمون في الآخرة.

قوله تعالى: ﴿وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اَللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ المريد الخبيث و قيل: المتجرد للفساد و المعري من الخير و المجادلة في الله بغير علم التكلم فيما يرجع إليه تعالى من صفاته و أفعاله بكلام مبني على الجهل بالإصرار عليه.

و قوله: ﴿وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ بيان لمسلكه في الاعتقاد و العمل بعد بيان مسلكه في القول كأنه قيل: إنه يقول في الله بغير علم و يصر على جهله و يعتقد بكل

 

 

 

 باطل و يعمل به و إذ كان الشيطان هو الذي يهدي الإنسان إلى الباطل و الإنسان إنما يميل إليه بإغوائه فهو يتبع في كل ما يعتقده و يعمل به الشيطان فقد وضع اتباع الشيطان في الآية موضع الاعتقاد و العمل للدلالة على الكيفية و ليبين في الآية التالية أنه ضال عن طريق الجنة سألك إلى عذاب السعير.

و قد قال تعالى: ﴿وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ و لم يقل: و يتبع الشيطان المريد و هو إبليس للدلالة على تلبسه بفنون الضلال و أنواعه فإن أبواب الباطل مختلفة و على كل باب شيطانا من قبيل إبليس و ذريته و هناك شياطين من الإنس يدعون إلى الضلال فيقلدهم أولياؤهم الغاوون و يتبعونهم و إن كان كل تسويل و وسوسة منتهيا إلى إبليس لعنه الله.

و الكلمة أعني قوله: ﴿وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مع ذلك كناية عن عدم انتهائه في اتباع الباطل إلى حد يقف عليه لبطلان استعداده للحق و كون قلبه مطبوعا عليه فهو في معنى قوله: ﴿وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ اَلرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ اَلغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً الأعراف: ١٤٦.

قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَ يَهْدِيهِ إِلى‏َ عَذَابِ اَلسَّعِيرِ التولي‏ أخذه وليا متبعا، و قوله: ﴿فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ إلخ. مبتدأ محذوف الخبر، و المعنى و يتبع كل شيطان مريد من صفته أنه كتب عليه أن من اتخذه وليا و اتبعه فإضلاله له و هدايته إياه إلى عذاب السعير ثابت لازم.

و المراد بكتابته عليه القضاء الإلهي في حقه بإضلاله متبعيه أولا و إدخاله إياهم النار ثانيا، و هذان القضاءان هما اللذان إشارة إليهما في قوله: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ الحجر: ٤٣ و قد تقدم الكلام في توضيح ذلك في الجزء الثاني عشر من الكتاب.

و بما تقدم يظهر ضعف ما قيل: إن المعنى من تولى الشيطان فإن الله يضله إذ لا شاهد من كلامه تعالى على هذه الكتابة المدعاة و إنما المذكور في كلامه تعالى القضاء بتسليط إبليس على من تولاه و اتبعه كما تقدم.

على أن لازمه اختلاف الضمائر و رجوع ضمير ﴿فَأَنَّهُ إلى ما لم يتقدم ذكره من

 

 

 

 غير موجب.

و أضعف منه قول من قال: إن المعنى كتب على هذا الذي يجادل في الله بغير علم أنه من تولاه فإنه يضله بإرجاع الضمائر إلى الموصول في ﴿مَنْ يُجَادِلُ و هو كما ترى.

و يظهر من الآية أن القضاء على إبليس قضاء على قبيله و ذريته و أعوانه، و أن إضلالهم و هدايتهم إلى عذاب السعير و بالجملة فعلهم فعله، و لا يخفى ما في الجمع بين يضله و يهديه في الآية من اللطف.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ اَلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ إلى قوله ﴿شَيْئاً المراد بالبعث إحياء الموتى و الرجوع إلى الله سبحانه و هو ظاهر، و العلقة القطعة من الدم الجامد، و المضغة القطعة من اللحم الممضوغة و المخلقة على ما قيل تامة الخلقة و غير المخلقة غير تامتها و ينطبق على تصوير الجنين الملازم لنفخ الروح فيه، و عليه ينطبق القول بأن المراد بالتخليق التصوير.

و قوله: ﴿لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ظاهر السياق أن المراد لنبين لكم أن البعث ممكن و نزيل الريب عنكم فإن مشاهدة الانتقال من التراب الميت إلى النطفة ثم إلى العلقة ثم إلى المضغة ثم إلى الإنسان الحي لا تدع ريبا في إمكان تلبس الميت بالحياة و لذلك وضع قوله: ﴿لِنُبَيِّنَ لَكُمْ في هذا الموضع و لم يؤخر إلى آخر الآية.

و قوله: ﴿وَ نُقِرُّ فِي اَلْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلى‏َ أَجَلٍ مُسَمًّى و أي و نقر فيها ما نشاء من الأجنة و لا نسقطه إلى تمام مدة الحمل ﴿ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ، قال في المجمع،: أي نخرجكم من بطون أمهاتكم و أنتم أطفال، و الطفل الصغير من الناس، و إنما وحد و المراد به الجمع لأنه مصدر كقولهم: رجل عدل و رجال عدل، و قيل: أراد ثم نخرج كل واحد منكم طفلا. انتهى، و المراد ببلوغ الأشد حال اشتداد الأعضاء و القوى.

و قوله: ﴿وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى‏َ أَرْذَلِ اَلْعُمُرِ المقابلة بين الجملتين تدل على تقيد الأولى بما يميزها من الثانية و التقدير و منكم من يتوفى من قبل أن يرد إلى أرذل العمر، و المراد بأرذل العمر أحقره و أهونه و ينطبق على حال الهرم فإنه أرذل الحياة إذا قيس إلى ما قبله.

 

 

 

و قوله: ﴿لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً أي شيئا يعتد به أرباب الحياة و يبنون عليه حياتهم، و اللام للغاية أي ينتهي أمره إلى ضعف القوى و المشاعر بحيث لا يبقى له من العلم الذي هو أنفس محصول للحياة شي‏ء يعتد به لها.

قوله تعالى: ﴿وَ تَرَى اَلْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا اَلْمَاءَ اِهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ قال الراغب: يقال: همدت‏ النار طفئت، و منه أرض هامدة لا نبات فيها، و نبات هامد يابس، قال تعالى: ﴿وَ تَرَى اَلْأَرْضَ هَامِدَةً انتهى و يقرب منه تفسيرها بالأرض الهالكة.

و قال أيضا: الهز التحريك الشديد يقال: هززت الرمح فاهتز و اهتز النبات إذا تحرك لنضارته، و قال أيضا: ربا إذا زاد و علا قال تعالى: ﴿فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا اَلْمَاءَ اِهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ أي زادت زيادة المتربى. انتهى بتلخيص ما.

و قوله: ﴿وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ أي و أنبتت الأرض من كل صنف من النبات متصف بالبهجة و هي حسن اللون و ظهور السرور فيه، أو المراد بالزوج ما يقابل الفرد فإن كلامه يثبت للنبات ازدواجا كما يثبت له حياة، و قد وافقته العلوم التجريبية اليوم.

و المحصل أن للأرض في إنباتها النبات و إنمائها له شأنا يماثل شأن الرحم في إنباته الحيوي للتراب الصائر نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى أن يصير إنسانا حيا.

قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّهُ يُحْيِ اَلْمَوْتى‏َ وَ أَنَّهُ عَلى‏َ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ذلك إشارة إلى ما ذكر في الآية السابقة من خلق الإنسان و النبات و تدبير أمرهما حدوثا و بقاء خلقا و تدبيرا واقعيين لا ريب فيهما.

و الذي يعطيه السياق أن المراد بالحق نفس الحق أعني أنه ليس وصفا قائما مقام موصوف محذوف هو الخبر فهو تعالى نفس الحق الذي يحقق كل شي‏ء حق و يجري في الأشياء النظام الحق فكونه تعالى حقا يتحقق به كل شي‏ء حق هو السبب لهذه الموجودات الحقة و النظامات الحقة الجارية فيها، و هي جميعا تكشف عن كونه تعالى هو الحق.

 

 

 

 و قوله: ﴿وَ أَنَّهُ يُحْيِ اَلْمَوْتى‏َ معطوف على ما قبله أي المذكور في الآية السابقة من صيرورة التراب الميت بالانتقال من حال إلى حال إنسانا حيا و كذا صيرورة الأرض الميتة بنزول الماء نباتا حيا و استمرار هذا الأمر بسبب أن الله يحيي الموتى و يستمر منه ذلك.

و قوله: ﴿وَ أَنَّهُ عَلى‏َ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ معطوف على سابقه كسابقه و المراد أن ما ذكرناه بسبب أن الله على كل شي‏ء قدير و ذلك أن إيجاد الإنسان و النبات و تدبير أمرهما في الحدوث و البقاء مرتبط بما في الكون من وجود أو نظام جار في الوجود و كما أن إيجادهما و تدبير أمرهما لا يتم إلا مع القدرة عليهما كذلك القدرة عليهما لا تتم إلا مع القدرة على كل شي‏ء فخلقهما و تدبير أمرهما بسبب عموم القدرة و إن شئت فقل:

ذلك يكشف عن عموم القدرة.

قوله تعالى: ﴿وَ أَنَّ اَلسَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَ أَنَّ اَللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ الجملتان معطوفتان على «أن» في قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ .

و أما الوجه في اختصاص هذه النتائج الخمس المذكورة في الآيتين بالذكر مع أن بيان السابقة ينتج نتائج أخرى مهمة في أبواب التوحيد كربوبيته تعالى و نفي شركاء العبادة و كونه تعالى عليما و منعما و جوادا و غير ذلك.

فالذي يعطيه السياق و المقام مقام إثبات البعث و عرض هذه الآيات على سائر الآيات المثبتة للبعث أن الآية تؤم إثبات البعث من طريق إثبات كونه تعالى حقا على الإطلاق فإن الحق المحض لا يصدر عنه إلا الفعل الحق دون الباطل، و لو لم يكن هناك نشاة أخرى يعيش فيها الإنسان بما له من سعادة أو شقاء و اقتصر في الخلقة على الإيجاد ثم الإعدام ثم الإيجاد ثم الإعدام و هكذا كان لعبا باطلا فكونه تعالى حقا لا يفعل إلا الحق يستلزم نشاة البعث استلزاما بينا فإن هذه الحياة الدنيا تنقطع بالموت فبعدها حياة أخرى باقية لا محالة.

فالآية أعني قوله: ﴿فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ إلى قوله ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ في مجرى قوله: ﴿وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ الدخان: ٣٩ و قوله: ﴿وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا ص: ٢٧ و غيرهما من الآيات المتعرضة لإثبات المعاد، و إنما الفرق أنها

 

 

 

 تثبته من طريق حقية فعله تعالى و الآية المبحوث عنها تثبته من طريق حقيته تعالى في نفسه المستلزمة لحقية فعله.

ثم لما كان من الممكن أن يتوهم استحالة إحياء الموتى فلا ينفع البرهان حينئذ دفعه بقوله: ﴿وَ أَنَّهُ يُحْيِ اَلْمَوْتى‏َ فإحياؤه تعالى الموتى بجعل التراب الميت إنسانا حيا و جعل الأرض الميتة نباتا حيا واقع مستمر مشهود فلا ريب في إمكانه و هذه الجملة أيضا في مجرى قوله تعالى: ﴿قَالَ مَنْ يُحْيِ اَلْعِظَامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ يس: ٧٩ و سائر الآيات المثبتة لإمكان البعث و الإحياء ثانيا من طريق ثبوت مثله أولا.

ثم لما أمكن أن يتوهم أن جواز الإحياء الثاني لا يستلزم الوقوع بتعلق القدرة به استبعادا له و استصعابا دفعه بقوله: ﴿وَ أَنَّهُ عَلى‏َ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ فإن القدرة لما كانت غير متناهية كانت نسبتها إلى الإحياء الأول و الثاني و ما كان سهلا في نفسه أو صعبا على حد سواء فلا يخالطها عجز و لا يطرأ عليها عي و تعب.

و هذه الجملة أيضا في مجرى قوله تعالى: ﴿أَ فَعَيِينَا بِالْخَلْقِ اَلْأَوَّلِ ق: ١٥ و قوله:

﴿إِنَّ اَلَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ اَلْمَوْتى‏َ إِنَّهُ عَلى‏َ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ حم السجدة - ٣٩ و سائر الآيات المثبتة للبعث بعموم القدرة و عدم تناهيها.

فهذه أعني ما في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ إلى آخر الآية نتائج ثلاث مستخرجة من الآية السابقة عليها مسوقة جميعا لغرض واحد و هو ذكر ما يثبت به البعث و هو الذي تتضمنه الآية الأخيرة ﴿وَ أَنَّ اَلسَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَ أَنَّ اَللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ .

و لم تتضمن الآية إلا بعث الأموات و الظرف الذي يبعثون فيه فأما الظرف و هو الساعة فذكره في قوله: ﴿وَ أَنَّ اَلسَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا و لم ينسب إتيانها إلى نفسه بأن يقال مثلا: و أن الله يأتي بالساعة أو ما في معناه و لعل الوجه في ذلك اعتبار كونها لا تأتي إلا بغتة لا يتعلق به علم قط كما قال: ﴿لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً .

و قال: ﴿قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اَللَّهِ الأعراف: ١٨٧ و قال: ﴿إِنَّ اَلسَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا طه: ١٥ فكان عدم نسبتها إلى فاعل كعدم ذكر وقتها و كتمان مرساها

 

 

 

 مبالغة في إخفائها و تأييدا لكونها مباغتة مفاجئة، و قد كثر ذكرها في كلامه و لم يذكر في شي‏ء منه لها فاعل بل كان التعبير مثل آتية «تأتيهم» «قائمة» «تقوم» و نحو ذلك.

و أما المظروف و هو إحياء الموتى من الإنسان فهو المذكور في قوله: ﴿وَ أَنَّ اَللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ .

فإن قلت: الحجة المذكورة تنتج البعث لجميع الأشياء لا للإنسان فحسب لأن الفعل بلا غاية لغو باطل سواء كان هو الإنسان أو غيره لكن الآية تكتفي بالإنسان فقط.

قلت: قصر الآية النتيجة في الإنسان فقط لا ينافي ثبوت نظير الحكم في غيره لكن الذي تمسه الحاجة في المقام بعث الإنسان على أنه يمكن أن يقال: إن نفي المعاد عن الأشياء غير الإنسان لا يستلزم كون فعلها باطلا منه تعالى لأنها مخلوقة لأجل الإنسان فهو الغاية لخلقها و البعث غاية لخلق الإنسان.

هذا ما يعطيه التدبر في سياق الآيات الثلاث و عرضها على سائر الآيات المتعرضة لإثبات المعاد على تفننها، و به يظهر وجه الاكتفاء من النتائج المترتبة عليها بهذه النتائج المعدودة بحسب المترائي من اللفظ خمسا و هي في الحقيقة ثلاث موضوعة في الآية الثانية مستخرجة من الأولى، و واحدة موضوعة في الآية الثالثة مستخرجة من الثلاث الموضوعة في الثانية.

و به يندفع أيضا شبهة التكرار المتوهم من قوله: ﴿وَ أَنَّهُ يُحْيِ اَلْمَوْتى‏َ ﴿وَ أَنَّ اَلسَّاعَةَ آتِيَةٌ ﴿وَ أَنَّ اَللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ إلى غير ذلك.

و للقوم في تفسير الآيات الثلاث و تقرير حجتها وجوه كثيرة مختلفة لا ترجع إلى جدوى و قد أضافوا في جميعها إلى حجة الآية مقدمات أجنبية تختل بها سلاسة النظم و استقامة الحجة، و قد طوينا ذكرها فمن أراد الوقوف عليها فليراجع مطولات التفاسير.

قوله تعالى: ﴿وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اَللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لاَ هُدىً وَ لاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ صنف آخر من الناس المعرضين عن الحق، قال في كشف الكشاف، على ما نقل: إن الأظهر في النظم و الأوفق للمقام أن هذه الآية في المقلدين بفتح اللام و الآية السابقة ﴿وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ إلى قوله: ﴿مَرِيدٍ في المقلدين بكسر اللام انتهى محصلا.

 

 

 

و هو كذلك بدليل قوله هنا ذيلا: ﴿لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ و قوله هناك: ﴿وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ و الإضلال من شأن المقلد بفتح اللام و الاتباع من شأن المقلد بكسر اللام.

و الترديد في الآية بين العلم و الهدى و الكتاب مع كون كل من العلم و الهدى يعم الآخرين دليل على أن المراد بالعلم علم خاص و بالهدى هدى خاص فقيل: إن المراد بالعلم العلم الضروري و بالهدى الاستدلال و النظر الصحيح الهادي إلى المعرفة و بالكتاب المنير الوحي السماوي المظهر للحق.

و فيه أن تقييد العلم بالضروري و هو البديهي لا دليل عليه. على أن الجدال سواء كان المراد به مطلق الإصرار في البحث أو الجدل المصطلح و هو القياس المؤلف من المشهورات و المسلمات من طرق الاستدلال و لا استدلال على ضروري البتة.

و يمكن أن يكون المراد بالعلم ما تفيده الحجة العقلية، و بالهدى ما تفيضه الهداية الإلهية لمن أخلص لله في عبادته و عبوديته فاستنار قلبه بنور معرفته أو بالعكس بوجه و بالكتاب المنير الوحي الإلهي من طريق النبوة، و تلك طرق ثلاث إلى مطلق العلم:

العقل و البصر و السمع و قد أشار تعالى إليها في قوله: ﴿وَ لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً: إسراء: ٣٦ و الله أعلم.

قوله تعالى: ﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ إلى آخر الآية، الثني‏ الكسر و العطف‏ بكسر العين الجانب، و ثني العطف كناية عن الإعراض كأن المعرض يكسر أحد جانبيه على الآخر.

و قوله: ﴿لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ متعلق بقوله: ﴿يُجَادِلُ و اللام للتعليل أي يجادل في الله بجهل منه مظهر للإعراض و الاستكبار ليتوصل بذلك إلى إضلال الناس و هؤلاء هم الرؤساء المتبوعون من المشركين.

و قوله: ﴿لَهُ فِي اَلدُّنْيَا خِزْيٌ وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ عَذَابَ اَلْحَرِيقِ تهديد بالخزي و هو الهوان و الذلة و الفضيحة في الدنيا، و إلى ذلك آل أمر صناديد قريش و أكابر مشركي مكة، و إيعاد بالعذاب في الآخرة.

قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَ أَنَّ اَللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ إشارة إلى ما

 

 

 

تقدم في الآية السابقة من الإيعاد بالخزي و العذاب، و الباء في ﴿بِمَا قَدَّمَتْ للمقابلة كقولنا: بعت هذا بهذا أو للسببية أي إن الذي تشاهده من الخزي و العذاب جزاء ما قدمت يداك أو بسبب ما قدمت يداك من المجادلة في الله بغير علم و لا هدى و لا كتاب معرضا مستكبرا لإضلال الناس و في الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب لتسجيل اللوم و العتاب.

و قوله: ﴿وَ أَنَّ اَللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ معطوف على ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أي ذلك لأن الله لا يظلم عباده بل يعامل كلا منهم بما يستحقه بعمله و يعطيه ما يسأله بلسان حاله.

قوله تعالى: ﴿وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اَللَّهَ عَلى‏َ حَرْفٍ إلى آخر الآية الحرف و الطرف و الجانب بمعنى، و الاطمئنان‏: الاستقرار و السكون، و الفتنة كما قيل المحنة و الانقلاب الرجوع.

و هذا صنف آخر من الناس غير المؤمنين الصالحين و هو الذي يعبد الله سبحانه بانيا عبادته على جانب واحد دون كل جانب و على تقدير الله على كل تقدير و هو جانب الخير و لازمه استخدام الدين للدنيا فإن أصابه خير استقر بسبب ذلك الخير على عبادة الله و اطمأن إليها، و إن أصابته فتنة و محنة انقلب و رجع على وجهه من غير أن يلتفت يمينا و شمالا و ارتد عن دينه تشؤما من الدين أو رجاء أن ينجو بذلك من المحنة و المهلكة و كان ذلك دأبهم في عبادتهم الأصنام فكانوا يعبدونها لينالوا بذلك الخير أو ينجو من الشر بشفاعتهم في الدنيا و أما الآخرة فما كانوا يقولون بها فهذا المذبذب المنقلب على وجهه خسر الدنيا بوقوعه في المحنة و المهلكة، و خسر الآخرة بانقلابه عن الدين على وجهه و ارتداده و كفره ذلك هو الخسران المبين.

هذا ما يعطيه التدبر في معنى الآية، و عليه فقوله: ﴿يَعْبُدُ اَللَّهَ عَلى‏َ حَرْفٍ من قبيل الاستعارة بالكناية، و قوله: ﴿فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ إلخ. تفسير لقوله: ﴿يَعْبُدُ اَللَّهَ عَلى‏َ حَرْفٍ و تفصيل له، و قوله: ﴿خَسِرَ اَلدُّنْيَا أي بإصابة الفتنة، و قوله: ﴿وَ اَلْآخِرَةَ أي بانقلابه على وجهه.

قوله تعالى: ﴿يَدْعُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَ مَا لاَ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ اَلضَّلاَلُ اَلْبَعِيدُ المدعو هو الصنم فإنه لفقده الشعور و الإرادة لا يتوجه منه إلى عابده نفع أو

 

 

 

 ضرر و الذي يصيب عابده من ضرر و خسران فإنما يصيبه من ناحية العبادة التي هي فعل له منسوب إليه.

قوله تعالى: ﴿يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ اَلْمَوْلى‏َ وَ لَبِئْسَ اَلْعَشِيرُ المولى‏ الولي الناصر، و العشير الصاحب المعاشر.

ذكروا في تركيب جمل الآية أن ﴿يَدْعُوا بمعنى يقول، و قوله: ﴿لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ إلخ. مقول القول، و ﴿لَمَنْ مبتدأ دخلت عليه لام الابتداء و هو موصول صلته ﴿ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ . و قوله: ﴿لَبِئْسَ اَلْمَوْلى‏َ وَ لَبِئْسَ اَلْعَشِيرُ جواب قسم محذوف و هو قائم مقام الخبر دال عليه.

و المعنى: يقول هذا الذي يعبد الأصنام يوم القيامة واصفا لصنمه الذي اتخذه مولى و عشيرا، الصنم الذي ضره أقرب من نفعه مولى سوء و عشير سوء أقسم لبئس المولى و لبئس العشير.

و إنما يعد ضره أقرب من نفعه لما يشاهد يوم القيامة ما تستتبعه عبادته له من العذاب الخالد و الهلاك المؤبد.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يُدْخِلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ إلخ. لما ذكر الأصناف الثلاثة من الكفار و هم الأئمة المتبوعون المجادلون في الله بغير علم و المقلدة التابعون لكل شيطان مريد المجادلون كأئمتهم و المذبذبون العابدون لله على حرف، و وصفهم بالضلال و الخسران قابلهم بهذا الصنف من الناس و هم الذين آمنوا و عملوا الصالحات و وصفهم بكريم المثوى و حسن المنقلب و أن الله يريد بهم ذلك.

و ذكر هؤلاء الأصناف كالتوطئة لما سيذكر من القضاء بينهم و بيان حالهم تفصيلا.

قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اَللَّهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى اَلسَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ قال في المجمع،: السبب‏ كل ما يتوصل به إلى الشي‏ء و منه قيل للحبل سبب و للطريق سبب و للباب سبب انتهى و المراد بالسبب في الآية الحبل، و القطع معروف و من معانيه الاختناق يقال: قطع أي اختنق و كأنه مأخوذ من قطع النفس.

 

 

 

 قالوا: إن الضمير في ﴿لَنْ يَنْصُرَهُ اَللَّهُ للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ذلك أن مشركي مكة كانوا يظنون أن الذي جاء به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من الدين أحدوثة كاذبة لا تبتني على أصل عريق فلا يرتفع ذكره، و لا ينتشر دينه، و ليس له عند الله منزلة حتى إذا هاجر (ص) إلى المدينة فنصره الله سبحانه فبسط دينه و رفع ذكره غاظهم ذلك غيظا شديدا فقرعهم الله سبحانه بهذه الآية و أشار بها إلى أن الله ناصره و لن يذهب غيظهم و لو خنقوا أنفسهم فلن يؤثر كيدهم أثرا.

و المعنى: من كان يظن من المشركين أن لن ينصر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) في الدنيا برفع الذكر و بسط الدين و في الآخرة بالمغفرة و الرحمة له و للمؤمنين به ثم غاظه ما يشاهده اليوم من نصر الله له فليمدد بحبل إلى السماء كأن يربط طرف الحبل على جذع عال و نحوه ثم ليختنق به فلينظر هل يذهبن كيده و حيلته هذا ما يغيظ أي غيظة.

و هذا معنى حسن يؤيده سياق الآيات السابقة و ما استفدناه سابقا من نزول السورة بعد الهجرة بقليل و مشركو مكة بعد على قدرتهم و شوكتهم.

و ذكر بعضهم: أن ضمير ﴿لَنْ يَنْصُرَهُ عائد إلى ﴿مَنْ و معنى القطع قطع المسافة و المراد بمد سبب إلى السماء الصعود عليها لإبطال حكم الله، و المعنى من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا و الآخرة فليصعد السماء بسبب يمده ثم ليقطع المسافة و لينظر هل يذهب كيده ما يغيظه من حكم.

و لعل هؤلاء يعنون أن المراد بالآية أن من الواجب على الإنسان أن يرجو ربه في دنياه و آخرته و إن لم يرجه و ظن أن لن ينصره الله فيهما و غاظه ذلك فليكد ما يكيد فإنه لا ينفعه.

و ذكر آخرون أن الضمير للموصول كما في القول السابق، و المراد بالنصر الرزق كما يقال: أرض منصورة أي ممطورة و المعنى كما في القول الأول.

و هذا أقرب إلى الاعتبار من سابقه و أحسن لكن يرد على الوجهين جميعا لزوم انقطاع الآية عما قبلها من الآيات. على أن الأنسب على هذين الوجهين في التعبير أن يقال: من ظن أن لن ينصره الله «إلخ». لا أن يقال «من كان يظن» الظاهر في استمرار

 

 

 

 الظن منه في الماضي فإنه يؤيد القول الأول.

قوله تعالى: ﴿وَ كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَ أَنَّ اَللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ قد تقدم مرارا أن هذا من تشبيه الكلي بفرده بدعوى البينونة للدلالة على أن ما في الفرد من الحكم جار في باقي أفراده كمن يشير إلى زيد و عمرو و هما يتكلمان و يمشيان على قدميهما و يقول كذلك يكون الإنسان أي حكم التكلم و المشي على القدمين جار في جميع الأفراد فمعنى قوله: ﴿وَ كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ أنزلنا القرآن و هو آيات واضحة الدلالات كما في الآيات السابقة من هذه السورة.

و قوله: ﴿وَ أَنَّ اَللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ خبر لمبتدإ محذوف أي و الأمر أن الله يهدي من يريد و أما من لم يرد أن يهديه فلا هادي له فمجرد كون الآيات بينات لا يكفي في هداية من سمعها أو تأمل فيها ما لم يرد الله هدايته.

و قيل: الجملة معطوفة على ضمير ﴿أَنْزَلْنَاهُ و التقدير و كذلك أنزلنا أن الله يهدي من يريد، و الوجه الأول أوضح اتصالا بأول الآية و هو ظاهر.

(بحث روائي)

في تفسير القمي، ":في قوله تعالى: ﴿وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ قال: المريد الخبيث.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن أبي زيد :في قوله: ﴿وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اَللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ قال نزلت في النضر بن الحارث.

أقول: و رواه أيضا عن ابن جرير و ابن المنذر عن ابن جريح و الظاهر أنه من التطبيق كما هو دأبهم في غالب الروايات المتعرضة لأسباب النزول، و على ذلك فالقول بنزول الآية الآتية: ﴿وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اَللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لاَ هُدىً﴾ الآية فيه كما نقل عن مجاهد أولى من القول بنزول هذه الآية فيه لأن الرجل من معاريف القوم و هذه الآية كما تقدم في الاتباع و الآية الأخرى في المتبوعين.

 

 

 

 و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ قال: المخلقة إذا صارت تاما و ﴿غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ قال: السقط.

 و في الدر المنثور، أخرج أحمد و البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في شعب الإيمان، عن عبد الله بن مسعود قال :حدثنا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو الصادق المصدق أن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح و يؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه و أجله و عمله و شقي أو سعيد.

فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه و بينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها و إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه و بينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها:.

أقول: و الرواية مروية بطرق أخرى عنه و عن ابن عباس و أنس و حذيفة بن أسيد. و في متونها بعض الاختلاف، و في بعضها و هو ما رواه ابن جرير عن ابن مسعود : يقال للملك: انطلق إلى أم الكتاب فاستنسخ منه صفة هذه النطفة فينطلق فينسخها فلا يزال معه - حتى يأتي على آخر صفتها، الحديث.

و قد ورد من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) ما يقرب من ذلك كما

 في قرب الإسناد للحميري عن أحمد بن محمد عن أحمد بن أبي نصر عن الرضا (عليه السلام) و فيه: فإذا تمت الأربعة الأشهر بعث الله تبارك و تعالى إليها ملكين خلاقين - يصورانه و يكتبان رزقه و أجله و شقيا أو سعيدا. الحديث.

و قد قدمنا في تفسير أول سورة آل عمران‏- حديث الكافي عن الباقر (عليه السلام) في تصوير الجنين و كتابة ما قدر له و فيه: أن الملكين يكتبان جميع ما قدر له عن لوح - يقرع جبهة أمه فيكتبان جميع ما في اللوح و يشترطان البداء فيما يكتبان‏، الحديث و في معناه غيره.

و مقتضى هذا الحديث و ما في معناه جواز التغير فيما كتب للولد من كتابة كما أن

 

 

 

 مقتضى ما تقدم خلافه لكن لا تنافي بين المدلولين فإن لكل شي‏ء و منها الإنسان نصيبا في اللوح المحفوظ الذي لا سبيل للتغير و التبدل إلى ما كتب فيه و نصيبا من لوح المحو و الإثبات الذي يقبل التغير و التبدل فالقضاء قضاءان محتوم و غير محتوم، قال تعالى:

﴿يَمْحُوا اَللَّهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتَابِ الرعد: ٣٩.

و قد تقدم الكلام في معنى القضاء و اتضح به أن لوح القضاء كائنا ما كان ينطبق على نظام العلية و المعلولية و ينحل إلى سلسلتين: سلسلة العلل التامة و معلولاتها و لا تقبل تغييرا و سلسلة العلل الناقصة مع معاليلها و هي القابلة و كأن الصنف الأول من الروايات يشير إلى ما يقضى للجنين من قضاء محتوم و الثاني إلى غيره و قد بينا أيضا فيما تقدم أن حتمية القضاء لفعل العبد لا تنافي اختيارية الفعل فتذكر.

 و في الكافي بإسناده عن سلام بن المستنير قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: ﴿مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ قال: المخلقة هم الذر الذين خلقهم الله في صلب آدم (ص)، أخذ عليهم الميثاق ثم أجراهم في أصلاب الرجال و أرحام النساء و هم الذين يخرجون إلى الدنيا حتى يسألوا عن الميثاق. و أما قوله: ﴿وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ فهم كل نسمة لم يخلقهم الله عز و جل في صلب آدم حين خلق الذر و أخذ عليهم الميثاق، و هم النطف من العزل و السقط قبل أن ينفخ فيه الروح و الحياة و البقاء.

أقول: و قد تقدم توضيح معنى الحديث في البحث الروائي المتعلق بآية الذر في سورة الأعراف.

 و في تفسير القمي، بإسناده عن علي بن المغيرة عن أبي عبد الله عن أبيه (عليه السلام) قال: إذا بلغ العبد مائة سنة فذلك أرذل العمر.

 أقول: و قد تقدم بعض الروايات في هذا المعنى في تفسير سورة النحل في ذيل الآية ٧٠.

و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه بسند صحيح عن ابن عباس قال" :كان ناس من الأعراب يأتون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيسلمون فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن وجدوا عام غيث و عام خصب و عام ولاد حسن قالوا: إن ديننا هذا صالح فتمسكوا به، و إن وجدوا عام جدب و عام ولاد سوء و عام قحط قالوا: ما في ديننا هذا خير فأنزل الله: ﴿وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اَللَّهَ عَلىَ حَرْفٍ .

 

 

 

أقول: و هذا المعنى مروي عنه أيضا بغير هذا الطريق.

 و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز و جل: ﴿وَ مِنَ اَلنَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اَللَّهَ عَلى‏ حَرْفٍ قال: نعم قوم وحدوا الله و خلعوا عبادة من يعبد من دون الله فخرجوا من الشرك و لم يعرفوا أن محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم) رسول الله فهم يعبدون الله على شك في محمد و ما جاء به فأتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و قالوا: ننظر فإن كثرت أموالنا و عوفينا في أنفسنا و أولادنا علمنا أنه صادق و أنه رسول الله: و إن كان غير ذلك نظرنا.

قال الله عز و جل: ﴿فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اِطْمَأَنَّ بِهِ يعني عافية في الدنيا ﴿وَ إِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ يعني بلاء في نفسه ﴿اِنْقَلَبَ عَلى‏َ وَجْهِهِ انقلب على شكه إلى الشرك ﴿خَسِرَ اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ اَلْخُسْرَانُ اَلْمُبِينُ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَ مَا لاَ يَنْفَعُهُ قال: ينقلب مشركا يدعو غير الله و يعبد غيره. الحديث.

أقول: و رواه الصدوق في التوحيد، باختلاف يسير.

و في الدر المنثور، أخرج الفاريابي و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه عن ابن عباس :في قوله: ﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اَللَّهُ قال: من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا في الدنيا و الآخرة ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ قال: فليربط حبلا ﴿إِلَى اَلسَّمَاءِ قال: إلى سماء بيته السقف ﴿ثُمَّ لْيَقْطَعْ قال ثم يختنق به حتى يموت.

أقول: هو و إن كان تفسيرا منه لكنه في معنى سبب النزول و لذلك أوردناه.

[سورة الحج (٢٢): الآیات ١٧ الی ٢٤]

﴿إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هَادُوا وَ اَلصَّابِئِينَ وَ اَلنَّصَارىَ وَ اَلْمَجُوسَ وَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اَللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِنَّ اَللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ ١٧ أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ

 

 

 

﴿وَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ وَ اَلنُّجُومُ وَ اَلْجِبَالُ وَ اَلشَّجَرُ وَ اَلدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ اَلنَّاسِ وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ اَلْعَذَابُ وَ مَنْ يُهِنِ اَللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اَللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ١٨ هَذَانِ خَصْمَانِ اِخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ اَلْحَمِيمُ ١٩ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَ اَلْجُلُودُ ٢٠ وَ لَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ٢١ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَ ذُوقُوا عَذَابَ اَلْحَرِيقِ ٢٢ إِنَّ اَللَّهَ يُدْخِلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ٢٣ وَ هُدُوا إِلَى اَلطَّيِّبِ مِنَ اَلْقَوْلِ وَ هُدُوا إِلى‏ صِرَاطِ اَلْحَمِيدِ ٢٤

(بيان)

بعد ما ذكر في الآيات السابقة اختلاف الناس و اختصامهم في الله سبحانه بين تابع ضال يجادل في الله بغير علم، و متبوع مضل يجادل في الله بغير علم و مذبذب يعبد الله على حرف، و الذين آمنوا بالله و عملوا الصالحات، ذكر في هذه الآيات أن الله شهيد عليهم و سيفصل بينهم يوم القيامة و هم خاضعون مقهورون له ساجدون قبال عظمته و كبريائه حقيقة و إن كان بعضهم يأبى عن السجود له ظاهرا و هم الذين حق عليهم العذاب. ثم ذكر أجر المؤمنين و جزاء غيرهم بعد فصل القضاء يوم القيامة.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هَادُوا وَ اَلصَّابِئِينَ وَ اَلنَّصَارى‏َ وَ اَلْمَجُوسَ وَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اَللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إلخ. المراد بالذين آمنوا بقرينة المقابلة هم الذين آمنوا بمحمد ص و كتابهم القرآن.

و الذين هادوا هم المؤمنين بموسى من قبله من الرسل الواقفون فيه و كتابهم التوراة و قد أحرقها بخت نصر ملك بابل حينما استولى عليهم في أواسط القرن السابع قبل المسيح فافتقدوها برهة ثم جدد كتابتها لهم عزراء الكاهن في أوائل القرن السادس قبل المسيح حينما فتح كورش ملك إيران بابل و تخلص بنو إسرائيل من الإسارة و رجعوا إلى الأرض المقدسة.

و الصابئون ليس المراد بهم عبدة الكواكب من الوثنية بدليل ما في الآية من المقابلة بينهم و بين الذين أشركوا بل هم على ما قيل قوم متوسطون بين اليهودية و المجوسية و لهم كتاب ينسبونه إلى يحيى بن زكريا النبي و يسمى الواحد منهم اليوم عند العامة «صبي» و قد تقدم لهم ذكر في ذيل قوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هَادُوا وَ اَلنَّصَارى‏َ وَ اَلصَّابِئِينَ البقرة: ٦٢.

و النصارى هم المؤمنون بالمسيح عيسى بن مريم (عليه السلام) و من قبله من الأنبياء و كتبهم المقدسة الأناجيل الأربعة للوقا و مرقس و متى و يوحنا و كتب العهد القديم على ما اعتبرته و قدسته الكنيسة لكن القرآن يذكر أن كتابهم الإنجيل النازل على عيسى (عليه السلام).

و المجوس المعروف أنهم المؤمنون بزرتشت و كتابهم المقدس «أوستا» غير أن تاريخ حياته و زمان ظهوره مبهم جدا كالمنقطع خبره و قد افتقدوا الكتاب باستيلاء إسكندر على إيران ثم جددت كتابته في زمن ملوك ساسان فأشكل بذلك الحصول على حاق مذهبهم؛ و المسلم أنهم يثبتون لتدبير العالم مبدأين مبدأ الخير و مبدأ الشر يزدان و أهريمن أو النور و الظلمة و يقدسون الملائكة و يتقربون إليهم من غير أن يتخذوا لهم أصناما كالوثنية، و يقدسون البسائط العنصرية و خاصة النار و كانت لهم بيوت نيران بإيران و الصين و الهند و غيرها و ينهون الجميع إلى «أهورا مزدا» موجد الكل.

و الذين أشركوا هم الوثنية عبدة الأصنام و أصول مذاهبهم ثلاثة: الوثنية الصابئة، و البرهمانية، و البوذية، و قد كان هناك أقوام آخرون يعبدون من الأصنام ما

 

 

 

 شاءوا كما شاءوا من غير أن يبنوه على أصل منظم كعرب الحجاز و طوائف في أطراف المعمورة و قد تقدم تفصيل القول فيهم في الجزء العاشر من الكتاب.

و قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ المراد به فصل القضاء فيما اختلف فيه أصحاب هذه المذاهب و اختصموا فينفصل المحق منهم و يتميز من المبطل انفصالا و تميزا لا يستره ساتر و لا يحجبه حاجب.

و تكرار إن في الآية للتأكيد دعا إلى ذلك طول الفصل بين ﴿إِنَّ في صدر الآية و بين خبرها و نظيره ما في قوله: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ النحل: ١١٠، و قوله ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا اَلسُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَ أَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ النحل: ١١٩.

و قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ عَلى‏َ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ تعليل للفصل إنه فصل بالحق.

قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ وَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ وَ اَلنُّجُومُ وَ اَلْجِبَالُ وَ اَلشَّجَرُ وَ اَلدَّوَابُّ إلى آخر الآية، الظاهر أن الخطاب لكل من يرى و يصلح لأن يخاطب، و المراد بالرؤية العلم، و يمكن أن يختص بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و يكون المراد بالرؤية الرؤية القلبية كما قال فيه: ﴿مَا كَذَبَ اَلْفُؤَادُ مَا رَأى‏َ أَ فَتُمَارُونَهُ عَلى‏َ مَا يَرى‏َ النجم: ١٢.

و تعميم السجدة لمثل الشمس و القمر و النجوم و الجبال من غير أولي العقل دليل على أن المراد بها السجدة التكوينية و هي التذلل و الصغار قبال عزته و كبريائه تعالى و تحت قهره و سلطنته، و لازمه أن يكون ﴿مَنْ فِي اَلْأَرْضِ شاملا لنوع الإنسان من مؤمن و كافر إذ لا استثناء في السجدة التكوينية و التذلل الوجودي.

و عدم ذكر نفس السماوات و الأرض في جملة الساجدين مع شمول الحكم لهما في الواقع يعطي أن معنى الكلام أن المخلوقات العلوية و السفلية من ذي عقل و غير ذي عقل ساجدة لله متذللة في وجودها تجاه عزته و كبريائه، و لا تزال تسجد له تعالى سجودا تكوينيا اضطراريا.

و قوله: ﴿وَ كَثِيرٌ مِنَ اَلنَّاسِ عطف على ﴿مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ إلخ. أي و يسجد

 

 

 

 له كثير من الناس، و إسناد السجود إلى كثير من الناس بعد شموله في الجملة السابقة لجميعهم دليل على أن المراد بهذا السجود نوع آخر من السجود غير السابق و إن كانا مشتركين في أصل معنى التذلل، و هذا النوع هو السجود التشريعي الاختياري بالخرور على الأرض تمثيلا للسجود و التذلل التكويني الاضطراري و إظهارا لمعنى العبودية.

و قوله: ﴿وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ اَلْعَذَابُ المقابلة بينه و بين سابقه يعطي أن معناه و كثير منهم يأبى عن السجود، و قد وضع موضعه ما هو أثره اللازم المترتب عليه و هو ثبوت العذاب على من استكبر على الله و أبى أن يخضع له تعالى، و إنما وضع ثبوت العذاب موضع الإباء عن السجدة للدلالة على أنه هو عملهم يرد إليهم، و ليكون تمهيدا لقوله تلوا: ﴿وَ مَنْ يُهِنِ اَللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ الدال على أن ثبوت العذاب لهم إثر إبائهم عن السجود هوان و خزي يتصل بهم ليس بعده كرامة و خير.

فإباؤهم عن السجود يستتبع بمشية الله تعالى ثبوت العذاب لهم و هو إهانة ليس بعده إكرام أبدا إذ الخير كله بيد الله كما قال، ﴿بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ آل عمران: ٢٦ فإذا منعه أحدا لم يكن هناك من يعطيه غيره.

و قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ كناية عن عموم القدرة و تعليل لما تقدمه من حديث إثباته العذاب للمستكبرين عن السجود له و إهانتهم إهانة لا إكرام بعده.

فالمعنى - و الله أعلم - أن الله يميز يوم القيامة بين المختلفين فإنك تعلم أن الموجودات العلوية و السفلية يخضعون و يتذللون له تكوينا لكن الناس بين من يظهر في مقام العبودية الخضوع و التذلل له و بين من يستكبر عن ذلك و هؤلاء هم الذين حق عليهم العذاب و أهانهم الله إهانة لا إكرام بعده و هو قادر على ما يشاء فعال لما يريد، و من هنا يظهر أن للآية اتصالا بما قبلها.

قوله تعالى: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اِخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ اَلْحَمِيمُ الإشارة بقوله: ﴿هَذَانِ إلى القبيلين اللذين دل عليهما قوله سابقا: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ و قوله بعده: ﴿وَ كَثِيرٌ مِنَ اَلنَّاسِ وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ اَلْعَذَابُ .

و يعلم من حصر المختلفين على كثرة أديانهم و مذاهبهم في خصمين اثنين أنهم جميعا منقسمون إلى محق و مبطل إذ لو لا الحق و الباطل لم ينحصر الملل و النحل على تشتتها في

 

 

 

 اثنين البتة، و المحق و المبطل هما المؤمن بالحق و الكافر به فهذه الطوائف على تشتت أقوالهم ينحصرون في خصمين اثنين و على انحصارهم في خصمين اثنين لهم أقوال مختلفة فوق اثنين فما أحسن تعبيره بقوله: ﴿خَصْمَانِ اِخْتَصَمُوا حيث لم يقل: خصوم اختصموا و لم يقل: خصمان اختصما.

و قد جعل اختصامهم في ربهم أي أنهم اختلفوا في وصف ربوبيته تعالى فإلى وصف الربوبية يرجع اختلافات المذاهب بالغة ما بلغت فهم بين من يصف ربه بما يستحقه من الأسماء و الصفات و ما يليق به من الأفعال فيؤمن بما وصف و هو الحق و يعمل على ما يقتضيه وصفه و هو العمل الصالح فهو المؤمن العامل بالصالحات، و من لا يصفه بما يستحقه من الأسماء و الصفات كمن يثبت له شريكا أو ولدا فينفي وحدانيته أو يسند الصنع و الإيجاد إلى الطبيعة أو الدهر أو ينكر النبوة أو رسالة بعض الرسل أو ضروريا من ضروريات الدين الحق فيكفر بالحق و يستره و هو الكافر فالمؤمن بربه و الكافر بالمعنى الذي ذكرهما الخصمان.

ثم شرع في جزاء الخصمين و بين عاقبة أمر كل منهما بعد فصل القضاء و قدم الذين كفروا فقال: ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ اَلْحَمِيمُ أي الماء الحار المغلي.

قوله تعالى: ﴿يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَ اَلْجُلُودُ الصهر الإذابة أي يذوب و ينضج بذاك الحميم ما في بطونهم من الأمعاء و الجلود.

قوله تعالى: ﴿وَ لَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ المقامع‏ جمع مقمعة و هي المدقة و العمود.

قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَ ذُوقُوا عَذَابَ اَلْحَرِيقِ ضمير ﴿مِنْهَا للنار و ﴿مِنْ غَمٍّ بيان له أو من بمعنى السببية و الحريق بمعنى المحرق كالأليم بمعنى المؤلم.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يُدْخِلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا إلى آخر الآية، الأساور على ما قيل - جمع أسورة و هي جمع سوار و هو على ما ذكره الراغب معرب «دستواره» و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وَ هُدُوا إِلَى اَلطَّيِّبِ مِنَ اَلْقَوْلِ وَ هُدُوا إِلى‏َ صِرَاطِ اَلْحَمِيدِ الطيب من القول ما لا خباثة فيه و خبيث القول باطله على أقسامه، و قد جمع القول الطيب كله

 

 

 

 قوله تعالى إخبارا عنهم: ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اَللَّهُمَّ وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَ آخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ يونس: ١٠ فهدايتهم إلى الطيب من القول تيسيره لهم، و هدايتهم إلى صراط الحميد و الحميد من أسمائه تعالى أن لا يصدر عنهم إلا محمود الفعل كما لا يصدر عنهم إلا طيب القول.

و بين هذه الآية و قوله: ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَ ذُوقُوا عَذَابَ اَلْحَرِيقِ مقابلة ظاهرة.

(بحث روائي)

 في التوحيد، بإسناده عن الأصبغ بن نباتة عن علي (عليه السلام) في حديث: قال (عليه السلام): سلوني قبل أن تفقدوني فقام إليه الأشعث بن قيس فقال يا أمير المؤمنين كيف تؤخذ من المجوس الجزية و لم ينزل إليهم كتاب و لم يبعث إليهم نبي؟ قال: بلى يا أشعث قد أنزل الله إليهم كتابا و بعث إليهم رسولا حتى كان لهم ملك سكر ذات ليلة فدعا بابنته إلى فراشه فارتكبها.

فلما أصبح تسامع به قومه فاجتمعوا إلى بابه فقالوا: أيها الملك دنست علينا ديننا و أهلكته فاخرج نطهرك و نقيم عليك الحد فقال لهم: اجتمعوا و اسمعوا قولي فإن يكن لي مخرج مما ارتكبت و إلا فشأنكم فاجتمعوا فقال لهم: هل علمتم أن الله لم يخلق خلقا أكرم عليه من أبينا آدم و أمنا حواء؟ قالوا: صدقت أيها الملك قال: أ و ليس قد زوج بنيه بناته و بناته من بنيه؟ قالوا: صدقت هذا هو الدين فتعاقدوا على ذلك فمحا الله ما في صدورهم من العلم و رفع عنهم الكتاب فهم الكفرة يدخلون النار بلا حساب و المنافقون أشد حالا منهم. قال الأشعث. و الله ما سمعت بمثل هذا الجواب، و الله لا عدت إلى مثلها أبدا.

أقول: قوله: «و المنافقون أشد حالا منهم» فيه تعريض للأشعث و في كون المجوس من أهل الكتاب روايات أخر فيها أنهم كان لهم نبي فقتلوه و كتاب فأحرقوه.

 و في الدر المنثور، :في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ : أخرج ابن أبي حاتم و اللالكائي في السنة، و الخلعي في فوائده، عن علي: أنه قيل له: إن هاهنا رجلا يتكلم

 

 

 

في المشيئة فقال له علي: يا عبد الله خلقك الله لما يشاء أو لما شئت؟ قال بل لما يشاء قال: فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: بل إذا شاء. قال: فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال بل إذا شاء. قال فيدخلك الجنة حيث شاء أو حيث شئت؟ قال:

بل حيث شاء. قال: و الله لو قلت غير ذلك لضربت الذي فيه عيناك بالسيف. أقول: و رواه في التوحيد، بإسناده عن عبد الله بن الميمون القداح عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام) و فيه: «فيدخلك حيث يشاء أو حيث شئت» و لم يذكر الجنة. و قد تقدمت رواية في هذا المعنى شرحناها في ذيل قوله: ﴿وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ البقرة: ٢٦ في الجزء الأول من الكتاب.

 و في التوحيد، بإسناده إلى سليمان بن جعفر الجعفري قال: قال الرضا (عليه السلام):

المشية من صفات الأفعال فمن زعم أن الله لم يزل مريدا شائيا فليس بموحد.

أقول: في قوله (عليه السلام) ثانيا: «لم يزل مريدا شائيا تلويح إلى اتحاد الإرادة و المشية و هو كذلك فإن المشية معنى يوصف به الإنسان إذا اعتبر كونه فاعلا شاعرا بفعله المضاف إليه، و إذا تمت فاعليته بحيث لا ينفك عنه الفعل سمي هذا المعنى بعينه إرادة، و على أي حال هو وصف خارج عن الذات طار عليه، و لذلك لا يتصف تعالى بها كاتصافه بصفاته الذاتية كالعلم و القدرة لتنزهه عن تغير الذات بعروض العوارض بل هي من صفات فعله منتزعة من نفس الفعل أو من حضور الأسباب عليه.

فقولنا: أراد الله كذا معناه أنه فعله عالما بأنه أصلح أو أنه هيأ أسبابه عالما بأنه أصلح، و إذا كانت بمعناها الذي فينا غير الذات فلو قيل: لم يزل الله مريدا كان لازمه إثبات شي‏ء أزلي غير مخلوق له معه و هو خلاف توحيده، و أما قول القائل: إن معنى الإرادة هو العلم بالأصلح، و العلم من صفات الذات فلم يزل مريدا أي عالما بما فعله أصلح فهو إرجاع للإرادة إلى العلم و لا محذور فيه غير أن عد الإرادة على هذا صفة أخرى وراء الحياة و العلم و القدرة لا وجه له.

 و في الدر المنثور، أخرج سعيد بن منصور و ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و البخاري و مسلم و الترمذي و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي

 

 

 

 في الدلائل عن أبي ذر :أنه كان يقسم قسما أن هذه الآية ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اِخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ إلى قوله ﴿إِنَّ اَللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ نزلت في الثلاثة و الثلاثة الذين تبارزوا يوم بدر و هم حمزة بن المطلب و عبيدة بن الحارث و علي بن أبي طالب و عتبة و شيبة ابنا ربيعة و الوليد بن عتبة.

قال علي أنا أول من يجثو للخصومة على ركبتيه بين يدي الله يوم القيامة":.

أقول: و رواه فيه، أيضا عن عدة من أصحاب الجوامع عن قيس بن سعد بن عبادة و ابن عباس و غيرهما، و رواه في مجمع البيان، عن أبي ذر و عطاء ":.

 و في الخصال، عن النضر بن مالك قال: قلت للحسين بن علي (عليه السلام): يا با عبد الله حدثني عن قوله تعالى: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اِخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فقال: نحن و بنو أمية اختصمنا في الله تعالى: قلنا صدق الله، و قالوا: كذب، فنحن الخصمان يوم القيامة.

أقول: و هو من الجري،و نظيره ما في الكافي، بإسناده عن ابن أبي حمزة عن الباقر (عليه السلام): فالذين كفروا بولاية علي (عليه السلام) قطعت لهم ثياب من نار. و في تفسير القمي،" : ﴿وَ هُدُوا إِلَى اَلطَّيِّبِ مِنَ اَلْقَوْلِ قال التوحيد و الإخلاص﴿ وَ هُدُوا إِلى‏ صِرَاطِ اَلْحَمِيدِ قال: الولاية:.

أقول: و في المحاسن، بإسناده عن ضريس عن الباقر (عليه السلام) ما في معناه:.

 و في المجمع، و روي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال: ما أحد أحب إليه الحمد من الله عز ذكره.

 [سورة الحج (٢٢): الآیات ٢٥ الی ٣٧]

﴿إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ اَلَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً اَلْعَاكِفُ فِيهِ وَ اَلْبَادِ وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ٢٥ وَ إِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ اَلْبَيْتِ أَنْ لاَ تُشْرِكْ

 

 

 

﴿بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ اَلْقَائِمِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ ٢٦ وَ أَذِّنْ فِي اَلنَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَ عَلىَ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ٢٧ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اِسْمَ اَللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلى‏ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ اَلْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَ أَطْعِمُوا اَلْبَائِسَ اَلْفَقِيرَ ٢٨ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ ٢٩ ذَلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اَللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ اَلْأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلى‏ عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثَانِ وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ ٣٠ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ اَلسَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ اَلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ اَلرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ٣١ ذَلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اَللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى اَلْقُلُوبِ ٣٢ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى اَلْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ ٣٣ وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اِسْمَ اَللَّهِ عَلى‏ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ اَلْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَ بَشِّرِ اَلْمُخْبِتِينَ ٣٤ اَلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اَللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ اَلصَّابِرِينَ عَلى‏ مَا أَصَابَهُمْ وَ اَلْمُقِيمِي اَلصَّلاَةِ وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ٣٥ وَ اَلْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اَللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اِسْمَ

 

 

 

﴿اَللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَ أَطْعِمُوا اَلْقَانِعَ وَ اَلْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ٣٦ لَنْ يَنَالَ اَللَّهَ لُحُومُهَا وَ لاَ دِمَاؤُهَا وَ لَكِنْ يَنَالُهُ اَلتَّقْوى‏ مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اَللَّهَ عَلى‏ مَا هَدَاكُمْ وَ بَشِّرِ اَلْمُحْسِنِينَ ٣٧

(بيان)

تذكر الآيات صد المشركين للمؤمنين عن المسجد الحرام و تقرعهم بالتهديد و تشير إلى تشريع حج البيت لأول مرة لإبراهيم (عليه السلام) و أمره بتأذين الحج في الناس و جملة من أحكام الحج.

قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ اَلَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ إلخ. الصد المنع، و ﴿سَوَاءً مصدر بمعنى الفاعل، و العكوف‏ في المكان الإقامة فيه، و البادي‏ من البدو و هو الظهور، و المراد به كما قيل الطارئ أي الذي يقصده من خارج فيدخله، و الإلحاد الميل إلى خلاف الاستقامة و أصله إلحاد حافر الدابة.

و المراد بالذين كفروا مشركو مكة الذين كفروا بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في أول البعثة قبل الهجرة و كانوا يمنعون الناس عن الإسلام و هو سبيل الله و المؤمنين عن دخول المسجد الحرام لطواف الكعبة و إقامة الصلاة و سائر المناسك فقوله: ﴿يَصُدُّونَ للاستمرار و لا ضير في عطفه على الفعل الماضي في قوله ﴿اَلَّذِينَ كَفَرُوا و المعنى الذين كفروا قبل و يستمرون على منع الناس عن سبيل الله و المؤمنين عن المسجد الحرام.

و بذلك يظهر أن قوله: ﴿وَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ عطف على ﴿سَبِيلِ اَللَّهِ و المراد بصده منعهم المؤمنين عن أداء العبادات و المناسك فيه و كان من لوازمه منع القاصدين للبيت من خارج مكة من دخولها.

و به يتبين أن المراد بقوله: ﴿اَلَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ و هو وصف المسجد الحرام جعله لعبادة الناس لا تمليك رقبته لهم فالناس يملكون أن يعبدوا الله فيه ليس لأحد أن يمنع أحدا من ذلك ففيه إشارة إلى أن منعهم و صدهم عن المسجد الحرام تعد منهم إلى حق الناس و إلحاد بظلم كما أن إضافة السبيل إلى الله تعد منهم إلى حق الله تعالى.

 

 

 

 و يؤيد ذلك أيضا تعقيبه بقوله: ﴿سَوَاءً اَلْعَاكِفُ فِيهِ وَ اَلْبَادِ أي المقيم فيه و الخارج منه مساويان في أن لهما حق العبادة فيه لله، و المراد بالإقامة فيه و في الخارج منه إما الإقامة بمكة و في الخارج منها على طريق المجاز العقلي أو ملازمة المسجد للعبادة و الطرو عليه لها.

و قوله: ﴿وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ بيان لجزاء من ظلم الناس في هذا الحق المشروع لهم في المسجد و لازمه تحريم صد الناس عن دخوله للعبادة فيه و مفعول ﴿يُرِدْ محذوف للدلالة على العموم، و الباء في ﴿بِإِلْحَادٍ للملابسة و في ﴿بِظُلْمٍ للسببية و الجملة تدل على خبر قوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا في صدر الآية.

و المعنى الذين كفروا و لا يزالون يمنعون الناس عن سبيل الله و هو دين الإسلام و يمنعون المؤمنين عن المسجد الحرام الذي جعلناه معبدا للناس يستوي فيه العاكف فيه و البادي نذيقهم. من عذاب أليم لأنهم يريدون الناس فيه بإلحاد بظلم و من يرد الناس فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم.

و للمفسرين في إعراب مفردات الآية و جملها أقاويل كثيرة جدا و لعل ما أوردناه أنسب للسياق.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ اَلْبَيْتِ أَنْ لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ اَلْقَائِمِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ بوء له مكانا كذا أي جعله مباءة و مرجعا له يرجع إليه و يقصده، و المكان‏ ما يستقر عليه الشي‏ء فمكان البيت القطعة من الأرض التي بني فيها، و المراد بالقائمين على ما يعطيه السياق هم الناصبون أنفسهم للعبادة و الصلاة. و الركع جمع راكع كسجد جمع ساجد و السجود جمع ساجد كالركوع جمع راكع.

و قوله: ﴿وَ إِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ اَلْبَيْتِ الظرف فيه متعلق بمقدر أي و اذكر وقت كذا و فيه تذكير لقصة جعل البيت معبدا للناس ليتضح به أن صد المؤمنين عن المسجد الحرام ليس إلا إلحادا بظلم.

و تبوئته تعالى مكان البيت لإبراهيم هي جعل مكانه مباءة و مرجعا لعبادته لا لأن يتخذه بيت سكنى يسكن فيه، و يلوح إليه قوله بعد ﴿طَهِّرْ بَيْتِيَ بإضافة البيت إلى نفسه، و لا ريب أن هذا الجعل كان وحيا لإبراهيم فقوله: ﴿بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ اَلْبَيْتِ في معنى قولنا: أوحينا إلى إبراهيم أن اتخذ هذا المكان مباءة و مرجعا لعبادتي و إن شئت فقل: أوحينا إليه أن اقصد هذا المكان لعبادتي، و بعبارة أخرى أن اعبدني في

 

 

 

 هذا المكان.

و بذلك يتضح أن ﴿مَكَانَ في قوله: ﴿أَنْ لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً مفسرة تفسر الوحي السابق باعتباره أنه قول من غير حاجة إلى تقدير أوحينا أو قلنا و نحوه.

و يتضح أيضا أن قوله: ﴿أَنْ لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً ليس المراد به و هو واقع في هذا السياق النهي عن الشرك مطلقا و إن كان منهيا عنه مطلقا بل المنهي عنه فيه هو الشرك في العبادة التي يأتي بها حينما يقصد البيت للعبادة و بعبارة واضحة الشرك فيما يأتي به من أعمال الحج كالتلبية للأوثان و الإهلال لها و نحوهما.

و كذا قوله: ﴿وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ اَلْقَائِمِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ و التطهير إزالة الأقذار و الأدناس عن الشي‏ء ليعود إلى ما يقتضيه طبعه الأولي، و قد أضاف البيت إلى نفسه إذ قال: ﴿بَيْتِيَ أي بيتا يختص بعبادتي، و تطهير المعبد بما أنه معبد تنزيهه من الأعمال الدنسة و الأرجاس‏ التي تفسد العبادة و ليست إلا الشرك و مظاهره.

فتطهير بيته إما تنزيهه من الأرجاس المعنوية خاصة بأن يشرع إبراهيم (عليه السلام) للناس و يعلمهم طريقا من العبادة لا يداخلها قذارة شرك و لا يدنسها دنسه كما أمر لنفسه بذلك، و إما إزالة مطلق النجاسات عن البيت أعم من الصورية و المعنوية لكن الذي يمس سياق الآية منها هو الرجس المعنوي فمحصل تطهير المعبد عن الأرجاس المعنوية و تنزيهه عنها للعباد الذين يقصدونه بالعبادة وضع عبادة فيه خالصة لوجه الله لا يشوبها شائب شرك يعبدون الله سبحانه بها و لا يشركون به شيئا.

فالمعنى بناء على ما يهدي إليه السياق و اذكر إذ أوحينا إلى إبراهيم أن اعبدني في بيتي هذا بأخذه مباءة و مرجعا لعبادتي و لا تشرك بي شيئا في عبادتي و سن لعبادي القاصدين بيتي من الطائفين و القائمين و الركع السجود عبادة في بيتي خالصة من الشرك.

و في الآية تلويح إلى أن عمدة عبادة القاصدين له طواف و قيام و ركوع و سجود و إشعار بأن الركوع و السجود متقاربان كالمتلازمين لا ينفك أحدهما عن الآخر.

و مما قيل في الآية أن قوله: ﴿بَوَّأْنَا معناه «قلنا تبوء» و قيل: معناه «أعلمنا» و من ذلك أن ﴿مَكَانَ في قوله: ﴿أَنْ لاَ مصدرية و قيل: مخففة من الثقيلة، و من ذلك أن المراد بالطائفين الطارءون و بالقائمين المقيمون بمكة، و قيل: المراد بالقائمين و الركع السجود: المصلون، و هي جميعا وجوه بعيدة.

 

 

 

قوله تعالى: ﴿وَ أَذِّنْ فِي اَلنَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَ عَلى‏َ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ التأذين‏: الاعلام برفع الصوت و لذا فسر بالنداء، و الحج‏ القصد سمي به العمل الخاص الذي شرعه أولا إبراهيم (عليه السلام) و جرت عليه شريعة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) لما فيه من قصد البيت الحرام، و رجال‏ جمع راجل خلاف الراكب، و الضامر المهزول الذي أضمره السير، و الفج العميق على ما قيل الطريق البعيد.

و قوله: ﴿وَ أَذِّنْ فِي اَلنَّاسِ بِالْحَجِّ أي ناد الناس بقصد البيت أو بعمل الحج و الجملة معطوفة على قوله: ﴿لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً و المخاطب به إبراهيم و ما قيل: إن المخاطب نبينا محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) بعيد من السياق.

و قوله: ﴿يَأْتُوكَ رِجَالاً إلخ، جواب الأمر أي أذن فيهم و أن تؤذن فيهم يأتوك راجلين و على كل بعير مهزول يأتين من كل طريق بعيد، و لفظة ﴿كُلِّ تفيد في أمثال هذه الموارد معنى الكثرة دون الاستغراق.

قوله تعالى: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اِسْمَ اَللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ إلخ، اللام للتعليل أو الغاية و الجار و المجرور متعلق بقوله: ﴿يَأْتُوكَ و المعنى يأتوك لشهادة منافع لهم أو يأتوك فيشهدوا منافع لهم و قد أطلقت المنافع و لم تتقيد بالدنيوية أو الأخروية.

و المنافع نوعان: منافع دنيوية و هي التي تتقدم بها حياة الإنسان الاجتماعية و يصفو بها العيش و ترفع بها الحوائج المتنوعة و تكمل بها النواقص المختلفة من أنواع التجارة و السياسة و الولاية و التدبير و أقسام الرسوم و الآداب و السنن و العادات و مختلف التعاونات و التعاضدات الاجتماعية و غيرها.

فإذا اجتمعت أقوام و أمم من مختلف مناطق الأرض و أصقاعها على ما لهم من اختلاف الأنساب و الألوان و السنن و الآداب ثم تعارفوا بينهم و كلمتهم واحدة هي كلمة الحق و إلههم واحد و هو الله عز اسمه و وجهتهم واحدة هي الكعبة البيت الحرام حملهم اتحاد الأرواح على تقارب الأشباح و وحدة القول على تشابه الفعل فأخذ هذا من ذاك ما يرتضيه و أعطاه ما يرضيه، و استعان قوم بآخرين في حل مشكلتهم و أعانوهم بما في مقدرتهم فيبدل كل مجتمع جزئي مجتمعا أرقى، ثم امتزجت المجتمعات فكونت مجتمعا وسيعا له من القوة و العدة ما لا تقوم له الجبال الرواسي، و لا تقوى عليه أي قوة

 

 

 

 جبارة طاحنة، و لا وسيلة إلى حل مشكلات الحياة كالتعاضد و لا سبيل إلى التعاضد كالتفاهم، و لا تفاهم كتفاهم الدين.

و منافع أخروية و هي وجوه التقرب إلى الله تعالى بما يمثل عبودية الإنسان من قول و فعل و عمل الحج بما له من المناسك يتضمن أنواع العبادات من التوجه إلى الله و ترك لذائذ الحياة و شواغل العيش و السعي إليه بتحمل المشاق و الطواف حول بيته و الصلاة و التضحية و الإنفاق و الصيام و غير ذلك.

و قد تقدم فيما مر أن عمل الحج بما له من الأركان و الأجزاء يمثل دورة كاملة مما جرى على إبراهيم (عليه السلام) في مسيره في مراحل التوحيد و نفي الشريك و إخلاص العبودية لله سبحانه.

فإتيان الناس إبراهيم (عليه السلام) أي حضورهم عند البيت لزيارته يستعقب شهودهم هذه المنافع أخرويها و دنيويها و إذا شهدوها تعلقوا بها فالإنسان مجبول على حب النفع.

و قوله: ﴿وَ يَذْكُرُوا اِسْمَ اَللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلى‏َ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ اَلْأَنْعَامِ قال الراغب: و البهيمة ما لا نطق له و ذلك لما في صوته من الإبهام لكن خص في التعارف بما عدا السباع و الطير فقال تعالى: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعَامِ . انتهى.

و قال: و النعم‏ مختص بالإبل و جمعه أنعام و تسميته بذلك لكون الإبل عندهم أعظم نعمة، لكن الأنعام تقال للإبل و البقر و الغنم، و لا يقال لها: أنعام حتى تكون في جملتها الإبل. انتهى.

فالمراد ببهيمة الأنعام الأنواع الثلاثة: الإبل و البقر و الغنم من معز أو ضأن و الإضافة بيانية.

و الجملة أعني قوله: ﴿وَ يَذْكُرُوا ، إلخ معطوف على قوله: ﴿لِيَشْهَدُوا أي و ليذكروا اسم الله في أيام معلومات أي في أيام التشريق على ما فسرها أئمة أهل البيت (عليه السلام) و هي يوم الأضحى عاشر ذي الحجة و ثلاثة أيام بعده.

و ظاهر قوله: ﴿عَلى‏َ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ اَلْأَنْعَامِ أنه متعلق بقوله: ﴿يَذْكُرُوا و قوله: ﴿مِنْ بَهِيمَةِ اَلْأَنْعَامِ﴾ بيان للموصول و المراد ذكرهم اسم الله على البهيمة الأضحية عند ذبحها أو نحوها على خلاف ما كان المشركون يهلونها لأصنامهم.

و قد ذكر الزمخشري أن قوله: ﴿وَ يَذْكُرُوا اِسْمَ اَللَّهِ﴾ إلخ كناية عن الذبح و النحر

 

 

 

 و يبعده أن في الكلام عناية خاصة بذكر اسمه تعالى بالخصوص و العناية في الكناية متعلقة بالمكني عنه دون نفس الكناية، و يظهر من بعضهم أن المراد مطلق ذكر اسم الله في أيام الحج و هو كما ترى.

و قوله: ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَ أَطْعِمُوا اَلْبَائِسَ اَلْفَقِيرَ البائس‏ من البؤس و هو شدة الضر و الحاجة، و الذي اشتمل عليه الكلام حكم ترخيصي إلزامي.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ التفث‏ شعث البدن، و قضاء التفث إزالة ما طرأ بالإحرام من الشعث بتقليم الأظفار و أخذ الشعر و نحو ذلك و هو كناية عن الخروج من الإحرام.

و المراد بقوله: ﴿وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ إتمام ما لزمهم بنذر أو نحوه، و بقوله:

﴿وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ طواف النساء على ما في تفسير أئمة أهل البيت (عليه السلام) فإن الخروج من الإحرام يحلل له كل ما حرم به إلا النساء فتحل بطواف النساء و هو آخر العمل.

و البيت العتيق‏ هو الكعبة المشرفة سميت به لقدمه فإنه أول بيت بني لعبادة الله كما قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَ هُدىً لِلْعَالَمِينَ آل عمران: ٩٦، و قد مضى على هذا البيت اليوم زهاء أربعة آلاف سنة و هو معمور و كان له يوم نزول الآيات أكثر من ألفين و خمسمائة سنة.

قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اَللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ إلى آخر الآية الحرمة، ما لا يجوز انتهاكه و وجب رعايته، و الأوثان‏ جمع وثن و هو الصنم، و الزور الميل عن الحق و لذا يسمى الكذب و قول الباطل زورا.

و قوله: ﴿ذَلِكَ أي الأمر ذلك أي الذي شرعناه لإبراهيم (عليه السلام) و من بعده من نسك الحج هو ذلك الذي ذكرناه و أشرنا إليه من الإحرام و الطواف و الصلاة و التضحية بالإخلاص لله و التجنب عن الشرك.

و قوله: ﴿وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اَللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ندب إلى تعظيم حرمات الله و هي الأمور التي نهى عنها و ضرب دونها حدودا منع عن تعديها و اقتراف ما وراءها و تعظيمها الكف عن التجاوز إليها.

و الذي يعطيه السياق أن هذه الجملة توطئة و تمهيد لما بعدها من قوله ﴿وَ أُحِلَّتْ

 

 

 

 لَكُمُ اَلْأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلى‏َ عَلَيْكُمْ فإن انضمام هذه الجملة إلى الجملة قبلها يفيد أن الأنعام على كونها مما رزقهم الله و قد أحلها لهم فيها حرمة إلهية و هي التي يدل عليها الاستثناء إلا ما يتلى عليكم .

و المراد بقوله ﴿مَا يُتْلى‏َ عَلَيْكُمْ استمرار التلاوة، فإن محرمات الأكل نزلت في سورة الأنعام و هي مكية و في سورة النحل و هي نازلة في آخر عهده (ص) بمكة و أول عهده بالمدينة، و في سورة البقرة و قد نزلت في أوائل الهجرة بعد مضي ستة أشهر منها على ما روي و لا موجب لجعل ﴿يُتْلى‏َ للاستقبال و أخذه إشارة إلى آية سورة المائدة كما فعلوه.

و الآيات المتضمنة لمحرمات الأكل و إن تضمنت منها عدة أمور كالميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل به لغير الله إلا أن العناية في الآية بشهادة سياق ما قبلها و ما بعدها بخصوص ما أهل به لغير الله فإن المشركين كانوا يتقربون في حجهم و هو السنة الوحيدة الباقية بينهم من ملة إبراهيم بالأصنام المنصوبة على الكعبة و على الصفا و على المروة و بمنى و يهلون بضحاياهم لها فالتجنب منها و من الإهلال بذكر أسمائها هو الغرض المعنى به من الآية و إن كان أكل الميتة و الدم و لحم الخنزير أيضا من جملة حرمات الله.

و يؤيد ذلك أيضا تعقيب الكلام بقوله: ﴿فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثَانِ وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ فإن اجتناب الأوثان و اجتناب قول الزور و إن كانا من تعظيم حرمات الله و لذلك تفرع ﴿فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ على ما تقدمه من قوله: ﴿وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اَللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ لكن تخصيص هاتين الحرمتين من بين جميع الحرمات في سياق آيات الحج بالذكر ليس إلا لكونهما مبتلى بهما في الحج يومئذ و إصرار المشركين على التقرب من الأصنام هناك و إهلال الضحايا باسمها.

و بذلك يظهر أن قوله: ﴿فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثَانِ وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ نهي عام عن التقرب إلى الأصنام و قول الباطل أورد لغرض التقرب إلى الأصنام في عمل الحج كما كانت عادة المشركين جارية عليه، و عن التسمية باسم الأصنام على الذبائح من الضحايا، و على ذلك يبتني التفريع بالفاء.

و في تعليق حكم الاجتناب أولا بالرجس ثم بيانه بقوله: ﴿مِنَ اَلْأَوْثَانِ إشعار بالعلية كأنه قيل: اجتنبوا الأوثان لأنها رجس و في تعليقه بنفس الأوثان دون عبادتها

 

 

 

 أو التقرب أو التوجه إليها أو مسها و نحو ذلك مع أن الاجتناب إنما يتعلق على الحقيقة بالأعمال دون الأعيان مبالغة ظاهرة.

و قد تبين بما مر أن ﴿مَنْ في قوله: ﴿مِنَ اَلْأَوْثَانِ بيانية، و ذكر بعضهم أنها ابتدائية، و المعنى: اجتنبوا الرجس الكائن من الأوثان و هو عبادتها، و ذكر آخرون أنها تبعيضية، و المعنى: اجتنبوا الرجس الذي هو بعض جهات الأوثان و هو عبادتها، و في الوجهين من التكلف و إخراج معنى الكلام عن استقامته ما لا يخفى.

قوله تعالى: ﴿حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ اَلسَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ اَلطَّيْرُ إلخ، الحنفاء جمع حنيف و هو المائل من الأطراف إلى حاق الوسط.

و كونهم حنفاء لله ميلهم عن الأغيار و هي الآلهة من دون الله إليه فيتحد مع قوله غير مشركين به معنى.

و هما أعني قوله: ﴿حُنَفَاءَ لِلَّهِ و قوله: ﴿غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ حالان عن فاعل ﴿فَاجْتَنِبُوا أي اجتنبوا التقرب من الأوثان و الإهلال لها حال كونكم مائلين إليه ممن سواه غير مشركين به في حجكم فقد كان المشركون يلبون في الحج بقولهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه و ما ملك.

و قوله: ﴿وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ اَلسَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ اَلطَّيْرُ أي تأخذه بسرعة، شبه المشرك في شركه و سقوطه به من أعلى درجات الإنسانية إلى هاوية الضلال فيصيده الشيطان، بمن سقط من السماء فتأخذه الطير.

و قوله: ﴿أَوْ تَهْوِي بِهِ اَلرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ أي بعيد في الغاية و هو معطوف على ﴿فَتَخْطَفُهُ اَلطَّيْرُ تشبيه آخر من جهة البعد.

قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اَللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى اَلْقُلُوبِ ﴿ذَلِكَ خبر لمبتدإ محذوف أي الأمر ذلك الذي قلنا، و الشعائر جمع شعيرة و هي العلامة، و شعائر الله الأعلام التي نصبها الله تعالى لطاعته كما قال: ﴿إِنَّ اَلصَّفَا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اَللَّهِ و قال: ﴿وَ اَلْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اَللَّهِ الآية.

و المراد بها البدن التي تساق هديا و تشعر أي يشق سنامها من الجانب الأيمن ليعلم أنها هدي على ما في تفسير أئمة أهل البيت (عليه السلام) و يؤيده ظاهر قوله تلوا: ﴿لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إلخ، و قوله بعد: ﴿وَ اَلْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا الآية، و قيل: المراد بها جميع

 

 

 

 الأعلام المنصوبة للطاعة، و السياق لا يلائمه.

و قوله: ﴿فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى اَلْقُلُوبِ أي تعظيم الشعائر الإلهية من التقوى، فالضمير لتعظيم الشعائر المفهوم من الكلام ثم كأنه حذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه فأرجع إليه الضمير.

و إضافة التقوى إلى القلوب للإشارة إلى أن حقيقة التقوى و هي التحرز و التجنب عن سخطه تعالى و التورع عن محارمه أمر معنوي يرجع إلى القلوب و هي النفوس و ليست هي جسد الأعمال التي هي حركات و سكنات فإنها مشتركة بين الطاعة و المعصية كالمس في النكاح و الزنا، و إزهاق الروح في القتل قصاصا أو ظلما و الصلاة المأتي بها قربة أو رياء و غير ذلك، و لا هي العناوين المنتزعة من الأفعال كالإحسان و الطاعة و نحوها.

قوله تعالى: ﴿لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلى‏َ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى اَلْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ المحل‏ بكسر الحاء اسم زمان بمعنى وقت حلول الأجل، و ضمير ﴿فِيهَا للشعائر، و المعنى على تقدير كون المراد بالشعائر بدن الهدي أن لكم في هذه الشعائر و هي البدن منافع من ركوب ظهرها و شرب ألبانها عند الحاجة إلى أجل مسمى هو وقت نحرها ثم محلها أي وقت حلول أجلها للنحر منته إلى البيت العتيق أو بانتهائها إليه، و الجملة في معنى قوله: ﴿هَدْياً بَالِغَ اَلْكَعْبَةِ هذا على تفسير أئمة أهل البيت (عليه السلام).

و أما على القول بكون المراد بالشعائر مناسك الحج فقيل المراد بالمنافع التجارة إلى أجل مسمى ثم محل هذه المناسك و منتهاها إلى البيت العتيق لأن آخر ما يأتي به من الأعمال الطواف بالبيت.

قوله تعالى: ﴿وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اِسْمَ اَللَّهِ عَلى‏َ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ اَلْأَنْعَامِ إلى آخر الآية. المنسك‏ مصدر ميمي و اسم زمان و مكان، و ظاهر قوله:

﴿لِيَذْكُرُوا اِسْمَ اَللَّهِ إلخ أنه مصدر ميمي بمعنى العبادة و هي العبادة التي فيها ذبح و تقريب قربان.

و المعنى: و لكل أمة من الأمم السالفة المؤمنة جعلنا عبادة من تقريب القرابين ليذكروا اسم الله على بهيمة الأنعام التي رزقهم الله أي لستم معشر أتباع إبراهيم أول أمة شرعت لهم التضحية و تقريب القربان فقد شرعنا لمن قبلكم ذلك.

و قوله: ﴿فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا أي إذ كان الله سبحانه هو الذي شرع

 

 

 

لكم و للأمم قبلكم هذا الحكم فإلهكم و إله من قبلكم إله واحد فأسلموا و استسلموا له بإخلاص عملكم له و لا تتقربوا في قرابينكم إلى غيره فالفاء في ﴿فَإِلَهُكُمْ لتفريع السبب على المسبب و في قوله: ﴿فَلَهُ أَسْلِمُوا لتفريع المسبب على السبب.

و قوله: ﴿وَ بَشِّرِ اَلْمُخْبِتِينَ فيه تلويح إلى أن من أسلم لله في حجه مخلصا فهو من المخبتين، و قد فسره بقوله: ﴿اَلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اَللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ اَلصَّابِرِينَ عَلى‏َ مَا أَصَابَهُمْ وَ اَلْمُقِيمِي اَلصَّلاَةِ وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ و انطباق الصفات المعدودة في الآية و هي الوجل و الصبر و إقامة الصلاة و الإنفاق، على من حج البيت مسلما لربه معلوم.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اَللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ إلى آخر الآية البدن‏ بالضم فالسكون جمع بدنة بفتحتين و هي السمينة الضخمة من الإبل، و السياق أنها من الشعائر باعتبار جعلها هديا.

و قوله: ﴿فَاذْكُرُوا اِسْمَ اَللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ الصواف جمع صافة و معنى كونها صافة أن تكون قائمة قد صفت يداها و رجلاها و جمعت و قد ربطت يداها.

و قوله: ﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَ أَطْعِمُوا اَلْقَانِعَ وَ اَلْمُعْتَرَّ الوجوب‏ السقوط يقال: وجبت الشمس أي سقطت و غابت، و الجنوب جمع جنب، و المراد بوجوب جنوبها سقوطها على الأرض على جنوبها و هو كناية عن موتها، و الأمر في قوله:

﴿فَكُلُوا مِنْهَا للإباحة و ارتفاع الحظر، و القانع‏ هو الفقير الذي يقنع بما أعطيه سواء سأل أم لا، و المعتر هو الذي أتاك و قصدك من الفقراء، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ﴿لَنْ يَنَالَ اَللَّهَ لُحُومُهَا وَ لاَ دِمَاؤُهَا وَ لَكِنْ يَنَالُهُ اَلتَّقْوى‏َ مِنْكُمْ إلى آخر الآية. بمنزلة دفع الدخل كأن متوهما بسيط الفهم يتوهم أن لله سبحانه نفعا في هذه الضحايا و لحومها و دمائها فأجيب أن الله سبحانه لن يناله شي‏ء من لحومها و دمائها لتنزهه عن الجسمية و عن كل حاجة و إنما يناله التقوى نيلا معنويا فيقرب المتصفين به منه تعالى.

أو يتوهم أن الله سبحانه لما كان منزها عن الجسمية و عن كل نقص و حاجة و لا ينتفع بلحم أو دم فما معنى التضحية بهذه الضحايا فأجيب بتقرير الكلام و أن الأمر كذلك لكن هذه التضحية يصحبها صفة معنوية لمن يتقرب بها و هذه الصفة المعنوية من شأنها أن تنال الله سبحانه بمعنى أن تصعد إليه تعالى و تقرب صاحبها منه تقريبا لا يبقى معه بينه و بينه حجاب يحجبه عنه.

 

 

 

 و قوله: ﴿كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اَللَّهَ عَلى‏َ مَا هَدَاكُمْ الظاهر أن المراد بالتكبير ذكره تعالى بالكبرياء و العظمة، فالهداية هي هدايته إلى طاعته و عبوديته و المعنى كذلك سخرها لكم ليكون تسخيرها وصلة إلى هدايتكم إلى طاعته و التقرب إليه بتضحيتها فتذكروه بالكبرياء و العظمة على هذه الهداية.

و قيل: المراد بالتكبير معرفته تعالى بالعظمة و بالهداية الهداية إلى تسخيرها و المعنى كذلك سخرها لكم لتعرفوا الله بالعظمة على ما هداكم إلى طريق تسخيرها.

و أول الوجهين أوجه و أمس بالسياق فإن التعليل عليه بأمر مرتبط بالمقام و هو تسخيرها لتضحى و يتقرب بها إلى الله فيذكر تعالى بالكبرياء على ما هدى إلى هذه العبادة التي فيها رضاه و ثوابه، و أما مطلق تسخيرها لهم بالهداية إلى طريق تسخيرها لهم فلا اختصاص له بالمقام.

و قوله: ﴿وَ بَشِّرِ اَلْمُحْسِنِينَ أي الذين يأتون بالأعمال الحسنة أو بالإحسان و هو الإنفاق في سبيل الله.

(بحث روائي)

 في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس ":في قوله تعالى: ﴿وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ إلخ قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أنيس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بعثه مع رجلين أحدهما مهاجري و الآخر من الأنصار فافتخروا في الأنساب فغضب عبد الله بن أنيس فقتل الأنصاري ثم ارتد عن الإسلام و هرب إلى مكة فنزلت فيه ﴿وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ يعني من لجأ إلى الحرام بإلحاد يعني بميل عن الإسلام. أقول: نزول الآية فيما ذكر لا يلائم سياقها و رجوع الذيل إلى الصدر و كونه متمما لمعناه كما مر.

و في تفسير القمي،" :في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إلى قوله ﴿وَ اَلْبَادِ قال:

نزلت في قريش حين صدوا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن مكة، و قوله: ﴿سَوَاءً اَلْعَاكِفُ فِيهِ وَ اَلْبَادِ قال: أهل مكة و من جاء من البلدان فهم سواء لا يمنع من النزول و دخول الحرم و في التهذيب، بإسناده عن الحسين بن أبي العلاء قال: ذكر أبو عبد الله (عليه السلام) هذه الآية ﴿سَوَاءً اَلْعَاكِفُ فِيهِ وَ اَلْبَادِ فقال كانت مكة ليس على شي‏ء منها باب،

 

 

 

 و كان أول من علق على بابه المصراعين معاوية بن أبي سفيان، و ليس ينبغي لأحد أن يمنع الحاج شيئا من الدور و منازلها.

 أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة و تحرير المسألة في الفقه.

 و في الكافي، عن ابن أبي عمير عن معاوية قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: ﴿وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ قال: كل ظلم إلحاد، و ضرب الخادم في غير ذنب من ذلك الإلحاد.

 و فيه، بإسناده عن أبي الصباح الكناني قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله عز و جل: ﴿وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ فقال: كل ظلم يظلم الرجل نفسه بمكة من سرقة أو ظلم أحد أو شي‏ء من الظلم فإني أراه إلحادا، و لذلك كان يتقي أن يسكن الحرم.

 أقول: و رواه أيضا في العلل عن أبي الصباح عنه (عليه السلام) و فيه: و لذلك كان ينهى أن يسكن الحرم‏، و في معنى هذه الرواية و التي قبلها روايات أخر.

و في الكافي، أيضا بإسناده عن الربيع بن خثيم قال ":شهدت أبا عبد الله (عليه السلام) و هو يطاف به حول الكعبة في محمل و هو شديد المرض فكان كلما بلغ الركن اليماني أمرهم فوضعوه بالأرض فأخرج يده من كوة المحمل حتى يجرها على الأرض ثم يقول: ارفعوني.

فلما فعل ذلك مرارا في كل شوط قلت له: جعلت فداك يا ابن رسول الله إن هذا يشق عليك فقال: إني سمعت الله عز و جل يقول: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ فقلت:

منافع الدنيا أو منافع الآخرة؟ فقال: الكل.

و في المجمع، في الآية و قيل: منافع الآخرة و هي العفو و المغفرة و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام).

 أقول: و إثبات إحدى المنفعتين لا ينفي العموم كما في الرواية السابقة.

 و في العيون، فيما كتبه الرضا (عليه السلام) إلى محمد بن سنان في جواب مسائله في العلل: و علة الحج الوفادة إلى الله عز و جل و طلب الزيادة و الخروج من كل ما اقترف و ليكون تائبا مما مضى مستأنفا لما يستقبل، و ما فيه من استخراج الأموال و تعب الأبدان، و حظرها عن الشهوات و اللذات و التقرب بالعبادة إلى الله عز و جل و الخضوع و الاستكانة.

 

 

 

 و الذل شاخصا في الحر و البرد و الأمن و الخوف، دائبا في ذلك دائما.

و ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع، و الرغبة و الرهبة إلى الله تعالى، و منه ترك قساوة القلب و جسأة النفس و نسيان الذكر و انقطاع الرجاء و الأمل، و تجديد الحقوق و حظر النفس عن الفساد، و منفعة من في شرق الأرض و غربها و من في البر و البحر ممن يحج و من لا يحج من تاجر و جالب و بائع و مشتر و كاسب و مسكين، و قضاء حوائج أهل الأطراف و المواضع الممكن لهم الاجتماع فيها كذلك ليشهدوا منافع لهم.

أقول و روى فيه أيضا ما يقرب منه عن الفضل بن شاذان عنه (عليه السلام):.

 و في المعاني، بإسناده عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: ﴿وَ يَذْكُرُوا اِسْمَ اَللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ قال: هي أيام التشريق.

 أقول: و في هذا المعنى روايات أخر عن الباقر و الصادق (عليه السلام)، و هناك ما يعارضها كما يدل على أن الأيام المعلومات عشر ذي الحجة، و ما يدل على أن المعلومات عشر ذي الحجة و المعدودات أيام التشريق، و الآية أشد ملاءمة لما يدل على أن المراد بالمعلومات أيام التشريق.

 و في الكافي، بإسناده عن أبي الصباح الكناني عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى:

﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ قال: هو الحلق و ما في جلد الإنسان.

 و في الفقيه، في رواية البزنطي عن الرضا (عليه السلام) قال: التفث تقليم الأظفار و طرح الوسخ و طرح الإحرام عنه.

 و في التهذيب، بإسناده عن حماد الناب قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: ﴿وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ قال: هو طواف النساء.

 أقول: و في معنى الروايات الثلاث روايات أخرى عنهم (عليه السلام).

 و في الكافي، بإسناده عن أبان عمن أخبره عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت: لم سمى الله البيت العتيق؟ قال: هو بيت حر عتيق من الناس لم يملكه أحد.

 و في تفسير القمي، حدثني أبي عن صفوان بن يحيى عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث يذكر فيه غرق قوم نوح قال: و إنما سمي البيت العتيق لأنه أعتق من الغرق.

 و في الدر المنثور، أخرج البخاري في تاريخه و الترمذي و حسنه و ابن جرير

 

 

 

و الطبراني و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن عبد الله بن الزبير قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إنما سمى الله البيت العتيق لأن الله أعتقه من الجبابرة - فلم يظهر عليه جبار قط. أقول: أما هذه الرواية فالتاريخ لا يصدقها و قد خرب البيت ثم غيره عبد الله بن الزبير نفسه ثم الحصين بن نمير بأمر يزيد ثم الحجاج بأمر عبد الملك ثم القرامطة، و يمكن أن يكون مراده (ص) الإخبار عما مضى على البيت و أما الرواية السابقة عليها فلم تثبت.

و فيه، أخرج سفيان بن عيينة و الطبراني و الحاكم و صححه و البيهقي في سننه عن ابن عباس قال ":الحجر من البيت لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) طاف بالبيت من ورائه، قال الله: ﴿وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ .

أقول: و في معناه روايات عن أئمة أهل البيت (عليه السلام).

 و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و الحاكم و صححه عن جبير بن مطعم: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت و صلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار. و في المجمع،" : ﴿فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثَانِ و روى أصحابنا أن اللعب بالشطرنج و النرد و سائر أنواع القمار من ذلك. ﴿وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ و روى أصحابنا أنه يدخل فيه الغناء و سائر الأقوال الملهية.

 و فيه، و روى أيمن بن خزيم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه خطبنا فقال: أيها الناس عدلت شهادة الزور بالشرك بالله ثم قرأ: ﴿فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثَانِ وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ :.

أقول: و روى ما في الذيل في الدر المنثور، عن أحمد و الترمذي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه عن أيمن:.

 و في الكافي، بإسناده عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: ﴿لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلى‏َ أَجَلٍ مُسَمًّى قال: إن احتاج إلى ظهرها ركبها من غير عنف عليها و إن كان لها لبن حلبها حلابا لا ينهكها[1] .

 

 

 

 

 و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة عن علي قال: يركب الرجل بدنته بالمعروف. أقول: و روى أيضا نظيره عن جابر عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).

و في تفسير القمي، ":قوله: ﴿فَلَهُ أَسْلِمُوا وَ بَشِّرِ اَلْمُخْبِتِينَ قال: العابدين.

 و في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله تعالى:

﴿فَاذْكُرُوا اِسْمَ اَللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ قال: ذلك حين تصف للنحر تربط يديها ما بين الخف إلى الركبة، و وجوب جنوبها إذا وقعت على الأرض.

 و فيه، بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله:

﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا قال: إذا وقعت على الأرض ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَ أَطْعِمُوا اَلْقَانِعَ وَ اَلْمُعْتَرَّ قال: القانع الذي يرضى بما أعطيته و لا يسخط و لا يكلح و لا يلوي شدقه غضبا، و المعتر المار بك لتطعمه.

و في المعاني، عن سيف التمار قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن سعيد بن عبد الملك قدم حاجا فلقي أبي فقال: إني سقت هديا فكيف أصنع؟ فقال: أطعم أهلك ثلثا، و أطعم القانع ثلثا، و أطعم المسكين ثلثا. قلت: المسكين هو السائل؟ قال:

نعم، و القانع يقنع بما أرسلت إليه من البضعة فما فوقها، و المعتر يعتريك لا يسألك. أقول: و الروايات في المعاني السابقة عن الأئمة كثيرة و ما نقلناه نبذة منها.

و في جوامع الجامع، :في قوله تعالى: ﴿لَنْ يَنَالَ اَللَّهَ لُحُومُهَا وَ لاَ دِمَاؤُهَا و روي أن أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا لطخوا البيت بالدم فلما حج المسلمون أرادوا مثل ذلك فنزلت.

أقول: روى ما في معناه في الدر المنثور، عن ابن المنذر و ابن مردويه عن ابن عباس.

و في تفسير القمي، ":قوله عز و جل: ﴿لِتُكَبِّرُوا اَللَّهَ عَلىَ مَا هَدَاكُمْ - قال:

التكبير أيام التشريق في الصلوات بمنى في عقيب خمس عشر صلاة، و في الأمصار عقيب عشرة صلوات.

[ سورة الحج (٢٢): الآیات ٣٨ الی ٥٧]

﴿إِنَّ اَللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ

 

 

 

﴿كَفُورٍ ٣٨ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اَللَّهَ عَلىَ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ٣٩ اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اَللَّهُ وَ لَوْ لاَ دَفْعُ اَللَّهِ اَلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَوَاتٌ وَ مَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اِسْمُ اَللَّهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اَللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اَللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ٤٠ اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتَوُا اَلزَّكَاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ لِلَّهِ عَاقِبَةُ اَلْأُمُورِ ٤١ وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عَادٌ وَ ثَمُودُ ٤٢ وَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَ قَوْمُ لُوطٍ ٤٣ وَ أَصْحَابُ مَدْيَنَ وَ كُذِّبَ مُوسى‏ فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ٤٤ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَ هِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلى‏ عُرُوشِهَا وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ ٤٥ أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى اَلْأَبْصَارُ وَ لَكِنْ تَعْمَى اَلْقُلُوبُ اَلَّتِي فِي اَلصُّدُورِ ٤٦ وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَ لَنْ يُخْلِفَ اَللَّهُ وَعْدَهُ وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ٤٧ وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَ هِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ ٤٨ قُلْ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ٤٩ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ

 

 

 

﴿وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ٥٠ وَ اَلَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلْجَحِيمِ ٥١ وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى اَلشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اَللَّهُ مَا يُلْقِي اَلشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اَللَّهُ آيَاتِهِ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ٥٢ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي اَلشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اَلظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ٥٣ وَ لِيَعْلَمَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اَللَّهَ لَهَادِ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِلى‏ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ٥٤ وَ لاَ يَزَالُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ اَلسَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ٥٥ اَلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ اَلنَّعِيمِ ٥٦ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ٥٧

(بيان)

تتضمن الآيات إذن المؤمنين في القتال و هي كما قيل أول ما نزلت في الجهاد و قد كان المؤمنون منذ زمان يسألون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يأذن لهم في قتال المشركين فيقول لهم: لم أومر بشي‏ء في القتال، و كان يأتيه كل يوم و هو بمكة قبل الهجرة أفراد من المؤمنين بين مضروب و مشجوج و معذب بالفتنة يشكون إليه ما يلقونه من عتاة مكة من المشركين فيسليهم و يأمرهم بالصبر و انتظار الفرج حتى نزلت الآيات و هي تشتمل على قوله: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ إلخ.

 

 

 

 و هي كما تقدم أول ما نزلت في الجهاد، و قيل: أول ما نزل فيه قول تعالى:

﴿وَ قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اَلَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ البقرة: ١٩٠، و قيل: إنه قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ اِشْتَرى‏َ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوَالَهُمْ الآية: التوبة: ١١١.

و الاعتبار يستدعي أن تكون آية سورة الحج هي التي نزلت أولا و ذلك لاشتمالها على الإذن صريحا و احتفافها بالتوطئة و التمهيد و تهييج القوم و تقوية قلوبهم و تثبيت أقدامهم بوعد النصر تلويحا و تصريحا و ذكر ما فعل الله بالقرى الظالمة قبلهم و كل ذلك من لوازم تشريع الأحكام الهامة و بيانها و إبلاغها لأول مرة و خاصة الجهاد الذي بناؤه على أساس التضحية و التفدية و هو أشق حكم اجتماعي و أصعبه في الإسلام و أمسه بحفظ المجتمع الديني قائما على ساقه فإن إبلاغ مثله لأول مرة أحوج إلى بسط الكلام و استيقاظ الأفهام كما هو مشاهد في هذه الآيات.

فقد افتتحت أولا بأن الله هو مولى المؤمنين المدافع عنهم. ثم نص على إذنهم في القتال و ذكر أنهم مظلومون و القتال هو السبيل لحفظ المجتمعات الصالحة و وصفهم بأنهم صالحون لعقد مجتمع ديني يعمل فيه الصالحات ثم ذكر ما فعله بالقرى الظالمة قبلهم و أنه سيأخذهم كما أخذ الذين قبلهم.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ المدافعة مبالغة في الدفع، و الخوان‏ اسم مبالغة من الخيانة و كذا الكفور من الكفران و المراد بالذين آمنوا المؤمنون من الأمة و إن انطبق بحسب المورد على المؤمنين في ذلك الوقت لأن الآيات تشرع القتال و لا يختص حكمه بطائفة دون طائفة، و المورد لا يكون مخصصا.

و المراد بكل خوان كفور المشركون، و إنما كانوا مكثرين في الخيانة و الكفران لأن الله حملهم أمانة الدين الحق و جعلها وديعة عند فطرتهم لينالوا بحفظه و رعايته سعادة الدارين و عرفهم إياه من طريق الرسالة فخانوه بالجحد و الإنكار و غمرهم بنعمه الظاهرة و الباطنة فكفروا بها و لم يشكروه بالعبودية.

و في الآية تمهيد لما في الآية التالية من الإذن في القتال فذكر تمهيدا أن الله يدافع عن الذين آمنوا و إنما يدفع عنهم المشركين لأنه يحب هؤلاء و لا يحب أولئك لخيانتهم و كفرهم فهو إنما يحب هؤلاء لأمانتهم و شكرهم فهو إنما يدافع عن دينه الذي عند المؤمنين.

 

 

 

 فهو تعالى مولاهم و وليهم الذي يدفع عنهم أعداءه كما قال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ مَوْلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ أَنَّ اَلْكَافِرِينَ لاَ مَوْلى‏َ لَهُمْ سورة محمد: ١١.

قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اَللَّهَ عَلى‏َ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ظاهر السياق أن المراد بقوله: ﴿أُذِنَ إنشاء الإذن دون الإخبار عن إذن سابق و إنما هو إذن في القتال كما يدل عليه قوله: ﴿لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ إلخ، و لذا بدل قوله: ﴿اَلَّذِينَ آمَنُوا من قوله: ﴿لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ ليدل على المأذون فيه.

و القراءة الدائرة ﴿يُقَاتَلُونَ بفتح التاء مبنيا للمفعول أي الذين يقاتلهم المشركون لأنهم الذين أرادوا القتال و بدءوهم به، و الباء في ﴿بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا للسببية و فيه تعليل الإذن في القتال أي أذن لهم فيه بسبب أنهم ظلموا، و أما ما هو الظلم فتفسيره قوله:

﴿اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إلخ.

و في عدم التصريح بفاعل ﴿أُذِنَ تعظيم و تكبير و نظيره ما في قوله: ﴿وَ إِنَّ اَللَّهَ عَلى‏َ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ من ذكر القدرة على النصر دون فعليته فإن فيه إشارة إلى أنه مما لا يهتم به لأنه هين على من هو على كل شي‏ء قدير.

و المعنى أذن من جانب الله للذين يقاتلهم المشركون و هم المؤمنون بسبب أنهم ظلموا من جانب المشركين و إن الله على نصرهم لقدير، و هو كناية عن النصر.

قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اَللَّهُ إلى آخر الآية بيان جهة كونهم مظلومين و هو أنهم أخرجوا من ديارهم و قد أخرجهم المشركون من ديارهم بمكة بغير حق يجوز لهم إخراجهم.

و لم يخرجوهم بحمل و تسفير بل آذوهم و بالغوا في إيذائهم و شددوا بالتعذيب و التفتين حتى اضطروهم إلى الهجرة من مكة و التغرب عن الوطن و ترك الديار و الأموال فقوم إلى الحبشة و آخرون إلى المدينة بعد هجرة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، فإخراجهم إياهم إلجاؤهم إلى الخروج.

و قوله: ﴿إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اَللَّهُ استثناء منقطع معناه و لكن أخرجوا بسبب أن يقولوا ربنا الله، و فيه إشارة إلى أن المشركين انحرفوا في فهمهم و ألحدوا عن الحق إلى حيث جعلوا قول القائل ربنا الله و هو كلمة الحق يبيح لهم أن يخرجوه من داره.

و قيل: الاستثناء متصل و المستثنى منه هو الحق و المعنى أخرجوا بغير حق إلا

 

 

 

 الحق الذي هو قولهم: ربنا الله. و أنت خبير بأنه لا يناسب المقام فإن الآية في مقام بيان أنهم أخرجوا من ديارهم بغير حق لا أنهم إنما أخرجوا بهذا الحق لا بحق غيره.

و توصيف الذين آمنوا بهذا الوصف كونهم مخرجين من ديارهم و هو وصف بعضهم و هم المهاجرون من باب توصيف الكل بوصف البعض بعناية الاتحاد و الائتلاف فإن المؤمنين إخوة و هم يد واحدة على من سواهم و توصيف، الأمم بوصف بعض الأفراد في القرآن الكريم فوق حد الإحصاء.

و قوله: ﴿وَ لَوْ لاَ دَفْعُ اَللَّهِ اَلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَوَاتٌ وَ مَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اِسْمُ اَللَّهِ كَثِيراً الصوامع‏ جمع صومعة و هي بناء في أعلاه حدة كان يتخذ في الجبال و البراري و يسكنه الزهاد و المعتزلون من الناس للعبادة، و البيع‏ جمع بيعة بكسر الباء معبد اليهود و النصارى، و الصلوات‏ جمع صلاة و هي مصلى اليهود سمي بها تسمية للمحل باسم الحال كما أريد بها المسجد في قوله تعالى: ﴿لاَ تَقْرَبُوا اَلصَّلاَةَ وَ أَنْتُمْ سُكَارى‏َ إلى قوله ﴿وَ لاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ .

و قيل: هي معرب «صلوثا» بالثاء المثلثة و القصر و هي بالعبرانية المصلى، و المساجد جمع مسجد و هو معبد المسلمين.

و الآية و إن وقعت موقع التعليل بالنسبة إلى تشريع القتال و الجهاد، و محصلها أن تشريع القتال إنما هو لحفظ المجتمع الديني من شر أعداء الدين المهتمين بإطفاء نور الله فلو لا ذلك لانهدمت المعابد الدينية و المشاعر الإلهية و نسخت العبادات و المناسك.

لكن المراد بدفع الله الناس بعضهم ببعض أعم من القتال فإن دفع بعض الناس بعضا ذبا عن منافع الحياة و حفظا لاستقامة حال العيش سنة فطرية جارية بين الناس و السنن الفطرية منتهية إليه تعالى و يشهد به تجهيز الإنسان كسائر الموجودات بأدوات و قوى تسهل له البطش ثم بالفكر الذي يهديه إلى اتخاذ وسائل الدفع و الدفاع عن نفسه أو أي شأن من شئون نفسه مما تتم به حياته و تتوقف عليه سعادته.

و الدفع بالقتال آخر ما يتوسل إليه من الدفع إذا لم ينجع غيره من قبيل آخر الدواء الكي ففيه إقدام على فناء البعض لبقاء البعض و تحمل لمشقة في سبيل راحة سنة جارية في المجتمع الإنساني بل في جميع الموجودات التي لها نفسية ما و استقلال ما.

 

 

 

 ففي الآية إشارة إلى أن القتال في الإسلام من فروع هذه السنة الفطرية الجارية و هي دفع الناس بعضهم بعضا عن شئون حياتهم، و إذا نسب إلى الله سبحانه كل ذلك دفعه الناس بعضهم ببعض حفظا لدينه عن الضيعة.

و إنما اختص انهدام المعابد بالذكر مع أن من المعلوم أنه لو لا هذا الدفع لم يقم أصل الدين على ساقه و انمحت جميع آثاره لأن هذه المعابد و المعاهد هي الشعائر و الأعلام الدالة على الدين المذكرة له الحافظة لصورته في الأذهان.

و قوله: ﴿وَ لَيَنْصُرَنَّ اَللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اَللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ قسم مع تأكيد بالغ على نصره تعالى من ينصره بالقتال ذبا عن الدين الإلهي و لقد صدق الله وعده فنصر المسلمين في حروبهم و مغازيهم فأيدهم على أعدائه و رفع ذكره ما كانوا ينصرونه.

و المعنى أقسم لينصرن الله من ينصره بالدفاع عن دينه إن الله لقوي لا يضعفه أحد و لا يمنعه شي‏ء عما أراد عزيز منيع الجانب لا يتعدى إلى ساحة عزته و لا يعادله شي‏ء في سلطنته و ملكه.

و يظهر من الآية أنه كان في الشرائع السابقة حكم دفاعي في الجملة و إن لم يبين كيفيته.

قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتَوُا اَلزَّكَاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ اَلْمُنْكَرِ إلخ توصيف آخر للذين آمنوا المذكورين في أول الآيات، و هو توصيف المجموع من حيث هو مجموع من غير نظر إلى الأشخاص و المراد من تمكينهم في الأرض إقدارهم على اختيار ما يريدونه من نحو الحياة من غير مانع يمنعهم أو مزاحم يزاحمهم.

يقول تعالى: إن من صفتهم أنهم إن تمكنوا في الأرض و أعطوا الحرية في اختيار ما يستحبونه من نحو الحياة عقدوا مجتمعا صالحا تقام فيه الصلاة و تؤتى فيه الزكاة و يؤمر فيه بالمعروف و ينهى فيه عن المنكر و تخصيص الصلاة من بين الجهات العبادية و الزكاة من بين الجهات المالية بالذكر لكون كل منهما عمدة في بابها.

و إذ كان الوصف للذين آمنوا المذكورين في صدر الآيات و المراد به عقد مجتمع صالح و حكم الجهاد غير خاص بطائفة خاصة فالمراد بهم عامة المؤمنين يومئذ بل عامة المسلمين إلى يوم القيامة و الخصيصة خصيصتهم بالطبع فمن طبع المسلم بما هو مسلم الصلاح و إن كان ربما غشيته الغواشي.

 

 

 

و ليس المراد بهم خصوص المهاجرين بأعيانهم سواء كانت الآيات مكية أو مدنية و إن كان المذكور من جهة المظلومية هو إخراجهم من ديارهم و ذلك لمنافاته عموم الموصوف المذكور في صدر الآيات و عموم حكم الجهاد لهم و لغيرهم قطعا.

على أن المجتمع الصالح الذي عقد لأول مرة في المدينة ثم انبسط فشمل عامة جزيرة العرب في عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو أفضل مجتمع متكون في تاريخ الإسلام تقام فيه الصلاة و تؤتى فيه الزكاة و تؤمر فيه بالمعروف و تنهى فيه عن المنكر مشمول للآية قطعا و كان السبب الأول ثم العامل الغالب فيه الأنصار دون المهاجرين.

و لم يتفق في تاريخ الإسلام للمهاجرين، خاصة أن يعقدوا وحدهم مجتمعا من غير شركة من الأنصار فيقيموا الحق و يميطوا الباطل فيه اللهم إلا أن يقال: إن المراد بهم أشخاص الخلفاء الراشدين أو خصوص علي (عليه السلام) على الخلاف بين أهل السنة و الشيعة، و في ذلك إفساد معنى جميع الآيات.

على أن التاريخ يضبط من أعمال الصدر الأول و خاصة المهاجرين منهم أمورا لا يسعنا أن نسميها إحياء للحق و إماتة للباطل سواء قلنا بكونهم مجتهدين معذورين أم لا فليس المراد توصيف أشخاصهم بل المجموع من حيث هو مجموع.

و قوله: ﴿وَ لِلَّهِ عَاقِبَةُ اَلْأُمُورِ تأكيد لما تقدم من الوعد بالنصر و إظهار المؤمنين على أعداء الدين الظالمين لهم.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ إلى قوله ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ فيه تعزية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن تكذيب قومه له ليس ببدع فقد كذبت أمم قبلهم لأنبيائهم. و إنذار و تخويف للمكذبين بالإشارة إلى ما انتهى إليه تكذيب من قبلهم من الأمم و هو الهلاك بعذاب من الله تعالى.

و قد عد من تلك الأمم قوم نوح و عادا و هم قوم هود و ثمود و هم قوم صالح و قوم إبراهيم و قوم لوط و أصحاب مدين و هم قوم شعيب، و ذكر تكذيب موسى. قيل:

و لم يقل: و قوم موسى لأن قومه بنو إسرائيل و كانوا آمنوا به، و إنما كذبه فرعون و قومه.

و قوله: ﴿فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ الإملاء الإمهال و تأخير الأجل، و النكير الإنكار، و المعنى فأمهلت الكافرين الذين كذبوا رسلهم

 

 

 

 من هذه الأمم ثم أخذتهم و هو كناية عن العقاب فكيف كان إنكاري لهم في تكذيبهم و كفرهم؟ و هو كناية عن بلوغ الإنكار و شدة الأخذ.

قوله تعالى: ﴿فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَ هِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلى‏َ عُرُوشِهَا وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ قرية خاوية على عروشها أي ساقطة جدرانها على سقوفها فهي خربة، و البئر المعطلة الخالية من الواردين و المستقين و شاد القصر أي جصصه و الشيد بالكسر الجص.

و قوله: ﴿فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ظاهر السياق أنه بيان لقوله في الآية السابقة: ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ و قوله: ﴿وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ عطف على قرية.

و المعنى: فكم من قرية أهلكنا أهلها حال كونهم ظالمين فهي خربة ساقطة جدرانها على سقوفها، و كم من بئر معطلة باد النازلون عليها فلا وارد لها و لا مستقي منها، و كم من قصر مجصص هلك سكانها لا يرى لهم أشباح و لا يسمع منهم حسيس، و أصحاب الآبار أهل البدو و أصحاب القصور أهل الحضر.

قوله تعالى: ﴿أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا إلخ، حث و تحضيض على الاعتبار بهذه القرى الهالكة و الآثار المعطلة و القصور المشيدة التي تركتها تلك الأمم البائدة بالسير في الأرض فإن السير فيها ربما بعث الإنسان إلى أن يتفكر في نفسه في سبب هلاكهم و يستحضر الحجج في ذلك فيتذكر أن الذي وقع بهم إنما وقع لشركهم بالله و إعراضهم عن آياته و استكبارهم على الحق بتكذيب الرسل فيكون له قلب يعقل به و يردعه عن الشرك و الكفر هذا إن وسعه أن يستقل بالتفكير.

و إن لم يسعه ذلك بعثه الاعتبار إلى أن يصغي إلى قول المشفق الناصح الذي لا يريد به إلا الخير و عظة الواعظ الذي يميز له ما ينفعه مما يضره و لا عظة ككتاب الله و لا ناصح كرسوله فيكون له أذن يسمع بها ما يهتدي به إلى سعادته.

و من هنا يظهر وجه الترديد في الآية بين القلب و الأذن من غير تعرض للبصر و ذلك لأن الترديد في الحقيقة بين الاستقلال في التعقل و تمييز الخير من الشر و النافع من الضار و بين الاتباع لمن يجوز اتباعه و هذان شأن القلب و الأذن.

ثم لما كان المعنيان جميعا التعقل و السمع في الحقيقة من شأن القلب أي

 

 

 

 النفس المدركة فهو الذي يبعث الإنسان إلى متابعة ما يعقله أو سمعه من ناصح مشفق عد إدراك القلب لذلك رؤية له و مشاهدة منه، و لذلك عد من لا يعقل و لا يسمع أعمى القلب ثم بولغ فيه بأن حقيقة العمى هي عمى القلب دون عمى العين لأن الذي يعمى بصره يمكنه أن يتدارك بعض منافعه الفائتة بعصا يتخذها أو بهاد يأخذه بيده و أما القلب فلا بدل له يتسلى به، و هو قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى اَلْأَبْصَارُ وَ لَكِنْ تَعْمَى اَلْقُلُوبُ اَلَّتِي فِي اَلصُّدُورِ .

و جعل الصدر ظرفا للقلب من المجاز في النسبة، و في الكلام مجاز آخر ثان من هذا القبيل و هو نسبة العقل إلى القلب و هو للنفس، و قد تقدم التنبيه عليه مرارا.

قوله تعالى: ﴿وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَ لَنْ يُخْلِفَ اَللَّهُ وَعْدَهُ وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ كان القوم يكذبون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إذا أخبرهم أن الله سبحانه وعده أن يعذبهم إن لم يؤمنوا به فكانوا يستعجلونه بالعذاب استهزاء به و تعجيزا له قائلين: متى هذا الوعد؟ فرد الله عليهم بقوله: ﴿وَ لَنْ يُخْلِفَ اَللَّهُ وَعْدَهُ فإن كان المراد بالعذاب عذاب مشركي مكة فالذي وعدهم من العذاب هو ما ذاقوه يوم بدر و إن كان المراد به ما يقضى به بين النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و بين أمته بعذاب موعود لم ينزل بعد و قد أخبر الله عنه في قوله: ﴿وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ يونس: ٤٧ إلى آخر الآيات.

و قوله: ﴿وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ حكم بتساوي اليوم الواحد و الألف سنة عند الله سبحانه فلا يستقل هذا و لا يستكثر ذلك حتى يتأثر من قصر اليوم الواحد و طول الألف سنة فليس يخاف الفوت حتى يعجل لهم العذاب بل هو حليم ذو أناة يمهلهم حتى يستكملوا دركات شقائهم ثم يأخذهم فيما قدر لهم من أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون، و لذا عقب الكلام بقوله في الآية التالية: ﴿وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَ هِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ .

و قوله: ﴿وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ رد لاستعجالهم بالعذاب بأن الله يستوي عنده قليل الزمان و كثيره، كما أن قوله: ﴿وَ لَنْ يُخْلِفَ اَللَّهُ وَعْدَهُ تسلية و تأييد للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و رد لتكذيبهم له فيما أخبرهم به من وعد الله و تعجيزهم له و استهزائهم به.

 

 

 

 و قيل: معنى قوله: ﴿وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ إن يوما من أيام الآخرة التي سيعذبون فيها يعدل ألف سنة من أيام الدنيا التي يعدونها. و قيل: المراد أن يوما لهم و هم معذبون عند ربهم يعدل في الشدة ألف سنة يعذبون فيها من الدنيا.

و المعنيان لا يلائمان صدر الآية و لا الآية التالية كما هو ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَ هِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ الآية كما مر متممة لقوله: ﴿وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ بمنزلة الشاهد على صدق المدعى، و المعنى: قليل الزمان و كثيره عند ربك سواء و قد أملى لكثير من القرى الظالمة و أمهلها ثم أخذها بعد مهل.

و قوله: ﴿وَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ بيان لوجه عدم تعجيله العذاب لأنه لما كان مصير كل شي‏ء إليه فلا يخاف الفوت حتى يأخذ الظالمين بعجل.

و قد ظهر بما مر أن الآية ليست تكرارا لقوله سابقا: ﴿فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ إلخ، فلكل من الآيتين مفادها.

و في الآية التفات من الغيبة إلى التكلم وحده لأن الكلام فيها في صفة من صفاته تعالى و هو الحلم و المطلوب بيان أن الله سبحانه هو خصمهم بنفسه إذ خاصموا نبيه.

قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ إلى قوله ﴿أَصْحَابُ اَلْجَحِيمِ أمر بإعلام الرسالة بالإنذار و بيان ما للإيمان به و العمل الصالح من الأجر الجميل و هو المغفرة بالإيمان و الرزق الكريم و هو الجنة بما فيها من النعيم، بالعمل الصالح، و ما للكفر و الجحود من التبعة السيئة و هي صحابة الجحيم من غير مفارقة.

و قوله: ﴿سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ السعي‏ الإسراع في المشي و هو كناية عن بذل الجهد في أمر آيات الله لإبطالها و إطفاء نورها بمعاجزة، الله و التعبير بلفظ المتكلم مع الغير رجوع في الحقيقة إلى السياق السابق بعد إيفاء الالتفات في الآية السابقة أعني قوله: ﴿أَمْلَيْتُ لَهَا إلخ.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى اَلشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ إلخ، التمني‏ تقدير الإنسان وجود ما يحبه سواء كان ممكنا أو ممتنعا كتمني الفقير أن يكون غنيا و من لا ولد له أن يكون ذا ولد، و تمني الإنسان أن يكون له بقاء لا فناء معه و أن يكون له جناحان يطير بهما، و يسمى صورته الخيالية

 

 

 

 التي يلتذ بها أمنية، و الأصل في معناه المني بالفتح فالسكون بمعنى التقدير، و قيل:

ربما جاء بمعنى القراءة و التلاوة يقال: تمنيت الكتاب أي قرأته. و الإلقاء في الأمنية المداخلة فيها بما يخرجها عن صرافتها و يفسد أمرها.

و معنى الآية على أول المعنيين و هو كون التمني هو تمني القلب: و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي إلا إذا تمنى و قدر بعض ما يتمناه من توافق الأسباب على تقدم دينه و إقبال الناس عليه و إيمانهم به ألقى الشيطان في أمنيته و داخل فيها بوسوسة الناس و تهييج الظالمين و إغراء المفسدين فأفسد الأمر على ذلك الرسول أو النبي و أبطل سعيه فينسخ الله و يزيل ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته بإنجاح سعي الرسول أو النبي و إظهار الحق و الله عليم حكيم.

و المعنى: على ثاني المعنيين و هو كون التمني بمعنى القراءة و التلاوة: و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي إلا إذا تلا و قرأ آيات الله ألقى الشيطان شبها مضلة على الناس بالوسوسة ليجادلوه بها و يفسدوا على المؤمنين إيمانهم فيبطل الله ما يلقيه الشيطان من الشبه و يذهب به بتوفيق النبي لرده أو بإنزال ما يرده.

و في الآية دلالة واضحة على اختلاف معنى النبوة و الرسالة لا بنحو العموم و الخصوص مطلقا كما اشتهر بينهم أن الرسول هو من بعث و أمر بالتبليغ و النبي من بعث سواء أمر بالتبليغ أم، لا إذ لو كان كذلك لكان من الواجب أن يراد بقوله في الآية: ﴿وَ لاَ نَبِيٍّ غير الرسول أعني من لم يؤمر بالتبليغ، و ينافيه قوله: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا .

و قد قدمنا في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب ما يدل من روايات أئمة أهل البيت (عليه السلام) أن الرسول هو من ينزل عليه الملك بالوحي فيراه و يكلمه و النبي هو من يرى المنام و يوحى إليه فيه، و قد استفدناه مضمون هذه الروايات من قوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ فِي اَلْأَرْضِ مَلاَئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً إسراء: ٩٥ في الجزء الثالث عشر من الكتاب.

و أما سائر ما قيل في الفرق بين الرسالة و النبوة كقول من قال: إن الرسول من بعث بشرع جديد و النبي أعم منه و ممن جاء مقررا لشرع سابق ففيه أنا قد أثبتنا في مباحث النبوة أن الشرائع الإلهية لا تزيد على خمسة و هي شرائع نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد ص و قد صرح القرآن على رسالة جمع كثير

 

 

 

منهم غير هؤلاء. على أن هذا القول لا دليل له.

و قول من قال: إن الرسول من كان له كتاب و النبي بخلافه و قول من قال:

إن الرسول من له كتاب و نسخ في الجملة و النبي بخلافه، و يرد على القولين نظير ما ورد على القول الأول.

و في قوله: ﴿فَيَنْسَخُ اَللَّهُ مَا يُلْقِي اَلشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اَللَّهُ آيَاتِهِ التفات من التكلم بالغير إلى الغيبة، و الوجه فيه العناية بذكر لفظ الجلالة و إسناد النسخ و الإحكام إلى من لا يقوم له شي‏ء، و لذلك بعينه أعاد لفظ الجلالة ثانيا مع أنه من وضع الظاهر موضع المضمر و منه أيضا إعادة لفظ الشيطان ثانيا دون ضميره ليشار إلى أن الملقي هو الشيطان الذي لا يعبأ به و بكيده في قباله تعالى، و كان الظاهر أن يقال: فينسخ ما يلقيه ثم يحكم آياته.

قوله تعالى: ﴿لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي اَلشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ إلخ، مرض القلب عدم استقامة حاله في التعقل بأن لا يذعن بما من شأنه أن يذعن به من الحق و هو الشك و الارتياب، و قساوة القلب صلابته و غلظه مأخوذ من الحجر القاسي أي الصلب. و صلابته بطلان عواطفه الرقيقة المعينة في إدراك المعاني الحقة كالخشوع و الرحمة و التواضع و المحبة فالقلب المريض سريع التصور للحق بطي‏ء الإذعان به، و القلب القسي بطيئهما معا، و كلاهما سريع القبول للوساوس الشيطانية.

و الإلقاءات الشيطانية التي تفسد الأمور على الحق و أهله و تبطل مساعي الرسل و الأنبياء دون أن تؤثر أثرها و إن كانت مستندة إلى الشيطان نفسه لكنها كسائر الآثار لما كانت واقعة في ملكه تعالى، و لا يقع أثر من مؤثر أو فعل من فاعل إلا بإذنه، و لا يقع شي‏ء بإذنه إلا استند إليه استنادا ما بمقدار الإذن، و لا يستند إليه إلا ما فيه خير لا يخلو من مصلحة و غاية.

لذا ذكر سبحانه في هذه الآية أن لهذه الإلقاءات الشيطانية مصلحة و هي أنها محنة يمتحن بها الناس عامة و الامتحان من النواميس الإلهية العامة الجارية في العالم الإنساني و يتوقف عليه تلبس السعيد بسعادته و الشقي بشقائه، و فتنة يفتتن بها الذين في قلوبهم مرض و القاسية قلوبهم خاصة فإن تلبس الأشقياء بكمال شقائهم من التربية الإلهية المقصودة في نظام الخلقة، قال تعالى: ﴿كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاَءِ وَ هَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ

 

 

 

 وَ مَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً إسراء: ٢٠.

و هذا معنى قوله: ﴿لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي اَلشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ فاللام في ﴿لِيَجْعَلَ للتعليل يعلل بها إلقاء الشيطان في أمنية الرسول و النبي أي يفعل الشيطان كذا ليفعل الله كذا و معناه أنه مسخر لله سبحانه لغرض امتحان العباد و فتنة أهل الشك و الجحود و غرورهم.

و قد تبين أن المراد بالفتنة الابتلاء و الامتحان الذي ينتج الغرور و الضلال و بالذين في قلوبهم مرض أهل الشك من الكفار و بالقاسية قلوبهم أهل الجحود و العناد منهم.

و قوله: ﴿وَ إِنَّ اَلظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ الشقاق و المشاقة المباينة و المخالفة و توصيفه بالبعد توصيف له بحال موصوفه، و المعنى: و إن الظالمين و هم أهل الجحود على ما يعطيه السياق أو هم و أهل الشك جميعا لفي مباينة و مخالفة بعيد صاحبها من الحق و أهله.

قوله تعالى: ﴿وَ لِيَعْلَمَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ إلخ، المتبادر من السياق أنه عطف على قوله: ﴿لِيَجْعَلَ و تعليل لقوله:

﴿فَيَنْسَخُ اَللَّهُ مَا يُلْقِي اَلشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اَللَّهُ آيَاتِهِ و الضمير في ﴿أَنَّهُ على هذا لما يتمناه الرسول و النبي المفهوم من قوله ﴿إِذَا تَمَنَّى إلخ، و لا دليل على إرجاعه إلى القرآن.

و المعنى: فينسخ الله ما يلقيه الشيطان ثم يحكم آياته ليعلم الذين أوتوا العلم بسبب ذاك النسخ و الأحكام أن ما تمناه الرسول أو النبي هو الحق من ربك لبطلان ما يلقيه الشيطان فيؤمنوا به فتخبت أي تلين و تخشع له قلوبهم.

و يمكن أن يكون قوله ﴿وَ لِيَعْلَمَ معطوفا على محذوف و مجموع المعطوف و المعطوف عليه تعليلا لما بينه في الآية السابقة من جعله تعالى هذا الإلقاء فتنة للذين في قلوبهم مرض و القاسية قلوبهم.

و المعنى: إنما بينا هذه الحقيقة لغاية كذا و كذا و ليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك «إلخ» على حد قوله: ﴿وَ تِلْكَ اَلْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ اَلنَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا آل عمران: ١٤٠، و هو كثير الورود في القرآن.

و قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لَهَادِ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِلى‏َ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ في مقام التعليل لكون علم الذين أوتوا العلم غاية مترتبة على فعله تعالى فيفيد أنه تعالى إنما فعل ما فعل ليعلموا

 

 

 

 أن الأمر حق لأنه هاد يريد أن يهديهم فيهديهم بهذا التعليم إلى صراط مستقيم.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ يَزَالُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ إلخ الآية كما ترى تخبر عن حرمان هؤلاء الذين كفروا من الإيمان مدى حياتهم فليس المراد بهم مطلق الكفار لقبول بعضهم الإيمان بعد الكفر فالمراد به عدة من صناديد قريش الذين لم يوفقوا للإيمان ما عاشوا كما في قوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ البقرة: ٦.

و عقم اليوم كونه بحيث لا يخلف يوما بعده و هو يوم الهلاك أو يوم القيامة، و المراد به في الآية على ما يعطيه سياق الآية الثالثة يوم القيامة.

و المعنى و يستمر الذين كفروا في شك من القرآن حتى يأتيهم يوم القيامة أو يأتيهم عذاب يوم القيامة و هو يوم يأتي بغتة لا يمهلهم حتى يحتالوا له بشي‏ء و لا يخلف بعده يوما حتى يقضى فيه ما فات قبله.

و إنما ردد بين يوم القيامة و بين عذابه لأنهم يعترفون عند مشاهدة كل منهما بالحق و يطيح عنهم الريب و المرية قال تعالى: ﴿قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ اَلرَّحْمَنُ وَ صَدَقَ اَلْمُرْسَلُونَ يس: ٥٢، و قال: ﴿وَ يَوْمَ يُعْرَضُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى اَلنَّارِ أَ لَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلى‏َ وَ رَبِّنَا الأحقاف: ٣٤.

و قد ظهر بما تقدم أن تقييد اليوم تارة بكونه بغتة و تارة بالعقم للدلالة على كونه بحيث لا ينفع معها حيلة و لا يقع بعدها تدارك لما فات قبله.

قوله تعالى: ﴿اَلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ إلى قوله ﴿عَذَابٌ مُهِينٌ قد تقدم مرارا أن المراد بكون الملك يومئذ لله ظهور كون الملك له تعالى لأن الملك له دائما و كذا ما ورد من نظائره من أوصاف يوم القيامة في القرآن ككون الأمر يومئذ لله و كون القوة يومئذ لله و هكذا.

و لسنا نعني به أن المراد بالملك مثلا في الآية ظهور الملك مجازا بل نعني به أن الملك قسمان ملك حقيقي حق و ملك مجازي صوري و للأشياء ملك مجازي صوري ملكها الله ذلك و له تعالى مع ذلك الملك الحق بحقيقة معناه حتى إذا كان يوم القيامة ارتفع كل ملك صوري عن الشي‏ء المتلبس به و لم يبق من الملك إلا حقيقته و هو لله وحده فمن خاصة يوم القيامة أن الملك يومئذ لله و على هذا القياس.

 

 

 

 و قوله: ﴿يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أي و لا حاكم غيره لأن الحكم من فروع الملك فإذا لم يكن يومئذ لأحد نصيب في الملك لم يكن له نصيب في الحكم.

و قوله: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ اَلنَّعِيمِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا و هؤلاء المعاندون المستكبرون ﴿فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ بيان لحكمه تعالى.

(بحث روائي)

 في المجمع، روي عن الباقر (عليه السلام) أنه قال: لم يؤمر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بقتال و لا أذن له فيه حتى نزل جبرئيل بهذه الآية: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا و قلده سيفا.

 و فيه، :كان المشركون يؤذون المسلمين. لا يزال يجي‏ء مشجوج و مضروب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و يشكون ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فيقول لهم: اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فأنزل الله عليه هذه الآية بالمدينة. و هي أول آية نزلت في القتال.

 أقول: و روى في الدر المنثور، عن جم غفير من أرباب الجوامع، عن ابن عباس و غيره" :أنها أول آية نزلت في القتال. و ما اشتمل عليه بعض هذه الروايات أنها نزلت في المهاجرين من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) خاصة إن صحت الرواية فهو اجتهاد من الراوي لما مر أن الآية مطلقة و أنه لا يعقل توجيه حكم القتال إلى أشخاص من الأمة بأعيانهم و هو حكم عام.

و نظير الكلام جار في قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ إلخ بل و في قوله: ﴿اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إلخ على ما تقدم في البيان.

 و فيه،: في قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ و قال أبو جعفر (عليه السلام):

نزلت في المهاجرين و جرت في آل محمد الذين أخرجوا من ديارهم و أخيفوا.

 أقول: و على ذلك يحمل‏ ما في المناقب، عنه (عليه السلام): في الآية: نحن. نزلت فينا

 و في روضة الكافي عنه (عليه السلام): جرت في الحسين (عليه السلام).

 و كذا ما في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ اَلْمُنْكَرِ عنه (عليه السلام): نحن هم. و كذا ما في الكافي، و المعاني، و كمال الدين، عن الصادق و الكاظم (عليه السلام):

 

 

 

 في قوله تعالى: ﴿وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ قالا: البئر المعطلة الإمام الصامت و القصر المشيد الإمام الناطق. و في الدر المنثور، أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول و أبو نصر السجزي في الإبانة و البيهقي في شعب الإيمان و الديلمي في مسند الفردوس عن عبد الله بن جراد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ليس الأعمى من يعمى بصره و لكن الأعمى من تعمى بصيرته.

 و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): في حديث النبي الذي يرى في منامه و يسمع الصوت و لا يعاين الملك، و الرسول الذي يسمع الصوت و يرى في المنام و يعاين الملك.

أقول: و في هذا المعنى روايات أخرى. و المراد بمعاينة الملك على ما في غيره من الروايات نزول الملك عليه و ظهوره له و تكليمه بالوحي، و قد تقدم بعض هذه الروايات في أبحاث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال :قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بمكة النجم فلما بلغ هذا الموضع ﴿أَ فَرَأَيْتُمُ اَللاَّتَ وَ اَلْعُزَّى وَ مَنَاةَ اَلثَّالِثَةَ اَلْأُخْرى‏َ ألقى الشيطان على لسانه «تلك الغرانيق العلى و إن شفاعتهن لترتجى» قالوا: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد و سجدوا.

ثم جاء جبريل بعد ذلك قال: أعرض علي ما جئتك به فلما بلغ «تلك الغرانيق العلى و إن شفاعتهن لترتجى» قال جبريل لم آتك بهذا. هذا من الشيطان فأنزل الله ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لاَ نَبِيٍّ . الآية. أقول: الرواية مروية بطرق عديدة عن ابن عباس و جمع من التابعين و قد صححها جماعة منهم الحافظ ابن حجر.

لكن الأدلة القطعية على عصمته (ص) تكذب متنها و إن فرضت صحة سندها فمن الواجب تنزيه ساحته المقدسة عن مثل هذه الخطيئة مضافا إلى أن الرواية تنسب إليه (ص) أشنع الجهل و أقبحه فقد تلى «تلك الغرانيق العلى و إن شفاعتهن لترتجى» و جهل أنه ليس من كلام الله و لا نزل به جبريل، و جهل أنه كفر صريح يوجب الارتداد و دام على جهة حتى سجد و سجدوا في آخر السورة و لم يتنبه ثم دام على جهله

 

 

 

 حتى نزل عليه جبريل و أمره أن يعرض عليه السورة فقرأها عليه و أعاد الجملتين و هو مصر على جهله حتى أنكره عليه جبريل ثم أنزل عليه آية تثبت نظير هذا الجهل الشنيع و الخطيئة الفضيحة لجميع الأنبياء و المرسلين و هي قوله: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى اَلشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ .

و بذلك يظهر بطلان ما ربما يعتذر دفاعا عن الحديث بأن ذلك كان سبقا من لسان دفعه بتصرف من الشيطان سهوا منه (عليه السلام) و غلطا من غير تفطن. فلا متن الحديث على ما فيه من تفصيل الواقعة ينطبق على هذه المعذرة، و لا دليل العصمة يجوز مثل هذا السهو و الغلط.

على أنه لو جاز مثل هذا التصرف من الشيطان في لسانه (ص) بإلقاء آية أو آيتين في القرآن الكريم لارتفع الأمن عن الكلام الإلهي فكان من الجائز حينئذ أن يكون بعض الآيات القرآنية من إلقاء الشيطان ثم يلقي نفس هذه الآية ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لاَ نَبِيٍّ الآية فيضعه في لسان النبي و ذكره فيحسبها من كلام الله الذي نزل به جبريل كما حسب حديث الغرانيق كذلك فيكشف بهذا عن بعض ما ألقاه و هو حديث الغرانيق سترا على سائر ما ألقاه.

أو يكون حديث الغرانيق من الكلام الله، و آية ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لاَ نَبِيٍّ إلخ، و جميع ما ينافي الوثنية من كلام الشيطان و يستر بما ألقاه من الآية و أبطل من حديث الغرانيق على كثير من إلقاءاته في خلال الآيات القرآنية، و بذلك يرتفع الاعتماد و الوثوق بكتاب الله من كل جهة و تلغو الرسالة و الدعوة النبوية بالكلية جلت ساحة الحق من ذلك.

 [سورة الحج (٢٢): الآیات ٥٨ الی ٦٦]

﴿وَ اَلَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اَللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَ إِنَّ اَللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ اَلرَّازِقِينَ ٥٨ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَ إِنَّ اَللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ٥٩ ذَلِكَ وَ مَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا

 

 

 

﴿عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اَللَّهُ إِنَّ اَللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ٦٠ ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهَارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهَارَ فِي اَللَّيْلِ وَ أَنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ٦١ ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ اَلْبَاطِلُ وَ أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ ٦٢ أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ اَلْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اَللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ٦٣ لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنَّ اَللَّهَ لَهُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ ٦٤ أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ اَلْفُلْكَ تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ يُمْسِكُ اَلسَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى اَلْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اَللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ٦٥ وَ هُوَ اَلَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ٦٦

(بيان)

الآيات تعقب الغرض السابق و تبين ثواب الذين هاجروا ثم قتلوا جهادا في سبيل الله أو ماتوا، و فيها بعض التحريض على القتال و الوعد بالنصر كما يدل عليه قوله:

﴿ذَلِكَ وَ مَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اَللَّهُ الآية.

و قد اختصت هذه الآيات بخصوصية لا توجد في جميع القرآن الكريم إلا فيها فهي ثمان آيات متوالية ختمت كل منها باسمين من أسماء الله الحسنى وراء لفظ الجلالة و قد اجتمعت فيها بناء على اسمية الضمير «هو» ستة عشر اسما و إن الله لهو خير الرازقين العليم الحليم العفو الغفور السميع البصير العلي الكبير اللطيف الخبير الغني الحميد الرءوف الرحيم، ثم ذكر في الآية التاسعة أنه تعالى يحيي و يميت و في أثنائها أنه

 

 

 

 الحق و أن له ما في السماوات و الأرض و هي في معنى أربعة أسماء أعني المحيي المميت الحق المالك أو الملك فتلك عشرون اسما من أسمائه اجتمعت في الآيات الثمان على ألطف وجه و أبدعه.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اَللَّهُ رِزْقاً حَسَناً لما ذكر إخراج المهاجرين من ديارهم ظلما عقبه بذكر ما يثيبهم به على مهاجرتهم و محنتهم في سبيل الله و هو وعد حسن برزق حسن.

و قد قيد الهجرة بكونها في سبيل الله لأن المثوبة إنما تترتب على صالح العمل، و إنما يكون العمل صالحا عند الله بخلوص النية فيه و كونه في سبيله لا في سبيل غيره من مال أو جاه أو غيرهما من المقاصد الدنيوية، و بمثل ذلك يتقيد قوله: ﴿ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا أي قتلوا في سبيل الله أو ماتوا و قد تغربوا في سبيل الله.

و قوله: ﴿وَ إِنَّ اَللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ اَلرَّازِقِينَ ختم للآية يعلل به ما ذكر فيها من الرزق الحسن و هو النعمة الأخروية إذ موطنها بعد القتل و الموت، و في الآية إطلاق الرزق على نعم الجنة كما في قوله: ﴿أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ آل عمران: ١٦٩.

قوله تعالى: ﴿لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَ إِنَّ اَللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ المدخل‏ بضم الميم و فتح الخاء اسم مكان من الإدخال و احتمال كونه مصدرا ميميا لا يناسب السياق تلك المناسبة.

و توصيف هذا المدخل و هو الجنة بقوله: ﴿يَرْضَوْنَهُ و الرضا مطلق، دليل على اشتمالها على أقصى ما يريده الإنسان كما قال: ﴿لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُنَ الفرقان: ١٦.

و قوله: ﴿لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ بيان لقوله: ﴿لَيَرْزُقَنَّهُمُ اَللَّهُ رِزْقاً حَسَناً و إدخاله إياهم مدخلا يرضونه و لا يكرهونه على الرغم من إخراج المشركين إياهم إخراجا يكرهونه و لا يرضونه و لذا علله بقوله: ﴿وَ إِنَّ اَللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ أي عليم بما يرضيهم فيعده لهم إعدادا حليم فلا يعاجل العقوبة لأعدائهم الظالمين لهم.

قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَ مَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اَللَّهُ إِنَّ اَللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ذلك خبر لمبتدإ محذوف أي الأمر ذلك الذي أخبرناك به و ذكرناه لك، و العقاب مؤاخذة الإنسان بما يكرهه بإزاء فعله ما لا يرتضيه المعاقب و إنما سمي

 

 

 

 عقابا لأنه يأتي عقيب الفعل.

و العقاب بمثل العقاب كناية عن المعاملة بالمثل و لما لم يكن هذه المعاملة بالمثل حسنا إلا فيما كان العقاب الأول من غير حق قيده بكونه بغيا فعطف قوله: ﴿بُغِيَ عَلَيْهِ بثم عليه.

و قوله: ﴿لَيَنْصُرَنَّهُ اَللَّهُ ظاهر السياق و المقام مقام الإذن في الجهاد أن المراد بالنصر هو إظهار المظلومين على الظالمين الباغين و تأييدهم عليهم في القتال لكن يمكن أن يستظهر من مثل قوله: ﴿وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً إسراء: ٣٣ أن المراد بالنصر هو تشريع حكم للمظلوم يتدارك به ما وقع عليه من وصمة الظلم و البغي فإن في إذنه أن يعامل الظالم الباغي عليه بمثل ما فعل بسطا ليده على من بسط عليه اليد.

و بهذا يتضح معنى تعليل النصر بقوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ فإن الإذن و الإباحة في موارد الاضطرار و الحرج و ما شابه ذلك من مقتضيات صفتي العفو و المغفرة كما تقدم مرارا في أمثال قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ المائدة: ٣ و قد أوضحنا ذلك في المجازاة و العفو في آخر الجزء السادس من الكتاب.

و المعنى على هذا و من عامل من عاقبه بغيا عليه بمثل ما عاقب نصره الله بإذنه فيه و لم يمنعه عن المعاملة بالمثل لأن الله عفو غفور يمحو ما تستوجبه هذه المعاملة و الانتقام من المساءة و التبعة كأن العقاب و إيصال المكروه إلى الناس مبغوض في نظام الحياة غير أن الله سبحانه يمحو ما فيه من المبغوضية و يستر على أثره السيئ إذا كان عقابا من مظلوم لظالمه الباغي عليه بمثل ما بغي عليه، فيجيز له ذلك و لا يمنعه بالتحريم و الحظر.

و بذلك يظهر أيضا مناسبة ذكر وصف الحلم في آخر الآية السابقة ﴿ إِنَّ اَللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ و يظهر أيضا أن ﴿ثُمَّ في قوله: ﴿ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ للتراخي بحسب الذكر لا بحسب الزمان.

و أما ما أوردوه في معنى الآية: و من جازى الجاني بمثل ما جنى به عليه ثم

 

 

 

 بغي عليه بالمعاودة إلى العقاب لينصرنه الله على من بغي عليه إن الله لعفو غفور لمن ارتكبه من العقاب إذ كان تركا للأولى لأن الأولى هو الصبر و العفو عن الجاني كما قال تعالى: ﴿وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى‏َ ، و قال: ﴿فَمَنْ عَفَا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اَللَّهِ ، و قال: ﴿وَ لَمَنْ صَبَرَ وَ غَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ الشورى: ٤٣.

ففيه أولا: أنه لما أخذت «ثم» للتراخي بحسب الزمان أفاد كون العقاب غير البغي و مطلق العقاب أعم من أن يكون جناية، و عمومها للجناية و غيرها يفسد معنى الكلام، و إرادة خصوص الجناية منه - كما فسر - إرادة معنى لا دليل عليه من جهة اللفظ.

و ثانيا: أنه فسر النصرة بالنصرة التكوينية دون التشريعية فكان إخبارا عن نصره تعالى المظلوم على الظالم إذا قابله بالمجازاة على جنايته ثم بغيه و الواقع ربما يتخلف عن ذلك.

و ثالثا: أن قتال المشركين و الجهاد في سبيل الله من مصاديق هذه الآية قطعا، و لازم ما ذكر أن يكون تركه بالعفو عنهم أولى من فعله و هو واضح الفساد.

قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهَارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهَارَ فِي اَللَّيْلِ وَ أَنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ إيلاج‏ كل من الليل و النهار في الآخر حلوله محل الآخر كورود ضوء الصباح على ظلمة الليل كشي‏ء يلج في شي‏ء ثم اتساعه و إشغال النهار من الفضاء ما أشغله الليل، و ورود ظلمة المساء على نور النهار كشي‏ء يلج في شي‏ء ثم اتساعها و شمول الليل.

و المشار إليه بذلك بناء على ما تقدم من معنى النصر ظهور المظلوم بعقابه على الظالم الباغي عليه، و المعنى أن ذلك النصر بسبب أن من سنة الله أن يظهر أحد المضادين و المتزاحمين على الآخر كما يولج الليل في النهار و يولج النهار في الليل و أن الله سميع لأقوالهم بصير بأعمالهم فينصر المظلوم و هو مهضوم الحق بعينه و ما يسأله بلسان حاله في سمعه.

و ذكر في معنى الآية وجوه أخر غير منطبقة على السياق رأينا الصفح عن ذكرها أولى.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ اَلْبَاطِلُ وَ أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ الإشارة بذلك إلى النصر أو إليه و إلى ما ذكر من سببه.

و الحصر أن في قوله: ﴿بِأَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ و قوله: ﴿وَ أَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ اَلْبَاطِلُ إما بمعنى أنه تعالى حق لا يشوبه باطل و أن ما يدعون من دونه و هي الأصنام باطل لا يشوبه حق فهو قادر على أن يتصرف في تكوين الأشياء و أن يحكم لها و عليها بما شاء.

و إما بمعنى أنه تعالى حق بحقيقة معنى الكلمة مستقلا بذلك لا حق غيره إلا ما حققه هو، و أن ما يدعون من دونه و هي الأصنام بل كل ما يركن إليه و يدعى للحاجة من دون الله هو الباطل لا غيره إذ مصداق غيره هو الله سبحانه فافهم ذلك، و إنما كان باطلا إذ كان لا حقية له باستقلاله.

و المعنى على أي تقدير أن ذلك التصرف في التكوين و التشريع من الله سبحانه بسبب أنه تعالى حق يتحقق بمشيته كل حق غيره، و أن آلهتهم من دون الله و كل ما يركن إليه ظالم باغ من دونه باطل لا يقدر على شي‏ء.

و قوله: ﴿وَ أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ علوه تعالى بحيث يعلو و لا يعلى عليه و كبره بحيث لا يصغر لشي‏ء بالهوان و المذلة من فروع كونه حقا أي ثابتا لا يعرضه زوال و موجودا لا يمسه عدم.

قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ اَلْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اَللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ استشهاد على عموم القدرة المشار إليها آنفا بإنزال الماء من السماء و المراد بها جهة العلو و صيرورة الأرض بذلك مخضرة.

و قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ تعليل لجعل الأرض مخضرة بإنزال الماء من السماء فتكون نتيجة هذا التعليل و ذاك الاستشهاد كأنه قيل: إن الله ينزل كذا فيكون كذا لأنه لطيف خبير و هو يشهد بعموم قدرته.

قوله تعالى: ﴿لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنَّ اَللَّهَ لَهُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ ظاهره أنه خبر بعد خبر لأن فهو تتمة التعليل في الآية السابقة كأنه قيل: إن الله لطيف خبير مالك لما في السماوات و ما في الأرض يتصرف في ملكه كما يشاء بلطف و خبرة، و يمكن أن يكون استئنافا يفيد تعليلا باستقلاله.

 

 

 

 و قوله: ﴿وَ إِنَّ اَللَّهَ لَهُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ يفيد عدم حاجته إلى شي‏ء من تصرفاته بما هو غني على الإطلاق و هي مع ذلك جميلة نافعة يحمد عليها بما هو حميد على الإطلاق فمفاد الاسمين معا أنه تعالى لا يفعل إلا ما هو نافع لكن لا يعود نفعه إليه بل إلى الخلق أنفسهم.

قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي اَلْأَرْضِ إلخ، استشهاد آخر على عموم القدرة، و المقابلة بين تسخير ما في الأرض و تسخير الفلك في البحر يؤيد أن المراد بالأرض البر مقابل البحر، و على هذا فتعقيب الجملتين بقوله: ﴿وَ يُمْسِكُ اَلسَّمَاءَ إلخ، يعطي أن محصل المراد أن الله سخر لكم ما في السماء و الأرض برها و بحرها.

و المراد بالسماء جهة العلو و ما فيها فالله يمسكها أن تقع على الأرض إلا بإذنه مما يسقط من الأحجار السماوية و الصواعق و نحوها.

و قد ختم الآية بصفتي الرأفة و الرحمة تتميما للنعمة و امتنانا على الناس.

قوله تعالى: ﴿وَ هُوَ اَلَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ سياق الماضي في ﴿أَحْيَاكُمْ يدل على أن المراد به الحياة الدنيا و أهمية المعاد بالذكر تستدعي أن يكون المراد من قوله: ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ الحياة الآخرة يوم البعث دون الحياة البرزخية.

و هذه الحياة ثم الموت ثم الحياة من النعم الإلهية العظمى ختم بها الامتنان و لذا عقبها بقوله: ﴿إِنَّ اَلْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ .

(بحث روائي)

 في جامع الجوامع، :في قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ هَاجَرُوا إلى قوله ﴿لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ روي أنهم قالوا: يا رسول الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير و نحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا أن متنا معك؟ فأنزل الله هاتين الآيتين.

 و في المجمع، :في قوله تعالى: ﴿وَ مَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ الآية روي أن الآية نزلت في قوم من مشركي مكة لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فقالوا: إن أصحاب محمد لا يقاتلون في هذا الشهر فحملوا عليهم فناشدهم المسلمون أن لا يقاتلوهم في الشهر الحرام فأبوا فأظفر الله المسلمين بهم :

 

 

 

أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم عن مقاتل و أثر الضعف ظاهر عليه فإن المشركين كانوا يحرمون الأشهر الحرم، و قد تقدم في قوله تعالى: ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلشَّهْرِ اَلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ الآية: البقرة - ٢١٧، في الجزء الثاني من الكتاب من الروايات في قصة عبد الله بن جحش و أصحابه ما يزيد في ضعف هذه الرواية.

[سورة الحج (٢٢): الآیات ٦٧ الی ٧٨]

﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي اَلْأَمْرِ وَ اُدْعُ إِلى‏ رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى‏ هُدىً مُسْتَقِيمٍ ٦٧ وَ إِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ٦٨ اَللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ٦٩ أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيرٌ ٧٠ وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَ مَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ٧١ وَ إِذَا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَ فَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ اَلنَّارُ وَعَدَهَا اَللَّهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ ٧٢ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَ لَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ اَلذُّبَابُ شَيْئاً لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ اَلطَّالِبُ وَ اَلْمَطْلُوبُ ٧٣ مَا قَدَرُوا اَللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اَللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ٧٤ اَللَّهُ يَصْطَفِي

 

 

 

﴿مِنَ اَلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَ مِنَ اَلنَّاسِ إِنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ٧٥ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ إِلَى اَللَّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ ٧٦ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِرْكَعُوا وَ اُسْجُدُوا وَ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ اِفْعَلُوا اَلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ٧٧ وَ جَاهِدُوا فِي اَللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اِجْتَبَاكُمْ وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هَذَا لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى اَلنَّاسِ فَأَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتُوا اَلزَّكَاةَ وَ اِعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ اَلْمَوْلى‏ وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ ٧٨  

(بيان)

الآيات تأمره (ص) بالدعوة و تبين أمورا من حقائق الدعوة و أباطيل الشرك ثم تأمر المؤمنين بإجمال الشريعة و هو عبادة الله و فعل الخير و تختم بالأمر بحق الجهاد في الله و بذلك تختتم السورة.

قوله تعالى: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي اَلْأَمْرِ إلى آخر الآية. المنسك‏ مصدر ميمي بمعنى النسك و هو العبادة و يؤيده قوله: ﴿هُمْ نَاسِكُوهُ أي يعبدون تلك العبادة، و ليس اسم مكان كما احتمله بعضهم.

و المراد بكل أمة هي الأمة بعد الأمة من الأمم الماضين حتى تنتهي إلى هذه الأمة دون الأمم المختلفة الموجودة في زمانه (ص) كالعرب و العجم و الروم لوحدة الشريعة و عموم النبوة.

و قوله: ﴿فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي اَلْأَمْرِ نهي للكافرين بدعوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن منازعته في المناسك التي أتى بها و هم و إن كانوا لا يؤمنون بدعوته و لا يرون لما أتى به

 

 

 

 من الأوامر و النواهي وقعا يسلمون له و لا أثر لنهي من لا يسلم للناهي طاعة و لا مولوية لكن هذا النهي لما كان معتمدا على الحجة لم يصر لغوا لا أثر له و هي صدر الآية.

فكأن الكفار من أهل الكتاب أو المشركين لما رأوا من عبادات الإسلام ما لا عهد لهم به في الشرائع السابقة كشريعة اليهود مثلا نازعوه في ذلك من أين جئت به و لا عهد به في الشرائع السابقة و لو كان من شرائع النبوة لعرفه المؤمنين من أمم الأنبياء الماضين؟ فأجاب الله سبحانه عن منازعتهم بما في الآية.

و معناها أن كلا من الأمم كان لهم منسك هم ناسكوه و عبادة يعبدونها و لا يتعداهم إلى غيرهم لما أن الله سبحانه بدل منسك السابقين مما هو أحسن منه في حق اللاحقين لتقدمهم في الرقي الفكري و استعدادهم في اللاحق لما هو أكمل و أفضل من السابق فالمناسك السابقة منسوخة في حق اللاحقين فلا معنى لمنازعة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيما جاء به من المنسك المغاير لمناسك الأمم الماضين.

و لما كان نهيهم عن منازعته (ص) في معنى أمره بطيب النفس من قبل نزاعهم و نهيه عن الاعتناء به عطف عليه قوله: ﴿وَ اُدْعُ إِلى‏َ رَبِّكَ كأنه قيل: طب نفسا و لا تعبأ بمنازعتهم و اشتغل بما أمرت به و هو الدعوة إلى ربك.

و علل ذلك بقوله: ﴿إِنَّكَ لَعَلى‏َ هُدىً مُسْتَقِيمٍ و توصيف الهدى بالاستقامة و هي وصف الصراط الذي إليه الهداية من المجاز العقلي.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ سياق الآية السابقة يؤيد أن المراد بهذا الجدال المجادلة و المراء في أمر اختلاف منسكه (ص) مع الشرائع السابقة بعد الاحتجاج عليه بنسخ الشرائع، و قد أمر (ص) بإرجاعهم إلى حكم الله من غير أن يشتغل بالمجادلة معهم بمثل ما يجادلون.

و قيل: المراد بقوله: ﴿إِنْ جَادَلُوكَ مطلق الجدال في أمر الدين، و قيل:

الجدال في أمر الذبيحة و السياق السابق لا يساعد عليه.

و قوله: ﴿فَقُلِ اَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ توطئة و تمهيد إلى إرجاعهم إلى حكم الله أي الله أعلم بعملكم و يحكم حكم من يعلم بحقيقة الحال، و إنما يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون و تخالفون الحق و أهله و الاختلاف و التخالف بمعنى كالاستباق و التسابق.

قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ

 

 

 

 ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيرٌ تعليل لعلمه تعالى بما يعملون أي إن ما يعملون بعض ما في السماء و الأرض و هو يعلم جميع ما فيهما فهو يعلم بعملهم.

و قوله: ﴿إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ تأكيد لما تقدمه أي إن ما علمه من شي‏ء مثبت في كتاب فلا يزول و لا ينسى و لا يسهو فهو محفوظ على ما هو عليه حين يحكم بينهم، و قوله: ﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيرٌ أي ثبت ما يعلمه في كتاب محفوظ هين عليه.

قوله تعالى: ﴿وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَ مَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ إلخ الباء في ﴿بِهِ بمعنى مع، و السلطان البرهان و الحجة و المعنى و يعبد المشركون من دون الله شيئا و هو ما اتخذوه شريكا له تعالى لم ينزل الله معه حجة حتى يأخذوها و يحتجوا بها و لا أن لهم به علما.

قيل: إنما أضاف قوله: ﴿وَ مَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ على قوله: ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً لأن الإنسان قد يعلم أشياء من غير حجة و دليل كالضروريات.

و ربما فسر نزول السلطان بالدليل السمعي و وجود العلم بالدليل العقلي أي يعبدون من دون الله ما لم يقم عليه دليل من ناحية الشرع و لا العقل، و فيه أنه لا دليل عليه و تنزيل السلطان كما يصدق على تنزيل الوحي على النبي كذلك يصدق على تنزيل البرهان على القلوب.

و قوله: ﴿وَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ قيل: هو تهديد للمشركين و المراد أنه ليس لهم ناصر ينصرهم فيمنعهم من العذاب.

و الظاهر على ما يعطيه السياق أنه في محل الاحتجاج على أن ليس لهم برهان على شركائهم و لا علم، بأنه لو كان لهم حجة أو علم لكان لهم نصير ينصرهم إذ البرهان نصير لمن يحتج به و العلم نصير للعالم لكنهم ظالمون و ما للظالمين من نصير فليس لهم برهان و لا علم، و هذا من ألطف الاحتجاجات القرآنية.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا تُتْلى‏َ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ إلخ المنكر مصدر ميمي بمعنى الإنكار، و المراد بمعرفة الإنكار في وجوههم معرفة أثر الإنكار و الكراهة، و ﴿يَسْطُونَ من السطوة و هي على ما في مجمع البيان،: إظهار الحال الهائلة للإخافة يقال سطا عليه يسطو سطوة و سطاعة و الإنسان مسطو عليه، و السطوة و البطشة بمعنى. انتهى.

 

 

 

 و المعنى: و إذا تتلى عليهم آياتنا و الحال أنها واضحات الدلالة تعرف و تشهد في وجوه الذين كفروا أثر الإنكار يقربون من أن يبطشوا على الذين يتلون و يقرءون عليهم آياتنا لما يأخذهم من الغيظ.

و قوله: ﴿قُلْ أَ فَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ تفريع على إنكارهم و تحرزهم من استماع القرآن أي قل: أ فأخبركم بما هو شر من هذا الذي تعدونه شرا تحترزون منه و تتقون أن تسمعوه أ فأخبركم به لتتقوه إن كنتم تتقون.

و قوله: ﴿اَلنَّارُ وَعَدَهَا اَللَّهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ بيان للشر أي ذلكم الذي هو شر من هذا هي النار، و قوله: ﴿وَعَدَهَا اَللَّهُ إلخ بيان لكونه شرا.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إلى آخر الآية خطاب للناس جميعا و العناية بالمشركين منهم.

و قوله: ﴿ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ المثل‏ هو الوصف الذي يمثل الشي‏ء في حالة سواء كان وصفا محققا واقعا أو مقدرا متخيلا كالأمثال التي تشتمل على محاورات الحيوانات و الجمادات و مشافهاتها، و ضرب المثل نصبه ليتفكر فيه كضرب الخيمة ليسكن فيها.

و هذا المثل هو قوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَ لَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ اَلذُّبَابُ شَيْئاً لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ و المعنى أنه لو فرض أن آلهتهم شاءوا أن يخلقوا ذبابا و هو أضعف الحيوانات عندهم لم يقدروا عليه أبدا و إن يسلبهم الذباب شيئا مما عليهم لا يستنقذوه بالانتزاع منه.

فهذا الوصف يمثل حال آلهتهم من دون الله في قدرتهم على الإيجاد و على تدبير الأمر حيث لا يقدرون على خلق ذباب و على تدبير أهون الأمور و هو استرداد ما أخذه الذباب منهم و أضرهم بذلك و كيف يستحق الدعوة و العبادة من كان هذا شأنه؟.

و قوله: ﴿ضَعُفَ اَلطَّالِبُ وَ اَلْمَطْلُوبُ مقتضى المقام أن يكون المراد بالطالب الآلهة و هي الأصنام المدعوة فإن المفروض أنهم يطلبون خلق الذباب فلا يقدرون و استنقاذ ما سلبه إياهم فلا يقدرون، و المطلوب الذباب حيث يطلب ليخلق و يطلب ليستنقذ منه.

و في هذه الجملة بيان غاية ضعفهم فإنهم أضعف من أضعف ما يستضعفه الناس من الحيوانات التي فيها شي‏ء من الشعور و القدرة.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿مَا قَدَرُوا اَللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اَللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ قدر الشي‏ء هندسته و تعيين كميته و يكنى به عن منزلة الشي‏ء التي تقتضيها أوصافه و نعوته يقال: قدر الشي‏ء حق قدره أي نزله المنزلة التي يستحقها و عامله بما يليق به.

و قدره تعالى حق القدر أن يلتزم بما يقتضيه صفاته العليا و يعامل كما يستحقه بأن يتخذ ربا لا رب غيره و يعبد وحده لا معبود سواه لكن المشركين ما قدروه حق قدره إذ لم يتخذوه ربا و لم يعبدوه بل اتخذوا الأصنام أربابا من دونه و عبدوها دونه و هم يرون أنها لا تقدر على خلق ذباب و يمكن أن يستذلها ذباب فهي من الضعف و الذلة في نهايتهما، و الله سبحانه هو القوي العزيز الذي إليه ينتهي الخلق و الأمر و هو القائم بالإيجاد و التدبير.

فقوله: ﴿مَا قَدَرُوا اَللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إشارة إلى عدم التزامهم بربوبيته تعالى و إعراضهم عن عبادته ثم اتخاذهم الأصنام أربابا من دونه يعبدونها خوفا و طمعا دونه تعالى.

و قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ تعليل للنفي السابق و قد أطلق القوة و العزة فأفاد أنه قوي لا يعرضه ضعف و عزيز لا تعتريه ذلة كما قال: ﴿أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً البقرة: ١٦٥، و قال: ﴿فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً النساء: ١٣٩، و إنما خص الاسمين بالذكر لمقابلتهما ما في المثل المضروب من صفة آلهتهم و هو الضعف و الذلة فهؤلاء استهانوا أمر ربهم إذ عدلوا بينه تعالى و هو القوي الذي يخلق ما يشاء و العزيز الذي لا يغلبه شي‏ء و لا يستذله من سواه و بين الأصنام و الآلهة الذين يضعفون من خلق ذباب و يستذلهم ذباب ثم لم يرضوا بذلك حتى قدموهم عليه تعالى فاتخذوهم أربابا يعبدونهم دونه تعالى.

قوله تعالى: ﴿اَللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ اَلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَ مِنَ اَلنَّاسِ إِنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ الاصطفاء أخذ صفوة الشي‏ء و خالصته، قال الراغب: الاصطفاء تناول صفو الشي‏ء كما أن الاختيار تناول خيره و الاجتباء تناول جبايته. انتهى.

فاصطفاء الله تعالى من الملائكة رسلا و من الناس اختياره من بينهم من يصفو لذلك و يصلح.

و هذه الآية و التي بعدها تبينان وجوب جعل الرسالة و صفتها و صفة الرسل و هي

 

 

 

 العصمة، و للكلام فيها بعض الاتصال بقوله السابق: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ لإنبائه عن الرسالة.

تبين الآية أولا أن لله رسلا من الملائكة و من الناس، و ثانيا أن هذه الرسالة ليست كيفما اتفقت و ممن اتفق بل هي بالاصطفاء و تعيين من هو صالح لذلك.

و قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ تعليل لأصل الإرسال فإن الناس أعني النوع الإنساني يحتاج حاجة فطرية إلى أن يهديهم الله سبحانه نحو سعادتهم و كمالهم المطلوب من خلقهم كسائر الأنواع الكونية فالحاجة نحو الهداية عامة، و ظهور الحاجة فيهم و إن شئت فقل: إظهارهم الحاجة من أنفسهم سؤال منهم و استدعاء لما ترتفع به حاجتهم و الله سبحانه سميع بصير يرى ببصره ما هم عليه من الحاجة الفطرية إلى الهداية و يسمع بسمعه سؤالهم ذلك.

فمقتضى سمعه و بصره تعالى أن يرسل إليهم رسولا و يهديهم به إلى سعادتهم التي خلقوا لنيلها و التلبس بها فما كل الناس بصالحين للاتصال بعالم القدس و فيهم الخبيث و الطيب و الطالح و الصالح، و الرسول رسولان رسول ملكي يأخذ الوحي منه تعالى و يؤديه إلى الرسول الإنساني و رسول إنساني يأخذ الوحي من الرسول الملكي و يلقيه إلى الناس و بالجملة قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يتضمن الحجة على لزوم أصل الإرسال، و أما معنى الاصطفاء و الحجة على لزومه فهو ما يشير إليه قوله: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ .

قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ إِلَى اَللَّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ ظاهر السياق أن ضمير الجمع في الموضعين للرسل من الملائكة و الناس، و يشهد وقوع هذا التعبير فيهم في غير هذا الموضع كقوله تعالى حكاية عن ملائكة الوحي: ﴿وَ مَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَ مَا خَلْفَنَا الآية: مريم: ٦٤، و قوله: ﴿فَلاَ يُظْهِرُ عَلى‏َ غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ اِرْتَضى‏َ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَ أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ الجن: ٢٨.

و الآية كما ترى تنادي بأن ذكر علمه بما بين أيديهم و ما خلفهم لدلالة على أنه تعالى مراقب للطريق الذي يسلكه الوحي فيما بينه و بين الناس حافظ له أن يختل في نفسه بنسيان أو تغيير أو يفسد بشي‏ء من مكائد الشياطين و تسويلاتهم كل ذلك لأن

 

 

 

حملة الوحي من الرسل بعينه و بمشهد منه يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و هو بالمرصاد.

و من هنا يظهر أن المراد بما بين أيديهم هو ما بينهم و بين من يؤدون إليه فما بين أيدي الرسول الملكي هو ما بينه و بين الرسول الإنساني و ما بين يدي الرسول الإنساني هو ما بينه و بين الناس، و المراد بما خلفهم هو ما بينهم و بين الله سبحانه و الجميع سائرون من جانب الله إلى الناس.

فالوحي في مأمن إلهي منذ يصدر من ساحة العظمة و الكبرياء إلى أن يبلغ الناس و لازمه أن الرسل معصومون في تلقي الوحي و معصومون في حفظه و معصومون في إبلاغه للناس.

و قوله: ﴿وَ إِلَى اَللَّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ في مقام التعليل لعلمه بما بين أيديهم و ما خلفهم أي كيف يخفى عليه شي‏ء من ذلك؟ و إليه يرجع جميع الأمور و إذ ليس هذا الرجوع رجوعا زمانيا حتى يجوز معه خفاء حاله قبل الرجوع و إنما هو مملوكية ذاته له تعالى فلا استقلال له منه و لا خفاء فيه له فافهم ذلك.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِرْكَعُوا وَ اُسْجُدُوا وَ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ اِفْعَلُوا اَلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ الأمر بالركوع و السجود أمر بالصلاة و مقتضى المقابلة أن يكون المراد بقوله: ﴿وَ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ الأمر بسائر العبادات المشرعة في الدين كالحج و الصوم و يبقى لقوله: ﴿وَ اِفْعَلُوا اَلْخَيْرَ سائر الأحكام و القوانين المشرعة فإن في إقامتها و العمل بها خير المجتمع و سعادة الأفراد و حياتهم كما قال: ﴿اِسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ الأنفال: ٢٤.

و في الآية أمر بإجماع الشرائع الإسلامية من عبادات و غيرها.

قوله تعالى: ﴿وَ جَاهِدُوا فِي اَللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ إلى آخر الآية. الجهاد بذل الجهد و استفراغ الوسع في مدافعة العدو، و يطلق في الأكثر على المدافعة بالقتال لكن ربما يتوسع في معنى العدو حتى يشمل كل ما يتوقع منه الشر كالشيطان الذي يضل الإنسان و النفس الأمارة بالسوء و غير ذلك فيطلق اللفظ على مخالفة النفس في هواها و الاجتناب عن طاعة الشيطان في وسوسته، و قد سمى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مخالفة النفس جهادا أكبر.

و الظاهر أن المراد بالجهاد في الآية هو المعنى الأعم و خاصة بالنظر إلى تقييده

 

 

 

بقوله: ﴿فِي اَللَّهِ و هو كل ما يرجع إليه تعالى، و يؤيده أيضا قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا : العنكبوت: ٦٩.

و على ذلك فمعنى كون الجهاد فيه حق جهاده أن يكون متمحضا في معنى الجهاد و يكون خالصا لوجهه الكريم لا يشاركه فيه غيره نظير تقوى الله حق تقواه في قوله:

﴿اِتَّقُوا اَللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ آل عمران - ١٢٤.

و قوله: ﴿هُوَ اِجْتَبَاكُمْ وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ امتنان منه تعالى على المؤمنين بأنهم ما كانوا لينالوا سعادة الدين من عند أنفسهم و بحولهم غير أن الله من عليهم إذ وفقهم فاجتباهم و جمعهم للدين، و رفع عنهم كل حرج في الدين امتنانا سواء كان حرجا في أصل الحكم أو حرجا طارئا عليه اتفاقا فهي شريعة سهلة سمحة ملة أبيهم إبراهيم الحنيف الذي أسلم لربه.

و إنما سمي إبراهيم أبا المسلمين لأنه (عليه السلام) أول من أسلم لله كما قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ اَلْعَالَمِينَ البقرة: ١٣١، و قال حاكيا عنه (عليه السلام):

﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي إبراهيم: ٣٦ فنسب اتباعه إلى نفسه، و قال أيضا: ﴿وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنَامَ إبراهيم: ٣٥، و مراده ببنيه المسلمون دون المشركين قطعا و قال: ﴿إِنَّ أَوْلَى اَلنَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ هَذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا آل عمران: ٦٨.

و قوله: ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هَذَا امتنان ثان منه تعالى على المؤمنين بعد الامتنان بقوله: ﴿هُوَ اِجْتَبَاكُمْ فالضمير له تعالى و قوله: ﴿مِنْ قَبْلُ أي من قبل نزول القرآن و قوله: ﴿وَ فِي هَذَا أي و في هذا الكتاب و في امتنانه عليهم بذكر أنه سماهم المسلمين دلالة على قبوله تعالى إسلامهم.

و قوله: ﴿لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى اَلنَّاسِ المراد به شهادة الأعمال و قد تقدم الكلام في معنى الآية في سورة البقرة الآية ١٤٣ و غيرها و في الآية تعليل ما تقدم من حديث الاجتباء و نفي الحرج و تسميتهم مسلمين.

و قوله: ﴿فَأَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتُوا اَلزَّكَاةَ وَ اِعْتَصِمُوا بِاللَّهِ تفريع على جميع ما تقدم مما امتن به عليهم أي فعلى هذا يجب عليكم أن تقيموا الصلاة و تؤتوا الزكاة و هو إشارة إلى العمل بالأحكام العبادية و المالية و تعتصموا بالله في جميع الأحوال فأتمروا

 

 

 

 بكل ما أمر به و تنتهوا عن جميع ما نهى عنه و لا تنقطعوا عنه في حال لأنه مولاكم و ليس للعبد أن ينقطع عن مولاه في حال و لا للإنسان الضعيف أن ينقطع عن ناصره بوجه على الاحتمالين في معنى المولى .

فقوله: ﴿هُوَ مَوْلاَكُمْ في مقام التعليل لما قبله من الحكم، و قوله: ﴿فَنِعْمَ اَلْمَوْلى‏َ وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ كلمة مدح له تعالى و تطييب لنفوس المؤمنين و تقوية لقلوبهم بأن مولاهم و نصيرهم هو الله الذي لا مولى غيره و لا نصير سواه.

و اعلم أن الذي أوردناه من معنى الاجتباء و كذا الإسلام و غيره في الآية هو الذي ذكره جل المفسرين بالبناء على ظاهر الخطاب بيا أيها الذين آمنوا في صدر الكلام و شموله عامة المؤمنين و جميع الأمة.

و قد بينا غير مرة أن الاجتباء بحقيقة معناه يساوق جعل العبد مخلصا بفتح اللام مخصوصا بالله لا نصيب لغيره تعالى فيه، و هذه صفة لا توجد إلا في آحاد معدودين من الأمة دون الجميع قطعا، و كذا الكلام في معنى الإسلام و الاعتصام، و المعنى بحقيقته مراد في الكلام قطعا.

و على هذا فنسبة الاجتباء و الإسلام و الشهادة إلى جميع الأمة توسع من جهة اشتمالهم على من يتصف بهذه الصفات بحقيقتها نظير قوله في بني إسرائيل: ﴿وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً المائدة: ٢٠، و قوله فيهم: ﴿وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلَى اَلْعَالَمِينَ الجاثية: ١٦ و نظائره كثيرة في القرآن.

(بحث روائي)

عن جوامع الجامع، :في قوله تعالى: ﴿فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي اَلْأَمْرِ روي أن بديل بن ورقاء و غيره من كفار خزاعة قالوا للمسلمين: ما لكم تأكلون ما قتلتم و لا تأكلون ما قتل الله يعنون الميتة.

أقول: سياق الآية لا يساعد عليه.

 و في الكافي، بإسناده عن عبد الرحمن بياع الأنماط عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

 

 

 

 كانت قريش تلطخ الأصنام التي كانت حول الكعبة بالمسك و العنبر، و كان يغوث قبال الباب و يعوق عن يمين الكعبة، و كان نسر عن يسارها، و كانوا إذا دخلوا خروا سجدا ليغوث و لا ينحنون ثم يستديرون بحيالهم إلى يعوق ثم يستديرون عن يسارها بحيالهم إلى نسر ثم يلبون فيقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه و ما ملك.

قال: فبعث الله ذبابا أخضر له أربعة أجنحة فلم يبق من ذلك المسك و العنبر شيئا إلا أكله، و أنزل الله عز و جل: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ الآية.

 و فيه، بإسناده عن بريد العجلي قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِرْكَعُوا وَ اُسْجُدُوا وَ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ اِفْعَلُوا اَلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَ جَاهِدُوا فِي اَللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ قال: إيانا عنى و نحن المجتبون و لم يجعل الله تبارك و تعالى لنا في الدين من حرج فالحرج أشد من الضيق.

﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ إيانا عنى خاصة ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ الله عز و جل سمانا المسلمين ﴿مِنْ قَبْلُ في الكتب التي مضت ﴿وَ فِي هَذَا القرآن ﴿لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى اَلنَّاسِ فرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) الشهيد علينا بما بلغنا عن الله تبارك و تعالى و نحن الشهداء على الناس يوم القيامة فمن صدق يوم القيامة صدقناه و من كذب كذبناه.

أقول: و الروايات من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) في هذا المعنى كثيرة، و قد تقدم في ذيل الآية ما يتضح به معنى هذه الروايات.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن مردويه و الحاكم و صححه عن عائشة: أنها سألت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن هذه الآية ﴿وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ قال: الضيق.

 و في التهذيب، بإسناده عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):

عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة كيف أصنع بالوضوء؟ قال: يعرف هذا و أشباهه من كتاب الله عز و جل قال الله: ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ امسح عليه.

 

 

 

 أقول: و في معناها روايات أخر تستشهد بالآية في رفع الحكم الحرجي و في التمسك بالآية في الحكم دلالة على صحة ما قدمناه في معنى الآية.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة في المصنف و إسحاق بن راهويه في مسنده عن مكحول أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: تسمي الله باسمين سمى بهما أمتي هو السلام و سمى أمتي المسلمين، و هو المؤمن و سمى أمتي المؤمنين‏ تم و الحمد لله .

 

 

 

بعض المواضيع المبحوث عنها في هذا الجزء

 

 

 

 

[1]  نهك الضرع: استوفى ما فيه.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=2100
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 05 / 17
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 03