• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء الرابع عشر) ، تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده) .
                    • الموضوع : من ص 247 الى ص 328 .

من ص 247 الى ص 328

توجيهه بأن الاقتراب لتحقق الوقوع فكل ما هو آت قريب.

و قوله: ﴿وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ذلك أنهم تعلقوا بالدنيا و اشتغلوا بالتمتع فامتلأت قلوبهم من حبها فلم يبق فيها فراغ يقع فيها ذكر الحساب وقوعا تتأثر به حتى أنهم لو ذكروا لم يذكروا و هو الغفلة فإن الشي‏ء كما يكون مغفولا عنه لعدم تصوره من أصله قد يكون مغفولا عنه لعدم تصوره كما هو حقه بحيث تتأثر النفس به.

و بهذا يظهر الجواب عن الإشكال بأن الجمع بين الغفلة و هي تلازم عدم التنبه للشي‏ء و الإعراض و هو يستلزم التنبه له جمع بين المتنافيين، و محصل الجواب أنهم في غفلة عن الحساب لعدم تصورهم إياه كما هو حقه و هم معرضون عنه لاشتغالهم عن لوازم العلم بخلافها.

و أجاب عنه الزمخشري بما لفظه: وصفهم بالغفلة مع الإعراض على معنى أنهم غافلون عن حسابهم ساهون لا يتفكرون في عاقبتهم و لا يتفطنون لما يرجع إليه خاتمة أمرهم مع اقتضاء عقولهم أنه لا بد من جزاء للمحسن و المسي‏ء، و إذا قرعت لهم العصا و نبهوا عن سنة الغفلة و فطنوا لذلك بما يتلى عليهم من الآيات و النذر أعرضوا و سدوا أسماعهم و نفروا. انتهى.

و الفرق بينه و بين ما وجهنا به أنه أخذ الإعراض في طول الغفلة لا في عرضه، و الإنصاف أن ظاهر الآية اجتماعهما لهم في زمان واحد، لا ترتب الوصفين زمانا.

و دفع بعضهم الإشكال بأخذ الإعراض بمعنى الاتساع فالمعنى و هم متسعون في غفلة، و آخرون بأخذ الغفلة بمعنى الإهمال و لا تنافي بين الإهمال و الإعراض، و الوجهان من قبيل الالتزام بما لا يلزم.

و المعنى: اقترب للناس حساب أعمالهم و الحال أنهم في غفلة مستمرة أو عظيمة معرضون عنه باشتغالهم بشواغل الدنيا و عدم التهيؤ له بالتوبة و الإيمان و التقوى.

قوله تعالى: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اِسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ الآية بمنزلة التعليل لقوله: ﴿وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ إذ لو لم يكونوا في غفلة معرضين لم يلعبوا و لم يتلهوا عند استماع الذكر الذي لا ينبههم إلا على ما يهمهم التنبه له و يجب عليهم التهيؤ له، و لذلك جي‏ء بالفصل من غير عطف.

و المراد بالذكر ما يذكر به الله سبحانه من وحي إلهي كالكتب السماوية و منها

 

 

 

 القرآن الكريم، و المراد بإتيانه لهم نزوله على النبي و إسماعه و تبليغه، و محدث بمعنى جديد و هو معنى إضافي و هو وصف ذكر فالقرآن مثلا ذكر جديد أتاهم بعد الإنجيل و الإنجيل كان ذكرا جديدا أتاهم بعد التوراة و كذلك بعض سور القرآن و آياته ذكر جديد أتاهم بعد بعض.

و قوله: ﴿إِلاَّ اِسْتَمَعُوهُ استثناء مفرغ عن جميع أحوالهم و ﴿اِسْتَمَعُوهُ حال و ﴿هُمْ يَلْعَبُونَ ﴿لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ حالان من ضمير الجمع في ﴿اِسْتَمَعُوهُ فهما حالان متداخلتان.

و اللعب‏ فعل منتظم الأجزاء لا غاية له إلا الخيال كلعب الأطفال و اللهو اشتغالك عما يهمك يقال: ألهاه كذا أي شغله عما يهمه و لذلك تسمى آلات الطرب آلات اللهو و ملاهي، و اللهو من صفة القلب و لذلك قال: ﴿لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ فنسبه إلى قلوبهم.

و معنى الآية: و ما يأتيهم بالنزول و البلوغ - ذكر جديد من ربهم في حال من الأحوال إلا و الحال أنهم لاعبون لاهية قلوبهم فاستمعوه فيها أي إن إحداث الذكر و تجديده لا يؤثر فيهم و لا أثرا قليلا و لا يمنعهم عن الاشتغال بلعب الدنيا عما وراءها و هذا كناية عن أن الذكر لا يؤثر فيهم في حال لا أن جديدة لا يؤثر و قديمه يؤثر و هو ظاهر.

و استدل بظاهر الآية على كون القرآن محدثا غير قديم، و أولها الأشاعرة بأن توصيف الذكر بالمحدث من جهة نزوله و هو لا ينافي قدمه في نفسه و ظاهر الآية عليهم و للكلام تتمة نوردها في بحث مستقل.

(كلام في معنى حدوث الكلام و قدمه في فصول)

١ - ما معنى حدوث الكلام و بقائه؟

إذا سمعنا كلاما من متكلم كشعر من شاعر لم نلبث دون أن ننسبه إليه ثم إذا كرره و تكلم بمثله ثانيا لم نرتب في أنه هو كلامه الأول بعينه أعاده ثانيا ثم إذا نقل ناقل عنه ذلك حكمنا بأنه كلام ذلك القائل الأول بعينه ثم كلما تكرر النقل كان المنقول من الكلام هو بعينه الكلام الأول الصادر من المتكلم الأول و إن تكرر إلى ما لا نهاية له.

هذا بالبناء على ما يقضي به الفهم العرفي لكنا إذا أمعنا في ذلك قليل إمعان

 

 

 

وجدنا حقيقة الأمر على خلاف ذلك فقول القائل: جاءني زيد مثلا ليس كلاما واحدا لأن فيه الجيم أو الألف أو الهمزة فإن كل واحدة منها فرد من أفراد الصوت المتكون من اعتماد نفس المتكلم على مخرج من مخارج فمه، و المجموع أصوات كثيرة ليست بواحدة البتة إلا بحسب الوضع و الاعتبار.

ثم إن الذي تكلم به قائل القول الأول ثانيا و الذي تكلم به الناقل الذي ينقله عن صاحبه الأول ثالثا و رابعا و غير ذلك أفراد أخر من الصوت مماثلة لما في الكلام الأول المفروض من الأصوات المتكونة و ليست عينها إلا بحسب الاعتبار و ضرب من التوسع.

و ليست هذه الأصوات كلاما إلا من حيث إنها علائم و أمارات بحسب الوضع و الاعتبار تدل على معان ذهنية، و لا واحدا إلا باعتبار تعلق غرض واحد بها.

و يتحصل بذلك أن الكلام بما أنه كلام أمر وضعي اعتباري لا تحقق له في الخارج من ظرف الدعوى و الاعتبار، و إنما المتحقق في الخارج حقيقة الأفراد من الصوت التي جعلت علائم بالوضع و الاعتبار بما أنها أصوات لا بما أنها علائم مجعولة، و إنما ينسب التحقق إلى الكلام بنوع من العناية.

و من هنا يظهر أن الكلام لا يتصف بشي‏ء من الحدوث و البقاء فإن الحدوث و هو مسبوقية الوجود بالعدم الزماني و البقاء و هو كون الشي‏ء موجودا في الآن بعد الآن على نعت الاتصال من شئون الحقائق الخارجية، و لا تحقق للأمور الاعتبارية في الخارج.

و كذا لا يتصف الكلام بالقدم و هو عدم كون وجود الشي‏ء مسبوقا بعدم زماني لأن القدم أيضا كالحدوث في كونه من شئون الحقائق الخارجية دون الأمور الاعتبارية.

على أن في اتصاف الكلام بالقدم إشكالا آخر بحياله، و هو أن الكلام هو المؤلف من حروف مترتبة متدرجة بعضها قبل و بعضها بعد، و لا يتصور في القدم تقدم و تأخر و إلا كان المتأخر حادثا و هو قديم هذا خلف، فالكلام بمعنى الحروف المؤلفة الدالة على معنى تام بالوضع لا يتصور فيه قدم مع كونه محالا في نفس الأمر فافهم ذلك.

٢ - هل الكلام بما هو كلام فعل أو صفة ذاتية

بمعنى أن ذات المتكلم هل هي تامة

 

 

 

 في نفسها مستغنية عن الكلام ثم يتفرع عليها الكلام أو أن قوام الذات متوقف عليه كتوقف الحيوان في ذاته على الحياة أو كعدم انفكاك الأربعة عن الزوجية في وجه، لا ريب أن الكلام بحسب الحقيقة ليس فعلا و لا صفة للمتكلم لأنه أمر اعتباري لا تحقق له إلا في ظرف الدعوى و الوضع فلا يكون فعلا حقيقيا صادرا عن ذات خارجية و لا صفة لموصوف خارجي.

نعم الكلام بما أنه عنوان لأمر خارجي و هو الأصوات المؤلفة و هي أفعال خارجية للمتصوت بها تعد فعلا للمتكلم بنوع من التوسع ثم يؤخذ عن نسبته إلى الفاعل وصف له و هو التكلم و التكليم كما في نظائره من الاعتباريات كالخضوع و الإعظام و الإهانة و البيع و الشري و نحو ذلك.

٣ - تحليل معنى الكلام

من الممكن أن يحلل الكلام من جهة غرضه و هو الكشف عن المعاني المكنونة في الضمير فيعود بذلك أمرا حقيقيا بعد ما كان اعتباريا، و هذا أمر جار في جل الاعتباريات أو كلها، و قد استعمله القرآن في معان كثيرة كالسجود و القنوت و الطوع و الكره و الملك و العرش و الكرسي و الكتاب و غير ذلك.

فحقيقة الكلام هو ما يكشف به عن مكنونات الضمير فكل معلول كلام لعلته لكشفه بوجوده عن كمالها المكنون في ذاتها، و أدق من ذلك أن صفات الشي‏ء الذاتية كلام له يكشف به عن مكنون ذاته، و هذا هو الذي يذكر الفلاسفة أن صفاته تعالى الذاتية كالعلم و القدرة و الحياة كلام له تعالى، و أيضا العالم كلامه تعالى.

و بين أن الكلام بناء على هذا التحليل في قدمه و حدوثه تابع لسنخ وجوده، فالعلم الإلهي كلام قديم بقدم الذات و زيد الحادث بما هو آية تكشف عن ربه كلام له حادث، و الوحي النازل على النبي بما أنه تفهيم إلهي حادث بحدوث التفهيم و بما أنه في علم الله و اعتبر علمه كلاما له قديم بقدم الذات كعلمه تعالى بجميع الأشياء من حادث و قديم.

٤ - محصل البحث‏

تحصل من الفصول السابقة أن القرآن الكريم إن أريد به هذه الآيات التي نتلوها بما أنها كلام دال على معان ذهنية نظير سائر الكلام ليس بحسب الحقيقة لا حادثا و لا قديما. نعم هو متصف بالحدوث بحدوث الأصوات التي هي معنونة بعنوان الكلام و القرآن.

 

 

 

 و إن أريد به ما في علم الله من معانيها الحقة كان كعلمه تعالى بكل شي‏ء حق قديما بقدمه فالقرآن قديم أي علمه تعالى به قديم كما أن زيدا الحادث قديم أي علمه تعالى به.

و من هنا يظهر أن البحث عن قدم القرآن و حدوثه بما أنه كلام الله مما لا جدوى فيه فإن القائل بالقدم إن أراد به أن المقروء من الآيات بما أنها أصوات مؤلفة دالة على معانيها قديم غير مسبوق بعدم فهو مكابر، و إن أراد به أنه في علمه تعالى و بعبارة أخرى علمه تعالى بكتابه قديم فلا موجب لإضافة علمه إليه ثم الحكم بقدمه بل علمه بكل شي‏ء قديم بقدم ذاته لكون المراد بهذا العلم هو العلم الذاتي.

على أنه لا موجب حينئذ لعد الكلام صفة ثبوتية ذاتية أخرى له تعالى وراء العلم لرجوعه إليه و لو صح لنا عد كل ما ينطبق بحسب التحليل على بعض صفاته الحقيقية الثبوتية صفة ثبوتية له لم ينحصر عدد الصفات الثبوتية بحاصر لجواز مثل هذا التحليل في مثل الظهور و البطون و العظمة و البهاء و النور و الجمال و الكمال و التمام و البساطة، إلى غير ذلك مما لا يحصى.

و الذي اعتبره الشرع و ورد من هذا اللفظ في القرآن الكريم ظاهر في المعنى الأول المذكور مما لا تحليل فيه كقوله تعالى: ﴿تِلْكَ اَلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلى‏َ بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اَللَّهُ : البقرة: ٢٥٣، و قوله: ﴿وَ كَلَّمَ اَللَّهُ مُوسى‏َ تَكْلِيماً : النساء: ١٦٤، و قوله:

﴿وَ قَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اَللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ : البقرة: ٧٥، و قوله: ﴿يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ المائدة: ١٣، إلى غير ذلك من الآيات.

و أما ما ذكره بعضهم أن هناك كلاما نفسيا قائما بنفس المتكلم غير الكلام اللفظي و أنشد في ذلك قول الشاعر:

إن الكلام لفي الفؤاد و إنما *** جعل اللسان على الفؤاد دليلا

 و الكلام النفسي فيه تعالى هو الموصوف بالقدم دون الكلام اللفظي.

ففيه أنه إن أريد بالكلام النفسي معنى الكلام اللفظي أو صورته العلمية التي تنطبق على لفظه عاد معناه إلى العلم و لم يكن أمرا يزيد عليه و صفة مغايرة له و إن أريد به معنى وراء ذلك فلسنا نعرفه في نفوسنا إذا راجعناها.

و أما ما أنشد من الشعر في بحث عقلي فلا ينفعه و لا يضرنا، و الأبحاث العقلية أرفع مكانة من أن يصارع فيها الشعراء.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ أَسَرُّوا اَلنَّجْوَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَ فَتَأْتُونَ اَلسِّحْرَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ الإسرار يقابل الإعلان فإسرار النجوى هو المبالغة في كتمان القول و إخفائه فإن إسرار القول يفيد وحدة معنى النجوى فإضافته إلى النجوى تفيد المبالغة.

و ضمير الفاعل في ﴿أَسَرُّوا اَلنَّجْوَى راجع إلى الناس غير أنه لما لم يكن الفعل فعلا لجميعهم و لا لأكثرهم فإن فيهم المستضعف و من لا شغل له به و إن كان منسوبا إلى الكل من جهة ما في مجتمعهم من الغفلة و الإعراض أوضح النسبة بقوله: ﴿اَلَّذِينَ ظَلَمُوا فهو عطف بيان دل به على أن النجوى إنما كان في الذين ظلموا منهم خاصة.

و قوله: ﴿هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَ فَتَأْتُونَ اَلسِّحْرَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ هو الذي تناجوا به، و قد كانوا يصرحون بتكذيب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و يعلنون بأنه بشر و أن القرآن سحر من غير أن يخفوا شيئا من ذلك لكنهم إنما أسروه في نجواهم إذ كان ذلك منهم شورى يستشير بعضهم فيه بعضا ما ذا يقابلون به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و يجيبون عما يسألهم من الإيمان بالله و برسالته؟ فما كان يسعهم إلا كتمان ما يذكر فيما بينهم و إن كانوا أعلنوا به بعد الاتفاق على رد الدعوة.

و قد اشتمل نجواهم على قولين قطعوا عليهما أو ردوهما بطريق الاستفهام الإنكاري و هما قوله: ﴿هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ و قد اتخذوه حجة لإبطال نبوته و هو أنه كما تشاهدونه - و قد أتوا باسم الإشارة دون الضمير فقالوا: هل هذا؟ و لم يقولوا: هل هو؟ للدلالة على العلم به بالمشاهدة بشر مثلكم لا يفارقكم في شي‏ء يختص به فلو كان ما يدعيه من الاتصال بالغيب و الارتباط باللاهوت حقا لكان عندكم مثله لأنكم بشر مثله، فإذ ليس عندكم من ذلك نبأ فهو مثلكم لا خبر عنده فليس بنبي كما يدعي.

و قولهم: ﴿أَ فَتَأْتُونَ اَلسِّحْرَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ و هو متفرع بفاء التفريع على نفي النبوة بإثبات البشرية فيرجع المعنى إلى أنه لما لم يكن نبيا متصلا بالغيب فالذي أتاكم به مدعيا أنه آية النبوة ليس بآية معجزة من الله بل سحر تعجزون عن مثله، و لا ينبغي لذي بصر سليم أن يذعن بالسحر و يؤمن بالساحر.

قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ اَلْقَوْلَ فِي اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ أي أنه تعالى محيط علما بكل قول سرا أو جهرا و في أي مكان و هو السميع لأقوالكم

 

 

 

 العليم بأفعالكم فالأمر إليه و ليس لي من الأمر شي‏ء.

و الآية حكاية قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لهم لما أسروا النجوى و قطعوا على تكذيب نبوته و رمي آيته و هو كتابه بالسحر و فيها إرجاع الأمر و إحالته إلى الله سبحانه كما في غالب الموارد التي اقترحوا عليه فيها الآية و كذلك سائر الأنبياء كقوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا اَلْعِلْمُ عِنْدَ اَللَّهِ وَ إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ : الملك: ٢٦، و قوله: ﴿قَالَ إِنَّمَا اَلْعِلْمُ عِنْدَ اَللَّهِ وَ أُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ الأحقاف: ٢٣، و قوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا اَلْآيَاتُ عِنْدَ اَللَّهِ وَ إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ : العنكبوت: ٥٠.

قوله تعالى: ﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ اِفْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ اَلْأَوَّلُونَ تدرج منهم في الرمي و التكذيب، فقولهم: أضغاث أحلام أي تخاليط من رؤي غير منظمة رآها فحسبها نبوة و كتابا فأمره أهون من السحر، و قولهم: ﴿بَلِ اِفْتَرَاهُ ترق من سابقه فإن كونه أضغاث أحلام كان لازمه التباس الأمر و اشتباهه عليه لكن الافتراء يستلزم التعمد، و قولهم: ﴿بَلْ هُوَ شَاعِرٌ ترق من سابقه من جهة أخرى فإن المفتري إنما يقول عن ترو و تدبر فيه لكن الشاعر إنما يلفظ ما يتخيله و يروم ما يزينه له إحساسه من غير ترو و تدبر فربما مدح القبيح على قبحه و ربما ذم الجميل على جماله و ربما أنكر الضروري و ربما أصر على الباطل المحض، و ربما صدق الكذب أو كذب الصدق.

و قولهم: ﴿فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ اَلْأَوَّلُونَ الكلام متفرع على ما تقدمه و المراد بالأولين الأنبياء الماضون أي إذا كان هذا الذي أتى به و هو يعده آية و هو القرآن أضغاث أحلام أو افتراء أو شعر فليس يتم بذلك دعواه النبوة و لا يقنعنا ذلك فليأتنا بآية كما أتى الأولون من الآيات مثل الناقة و العصا و اليد البيضاء.

و في قوله: ﴿كَمَا أُرْسِلَ اَلْأَوَّلُونَ و كان الظاهر من السياق أن يقال: كما أتى بها الأولون إشارة إلى أن الآية من لوازم الإرسال فلو كان رسولا فليقتد بالأولين فيما احتجوا به على رسالتهم.

و المشركون من الوثنيين منكرون للنبوة من رأس فقول هؤلاء: فليأتنا بآية كما أرسل الأولون دليل ظاهر على أنهم متحيرون في أمرهم لا يدرون ما يصنعون؟ فتارة يواجهونه بالتهكم و أخرى يتحكمون و ثالثة بما يناقض معتقد أنفسهم فيقترحون

 

 

 

آية من آيات الأولين و هم لا يؤمنون برسالتهم و لا يعترفون بآياتهم. و في قولهم:

﴿فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ اَلْأَوَّلُونَ ، مع ذلك وعد ضمني بالإيمان لو أتى بآية من الآيات المقترحة.

بيان‏

قوله تعالى: ﴿مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ رد و تكذيب لما يشتمل عليه قولهم: ﴿فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ اَلْأَوَّلُونَ من الوعد الضمني بالإيمان لو أتى بشي‏ء مما اقترحوه من آيات الأولين.

و محصل المعنى على ما يعطيه السياق أنهم كاذبون في وعدهم و لو أنزلنا شيئا مما اقترحوه من آيات الأولين لم يؤمنوا بها و كان فيها هلاكهم فإن الأولين من أهل القرى اقترحوها فأنزلناها فلم يؤمنوا بها فأهلكناهم، و طباع هؤلاء طباع أوليهم في الإسراف و الاستكبار فليسوا بمؤمنين فالآية بوجه مثل قوله: ﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ : يونس: ٧٤.

و على هذا ففي الآية حذف و إيجاز و التقدير نحو من قولنا: ما آمنت قبلهم أهل قرية اقترحوا الآيات فأنزلناها عليهم و أهلكناهم لما لم يؤمنوا بها بعد النزول أ فهم يعني مشركي العرب يؤمنون و هم مثلهم في الإسراف فتوصيف القرية بقوله: ﴿أَهْلَكْنَاهَا توصيف بآخر ما اتصفت بها للدلالة على أن عاقبة إجابة ما اقترحوه هي الهلاك لا غير.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ جواب عما احتجوا به على نفي نبوته (ص) بقولهم: ﴿هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، بأن الماضين من الأنبياء لم يكونوا إلا رجالا من البشر فالبشرية لا تنافي النبوة.

و توصيف ﴿رِجَالاً بقوله: ﴿نُوحِي إِلَيْهِمْ للإشارة إلى الفرق بين الأنبياء و غيرهم و محصله أن الفرق الوحيد بين النبي و غيره هو أنا نوحي إلى الأنبياء دون غيرهم و الوحي موهبة و من خاص لا يجب أن يعم كل بشر فيكون إذا تحقق تحقق في الجميع و إذا لم يوجد في واحد لم يوجد في الجميع حتى تحكموا بعدم وجدانه عندكم على عدم وجوده عند النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ذلك كسائر الصفات الخاصة التي لا توجد إلا في الواحد بعد الواحد من البشر مما لا سبيل إلى إنكارها.

فالآية تنحل إلى حجتين تقومان على إبطال استدلالهم ببشريته على نفي نبوته:

 

 

 

 إحداهما نقض حجتهم بالإشارة إلى رجال من البشر كانوا أنبياء فلا منافاة بين البشرية و النبوة.

و الثانية: من طريق الحل و هو أن الفارق بين النبي و غيره ليس وصفا لا يوجد في البشر أو إذا وجد وجد في الجميع بل هو الوحي الإلهي و هو كرامة و من خاص من الله يختص به من يشاء فالآية بهذا النظر نظيرة قوله: ﴿قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا إلى أن قال : ﴿قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ يَمُنُّ عَلىَ مَنْ يَشَاءُ إبراهيم: ١١.

و قوله: ﴿فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ تأييد و تحكيم لقوله: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً أي إن كنتم تعلمون به فهو و إن لم تعلموا فارجعوا إلى أهل الذكر و اسألوهم هل كانت الأنبياء الأولون إلا رجالا من البشر؟.

و المراد بالذكر الكتاب السماوي و بأهل الذكر أهل الكتاب فإنهم كانوا يشايعون المشركين في عداوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و كان المشركون يعظمونهم و ربما شاوروهم في أمره و سألوهم عن مسائل يمتحنونه بها و هم القائلون للمشركين على المسلمين: ﴿هَؤُلاَءِ أَهْدىَ مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً النساء: ٥١، و الخطاب في قوله ﴿فَسْئَلُوا إلخ للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و كل من يقرع سمعه هذا الخطاب عالما كان أو جاهلا و ذلك لتأييد القول و هو شائع في الكلام.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَ يَأْكُلُونَ اَلطَّعَامَ وَ مَا كَانُوا خَالِدِينَ إلى قوله ﴿اَلْمُسْرِفِينَ أي هم رجال من البشر و ما سلبنا عنهم خواص البشرية بأن نجعلهم جسدا خاليا من روح الحياة لا يأكل و لا يشرب و لا عصمناهم من الموت فيكونوا خالدين بل هم بشر ممن خلق يأكلون الطعام و هو خاصة ضرورية و يموتون و هو مثل الأكل.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ اَلْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَ مَنْ نَشَاءُ وَ أَهْلَكْنَا اَلْمُسْرِفِينَ عطف على قوله المتقدم: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً و فيه بيان عاقبة إرسالهم و ما انتهى إليه أمر المسرفين من أممهم المقترحين عليهم الآيات، و فيه أيضا توضيح ما أشير إليه من هلاكهم في قوله: ﴿مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا و تهديد للمشركين.

و المراد بالوعد في قوله: ﴿ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ اَلْوَعْدَ ما وعدهم من النصرة لدينهم و إعلاء كلمتهم كلمة الحق كما في قوله: ﴿وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا اَلْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ

 

 

 

اَلْمَنْصُورُونَ وَ إِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ اَلْغَالِبُونَ : الصافات: ١٧٣، إلى غير ذلك من الآيات.

و قوله: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَ مَنْ نَشَاءُ أي الرسل و المؤمنين و قد وعدهم النجاة كما يدل عليه قوله: ﴿حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ اَلْمُؤْمِنِينَ : يونس: ١٠٣، و المسرفون هم المشركون المتعدون طور العبودية، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ امتنان منه تعالى بإنزال القرآن على هذه الأمة، فالمراد بذكرهم الذكر المختص بهم اللائق بحالهم و هو آخر ما تسعه حوصلة الإنسان من المعارف الحقيقية العالية و أقوم ما يمكن أن يجري في المجتمع البشري من الشريعة الحنيفية و الخطاب لجميع الأمة.

و قيل: المراد بالذكر الشرف، و المعنى: فيه شرفكم أن تمسكتم به تذكرون به كما فسر به قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ الزخرف: ٤٤، و الخطاب لجميع المؤمنين أو للعرب خاصة لأن القرآن إنما نزل بلغتهم و فيه بعد.

قوله تعالى: ﴿وَ كَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً إلى آخر الآيات الخمس، القصم‏ في الأصل الكسر، يقال: قصم ظهره أي كسره، و يكنى به عن الهلاك، و الإنشاء الإيجاد، و الإحساس‏ الإدراك من طريق الحس، و البأس‏ العذاب، و الركض‏ العدو بشدة الوطء، و الإتراف‏ التوسعة في النعمة، و الحصيد المقطوع و منه حصاد الزرع، و الخمود السكون و السكوت.

و المعنى: ﴿وَ كَمْ قَصَمْنَا و أهلكنا ﴿مِنْ قَرْيَةٍ أي أهلها ﴿كَانَتْ ظَالِمَةً لنفسها بالإسراف و الكفر ﴿وَ أَنْشَأْنَا و أوجدنا ﴿قَوْماً آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا و وجدوا بالحس أي أهل القرية الظالمة ﴿بَأْسَنَا و عذابنا ﴿إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ و يعدون هاربين كالمنهزمين فيقال لهم توبيخا و تقريعا ﴿لاَ تَرْكُضُوا وَ اِرْجِعُوا إِلى‏َ مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ من النعم ﴿وَ مَسَاكِنِكُمْ و إلى مساكنكم ﴿لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ أي لعل المساكين و أرباب الحوائج يهجمون عليكم بالسؤال فتستكبروا عليهم و تختالوا أو تحتجبوا عنهم و هذا كناية عن اعتزازهم و استعلائهم و عد المتبوعين أنفسهم أربابا للتابعين من دون الله.

﴿قَالُوا تندما ﴿يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَاَلَتْ تِلْكَ و هي كلمتهم يا ويلنا المشتملة على الاعتراف بربوبيته تعالى و ظلم أنفسهم ﴿دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً

 

 

 

محصودا مقطوعا ﴿خَامِدِينَ ساكنين ساكتين كما تخمد النار لا يسمع لهم صوت و لا يذكر لهم صيت.

و قد وجه قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ بوجوه أخرى بعيدة من الفهم تركنا التعرض لها.

(بحث روائي)

 في الاحتجاج، روي عن صفوان بن يحيى قال: قال أبو الحسن الرضا (عليه السلام) لأبي قرة صاحب شبرمة: التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان و كل كتاب أنزل - كان كلام الله أنزله للعالمين نورا و هدى، و هي كلها محدثة و هي غير الله حيث يقول: ﴿أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً و قال: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اِسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ و الله أحدث الكتب كلها التي أنزلها.

فقال أبو قرة: فهل تفنى؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): أجمع المسلمون على أن ما سوى الله فعل الله - و التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان فعل الله، أ لم تسمع الناس يقولون: رب القرآن؟ و أن القرآن يقول يوم القيامة: يا رب هذا فلان و هو أعرف به منه قد أظمأت نهاره و أصهرت ليله فشفعني فيه؟ و كذلك التوراة و الإنجيل و الزبور كلها محدثة مربوبة أحدثها من ليس كمثله شي‏ء لقوم يعقلون، فمن زعم أنهن لم يزلن فقد أظهر أن الله ليس بأول قديم و لا واحد، و أن الكلام لم يزل معه و ليس له بدء. الحديث.

و في تفسير القمي :في قوله تعالى: ﴿لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ قال: من التلهي.

و فيه،" :في قوله: ﴿مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ قال:

كيف يؤمنون و لم يؤمن من كان قبلهم بالآيات حتى هلكوا.

 و فيه، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ من المعنون بذلك؟ قال: نحن. قلت: فأنتم المسئولون؟ قال:

نعم. قلت: و نحن السائلون؟ قال: نعم. قلت: فعلينا أن نسألكم؟ قال: نعم، قلت: فعليكم أن تجيبونا؟ قال: لا - ذاك إلينا إن شئنا فعلنا و إن شئنا تركنا ثم قال:

هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب.

أقول: و روى هذا المعنى الطبرسي في مجمع البيان، عن علي و أبي جعفر (عليه السلام) قال: و يؤيده أن الله تعالى سمى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ذكرا رسولا.

 

 

 

 و هو من الجري ضرورة أن الآية ليست بخاصة و الذكر إما القرآن أو مطلق الكتب السماوية أو المعارف الإلهية و هم على أي حال أهله و ليس بتفسير للآية بحسب مورد النزول إذ لا معنى لإرجاع المشركين إلى أهل الرسول أو أهل القرآن و هم خصماؤهم و لو قبلوا منهم لقبلوا من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) نفسه.

 و في روضة الكافي، كلام لعلي بن الحسين (عليه السلام) في الوعظ و الزهد في الدنيا يقول فيه: و لقد أسمعكم الله في كتابه ما قد فعل بالقوم الظالمين من أهل القرى قبلكم حيث قال: ﴿وَ كَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً و إنما عنى بالقرية أهلها حيث يقول: ﴿وَ أَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ فقال عز و جل: ﴿فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ يعني يهربون قال: ﴿لاَ تَرْكُضُوا وَ اِرْجِعُوا إِلى‏َ مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَ مَسَاكِنِكُمْ -لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ فلما أتاهم العذاب ﴿قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَاَلَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ و أيم الله إن هذه عظة لكم و تخويف إن اتعظتم و خفتم.

[سورة الأنبياء (٢١): الآیات ١٦ الی ٣٣]

﴿وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ ١٦ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاَتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ١٧ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَ لَكُمُ اَلْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ١٨ وَ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ لاَ يَسْتَحْسِرُونَ ١٩ يُسَبِّحُونَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ ٢٠ أَمِ اِتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ اَلْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ٢١ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اَللَّهِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ٢٢ لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ ٢٣ أَمِ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ  

 

 

 

﴿هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ اَلْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ٢٤ وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ٢٥ وَ قَالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ٢٦ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ٢٧ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ اِرْتَضى‏ وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ٢٨ وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلظَّالِمِينَ ٢٩ أَ وَ لَمْ يَرَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَ جَعَلْنَا مِنَ اَلْمَاءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ أَ فَلاَ يُؤْمِنُونَ ٣٠ وَ جَعَلْنَا فِي اَلْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَ جَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ٣١ وَ جَعَلْنَا اَلسَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ هُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ٣٢ وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ٣٣  

(بيان)

أول الآيات يوجه عذاب القرى الظالمة بنفي اللعب عن الخلقة و أن الله لم يله بإيجاد السماء و الأرض و ما بينهما حتى يكونوا مخلين بأهوائهم يفعلون ما يشاءون و يلعبون كيفما أرادوا من غير أن يحاسبوا على أعمالهم بل إنما خلقوا ليرجعوا إلى ربهم فيحاسبوا

 

 

 

 فيجازوا على حسب أعمالهم فهم عباد مسئولون إن تعدوا عن طور العبودية أوخذوا بما تقتضيه الحكمة الإلهية و إن الله لبالمرصاد.

و إذ كان هذا البيان بعينه حجة على المعاد انتقل الكلام إليه و أقيمت الحجة عليه فيثبت بها المعاد و في ضوئه النبوة لأن النبوة من لوازم وجوب العبودية و هو من لوازم ثبوت المعاد فالآيتان الأوليان كالرابط بين السياق المتقدم و المتأخر.

و الآيات تشتمل على بيان بديع لإثبات المعاد و قد تعرض فيها لنفي جميع الاحتمالات المنافية للمعاد كما ستعرف.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاَتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ الآيتان توجهان نزول العذاب على القرى الظالمة التي ذكر الله سبحانه قصمها، و هما بعينهما على ما يعطيه السياق السابق حجة برهانية على ثبوت المعاد ثم في ضوئه النبوة و هي الغرض الأصيل من سرد الكلام في السورة.

فمحصل ما تقدم أن هناك معادا سيحاسب فيه أعمال الناس فمن الواجب أن يميزوا بين الخير و الشر و صالح الأعمال و طالحها بهداية إلهية و هي الدعوة الحقة المعتمدة على النبوة و لو لا ذلك لكانت الخلقة عبثا و كان الله سبحانه لاعبا لاهيا بها تعالى عن ذلك.

فمقام الآيتين كما ترى مقام الاحتجاج على حقية المعاد لتثبت بها حقية دعوة النبوة لأن دعوة النبوة على هذا من مقتضيات المعاد من غير عكس.

و حجة الآيتين كما ترى تعتمد على معنى اللعب و اللهو و اللعب هو الفعل المنتظم الذي له غاية خيالية غير واقعية كملاعب الصبيان التي لا أثر لها إلا مفاهيم خيالية من تقدم و تأخر و ربح و خسارة و نفع و ضرر كلها بحسب الفرض و التوهم و إذ كان اللعب بما تنجذب النفس إليه يصرفها عن الأعمال الواقعية فهو من مصاديق اللهو هذا.

فلو كان خلق العالم المشهود لا لغاية يتوجه إليها و يقصد لأجلها و كان الله سبحانه لا يزال يوجد و يعدم و يحيي و يميت و يعمر و يخرب لا لغاية تترتب على هذه الأفعال و لا لغرض يعمل لأجله ما يعمل بل إنما يفعلها لأجل نفسها و يريد أن يراها واحدا بعد واحد فيشتغل بها دفعا لضجر أو ملل أو كسل أو فرارا من الوحدة أو انطلاقا من الخلوة كحالنا نحن إذا اشتغلنا بعمل نلعب به و نتلهى لندفع به نقصا طرأ علينا و عارضة سوء لا نستطيبها لأنفسنا من ملال أو كلال أو كسل أو فشل و نحو ذلك.

 

 

 

 فاللعب بنظر آخر لهو، و لذلك نراه سبحانه عبر في الآية الأولى باللعب ﴿وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ ثم بدله في الآية الثانية التي هي في مقام التعليل لها لهوا فوضع اللهو مكان اللعب لتتم الحجة.

و تلهيه تعالى بشي‏ء من خلقه محال لأن اللهو لا يتم لهوا إلا برفع حاجة من حوائج اللاهي و دفع نقيصة من نقائصه نفسه فهو من الأسباب المؤثرة، و لا معنى لتأثير خلقه تعالى فيه و احتياجه إلى ما هو محتاج من كل جهة إليه فلو فرض تلهيه تعالى بلهو لم يجز أن يكون أمرا خارجا من نفسه، و خلقه فعله و فعله، خارج من نفسه، بل وجب أن يكون بأمر غير خارج من ذاته.

و بهذا يتم البرهان على أن الله ما خلق السماء و الأرض و ما بينهما لعبا و لهوا و ما أبدعها عبثا و لغير غاية و غرض، و هو قوله: ﴿لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاَتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا .

و أما اللهو بأمر غير خارج من ذاته فهو و إن كان محالا في نفسه لاستلزامه حاجة في ذاته إلى ما يشغله و يصرفه عما يجده في نفسه فيكون ذاته مركبة من حاجة حقيقية متقررة فيها و أمر رافع لتلك الحاجة، و لا سبيل للنقص و الحاجة إلى ذاته المتعالية لكن البرهان لا يتوقف عليه لأنه في مقام بيان أن لا لعب و لا لهو في فعله تعالى و هو خلقه، و أما أنه لا لعب و لا لهو في ذاته تعالى فهو خارج عن غرض المقام و إنما أشير إلى نفي هذا الاحتمال بالتعبير بلفظة «لو» الدالة على الامتناع ثم أكده بقوله: ﴿إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ فافهم ذلك.

و بهذا البيان يظهر أن قوله: ﴿لَوْ أَرَدْنَا إلخ، في مقام التعليل للنفي في قوله:

﴿وَ مَا خَلَقْنَا إلخ، و أن قوله: ﴿مِنْ لَدُنَّا معناه من نفسنا، و في مرحلة الذات دون مرحلة الخلق الذي هو فعلنا الخارج من ذاتنا، و أن قوله: ﴿إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ إشارة استقلالية إلى ما يدل عليه لفظة ﴿لَوْ في ضمن الجملة فيكون نوعا من التأكيد.

و بهذا البيان يتم البرهان على المعاد ثم النبوة و يتصل الكلام بالسياق المتقدم و محصله أن للناس رجوعا إلى الله و حسابا على أعمالهم ليجازوا عليها ثوابا و عقابا فمن الواجب أن يكون هناك نبوة و دعوة ليدلوا بها إلى ما يجازون عليه من الاعتقاد و العمل فالمعاد هو الغرض من الخلقة الموجب للنبوة و لو لم يكن معاد لم يكن للخلقة غرض و غاية فكانت الخلقة لعبا و لهوا منه تعالى و هو غير جائز، و لو جاز عليه اتخاذ اللهو لوجب

 

 

 

 أن يكون بأمر غير خارج من نفسه لا بالخلق الذي هو فعل خارج من ذاته لأن من المحال أن يؤثر غيره فيه و يحتاج إلى غيره بوجه و إذ لم يكن الخلق لعبا فهناك غاية و هو المعاد و يستلزم ذلك النبوة و من لوازمه أيضا نكال بعض الظالمين إذا ما طغوا و أسرفوا و توقف عليه إحياء الحق كما يشير إليه قوله بعد: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ .

و للقوم في تفسير قوله: ﴿لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاَتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا وجوه:

منها ما ذكره في الكشاف، و محصله أن قوله: ﴿مِنْ لَدُنَّا معناه بقدرتنا، فالمعنى: أن لو شئنا اتخاذ اللهو لاتخذناه بقدرتنا لعمومها لكنا لا نشاء و ذلك بدلالة ﴿لَوْ على الامتناع.

و فيه أن القدرة لا تتعلق بالمحال و اللهو و معناه ما يشغلك عما يهمك بأي وجه وجه محال عليه تعالى. على أن دلالة ﴿مِنْ لَدُنَّا على القدرة لا تخلو من خفاء.

و منها قول بعضهم: المراد بقوله: ﴿مِنْ لَدُنَّا من عندنا بحيث لا يطلع عليه أحد لأنه نقص فكان ستره أولى.

و فيه أن ستر النقص إنما هو للخوف من اللائمة عليه و إنما يخاف من لا يخلو من سمة العجز لا من هو على كل شي‏ء قدير فإذ رفع نقصا باللهو فليرفع آخر بما يناسبه، على أنه إن امتنع عليه إظهاره لكونه نقصا فامتناع أصله عليه لكونه نقصا أقدم من امتناع الإظهار فيئول المعنى إلى أنا لو فعلنا هذا المحال لسترناه عنكم لأن إظهاره محال و هو كما ترى.

و منها قول بعضهم إن المراد باللهو المرأة و الولد و العرب تسمي المرأة لهوا و الولد لهوا لأن المرأة و الولد يستروح بهما و اللهو ما يروح النفس، فالمعنى: لو أردنا أن نتخذ صاحبة و ولدا أو أحدهما لاتخذناه من المقربين عندنا فهو كقوله: ﴿لَوْ أَرَادَ اَللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاَصْطَفى‏َ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ .

و قيل: لاتخذناه من المجردات العالية لا من الأجسام و الجسمانيات السافلة، و قيل: لاتخذناه من الحور العين، و كيف كان فهو رد على مثل النصارى المثبتين للصاحبة و الولد و هما مريم و المسيح (عليه السلام).

و فيه أنه إن صح من حيث اللفظ استلزم انقطاع الكلام عن السياق السابق.

 

 

 

 و منها ما عن بعضهم أن المراد بقوله: ﴿مِنْ لَدُنَّا من جهتنا، و معنى الآية:

لو أردنا اتخاذ لهو لكان اتخاذ لهو من جهتنا أي لهوا إلهيا أي حكمة اتخذتموها لهوا من جهتكم و هذا عين الجد و الحكمة فهو في معنى لو أردناه لامتنع و محصله أن جهته تعالى لا تقبل إلا الجد و الحكمة فلو أراد لهوا صار جدا و حكمة أي يستحيل إرادة اللهو منه تعالى.

و فيه أنه و إن كان معنى صحيحا في نفسه غير خال من الدقة لكنه غير مفهوم من لفظ الآية كما هو ظاهر.

و قوله: ﴿إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ الظاهر أن ﴿أَنْ شرطية كما تقدمت الإشارة إليه، و على هذا فجزاؤه محذوف يدل عليه قوله: ﴿لاَتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا و قال بعضهم:

إن ﴿أَنْ نافية و الجملة نتيجة البيان السابق، و عن بعضهم أن إن النافية لا تفارق غالبا اللام الفارقة، و قد ظهر مما تقدم من معنى الآية أن كون إن شرطية أبلغ بحسب المقام من كونها نافية.

قوله تعالى: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَ لَكُمُ اَلْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ القذف‏ الرمي البعيد، و الدمغ على ما في مجمع البيان، شج الرأس حتى يبلغ الدماغ، يقال: دمغه يدمغه إذا أصاب دماغه، و زهوق النفس‏ تلفها و هلاكها، يقال: زهق الشي‏ء يزهق أي هلك.

و الحق و الباطل مفهومان متقابلان، فالحق‏ هو الثابت العين، و الباطل‏ ما ليس له عين ثابتة لكنه يتشبه بالحق تشبها فيظن أنه هو حتى إذا تعارضا بقي الحق و زهق الباطل كالماء الذي هو حقيقة من الحقائق، و السراب‏ الذي ليس بالماء حقيقة لكنه يتشبه به في نظر الناظر فيحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.

و قد عد سبحانه في كلامه أمثلة كثيرة من الحق و الباطل فعد الاعتقادات المطابقة للواقع من الحق و ما ليس كذلك من الباطل و عد الحياة الآخرة حقا و الحياة الدنيا بجميع ما يراه الإنسان لنفسه فيها و يسعى له سعيه من ملك و مال و جاه و أولاد و أعوان و نحو ذلك باطلا و عد ذاته المتعالية حقا و سائر الأسباب التي يغتر بها الإنسان و يركن إليها من دون الله باطلا، و الآيات في ذلك كثيرة لا مجال لنقلها في المقام.

و الذي يستند إليه تعالى بالأصالة هو الحق دون الباطل كما قال: ﴿اَلْحَقُّ مِنْ

 

 

 

 رَبِّكَ آل عمران: ٦٠، و قال: ﴿وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ص:

 ٢٧، و أما الباطل من حيث إنه باطل فليس ينتسب إليه بالاستقامة و إنما هو لازم نقص بعض الأشياء إذا قيس الناقص منها إلى الكامل، فالعقائد الباطلة لوازم نقص الإدراك و سائر الأمور الباطلة لوازم الأمور إذا قيس إلى ما هو أكمل منها، و هي تنتسب إليه تعالى بالإذن بمعنى أن خلقه تعالى الأرض السبخة الصيقلية بحيث يتراءى للناظر في لون الماء و صفائه إذن منه تعالى في أن يتخيل عنده ماء و هو تحقق السراب تحققا تخيليا باطلا.

و من هنا يظهر أن لا شي‏ء في الوجود إلا و فيه شوب بطلان إلا الله سبحانه فهو الحق الذي لا يخالطه بطلان و لا سبيل له إليه قال: ﴿أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ النور: ٢٥.

و يظهر أيضا أن الخلقة على ما فيها من النظام بامتزاج من الحق و الباطل، قال تعالى يمثل أمر الخلقة: ﴿أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ اَلسَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي اَلنَّارِ اِبْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْحَقَّ وَ اَلْبَاطِلَ فَأَمَّا اَلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَ أَمَّا مَا يَنْفَعُ اَلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي اَلْأَرْضِ الرعد: ١٧، و تحت هذا معارف جمة.

و قد جرت سنة الله تعالى أن يمهل الباطل حتى إذا اعترض الحق ليبطله و يحل محله قذفه بالحق فإذا هو زاهق فالاعتقاد الحق لا يقطع دابره و إن قلت حملته أحيانا أو ضعفوا، و الكمال الحق لا يهلك من أصله و إن تكاثرت أضداده، و النصر الإلهي لا يتخطى رسله و إن كانوا ربما بلغ بهم الأمر إلى أن استيئسوا و ظنوا أنهم قد كذبوا.

و هذا معنى قوله تعالى: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ فإنه إضراب عن عدم خلق العالم لعبا أو عن عدم إرادة اتخاذ اللهو المدلول عليه بقوله:

﴿لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً إلخ، و في قوله: ﴿نَقْذِفُ المفيد للاستمرار دلالة على كونه سنة جارية، و في قوله: ﴿نَقْذِفُ ... ﴿فَيَدْمَغُهُ دلالة على علو الحق على الباطل، و في قوله: ﴿فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ دلالة على مفاجاة القذف و مباغتته في حين لا يرجى للحق غلب و لا للباطل انهزام، و الآية مطلقة غير مقيدة بالحق و الباطل في الحجة أو في السيرة و السنة أو في الخلقة فلا دليل على تقييدها بشي‏ء من ذلك.

و المعنى: ما خلقنا العالم لعبا أو لم نرد اتخاذ اللهو بل سنتنا أن نرمي بالحق على الباطل رميا بعيدا فيهلكه فيفاجئه الذهاب و التلف، فإن كان الباطل حجة أو عقيدة

 

 

 

 فحجة الحق تبطلها، و إن كان عملا و سنة كما في القرى المسرفة الظالمة فالعذاب المستأصل يستأصله و يبطله، و إن كان غير ذلك فغير ذلك.

و قد فسر الآية بعضهم بقوله: لكنا لا نريد اتخاذ اللهو بل شأننا أن نغلب الحق الذي من جملته الجد على الباطل الذي من جملته اللهو، و هو خطأ فإن فيه اعترافا بوجود اللهو و لم يرد في سابق الكلام إلا اللهو المنسوب إليه تعالى الذي نفاه الله عن نفسه فالحق أن الآية لا إطلاق لها بالنسبة إلى الجد و اللهو إذ لا وجود للهو حتى تشمله الآية و تشمل ما يقابله.

و قوله: ﴿وَ لَكُمُ اَلْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ وعيد للناس المنكرين للمعاد و النبوة على ما تقدم من توضيح مقتضى السياق.

و يظهر من الآية حقيقة الرجوع إلى الله تعالى و هو أنه تعالى لا يزال يقذف بالحق على الباطل فيحق الحق و يخلصه من الباطل الذي يشوبه أو يستره حتى لا يبقى إلا الحق المحض و هو الله الحق عز اسمه قال: ﴿وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ اَلْمُبِينُ النور:

 ٢٥، فيسقط يومئذ ما كان يظن للأسباب من استقلال التأثير و يزعم لغيره من القوة و الملك و الأمر كما قال: ﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ الأنعام:

 ٩٤، و قال: ﴿أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً البقرة: ١٦٥، و قال: ﴿لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ المؤمن: ١٦، و قال: ﴿وَ اَلْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ الانفطار: ١٩، و الآيات المشيرة إلى هذا المعنى كثيرة.

قوله تعالى: ﴿وَ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ دفع لأحد الاحتمالات المنافية للمعاد في الجملة و هو أن لا يتسلط سبحانه على بعض أو كل الناس فينجو من لا يملكه من الرجوع إليه و الحساب و الجزاء فأجيب بأن ملكه تعالى عام شامل لجميع من في السماوات و الأرض فله أن يتصرف فيها أي تصرف أراد.

و من المعلوم أن هذا الملك حقيقي من لوازم الإيجاد بمعنى قيام الشي‏ء بسببه الموجد له بحيث لا يعصيه في أي تصرف فيه، و الإيجاد يختص بالله سبحانه لا يشاركه فيه غيره حتى عند الوثنيين المثبتين لآلهة أخرى للتدبير و العبادة فكل من في السماوات و الأرض مملوك لله لا مالك غيره.

قوله تعالى: ﴿وَ مَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ لاَ يَسْتَحْسِرُونَ إلى آخر

 

 

 

الآية التالية، قال في مجمع البيان،: الاستحسار الانقطاع عن الإعياء يقال: بعير حسير أي معي، و أصله من قولهم: حسر عن ذراعيه، فالمعنى أنه كشف قوته بإعياء انتهى.

و المراد بقوله: ﴿وَ مَنْ عِنْدَهُ المخصوصون بموهبة القرب و الحضور و ربما انطبق على الملائكة المقربين، و قوله: ﴿يُسَبِّحُونَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ بمنزلة التفسير لقوله: ﴿وَ لاَ يَسْتَحْسِرُونَ أي لا يأخذهم عي و كلال بل يسبحون الليل و النهار من غير فتور، و التسبيح بالليل و النهار كناية عن دوام التسبيح من غير انقطاع.

يصف تعالى حال المقربين من عباده و المكرمين من ملائكته أنهم مستغرقون في عبوديته مكبون على عبادته لا يشغلهم عن ذلك شاغل و لا يصرفهم صارف، و كأن الكلام مسوق لبيان خصوصية مالكيته و سلطنته المذكورة في صدر الآية.

و ذلك أن السنة الجارية بين الموالي و عبيدهم في الملك الاعتباري أن العبد كلما زاد تقربا من مولاه خفف عنه بالإغماض عن كثير من الوظائف و الرسوم الجارية على عامة العبيد، و كان معفوا عن الحساب و المؤاخذة، و ذلك لكون الاجتماع المدني الإنساني مبنيا على التعاون بمبادلة المنافع بحسب مساس الحاجة، و الحاجة قائمة دائما، و المولى أحوج إلى مقربي عبيده من غيرهم كما أن الملك أحوج إلى مقربي حضرته من غيرهم، فإذا كان انتفاع المولى من عبده المقرب أكثر من غيره فليكن ما يبذله من الكرامة بإزاء منافع خدمته كذلك و لذا يرفع عنه كثير مما يوضع لغيره و يعفي عن بعض ما يؤاخذ به غيره فإنما هي معاملة و مبايعة.

و هذا بخلاف ملكه تعالى لعبيده فإنه ملك حقيقي مالكه في غنى مطلق عن مملوكه، و مملوكه في حاجة مطلقة إلى مالكه و لا يختلف الحال فيه بالقرب و البعد و علو المقام و دنوه بل كلما زاد العبد فيه قربا كانت العظمة و الكبرياء و العزة و البهاء عنده أظهر و الإحساس بذلة نفسه و مسكنتها و حاجتها أكثر و يلزمها الإمعان في خشوع العبودية و خضوع العبادة.

فكان قوله: ﴿وَ مَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ لاَ يَسْتَحْسِرُونَ إلخ إشارة إلى أن ملكه تعالى و قد أشار قبل إلى أنه مقتض للعبادة و الحساب و الجزاء على خلاف الملك الدائر في المجتمع الإنساني، فلا يطمعن طامع أن يعفى عنه العمل أو الحساب و الجزاء.

 

 

 

 و يمكن أن يكون الجملة في مقام الترقي و المعنى له من في السماوات و الأرض فعليهم أن يعبدوا و سيحاسبون من غير استثناء حتى أن من عنده من مقربي عباده و كرام ملائكته لا يستكبرون عن عبادته و لا يستحسرون بل يسبحونه تسبيحا دائما غير منقطع.

و قد تقدم في آخر سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسْجُدُونَ استفادة أن المراد بقوله: ﴿اَلَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ أعم من الملائكة المقربين فلا تغفل.

قوله تعالى: ﴿أَمِ اِتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ اَلْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ الإنشار إحياء الموتى فالمراد به المعاد، و في الآية دفع احتمال آخر ينافي المعاد و الحساب المذكور سابقا و هو الرجوع إلى الله بأن يقال: إن هناك آلهة أخرى دون الله يبعثون الأموات و يحاسبونهم و ليس لله سبحانه من أمر المعاد شي‏ء حتى نخافه و نضطر إلى إجابة رسله و اتباعهم في دعوتهم بل نعبدهم و لا جناح؟.

و تقييد قوله: ﴿أَمِ اِتَّخَذُوا آلِهَةً بقوله ﴿مِنَ اَلْأَرْضِ قيل: ليشير به إلى أنهم إذا كانوا من الأرض كان حكمهم حكم عامة أهل الأرض من الموت ثم البعث فمن الذي يميتهم ثم يبعثهم؟.

و يمكن أن يكون المراد اتخاذ آلهة من جنس الأرض كالأصنام المتخذة من الحجارة و الخشب و الفلزات فيكون فيه نوع من التهكم و التحقير و يئول المعنى إلى أن الملائكة الذين هم الآلهة عندهم إذا كانوا من عباده تعالى و عباده و انقطع هؤلاء عنهم و يئسوا من ألوهيتهم ليلتجئوا إليهم في أمر المعاد فهل يتخذون أصنامهم و تماثيلهم آلهة من دون الله مكان أرباب الأصنام و التماثيل.

قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اَللَّهِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ قد تقدم في تفسير سورة هود و تكررت الإشارة إليه بعده أن النزاع بين الوثنيين و الموحدين ليس في وحدة الإله و كثرته بمعنى الواجب الوجود الموجود لذاته الموجد لغيره فهذا مما لا نزاع في أنه واحد لا شريك له، و إنما النزاع في الإله بمعنى الرب المعبود و الوثنيون على أن تدبير العالم على طبقات أجزائه مفوضة إلى موجودات شريفة مقربين عند الله ينبغي أن يعبدوا حتى يشفعوا لعبادهم عند الله و يقربوهم إليه زلفى كرب السماء و رب الأرض و رب الإنسان و هكذا و هم آلهة من دونهم و الله

 

 

 

 سبحانه إله الآلهة و خالق الكل كما يحكيه عنهم قوله: ﴿وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اَللَّهُ الزخرف: ٨٧ و قوله: ﴿وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ اَلْعَزِيزُ اَلْعَلِيمُ الزخرف: ٩.

و الآية الكريمة إنما تنفي الآلهة من دون الله في السماء و الأرض بهذا المعنى لا بمعنى الصانع الموجد الذي لا قائل بتعدده، و المراد بكون الإله في السماء و الأرض تعلق ألوهيته بالسماء و الأرض لا سكناه فيهما فهو كقوله تعالى: ﴿هُوَ اَلَّذِي فِي اَلسَّمَاءِ إِلَهٌ وَ فِي اَلْأَرْضِ إِلَهٌ الزخرف: ٨٤.

و تقرير حجة الآية أنه لو فرض للعالم آلهة فوق الواحد لكانوا مختلفين ذاتا متباينين حقيقة و تباين حقائقهم يقضي بتباين تدبيرهم فيتفاسد التدبيرات و تفسد السماء و الأرض لكن النظام الجاري نظام واحد متلائم الأجزاء في غاياتها فليس للعالم آلهة فوق الواحد و هو المطلوب.

فإن قلت: يكفي في تحقق الفساد ما نشاهده من تزاحم الأسباب و العلل و تزاحمها في تأثيرها في المواد هو التفاسد.

قلت: تفاسد العلتين تحت تدبيرين غير تفاسدهما تحت تدبير واحد، ليحدد بعض إثر بعض و ينتج الحاصل من ذلك و ما يوجد من تزاحم العلل في النظام من هذا القبيل فإن العلل و الأسباب الراسمة لهذا النظام العام على اختلافها و تمانعها و تزاحمها لا يبطل بعضها فعالية بعض بمعنى أن ينتقض بعض القوانين الكلية الحاكمة في النظام ببعض فيختلف عن مورده مع اجتماع الشرائط و ارتفاع الموانع فهذا هو المراد من إفساد مدبر عمل مدبر آخر بل السببان المختلفان المتنازعان حالهما في تنازعهما حال كفتي الميزان المتنازعتين بالارتفاع و الانخفاض فإنهما في عين اختلافهما متحدان في تحصيل ما يريده صاحب الميزان و يخدمانه في سبيل غرضه و هو تعديل الوزن بواسطة اللسان.

فإن قلت: آثار العلم و الشعور مشهودة في النظام الجاري في الكون فالرب المدبر له يدبره عن علم و إذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يفرض هناك آلهة فوق الواحد يدبرون أمر الكون تدبيرا تعقليا و قد توافقوا على أن لا يختلفوا و لا يتمانعوا في تدبيرهم حفظا للمصلحة.

قلت: هذا غير معقول، فإن معنى التدبير التعقلي عندنا هو أن نطبق أفعالنا

 

 

 

 الصادرة منا على ما تقتضيه القوانين العقلية الحافظة لتلائم أجزاء الفعل و انسياقه إلى غايته، و هذه القوانين العقلية مأخوذة من الحقائق الخارجية و النظام الجاري فيها الحاكم عليها فأفعالنا التعقلية تابعة للقوانين العقلية و هي تابعة للنظام الخارجي لكن الرب المدبر للكون فعله نفس النظام الخارجي المتبوع للقوانين العقلية، فمن المحال أن يكون فعله تابعا للقوانين العقلية و هو متبوع، فافهم ذلك.

فهذا تقرير حجة الآية و هي حجة برهانية مؤلفة من مقدمات يقينية تدل على أن التدبير العام الجاري بما يشتمل عليه و يتألف منه من التدابير الخاصة صادر عن مبدإ واحد غير مختلف، لكن المفسرين قرروها حجة على نفي تعدد الصانع و اختلفوا في تقريرها و ربما أضاف بعضهم إليها من المقدمات ما هو خارج عن منطوق الآية و خاضوا فيها حتى قال القائل منهم إنها حجة إقناعية غير برهانية أوردت إقناعا للعامة.

قوله تعالى: ﴿فَسُبْحَانَ اَللَّهِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ تنزيه له تعالى عن وصفهم و هو أن معه آلهة هم ينشرون أو أن هناك آلهة من دونه يملكون التدبير في ملكه فالعرش كناية عن الملك، و قوله: ﴿عَمَّا يَصِفُونَ «ما» فيه مصدرية و المعنى: عن وصفهم.

و للكلام تتمة ستوافيك.

قوله تعالى: ﴿لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ الضمير في ﴿لاَ يُسْئَلُ له تعالى بلا إشكال، و الضمير في ﴿وَ هُمْ يُسْئَلُونَ للآلهة الذين يدعونهم أو للآلهة و الناس جميعا أو للناس فقط، و أحسن الوجوه أولها لأن ذلك هو المناسب للسياق و الكلام في الآلهة الذين يدعونهم من دونه، فهم المسئولون و الله سبحانه لا يسأل عن فعله.

و السؤال عن الفعل هو قولنا لفاعله: لم فعلت كذا؟ و هو سؤال عن جهة المصلحة في الفعل فإن الفعل المقارن للمصلحة لا مؤاخذة عليه عند العقلاء، و الله سبحانه لما كان حكيما على الإطلاق كما وصف به نفسه في مواضع من كلامه، و الحكيم هو الذي لا يفعل فعلا إلا لمصلحة مرجحة لا جرم لم يكن معنى للسؤال عن فعله بخلاف غيره فإن من الممكن في حقهم أن يفعلوا الحق و الباطل و أن يقارن فعلهم المصلحة و المفسدة فجاز في حقهم السؤال حتى يؤاخذوا بالذم العقلي أو العقاب المولوي إن لم يقارن الفعل المصلحة.

هذا ما ذكره جماعة من المفسرين في توجيه الآية و هو معنى صحيح في الجملة لكن

 

 

 

يبقى عليه أمران:

الأمر الأول: أن الآية مطلقة لا دليل فيها من جهة اللفظ على كون المراد فيها هو هذا المعنى فإن كون المعنى صحيحا في نفسه لا يستلزم كونه هو المراد من الآية.

و لذلك وجه بعضهم عدم السؤال بأنه مبني على كون أفعال الله لا تعلل بالأغراض لأن الغرض ما يبعث الفاعل إلى الفعل ليستكمل به و ينتفع به و إذ كان تعالى أجل من أن يحتاج إلى ما هو خارج عن ذاته و يستكمل بالانتفاع من غيره فلا يقال له:

لم فعلت كذا سؤالا عن الغرض الذي دعاه إلى الفعل.

و إن رد بأن الفاعل التام الفاعلية إنما يصدر عنه الفعل لذاته فذاته هي غايته و غرضه في فعله من غير حاجة إلى غرض خارج عن ذاته كالإنسان البخيل الذي يكثر الإنفاق ليحصل ملكة الجود حتى إذا حصلت الملكة صدر عنها الإنفاق لذاتها لا لتحصيل ما هو حاصل فنفسها غاية لها في فعلها.

و لذلك أيضا وجه بعض آخر عدم السؤال في الآية بأن عظمته تعالى و كبرياءه و عزته و بهاءه تقهر كل شي‏ء من أن يسأله عن فعله أو يعترض له في شي‏ء من شئون إرادته فغيره تعالى أذل و أحقر من أن يجترئ عليه بسؤال أو مؤاخذة على فعل لكن له سبحانه أن يسأل كل فاعل عن فعله و يؤاخذ كل من حقت عليه المؤاخذة هذا.

و إن كان مردودا بأن عدم السؤال من جهة أن ليس هناك من يتمكن من سؤاله اتقاء من قهره و سخطه كالملوك الجبارين و الطغاة المتفرعنين غير كون الفعل بحيث لا يتسم بسمة النقص و الفتور و لا يعتريه عيب و قصور، و الذي يدل عليه عامة كلامه تعالى أن فعله من القبيل الثاني دون الأول كقوله: ﴿اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ الم السجدة: ٧، و قوله: ﴿لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنى‏َ الحشر: ٢٤، و قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَظْلِمُ اَلنَّاسَ شَيْئاً يونس: ٤٤، إلى غير ذلك من الآيات.

و بالجملة قولهم: إنه تعالى إنما لا يسأل عن فعله لكونه حكيما على الإطلاق يئول إلى أن عدم السؤال عن فعله ليس لذات فعله بما هو فعله بل لأمر خارج عن ذات الفعل و هو كون فاعله حكيما لا يفعل إلا ما فيه مصلحة مرجحة، و قوله: لا يسأل عما يفعل و هم يسألون لا دلالة في لفظه على التقييد بالحكمة فكان عليهم أن يقيموا عليه دليلا.

و لو جاز الخروج في تعليل عدم السؤال في الآية عن لفظها لكان أقرب منه

 

 

 

 التمسك بقوله و هو متصل بالآية : ﴿فَسُبْحَانَ اَللَّهِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ فإن الآية تثبت له الملك المطلق و الملك متبع في إرادته مطاع في أمره لأنه ملك أي لذاته لا لأن فعله أو قوله موافق لمصلحة مرجحة و إلا لم يكن فرق بينه و بين أدنى رعيته و كانت المصلحة هي المتبعة و لم تكن طاعته مفترضة في بعض الأحيان، و كذلك المولى متبع و مطاع لعبده فيما له من المولوية من جهة أنه مولى ليس للعبد أن يسأله فيما يريده منه و يأمره به عن وجه الحكمة و المصلحة فالملك على ما له من السعة مبدأ لجواز التصرفات و سلطنة عليها لذاته.

فالله سبحانه ملك و مالك للكل و الكل مملوكون له محضا فله أن يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد و ليس لغيره ذلك، و له أن يسألهم عما يفعلون و ليس لغيره أن يسألوه عما يفعل نعم هو سبحانه أخبرنا أنه حكيم لا يفعل إلا ما فيه مصلحة و لا يريد إلا ذلك فليس لنا أن نسي‏ء به الظن فيما ينسب إليه من الفعل بعد هذا العلم الإجمالي بحكمته المطلقة فضلا عن سؤاله عما يفعل، و من ألطف الآيات دلالة على هذا الذي ذكرنا قوله حكاية عن عيسى بن مريم: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ المائدة: ١١٨ حيث يوجه عذابهم بأنهم مملوكون له و يوجه مغفرتهم بكونه حكيما.

و من هنا يظهر أن الحكمة بوجه ما أعم من قوله: ﴿لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ بخلاف الملك فالملك أقرب إلى توجيه الآية منها كما أشرنا إليه.

الأمر الثاني: أن الآية على ما وجهوها به خفية الاتصال بالسياق السابق و غاية ما قيل في اتصالها بما قبلها ما في مجمع البيان،: أنه تعالى لما بين التوحيد عطف عليه بيان العدل، و أنت خبير بأن مآله الاستطراد و لا موجب له.

و نظيره ما نقل عن أبي مسلم أنها تتصل بقوله في أول السورة: ﴿اِقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ و الحساب‏ هو السؤال عما أنعم الله عليهم به، و هل قابلوا نعمه بالشكر أم قابلوها بالكفر؟ و فيه أن للآيات التالية لهذه الآية اتصالا واضحا بما قبلها فلا معنى لاتصالها وحدها بأول السورة. على أن قوله على تقدير تسليمه يوجه اتصال ذيل الآية و الصدر باق على ما كان.

و أنت خبير أن توجيه الآية بالملك دون الحكمة كما قدمناه يكشف عن اتصال الآية بما قبلها من قوله: ﴿فَسُبْحَانَ اَللَّهِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ فالعرش كما تقدم

 

 

 

كناية عن الملك فتتصل الآيتان و يكون قوله: ﴿لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ بالحقيقة برهانا على ملكه تعالى كما أن ملكه و عدم مسئوليته برهان على ربوبيته، و برهانا على مملوكيتهم كما أن مملوكيتهم و مسئوليتهم برهان على عدم ربوبيتهم فإن الفاعل الذي ليس بمسئولين عن فعله بوجه هو الذي يملك الفعل مطلقا لا محالة، و الفاعل الذي هو مسئول عن فعله هو الذي لا يملك الفعل إلا إذا كان ذا مصلحة و المصلحة هي التي تملكه و ترفع المؤاخذة عنه، و رب العالم أو جزء من أجزائه هو الذي يملك تدبيره باستقلال من ذاته أي لذاته لا بإعطاء من غيره فالله سبحانه هو رب العرش و غيره مربوبون له.

(بحث في حكمته تعالى و معنى كون فعله مقارنا للمصلحة) و هو بحث فلسفي و قرآني‏

الحركات المتنوعة المختلفة التي تصدر منا إنما تعد فعلا لنا إذا تعلقت نوعا من التعلق بإرادتنا فلا تعد الصحة و المرض و الحركة الاضطرارية بالحركة اليومية أو السنوية مثلا أفعالا لنا، و من الضروري أن إرادة الفعل تتبع العلم برجحانه و الإذعان بكونه كمالا لنا، بمعنى كون فعله خيرا من تركه و نفعه غالبا على ضرره فما في الفعل من جهة الخير المترتب عليه هو المرجح له أي هو الذي يبعثنا نحو الفعل أي هو السبب في فاعلية الفاعل منا و هذا هو الذي نسميه غاية الفاعل في فعله و غرضه من فعله و قد قطعت الأبحاث الفلسفية أن الفعل بمعنى الأثر الصادر عن الفاعل إراديا كان أو غير إرادي لا يخلو من غاية.

و كون الفعل مشتملا على جهة الخيرية المترتبة على تحققه هو المسمى بمصلحة الفعل فالمصلحة التي يعدها العقلاء و هم أهل الاجتماع الإنساني مصلحة هي الباعثة للفاعل على فعله، و هي سبب إتقان الفعل الموجب لعد الفاعل حكيما في فعله، و لولاها لكان الفعل لغوا لا أثر له.

و من الضروري أن المصلحة المترتبة على الفعل لا وجود لها قبل وجود الفعل، فكونها باعثة للفاعل نحو الفعل داعية له إليه إنما هو بوجودها علما لا بوجودها خارجا بمعنى أن الواحد منا عنده صورة علمية مأخوذة من النظام الخارجي بما فيه من القوانين الكلية الجارية و الأصول المنتظمة الحاكمة بانسياق الحركات إلى غاياتها و الأفعال إلى

 

 

 

أغراضها و ما تحصل عنده بالتجربة من روابط الأشياء بعضها مع بعض، و لا ريب أن هذا النظام العلمي تابع للنظام الخارجي مترتب عليه.

و شأن الفاعل الإرادي منا أن يطبق حركاته الخاصة المسماة فعلا على ما عنده من النظام العلمي و يراعي المصالح المتقررة فيه في فعله ببناء إرادته عليها فإن أصاب في تطبيقه الفعل على العلم كان حكيما في فعله متقنا في عمله و إن أخطأ في انطباق العلم على المعلوم الخارجي و إن لم يصب لقصور أو تقصير لم يسم حكيما بل لاغيا و جاهلا و نحوهما.

فالحكمة صفة الفاعل من جهة انطباق فعله على النظام العلمي المنطبق على النظام الخارجي و اشتمال فعله على المصلحة هو ترتبه على الصورة العلمية المترتبة على الخارج، فالحكمة بالحقيقة صفة ذاتية للخارج و إنما يتصف الفاعل أو فعله بها من جهة انطباق الفعل عليه بوساطة العلم، و كذا الفعل مشتمل على المصلحة بمعنى تفرعه على صورتها العلمية المحاكية للخارج.

و هذا إنما يتم في الفعل الذي أريد به مطابقة الخارج كأفعالنا الإرادية و أما الفعل الذي هو نفس الخارج و هو فعل الله سبحانه فهو نفس الحكمة لا لمحاكاته أمرا آخر هو الحكمة و فعله مشتمل على المصلحة بمعنى أنه متبوع المصلحة لا تابع للمصلحة بحيث تدعوه إليه و تبعثه نحوه كما عرفت.

و كل فاعل غيره تعالى يسأل عن فعله بقول «لم فعلت كذا»؟ و المطلوب به أن يطبق فعله على النظام الخارجي بما عنده من النظام العلمي و يشير إلى وجه المصلحة الباعثة له نحو الفعل، و أما هو سبحانه فلا مورد للسؤال عن فعله إذ فعله نفس النظام الخارجي الذي يطلب بالسؤال تطبيق الفعل عليه و لا نظام خارجي آخر حتى يطبق هو عليه، و فعله هو الذي تكون صورته العلمية مصلحة داعية باعثة نحو الفعل و لا نظام آخر فوقه كما سمعت حتى تكون الصورة العلمية المأخوذة منه مصلحة باعثة نحو هذا النظام فافهم.

و أما ما ذكره بعضهم أن له تعالى علما تفصيليا بالأشياء قبل إيجادها و العلم تابع للمعلوم فللأشياء ثبوت ما في نفسها قبل الإيجاد يتعلق بها العلم بحسب ذلك الثبوت و لها مصالح مترتبة و استعدادات أزلية على الوجود و الخير و الشر يعلم تعالى بها بحسب ذلك الثبوت ثم يفيض عليها الوجود هاهنا على ما علم.

 

 

 

 فغير سديد أما أولا: فلابتنائه على كون علمه تعالى التفصيلي بالأشياء قبل الإيجاد حصوليا و قد بين بطلانه في محله، بل هو علم حضوري و ليس هو بتابع للمعلوم بل الأمر بالعكس.

و أما ثانيا: فلعدم تعقل الثبوت قبل الوجود إذ الوجود مساوق للشيئية فما لا وجود له لا شيئية له و ما لا شيئية له لا ثبوت له.

و أما ثالثا: فلأن إثبات الاستعداد هناك لا يتم إلا مع فرض فعلية بإزائه و كذا فرض المصلحة لا يتم إلا مع فرض كمال و نقص، و هذه آثار خارجية تختص بالوجودات الخارجية فيعود ما فرض ثبوتا قبل الإيجاد وجودا عينيا بعده و هذا خلف. هذا ما يعطيه البحث العقلي و يؤيده البحث القرآني و كفى في ذلك قوله تعالى: ﴿وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ اَلْحَقُّ الأنعام: ٧٣، فقد عد كلمة ﴿كُنْ التي هي ما به يوجد الأشياء أي وجودها المنسوب إليه قولا لنفسه و ذكر أنه الحق أي العين الثابت الخارجي فقوله هو وجود الأشياء الخارجي و هو فعله أيضا فقوله فعله و قوله و فعله وجود الأشياء خارجا، و قال: ﴿اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ آل عمران: ٦٠، و الحق هو القول أو الاعتقاد من جهة أن الخارج يطابقه فالخارج حق بالأصالة و القول أو الاعتقاد حق يتبع مطابقته، و إذا كان الخارج هو فعله تعالى و الخارج هو مبدأ القول و الاعتقاد فالحق منه تعالى يبتدأ و إليه يعود، و لذا قال: ﴿اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ و لم يقل:

الحق مع ربك كما نقول في المخاصمات التي فيها بيننا: الحق مع فلان.

و من هنا يظهر أن كل فعل ففيه سؤال إلا فعله سبحانه لأن المطلوب بالسؤال بيان كون الفعل مطابقا بصيغة اسم المفعول للحق و هذا إنما يجري في غير نفس الحق و أما الحق نفسه فهو حق بذاته من غير حاجة إلى مطابقة.

بيان

قوله تعالى: ﴿أَمِ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إلى آخر الآية.

﴿هَاتُوا اسم فعل بمعنى ائتوا به، و البرهان‏ الدليل المفيد للعلم، و المراد بالذكر على ما يستفاد من السياق الكتاب المنزل من عند الله فالمراد بذكر من معي القرآن المنزل عليه الذي هو ذكر أمته إلى يوم القيامة و بذكر من قبلي كتب الأنبياء السابقين كالتوراة و الإنجيل و الزبور و غيرها.

 

 

 

 و يمكن أن يكون المراد به الوحي النازل عليه في القرآن و هو ذكر من معه (ص) و الوحي النازل على من قبله في أمر توحيد العبادة المنقول في القرآن فالمشار إليه بهذا هو ما في القرآن من الأمر بتوحيد العبادة النازل عليه و النازل على من تقدمه من الأنبياء (عليه السلام)، و ربما فسر الذكر بالخبر و غيره و لا يعبأ به.

و في الآية دفع احتمال آخر من الاحتمالات المنافية لإثبات المعاد و الحساب المذكور سابقا و هو أن يتخذوا آلهة من دون الله سبحانه فيعبدوهم و يستغنوا بذلك عن عبادة الله و ولايته المستلزمة للمعاد إليه و حسابه و وجوب إجابة دعوة أنبيائه، و دفع هذا الاحتمال بعدم الدليل عليه و قد خاصمهم بأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يطالبهم بالدليل بقوله:

﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ... إلخ.

و قوله: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي من قبيل المنع مع السند باصطلاح فن المناظرة و محصل معناه طلب الخصم من المدعي الدليل على مدعاه غير المدلل مستندا في طلبه ذلك إلى أن عنده دليلا يدل على خلافه.

يقول تعالى لنبيه (ص): قل لهؤلاء المتخذين الآلهة من دون الله هاتوا برهانكم على دعواكم فإن الدعوى التي لا دليل عليها لا تسمع و لا يجوز عقلا أن يركن إليها، و الذي استند إليه في طلب الدليل أن الكتب السماوية النازلة من عند الله سبحانه لا يوافقكم على ما ادعيتم بل يخالفكم فيه فهذا القرآن و هو ذكر من معي و هذه سائر الكتب كالتوراة و الإنجيل و غيرهما و هي ذكر من قبلي تذكر انحصار الألوهية فيه تعالى وحده و وجوب عبادته.

أو أن ما في القرآن من الوحي النازل علي و هو ذكر من معي و الوحي النازل على من سبقني من الأنبياء و هو ذكر من قبلي في أمر عبادة الإله يحصر الألوهية و العبادة فيه تعالى.

و قوله: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ اَلْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ رجوع إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالإشارة إلى أن أكثرهم لا يميزون الحق من الباطل فليسوا من أهل التمييز الذين لا يتبعون إلا الدليل فهم معرضون عن الحق و اتباعه.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ تثبيت لما قيل في الآية السابقة أن الذكر يذكر توحيده و وجوب عبادته

 

 

 

 و لا يخلو من تأييد ما للمعنى الثاني من معنيي الذكر.

و قوله: ﴿نُوحِي إِلَيْهِ مفيد للاستمرار، و قوله: ﴿فَاعْبُدُونِ خطاب للرسل و من معهم من أممهم و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ظاهر السياق يشهد أنه حكاية قول الوثنيين أن الملائكة أولاده سبحانه فالمراد بالعباد المكرمين الملائكة، و قد نزه الله نفسه عن ذلك بقوله: ﴿سُبْحَانَهُ ثم ذكر حقيقة حالهم بالإضراب.

و إذ كان قوله بعد: ﴿لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ... إلخ بيان كمال عبوديتهم من حيث الآثار و صفائها من جهة الخواص و التبعات و قد ذكر قبلا كونهم عبادا كان ظاهر ذلك أن المراد بإكرامهم إكرامهم بالعبودية لا بغيرها فيئول المعنى إلى أنهم عباد بحقيقة معنى العبودية و من الدليل عليه صدور آثارها الكاملة عنهم.

فالمراد بكونهم عبادا و جميع أرباب الشعور عباد الله إكرامهم في أنفسهم بالعبودية فلا يشاهدون من أنفسهم إلا أنهم عباد، و المراد بكونهم مكرمين إكرامه تعالى لهم بإفاضة العبودية الكاملة عليهم، و هذا نظير كون العبد مخلصا بكسر اللام لربه و مقابلته تعالى ذلك بجعله مخلصا بفتح اللام لنفسه، و إنما الفرق بين كرامة الملائكة و البشر أنها في البشر اكتسابي بخلاف ما في الملائكة، و أما إكرامه تعالى فهو موهبي في القبيلين جميعا فافهم ذلك.

قوله تعالى: ﴿لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ لا يسبق فلان فلانا بالقول أي لا يقول شيئا قبل أن يقوله فقوله تبع، و ربما يكنى به عن الإرادة و المشية أي إرادته تبع إرادته، و قوله: ﴿وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ الظرف متعلق بيعملون قدم عليه لإفادة الحصر أي يعملون بأمره لا بغير أمره، و ليس المراد لا يعملون بأمر غيره ففعلهم تابع لأمره أي لإرادته كما أن قولهم تابع لقوله فهم تابعون لربهم قولا و فعلا.

و بعبارة أخرى إرادتهم و عملهم تابعان لإرادته نظرا إلى كون القول كناية عن الإرادة فلا يريدون إلا ما أراد و لا يعملون إلا ما أراد و هو كمال العبودية فإن لازم عبودية العبد أن يكون إرادته و عمله مملوكين لمولاه.

هذا ما يفيده ظاهر الآية على أن يكون المراد بالأمر ما يقابل النهي، و تفيد

 

 

 

 الآية أن الملائكة لا يعرفون النهي إذ النهي فرع جواز الإتيان بالفعل المنهي عنه و هم لا يفعلون إلا عن أمر.

و يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ يس: ٨٣، و قوله: ﴿وَ مَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ القمر: ٥٠، حقيقة معنى أمره تعالى و قد تقدم في بعض المباحث السابقة كلام في ذلك و سيجي‏ء استيفاء البحث في كلام خاص بالملائكة فيما يعطيه القرآن في حقيقة الملك.

قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ اِرْتَضى‏َ وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ فسروا ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ بما قدموا من أعمالهم و ما أخروا، و المعنى: يعلم ما عملوا و ما هم عاملون.

فقوله: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ استئناف في مقام التعليل لما تقدمه من قوله: ﴿لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ كأنه قيل: إنما لم يقدموا على قول أو عمل بغير أمره تعالى لأنه يعلم ما قدموا من قول و عمل و ما أخروا فلا يزالون يراقبون أحوالهم حيث إنهم يعلمون ذلك.

و هو معنى جيد في نفسه لكنه إنما يصلح لتعليل عدم إقدامهم على المعصية لا لتعليل قصر عملهم على مورد الأمر و هو المطلوب، على أن لفظ الآية لا دلالة فيه على أنهم يعلمون ذلك و لو لا ذلك لم يتم البيان.

و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: ﴿وَ مَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَ مَا خَلْفَنَا وَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ وَ مَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا مريم: ٦٤، أن الأوجه حمل قوله: ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِينَا على الأعمال و الآثار المتفرعة على وجودهم، و قوله: ﴿وَ مَا خَلْفَنَا على ما هو من أسباب وجودهم مما تقدمهم و تحقق قبلهم فلو حمل اللفظتان في هذه الآية على ما حملتا عليه هناك كانت الجملة تعليلا واضحا لمجموع قوله: ﴿بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ - إلى قوله - ﴿بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ الذي يذكرهم بشرافة الذات و شرافة آثار الذات من القول و الفعل و يكون المعنى: إنما أكرم الله ذواتهم و حمد آثارهم لأنه يعلم أعمالهم و أقوالهم و هي ما بين أيديهم و يعلم السبب الذي به وجدوا و الأصل الذي عليه نشئوا و هو ما خلفهم كما يقال: فلان كريم النفس حميد السيرة لأنه مرضي الأعمال من أسرة كريمة.

 

 

 

و قوله: ﴿وَ لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ اِرْتَضى‏َ تعرض لشفاعتهم لغيرهم و هو الذي تعلق به الوثنيون في عبادتهم الملائكة كما ينبئ عنه قولهم: ﴿هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اَللَّهِ ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اَللَّهِ زُلْفى‏َ فرد تعالى عليهم بأن الملائكة إنما يشفعون لمن ارتضاه الله و المراد به ارتضاء دينه لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ النساء: ٤٨، فالإيمان بالله من غير شرك هو الارتضاء، و الوثنيون مشركون، و من عجيب أمرهم أنهم يشركون بنفس الملائكة الذين لا يشفعون إلا لغير المشركين من الموحدين.

و قوله: ﴿وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ هي الخشية من سخطه و عذابه مع الأمن منه بسبب عدم المعصية و ذلك لأن جعله تعالى إياهم في أمن من العذاب بما أفاض عليهم من العصمة لا يحدد قدرته تعالى و لا ينتزع الملك من يده، فهو يملك بعد الأمن عين ما كان يملكه قبله، و هو على كل شي‏ء قدير، و بذلك يستقيم معنى الآية التالية.

قوله تعالى: ﴿وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلظَّالِمِينَ أي من قال كذا كان ظالما و نجزيه جهنم لأنها جزاء الظالم، و الآية قضية شرطية و الشرطية لا تقتضي تحقق الشرط.

قوله تعالى: ﴿أَ وَ لَمْ يَرَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَ جَعَلْنَا مِنَ اَلْمَاءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ أَ فَلاَ يُؤْمِنُونَ المراد بالرؤية العلم الفكري و إنما عبر بالرؤية لظهوره من حيث إنه نتيجة التفكير في أمر محسوس.

و الرتق و الفتق معنيان متقابلان، قال الراغب في المفردات،: الرتق‏ الضم و الالتحام خلقة كان أم صنعة، قال تعالى: ﴿كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا و قال: الفتق‏ الفصل بين المتصلين و هو ضد الرتق. انتهى. و ضمير التثنية في ﴿كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا للسماوات و الأرض بعد السماوات طائفة و الأرض طائفة فهما طائفتان اثنتان، و مجي‏ء الخبر أعني رتقا مفردا لكونه مصدرا و إن كان بمعنى المفعول و المعنى كانت هاتان الطائفتان منضمتين متصلتين ففصلناهما.

و هذه الآية و الآيات الثلاث التالية لها برهان على توحيده تعالى في ربوبيته للعالم كله أوردها بمناسبة ما انجر الكلام إلى توحيده و نفي ما اتخذوها آلهة من دون الله و عدوا الملائكة و هم من الآلهة عندهم أولادا له، بانين في ذلك على أن الخلقة و الإيجاد لله

 

 

 

 و الربوبية و التدبير للآلهة. فأورد سبحانه في هذه الآيات أشياء من الخليقة خلقتها ممزوجة بتدبير أمرها فتبين بذلك أن التدبير لا ينفك عن الخلقة فمن الضروري أن يكون الذي خلقها هو الذي يدبر أمرها و ذلك كالسماوات و الأرض و كل ذي حياة و الجبال و الفجاج و الليل و النهار و الشمس و القمر في خلقها و أحوالها التي ذكرها سبحانه.

فقوله: ﴿أَ وَ لَمْ يَرَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا المراد بالذين كفروا بمقتضى السياق هم الوثنيون حيث يفرقون بين الخلق و التدبير بنسبة الخلق إلى الله سبحانه و التدبير إلى الآلهة من دونه و قد بين خطأهم في هذه التفرقة بعطف نظرهم إلى ما لا يرتاب فيه من فتق السماوات و الأرض بعد رتقهما فإن في ذلك خلقا غير منفك عن التدبير، فكيف يمكن قيام خلقهما بواحد و قيام تدبيرهما بآخرين.

لا نزال نشاهد انفصال المركبات الأرضية و الجوية بعضها من بعض و انفصال أنواع النباتات من الأرض و الحيوان من الحيوان و الإنسان من الإنسان و ظهور المنفصل بالانفصال في صورة جديدة لها آثار و خواص جديدة بعد ما كان متصلا بأصله الذي انفصله منه غير متميز الوجود و لا ظاهر الأثر و لا بارز الحكم فقد كانت هذه الفعليات محفوظة الوجود في القوة مودعة الذوات في المادة رتقا من غير فتق حتى فتقت بعد الرتق و ظهرت بفعلية ذواتها و آثارها.

و السماوات و الأرض بأجرامها حالها حال أفراد الأنواع التي ذكرناها و هذه الأجرام العلوية و الأرض التي نحن عليها و إن لم يسمح لنا أعمارنا على قصرها أن نشاهد منها ما نشاهده في الكينونات الجزئية التي ذكرناها، فنرى بدء كينونتها أو انهدام وجودها لكن المادة هي المادة و أحكامها هي أحكامها و القوانين الجارية فيها لا تختلف و لا تتخلف.

فتكرار انفصال جزئيات المركبات و المواليد من الأرض و نظير ذلك في الجو يدلنا على يوم كانت الجميع فيه رتقا منضمة غير منفصلة من الأرض و كذا يهدينا إلى مرحلة لم يكن فيها ميز بين السماء و الأرض و كانت الجميع رتقا ففتقها الله تحت تدبير منظم متقن ظهر به كل منها على ما له من فعلية الذات و آثارها.

فهذا ما يعطيه النظر الساذج في كينونة هذا العالم المشهود بأجزائها العلوية و السفلية كينونة ممزوجة بالتدبير مقارنة للنظام الجاري في الجميع و قد قربت الأبحاث

 

 

 

 العلمية الحديثة هذه النظرة حيث أوضحت أن الأجرام التي تحت الحس مؤلفة من عناصر معدودة مشتركة و لكل منها بقاء محدود و عمر مؤجل و إن اختلفت بالطول و القصر.

هذا لو أريد برتق السماوات و الأرض عدم تميز بعضها من بعض و بالفتق تميز السماوات من الأرض و لو أريد برتقها عدم الانفصال بين أجزاء كل منهما في نفسه حتى ينزل من السماء شي‏ء أو يخرج من الأرض شي‏ء و بفتقها خلاف ذلك كان المعنى أن السماوات كانت رتقا لا تمطر ففتقناها بالإمطار و الأرض كانت رتقا لا تنبت ففتقناها بالإنبات و تم البرهان و ربما أيده قوله بعد: ﴿وَ جَعَلْنَا مِنَ اَلْمَاءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ لكنه يختص من بين جميع الحوادث بالإمطار و الإنبات، بخلاف البرهان على التقريب الأول.

و ذكر بعض المفسرين و ارتضاه آخرون أن المراد برتق السماوات و الأرض عدم تميز بعضها من بعض حال عدمها السابق، و بفتقها تميز بعضها من بعض في الوجود بعد العدم فيكون احتجاجا بحدوث السماوات و الأرض على وجود محدثها و هو الله سبحانه.

و فيه أن الاحتجاج بالحدوث على المحدث تام في نفسه، لكنه لا ينفع قبال الوثنيين المعترفين بوجوده تعالى و استناد الإيجاد إليه و وجه الكلام إليهم، و إنما ينفع قبالهم من الحجة ما يثبت بها استناد التدبير إليه تعالى تجاه ما يسندون التدبير إلى آلهتهم و يعلقون العبادة على ذلك.

و قوله: ﴿وَ جَعَلْنَا مِنَ اَلْمَاءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ ظاهر السياق أن الجعل بمعنى الخلق و ﴿كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ مفعوله و المراد أن للماء دخلا تاما في وجود ذوي الحياة كما قال:

﴿وَ اَللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ النور: ٤٥، و لعل ورود القول في سياق تعداد الآيات المحسوسة يوجب انصراف الحكم بغير الملائكة و من يحذو حذوهم، و قد اتضح ارتباط الحياة بالماء بالأبحاث العلمية الحديثة.

قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلْنَا فِي اَلْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَ جَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ قال في المجمع،: الرواسي‏ الجبال رست ترسو رسوا إذا ثبتت بثقلها فهي راسية كما ترسو السفينة إذا وقفت متمكنة في وقوفها، و الميد الاضطراب بالذهاب في الجهات، و الفج‏ الطريق الواسع بين الجبلين. انتهى.

و المعنى: و جعلنا في الأرض جبالا ثوابت لئلا تميل و تضطرب الأرض بهم و جعلنا في تلك الجبال طرقا واسعة هي سبل لعلهم يهتدون منها إلى مقاصدهم و مواطنهم.

 

 

 

 

و فيه دلالة على أن للجبال ارتباطا خاصا بالزلازل و لولاها لاضطربت الأرض بقشرها.

قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلْنَا اَلسَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ هُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ كأن المراد بكون السماء محفوظة حفظها من الشياطين كما قال: ﴿وَ حَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ الحجر: ١٧، و المراد بآيات السماء الحوادث المختلفة السماوية التي تدل على وحدة التدبير و استناده إلى موجدها الواحد.

قوله تعالى: ﴿وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ الآية ظاهرة في إثبات الفلك لكل من الليل و هو الظل المخروطي الملازم لوجه الأرض المخالف لمسامتة الشمس، و النهار و هو خلاف الليل، و للشمس و القمر فالمراد بالفلك مدار كل منها.

و المراد مع ذلك بيان الأوضاع و الأحوال الحادثة بالنسبة إلى الأرض و في جوها و إن كانت حال الأجرام الأخر على خلاف ذلك فلا ليل و لا نهار يقابله للشمس و سائر الثوابت، التي هي نيرة بالذات و للقمر و سائر السيارات الكاسبة للنور من الليل و النهار غير ما لنا.

و قوله: ﴿يَسْبَحُونَ من السبح بمعنى الجري في الماء بخرقه قيل و إنما قال:

يسبحون لأنه أضاف إليها فعل العقلاء كما قال: ﴿وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ يوسف: ٤.

(بحث روائي)

 في المحاسن، بإسناده عن يونس رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ليس من باطل يقوم بإزاء حق إلا غلب الحق الباطل و ذلك قول الله: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ .

 و فيه، بإسناده عن أيوب بن الحر قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا أيوب ما من أحد إلا و قد يرد عليه الحق حتى يصدع قلبه قبله أم تركه و ذلك أن الله يقول في كتابه: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَ لَكُمُ اَلْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ .

 أقول: و الروايتان مبنيتان على تعميم الآية.

 

 

 

 و في العيون، في باب ما جاء عن الرضا (عليه السلام) في هاروت و ماروت في حديث: أن الملائكة معصومون محفوظون عن الكفر و القبائح بألطاف الله تعالى قال الله تعالى فيهم: ﴿لاَ يَعْصُونَ اَللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ و قال عز و جل: ﴿وَ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ يعني الملائكة ﴿لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَ لاَ يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ .

 و في نهج البلاغة، قال (عليه السلام) في وصف الملائكة: و مسبحون لا يسأمون، و لا يغشاهم نوم العيون، و لا سهو العقول، و لا فترة الأبدان، و لا غفلة النسيان. أقول: و به يضعف ما في بعض الروايات أن الملائكة ينامون كما في كتاب كمال الدين بإسناده عن داود بن فرقد عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله: أنه سئل عن الملائكة أ ينامون؟ فقال: ما من حي إلا و هو ينام خلا الله وحده: فقلت: يقول الله عز و جل: ﴿يُسَبِّحُونَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ ؟ قال: أنفاسهم تسبيح. على أن الرواية ضعيفة.

 و في التوحيد، بإسناده عن هشام بن الحكم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ما الدليل على أن الله واحد؟ قال: اتصال التدبير و تمام الصنع كما قال عز و جل: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللَّهُ لَفَسَدَتَا .

أقول: و هو يؤيد ما قدمناه في تقرير الدليل.

 و فيه، بإسناده عن عمرو بن جابر قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام): يا بن رسول الله إنا نرى الأطفال منهم من يولد ميتا، و منهم من يسقط غير تام، و منهم من يولد أعمى و أخرس و أصم، و منهم من يموت من ساعته إذا سقط إلى الأرض، و منهم من يبقى إلى الاحتلام، و منهم من يعمر حتى يصير شيخا فكيف ذلك و ما وجهه؟ فقال (عليه السلام): إن الله تبارك و تعالى أولى بما يدبره من أمر خلقه منهم و هو الخالق و المالك لهم فمن منعه التعمير فإنما منعه ما ليس له، و من عمره فإنما أعطاه ما ليس له فهو المتفضل بما أعطى و عادل فيما منع و لا يسأل عما يفعل و هم يسألون.

قال جابر: فقلت له: يا بن رسول الله و كيف لا يسأل عما يفعل؟ قال: لأنه لا يفعل إلا ما كان حكمة و صوابا، و هو المتكبر الجبار و الواحد القهار، فمن وجد في نفسه حرجا في شي‏ء مما قضى كفر و من أنكر شيئا من أفعاله جحد.

 

 

 

 أقول: و هي رواية شريفة تعطي أصلا كليا في الحسنات و السيئات و هو أن الحسنات أمور وجودية تستند إلى إعطائه و فضله تعالى، و السيئات أمور عدمية تنتهي إلى عدم الإعطاء لما لا يملكه العبد. و ما ذكره (عليه السلام) أنه تعالى أولى بما لعبده منه وجهه أنه تعالى هو المالك لذاته و العبد إنما يملك ما يملك بتمليك منه تعالى و هو المالك لما ملكه و ملك العبد في طول ملكه.

و قوله: «لأنه لا يفعل إلا ما كان حكمة و صوابا إشارة إلى التقريب الأول الذي قدمناه، و قوله: «و هو المتكبر الجبار و الواحد القهار» إشارة إلى التقريب الثاني الذي أوردناه في تفسير الآية.

 و في نور الثقلين، عن الرضا (عليه السلام) قال: قال الله تبارك و تعالى: يا بن آدم بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، و بقوتي أديت إلي فرائضي، و بنعمتي قويت على معصيتي جعلتك سميعا بصيرا قويا ما أصابك من حسنة فمن الله و ما أصابك من سيئة فمن نفسك و ذلك أني أولى بحسناتك منك و أنت أولى بسيئاتك مني و ذلك أني لا أسأل عما أفعل و هم يسألون.

 و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي قال أبو عبد الله (عليه السلام): يعني بذكر من معي ما هو كائن و بذكر من قبلي ما قد كان.

 و في العيون، بإسناده إلى الحسين بن خالد عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): من لم يؤمن بحوضي فلا أورده الله حوضي، و من لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي، ثم قال (عليه السلام):

إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فأما المحسنون فما عليهم من سبيل.

قال الحسين بن خالد: فقلت للرضا (عليه السلام): يا بن رسول الله فما معنى قول الله عز و جل: ﴿وَ لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ اِرْتَضى‏َ قال: لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله دينه.

 و في الدر المنثور، أخرج الحاكم و صححه و البيهقي في البعث عن جابر: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) تلا قول الله: ﴿وَ لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ اِرْتَضىَ فقال: إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي.

 و في الاحتجاج، و روي: أن عمرو بن عبيد وفد على محمد بن علي الباقر (عليه السلام) لامتحانه بالسؤال عنه فقال له: جعلت فداك ما معنى قوله تعالى: ﴿أَ وَ لَمْ يَرَ اَلَّذِينَ

 

 

 

 كَفَرُوا أَنَّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ما هذا الرتق و الفتق؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): كانت السماء رتقا لا تنزل القطر و كانت الأرض رتقا لا تخرج النبات ففتق الله السماء بالقطر و فتق الأرض بالنبات فانقطع عمرو بن عبيد و لم يجد اعتراضا و مضى.

 أقول: و روي هذا المعنى في روضة الكافي عنه (عليه السلام) بطريقين.

 و في نهج البلاغة، قال (عليه السلام): و فتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها.

[سورة الأنبياء (٢١): الآیات ٣٤ الی ٤٧]

﴿وَ مَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ اَلْخُلْدَ أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ اَلْخَالِدُونَ ٣٤ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ٣٥ وَ إِذَا رَآكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَ هَذَا اَلَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَ هُمْ بِذِكْرِ اَلرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ٣٦ خُلِقَ اَلْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ ٣٧ وَ يَقُولُونَ مَتى‏َ هَذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ٣٨ لَوْ يَعْلَمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ اَلنَّارَ وَ لاَ عَنْ ظُهُورِهِمْ وَ لاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ٣٩ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَ لاَ هُمْ يُنْظَرُونَ ٤٠ وَ لَقَدِ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ٤١ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ مِنَ اَلرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ ٤٢ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَ لاَ هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ ٤٣ بَلْ مَتَّعْنَا  

 

 

 

﴿هَؤُلاَءِ وَ آبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ اَلْعُمُرُ أَ فَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي اَلْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَ فَهُمُ اَلْغَالِبُونَ ٤٤ قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَ لاَ يَسْمَعُ اَلصُّمُّ اَلدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ ٤٥ وَ لَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ٤٦ وَ نَضَعُ اَلْمَوَازِينَ اَلْقِسْطَ لِيَوْمِ اَلْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ إِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَ كَفى‏ بِنَا حَاسِبِينَ ٤٧

(بيان)

من تتمة الكلام حول النبوة يذكر فيها بعض ما قاله المشركون في النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كقولهم: سيموت فنتخلص منه و نستريح و قولهم استهزاء به: ﴿أَ هَذَا اَلَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ، و قولهم استهزاء بالبعث و القيامة التي أنذروا بها: ﴿مَتىَ هَذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ و فيها جواب أقاويلهم و إنذار و تهديد لهم و تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم).

قوله تعالى: ﴿وَ مَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ اَلْخُلْدَ أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ اَلْخَالِدُونَ يلوح من الآية أنهم كانوا يسلون أنفسهم بأن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) سيموت فيتخلصون من دعوته و تنجو آلهتهم من طعنة كما حكى ذلك عنهم في مثل قولهم: ﴿نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ اَلْمَنُونِ الطور: ٣٠، فأجاب عنه بأنا لم نجعل لبشر من قبلك الخلد حتى يتوقع ذلك لك بل إنك ميت و إنهم ميتون، و لا ينفعهم موتك شيئا فلا أنهم يقبضون على الخلود بموتك، فالجميع ميتون، و لا أن حياتهم القصيرة المؤجلة تخلو من الفتنة و الامتحان الإلهي فلا يخلو منه إنسان في حياته الدنيا، و لا أنهم خارجون بالآخرة من سلطاننا بل إلينا يرجعون فنحاسبهم و نجزيهم بما عملوا.

و قوله: ﴿أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ اَلْخَالِدُونَ و لم يقل: فهم خالدون و الاستفهام للإنكار يفيد نفي قصر القلب كأنه قيل: إن قولهم: نتربص به ريب المنون كلام من يرى لنفسه خلودا أنت مزاحمه فيه فلو مت لذهب بالخلود و قبض عليه و عاش عيشة خالدة

 

 

 

 طيبة ناعمة و ليس كذلك بل كل نفس ذائقة الموت، و الحياة الدنيا مبنية على الفتنة و الامتحان، و لا معنى للفتنة الدائمة و الامتحان الخالد بل يجب أن يرجعوا إلى ربهم فيجازيهم على ما امتحنهم و ميزهم.

قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ لفظ النفس على ما يعطيه التأمل في موارد استعماله أصل معناه هو معنى ما أضيف إليه فنفس الشي‏ء معناه الشي‏ء و نفس الإنسان معناه هو الإنسان و نفس الحجر معناه هو الحجر فلو قطع عن الإضافة لم يكن له معنى محصل، و على هذا المعنى يستعمل للتأكيد اللفظي كقولنا: جاءني زيد نفسه أو لإفادة معناه كقولنا: جاءني نفس زيد.

و بهذا المعنى يطلق على كل شي‏ء حتى عليه تعالى كما قال: ﴿كَتَبَ عَلى‏َ نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ الأنعام: ١٢، و قال: ﴿وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللَّهُ نَفْسَهُ آل عمران: ٢٨، و قال:

﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَ لاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ المائدة: ١١٦.

ثم شاع استعمال لفظها في شخص الإنسان خاصة و هو الموجود المركب من روح و بدن فصار ذا معنى في نفسه و إن قطع عن الإضافة قال تعالى: ﴿هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا أي من شخص إنساني واحد، و قال: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي اَلْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ اَلنَّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا اَلنَّاسَ جَمِيعاً المائدة: ٣٢، أي من قتل إنسانا و من أحيا إنسانا، و قد اجتمع المعنيان في قوله: ﴿كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا فالنفس الأولى بالمعنى الثاني و الثانية بالمعنى الأول.

ثم استعملوها في الروح الإنساني لما أن الحياة و العلم و القدرة التي بها قوام الإنسان قائمة بها و منه قوله تعالى: ﴿أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ اَلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ اَلْهُونِ الأنعام: ٩٣.

و لم يطرد هذان الإطلاقان أعني الثاني و الثالث في غير الإنسان كالنبات و سائر الحيوان إلا بحسب الاصطلاح العلمي فلا يقال للواحد من النبات و الحيوان عرفا نفس و لا للمبدإ المدبر لجسمه نفس نعم ربما سميت الدم نفسا لأن للحياة توقفا عليها و منه النفس السائلة.

و كذا لا يطلق النفس في اللغة بأحد الإطلاقين الثاني و الثالث على الملك و الجن و إن كان معتقدهم أن لهما حياة، و لم يرد استعمال النفس فيهما في القرآن أيضا و إن نطقت الآيات بأن للجن تكليفا كالإنسان و موتا و حشرا قال: ﴿وَ مَا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ الذاريات: ٥٦، و قال ﴿فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْجِنِّ

 

 

 

 وَ اَلْإِنْسِ : الأحقاف: ١٨، و قال: ﴿وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ قَدِ اِسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ اَلْإِنْسِ : الأنعام: ١٢٨، هذا ما يتحصل من معنى النفس بحسب عرف اللغة.

و أما الموت فهو فقد الحياة و آثارها من الشعور و الإرادة عما من شأنه أن يتصف بها قال تعالى: ﴿وَ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ البقرة: ٢٨، و قال في الأصنام:

﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ النحل: ٢١، و أما أنه مفارقة النفس للبدن بانقطاع تعلقها التدبيري كما يعرفه الأبحاث العقلية أو أنه الانتقال من دار إلى دار كما في الحديث النبوي فهو معنى كشف عنه العقل أو النقل غير ما استقر عليه الاستعمال و من المعلوم أن الموت بالمعنى الذي ذكر إنما يتصف به الإنسان المركب من الروح و البدن باعتبار بدنه فهو الذي يتصف بفقدان الحياة بعد وجدانه و أما الروح فلم يرد في كلامه تعالى ما ينطق باتصافه بالموت كما لم يرد ذلك في الملك، و أما قوله: ﴿كُلُّ شَيْ‏ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ القصص: ٨٨، و قوله: ﴿وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ الزمر: ٦٨ فسيجي‏ء إن شاء الله أن الهلاك و الصعق غير الموت و إن انطبقا عليه أحيانا.

فقد تبين مما قدمناه أولا: أن المراد بالنفس في قوله: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ الإنسان و هو الاستعمال الثاني من استعمالاتها الثلاث دون الروح الإنساني إذ لم يعهد نسبة الموت إلى الروح في كلامه تعالى حتى تحمل عليه.

و ثانيا: أن الآية إنما تعم الإنسان لا غير كالملك و الجن و سائر الحيوان و إن كان بعضها مما يتصف بالموت كالجن و الحيوان، و من القرينة على اختصاص الآية بالإنسان قوله قبله: ﴿وَ مَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ اَلْخُلْدَ و قوله بعده: ﴿وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً على ما سنوضحه.

و قد ذكر جمع منهم أن المراد بالنفس في الآية الروح، و قد عرفت خلافه و أصر كثير منهم على عموم الآية لكل ذي حياة من الإنسان و الملك و الجن و سائر الحيوانات حتى النبات إن كان لها حياة حقيقة و قد عرفت ما فيه.

و من أعجب ما قيل في تقرير عموم الآية ما ذكره الإمام الرازي في التفسير الكبير، بعد ما قرر أن الآية عامة لكل ذي نفس: أن الآية مخصصة فإن له تعالى نفسا كما قال حكاية عن عيسى (عليه السلام): ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَ لاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ مع أن الموت مستحيل عليه سبحانه، و كذا الجمادات لها نفوس و هي لا تموت. ثم قال: و العام

 

 

 

المخصوص حجة فيبقى معمولا به على ظاهره فيما عدا ما أخرج منه، و ذلك يبطل قول الفلاسفة في الأرواح البشرية و العقول المفارقة و النفوس الفلكية أنها لا تموت. انتهى.

و فيه أولا: أن النفس بالمعنى الذي تطلق عليه تعالى و على كل شي‏ء هي النفس بالاستعمال الأول من الاستعمالات الثلاث التي قدمناها لا تستعمل إلا مضافة كما في الآية التي استشهد بها و التي في الآية مقطوعة عن الإضافة فهي غير مرادة بهذا المعنى في الآية قطعا فتبقى النفس بأحد المعنيين الآخرين و قد عرفت أن المعنى الثالث أيضا غير مراد فيبقى الثاني.

و ثانيا: أن نفيه الموت عن الجمادات ينافي قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ و قوله: ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ و غير ذلك.

و ثالثا: أن قوله: إن عموم الآية يبطل قول الفلاسفة في الأرواح البشرية و العقول المفارقة و النفوس الفلكية خطأ فإن هذه مسائل عقلية يرام السلوك إليها من طريق البرهان، و البرهان حجة مفيدة لليقين فإن كانت الحجج التي أقاموها عليها كلها أو بعضها براهين كما أدعوها لم ينعقد من الآية في مقابلها ظهور و الظهور حجة ظنية و كيف يتصور اجتماع العلم مع الظن بالخلاف، و إن لم تكن براهين لم تثبت المسائل و لا حاجة معه إلى ظن بالخلاف.

ثم إن قوله: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ اَلْمَوْتِ كما هو تقرير و تثبيت لمضمون قوله قبلا:

﴿وَ مَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ اَلْخُلْدَ إلخ، كذلك توطئة و تمهيد لقوله بعد ﴿وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً أي و نمتحنكم بما تكرهونه من مرض و فقر و نحوه و ما تريدونه من صحة و غنى و نحوهما امتحانا كأنه قيل: نحيي كلا منكم حياة محدودة مؤجلة و نمتحنكم فيها بالشر و الخير امتحانا ثم إلى ربكم ترجعون فيقضي عليكم و لكم.

و فيه إشارة إلى علة تحتم الموت لكل نفس حية، و هي أن حياة كل نفس حياة امتحانية ابتلائية، و من المعلوم أن الامتحان أمر مقدمي و من الضروري أن المقدمة لا تكون خالدة لا تنتهي إلى أمد و من الضروري أن وراء كل مقدمة ذا مقدمة و بعد كل امتحان موقف تتعين فيه نتيجته فلكل نفس حية موت محتوم ثم لها رجوع إلى الله سبحانه لفصل القضاء.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا رَآكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَ هَذَا اَلَّذِي يَذْكُرُ

 

 

 

 آلِهَتَكُمْ وَ هُمْ بِذِكْرِ اَلرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ إن نافية و المراد بقوله: ﴿إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً قصر معاملتهم معه على اتخاذهم إياه هزوا أي لم يتخذوك إلا هزوا يستهزأ به.

و قوله: ﴿أَ هَذَا اَلَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ و التقدير يقولون أو قائلين: أ هذا الذي إلخ حكاية كلمة استهزائهم، و الاستهزاء في الإشارة إليه بالوصف، و مرادهم ذكره آلهتهم بسوء و لم يصرحوا به أدبا مع آلهتهم و هو نظير قوله: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ الآية: - ٦٠ من السورة.

و قوله: ﴿وَ هُمْ بِذِكْرِ اَلرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ في موضع الحال من ضمير ﴿إِنْ يَتَّخِذُونَكَ أو من فاعل يقولون المقدر و هو أقرب و محصله أنهم يأنفون لآلهتهم عليك إذ تقول فيها أنها لا تنفع و لا تضر و هو كلمة حق فلا يواجهونك إلا بالهزء و الإهانة و لا يأنفون لله إذ يكفر بذكره و الكافرون هم أنفسهم.

و المراد بذكر الرحمن ذكره تعالى بأنه مفيض كل رحمة و منعم كل نعمة و لازمه كونه تعالى هو الرب الذي تجب عبادته، و قيل: المراد بالذكر القرآن.

و المعنى: و إذا رآك الذين كفروا و هم المشركون ما يتخذونك و لا يعاملون معك إلا بالهزء و السخرية قائلين بعضهم لبعض أ هذا الذي يذكر آلهتكم أي بسوء فيأنفون لآلهتهم حيث تذكرها و الحال أنهم بذكر الرحمن كافرون و لا يعدونه جرما و لا يأنفون له.

قوله تعالى: ﴿خُلِقَ اَلْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ كان المشركون على كفرهم بالدعوة النبوية يستهزءون بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كلما رأوه، و هو زيادة في الكفر و العتو، و الاستهزاء بشي‏ء إنما يكون بالبناء على كونه هزلا غير جد فيقابل الهزل بالهزل لكنه تعالى أخذ استهزاءهم هذا أخذ جد غير هزل فكان الاستهزاء بعد الكفر تعرضا للعذاب الإلهي بعد تعرض و هو الاستعجال بالعذاب فإنهم لا يقنعون بما جاءتهم من الآيات و هم في عافية و يطلبون آيات تجازيهم بما صنعوا، و لذلك عد سبحانه استهزاءهم بعد الكفر استعجالا برؤية الآيات و هي الآيات الملازمة للعذاب و أخبرهم أنه سيريهم إياها.

فقوله: ﴿خُلِقَ اَلْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ كناية عن بلوغ الإنسان في العجل كأنه خلق من عجل و لا يعرف سواه نظير ما يقال: فلان خير كله أو شر كله و خلق من خير أو من شر و هو أبلغ من قولنا، ما أعجله و ما أشد استعجاله، و الكلام وارد مورد التعجيب.

 

 

 

 و فيه استهانة بأمرهم و أنه لا يعجل بعذابهم لأنهم لا يفوتونه.

و قوله: ﴿سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ الآية الآتية تشهد بأن المراد بإراءة الآيات تعذيبهم بنار جهنم و هي قوله ﴿لَوْ يَعْلَمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ إلخ.

قوله تعالى: ﴿وَ يَقُولُونَ مَتى‏َ هَذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ القائلون هم الذين كفروا و المخاطبون هم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنون و كان مقتضى الظاهر أن يقولوا؟ إن كنت من الصادقين لكنهم عدلوا إلى ما ترى ليضيفوا إلى تعجيز النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بمطالبته ما لا يقدر عليه إضلال المؤمنين به و إغراؤهم عليه و الوعد هو ما اشتملت عليه الآية السابقة و تفسره الآية اللاحقة.

قوله تعالى: ﴿لَوْ يَعْلَمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ اَلنَّارَ وَ لاَ عَنْ ظُهُورِهِمْ وَ لاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ﴿لَوْ للتمني و ﴿حِينَ مفعول يعلم على ما قيل و قوله ﴿لاَ يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ اَلنَّارَ وَ لاَ عَنْ ظُهُورِهِمْ أي لا يدفعونها حيث تأخذهم من قدامهم و من خلفهم و فيه إشارة إلى إحاطتها بهم.

و قوله: ﴿وَ لاَ هُمْ يُنْصَرُونَ معطوف على ما تقدمه لرجوع معناه إلى الترديد بالمقابلة و المعنى لا يدفعون النار باستقلال من أنفسهم و لا بنصر من ينصرهم على دفعه.

و الآية في موضع الجواب لسؤالهم عن الموعد، و المعنى ليت الذين كفروا يعلمون الوقت الذي لا يدفعون النار عن وجوههم و لا عن ظهورهم لا باستقلال من أنفسهم و لا هم ينصرون في دفعها.

قوله تعالى: ﴿بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَ لاَ هُمْ يُنْظَرُونَ الذي يقتضيه السياق أن فاعل تأتيهم ضمير راجع إلى النار دون الساعة كما ذهب إليه بعضهم، و الجملة إضراب عن قوله في الآية السابقة: ﴿لاَ يَكُفُّونَ إلخ. لا عن مقدر قبله تقديره لا تأتيهم الآيات بحسب اقتراحهم بل تأتيهم بغتة، و لا عن قوله: ﴿لَوْ يَعْلَمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بدعوى أنه في معنى النفي و التقدير لا يعلمون ذلك بل تأتيهم بغتة فإن هذه كلها وجوه يأبى عنها السياق.

و معنى إتيان النار بغتة أنها تفاجئهم حيث لا يدرون من أين تأتيهم و تحيط بهم

 

 

 

 فإن ذلك لازم ما وصفه الله من أمرها بقوله: ﴿نَارُ اَللَّهِ اَلْمُوقَدَةُ اَلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى اَلْأَفْئِدَةِ الهمزة: ٧، و قوله: ﴿اَلنَّارَ اَلَّتِي وَقُودُهَا اَلنَّاسُ البقرة: ٢٤، و قوله: ﴿إِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ الآية: ٩٨ من السورة، و النار التي هذا شأنها تأخذ باطن الإنسان كظاهره على حد سواء لا كنار الدنيا حتى تتوجه من جهة إلى جهة و تأخذ الظاهر قبل الباطن و الخارج قبل الداخل حتى تمهلهم بقطع مسافة أو بتدرج في عمل أو مفارقة في جهة فيحتال لدفعها بتجاف أو تجنب أو إبداء حائل أو الالتجاء إلى ركن بل هي معهم كما أن أنفسهم معهم لا تستطاع ردا إذ لا اختلاف جهة و لا تقبل مهلة إذ لا مسافة بينها و بينهم فلا تسمح لهم في نزولها عليهم إلا البهت و الحيرة.

فمعنى الآية و الله أعلم لا يدفعون النار عن وجوههم و ظهورهم بل تأتيهم من حيث لا يشعرون بها و لا يدرون فتكون مباغتة لهم فلا يستطيعون ردها و لا يمهلون في إتيانها.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدِ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ قال في المجمع،: الفرق بين السخرية و الهزء أن في السخرية معنى طلب الذلة لأن التسخير التذليل فأما الهزء فيقتضي طلب صغر القدر بما يظهر في القول.

انتهى و الحيق‏ الحلول، و المراد بما كانوا به يستهزءون، العذاب و في الآية تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تخويف و تهديد للذين كفروا.

قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهَارِ مِنَ اَلرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ الكلاءة الحفظ و المعنى أسألهم من الذي يحفظهم من الرحمن إن أراد أن يعذبهم ثم أضرب عن تأثير الموعظة و الإنذار فيهم فقال: ﴿بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ أي القرآن ﴿مُعْرِضُونَ فلا يعتنون به و لا يريدون أن يصغوا إليه إذا تلوته عليهم و قيل المراد بالذكر مطلق المواعظ و الحجج.

قوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَ لاَ هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ أم منقطعة و الاستفهام للإنكار، و كل من ﴿تَمْنَعُهُمْ و ﴿مِنْ دُونِنَا صفة آلهة، و المعنى بل أسألهم أ لهم آلهة من دوننا تمنعهم منا.

و قوله: ﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ إلخ تعليل للنفي المستفاد من الاستفهام

 

 

 

الإنكاري و لذا جي‏ء بالفصل و التقدير ليس لهم آلهة كذلك لأنهم لا يستطيعون نصر أنفسهم بأن ينصر بعضهم بعضا و لا هم منا يجأرون و يحفظون فكيف ينصرون عبادهم من المشركين أو يجيرونهم، و ذكر بعضهم أن ضمائر الجمع راجعة إلى المشركين و السياق يأباه.

قوله تعالى: ﴿بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاَءِ وَ آبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ اَلْعُمُرُ إلى آخر الآية هو إضراب عن مضمون الآية السابقة كما كان قوله: ﴿بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ إضرابا عما تقدمه و المضامين كما ترى متقاربة.

و قوله: ﴿حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ اَلْعُمُرُ غاية لدوام التمتع المدلول عليه بالجملة السابقة و التقدير بل متعنا هؤلاء المشركين و آباءهم و دام لهم التمتع حتى طال عليهم العمر فاغتروا بذلك و نسوا ذكر الله و أعرضوا عن عبادته، و كذلك كان مجتمع قريش فإنهم كانوا بعد أبيهم إسماعيل قاطنين في حرم آمن متمتعين بأنواع النعم التي تحمل إليهم حتى تسلطوا على مكة و أخرجوا جرهما منها فنسوا ما هم عليه من دين أبيهم إبراهيم و عبدوا الأصنام.

و قوله: ﴿أَ فَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي اَلْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا الأنسب للسياق أن يكون المراد من نقص الأرض من أطرافها هو انقراض بعض الأمم التي تسكنها فإن لكل أمة أجلا ما تسبق من أمة أجلها و ما يستأخرون و قد تقدمت الإشارة إلى أن المراد بطول العمر عليهم طول عمر مجتمعهم.

و المعنى: أ فلا يرون أن الأرض تنقص منها أمة بعد أمة بالانقراض بأمر الله فما ذا يمنعه أن يهلكهم أ فهم الغالبون إن أرادهم الله سبحانه بضر أو هلاك و انقراض.

و قد مر بعض الكلام في الآية في نظيرتها من سورة الرعد فراجع. و اعلم أن في هذه الآيات وجوها من الالتفات لم نتعرض لها لظهورها.

قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَ لاَ يَسْمَعُ اَلصُّمُّ اَلدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ أي إن الذي أنذركم به وحي إلهي لا ريب فيه و إنما لا يؤثر فيكم أثره و هو الهداية لأن فيكم صمما لا تسمعون الإنذار فالنقص في ناحيتكم لا فيه.

قوله تعالى: ﴿وَ لَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ النفحة الوقعة من العذاب، و المراد أن الإنذار بآيات الذكر لا ينفعهم بل هؤلاء يحتاجون

 

 

 

 إلى نفحة من العذاب حتى يضطروا فيؤمنوا و يعترفوا بظلمهم.

قوله تعالى: ﴿وَ نَضَعُ اَلْمَوَازِينَ اَلْقِسْطَ لِيَوْمِ اَلْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً القسط العدل و هو عطف بيان للموازين أو صفة للموازين بتقدير مضاف و التقدير الموازين ذوات القسط، و قد تقدم الكلام في معنى الميزان المنصوب يوم القيامة في تفسير سورة الأعراف.

و قوله: ﴿وَ إِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا الضمير في ﴿وَ إِنْ كَانَ للعمل الموزون المدلول عليه بذكر الموازين أي و إن كان العمل الموزون مقدار حبة من خردل في ثقله أتينا بها و كفى بنا حاسبين و حبة الخردل يضرب بها المثل في دقتها و صغرها و حقارتها، و فيه إشارة إلى أن الوزن من الحساب.

(بحث روائي)

 في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن ابن جريح قال :لما نعى جبريل للنبي نفسه قال: يا رب فمن لأمتي؟ فنزلت: ﴿وَ مَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ اَلْخُلْدَ الآية. أقول: سياق الآيات و هو سياق العتاب لا يلائم ما ذكر. على أن هذا السؤال لا يلائم موقع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، على أن النعي كان في آخر حياة النبي و السورة من أقدم السور المكية.

 و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: مر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على أبي سفيان و أبي جهل و هما يتحدثان فلما رآه أبو جهل ضحك و قال لأبي سفيان: هذا نبي بني عبد مناف فغضب أبو سفيان فقال: ما تنكرون ليكون لبني عبد مناف نبي؟ فسمعها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فرجع إلى أبي جهل فوقع به و خوفه و قال: ما أراك منتهيا حتى يصيبك ما أصاب عمك، و قال لأبي سفيان: أما إنك لم تقل ما قلت إلا حمية فنزلت هذه الآية ﴿وَ إِذَا رَآكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً الآية. أقول: هو كسابقه في عدم انطباق القصة على الآية ذاك الانطباق.

و في المجمع، روي عن أبي عبد الله (عليه السلام): أن أمير المؤمنين (عليه السلام) مرض فعاده

 

 

 

 إخوانه فقالوا: كيف نجدك يا أمير المؤمنين؟ قال: بشر. قالوا: ما هذا كلام مثلك قال: إن الله تعالى يقول: ﴿وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً فالخير الصحة و الغنى و الشر المرض و الفقر.

 و فيه،: في قوله: ﴿أَ فَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي اَلْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا و قيل: بموت العلماء و روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نقصانها ذهاب عالمها.

 أقول؟ و تقدم في تفسير سورة الأعراف كلام في معنى الحديث.

 و في التوحيد، عن علي (عليه السلام): في حديث و قد سأله رجل عما اشتبه عليه من الآيات و أما قوله تبارك و تعالى ﴿وَ نَضَعُ اَلْمَوَازِينَ اَلْقِسْطَ لِيَوْمِ اَلْقِيَامَةِ -فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً فهو ميزان العدل يؤخذ به الخلائق يوم القيامة يدين الله تبارك و تعالى الخلق بعضهم ببعض بالموازين.

 و في المعاني، بإسناده إلى هشام قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل؟ ﴿وَ نَضَعُ اَلْمَوَازِينَ اَلْقِسْطَ لِيَوْمِ اَلْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً قال؟ هم الأنبياء و الأوصياء:

أقول: و رواه في الكافي، بسند فيه رفع عنه (عليه السلام) و قد أوردنا روايات أخر في هذه المعاني في تفسير سورة الأعراف و تكلمنا فيها بما تيسر.

[سورة الأنبياء (٢١): الآیات ٤٨ الی ٧٧]

﴿وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسىَ وَ هَارُونَ اَلْفُرْقَانَ وَ ضِيَاءً وَ ذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ ٤٨ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ هُمْ مِنَ اَلسَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ٤٩ وَ هَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَ فَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ٥٠ وَ لَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ٥١ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ مَا هَذِهِ اَلتَّمَاثِيلُ اَلَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ٥٢ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا

 

 

 

﴿لَهَا عَابِدِينَ ٥٣ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ٥٤ قَالُوا أَ جِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اَللاَّعِبِينَ ٥٥ قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ اَلَّذِي فَطَرَهُنَّ وَ أَنَا عَلى‏َ ذَلِكُمْ مِنَ اَلشَّاهِدِينَ ٥٦ وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ٥٧ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ٥٨ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ اَلظَّالِمِينَ ٥٩ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ٦٠ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى‏َ أَعْيُنِ اَلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ٦١ قَالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ٦٢ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ٦٣ فَرَجَعُوا إِلى‏َ أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ اَلظَّالِمُونَ ٦٤ ثُمَّ نُكِسُوا عَلى‏ رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاَءِ يَنْطِقُونَ ٦٥ قَالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لاَ يَضُرُّكُمْ ٦٦ أُفٍّ لَكُمْ وَ لِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ ٦٧ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَ اُنْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ٦٨ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاَماً عَلى‏ إِبْرَاهِيمَ ٦٩ وَ أَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ اَلْأَخْسَرِينَ ٧٠ وَ نَجَّيْنَاهُ وَ لُوطاً إِلَى اَلْأَرْضِ اَلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ٧١ وَ وَهَبْنَا

 

 

 

﴿لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ نَافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ ٧٢ وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْرَاتِ وَ إِقَامَ اَلصَّلاَةِ وَ إِيتَاءَ اَلزَّكَاةِ وَ كَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ٧٣ وَ لُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ نَجَّيْنَاهُ مِنَ اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ اَلْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ ٧٤ وَ أَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ اَلصَّالِحِينَ ٧٥ وَ نُوحاً إِذْ نَادى‏ مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ ٧٦ وَ نَصَرْنَاهُ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ٧٧  

(بيان)

لما استوفى الكلام في النبوة بانيا لها على المعاد عقبه بالإشارة إلى قصص جماعة من أنبيائه الكرام الذين بعثهم إلى الناس و أيدهم بالحكمة و الشريعة و أنجاهم من أيدي ظالمي أممهم و في ذلك تأييد لما مر في الآيات من حجة التشريع و إنذار و تخويف للمشركين و بشرى للمؤمنين.

و قد عد فيها من الأنبياء موسى و هارون و إبراهيم و لوطا و إسحاق و يعقوب و نوحا و داود و سليمان و أيوب و إسماعيل و إدريس و ذا الكفل و ذا النون و زكريا و يحيى و عيسى سبعة عشر نبيا، و قد ذكر في الآيات المنقولة سبعة منهم فذكر أولا موسى و هارون و عقبهما بإبراهيم و إسحاق و يعقوب و لوط و هم قبلهما ثم عقبهم بنوح و هو قبلهم.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسىَ وَ هَارُونَ اَلْفُرْقَانَ وَ ضِيَاءً وَ ذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ رجوع بوجه إلى تفصيل ما أجمل في قوله سابقا ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ الآية بذكر ما أوتي النبيون من المعارف و الشرائع و أيدوا بإهلاك أعدائهم بالقضاء بالقسط.

 

 

 

 و الآية التالية تشهد أن المراد بالفرقان و الضياء و الذكر التوراة آتاها الله موسى و أخاه هارون شريكه في النبوة.

و الفرقان‏ مصدر كالفرق لكنه أبلغ من الفرق، و ذكر الراغب أنه على ما قيل اسم لا مصدر و تسمية التوراة الفرقان لكونها فارقة أو لكونها يفرق بها بين الحق و الباطل في الاعتقاد و العمل، و الآية نظيرة قوله: ﴿وَ إِذْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ وَ اَلْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ البقرة: ٥٣ و تسميتها ضياء لكونها مضيئة لمسيرهم إلى السعادة و الفلاح في الدنيا و الآخرة، و تسميتها ذكرا لاشتمالها على ما يذكر به الله من الحكم و المواعظ و العبر.

و لعل كون الفرقان أحد أسماء التوراة هو الموجب لإتيانه باللام بخلاف ضياء و ذكر، و بوجه آخر هي فرقان للجميع لكنها ضياء و ذكر للمتقين خاصة لا ينتفع بها غيرهم و لذا جي‏ء بالضياء و الذكر منكرين ليتقيدا بقوله: ﴿لِلْمُتَّقِينَ بخلاف الفرقان و قد سميت التوراة نورا و ذكرا في قوله تعالى: ﴿فِيهَا هُدىً وَ نُورٌ المائدة: ٤٤ و قوله:

﴿فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ الآية: ٧ من السورة.

قوله تعالى: ﴿وَ هَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَ فَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ الإشارة بهذا إلى القرآن و إنما سمي ذكرا مباركا لأنه ثابت دائم كثير البركات ينتفع به المؤمن به و الكافر في المجتمع البشري و تتنعم به الدنيا سواء عرفته أو أنكرته أقرت بحقه أو جحدته.

يدل على ذلك تحليل ما نشاهد اليوم من آثار الرشد و الصلاح في المجتمع العام البشري و الرجوع بها القهقرى إلى عصر نزول القرآن فما قبله فهو الذكر المبارك الذي يسترشد بمعناه و إن جهل الجاهلون لفظه، و أنكر الجاحدون حقه و كفروا بعظيم نعمته، و أعانهم على ذلك المسلمون بإهمالهم في أمره، ﴿وَ قَالَ اَلرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اِتَّخَذُوا هَذَا اَلْقُرْآنَ مَهْجُوراً .

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا بِهِ عَالِمِينَ انعطاف إلى ما قبل موسى و هارون و نزول التوراة كما يفيده قوله: ﴿مِنْ قَبْلُ و المراد أن إيتاء التوراة لموسى و هارون لم يكن بدعا من أمرنا بل أقسم لقد آتينا قبل ذلك إبراهيم رشده.

و الرشد خلاف الغي و هو إصابة الواقع، و هو في إبراهيم (عليه السلام) اهتداؤه

 

 

 

 الفطري التام إلى التوحيد و سائر المعارف الحقة و إضافة الرشد إلى الضمير الراجع إلى إبراهيم تفيد الاختصاص و تعطي معنى اللياقة و يؤيد ذلك قوله بعده: ﴿وَ كُنَّا بِهِ عَالِمِينَ و هو كناية عن العلم بخصوصية حاله و مبلغ استعداده.

و المعنى: و أقسم لقد أعطينا إبراهيم ما يستعد له و يليق به من الرشد و إصابة الواقع و كنا عالمين بمبلغ استعداده و لياقته، و الذي آتاه الله سبحانه كما تقدم هو ما أدركه بصفاء فطرته و نور بصيرته من حقيقة التوحيد و سائر المعارف الحقة من غير تعليم معلم أو تذكير مذكر أو تلقين ملقن.

قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ مَا هَذِهِ اَلتَّمَاثِيلُ اَلَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ التمثال‏ الشي‏ء المصور و الجمع تماثيل، و العكوف‏ الإقبال على الشي‏ء و ملازمته على سبيل التعظيم له كذا ذكره الراغب فيهما.

يريد (عليه السلام) بهذه التماثيل الأصنام التي كانوا نصبوها للعبادة و تقريب القرابين و كان سؤاله عن حقيقتها ليعرف ما شأنها و قد كان أول وروده في المجتمع و قد ورد في مجتمع ديني يعبدون التماثيل و الأصنام و السؤال مع ذلك مجموع سؤالين اثنين و سؤاله أباه عن الأصنام كان قبل سؤاله قومه على ما أشير إليه في سورة الأنعام و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ هو جواب القوم و لما كان سؤاله (عليه السلام) عن حقيقة الأصنام راجعا بالحقيقة إلى سؤال السبب لعبادتهم إياها تمسكوا في التعليل بذيل السنة القومية فذكروا أن ذلك من سنة آبائهم وجدوهم يعبدونها.

قوله تعالى: ﴿قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ و وجه كونهم في ضلال مبين ما سيورده في محاجة القوم بعد كسر الأصنام من قوله: ﴿أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لاَ يَضُرُّكُمْ .

قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَ جِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اَللاَّعِبِينَ سؤال تعجب و استبعاد و هو شأن المقلد التابع من غير بصيرة إذا صادف إنكارا لما هو فيه استبعد و لم يكد يذعن بأنه مما يمكن أن ينكره منكر و لذا سألوه أ جئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين و المراد بالحق على ما يعطيه السياق الجد أي أ تقول ما تقوله جدا أم تلعب به؟.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ اَلَّذِي فَطَرَهُنَّ وَ أَنَا عَلى‏ ذَلِكُمْ مِنَ اَلشَّاهِدِينَ هو (عليه السلام) كما ترى يحكم بأن ربهم هو رب السماوات و أن هذا الرب هو الذي فطر السماوات و الأرض و هو الله سبحانه، و في ذلك مقابلة تامة لمذهبهم في الربوبية و الألوهية فإنهم يرون أن لهم إلها أو آلهة غير ما للسماوات و الأرض من الإله أو الآلهة، و هم جميعا غير الله سبحانه و لا يرونه تعالى إلها لهم و لا لشي‏ء من السماوات و الأرض بل يعتقدون أنه إله الآلهة و رب الأرباب و فاطر الكل.

فقوله: ﴿بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ اَلَّذِي فَطَرَهُنَّ رد لمذهبهم في الألوهية بجميع جهاته و إثبات أن لا إله إلا الله و هو التوحيد.

ثم كشف (عليه السلام) بقوله: ﴿وَ أَنَا عَلى‏َ ذَلِكُمْ مِنَ اَلشَّاهِدِينَ عن أنه معترف مقر بما قاله ملتزم بلوازمه و آثاره شاهد عليه شهادة إقرار و التزام فإن العلم بالشي‏ء غير الالتزام به و ربما تفارقا كما قال تعالى: ﴿وَ جَحَدُوا بِهَا وَ اِسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ النمل: ١٤.

و بهذا التشهد يتم الجواب عن سؤالهم أ هو مجد فيما يقول أم لاعب؟ و الجواب لا بل أعلم بذلك و أتدين به.

هذا ما يعطيه السياق في معنى الآية، و لهم في تفسيرها أقاويل أخر و كذا في معاني آيات القصة السابقة و اللاحقة وجوه أخر أضربنا عنها لعدم جدوى في التعرض لها فلا سياق الآيات يساعد عليها و لا مذاهب الوثنية توافقها.

قوله تعالى: ﴿وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ معطوف على قوله: ﴿بَلْ رَبُّكُمْ إلخ أي قال لأكيدن أصنامكم «إلخ» و الكيد التدبير الخفي على الشي‏ء بما يسوؤه، و في قوله: ﴿بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ دلالة على أنهم كانوا يخرجون من البلد أو من بيت الأصنام أحيانا لعيد كان لهم أو نحوه فيبقى الجو خاليا.

و سياق القصة و طبع هذا الكلام يستدعي أن يكون قوله: ﴿وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بمعنى تصميمه العزم على أن يكيد أصنامهم فكثيرا ما يعبر عن تصميم العزم بالقول يقال:

لأفعلن كذا لقول قلته أي لعزم صممته.

و من البعيد أن يكون مخاطبا به القوم و هم أمة وثنية كبيرة ذات قوة و شوكة

 

 

 

 و حمية و عصبية و لم يكن فيهم يومئذ - و هو أول دعوة إبراهيم موحد غيره فلم يكن من الحزم أن يخبر القوم بقصده أصنامهم بالسوء و خاصة بالتصريح على أن ذلك منه بالكيد يوم تخلو البلدة أو بيت الأصنام من الناس كمن يفشي سرا لمن يريد أن يكتمه منه اللهم إلا أن يكون مخاطبا به بعض القوم ممن لا يتعداهم القول و أما إعلان السر لعامتهم فلا قطعا.

قوله تعالى: ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قال الراغب الجذ كسر الشي‏ء و تفتيته و يقال لحجارة الذهب المكسورة و لفتات الذهب جذاذا و منه قوله تعالى: ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً انتهى فالمعنى فجعل الأصنام قطعا مكسورة إلا صنما كبيرا من بينهم.

و قوله: ﴿لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ظاهر السياق أن هذا الترجي لبيان ما كان يمثله فعله أي كان فعله هذا حيث كسر الجميع إلا واحدا كبيرا لهم فعل من يريد بذلك أن يرى القوم ما وقع على أصنامهم من الجذ و يجدوا كبيرهم سالما بينهم فيرجعوا إليه و يتهموه في أمرهم كمن يقتل قوما و يترك واحدا منهم ليتهم في أمرهم.

و على هذا فالضمير في قوله: ﴿إِلَيْهِ راجع إلى ﴿كَبِيراً لَهُمْ و يؤيد هذا المعنى أيضا قول إبراهيم الآتي: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا في جواب قولهم: ﴿أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا .

و الجمهور من المفسرين على أن ضمير ﴿إِلَيْهِ لإبراهيم (عليه السلام) و المعنى فكسر الأصنام و أبقى كبيرهم لعل الناس يرجعون إلى إبراهيم فيحاجهم و يبكتهم و يبين بطلان ألوهية أصنامهم، و ذهب بعضهم إلى أن الضمير لله سبحانه و المعنى فكسرهم و أبقاه لعل الناس يرجعون إلى الله بالعبادة لما رأوا حال الأصنام و تنبهوا من كسرها أنها ليست بآلهة كما كانوا يزعمون.

و غير خفي أن لازم القولين كون قوله: ﴿إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ مستدركا و إن تكلف بعضهم في دفع ذلك بما لا يغني عن شي‏ء، و كان المانع لهم من إرجاع الضمير إلى ﴿كَبِيراً عدم استقامة الترجي على هذا التقدير لكنك عرفت أن ذلك لبيان ما يمثله فعله (عليه السلام) لمن يشهد صورة الواقعة لا لبيان ترج جدي من إبراهيم (عليه السلام).

قوله تعالى: ﴿قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ اَلظَّالِمِينَ استفهام بداعي

 

 

 

التأسف و تحقيق الأمر للحصول على الفاعل المرتكب للظلم و يؤيد ذلك قوله تلوا:

﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ إلخ فقول بعضهم: إن «من موصولة» ليس بسديد.

و قوله: ﴿إِنَّهُ لَمِنَ اَلظَّالِمِينَ قضاء منهم بكونه ظالما يجب أن يساس على ظلمه إذ قد ظلم الآلهة بالتعدي إلى حقهم و هو التعظيم و ظلم الناس بالتعدي إلى حقهم و هو احترام آلهتهم و تقديس مقدساتهم و ظلم نفسه بالتعدي إلى ما ليس له بحق و ارتكاب ما لم يكن له أن يرتكبه.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ المراد بالذكر على ما يستفاد من المقام الذكر بالسوء أي سمعنا فتى يذكر الآلهة بالسوء فإن يكن فهو الذي فعل هذا بهم إذ لا يتجرأ لارتكاب مثل هذا الجرم إلا مثل ذاك المتجري.

و قوله: ﴿يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ برفع إبراهيم و هو خبر لمبتدإ محذوف و التقدير هو إبراهيم كذا ذكره الزمخشري.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى‏َ أَعْيُنِ اَلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ المراد بإتيانه على أعين الناس إحضاره في مجمع من الناس و مرآهم و هو حيث كسرت الأصنام كما يظهر من قول إبراهيم (عليه السلام): ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا بالإشارة إلى كبير الأصنام.

و كأن المراد بشهادتهم أن يشهدوا عليه بأنه كان يذكرهم بالسوء فيكون ذلك ذريعة إلى أخذ الإقرار منه بالجذ و الكسر، و أما ما قيل: إن المراد شهادتهم عقاب إبراهيم على ما فعل فبعيد.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ الاستفهام كما قيل للتقرير بالفاعل فإن أصل الفعل مفروغ عنه معلوم الوقوع و في قولهم ﴿بِآلِهَتِنَا تلويح إلى أنهم ما كانوا يعدونه من عبدة الأصنام.

قوله تعالى: ﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ما أخبر (عليه السلام) به بقوله: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا دعوى بداعي إلزام الخصم و فرض و تقدير قصد به إبطال ألوهيتها كما سيصرح به في قوله ﴿أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لاَ يَضُرُّكُمْ إلخ. و ليس بخبر جدي البتة، و هذا كثير الورود في المخاصمات و المناظرات

 

 

 

 فالمعنى قال: بل شاهد الحال و هو صيرورة الجميع جذاذا و بقاء كبيرهم سالما يشهد أن قد فعله كبيرهم هذا و هو تمهيد لقوله: ﴿فَسْئَلُوهُمْ إلخ.

و قوله: ﴿فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ أمر بأن يسألوا الأصنام عن حقيقة الحال و أن الذي فعل بهم هذا من هو؟ فيخبروهم به إن كانوا ينطقون فقوله: ﴿إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ شرط جزاؤه محذوف يدل عليه قوله ﴿فَسْئَلُوهُمْ .

فتحصل أن الآية على ظاهرها من غير تكلف إضمار أو تقديم و تأخير أو محذور تعقيد، و أن صدرها المتضمن لدعوى استناد الفعل إلى كبيرهم إلزام للخصم و توطئة و تمهيد لذيلها و هو أمرهم بسؤال الأصنام إن نطقوا لينتهي إلى اعتراف القوم بأنهم لا ينطقون.

و ربما قيل: إن قوله: ﴿إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ قيد لقوله: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ و التقدير: بل إن كانوا ينطقون فعله كبيرهم، و إذ كان نطقهم محالا فالفعل منه كذلك و قوله: «فاسألوا» جملة معترضة.

و ربما قيل: إن فاعل قوله: ﴿فَعَلَهُ محذوف و التقدير بل فعله من فعله ثم ابتدأ فقيل: كبيرهم هذا فاسألوهم إلخ و ربما قيل: غير ذلك و هي وجوه غير خالية من التكلف لا يخلو الكلام معها من التعقيد المنزه عنه كلامه تعالى.

قوله تعالى: ﴿فَرَجَعُوا إِلى‏َ أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ اَلظَّالِمُونَ تفريع على قوله: ﴿فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فإنهم لما سمعوا منه ذلك و هم يرون أن الأصنام جمادات لا شعور لها و لا نطق تمت عند ذلك عليهم الحجة فقضى كل منهم على نفسه أنه هو الظالم دون إبراهيم فقوله: ﴿فَرَجَعُوا إِلى‏َ أَنْفُسِهِمْ استعارة بالكناية عن تنبههم و تفكرهم في أنفسهم، و قوله: ﴿فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ اَلظَّالِمُونَ أي قال كل لنفسه مخاطبا لها: إنك أنت الظالم حيث تعبد جمادا لا ينطق.

و قيل: المعنى فرجع بعضهم إلى بعض و قال بعضهم لبعض إنكم أنتم الظالمون و أنت خبير بأن ذلك لا يناسب المقام و هو مقام تمام الحجة على الجميع و اشتراكهم في الظلم و لو بني على قول بعضهم لبعض في مقام هذا شأنه لكان الأنسب أن يقال: إنا نحن الظالمون كما في نظائره قال تعالى: ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى‏َ بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا

 

 

 

 كُنَّا طَاغِينَ: القلم: ٣١، و قال: ﴿فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ: الواقعة: ٦٧.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ نُكِسُوا عَلى‏َ رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاَءِ يَنْطِقُونَ قال الراغب: النكس‏ قلب الشي‏ء على رأسه و منه نكس الولد إذا خرج رجله قبل رأسه قال تعالى: ﴿ثُمَّ نُكِسُوا عَلى‏َ رُؤُسِهِمْ . انتهى فقوله: ﴿ثُمَّ نُكِسُوا عَلى‏َ رُؤُسِهِمْ كناية أو استعارة بالكناية عن قلبهم الباطل على مكان الحق الذي ظهر لهم و الحق على مكان الباطل كأن الحق علا في قلوبهم الباطل فنكسوا على رءوسهم فرفعوا الباطل و هو كون إبراهيم ظالما على الحق و هو كونهم هم الظالمين فخصموا إبراهيم بقولهم ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاَءِ يَنْطِقُونَ .

و معنى قولهم: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ إلخ. أن دفاعك عن نفسك برمي كبير الأصنام بالفعل و هو الجذ و تعليق ذلك باستنطاق الآلهة مع العلم بأنهم لا ينطقون دليل على أنك أنت الفاعل الظالم فالجملة كناية عن ثبوت الجرم و قضاء على إبراهيم.

قوله تعالى: ﴿قَالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لاَ يَضُرُّكُمْ إلى قوله ﴿أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ لما تفوهوا بقولهم: ﴿مَا هَؤُلاَءِ يَنْطِقُونَ و سمعه إبراهيم لم يشتغل بالدفاع فلم يكن قاصدا لذلك من أول بل استفاد من كلامهم لدعوته الحقة فخصمهم بلازم قولهم و أتم الحجة عليهم في كون أصنامهم غير مستحقة للعبادة أي غير آلهة.

فما حصل تفريع قوله: ﴿أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لاَ يَضُرُّكُمْ أن لازم كونهم لا ينطقون أن لا يعلموا شيئا و لا يقدروا على شي‏ء، و لازم ذلك أن لا ينفعوكم شيئا و لا يضروكم، و لازم ذلك أن يكون عبادتهم لغوا إذ العبادة إما لرجاء خير أو لخوف شر و ليس عندهم شي‏ء من ذلك فليسوا بآلهة.

و قوله: ﴿أُفٍّ لَكُمْ وَ لِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ تزجر و تبر منهم و من آلهتهم بعد إبطال ألوهيتها، و هذا كشهادته على وحدانيته تعالى بعد إثباتها في قوله فيما مر: ﴿وَ أَنَا عَلى‏َ ذَلِكُمْ مِنَ اَلشَّاهِدِينَ ، و قوله: ﴿أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ توبيخ لهم.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَ اُنْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ هو (عليه السلام) و إن أبطل بكلامه السابق ألوهية الأصنام و كان لازمه الضمني أن لا يكون كسرهم ظلما

 

 

 

 و جرما لكنه لوح بكلامه إلى أن رميه كبير الأصنام بالفعل و أمرهم أن يسألوا الآلهة عن ذلك لم يكن لدفع الجرم عن نفسه بل كان تمهيدا لإبطال ألوهية الآلهة و بهذا المقدار من السكوت و عدم الرد قضوا عليه بثبوت الجرم و أن جزاءه أن يحرق بالنار.

و لذلك قالوا: حرقوه و انصروا آلهتكم بتعظيم أمرهم و مجازاة من أهان بهم و قولهم: ﴿إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ تهييج و إغراء.

قوله تعالى: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاَماً عَلى‏َ إِبْرَاهِيمَ خطاب تكويني للنار تبدلت به خاصة حرارتها و إحراقها و إفنائها بردا و سلاما بالنسبة إلى إبراهيم (عليه السلام) على طريق خرق العادة، و بذلك يظهر أن لا سبيل لنا إلى الوقوف على حقيقة الأمر فيه تفصيلا إذ الأبحاث العقلية عن الحوادث الكونية إنما تجري فيما لنا علم بروابط العلية و المعلولية فيه من العاديات المتكررة، و أما الخوارق التي نجهل الروابط فيها فلا مجرى لها فيها. نعم نعلم إجمالا أن لهمم النفوس دخلا فيها و قد تكلمنا في ذلك في مباحث الإعجاز في الجزء الأول من الكتاب.

و الفصل في قوله: ﴿قُلْنَا إلخ. لكونه في معنى جواب سؤال مقدر و تقدير الكلام بما فيه من الحذف إيجازا نحو من قولنا: فأضرموا نارا و ألقوه فيها فكأنه قيل:

فما ذا كان بعده فقيل: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاَماً عَلى‏َ إِبْرَاهِيمَ ، و على هذا النحو الفصل في كل ﴿قَالَ و ﴿قَالُوا في الآيات السابقة من القصة.

قوله تعالى: ﴿وَ أَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ اَلْأَخْسَرِينَ أي احتالوا عليه ليطفئوا نوره و يبطلوا حجته فجعلناهم الأخسرين حيث خسروا ببطلان كيدهم و عدم تأثيره و زادوا خسارة حيث أظهره الله عليهم بالحفظ و الإنجاء.

قوله تعالى: ﴿وَ نَجَّيْنَاهُ وَ لُوطاً إِلَى اَلْأَرْضِ اَلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ الأرض المذكورة هي أرض الشام التي هاجر إليها إبراهيم، و لوط أول من آمن به و هاجر معه كما قال تعالى: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلى‏َ رَبِّي: العنكبوت: ٢٦.

قوله تعالى: ﴿وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ نَافِلَةً النافلة العطية و قد تكرر البحث عن مضمون الآيتين.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا إلى آخر الآية، الظاهر كما يشير إليه ما يدل من‏[1] الآيات على جعل الإمامة في عقب إبراهيم (عليه السلام) رجوع الضمير في ﴿جَعَلْنَاهُمْ إلى إبراهيم و إسحاق و يعقوب.

و ظاهر قوله: ﴿أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا أن الهداية بالأمر يجري مجرى المفسر لمعنى الإمامة، و قد تقدم الكلام في معنى هداية الإمام بأمر الله في الكلام على قوله تعالى:

﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً: البقرة: ١٢٤ في الجزء الأول من الكتاب.

و الذي يخص المقام أن هذه الهداية المجعولة من شئون الإمامة ليست هي بمعنى إراءة الطريق لأن الله سبحانه جعل إبراهيم (عليه السلام) إماما بعد ما جعله نبيا كما أوضحناه في تفسير قوله: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً فيما تقدم و لا تنفك النبوة عن الهداية بمعنى إراءة الطريق فلا يبقى للإمامة إلا الهداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب و هي نوع تصرف تكويني في النفوس بتسييرها في سير الكمال و نقلها من موقف معنوي إلى موقف آخر.

و إذ كانت تصرفا تكوينيا و عملا باطنيا فالمراد بالأمر الذي تكون به الهداية ليس هو الأمر التشريعي الاعتباري بل ما يفسره في قوله: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ يس: ٨٣ فهو الفيوضات المعنوية و المقامات الباطنية التي يهتدي إليها المؤمنون بأعمالهم الصالحة و يتلبسون بها رحمة من ربهم.

و إذ كان الإمام يهدي بالأمر و الباء للسببية أو الآلة فهو متلبس به أولا و منه ينتشر في الناس على اختلاف مقاماتهم فالإمام هو الرابط بين الناس و بين ربهم في إعطاء الفيوضات الباطنية و أخذها كما أن النبي رابط بين الناس و بين ربهم في أخذ الفيوضات الظاهرية و هي الشرائع الإلهية تنزل بالوحي على النبي و تنتشر منه و بتوسطه إلى الناس و فيهم، و الإمام دليل هاد للنفوس إلى مقاماتها كما أن النبي دليل يهدي الناس إلى الاعتقادات الحقة و الأعمال الصالحة، و ربما تجتمع النبوة و الإمامة كما في إبراهيم و ابنيه.

 

 

 

 

 و قوله: ﴿وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْرَاتِ وَ إِقَامَ اَلصَّلاَةِ وَ إِيتَاءَ اَلزَّكَاةِ إضافة المصدر إلى معموله تفيد تحقق معناه في الخارج فإن أريد أن لا يفيد الكلام ذلك جي‏ء بالقطع عن الإضافة أو بأن و أن الدالتين على تأويل المصدر نص على ذلك الجرجاني في دلائل الإعجاز فقولنا: يعجبني إحسانك و فعلك الخير و قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ البقرة: ٤٣ أ يدل على الوقوع قبلا، و قولنا: يعجبني أن تحسن و أن تفعل الخير و قوله تعالى: ﴿أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ البقرة: ١٨٤ لا يدل على تحقق قبلي، و لذا كان المألوف في آيات الدعوة و آيات التشريع الإتيان بأن و الفعل دون المصدر المضاف كقوله: ﴿أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اَللَّهَ الرعد: ٣٦، و ﴿أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ يوسف: ٤٠ ﴿وَ أَنْ أَقِيمُوا اَلصَّلاَةَ الأنعام: ٧٢.

و على هذا فقوله: ﴿وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْرَاتِ إلخ. يدل على تحقق الفعل أي أن الوحي تعلق بالفعل الصادر عنهم أي أن الفعل كان يصدر عنهم بوحي مقارن له و دلالة إلهية باطنية هو غير الوحي المشرع الذي يشرع الفعل أولا و يترتب عليه إتيان الفعل على ما شرع.

و يؤيد هذا الذي ذكر قوله بعد: ﴿وَ كَانُوا لَنَا عَابِدِينَ فإنه يدل بظاهره على أنهم كانوا قبل ذلك عابدين لله ثم أيدوا بالوحي و عبادتهم لله إنما كانت بأعمال شرعها لهم الوحي المشرع قبلا فهذا الوحي المتعلق بفعل الخيرات وحي تسديد ليس وحي تشريع.

فالمحصل أنهم كانوا مؤيدين بروح القدس و الطهارة مسددين بقوة ربانية تدعوهم إلى فعل الخيرات و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و هي الإنفاق المالي الخاص بشريعتهم.

و القوم حملوا الوحي في الآية على وحي التشريع فأشكل عليهم الأمر أولا من جهة أن فعل الخيرات بالمعنى المصدري ليس متعلقا للوحي بل متعلقه حاصل الفعل، و ثانيا أن التشريع عام للأنبياء و أممهم و قد خص في الآية بهم، و لذا ذكر الزمخشري أن المراد بفعل الخيرات و ما يتلوه من إقام الصلاة و إيتاء الزكاة المصدر المبني للمفعول، و المعنى و أوحينا إليهم أن يفعل الخيرات بالبناء للمجهول و هكذا، و به يندفع الإشكالان إذ المصدر المبني للمفعول و حاصل الفعل كالمترادفين فيندفع الإشكال الأول، و الفاعل فيه مجهول ينطبق على الأنبياء و أممهم جميعا فيندفع الإشكال الثاني

 

 

 

 و قد كثر البحث حول ما ذكره.

و فيه: أولا منع ما ذكره من اتحاد معنى المصدر المبني للمفعول و حاصل الفعل.

و ثانيا: ما قدمناه من أن إضافة المصدر إلى معموله تفيد تحقق الفعل و لا يتعلق الوحي التشريعي به.

و قد تقدمت قصة إبراهيم (عليه السلام) في تفسير سورة الأنعام و قصة يعقوب (عليه السلام) في تفسير سورة يوسف من الكتاب، و ستجي‏ء قصة إسحاق في تفسير سورة الصافات إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ﴿وَ لُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَ عِلْماً إلى آخر الآيتين. الحكم‏ بمعنى فصل الخصومات أو بمعنى الحكمة و القرية التي كانت تعمل الخبائث سدوم التي نزل بها لوط في مهاجرته مع إبراهيم (عليه السلام)، و المراد بالخبائث الأعمال الخبيثة، و المراد بالرحمة الولاية أو النبوة و لكل وجه، و قد تقدمت قصة لوط (عليه السلام) في تفسير سورة هود من الكتاب.

قوله تعالى: ﴿وَ نُوحاً إِذْ نَادى‏َ مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ إلى آخر الآيتين، أي و اذكر نوحا إذ نادى ربه قبل إبراهيم و من ذكر معه فاستجبنا له، و نداؤه ما حكاه سبحانه من قوله: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ و المراد بأهله خاصته إلا امرأته و ابنه الغريق، و الكرب‏ الغم الشديد، و قوله: ﴿وَ نَصَرْنَاهُ مِنَ اَلْقَوْمِ كأن النصر مضمن معنى الإنجاء و نحوه و لذا عدي بمن و الباقي ظاهر.

و قد تقدمت قصة نوح (عليه السلام) في تفسير سورة هود من الكتاب.

(بحث روائي)

في روضة الكافي،: علي بن إبراهيم عن أبيه عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبان بن عثمان عن حجر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: خالف إبراهيم (ص) قومه و عاب آلهتهم إلى قوله فلما تولوا عنه مدبرين إلى عيد لهم دخل إبراهيم (ص)

 

 

 

إلى آلهتهم بقدوم فكسرها إلا كبيرا لهم و وضع القدوم في عنقه فرجعوا إلى آلهتهم فنظروا إلى ما صنع بها فقالوا: لا و الله ما اجترى عليها و لا كسرها إلا الفتى الذي كان يعيبها و يبرأ منها فلم يجدوا له قتلة أعظم من النار.

فجمع له الحطب و استجادوه حتى إذا كان اليوم الذي يحرق فيه برز له نمرود و جنوده و قد بني له بناء لينظر إليه كيف تأخذه النار؟ و وضع إبراهيم في منجنيق، و قالت الأرض: يا رب ليس على ظهري أحد يعبدك غيره يحرق بالنار؟ قال الرب إن دعاني كفيته.

فذكر أبان عن محمد بن مروان عمن رواه عن أبي جعفر (عليه السلام): أن دعاء إبراهيم (ص) يومئذ كان: يا أحد يا أحد يا صمد يا صمد يا من لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفوا أحد. ثم قال: توكلت على الله فقال الرب تبارك و تعالى: كفيت فقال للنار: كوني بردا! قال: فاضطربت أسنان إبراهيم من البرد حتى قال الله عز و جل و سلاما على إبراهيم و انحط جبرئيل فإذا هو جالس مع إبراهيم يحدثه في النار.

قال نمرود من اتخذ إلها فليتخذ مثل إله إبراهيم. قال: فقال عظيم من عظمائهم: إني عزمت على النار أن لا تحرقه - فأخذ عنق من النار نحوه حتى أحرقه قال:

فآمن له لوط فخرج مهاجرا إلى الشام هو و سارة و لوط. و فيه، أيضا عن علي بن إبراهيم عن أبيه و عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد جميعا عن الحسن بن محبوب عن إبراهيم بن أبي زياد الكرخي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن إبراهيم (صلى الله عليه وآله و سلم) لما كسر أصنام نمرود أمر به نمرود فأوثق و عمل له حيرا و جمع له فيه الحطب و ألهب فيه النار ثم قذف إبراهيم في النار لتحرقه ثم اعتزلوها حتى خمدت النار ثم أشرفوا على الحير فإذا هم بإبراهيم سليما مطلقا من وثاقه.

فأخبر نمرود خبره فأمر أن ينفوا إبراهيم من بلاده و أن يمنعوه من الخروج بماشيته و ماله فحاجهم إبراهيم عند ذلك فقال: إن أخذتم ماشيتي و مالي فحقي عليكم أن تردوا علي ما ذهب من عمري في بلادكم، و اختصموا إلى قاضي نمرود و قضى على إبراهيم أن يسلم إليهم جميع ما أصاب في بلادهم، و قضى على أصحاب نمرود أن يردوا على إبراهيم ما ذهب من عمره في بلادهم، فأخبر بذلك نمرود فأمرهم أن يخلوا

 

 

 

 سبيله و سبيل ماشيته و ماله و أن يخرجوه، و قال: إنه إن بقي في بلادكم أفسد دينكم و أضر بالهتكم. الحديث.

 و في العلل، بإسناده إلى عبد الله بن هلال قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): لما ألقي إبراهيم (عليه السلام) في النار تلقاه جبرئيل في الهواء و هو يهوي فقال: يا إبراهيم أ لك حاجة فقال: أما إليك فلا.

 أقول: و قد ورد حديث قذفه بالمنجنيق في عدة من الروايات من العامة و الخاصة و كذا قول جبريل له: أ لك حاجة؟ و قوله: أما إليك فلا، رواه الفريقان.

 و في الدر المنثور، أخرج الفاريابي و ابن أبي شيبة و ابن جرير عن علي بن أبي طالب: في قوله: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً قال: بردت عليه حتى كادت تؤذيه حتى قيل: و سلاما قال: لا تؤذيه. و في الكافي، و العيون، عن الرضا (عليه السلام) في حديث في الإمامة قال: ثم أكرمه الله عز و جل يعني إبراهيم بأن جعلها يعني الإمامة في ذريته و أهل الصفوة و الطهارة فقال عز و جل: ﴿وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ نَافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْرَاتِ وَ إِقَامَ اَلصَّلاَةِ وَ إِيتَاءَ اَلزَّكَاةِ وَ كَانُوا لَنَا عَابِدِينَ فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرنا قرنا حتى ورثها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال الله جل جلاله: ﴿إِنَّ أَوْلَى اَلنَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ هَذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَللَّهُ وَلِيُّ اَلْمُؤْمِنِينَ فكانت خاصة.

فقلدها علي (عليه السلام) بأمر الله عز و جل على رسم ما فرض الله تعالى فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم و الإيمان بقوله تعالى: ﴿قَالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ اَلْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اَللَّهِ إِلى‏ يَوْمِ اَلْبَعْثِ فهي في ولد علي بن أبي طالب (عليه السلام) خاصة إلى يوم القيامة إذ لا نبي بعد محمد (صلى الله عليه وآله و سلم).

 و في المعاني، بإسناده عن يحيى بن عمران عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: ﴿وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ نَافِلَةً قال: ولد الولد نافلة.

 و في تفسير القمي، :في قوله: ﴿وَ نَجَّيْنَاهُ مِنَ اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ اَلْخَبَائِثَ﴾

 

 

 

قال: كانوا ينكحون الرجال.

أقول: و الروايات في قصص إبراهيم (عليه السلام) كثيرة جدا لكنها مختلفة اختلافا شديدا في الخصوصيات مما لا يرجع إلى منطوق الكتاب، و قد اكتفينا منها بما قدمناه و قد أوردنا ما هو المستخرج من قصصه من كلامه تعالى في تفسير سورة الأنعام في الجزء السابع من الكتاب.

[سورة الأنبياء (٢١): الآیات ٧٨ الی ٩١]

﴿وَ دَاوُدَ وَ سُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي اَلْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ اَلْقَوْمِ وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ٧٨ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَ كُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَ عِلْماً وَ سَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ اَلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَ اَلطَّيْرَ وَ كُنَّا فَاعِلِينَ ٧٩ وَ عَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ٨٠ وَ لِسُلَيْمَانَ اَلرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى‏ اَلْأَرْضِ اَلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَ كُنَّا بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَالِمِينَ ٨١ وَ مِنَ اَلشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَ يَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَ كُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ٨٢ وَ أَيُّوبَ إِذْ نَادى‏ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ اَلرَّاحِمِينَ ٨٣ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَ آتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَ ذِكْرى‏ لِلْعَابِدِينَ ٨٤ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا اَلْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ اَلصَّابِرِينَ ٨٥ وَ أَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ اَلصَّالِحِينَ ٨٦ وَ ذَا اَلنُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادى‏ فِي اَلظُّلُمَاتِ  

 

 

 

﴿أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظَّالِمِينَ ٨٧ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَ نَجَّيْنَاهُ مِنَ اَلْغَمِّ وَ كَذَلِكَ نُنْجِي اَلْمُؤْمِنِينَ ٨٨ وَ زَكَرِيَّا إِذْ نَادى‏ رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْوَارِثِينَ ٨٩ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَ وَهَبْنَا لَهُ يَحْيى‏ وَ أَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي اَلْخَيْرَاتِ وَ يَدْعُونَنَا رَغَباً وَ رَهَباً وَ كَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ٩٠ وَ اَلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَ جَعَلْنَاهَا وَ اِبْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ٩١

(بيان)

تذكر الآيات جماعة آخرين من الأنبياء و هم داود و سليمان و أيوب و إسماعيل و إدريس و ذو الكفل و ذو النون و زكريا و يحيى و عيسى (عليه السلام)، و لم يراع في ذكرهم الترتيب بحسب الزمان و لا الانتقال من اللاحق إلى السابق كما في الآيات السابقة، و قد أشار سبحانه إلى شي‏ء من نعمه العظام على بعضهم و اكتفى في بعضهم بمجرد ذكر الاسم.

قوله تعالى: ﴿وَ دَاوُدَ وَ سُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي اَلْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ اَلْقَوْمِ إلى قوله ﴿حُكْماً وَ عِلْماً الحرث‏ الزرع و الحرث أيضا الكرم، و النفش‏ رعي الماشية بالليل، و في المجمع،: النفش بفتح الفاء و سكونها أن تنتشر الإبل و الغنم بالليل فترعى بلا راع. انتهى.

و قوله: ﴿وَ دَاوُدَ وَ سُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي اَلْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ السياق يعطي أنها واقعة واحدة بعينها رفع حكمها إلى داود لكونه هو الملك الحاكم في بني إسرائيل

 

 

 

 و قد جعله الله خليفة في الأرض كما قال: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِالْحَقِّ: - ص: ٢٦ فإن كان سليمان يداخل في حكم الواقعة فعن إذن منه و لحكمة ما و لعلها إظهار أهليته للخلافة بعد داود.

و من المعلوم أن لا معنى لحكم حاكمين في واقعة واحدة شخصية مع استقلال كل واحد منهما في الحكم و نفوذه، و من هنا يظهر أن المراد بقوله: ﴿إِذْ يَحْكُمَانِ إذ يتناظران أو يتشاوران في الحكم لا إصدار الحكم النافذ، و يؤيده كمال التأييد التعبير بقوله: ﴿إِذْ يَحْكُمَانِ على نحو حكاية الحال الماضية كأنهما أخذا في الحكم أخذا تدريجيا لم يتم بعد و لن يتم إلا حكما واحدا نافذا و كان الظاهر أن يقال: إذ حكما.

و يؤيده أيضا قوله: ﴿وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فإن الظاهر أن ضمير ﴿لِحُكْمِهِمْ للأنبياء و قد تكرر في كلامه تعالى أنه آتاهم الحكم لا كما قيل: إن الضمير لداود و سليمان و المحكوم لهم إذ لا وجه يوجه به نسبة الحكم إلى المحكوم لهم أصلا فكان الحكم حكما واحدا هو حكم الأنبياء و الظاهر أنه ضمان صاحب الغنم للمال الذي أتلفته غنمه.

فكان الحكم حكما واحدا اختلفا في كيفية إجرائه عملا إذ لو كان الاختلاف في أصل الحكم لكان فرض صدور حكمين منهما بأحد وجهين إما بكون كلا الحكمين حكما واقعيا لله ناسخا أحدهما و هو حكم سليمان الآخر و هو حكم داود لقوله تعالى: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ و إما بكون الحكمين معا عن اجتهاد منهما بمعنى الرأي الظني مع الجهل بالحكم الواقعي و قد صدق تعالى اجتهاد سليمان فكان هو حكمه.

أما الأول و هو كون حكم سليمان ناسخا لحكم داود فلا ينبغي الارتياب في أن ظاهر جمل الآية لا يساعد عليه إذ الناسخ و المنسوخ متباينان و لو كان حكماهما من قبيل النسخ و متباينين لقيل: و كنا لحكمهما أو لحكميهما ليدل على التعدد و التباين و لم يقل:

﴿وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ المشعر بوحدة الحكم و كونه تعالى شاهدا له الظاهر في صونهم عن الخطإ، و لو كان داود حكم في الواقعة بحكم منسوخ لكان على الخطإ، و لا يناسبه أيضا قوله: ﴿وَ كُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَ عِلْماً و هو مشعر بالتأييد ظاهر في المدح.

و أما الثاني و هو كون الحكمين عن اجتهاد منهما مع الجهل بحكم الله الواقعي فهو أبعد من سابقه لأنه تعالى يقول: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ و هو العلم بحكم الله الواقعي

 

 

 

 و كيف ينطبق على الرأي الظني بما أنه رأي ظني. ثم يقول: ﴿وَ كُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَ عِلْماً فيصدق بذلك أن الذي حكم به داود أيضا كان حكما علميا لا ظنيا و لو لم يشمل قوله:

﴿وَ كُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَ عِلْماً حكم داود في الواقعة لم يكن وجه لإيراد الجملة في المورد.

على أنك سمعت أن قوله: ﴿وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ لا يخلو من إشعار بل دلالة على أن الحكم كان واحدا و مصونا عن الخطإ. فلا يبقى إلا أن يكون حكمهما واحدا في نفسه مختلفا من حيث كيفية الإجراء و كان حكم سليمان أوفق و أرفق.

و قد وردت في روايات الشيعة و أهل السنة ما إجماله أن داود حكم لصاحب الحرث برقاب الغنم و سليمان حكم له بمنافعها في تلك السنة من ضرع و صوف و نتاج.

و لعل الحكم كان هو ضمان ما أفسدته الغنم من الحرث على صاحبها و كان ذلك مساويا لقيمة رقاب الغنم فحكم داود لذلك برقابها لصاحب الحرث، و حكم سليمان بما هو أرفق منه و هو أن يستوفي ما أتلفت من ماله من منافعها في تلك السنة و المنافع المستوفاة من الغنم كل سنة تعدل قيمتها قيمة الرقبة عادة.

فقوله: ﴿وَ دَاوُدَ وَ سُلَيْمَانَ أي و اذكر داود و سليمان ﴿إِذْ حين ﴿يَحْكُمَانِ فِي اَلْحَرْثِ ﴿إِذْ حين ﴿نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ اَلْقَوْمِ أي تفرقت فيه ليلا و أفسدته ﴿وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ أي لحكم الأنبياء، و قيل: الضمير راجع إلى داود و سليمان و المحكوم له، و قد عرفت ما فيه، و قيل: الضمير لداود و سليمان لأن الاثنين جمع و هو كما ترى ﴿شَاهِدِينَ حاضرين نرى و نسمع و نوقفهم على وجه الصواب فيه ﴿فَفَهَّمْنَاهَا أي الحكومة و القضية ﴿سُلَيْمَانَ وَ كُلاًّ من داود و سليمان ﴿آتَيْنَا حُكْماً وَ عِلْماً و ربما قيل: إن تقدير صدر الآية «و آتينا داود و سليمان حكما و علما» إذ يحكمان إلخ.

قوله تعالى: ﴿وَ سَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ اَلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَ اَلطَّيْرَ وَ كُنَّا فَاعِلِينَ التسخير هو تذليل الشي‏ء بحيث يكون عمله على ما هو عليه في سبيل مقاصد المسخر بكسر الخاء و هذا غير الإجبار و الإكراه و القسر فإن الفاعل فيها خارج عن مقتضى اختياره أو طبعه بخلاف الفاعل المسخر بفتح الخاء فإنه جار على مقتضى طبعه و اختياره كما أن إحراق الإنسان الحطب بالنار فعل تسخيري من النار و ليست بمقسورة و كذا فعل الأجير لمؤجره فعل تسخيري من الأجير و ليس بمجبر و لا مكره.

و من هنا يظهر أن معنى تسخير الجبال و الطير مع داود يسبحن معه أن لهما

 

 

 

 تسبيحا في نفسهما و تسخيرهما أن يسبحن مع داود بمواطاة تسبيحه فقوله: ﴿يُسَبِّحْنَ بيان لقوله: ﴿وَ سَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ و قوله: ﴿وَ اَلطَّيْرَ معطوف على الجبال.

و قوله: ﴿وَ كُنَّا فَاعِلِينَ أي كانت أمثال هذه المواهب و العنايات من سنتنا و ليس ما أنعمنا به عليهما ببدع منا.

قوله تعالى: ﴿وَ عَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ

 قال في المجمع،: اللبوس‏ اسم للسلاح كله عند العرب إلى أن قال و قيل: هو الدرع انتهى. و في المفردات،: و قوله تعالى: ﴿صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ يعني به الدرع.

و البأس‏ شدة القتال و كأن المراد به في الآية شدة وقع السلاح و ضمير ﴿وَ عَلَّمْنَاهُ لداود كما قال في موضع آخر: ﴿وَ أَلَنَّا لَهُ اَلْحَدِيدَ و المعنى و علمنا داود صنعة درعكم أي علمناه كيف يصنع لكم الدرع لتحرزكم و تمنعكم شدة وقع السلاح و قوله : ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ تقرير على الشكر.

قوله تعالى: ﴿وَ لِسُلَيْمَانَ اَلرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إلخ. عطف على قوله ﴿مَعَ دَاوُدَ أي و سخرنا لسليمان الريح عاصفة أي شديدة الهبوب تجري الريح بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها و هي أرض الشام التي كان يأوي إليها سليمان و كنا عالمين بكل شي‏ء.

و ذكر تسخير الريح عاصفة مع أن الريح كانت مسخرة له في حالتي شدتها و رخائها كما قال: ﴿رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (ص) - ٣٦ أن تسخير الريح عاصفة أعجب و أدل على القدرة.

قيل: و لشيوع كونه (عليه السلام) ساكنا في تلك الأرض لم يذكر جريانها بأمره منها و اقتصر على ذكر جريانها إليها و هو أظهر في الامتنان انتهى، و يمكن أن يكون المراد جريانها بأمره إليها لتحمله منها إلى حيث أراد لا جريانها إليها لترده إليها و تنزله فيها بعد ما حملته، و على هذا يشمل الكلام الخروج منها و الرجوع إليها جميعا.

قوله تعالى: ﴿وَ مِنَ اَلشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَ يَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَ كُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ كان الغوص لاستخراج أمتعة البحر من اللئالي و غيرها، و المراد بالعمل

 

 

 

الذي دون ذلك ما ذكره بقوله: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَ تَمَاثِيلَ وَ جِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَ قُدُورٍ رَاسِيَاتٍ سبأ: ١٣، و المراد بحفظ الشياطين حفظهم في خدمته و منعهم من أن يهربوا أو يمتنعوا أو يفسدوا عليه الأمر، و المعنى ظاهر و ستجي‏ء قصتا داود و سليمان (عليه السلام) في سورة سبإ إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ﴿وَ أَيُّوبَ إِذْ نَادى‏َ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ اَلرَّاحِمِينَ الضر بالضم خصوص ما يمس النفس من الضرر كالمرض و الهزال و نحوهما و بالفتح أعم.

و قد شملته (عليه السلام) البلية فذهب ماله و مات أولاده و ابتلي في بدنه بمرض شديد مدة مديدة ثم دعا الله و شكى إليه حاله فاستجاب الله له و نجاه من مرضه و أعاد عليه ماله و ولده و مثلهم معهم و هو قوله في الآية التالية: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ أي نجيناه من مرضه و شفيناه ﴿وَ آتَيْنَاهُ أَهْلَهُ أي من مات من أولاده ﴿وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَ ذِكْرى‏َ لِلْعَابِدِينَ ليتذكروا و يعلموا أن الله يبتلي أولياءه امتحانا منه لهم ثم يؤتيهم أجرهم و لا يضيع أجر المحسنين.

و ستجي‏ء قصة أيوب (عليه السلام) في سورة _ ص إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ﴿وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا اَلْكِفْلِ إلخ. أما إدريس (عليه السلام) فقد تقدمت قصته في سورة مريم، و أما إسماعيل فستجي‏ء قصته في سورة الصافات، و تأتي قصة ذي الكفل في سورة _ ص إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ﴿وَ ذَا اَلنُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ إلخ.

النون‏ الحوت و ذو النون‏ هو يونس النبي ابن متى صاحب الحوت الذي بعث إلى أهل نينوى فدعاهم فلم يؤمنوا فسأل الله أن يعذبهم فلما أشرف عليهم العذاب تابوا و آمنوا فكشفه الله عنهم ففارقهم يونس فابتلاه الله أن ابتلعه حوت فناداه تعالى في بطنه فكشف عنه و أرسله ثانيا إلى قومه.

و قوله: ﴿وَ ذَا اَلنُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أي و اذكر ذا النون إذ ذهب مغاضبا أي لقومه حيث لم يؤمنوا به فظن أن لن نقدر عليه أي لن نضيق عليه من قدر عليه رزقه أي ضاق كما قيل.

 

 

 

 و يمكن أن يكون قوله: ﴿إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ واردا مورد التمثيل أي كان ذهابه هذا و مفارقة قومه ذهاب من كان مغاضبا لمولاه و هو يظن أن مولاه لن يقدر عليه و هو يفوته بالابتعاد منه فلا يقوى على سياسته و أما كونه (عليه السلام) مغاضبا لربه حقيقة و ظنه أن الله لا يقدر عليه جدا فمما يجل ساحة الأنبياء الكرام عن ذلك قطعا و هم معصومون بعصمة الله.

و قوله: ﴿فَنَادى‏َ فِي اَلظُّلُمَاتِ إلخ. فيه إيجاز بالحذف و الكلام متفرع عليه و التقدير فابتلاه الله بالحوت فالتقمه فنادى في بطنه ربه، و الظاهر أن المراد بالظلمات كما قيل -ظلمة البحر و ظلمة بطن الحوت و ظلمة الليل.

و قوله: ﴿أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ تبر منه (عليه السلام) مما كان يمثله ذهابه لوجهه و مفارقته قومه من غير أن يؤمر فإن ذهابه ذلك كان يمثل و إن لم يكن قاصدا ذلك متعمدا فيه أن هناك مرجعا يمكن أن يرجع إليه غير ربه فتبرأ من ذلك بقوله ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ ، و كان يمثل أن من الجائز أن يعترض على فعله فيغاضب منه و أن من الممكن أن يفوته تعالى فائت فيخرج من حيطة قدرته فتبرأ من ذلك بتنزيهه بقوله: سبحانك.

و قوله: ﴿إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظَّالِمِينَ اعتراف بالظلم من حيث إنه أتى بعمل كان يمثل الظلم و إن لم يكن ظلما في نفسه و لا هو (عليه السلام) قصد به الظلم و المعصية غير أن ذلك كان تأديبا منه تعالى و تربية لنبيه ليطأ بساط القرب بقدم مبرأة في مشيتها من تمثيل الظلم فضلا عن نفس الظلم.

قوله تعالى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَ نَجَّيْنَاهُ مِنَ اَلْغَمِّ وَ كَذَلِكَ نُنْجِي اَلْمُؤْمِنِينَ هو (عليه السلام) و إن لم يصرح بشي‏ء من الطلب و الدعاء، و إنما أتى بالتوحيد و التنزيه و اعترف بالظلم لكنه أظهر بذلك حاله و أبدى موقفه من ربه و فيه سؤال النجاة و العافية فاستجاب الله له. و نجاه من الغم و هو الكرب الذي نزل به.

و قوله: ﴿وَ كَذَلِكَ نُنْجِي اَلْمُؤْمِنِينَ وعد بالإنجاء لمن ابتلي من المؤمنين بغم ثم نادى ربه بمثل ما نادى به يونس (عليه السلام) و ستجي‏ء قصته (عليه السلام) في سورة الصافات إن شاء الله.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ زَكَرِيَّا إِذْ نَادى‏َ رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْوَارِثِينَ معطوف على ما عطف عليه ما قبله أي و اذكر زكريا حين نادى ربه يسأل ولدا و قوله:

﴿رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً بيان لندائه، و المراد بتركه فردا أن يترك و لا ولد له يرثه.

و قوله: ﴿وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْوَارِثِينَ ثناء و تحميد له تعالى بحسب لفظه و نوع تنزيه له بحسب المقام إذ لما قال: ﴿لاَ تَذَرْنِي فَرْداً و هو كناية عن طلب الوارث و الله سبحانه هو الذي يرث كل شي‏ء نزهه تعالى عن مشاركة غيره له في معنى الوراثة و رفعه عن مساواة غيره فقال: ﴿وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْوَارِثِينَ .

قوله تعالى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَ وَهَبْنَا لَهُ يَحْيى‏َ وَ أَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إلخ. ظاهر الكلام أن المراد بإصلاح زوجه أي زوج زكريا له جعلها شابة ولودا بعد ما كانت عاقرا كما يصرح به في دعائه ﴿وَ كَانَتِ اِمْرَأَتِي عَاقِراً مريم: ٨.

و قوله: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي اَلْخَيْرَاتِ وَ يَدْعُونَنَا رَغَباً وَ رَهَباً وَ كَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ظاهر السياق أن ضمير الجمع لبيت زكريا، و كأنه تعليل لمقدر معلوم من سابق الكلام و التقدير نحو من قولنا: أنعمنا عليهم لأنهم كانوا يسارعون في الخيرات.

و الرغب و الرهب‏ مصدران كالرغبة و الرهبة بمعنى الطمع و الخوف و هما تمييزان إن كانا باقيين على معناهما المصدري و حالان إن كانا بمعنى الفاعل و الخشوع‏ هو تأثر القلب من مشاهدة العظمة و الكبرياء.

و المعنى: أنعمنا عليهم لأنهم كانوا يسارعون في الخيرات من الأعمال و يدعوننا رغبة في رحمتنا أو ثوابنا رهبة من غضبنا أو عقابنا أو يدعوننا راغبين راهبين و كانوا لنا خاشعين بقلوبهم.

و قد تقدمت قصة زكريا و يحيى (عليه السلام) في أوائل سورة مريم.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَ جَعَلْنَاهَا وَ اِبْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ المراد بالتي أحصنت فرجها مريم ابنة عمران و فيه مدح لها بالعفة و الصيانة و رد لما اتهمها به اليهود.

و قوله: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا الضمير لمريم و النفخ فيها من الروح كناية عن عدم استناد ولادة عيسى (عليه السلام) إلى العادة الجارية في كينونة الولد من تصور

 

 

 

 النطفة أولا ثم نفخ الروح فيها فإذا لم يكن هناك نطفة مصورة لم يبق إلا نفخ الروح فيها و هي الكلمة الإلهية كما قال: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏َ عِنْدَ اَللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ آل عمران: ٥٩ أي مثلهما واحد في استغناء خلقهما عن النطفة.

و قوله: ﴿وَ جَعَلْنَاهَا وَ اِبْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ أفرد الآية فعدهما أعني مريم و عيسى (عليه السلام) معا آية واحدة للعالمين لأن الآية هي الولادة كذلك و هي قائمة بهما معا و مريم أسبق قدما في إقامة هذه الآية و لذا قال تعالى: ﴿وَ جَعَلْنَاهَا وَ اِبْنَهَا آيَةً و لم يقل:

و جعلنا ابنها و إياها آية. و كفى لها فخرا أن يدخل ذكرها في ذكر الأنبياء (عليه السلام) في كلامه تعالى و ليست منهم.

(بحث روائي)

 في الفقيه، روى جميل بن دراج عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله عز و جل: ﴿وَ دَاوُدَ وَ سُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي اَلْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ اَلْقَوْمِ قال: لم يحكما إنما كانا يتناظران ففهمها سليمان. أقول: تقدم في بيان معنى الآية ما يتضح به معنى الحديث.

 و في الكافي، بإسناده عن الحسين بن سعيد عن بعض أصحابنا عن المعلى أبي عثمان عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: ﴿وَ دَاوُدَ وَ سُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي اَلْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ اَلْقَوْمِ فقال: لا يكون النفش إلا بالليل إن على صاحب الحرث أن يحفظ الحرث بالنهار، و ليس على صاحب الماشية حفظها بالنهار إنما رعاها[2] بالنهار و أرزاقها فما أفسدت فليس عليها، و على صاحب الماشية حفظ الماشية بالليل عن حرث الناس فما أفسدت بالليل فقد ضمنوا و هو النفش.

و إن داود حكم للذي أصاب زرعه رقاب الغنم، و حكم سليمان الرسل و الثلاثة و هو اللبن و الصوف في ذلك العام.

 

 

 

 أقول: و روى فيه، أيضا بإسناده عن أبي بصير عنه (عليه السلام) و في الحديث: فحكم داود بما حكمت به الأنبياء (عليه السلام) من قبله، و أوحى الله إلى سليمان (عليه السلام): و أي غنم نفشت في زرع فليس لصاحب الزرع إلا ما خرج من بطونها. و كذلك جرت السنة بعد سليمان و هو قول الله عز و جل: ﴿وَ كُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَ عِلْماً فحكم كل واحد منهما بحكم الله عز و جل. و في تفسير القمي، بإسناده عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) في حديث ذكر فيه: أن الحرث كان كرما نفشت فيه الغنم و ذكر حكم سليمان ثم قال: و كان هذا حكم داود و إنما أراد أن يعرف بني إسرائيل أن سليمان وصيه بعده، و لم يختلفا في الحكم و لو اختلف حكمهما لقال: و كنا لحكمهما شاهدين. و في المجمع،: و اختلف في الحكم الذي حكما به فقيل: إنه كان كرما قد بدت عناقيده - فحكم داود بالغنم لصاحب الكرم فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله ارفق. قال:

و ما ذاك؟ قال: تدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان و تدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا عاد الكرم كما كان ثم دفع كل واحد منهما إلى صاحبه ماله:، و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام). أقول: و روي :كون الحرث كرما من طرق أهل السنة عن عبد الله بن مسعود و هناك روايات أخر عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) قريبة المضامين مما أوردناه، و ما مر في بيان معنى الآية يكفي في توضيح مضامين الروايات.

و في تفسير القمي، :و قوله عز و جل: ﴿وَ لِسُلَيْمَانَ اَلرِّيحَ عَاصِفَةً قال: تجري من كل جانب ﴿إِلى‏ اَلْأَرْضِ اَلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قال: إلى بيت المقدس و الشام.

 و فيه، أيضا بإسناده عن عبد الله بن بكير و غيره عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: ﴿وَ آتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ قال: أحيا الله عز و جل له أهله الذين كانوا قبل البلية و أحيا له الذين ماتوا و هو في البلية. و فيه، أيضا و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿وَ ذَا اَلنُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً يقول: من أعمال قومه ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ يقول: ظن أن لن يعاقب بما صنع.

 

 

 

 و في العيون، بإسناده عن أبي الصلت الهروي في حديث الرضا (عليه السلام) مع المأمون في عصمة الأنبياء قال (عليه السلام): و أما قوله: ﴿وَ ذَا اَلنُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ إنما ﴿فَظَنَّ بمعنى استيقن أن لن يضيق عليه رزقه أ لا تسمع قول الله عز و جل:

﴿وَ أَمَّا إِذَا مَا اِبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ أي ضيق عليه رزقه. و لو ظن أن الله لا يقدر عليه لكان قد كفر. و في التهذيب، بإسناده عن الزيات عن رجل عن كرام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أربع لأربع إلى أن قال و الرابعة للغم و الهم ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظَّالِمِينَ قال الله سبحانه: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَ نَجَّيْنَاهُ مِنَ اَلْغَمِّ وَ كَذَلِكَ نُنْجِي اَلْمُؤْمِنِينَ . أقول: و روى هذا المعنى في الخصال، عنه (ص) مرسلا.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن سعد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: اسم الله الذي إذا دعي به أجاب و إذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متى قلت: يا رسول الله هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال: هي ليونس خاصة و للمؤمنين إذا دعوا بها أ لم تسمع قول الله: ﴿وَ كَذَلِكَ نُنْجِي اَلْمُؤْمِنِينَ فهو شرط من الله لمن دعاه. و في تفسير القمي، ":في قوله تعالى: ﴿وَ أَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ قال: كانت لا تحيض فحاضت.

 و في المعاني، بإسناده إلى علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: الرغبة أن تستقبل براحتيك السماء و تستقبل بهما وجهك، و الرهبة أن تلقي كفيك و ترفعهما إلى الوجه. أقول:

و روى مثله في الكافي، بإسناده عن أبي إسحاق عن أبي عبد الله (عليه السلام) و لفظه قال: الرغبة أن تستقبل ببطن كفيك إلى السماء، و الرهبة أن تجعل ظهر كفيك إلى السماء.

 و في تفسير القمي،" : ﴿يَدْعُونَنَا رَغَباً وَ رَهَباً قال: راغبين راهبين، و قوله: ﴿اَلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا قال: مريم لم ينظر إليها شي‏ء، و قوله ﴿فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا قال: روح مخلوقة يعني من أمرنا.

 

 

 

[سورة الأنبياء (٢١): الآیات ٩٢ الی ١١٢]

﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ٩٢ وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ٩٣ فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصَّالِحَاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَ إِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ٩٤ وَ حَرَامٌ عَلى‏ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ٩٥ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ٩٦ وَ اِقْتَرَبَ اَلْوَعْدُ اَلْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ٩٧ إِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ٩٨ لَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَ كُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ٩٩ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَ هُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ ١٠٠ إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنى‏ أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ١٠١ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَ هُمْ فِي مَا اِشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ ١٠٢ لاَ يَحْزُنُهُمُ اَلْفَزَعُ اَلْأَكْبَرُ وَ تَتَلَقَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ اَلَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ١٠٣ يَوْمَ نَطْوِي اَلسَّمَاءَ كَطَيِّ اَلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ١٠٤ وَ لَقَدْ كَتَبْنَا فِي اَلزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ اَلذِّكْرِ أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ اَلصَّالِحُونَ ١٠٥ إِنَّ فِي هَذَا  

 

 

 

﴿لَبَلاَغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ ١٠٦ وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ١٠٧ قُلْ إِنَّمَا يُوحىَ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ١٠٨ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى‏ سَوَاءٍ وَ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ ١٠٩ إِنَّهُ يَعْلَمُ اَلْجَهْرَ مِنَ اَلْقَوْلِ وَ يَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ ١١٠ وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَ مَتَاعٌ إِلى‏ حِينٍ ١١١ قَالَ رَبِّ اُحْكُمْ بِالْحَقِّ وَ رَبُّنَا اَلرَّحْمَنُ اَلْمُسْتَعَانُ عَلى‏ مَا تَصِفُونَ ١١٢

(بيان)

في الآيات رجوع إلى أول الكلام فقد بين فيما تقدم أن للبشر إلها واحدا و هو الذي فطر السماوات و الأرض فعليهم أن يعبدوه من طريق النبوة و إجابة دعوتها و يستعدوا بذلك لحساب يوم الحساب، و لم تندب النبوة إلا إلى دين واحد و هو دين التوحيد كما دعا إليه موسى من قبل و من قبله إبراهيم و من قبله نوح و من جاء بعد موسى و قبل نوح ممن أشار الله سبحانه إلى أسمائهم و نبذة مما أنعم به عليهم كأيوب و إدريس و غيرهما.

فالبشر ليس إلا أمة واحدة لها رب واحد هو الله عز اسمه و دين واحد هو دين التوحيد يعبد فيه الله وحده قطعت به الدعوة الإلهية لكن الناس تقطعوا أمرهم بينهم و تشتتوا في أديانهم و اختلقوا لهم آلهة دون الله و أديانا غير دين الله فاختلف بذلك شأنهم و تباينت غاية مسيرهم في الدنيا و الآخرة.

أما في الآخرة فإن الصالحين منهم سيشكر الله سعيهم و لا يشاهدون ما يسوؤهم و لن يزالوا في نعمة و كرامة، و أما غيرهم فإلى العذاب و العقاب.

 

 

 

 و أما في الدنيا فإن الله وعد الصالحين منهم أن يورثهم الأرض و يجعل لهم عاقبة الدار و الطالحون إلى هلاك و دمار و خسران و سعي و بوار.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ الأمة جماعة يجمعها مقصد واحد، و الخطاب في الآية على ما يشهد به سياق الآيات خطاب عام يشمل جميع الأفراد المكلفين من الإنسان، و المراد بالأمة النوع الإنساني الذي هو نوع واحد، و تأنيث الإشارة في قوله ﴿هَذِهِ أُمَّتُكُمْ لتأنيث الخبر.

و المعنى: أن هذا النوع الإنساني أمتكم معشر البشر و هي أمة واحدة و أنا الله الواحد عز اسمه ربكم إذ ملكتكم و دبرت أمركم فاعبدوني لا غير.

و في قوله: ﴿أُمَّةً وَاحِدَةً إشارة إلى حجة الخطاب بالعبادة لله سبحانه فإن النوع الإنساني لما كان نوعا واحدا و أمة واحدة ذات مقصد واحد و هو سعادة الحياة الإنسانية لم يكن له إلا رب واحد إذ الربوبية و الألوهية ليست من المناصب التشريفية الوضعية حتى يختار الإنسان منها لنفسه ما يشاء و كم يشاء و كيف يشاء بل هي مبدئية تكوينية لتدبير أمره، و الإنسان حقيقة نوعية واحدة، و النظام الجاري في تدبير أمره نظام واحد متصل مرتبط بعض، أجزائه ببعض و نظام التدبير الواحد لا يقوم به إلا مدبر واحد فلا معنى لأن يختلف الإنسان في أمر الربوبية فيتخذ بعضهم ربا غير ما يتخذه الآخر أو يسلك قوم في عبادته غير ما يسلكه الآخرون فالإنسان نوع واحد يجب أن يتخذ ربا واحدا هو رب بحقيقة الربوبية. و هو الله عز اسمه.

و قيل: المراد بالأمة الدين، و الإشارة بهذه إلى دين الإسلام الذي كان دين الأنبياء و المراد بكونه أمة واحدة اجتماع الأنبياء بل إجماعهم عليه، و المعنى أن ملة الإسلام ملتكم التي يجب أن تحافظوا على حدودها و هي ملة اتفقت الأنبياء (عليه السلام) عليها.

و هو بعيد فإن استعمال الأمة في الدين لو جاز لكان تجوز الإيصال إليه إلا بقرينة صارفة و لا وجه للانصراف عن المعنى الحقيقي بعد صحته و استقامته و تأيده بسائر كلامه تعالى كقوله: ﴿وَ مَا كَانَ اَلنَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا يونس: ١٩ و هو كما ترى يتضمن إجمال ما يتضمنه هذه الآية و الآية التي تليها.

 

 

 

 على أن التعبير في قوله: ﴿وَ أَنَا رَبُّكُمْ بالرب دون الإله يبقى على ما ذكروه بلا وجه بخلاف أخذ الأمة بمعنى الجماعة فإن المعنى عليه إنكم نوع واحد و أنا المالك المدبر لأمركم فاعبدوني لتكونوا متخذين لي إلها.

و في الآية وجوه كثيرة أخر ذكروها لكنها جميعا بعيدة من السياق تركنا إيرادها من أراد الوقوف عليها فليراجع المطولات.

قوله تعالى: ﴿وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ التقطع‏ على ما قال في مجمع البيان، بمعنى التقطيع و هو التفريق، و قيل: هو بمعناه المتبادر و هو التفرق و الاختلاف و ﴿أَمْرَهُمْ منصوب بنزع الخافض، و التقدير فتقطعوا في أمرهم و قيل ﴿تَقَطَّعُوا مضمن معنى الجعل و لذا عدي إلى المفعول بنفسه.

و كيف كان فقوله: ﴿وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ استعارة بالكناية و المراد به أنهم جعلوا هذا الأمر الواحد و هو دين التوحيد المندوب إليه من طريق النبوة و هو أمر وحداني قطعا متقطعة وزعوه فيما بينهم أخذ كل منهم شيئا منه و ترك شيئا كالوثنيين و اليهود و النصارى و المجوس و الصابئين على اختلاف طوائفهم و هذا نوع تقريع للناس و ذم لاختلافهم في الدين و تركهم الأمر الإلهي أن يعبدوه وحده.

و قوله: ﴿كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ فيه بيان أن اختلافهم في أمر الدين لا يترك سدى لا أثر له بل هؤلاء راجعون إلى الله جميعا و هم مجزيون حسب ما اختلفوا كما يلوح إليه التفصيل المذكور في قوله بعد: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصَّالِحَاتِ إلخ.

و الفصل في جملة: ﴿كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ لكونها في معنى الجواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: فإلى م ينتهي اختلافهم في أمر الدين؟ و ما ذا ينتج؟ فقيل: كل إلينا راجعون فنجازيهم كما علموا.

قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصَّالِحَاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَ إِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ تفصيل لحال المختلفين بحسب الجزاء الأخروي و سيأتي ما في معنى تفصيل جزائهم في الدنيا من قوله: ﴿وَ لَقَدْ كَتَبْنَا فِي اَلزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ اَلذِّكْرِ أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ اَلصَّالِحُونَ .

 

 

 

فقوله: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصَّالِحَاتِ أي من يعمل منهم شيئا من الأعمال الصالحات و قد قيد عمل بعض الصالحات بالإيمان إذ قال: ﴿وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فلا أثر للعمل الصالح بغير إيمان.

و المراد بالإيمان على ما يظهر من السياق و خاصة قوله في الآية الماضية: ﴿وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ الإيمان بالله قطعا غير أن الإيمان بالله لا يفارق الإيمان بأنبيائه من دون استثناء لقوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اَللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ إلى قوله ﴿أُولَئِكَ هُمُ اَلْكَافِرُونَ حَقًّا النساء: ١٥١.

و قوله: ﴿فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ أي لا ستر على ما عمله من الصالحات و الكفران يقابل الشكر و لذا عبر عن هذا المعنى في موضع آخر بقوله: ﴿وَ كَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً الدهر: ٢٢.

و قوله: ﴿وَ إِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ أي مثبتون في صحائف الأعمال إثباتا لا ينسى معه فالمراد بقوله: ﴿فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَ إِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ إن عمله الصالح لا ينسى و لا يكفر.

و الآية من الآيات الدالة على أن قبول العمل الصالح مشروط بالإيمان كما تؤيده آيات حبط الأعمال مع الكفر، و تدل أيضا على أن المؤمن العامل لبعض الصالحات من أهل النجاة.

قوله تعالى: ﴿وَ حَرَامٌ عَلى‏َ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ الذي يستبق من الآية إلى الذهن بمعونة من سياق التفصيل أن يكون المراد أن أهل القرية التي أهلكناها لا يرجعون ثانيا إلى الدنيا ليحصلوا على ما فقدوه من نعمة الحياة و يتداركوا ما فوتوه من الصالحات و هو واقع محل أحد طرفي التفصيل الذي تضمن طرفه الآخر قوله: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصَّالِحَاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ﴾ إلخ. فيكون الطرف الآخر من طرفي التفصيل أن من لم يكن مؤمنا قد عمل من الصالحات فليس له عمل مكتوب و سعي مشكور و إنما هو خائب خاسر ضل سعيه في الدنيا و لا سبيل له إلى حياة ثانية في الدنيا يتدارك فيها ما فاته.

غير أنه تعالى وضع المجتمع موضع الفرد إذ قال: ﴿وَ حَرَامٌ عَلى‏َ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا

 

 

 

و لم يقل: و حرام على من أهلكناه لأن فساد الفرد يسري بالطبع إلى المجتمع و ينتهي إلى طغيانهم فيحق عليهم كلمة العذاب فيهلكون كما قال: ﴿وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً : إسراء: ٥٨.

و يمكن على بعد أن يكون المراد بالإهلاك الإهلاك بالذنوب بمعنى بطلان استعداد السعادة و الهدى كما في قوله: ﴿وَ إِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ مَا يَشْعُرُونَ الأنعام : ٢٦ فتكون الآية في معنى قوله: ﴿فَإِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ النحل - ٣٧، و المعنى و حرام على قوم أهلكناهم بذنوبهم و قضينا عليهم الضلال أن يرجعوا إلى التوبة و حال الاستقامة.

و معنى الآية و القرية التي لم تعمل من الصالحات و هي مؤمنة و أنجز أمرها إلى الإهلاك ممتنع عليهم أن يرجعوا فيتداركوا ما فاتهم من السعي المشكور و العمل المكتوب المقبول.

و أما قوله: ﴿أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ و كان الظاهر أن يقال: إنهم يرجعون فالحق أنه مجاز عقلي وضع فيه نتيجة تعلق الفعل بشي‏ء أعني ما يئول إليه حال المتعلق بعد تعلقه به موضع نفس المتعلق فنتيجة تعلق الحرمة برجوعهم عدم الرجوع فوضعت هذه النتيجة موضع نفس الرجوع الذي هو متعلق الحرمة و في هذا الصنع إفادة نفوذ الفعل كأن الرجوع يصير بمجرد تعلق الحرمة عدم رجوع من غير تخلل فصل.

و نظيره أيضا قوله: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ الأعراف: ١٢ حيث إن تعلق المنع بالسجدة يئول إلى عدم السجدة فوضع عدم السجدة الذي هو النتيجة موضع نفس السجدة التي هي متعلق المنع.

و نظيره أيضا قوله: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً الأنعام: ١٥١ حيث إن تعلق التحريم بالشرك ينتج عدم الشرك فوضع عدم الشرك الذي هو النتيجة مكان نفس الشرك الذي هو المتعلق و قد وجهنا هاتين الآيتين فيما مر بتوجيه آخر أيضا.

و للقوم في توجيه الآية وجوه:

منها: أن لا زائدة و الأصل أنهم يرجعون.

 

 

 

[1]  كقوله تعالى: «و جعلها كلمة باقية في عقبه» الزخرف: ٢٨ و غيره.

[2]  بضم الراء جمع راعي‏


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=2099
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 05 / 17
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 03