لعدم الأمر به و لم تكن عن تركه تعالى لك و توديعه إياك.
و فيه أنه و إن وافق ما تقدم من سبب النزول بوجه لكن يبقى معه التعليل بقوله: ﴿لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا﴾ إلخ، ناقصا و ينقطع قوله: ﴿رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا﴾ عما تقدمه كما سيتضح.
قوله تعالى: ﴿رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَ اِصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ صدر الآية أعني قوله: ﴿رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا﴾ تعليل لقوله في الآية السابقة ﴿لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَ مَا خَلْفَنَا﴾ إلى آخر الآية أي كيف لا يملك ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك و كيف يكون نسيا و هو تعالى رب السماوات و الأرض و ما بينهما؟ و رب الشيء هو مالكه، المدبر لأمره، فملكه و عدم نسيانه مقتضى ربوبيته.
و قوله: ﴿فَاعْبُدْهُ وَ اِصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ﴾ تفريع على صدر الآية و المعنى إذا كنا لا نتنزل إلا بأمر ربك و قد نزلنا عليك هذا الكلام المتضمن للدعوة إلى عبادته فالكلام كلامه و الدعوة دعوته فاعبده وحده و اصطبر لعبادته فليس هناك من يسمى ربا غير ربك حتى لا تصطبر على عبادة ربك و تنتقل إلى عبادة ذلك الغير الذي يسمى ربا فتكتفي بعبادته عن عبادة ربك أو تشرك به و ربما قيل: إن الجملة تفريع على قوله:
﴿رَبُّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ﴾ أو على قوله: ﴿وَ مَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ أي لم ينسك ربك فاعبده «إلخ» و الوجهان كما ترى.
و قد بان بهذا التقرير أمور:
أحدها أن قوله: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ من تمام البيان المقصود بقوله: ﴿فَاعْبُدْهُ وَ اِصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ﴾ و هو في مقام التعليل له.
و الثاني أن المراد بالسمي المشارك في الاسم و المراد بالاسم هو الرب لأن مقتضى بيان الآية ثبوت الربوبية المطلقة له تعالى على كل شيء فهو يقول: هل تعلم من اتصف بالربوبية فسمي لذلك ربا حتى تعدل عنه إليه فتعبده دونه.
و بذلك يظهر عدم استقامة عامة ما قيل في معنى السمي في الآية فقد قيل:
إن المراد بالسمي المماثل مجازا، و قيل: السمي بمعنى الولد و قيل: هو بمعناه الحقيقي غير أن المراد بالاسم الذي لا مشاركة فيه هو رب السماوات و الأرض و قيل: هو اسم الجلالة، و قيل: هو الإله، و قيل: هو الرحمن، و قيل: هو الإله الخالق الرازق المحيي المميت القادر على الثواب و العقاب.
و الثالث: أن النكتة في إضافة الرب إلى ضمير الخطاب و تكراره في الآية الأولى إذ قال: بأمر ربك و قال: و ما كان ربك و لم يقل: ربنا هي التوطئة لما في ذيل الكلام من توحيد الرب ففي قوله: ﴿رَبِّكَ﴾ إشارة إلى أن ربنا الذي نتنزل عن أمره هو ربك فالدعوة دعوته فاعبده، و يمكن أن تكون هذه هي النكتة فيما في مفتتح السورة إذ قال: ﴿ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ﴾ إلخ لأن الآيات كما نبهنا عليه ذات سياق واحد لغرض واحد.
و الرابع: أن قوله: ﴿فَاعْبُدْهُ وَ اِصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ﴾ مسوق لتوحيد العبادة و ليس أمرا بالعبادة و أمرا بالثبات عليها و إدامتها إلا من جهة الملازمة فافهم ذلك.
و يمكن أن يستفاد من التفريع أنه تأكيد للبيان الذي يتضمنه السياق السابق على هاتين الآيتين و بذلك يظهر اتصالهما بالآيات السابقة عليهما من غير أن تؤخذا معترضتين من كل جهة.
فكان ملك الوحي لما تنزل عليه (ص) بالسورة و أوحى إليه الآيات الثلاث و الستين منها و هي مشتملة على دعوة كاملة إلى الدين الحنيف خاطبه (ص) بأنه لم يتنزل و ليس يتنزل بما تنزل به من عند نفسه بل عن أمر من ربه و برسالة من عنده فالكلام كلامه و الدعوة دعوته و هو رب النبي و رب كل شيء فليعبده وحده فليس هناك رب آخر يعدل عنه إليه فالآيتان مما أوحي إلى ملك الوحي ليلقيه إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) تثبيتا له و تأكيدا للآيات السابقة.
و هذا نظير أن يرسل ملك رسولا بكتاب من عنده أو رسالة إلى بعض عماله فيأتيه الرسول ثم إذا قرأ الكتاب أو أدى الرسالة قال للعامل: إني ما جئتك من عند نفسي بل بأمر من الملك و إشارة منه و الكتاب كتابه و الرسالة قوله و حكمه و هو مليكك و مليك عامة من في المملكة فاسمع له و أطع و أقم على ذلك فليس هناك مليك غيره حتى
تعدل عنه إليه.
فكلام هذا الرسول تأكيد لكلام الملك و إذا فرض أن الملك، هو الذي أمره أن يعقب رسالته بهذا الكلام كان الكلام كلاما للرسول و رسالة أيضا عن قبل الملك و كلامه.
و غير خفي عليك أن هذا الوجه أوفق بالآيتين و أوضح انطباقا عليهما مما تذكره روايات سبب النزول على ما فيها من الاختلاف و الوهن.
[سورة مريم (١٩): الآیات ٦٦ الی ٧٢ ]
﴿وَ يَقُولُ اَلْإِنْسَانُ أَ إِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ٦٦ أَ وَ لاَ يَذْكُرُ اَلْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً ٦٧ فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ اَلشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ٦٨ ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى اَلرَّحْمَنِ عِتِيًّا ٦٩ ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِهَا صِلِيًّا ٧٠ وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ٧١ ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ نَذَرُ اَلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ٧٢﴾
(بيان)
عود إلى ما قبل قوله: ﴿وَ مَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾ الآيتين و مضى في الحديث السابق و هو كالتذنيب لقوله: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا اَلصَّلاَةَ وَ اِتَّبَعُوا اَلشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ بذكر بعض ما تفوهوا به عن غيهم و قد خص بالذكر قول لهم في المعاد و آخر في النبوة و آخر في المبدإ.
ففي هذه الآيات أعني قوله: ﴿وَ يَقُولُ اَلْإِنْسَانُ ﴾ إلى قوله ﴿وَ نَذَرُ اَلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾ و هي سبع آيات ذكر استبعادهم للبعث و الجواب عنه و ذكر الإشارة إلى ما لقولهم هذا من التبعة و الوبال.
قوله تعالى: ﴿وَ يَقُولُ اَلْإِنْسَانُ أَ إِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا﴾ إنكار للبعث في صورة الاستبعاد، و هو قول الكفار من الوثنيين و من يلحق بهم من منكري الصانع بل مما يميل إليه طبع الإنسان قبل الرجوع إلى الدليل، قيل: و لذلك نسب القول إلى الإنسان حينما كان مقتضى طبع الكلام أن يقال: و يقول الكافر، أو: و يقول الذين كفروا «إلخ»، و فيه أنه لا يلائم قوله الآتي: ﴿فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ اَلشَّيَاطِينَ ﴾ إلى قوله ﴿صِلِيًّا﴾ .
و ليس ببعيد أن يكون المراد بالإنسان القائل ذلك هو الكافر المنكر للبعث و إنما عبر بالإنسان لكونه لا يترقب منه ذلك و قد جهزه الله تعالى بالإدراك العقلي و هو يذكر أن الله خلقه من قبل و لم يك شيئا، فليس من البعيد أن يعيده ثانيا فاستبعاده مستبعد منه، و لذا كرر لفظ الإنسان حيث أخذ في الجواب قائلا: ﴿أَ وَ لاَ يَذْكُرُ اَلْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً﴾ أي أنه إنسان لا ينبغي له أن يستبعد وقوع ما شاهد وقوع مثله و هو غير ناسية.
و لعل التعبير بالمضارع في قوله: ﴿وَ يَقُولُ اَلْإِنْسَانُ﴾ للإشارة إلى استمرار هذا الاستبعاد بين المنكرين للمعاد و المرتابين فيه.
قوله تعالى: ﴿أَ وَ لاَ يَذْكُرُ اَلْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً﴾ الاستفهام للتعجيب و الاستبعاد و معنى الآية ظاهر و قد أخذ فيها برفع الاستبعاد بذكر وقوع المثل ليثبت به الإمكان، فالآية نظيرة قوله تعالى في موضع آخر: ﴿وَ ضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ اَلْعِظَامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ إلى أن قال ﴿أَ وَ لَيْسَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلىَ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾ : يس: ٨١.
فإن قيل: الاحتجاج بوقوع المثل إنما ينتج إمكان المثل و المطلوب في إثبات المعاد هو رجوع الإنسان بشخصه و عينه لا بمثله فإن مثل الشيء غيره، قيل: إن هذه الآيات بصدد إثبات رجوع الأجساد و المخلوق منها ثانيا مثل المخلوق أولا و شخصية
الشخص الإنساني بنفسه لا ببدنه فإذا خلق البدن ثانيا و تعلقت به النفس كان شخص الإنسان الدنيوي بعينه و إن كان البدن و هو جزء الإنسان بالقياس إلى البدن الدنيوي مثلا لا عينا و هذا كما أن شخصية الإنسان و وحدته محفوظة في الدنيا مدى عمره مع تغير البدن و تبدله بتغير أجزائه و تبدلها حالا بعد حال و البدن في الحال الثاني غيره في الحال الأول لكن الإنسان باق في الحالين على وحدته الشخصية لبقاء نفسه بشخصها.
و إلى هذا يشير قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا أَ إِذَا ضَلَلْنَا فِي اَلْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ إلى أن قال ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ:﴾ الم السجدة: ١١ أي إنكم مأخوذون من أبدانكم محفوظون لا تضلون و لا تفتقدون.
قوله تعالى: ﴿فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ اَلشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا﴾ الجثي في أصله على فعول جمع جاثي و هو البارك على ركبتيه، و نسب إلى ابن عباس أنه جمع جثوة و هو المجتمع من التراب و الحجارة، و المراد أنهم يحضرون زمرا و جماعات متراكما بعضهم على بعض، و هذا المعنى أنسب للسياق.
و ضمير الجمع في ﴿لَنَحْشُرَنَّهُمْ﴾ و ﴿لَنُحْضِرَنَّهُمْ﴾ للكفار، و الآية إلى تمام ثلاث آيات متعرضة لحالهم يوم القيامة و هو ظاهر و ربما قيل: إن الضميرين للناس أعم من المؤمن و الكافر كما أن ضمير الخطاب في قوله الآتي: ﴿وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ كذلك و فيه أن لحن الآيات الثلاث و هو لحن السخط و العذاب يأبى ذلك.
و المراد بقوله: ﴿لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ اَلشَّيَاطِينَ﴾ جمعهم خارج القبور مع أوليائهم من الشياطين لأنهم لعدم إيمانهم غاوون كما قال: ﴿فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ و الشياطين أولياؤهم قال تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ:﴾ الحجر:
٤٢، و قال: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا اَلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ : الأعراف: ٢٧، أو المراد حشرهم مع قرنائهم من الشياطين كما قال: ﴿وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ اَلرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ ...، ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ اَلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ اَلْقَرِينُ وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ اَلْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي اَلْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ : الزخرف: ٣٩.
و المعنى: فأقسم بربك لنجمعنهم يوم القيامة و أولياءهم أو قرناءهم من الشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم لإذاقة العذاب و هم باركون على ركبهم من الذلة أو
و هم جماعات و زمرة زمرة.
و في قوله: ﴿فَوَ رَبِّكَ﴾ التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة و لعل النكتة فيه ما تقدم في قوله: ﴿بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾ و نظيره قوله الآتي: ﴿كَانَ عَلىَ رَبِّكَ حَتْماً﴾ .
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى اَلرَّحْمَنِ عِتِيًّا﴾ النزع هو الاستخراج، و الشيعة الجماعة المتعاونون على أمر أو التابعون لعقيدة و العتي على فعول مصدر بمعنى التمرد في العصيان و الظاهر أن قوله: ﴿أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى اَلرَّحْمَنِ عِتِيًّا﴾ جملة استفهامية وضع موضع مفعول لننزعن للدلالة على العناية بالتعيين و التمييز فهو نظير قوله: ﴿أُولَئِكَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلىَ رَبِّهِمُ اَلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾ : الإسراء: ٥٧.
و المعنى: ثم لنستخرجن من كل جماعة متشكلة أشدهم تمردا على الرحمن و هم الرؤساء و أئمة الضلال، و قيل المعنى لنستخرجن الأشد ثم الأشد حتى يحاط بهم.
و في قوله: ﴿عَلَى اَلرَّحْمَنِ﴾ التفات و النكتة تلويح أن تمردهم عظيم لكونه تمردا على من شملت رحمته كل شيء و هم لم يلقوا منه إلا الرحمة و التمرد على من هذا شأنه عظيم.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلىَ بِهَا صِلِيًّا﴾ الصلي في الأصل على فعول مصدر يقال صلي النار يصلاها صليا و صليا إذا قاسى حرها فالمعنى ثم أقسم لنحن أعلم بمن أولى بالنار مقاساة لحرها أي إن الأمر في دركات عذابهم و مراتب استحقاقهم لا يشتبه علينا.
قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلىَ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا﴾ الخطاب للناس عامة مؤمنيهم و كافريهم بدليل قوله في الآية التالية: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا﴾ و الضمير في ﴿وَارِدُهَا﴾ للنار، و ربما قيل: إن الخطاب للكفار المذكورين في الآيات الثلاث الماضية و في الكلام التفات من الغيبة إلى الحضور و فيه أن سياق الآية التالية يأبى ذلك.
و الورود خلاف الصدور و هو قصد الماء على ما يظهر من كتب اللغة قال الراغب في المفردات،: الورود أصله قصد الماء ثم يستعمل في غيره يقال: وردت الماء أرده، ورودا فأنا وارد و الماء مورود، و قد أوردت الإبل الماء قال تعالى: ﴿وَ لَمَّا وَرَدَ مَاءَ
مَدْيَنَ﴾ و الورد الماء المرشح للورود، و الورد خلاف الصدر، و الورد يوم الحمى إذا وردت، و استعمل في النار على سبيل الفظاعة قال تعالى: ﴿فَأَوْرَدَهُمُ اَلنَّارَ﴾ ﴿وَ بِئْسَ اَلْوِرْدُ اَلْمَوْرُودُ﴾ ﴿إِلىَ جَهَنَّمَ وِرْداً﴾ ﴿أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ ﴿مَا وَرَدُوهَا﴾ و الوارد الذي يتقدم القوم فيسقي لهم قال تعالى: ﴿فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ﴾ أي ساقيهم من الماء المورود انتهى موضع الحاجة.
و إلى ذلك استند من قال من المفسرين إن الناس إنما يحضرون النار و يشرفون عليها من غير أن يدخلوها و استدلوا عليه بقوله تعالى: ﴿وَ لَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ اَلنَّاسِ يَسْقُونَ﴾ : القصص: ٢٣، و قوله: ﴿فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلىَ دَلْوَهُ﴾ : يوسف:
١٩، و قوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنىَ أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا﴾ : الأنبياء: ١٠٢.
و فيه أن استعماله في مثل قوله: ﴿وَ لَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ﴾ و قوله: ﴿فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ﴾ في الحضور بعلاقة الإشراف لا ينافي استعماله في الدخول على نحو الحقيقة كما ادعي في آيات أخرى، و أما قوله: ﴿أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا﴾ فمن الجائز أن يكون الإبعاد بعد الدخول كما يستظهر من قوله: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ نَذَرُ اَلظَّالِمِينَ فِيهَا﴾ ، و أن يحجب الله بينهم و بين أن يسمعوا حسيسها إكراما لهم كما حجب بين إبراهيم و بين حرارة النار إذ قال للنار: ﴿كُونِي بَرْداً وَ سَلاَماً عَلىَ إِبْرَاهِيمَ﴾ .
و قال آخرون و لعلهم أكثر المفسرين بدلالة الآية على دخولهم النار استنادا إلى مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا﴾ : الأنبياء: ٩٩، و قوله في فرعون: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ اَلنَّارَ﴾ : هود: ٩٨، و يدل عليه قوله في الآية التالية: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ نَذَرُ اَلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾ أي نتركهم باركين على ركبهم و إنما يقال نذر و نترك فيما إذا كان داخلا مستقرا في المحل قبل الترك ثم أبقي على ما هو عليه و لعدة من الروايات الواردة في تفسير الآية.
و هؤلاء بين من يقول بدخول عامة الناس فيها و من يقول بدخول غير المتقين ـ
مدعيا أن قوله: ﴿مِنْكُمْ﴾ بمعنى منهم على حد قوله: ﴿وَ سَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً﴾ : الدهر: ٢٢، هذا و لكن لا يلائمه سياق قوله: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا﴾ الآية.
و فيه أن كون الورود في مثل قوله: ﴿لَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا﴾ بمعنى الدخول ممنوع بل الأنسب كونه بمعنى الحضور و الإشراف فإنه أبلغ كما هو ظاهر و كذا في قوله: ﴿فَأَوْرَدَهُمُ اَلنَّارَ﴾ فإن شأن فرعون و هو من أئمة الضلال هو أن يهدي قومه إلى النار و أما إدخالهم فيها فليس إليه.
و أما قوله: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ نَذَرُ اَلظَّالِمِينَ فِيهَا﴾ فالآية دالة على كونهم داخلين فيها بدليل قوله: ﴿نَذَرُ﴾ لكن دلالتها على كونهم داخلين غير كون قوله ﴿وَارِدُهَا﴾ مستعملا في معنى الدخول و كذا تنجية المتقين لا تستلزم كونهم داخلين فيها فإن التنجية كما تصدق مع إنقاذ من دخل المهلكة تصدق مع إبعاد من أشرف على الهلاك و حضر المهلكة من ذلك.
و أما الروايات فإنما وردت في شرح الواقعة لا في تشخيص ما استعمل فيه لفظ ﴿وَارِدُهَا﴾ في الآية فالاستدلال بها على كون الورود بمعنى الدخول ساقط.
فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون المراد شأنية الدخول و المعنى: ما من أحد منكم إلا من شأنه أن يدخل النار و إنما ينجو من ينجو بإنجاء الله على حد قوله: ﴿وَ لَوْ لاَ فَضْلُ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ مَا زَكىَ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً﴾ : النور: ٢١.
قلت: معناه كون الورود مقتضى طبع الإنسان من جهة أن ما يناله من خير و سعادة فمن الله و لا يبقى له من نفسه إلا الشر و الشقاء لكن ينافيه ما في ذيل الآية من قوله: ﴿كَانَ عَلىَ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا﴾ فإنه صريح في أن هذا الورود بإيراد من الله و بقضائه المحتوم لا باقتضاء من طبع الأشياء.
و الحق أن الورود لا يدل على أزيد من الحضور و الإشراف عن قصد - على ما يستفاد من كتب اللغة فقوله: ﴿وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ إنما يدل على القصد و الحضور و الإشراف، و لا ينافي دلالة قوله في الآية التالية: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ نَذَرُ اَلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾ على دخولهم جميعا أو دخول الظالمين خاصة فيها بعد ما وردوها.
و قوله: ﴿كَانَ عَلىَ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا﴾ ضمير كان للورود أو للجملة السابقة باعتبار أنه حكم، و الحتم و الجزم و القطع بمعنى واحد أي هذا الورود أو الحكم كان واجبا عليه تعالى مقضيا في حقه و إنما قضى ذلك نفسه على نفسه إذ لا حاكم يحكم عليه.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ نَذَرُ اَلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾ قد تقدمت الإشارة إلى أن قوله: ﴿وَ نَذَرُ اَلظَّالِمِينَ فِيهَا﴾ يدل على كون الظالمين داخلين فيها ثم يتركون على ما كانوا عليه، و أما تنجية الذين اتقوا فلا تدل بلفظها على كونهم داخلين إذ التنجية ربما تحققت بدونه اللهم إلا أن يستظهر ذلك من ورود اللفظين مقترنين في سياق واحد.
و في التعبير بلفظ الظالمين إشارة إلى علية الوصف للحكم.
و معنى الآيتين: ما من أحد منكم متق أو ظالم إلا و هو سيرد النار كان هذا الإيراد واجبا مقضيا على ربك ثم ننجي الذين اتقوا منها و نترك الظالمين فيها لظلمهم باركين على ركبهم.
(بحث روائي)
في الكافي، بإسناده عن مالك الجهني قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: ﴿أَ وَ لاَ يَذْكُرُ اَلْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً﴾ قال: فقال:
لا مقدرا و لا مكتوبا.
و في المحاسن، بإسناده عن حمران قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله: ﴿أَ وَ لاَ يَذْكُرُ اَلْإِنْسَانُ﴾ الآية، قال: لم يكن في كتاب و لا علم.
أقول: المراد بالحديثين أنه لم يكن في كتاب و لا علم من كتب المحو و الإثبات ثم أثبته الله حين أراد كونه و أما اللوح المحفوظ فلا يعزب عنه شيء بنص القرآن.
و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا﴾ قال: قال:
على ركبهم.
و فيه، بإسناده عن الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله عز و جل:
﴿وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ قال: أ ما تسمع الرجل يقول: وردنا بني فلان فهو الورود و لم يدخله.
و في المجمع، عن السدي قال :سألت مرة الهمداني عن هذه الآية فحدثني أن عبد الله بن مسعود حدثهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: يرد الناس النار ثم يصدرون بأعمالهم فأولهم كلمع البرق ثم كمر الريح ثم كحضر الفرس ثم كالراكب ثم كشد الرجل ثم كمشيه.
و فيه، و روى أبو صالح غالب بن سليمان عن كثير بن زياد عن أبي سمية قال :
اختلفنا في الورود فقال قوم: لا يدخلها مؤمن و قال آخرون: يدخلونها جميعا ثم ينجي الله الذين اتقوا فلقيت جابر بن عبد الله فسألته فأومأ بإصبعيه إلى أذنيه و قال: صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: الورود الدخول لا يبقى بر و لا فاجر حتى يدخلها فتكون على المؤمنين بردا و سلاما كما كانت على إبراهيم حتى أن للنار أو قال:
لجهنم ضجيجا من بردها ثم ينجي الله الذين اتقوا و يذر الظالمين فيها جثيا. أقول: و الرواية من التفسير غير أن سندها ضعيف بالجهالة.
و فيه، و روي مرفوعا عن يعلى بن منبه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي.
و فيه، و روي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أنه سئل عن المعنى فقال: إن الله يجعل النار كالسمن الجامد و يجمع عليها الخلق ثم ينادي المنادي أن خذي أصحابك و ذري أصحابي فو الذي نفسي بيده لهي أعرف بأصحابها من الوالدة بولدها.
أقول: و الروايات الأربع الأخيرة رواها في الدر المنثور، عن عدة من أرباب الكتب و الجوامع،، غير أنه لم يذكر في الرواية الثانية فيما عندنا من نسخة الدر المنثور، قوله: الورود الدخول.
و في الدر المنثور، أخرج أبو نعيم في الحلية، عن عروة بن الزبير قال :لما أراد ابن رواحة الخروج إلى أرض مؤتة من الشام أتاه المسلمون يودعونه فبكى فقال: أما و الله ما بي حب الدنيا و لا صبابة لكم و لكني سمعت رسول الله قرأ هذه الآية ﴿وَ إِنْ مِنْكُمْ
إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلىَ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا﴾ فقد علمت أني وارد النار و لا أدري كيف الصدور بعد الورود؟. و اعلم أن ظاهر بعض الروايات السابقة أن ورود الناس النار هو جوازهم منها فينطبق على روايات الصراط و فيها أنه جسر ممدود على النار يؤمر بالعبور عليها البر و الفاجر فيجوزه الأبرار و يسقط فيها الفجار، و عن الصدوق في الاعتقاد، أنه حمل الآية عليه.
و قال في مجمع البيان،: و قيل: إن الفائدة في ذلك يعني ورود النار ما روي في بعض الأخبار :أن الله تعالى لا يدخل أحدا الجنة حتى يطلعه على النار و ما فيها من العذاب ليعلم تمام فضل الله عليه و كمال فضله و إحسانه إليه فيزداد لذلك فرحا و سرورا بالجنة و نعيمها، و لا يدخل أحدا النار حتى يطلعه على الجنة و ما فيها من أنواع النعيم و الثواب ليكون ذلك زيادة عقوبة له و حسرة على ما فاته من الجنة و نعيمها. انتهى.
(كلام في معنى وجوب الفعل و جوازه) (و عدم جوازه على الله سبحانه)
قد تقدم في الجزء الأول من الكتاب في ذيل قوله تعالى: ﴿وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ﴾ : البقرة: ٢٦ في بحث قرآني تقريبا أن له تعالى الملك المطلق على الأشياء بمعنى أنه يملك كل شيء ملكا مطلقا غير مقيد بحال أو زمان أو أي شرط مفروض و أن كل شيء مملوك له تعالى من غير أن يكون مملوكا له من جهة و غير مملوك من جهة لا في ذاته و لا في شيء مما يتعلق به.
فله تعالى أن يتصرف فيما يشاء بما يشاء من غير أن يستعقب ذلك قبحا أو ذما أو شناعة من عقل أو غيره لأن القبح أو الذم إنما يلحقان الفاعل إذا أتى بما لا يملكه من الفعل بحكم عقل أو قانون أو سنة دائرة و أما إذا أتى بما له أن يفعله و هو يملكه فلا يعتريه قبح أو ذم أو لائمة البتة و لا يوجد في المجتمع الإنساني ملك مطلق و لا حرية مطلقة لمناقضته معنى الاجتماع و الاشتراك في المنافع فكل ملك فيه مقيد محدود يذم الإنسان لو تعداه و يقبح فعله و يمدح لو اقتصر عليه و يستحسن عمله.
و هذا بخلاف ملكه تعالى فإنه مطلق غير مقيد و لا محدود على ما يدل عليه إطلاق آيات الملك، و يؤيده بل يدل عليه الآيات الدالة على قصر الحكم و انحصار التشريع فيه و عموم قضائه لكل شيء إذ لو لا سعة ملكه و عموم سلطنته لكل شيء لم يستقم حكمه في كل شيء و لا قضاؤه عند كل واقعة، و الاستدلال على محدودية ملكه تعالى بما وراء القبائح العقلية بأنا نرى أن المالك لعبد إذا عذب عبده بما لا يجوزه العقل ذم عليه و استقبح العقلاء عمله من قبيل الاستدلال على الشيء بحكم ما يباينه.
على أن هذا الملك الذي نثبته له تعالى و هو ملك تشريعي هو كونه تعالى بحيث ينتهي إليه وجود كل شيء و إن شئت فقل: كون كل شيء بحيث يقوم وجوده به تعالى و هذا هو الملك التكويني الذي لا يخلو شيء من الأشياء من أن يكون مشمولا له فمع ذلك كيف يمكن تحقق الملك التكويني في شيء من غير أن ينبعث منه ملك تشريعي و حق مجعول اللهم إلا أن يكون من العناوين العدمية التي لا يتعلق بها الإيجاد كعناوين المعاصي التي في أفعال العباد و هي ترجع إلى مخالفة الأمر و ترك رعاية المصلحة و الحكمة و لا يتحقق شيء من ذلك فيما يعد فعلا له تعالى فأجد التأمل فيه.
و يتفرع على هذا البحث أنه لا معنى لأن يوجب غيره تعالى عليه شيئا أو يحرم أو يجوز و بالجملة يكلفه بتكليف تشريعي كما يمتنع أن يؤثر فيه تأثيرا تكوينيا لاستلزامه كونه تعالى مملوكا له واقعا تحت سلطنته من حيث فعله الذي تعلق به التكليف و مآله إلى مملوكية ذاته و هو محال.
و ما هو الذي يتحكم عليه تعالى؟ و من الذي يقهره بالتكليف؟ فإن فرض أنه العقل الحاكم لذاته القاضي لنفسه عاد الكلام إلى مالكية العقل لهذا الحكم و القضاء، فالعقل يستند في أحكامه إلى أمور خارجة من ذاته و من مصالح و مفاسد فليس حاكما لذاته بل لغيره هف.
و إن فرض أنه المصلحة المتقررة عند العقل فمصلحة كذا مثلا يقتضي فيه تعالى أن يعدل في حكمه و أن لا يظلم عباده ثم العقل بعد النظر فيه يحكم عليه تعالى بوجوب العدل و عدم جواز الظلم أو بحسن العدل و قبح الظلم فهذه المصلحة إما أمر اعتباري غير حقيقي و لا موجود واقعي و إنما جعله العقل جعلا من غير أن ينتهي إلى حقيقة خارجية عاد
الأمر إلى كون العقل حاكما لذاته غير مستند في حكمه إلى أمر خارج عن ذاته، و قد مر بطلانه.
و إما أمر حقيقي موجود في الخارج و لا محالة هي ممكنة معلولة للواجب ينتهي وجوده إليه تعالى و يقوم به كانت فعلا من أفعاله و رجع الأمر إلى كون بعض أفعاله تعالى بتحققه مانعا عن تحقق بعض آخر و أنه دل بذلك العقل أن يحكم بوجوب الفعل أو عدم جوازه، و بعبارة أخرى ينتهي الأمر إلى أنه تعالى بالنظر إلى نظام الخلقة يختار فعلا من أفعاله على آخر و هو ما فيه المصلحة على الخالي منها هذا بحسب التكوين ثم دل العقل أن يستنبط من المصلحة أن الفعل الذي اختاره و هو العدل مثلا واجب عليه و إن شئت فقل: حكم بلسان العقل بوجوب الفعل عليه و بالجملة لم ينته الإيجاب إلى غيره بل رجع إليه فهو الموجب على نفسه لا غير.
فقد اتضح بهذا البحث أمور:
الأول: أن له ملكا مطلقا لا يتقيد بتصرف دون تصرف فله أن يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد، قال تعالى: ﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ : البروج: ١٦، و قال: ﴿وَ اَللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾ : الرعد: ٤١ غير أنه تعالى بما كلمنا في مرحلة الهداية على قدر عقولنا و نصب نفسه في مقام التشريع أوجب على نفسه أشياء و منع نفسه عن أشياء فاستحسن لنفسه أشياء كالعدل و الإحسان، كما استحسنها لنا و استقبح أشياء كالظلم و العدوان، كما استقبحها لنا.
و معنى كونه تعالى مشرعا آمرا و ناهيا هو أنه تعالى قدر وجودنا في نظام متقن يربطه إلى غايات هي سعادتنا و فيها خير دنيانا و آخرتنا و هي المسماة بالمصالح و نظم أسباب وجودنا و جهازات أنفسنا نظما لا يلائم إلا مسيرا خاصا في الحياة من أفعال و أعمال هي الملاءمة لمصالح وجودنا لا غير فأسباب الوجود و الجهازات المجهزة و الأوضاع و الأحوال الحافة بنا تدفعنا إلى مصالح وجودنا و مصالح الوجود تدعونا إلى أعمال خاصة تلائمها و مسير في الحياة تسوقنا إلى كمال الوجود و سعادة الحياة و إن شئت فقل:
تندبنا إلى قوانين و سنن في العمل بها و الجري عليها خير الدنيا و الآخرة.
و هذه القوانين التي تهتف بها الفطرة و يعلمها الوحي السماوي هي الشريعة و إذ هي
تنتهي إليه تعالى فالأمر الذي فيها أمره و النهي الذي فيها نهيه و كل حكم فيها حكمه، و فيها أمور يرى اتصاف الفعل بها حسنا على كل حال كالعدل فهو يرتضيها لفعله كما يرتضيها لأفعالنا، و أمور يستقبحها و يستشنعها و يذم أفعالا اتصفت بها كالظلم فهو لا يرتضيها لفعله كما لا يرتضيها لأفعالنا و هكذا.
فلا ضير في وجوب شيء عليه تعالى وجوبا تشريعيا إذا كان هو المشرع على نفسه، و هذه أحكام اعتبارية متقررة في ظرف الاعتبار العقلي و حقيقتها أن من سنته تعالى التكوينية أن يريد و يفعل أمورا إذا عرضت على العقل عنونها بعنوان العدل، و إن لا يصدر عن ساحته أعمال إذا عرضت على العقل عنونها بعنوان الظلم فافهم ذلك.
الثاني: أن هذا الوجوب تشريعي و هناك وجوب آخر تكويني يعتمد عليه هذا الوجوب و هو ضرورة ترتب المعلولات على عللها في النظام العام من غير تخلف المنتزع عنها معنى العدل.
و قد التبس الأمر على كثير من الباحثين فزعموا كون هذا الوجوب تكوينيا و قرروه بأن القدرة الواجبية مطلقة متساوية النسبة إلى فعل القبيح و تركه مثلا لكنه تعالى لا يفعل القبيح لحكمته البتة فترك القبيح ضروري بالنسبة إلى حكمته و إن كان ممكنا بالنسبة إلى قدرته و هذه الضرورة ضرورة حقيقية كضرورة قولنا: الواحد نصف الاثنين بالضرورة غير الوجوب الاعتباري يعتبر في الأوامر المولوية هذا.
و المغالطة فيه بينة فإن ترك القبيح إذا كان ممكنا بالنسبة إلى القدرة و القدرة عين الذات كان ممكنا بالنسبة إلى الذات و صفة الحكمة حينئذ إن كانت عين الذات كان ترك القبيح ضروريا ممكنا معا بالنسبة إلى الذات و ليس إلا التناقض، و إن كانت غير الذات فإن كانت أمرا عينيا و قد جعلت الترك ضروريا للذات بعد ما كان ممكنا لزم تأثير غير الذات الواجبية فيها و هو تناقض آخر و قد عدلوا عن القول بالوجوب التشريعي إلى القول بالوجوب التكويني فرارا من لزوم حكومة غيره تعالى فيه بالأمر و النهي، و إن كانت أمرا انتزاعيا فكونها منتزعة من الذات يؤدي إلى التناقض الأول المذكور، و كونها منتزعة من غيرها إلى التناقض الثاني فإن الحكم الحقيقي في الأمور الانتزاعية لمنشإ انتزاعها.
و المغالطة إنما نشأت من أخذ الفعل ضروريا بالنسبة إلى الذات بعد انضمام الحكمة إليها فإن الذات إن أخذت علة تامة للفعل كانت النسبة هي الضرورة قبل الانضمام و بعدها دون الإمكان و إن أخذت جزءا من العلة التامة و إنما تتم بانضمام أمر أو أمور إليها كان الفعل بالنسبة إليها ممكنا لا ضروريا و إن كان بالنسبة إلى علته التامة المجتمعة من الذات و غيرها ضروريا لا ممكنا.
و الثالث: أن قولنا: يجب عليه كذا و لا يجوز عليه كذا حكم عقلي، و العقل في ذلك حاكم قاض لا مدرك آخذ بمعنى أن الحكم الذي في القضية فعل قائم بالعقل مجعول له لا أمر قائم بنفسه يحكيه العقل نوعا من الحكاية كما وقع في لسان بعضهم قائلين إن من شأنه الإدراك دون الحكم.
و ذلك أن العقل الذي كلامنا فيه هو العقل العملي الذي موطن عمله العمل من حيث ينبغي أو لا ينبغي و يجوز أو لا يجوز، و المعاني التي هذا شأنها أمور اعتبارية لا تحقق لها في الخارج عن موطن التعقل و الإدراك فكان هذا الثبوت الإدراكي بعينه فعلا للعقل قائما به و هو معنى الحكم و القضاء، و أما العقل النظري الذي موطن عمله المعاني الحقيقية غير الاعتبارية تصورا أو تصديقا فإن لمدركاته ثبوتا في نفسها مستقلا عن العقل فلا يبقى للعقل عند إدراكها إلا أخذها و حكايتها و هو الإدراك فحسب دون الحكم و القضاء.
[سورة مريم (١٩): الآیات ٧٣ الی ٨٠]
﴿وَ إِذَا تُتْلىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا ٧٣ وَ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَ رِءْياً ٧٤ قُلْ مَنْ كَانَ فِي اَلضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ اَلرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا اَلْعَذَابَ وَ إِمَّا اَلسَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً وَ أَضْعَفُ جُنْداً ٧٥ وَ يَزِيدُ﴾
﴿اَللَّهُ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا هُدىً وَ اَلْبَاقِيَاتُ اَلصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَ خَيْرٌ مَرَدًّا ٧٦ أَ فَرَأَيْتَ اَلَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَ قَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَ وَلَداً ٧٧ أَطَّلَعَ اَلْغَيْبَ أَمِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمَنِ عَهْداً ٧٨ كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ اَلْعَذَابِ مَدًّا ٧٩ وَ نَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَ يَأْتِينَا فَرْداً ٨٠﴾
(بيان)
هذا هو الفصل الثاني من كلماتهم المنقولة عنهم، و هو ردهم الدعوة النبوية بأنها لا تنفع في حسن حال المؤمنين بها شيئا و لو كانت حقة لجلبت إليهم زهرة الحياة الدنيا التي فيها سعادة العيش من أبنية رفيعة و أمتعة نفيسة و جمال و زينة، فالذي هم عليه من الكفر و قد جلب لهم خير الدنيا خير مما عليه المؤمنون و قد غشيهم رثاثة الحال و فقد المال و عسرة العيش، فكفرهم هو الحق الذي ينبغي أن يؤثر دون الإيمان الذي عليه المؤمنون و قد أجاب الله عن قولهم بقوله: ﴿وَ كَمْ أَهْلَكْنَا﴾ إلخ، و قوله: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ فِي اَلضَّلاَلَةِ﴾ إلخ، ثم عقب ذلك ببيان حال بعض من اغتر بقولهم.
قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا تُتْلىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا﴾ إلى آخر الآية، المقام اسم مكان من القيام فهو المسكن، و الندي هو المجلس و قيل خصوص مجلس المشاورة، و معنى ﴿قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ أنهم خاطبوهم فاللام للتبليغ كما قيل، و قيل: تفيد معنى التعليل أي قالوا لأجل الذين آمنوا أي لأجل إغوائهم و صرفهم عن الإيمان، و الأول أنسب للسياق كما أن الأنسب للسياق أن يكون ضمير عليهم راجعا إلى الناس أعم من الكفار و المؤمنين دون الكفار فقط حتى يكون قوله: ﴿قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر.
و قوله: ﴿أَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا﴾ أي للاستفهام و الفريقان هما
الكفار و المؤمنون، و كان مرادهم أن الكفار هم خير مقاما و أحسن نديا من المؤمنين الذين كان الغالب عليهم العبيد و الفقراء لكنهم أوردوه في صورة السؤال و كنوا عن الفريقين لدعوى أن المؤمنين عالمون بذلك يجيبون بذلك لو سئلوا من غير تردد و ارتياب.
و المعنى: و إذا تتلى على الناس و هم الفريقان الكفار و المؤمنون آياتنا و هي ظاهرات في حجتها واضحات في دلالتها لا تدع ريبا لمرتاب، قال فريق منهم و هم الذين كفروا للفريق الآخر و هم الذين آمنوا: أي هذين الفريقين خير من جهة المسكن و أحسن من حيث المجلس و لا محالة هم الكفار يريدون أن لازم ذلك أن يكونوا هم سعداء في طريقتهم و ملتهم إذ لا سعادة وراء التمتع بأمتعة الحياة الدنيا فالحق ما هم عليه.
قوله تعالى: ﴿وَ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَ رِءْياً﴾ القرن: الناس المقترنون في زمن واحد، و الأثاث: متاع البيت، قيل: لا يطلق إلا على الكثير و لا واحد له من لفظه، و الرئي بالكسر فالسكون: ما رئي من المناظر، نقل في مجمع البيان، عن بعضهم: أنه اسم لما ظهر و ليس بالمصدر و إنما المصدر الرأي و الرؤية يدل على ذلك قوله: ﴿يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ اَلْعَيْنِ﴾ فالرأي: الفعل، و الرئي: المرئي كالطحن و الطحن و السقي و السقي و الرمي و الرمي. انتهى.
و لما احتج الكفار على المؤمنين في حقية ملتهم و بطلان الدعوة النبوية التي آمن به المؤمنون بأنهم خير مقاما و أحسن نديا في الدنيا و قد فاتهم أن للإنسان حياة خالدة أبدية لا منتهى لها و إنما سعادته في سعادتها و الأيام القلائل التي يعيش فيها في الدنيا لا قدر لها قبال ما لا نهاية له و لا أنها تغني عنه شيئا.
على أن هذه التمتعات الدنيوية لا تحتم له السعادة و لا تقيه من غضب الله إن حل به يوما و ما هو من الظالمين ببعيد فليسوا في أمن من سخط الله و لا طيب في عيش يهدده الهلاك و لا في نعمة كانت في معرض النقمة و الخيبة.
أشار إلى الجواب عنه بقوله: ﴿وَ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ﴾ و الظاهر أن الجملة حالية و كم خبرية لا استفهامية، و المعنى: أنهم يتفوهون بهذه الشبهة الواهية نحن خير منكم مقاما و أحسن نديا استخفافا للمؤمنين و الحال أنا أهلكنا قرونا كثيرة قبلهم هم أحسن من حيث الأمتعة و المناظر.
و قد نقل سبحانه نظير هذه الشبهة عن فرعون و عقبه بحديث غرقه و هلاكه، قال: ﴿وَ نَادىَ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هَذِهِ اَلْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلاَ تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا اَلَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لاَ يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْ لاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ ﴾ إلى أن قال ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا اِنْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَ مَثَلاً لِلْآخِرِينَ﴾ : الزخرف: ٥٦.
قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ فِي اَلضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ اَلرَّحْمَنُ مَدًّا﴾ إلى آخر الآية، لفظة كان في قوله: ﴿مَنْ كَانَ فِي اَلضَّلاَلَةِ﴾ تدل على استمرارهم في الضلالة لا مجرد تحقق ضلالة ما، و بذلك يتم التهديد بمجازاتهم بالإمداد و الاستدراج الذي هو إضلال بعد الضلال.
و قوله: ﴿فَلْيَمْدُدْ﴾ صيغة أمر غائب و يئول معناه إلى أن من الواجب على الرحمن أن يمده مدا، فإن أمر المتكلم مخاطبه أن يأمره بشيء معناه إيجاب المتكلم ذلك على نفسه.
و المد و الأمداد واحد لكن ذكر الراغب في المفردات، أن أكثر ما جاء الأمداد في المحبوب و المد في المكروه و المراد أن من استقرت عليه الضلالة و استمر هو عليها و المراد به الكفار كناية فقد أوجب الله على نفسه أن يمده بما منه ضلالته كالزخارف الدنيوية في مورد الكلام فينصرف بذلك عن الحق حتى يأتيه أمر الله من عذاب أو ساعة بالمفاجاة و المباهتة فيظهر له الحق عند ذلك و لن ينتفع به.
فقوله: ﴿حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا اَلْعَذَابَ وَ إِمَّا اَلسَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ﴾ إلخ، دليل على أن هذا المد خذلان في صورة إكرام و المراد به أن ينصرف عن الحق و اتباعه بالاشتغال بزهرة الحياة الدنيا الغارة فلا يظهر له الحق إلا في وقت لا ينتفع به و هو وقت نزول البأس أو قيام الساعة.
كما قال تعالى: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اَللَّهِ اَلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ﴾ : المؤمن: ٨٥، و قال: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً﴾ : الأنعام: ١٥٨.
و في إرجاع ضمير الجمع في قوله: ﴿رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ﴾ إلى ﴿مَنْ﴾ رعاية جانب
معناه كما أن في إرجاع ضمير الإفراد في قوله: ﴿فَلْيَمْدُدْ لَهُ﴾ إليه رعاية جانب لفظه.
و قوله: ﴿فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً وَ أَضْعَفُ جُنْداً﴾ قوبل به قولهم السابق:
﴿أَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا﴾ أما مكانهم حين يرون العذاب و الظاهر أن المراد به عذاب الدنيا - فحيث يحل بهم عذاب الله و قد كان مكان صناديد قريش المتلو عليهم الآيات حين نزول العذاب، قليب بدر التي ألقيت فيها أجسادهم و أما مكانهم يوم يرون الساعة فالنار الخالدة التي هي دار البوار، و أما ضعف جندهم فلأنه لا عاصم لهم اليوم من الله و يعود كل ما هيئوه لأنفسهم من عدد و عدة سدى لا أثر له.
قوله تعالى: ﴿وَ يَزِيدُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا هُدىً﴾ إلى آخر الآية، الباقيات الصالحات الأعمال الصالحة التي تبقى محفوظة عند الله و تستعقب جميل الشكر و عظيم الأجر و قد وعد الله بذلك في مواضع من كلامه.
و الثواب جزاء العمل قال في المفردات،: أصل الثوب رجوع الشيء إلى حالته الأولى التي كان عليها أو إلى الحالة المقدرة المقصودة بالفكرة إلى أن قال و الثواب ما يرجع إلى الإنسان من جزاء أعماله فيسمى الجزاء ثوابا تصورا أنه هو إلى أن قال و الثواب يقال في الخير و الشر لكن الأكثر المتعارف في الخير. انتهى و المرد اسم مكان من الرد و المراد به الجنة.
و الآية من تمام البيان في الآية السابقة فإن الآية السابقة تبين حال أهل الضلالة و تذكر أن الله سيمدهم فهم يعمهون في ضلالتهم منصرفين عن الحق معرضين عن الإيمان لاعبين بما عندهم من شواغل الحياة الدنيا حتى يفاجئهم العذاب أو الساعة و تنكشف لهم حقيقة الأمر من غير أن ينتفعوا به و هؤلاء أحد الفريقين في قولهم: ﴿أَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً﴾ إلخ.
و هذه الآية تبين حال الفريق الآخر و هم المؤمنون و أن الله سبحانه يمد المهتدين منهم و هم المؤمنون بالهدى فيزيدهم هدى على هداهم فيوفقون للأعمال الباقية الصالحة و هي خير أجرا و خير دارا و هي الجنة و دائم نعيمها فما عند المؤمنين من أمتعة الحياة و هي النعيم المقيم خير مما عند الكافرين من الزخارف الغارة الفانية.
و في قوله: ﴿عِنْدَ رَبِّكَ﴾ إشارة إلى أن الحكم بخيرية ما للمؤمنين من ثواب و مرد
حكم إلهي لا يخطئ و لا يغلط البتة.
و هاتان الآيتان كما ترى جواب ثان عن حجة الكفار أعني قولهم: ﴿أَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا﴾ .
قوله تعالى: ﴿أَ فَرَأَيْتَ اَلَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَ قَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَ وَلَداً﴾ كما أن سياق الآيات الأربع السابقة يعطي أن الحجة الفاسدة المذكورة قول بعض المشركين ممن تلي عليه القرآن فقال ما قال دحضا لكلمة الحق و استغواء و استخفافا للمؤمنين كذلك سياق هذه الآيات الأربع و قد افتتحت بكلمة التعجيب و اشتملت بقول يشبه القول السابق و اختتمت بما يناسبه من الجواب يعطي أن بعض الناس ممن آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو كان في معرض ذلك بعد ما سمع قول الكفار مال إليهم و لحق بهم قائلا لأوتين مالا و ولدا يعني في الدنيا باتباع ملة الشرك كان في الإيمان بالله شؤما و في اتخاذ الآلهة ميمنة.
فرده الله سبحانه بقوله: ﴿أَطَّلَعَ اَلْغَيْبَ﴾ إلخ.
و أما ما ذكره الأكثر بالبناء على ما ورد من سبب النزول أن الجملة قول أحد المتعرقين في الشرك من قريش خاطب به خباب بن الأرت حين طالبه دينا كان له عليه، و أن معنى الجملة لأوتين مالا و ولدا في الجنة فأؤدي ديني فشيء لا يلائم سياق الآيات إذ من المعلوم أن المشركين ما كانوا مذعنين بالبعث أصلا، فقوله لأوتين مالا و ولدا إذا بعثت و عند ذلك أؤدي ديني لا يحتمل إلا الاستهزاء و التهكم و لا معنى لرد الاستهزاء بالاحتجاج كما هو صريح قوله: ﴿أَطَّلَعَ اَلْغَيْبَ أَمِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمَنِ عَهْداً﴾ إلخ.
و نظير هذا القول في السقوط ما نقل عن أبي مسلم المفسر أن الآية عامة فيمن له هذه الصفة.
فقوله: ﴿أَ فَرَأَيْتَ اَلَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا﴾ مسوق للتعجيب، و كلمة ﴿أَ فَرَأَيْتَ﴾ كلمة تعجيب و قد فرعه بفاء التفريع على ما تقدمه من قولهم: ﴿أَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا﴾ لأن كفر هذا القائل و قوله: ﴿لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَ وَلَداً﴾ من سنخ كفرهم و مبني على قولهم للمؤمنين لا خير عند هؤلاء و سعادة الحياة و عزة الدنيا و نعمتها و لا خير إلا ذلك عند الكفار و في ملتهم.
و من هنا يظهر أن لقوله: ﴿وَ قَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَ وَلَداً﴾ نوع ترتب على قوله ﴿كَفَرَ
بِآيَاتِنَا﴾ و أنه إنما كفر بآيات الله زاعما أن ذلك طريقة ميمونة مباركة تجلب لسالكها العزة و القدرة و ترزقه الخير و السعادة في الدنيا و قد أقسم بذلك كما يشهد به لام القسم و نون التأكيد في قوله: ﴿لَأُوتَيَنَّ﴾ .
قوله تعالى: ﴿أَطَّلَعَ اَلْغَيْبَ أَمِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمَنِ عَهْداً﴾ رد سبحانه عليه قوله:
«لأوتين مالا و ولدا بكفري» بأنه رجم بالغيب لا طريق له إلى العلم فليس بمطلع على الغيب حتى يعلم بأنه سيؤتى بكفره ما يأمله و لا بمتخذ عهدا عند الله حتى يطمئن إليه في ذلك، و قد جيء بالنفي في صورة الاستفهام الإنكاري.
قوله تعالى: ﴿كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ اَلْعَذَابِ مَدًّا﴾ كلا كلمة ردع و زجر و ذيل الآية دليل على أنه سبحانه يرد بها ما يتضمنه قول هذا القائل من ترتب إيتاء المال و الولد على الكفر بآيات الله و محصله أن الذي يترتب على قوله هذا ليس هو إيتاء المال و الولد فإن لذلك أسبابا أخر بل هو مد العذاب على كفره و رجمه فهو يطلب بما يقول في الحقيقة عذابا ممدودا يتلو بعضه بعضا لأنه هو تبعة قوله لا إيتاء المال و الولد و سنكتب قوله و نرتب عليه أثره الذي هو مد العذاب فالآية نظيرة قوله: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ اَلزَّبَانِيَةَ﴾ : العلق: ١٨.
و من هنا يظهر أن الأقرب أن يكون المراد من كتابة قوله تثبيته ليترتب عليه أثره لا كتابته في صحيفة عمله ليحاسب عليه يوم القيامة كما فسره به أرباب التفسير، على أن قوله الآتي: ﴿وَ نَرِثُهُ مَا يَقُولُ﴾ لا يخلو على قولهم من شائبة التكرار من غير نكتة ظاهرة.
قوله تعالى: ﴿وَ نَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَ يَأْتِينَا فَرْداً﴾ المراد بوراثة ما يقول أنه سيموت و يفنى و يترك قوله: لأوتين بكفري مالا و ولدا، و قد كان خطيئة لازمة له لزوم المال للإنسان محفوظة عند الله كأنه مال ورثه بعده ففي الكلام استعارة لطيفة.
و قوله: ﴿وَ يَأْتِينَا فَرْداً﴾ أي وحده و ليس معه شيء مما كان ينتصر به و يركن إليه بحسب وهمه فمحصل الآية أنه سيأتينا وحده و ليس معه إلا قوله الذي حفظناه عليه فنحاسبه على ما قال و نمد له من العذاب مدا.
هذا ما يقتضيه البناء على كون قوله في أول الآيات ﴿لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَ وَلَداً﴾ ناظرا
إلى الإيتاء في الدنيا، و أما بناء على كونه ناظرا إلى الإيتاء في الآخرة كما اختاره الأكثر فمعنى الآيات كما فسروها تعجب من الذي كفر بآياتنا و هو عاص بن وائل أو وليد بن المغيرة و قال: أقسم لأوتين إذا بعثت مالا و ولدا في الجنة، أ علم الغيب حتى يعلم أنه في الجنة؟ و قيل: أ نظر في اللوح المحفوظ أم اتخذ عند الرحمن عهدا بقول لا إله إلا الله حتى يدخل به الجنة و قيل: أ قدم عملا صالحا كلا و ليس الأمر كما قال سنكتب ما يقول بأمر الحفظة أن يثبتوه في صحيفة عمله و نمد له من العذاب مدا و نرثه ما يقول أي ما عنده من المال و الولد بإهلاكنا إياه و إبطالنا ملكه و يأتينا أي يأتي الآخرة فردا ليس عنده شيء من مال و ولد و عدة و عدد.
(بحث روائي)
في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى:
﴿أَ فَرَأَيْتَ اَلَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَ قَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَ وَلَداً﴾ إنه العاص بن وائل بن هشام القرشي ثم السهمي و كان أحد المستهزءين، و كان لخباب بن الأرت على العاص بن وائل حق فأتاه يتقاضاه فقال له العاص: أ لستم تزعمون أن في الجنة الذهب و الفضة و الحرير؟ قال: بلى. قال: فموعد ما بيني و بينك الجنة، فو الله لأوتين فيها خيرا مما أوتيت في الدنيا.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و البخاري و مسلم و سعيد بن منصور و عبد بن حميد و الترمذي و البيهقي في الدلائل و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن حبان و ابن مردويه عن خباب بن الأرت قال :كنت رجلا قينا و كان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال: لا و الله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد فقلت: لا و الله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث. قال: فإني إذا مت -ثم بعثت جئتني و لي ثم مال و ولد فأعطيك فأنزل الله: ﴿أَ فَرَأَيْتَ اَلَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا ﴾ إلى قوله ﴿وَ يَأْتِينَا فَرْداً﴾ . أقول: و روى أيضا ما يقرب منه عن الطبراني عن خباب. و أيضا عن سعيد بن منصور عن الحسن عن رجل من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و لم يسم خبابا و أيضا عن ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عباس عن رجال من الصحابة.
و قد تقدم أن الروايات لا تنطبق على سياق الآيات فإن الروايات صريحة في أن الكلمة إنما صدرت عن العاص بن وائل على سبيل الاستهزاء و السخرية على أن النقل القطعي أيضا يؤيد أن المشركين لم يكونوا قائلين بالبعث و النشور.
ثم الآيات تأخذ في رد كلمته بالاحتجاج و لو كانت كلمة استهزاء من غير جد لم يكن للاحتجاج عليها معنى إذ الاحتجاج لا يستقيم إلا على قول جدي و إلا كان هزلا فالروايات على صراحتها في كونها كلمة استهزاء لا تنطبق على الآية.
و لو حمل على وجه بعيد على أنه إنما قال: ﴿لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَ وَلَداً﴾ على وجه الإلزام و التبكيت لخباب من غير أن يعتقده لا على وجه الاستهزاء! لم يكن لذكر الولد مع المال وجه و كفاه أن يقول لأوتين مالا مع أن في بعض هذه الروايات أنه قال لخباب: إنكم تزعمون أنكم ترجعون إلى مال و ولد و لم يعهد من مسلمي صدر الإسلام شيوع القول بأن في الجنة توالدا و تناسلا و لا وقعت في شيء من القرآن إشارة إلى ذلك.
هذا أولا.
و لم يكن للقسم و التأكيد البالغ في قوله: ﴿لَأُوتَيَنَّ﴾ وجه إذ الإلزام و التبكيت لا حاجة فيه إلى تأكيد. و هذا ثانيا.
و لم يكن لإطلاق الإيتاء في قوله ﴿لَأُوتَيَنَّ﴾ من دون أن يقيده بالجنة أو الآخرة دفعا للبس نكتة ظاهرة. و هذا ثالثا.
و لم يصلح للرد عليه و إبطاله إلا قوله تعالى: ﴿كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ اَلْعَذَابِ﴾ إلى آخر الآيتين، و أما قوله: ﴿أَطَّلَعَ اَلْغَيْبَ أَمِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمَنِ عَهْداً﴾ فغير وارد عليه البتة إذ الإلزام و التبكيت لا يتوقف على العلم بصدق ما يلزم به حتى يتوقف عن منشإ علمه بل يجامع غالبا العلم بالكذب و إنما على التزام الخصم الذي يراد إلزامه به أو بما يستلزمه. و هذا رابعا.
و اعلم أنه ورد في ذيل قوله: ﴿وَ اَلْبَاقِيَاتُ اَلصَّالِحَاتُ﴾ الآية أخبار عن النبي و أئمة أهل البيت عليهم أفضل الصلاة و قد أشرنا إليها في الجزء الثالث عشر من الكتاب في بحث روائي في ذيل الآية ٤٦ من سورة الكهف.
[سورة مريم (١٩): الآیات ٨١ الی ٩٦]
﴿وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ٨١ كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ٨٢ أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا اَلشَّيَاطِينَ عَلَى اَلْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ٨٣ فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ٨٤ يَوْمَ نَحْشُرُ اَلْمُتَّقِينَ إِلَى اَلرَّحْمَنِ وَفْداً ٨٥ وَ نَسُوقُ اَلْمُجْرِمِينَ إِلىَ جَهَنَّمَ وِرْداً ٨٦ لاَ يَمْلِكُونَ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمَنِ عَهْداً ٨٧ وَ قَالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمَنُ وَلَداً ٨٨ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا ٨٩ تَكَادُ اَلسَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ اَلْأَرْضُ وَ تَخِرُّ اَلْجِبَالُ هَدًّا ٩٠ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً ٩١ وَ مَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً ٩٢ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ إِلاَّ آتِي اَلرَّحْمَنِ عَبْداً ٩٣ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا ٩٤ وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فَرْداً ٩٥ إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمَنُ وُدًّا ٩٦﴾
(بيان)
هذا هو الفصل الثالث مما نقل عنهم و هو شركهم بالله باتخاذ الآلهة و قولهم: ﴿اِتَّخَذَ اَلرَّحْمَنُ وَلَداً﴾ سبحانه و الجواب عن ذلك.
قوله تعالى: ﴿وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا﴾ هؤلاء الآلهة هم
الملائكة و الجن و القديسون من الإنس و جبابرة الملوك فإن أكثرهم كانوا يرون الملك قداسة سماوية.
و معنى كونهم لهم عزا كونهم شفعاء لهم يقربونهم إلى الله بالشفاعة فينالون بذلك العزة في الدنيا ينجر إليهم الخير و لا يمسهم الشر، و من فسر كونهم لهم عزا بشفاعتهم لهم في الآخرة خفي عليه أن المشركين لا يقولون بالبعث.
قوله تعالى: ﴿كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا﴾ الضد بحسب اللغة المنافي الذي لا يجتمع مع الشيء، و عن الأخفش أن الضد يطلق على الواحد و الجمع كالرسول و العدو و أنكر ذلك بعضهم و وجه إطلاق الضد في الآية و هو مفرد على الآلهة و هي جمع بأنها لما كانت متفقة في عداوة هؤلاء و الكفر بعبادتهم كانت في حكم الواحد و صح بذلك إطلاق المفرد عليها.
و ظاهر السياق أن ضميري ﴿سَيَكْفُرُونَ﴾ و ﴿يَكُونُونَ﴾ للآلهة و ضميري ﴿بِعِبَادَتِهِمْ﴾ و ﴿عَلَيْهِمْ﴾ للمشركين المتخذين للآلهة و المعنى: سيكفر الآلهة بعبادة هؤلاء المشركين و يكون الآلهة حال كونهم على المشركين لا لهم، ضدا لهم يعادونهم و لو كانوا لهم عزا لثبتوا على ذلك دائما و قد وقع ذلك في قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا رَأَى اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاَءِ شُرَكَاؤُنَا اَلَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ اَلْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ:﴾ النحل: ٨٦. و أوضح منه قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اِسْتَجَابُوا لَكُمْ وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ:﴾ فاطر: ١٤.
و ربما احتمل أن يكون بالعكس من ذلك أي سيكفر المشركون بعبادة الآلهة و يكونون على الآلهة ضدا كما في قوله: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَ اَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ : الأنعام: ٢٣، و يبعده أن ظاهر السياق أن يكون ﴿ضِدًّا﴾ و قد قوبل به ﴿عِزًّا﴾ في الآية السابقة، وصفا للآلهة دون المشركين و لازم ذلك أن يكون الآلهة الذين هم الضد هم الكافرين بعبادة المشركين نظرا إلى خصوص ترتب الضمائر.
على أن التعبير المناسب لهذا المعنى أن يقال: سيكفرون بهم على حد ما يقال:
كفر بالله، و لا يقال: كفر بعبادة الله.
و المراد بكفر الآلهة يوم القيامة بعبادتهم و كونهم عليهم ضدا هو ظهور حقيقة الأمر يومئذ فإن شأن يوم القيامة ظهور الحقائق فيه لأهل الجمع لا حدوثها و لو لم تكن الآلهة كافرين بعبادتهم في الدنيا و لا عليهم ضدا بل بدا لهم ذلك يوم القيامة لم تتم حجة الآية فافهم ذلك، و على هذا المعنى يترتب قوله: ﴿أَ لَمْ تَرَ﴾ على قوله: ﴿كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ﴾ إلخ.
قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا اَلشَّيَاطِينَ عَلَى اَلْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا﴾ الأز و الهز بمعنى واحد و هو التحريك بشدة و إزعاج و المراد تهييج الشياطين إياهم إلى الشر و الفساد و تحريضهم على اتباع الباطل و إضلالهم بالتزلزل عن الثبات و الاستقامة على الحق.
و لا ضير في نسبة إرسال الشياطين إليه تعالى بعد ما كان على طريق المجازاة فإنهم كفروا بالحق فجازاهم الله بزيادة الكفر و الضلال و يشهد بذلك قوله: ﴿عَلَى اَلْكَافِرِينَ﴾ و لو كان إضلالا ابتدائيا لقيل: «عليهم» من غير أن يوضع الظاهر موضع المضمر.
و الآية و هي مصدرة بقوله: ﴿أَ لَمْ تَرَ﴾ المفيد معنى الاستشهاد مسوقة لتأييد ما ذكر في الآية السابقة من كون آلهتهم عليهم ضدا، فإن تهييج الشياطين إياهم للشر و الفساد و اتباع الباطل معاداة و ضدية و الشياطين و هم من الجن من جملة آلهتهم و لو لم يكن هؤلاء الآلهة عليهم ضدا ما دعوهم إلى ما فيه هلاكهم و شقاؤهم.
فالآية بمنزلة أن يقال: هؤلاء الآلهة الذين يحسبونهم لأنفسهم عزا هم عليهم ضد و تصديق ذلك أن الشياطين و هم من آلهتهم يحركونهم بإزعاج نحو ما فيه شقاؤهم و ليسوا مع ذلك مطلقي العنان بل إنما هو بإذن من الله يسمى إرسالا و على هذا فالآية متصلة بسابقتها و هو ظاهر.
و جعل صاحب روح المعاني، هذه الآية مترتبة على مجموع الآيات من قوله: ﴿وَ يَقُولُ اَلْإِنْسَانُ أَ إِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا﴾ إلى قوله: ﴿وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا﴾ و متصلة به و أطنب في بيان كيفية الاتصال بما لا يجدي نفعا و أفسد بذلك سياق الآيات و اتصال ما بعد هذه الآية بما قبلها.
قوله تعالى: ﴿فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا﴾ العد هو الإحصاء و العد يفني
المعدود و ينفده و بهذه العناية قصد به إنفاد أعمارهم و الانتهاء إلى آخر أنفاسهم كأن أنفاسهم الممدة لأعمارهم مذخورة بعددها عند الله فينفدها بإرسالها واحدا بعد آخر حتى تنتهي و هو اليوم الموعود عليهم.
و إذ كان مدة بقاء الإنسان هي مدة بلائه و امتحانه كما ينبئ عنه قوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى اَلْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ : الكهف: ٧ كان العد بالحقيقة عدا للأعمال المثبتة في صحيفة العمر، ليتم بذلك بنية الحياة الأخروية الخالدة و يستقصي للإنسان ما يلتئم به عيشه هناك من نعم أو نقم فكما أن مكث الجنين في الرحم مدة يتم به خلقه جسمه كذلك مكث الإنسان في الدنيا لأن يتم به خلقة نفسه و إن يعد الله ما قدر له من العطية و يستقصيه.
و على هذا فلا ينبغي للإنسان أن يستعجل الموت لكافر طالح لأن مدة بقائه مدة عد سيئاته ليحاسب عليها و يعذب بها و لا لمؤمن صالح لأن مدة بقائه مدة عد حسناته ليثاب بها و يتنعم و الآية لا تقيد العد و إن فهم من ظاهرها في بادئ النظر عد الأنفاس أو الأيام.
و كيف كان فقوله: ﴿فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ﴾ تفريع على ما تقدم، و قوله: ﴿إِنَّمَا نَعُدُّ﴾ تعليل له و هو في الحقيقة علة التأخير و محصل المعنى إذ كان هؤلاء لا ينتفعون باتخاذ الآلهة و كانوا هم و آلهتهم منتهين إلينا غير خارجين من سلطاننا و لا مسيرهم في طريقهم بغير إذننا فلا تعجل عليهم بالقبض أو بالقضاء و لا يضيق صدرك عن تأخير ذلك إنما نعد لهم أنفاسهم أو أعمالهم عدا.
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ اَلْمُتَّقِينَ إِلَى اَلرَّحْمَنِ وَفْداً﴾ الوفد هم القوم الواردون لزيارة أو استنجاز حاجة أو نحو ذلك و لا يسمون وفدا إلا إذا كانوا ركبانا و هو جمع واحده وافد.
و ربما استفيد من مقابلة قوله في هذه الآية ﴿إِلَى اَلرَّحْمَنِ﴾ قوله في الآية التالية:
﴿إِلىَ جَهَنَّمَ﴾ أن المراد بحشرهم إلى الرحمن حشرهم إلى الجنة و إنما سمي حشرا إلى الرحمن لأن الجنة مقام قربه تعالى فالحشر إليها حشر إليه. و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: ﴿وَ نَسُوقُ اَلْمُجْرِمِينَ إِلىَ جَهَنَّمَ وِرْداً﴾ فسر الورد بالعطاش و كأنه
مأخوذ من ورود الماء أي قصده ليشرب و لا يكون ذلك إلا عن عطش فجعل بذلك الورد كناية عن العطاش، و في تعليق السوق إلى جهنم بوصف الاجرام إشعار بالعلية و نظيره تعليق الحشر إلى الرحمن في الآية السابقة بوصف التقوى. و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: ﴿لاَ يَمْلِكُونَ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمَنِ عَهْداً﴾ و هذا جواب ثان عن اتخاذهم الآلهة للشفاعة و هو أن ليس كل من يهوى الإنسان شفاعته فاتخذه إلها ليشفع له يكون شفيعا بل إنما يملك الشفاعة بعهد من الله و لا عهد إلا لآحاد من مقربي حضرته، قال تعالى: ﴿وَ لاَ يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ﴾ : الزخرف: ٨٦.
و قيل: المراد أن المشفع لهم لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا و العهد هو الإيمان بالله و التصديق بالنبوة، و قيل: وعده تعالى له بالشفاعة كما في الأنبياء و الأئمة و المؤمنين و الملائكة على ما في الأخبار، و قيل: هو شهادة أن لا إله إلا الله و أن يتبرأ من الحول و القوة و أن لا يرجو إلا الله، و الوجه الأول هو الأوجه و هو بالسياق أنسب.
قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمَنُ وَلَداً﴾ من قول الوثنيين و بعض خاصتهم، و إن قال ببنوة الآلهة أو بعضهم لله سبحانه تشريفا أو تجليلا لكن عامتهم و بعض خاصتهم - في مقام التعليم - قال بذلك تحقيقا بمعنى الاشتقاق من حقيقة اللاهوت و اشتمال الولد على جوهرة والده، و هذا هو المراد بالآية و الدليل عليه التعبير بالولد دون الابن، و كذا ما في قوله: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ﴾ إلى تمام ثلاث آيات من الاحتجاج على نفيه.
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا﴾ إلى تمام ثلاث آيات، الإد بكسر الهمزة:
الشيء المنكر الفظيع، و التفطر الانشقاق، و الخرور السقوط، و الهد الهدم.
و الآيات في مقام إعظام الذنب و إكبار تبعته بتمثيله بالمحسوس يقول: لقد أتيتم بقولكم هذا أمرا منكرا فظيعا تكاد السماوات يتفطرن و ينشققن منه و تنشق الأرض و تسقط الجبال على السهل سقوط انهدام إن دعوا للرحمن ولدا.
قوله تعالى: ﴿وَ مَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ
إِلاَّ آتِي اَلرَّحْمَنِ عَبْداً﴾ إلى تمام أربع آيات. المراد بإتيان كل منهم عبدا له توجه الكل إليه و مثوله بين يديه في صفة المملوكية المحضة فكل منهم مملوك له لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا و ذلك أمر بالفعل ملازم له ما دام موجودا، و لذا لم يقيد الإتيان في الآية بالقيامة بخلاف ما في الآية الرابعة.
و المراد بإحصائهم و عدهم تثبيت العبودية لهم فإن العبيد إنما تتعين لهم أرزاقهم و تتبين وظائفهم و الأمور التي يستعملون فيها بعد الإحصاء و عدهم و ثبتهم في ديوان العبيد و به تسجل عليهم العبودية.
و المراد بإتيانه له يوم القيامة فردا إتيانه يومئذ صفر الكف لا يملك شيئا مما كان يملكه بحسب ظاهر النظر في الدنيا و كان يقال: إن له حولا و قوة و مالا و ولدا و أنصارا و وسائل و أسبابا إلى غير ذلك فيظهر يومئذ إذ تتقطع بهم الأسباب أنه فرد ليس معه شيء يملكه و أنه كان عبدا بحقيقة معنى العبودية لم يملك قط و لن يملك أبدا فشأن يوم القيامة ظهور الحقائق فيه.
و يظهر بما تقدم أن الذي تتضمنه الآيات من الحجة على نفي الولد حجة واحدة و محصلها أن كل من في السماوات و الأرض عبد لله مطيع له في عبوديته ليس له من الوجود و آثار الوجود إلا ما آتاه الله فأخذه هو ممتثلا لأمره تابعا لإرادته من غير أن يملك من ذلك شيئا، و ليس من عبوديتها هذا فحسب بل الله أحصاهم و عدهم فسجل عليهم العبودية و أثبت كلا في موضعه و سخره مستعملا له فيما يريده منه فكان شاهدا لعبوديته، و ليس هذا المقدار فحسب بل سيأتيه كل منهم فردا لا يملك شيئا و لا يصاحبه شيء و يظهر بذلك حقيقة عبوديتهم للكل فيشهدون ذلك و إذا كان هذا حال كل من في السموات و الأرض فكيف يمكن أن يكون بعضهم ولدا لله واجدا لحقيقة اللاهوت مشتقا من جوهرتها، و كيف تجتمع الألوهية و الفقر؟.
و أما انتهاء وجود الأشياء إليه تعالى وحده كما تضمنته الآية الأولى فمما لا يرتاب فيه مثبتو الصانع سواء في ذلك الموحدون و المشركون و إنما الاختلاف في كثرة المعبود و وحدته و كثرة الرب بمعنى المدبر و لو بالتفويض و عدمها.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمَنُ وُدًّا﴾
الود و المودة المحبة و في الآية وعد جميل منه تعالى أنه سيجعل للذين آمنوا و عملوا الصالحات مودة في القلوب و لم يقيده بما بينهم أنفسهم و لا بغيرهم و لا بدنيا و لا بآخره أو جنة فلا موجب لتقييد بعضهم ذلك بالجنة و آخرين بقلوب الناس في الدنيا إلى غير ذلك.
و قد ورد في أسباب النزول، من طرق الشيعة و أهل السنة أن الآية نزلت في علي (عليه السلام)، و في بعضها ما ورد من طرق أهل السنة أنها نزلت في مهاجري الحبشة و في بعضها غير ذلك و سيجيء في البحث الروائي الآتي.
و على أي حال فعموم لفظ الآية في محله، و الظاهر أن الآية متصلة بقوله السابق:
﴿سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا﴾ .
(بحث روائي)
في تفسير القمي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: ﴿كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا﴾ يوم القيامة أي يكون هؤلاء الذين اتخذوهم آلهة من دون الله ضدا يوم القيامة و يتبرءون منهم و من عبادتهم إلى يوم القيامة.
و في الكافي، بإسناده عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) قول الله عز و جل: ﴿إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا﴾ قال: ما هو عندك؟ قلت: عد الأيام قال الآباء و الأمهات يحصون ذلك و لكنه عدد الأنفاس.
و في نهج البلاغة، من كلامه (عليه السلام): نفس المرء خطاه إلى أجله.
و فيه، قال (عليه السلام): كل معدود متنقص و كل متوقع آت.
و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد عن أبي جعفر محمد بن علي: في قوله: ﴿إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا﴾ قال: كل شيء حتى النفس. أقول: و هي أشمل الروايات و لا يبعد أن يستفاد منها أن ذكر النفس في الروايات من قبيل ذكر المثال.
و في محاسن البرقي، بإسناده عن حماد بن عثمان و غيره عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ اَلْمُتَّقِينَ إِلَى اَلرَّحْمَنِ وَفْداً﴾ قال يحشرون على النجائب.
و في تفسير القمي، بإسناده عن عبد الله بن شريك العامري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سأل علي (عليه السلام) رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن تفسير قوله عز و جل: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ اَلْمُتَّقِينَ إِلَى اَلرَّحْمَنِ وَفْداً﴾ قال: يا علي الوفد لا يكون إلا ركبانا أولئك رجال اتقوا الله عز و جل فأحبهم و اختصهم و رضي أعمالهم فسماهم الله متقين. الحديث.
أقول: ثم روى القمي حديثا آخر طويلا يذكر (ص) فيه تفصيل خروجهم من قبورهم و ركوبهم من نوق الجنة و وفودهم إلى الجنة و دخولهم فيها و تنعمهم بما رزقوا من نعمها.
و في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن علي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): في الآية قال: أما و الله ما يحشرون على أقدامهم و لا يساقون سوقا و لكنهم يؤتون بنوق من الجنة لم تنظر الخلائق إلى مثلها رحالها الذهب و أزمتها الزبرجد فيقعدون عليها حتى يقرعوا باب الجنة. أقول: و روى أيضا هذا المعنى عن ابن أبي الدنيا و ابن أبي حاتم و ابن مردويه من طرق عن علي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في حديث طويل يصف فيه ركوبهم و وفودهم و دخولهم الجنة. و استقرارهم فيها و تنعمهم من نعمها. و رواه فيه عن عدة من أرباب الجوامع عن علي (عليه السلام).
و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت: قوله:
﴿لاَ يَمْلِكُونَ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمَنِ عَهْداً﴾ قال: إلا من دان بولاية أمير المؤمنين و الأئمة من بعده - فهو العهد عند الله.
أقول: و روى في الدر المنثور، عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): أن من أدخل على مؤمن سرورا فقد سرني و من سرني فقد اتخذ عند الله عهدا. الحديث، و روى عن أبي هريرة عنه (ص): أن المحافظة على العهد هو المحافظة على الصلوات الخمس، و هنا روايات أخر من طرق الخاصة و العامة قريبة مما أوردناه و يستفاد من مجموعها أن العهد المأخوذ عند الله اعتقاد حق أو عمل صالح ينجي المؤمن يوم القيامة و أن ما ورد في الروايات من قبيل المصاديق المتفرقة.
و اعلم أيضا أن الروايات السابقة مبنية على كون المراد ممن يملك الشفاعة في الآية هو الذي ينال الشفاعة أو الأعم من الشفعاء و المشفوع لهم، و أما لو كان المراد هم الشفعاء فالأخبار أجنبية منها.
و في تفسير القمي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): قلت: قوله عز و جل: ﴿وَ قَالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمَنُ وَلَداً﴾ قال هذا حيث قالت قريش: إن لله عز و جل ولدا و أن الملائكة إناث فقال الله تبارك و تعالى ردا عليهم ﴿لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا﴾ أي عظيما ﴿تَكَادُ اَلسَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ﴾ يعني مما قالوه و مما رموه به و تنشق الأرض و تخر الجبال هدا» مما قالوه و مما رموه به ﴿أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً﴾ فقال الله تبارك و تعالى: ﴿وَ مَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً ﴾ ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ إِلاَّ آتِي اَلرَّحْمَنِ عَبْداً ﴾ ﴿لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فَرْداً﴾ واحدا واحدا.
في تفسير القمي، بإسناده عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام): قلت: قوله عز و جل ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ قال: ولاية أمير المؤمنين هي الود الذي ذكره الله:.
أقول: و رواه في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عنه (عليه السلام).
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه و الديلمي عن البراء قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لعلي قل: اللهم اجعل لي عندك عهدا و اجعل لي عندك ودا و اجعل لي في صدور المؤمنين مودة فأنزل الله ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ قال: فنزلت في علي.
و فيه، أخرج الطبراني و ابن مردويه عن ابن عباس قال :نزلت في علي بن أبي طالب ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ قال: محبة في قلوب المؤمنين.
و في المجمع، :في الآية: قيل فيه أقوال: أحدها أنها خاصة في علي فما من مؤمن إلا و في قلبه محبة لعلي (عليه السلام). عن ابن عباس
و في تفسير أبي حمزة الثمالي: حدثني أبو جعفر الباقر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لعلي: قل: اللهم اجعل لي عندك عهدا، و اجعل لي في قلوب المؤمنين ودا، فقالهما فنزلت هذه الآية: و روى نحوه عن جابر بن عبد الله:
: أقول قال في روح المعاني،: الظاهر أن الآية على هذا مدنية، و أنت خبير بأن لا دلالة في شيء من الأحاديث على وقوع القصة في المدينة أصلا.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف :أنه لما هاجر إلى المدينة وجد في نفسه على فراق أصحابه بمكة منهم شيبة بن ربيعة و عتبة بن ربيعة و أمية بن خلف فأنزل الله ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ . أقول: صريح الحديث كون الآية مدنية و يدفعه اتفاق الكل على كون السورة بجميع آياتها مكية و قد تقدم في أول السورة.
و فيه، أخرج الحكيم الترمذي و ابن مردويه عن علي قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن قوله: ﴿سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ ما هو؟ قال: المحبة في قلوب المؤمنين و الملائكة المقربين، يا علي إن الله أعطى المؤمن ثلاثا: المقة و المحبة و الحلاوة و المهابة في صدور الصالحين. أقول: المقة المحبة و في معناه بعض روايات أخر من طرق أهل السنة مبنية على عموم لفظ الآية و هو لا ينافي خصوص مورد النزول.
[سورة مريم (١٩): الآیات ٩٧ الی ٩٨]
﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ اَلْمُتَّقِينَ وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا ٩٧ وَ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً ٩٨﴾
(بيان)
الآيتان ختام السورة يذكر سبحانه فيهما تنزيل حقيقة القرآن و هي أعلى من أن تنالها أيدي الأفهام العادية أو يمسه غير المطهرين إلى مرتبة الذكر بلسان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)
و يذكر أن الغاية من هذا التيسير أن يبشر به المتقين من عباده و ينذر به قوما لدا خصماء، ثم لخص إنذارهم بتذكير هلاك من هلك من القرون السابقة عليهم.
قوله تعالى: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ اَلْمُتَّقِينَ وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا﴾ التيسير و هو التسهيل ينبئ عن حال سابقة ما كان يسهل معها تلاوته و لا فهمه و قد أنبأ سبحانه عن مثل هذه الحالة لكتابه في قوله: ﴿وَ اَلْكِتَابِ اَلْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ:﴾ الزخرف: ٤، فأخبر أنه لو أبقاه على ما كان عليه عنده - و هو الآن كذلك - من غير أن يجعله عربيا مقروا لم يرج أن يعقله الناس و كان كما كان عليا حكيما أي آبيا متعصيا أن يرقى إليه أفهامهم و ينفذ فيه عقولهم.
و من هنا يتأيد أن معنى تيسيره بلسانه تنزيله على اللسان العربي الذي كان هو لسانه (ص) فتنبئ الآية أنه تعالى يسره بلسانه ليتيسر له التبشير و الإنذار.
و ربما قيل: إن معنى تيسيره بلسانه إجراؤه على لسانه بالوحي و اختصاصه بوحي الكلام الإلهي ليبشر به و ينذر. و هذا و إن كان في نفسه وجها عميقا لكن الوجه الأول مضافا إلى تأيده بالآيات السابقة و أمثالها أنسب و أوفق بسياق آيات السورة.
و قوله: ﴿وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا﴾ المراد قومه، (ص) و اللد جمع ألد من اللدد و هو الخصومة.
قوله تعالى: ﴿وَ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً﴾ الإحساس هو الإدراك بالحس، و الركز هو الصوت، قيل: و الأصل في معناه الحس، و محصل المعنى أنهم و إن كانوا خصماء مجادلين لكنهم غير معجزي الله بخصامهم فكم أهلكنا قبلهم من قرن فبادوا فلا يحس منهم أحد و لا يسمع لهم صوت.
(٢٠) (سورة طه مكية و هي مائة و خمس و ثلاثون آية) (١٣٥)
[سورة طه (٢٠): الآیات ١ الی ٨]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ ﴾ ﴿طه ١ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىَ ٢ إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشىَ ٣ تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ اَلْأَرْضَ وَ اَلسَّمَاوَاتِ اَلْعُلى ٤ اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى ٥ لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا وَ مَا تَحْتَ اَلثَّرى ٦ وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ اَلسِّرَّ وَ أَخْفى ٧ اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنى ٨﴾
(بيان)
غرض السورة التذكرة من طريق الإنذار تغلب فيها آيات الإنذار و التخويف على آيات التبشير غلبة واضحة، فقد اشتملت على قصص تختتم بهلاك الطاغين و المكذبين لآيات الله و تضمنت حججا بينة تلزم العقول على توحيده تعالى و الإجابة لدعوة الحق و تنتهي إلى بيان ما سيستقبل الإنسان من أهوال الساعة و مواقف القيامة و سوء حال المجرمين و خسران الظالمين.
و قد افتتحت الآيات على ما يلوح من السياق بما فيه نوع تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم)
أن لا يتعب نفسه الشريفة في حمل الناس على دعوته التي يتضمنها القرآن فلم ينزل ليتكلف به بل هو تنزيل إلهي يذكر الناس بالله و آياته رجاء أن تستيقظ غريزة خشيتهم فيتذكروا فيؤمنوا به و يتقوا فليس عليه إلا التبليغ فحسب فإن خشوا و تذكروا و إلا غشيتهم غاشية عذاب الاستئصال أو ردوا إلى ربهم فأدركهم وبال ظلمهم و فسقهم و وفيت لهم أعمالهم من غير أن يكونوا معجزين لله سبحانه بطغيانهم و تكذيبهم.
و سياق آيات السورة يعطي أن تكون مكية و في بعض الآثار أن قوله: ﴿فَاصْبِرْ عَلىَ مَا يَقُولُونَ﴾ الآية: - ١٣٠ مدنية و في بعضها الآخر أن قوله: ﴿لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلىَ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ﴾ الآية: - ١٣١، مدنية و لا دليل على شيء من ذلك من ناحية اللفظ.
و من غرر الآيات في السورة قوله تعالى: ﴿اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنىَ﴾ .
قوله تعالى: ﴿طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىَ﴾ ﴿طه﴾ حرفان من الحروف المقطعة افتتحت بهما السورة كسائر الحروف المقطعة التي افتتحت بها سورها نحو ﴿الم﴾ ﴿الر﴾ و نظائرهما و قد نقل عن جماعة من المفسرين في معنى الحرفين أمور ينبغي أن يجل البحث التفسيري عن إيرادها و الغور في أمثالها، و سنلوح إليها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.
و الشقاوة خلاف السعادة قال الراغب: و الشقاوة كالسعادة من حيث الإضافة فكما أن السعادة في الأصل ضربان: سعادة أخروية و سعادة دنيوية ثم السعادة الدنيوية ثلاثة أضرب: سعادة نفسية و بدنية و خارجية كذلك الشقاوة على هذه الأضرب - إلى أن قال - قال بعضهم: قد يوضع الشقاء موضع التعب نحو شقيت في كذا، و كل شقاوة تعب، و ليس كل تعب شقاوة فالتعب أعم من الشقاوة. انتهى، فالمعنى ما أنزلنا القرآن لتتعب نفسك في سبيل تبليغه بالتكلف في حمل الناس عليه.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشىَ تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ اَلْأَرْضَ وَ اَلسَّمَاوَاتِ اَلْعُلىَ﴾ التذكرة هي إيجاد الذكر فيمن نسي الشيء و إذ كان الإنسان ينال حقائق الدين الكلية بفطرته كوجوده تعالى و توحده في وجوب وجوده و ألوهيته و ربوبيته و النبوة و المعاد و غير ذلك كانت أمورا مودعة في الفطرة غير أن إخلاد الإنسان إلى الأرض و إقباله إلى الدنيا و اشتغاله بما يهواه من زخارفها اشتغالا لا يدع في قلبه فراغا أنساه ما أودع
في فطرته و كان إلقاء هذه الحقائق إلفاتا لنفسه إليها و تذكرة له بها بعد نسيانها.
و من المعلوم أن ذلك إعراض و إنما سمي نسيانا بنوع من العناية و هو اشتراكهما في الأثر و هو عدم الاعتناء بشأنه فلا بد في دفع هذا النسيان الذي أوجبه اتباع الهوى و الانكباب على الدنيا من أمر ينتزع النفس انتزاعا و يدفعها إلى الإقبال إلى الحق دفعا و هو الخشية و الخوف من عاقبة الغفلة و وبال الاسترسال حتى تقع التذكرة موقعها و تنفع في اتباع الحق صاحبها.
و بما تقدم من البيان يظهر وجه تقييد التذكرة بقوله: ﴿لِمَنْ يَخْشىَ﴾ و أن المراد بمن يخشى من كان في طبعه ذلك بأن كان مستعدا لظهور الخشية في قلبه لو سمع كلمة الحق حتى إذا بلغت إليه التذكرة ظهرت في باطنه الخشية فآمن و اتقى.
و الاستثناء في قوله: ﴿إِلاَّ تَذْكِرَةً﴾ استثناء منقطع على ما قالوا و المعنى ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب به نفسك و لكن ليكون مذكرا يتذكر به من من شأنه أن يخشى فيخشى فيؤمن بالله و يتقي.
فالسياق على رسله يستدعي كون ﴿تَذْكِرَةً﴾ مصدرا بمعنى الفاعل و مفعولا له لقوله: ﴿مَا أَنْزَلْنَا﴾ كما يستدعي كون قوله: ﴿تَنْزِيلاً﴾ بمعنى اسم المفعول حالا من ضمير ﴿تَذْكِرَةً﴾ الراجع إلى القرآن، و المعنى ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب به نفسك و لكن لتذكر الخاشعين بكلام إلهي منزل من عنده.
و قوله: ﴿تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ اَلْأَرْضَ وَ اَلسَّمَاوَاتِ اَلْعُلىَ﴾ العلى جمع عليا مؤنث أعلى كفضلى و فضل، و اختيار خلق الأرض و السماوات صلة للموصول و بيانا لإبهام المنزل لمناسبته معنى التنزيل الذي لا يتم إلا بعلو و سفل يكونان مبدأ و منتهى لهذا التسيير، و قد خصصا بالذكر دون ما بينهما إذ لا غرض يتعلق بما بينهما و إنما الغرض بيان مبدإ التنزيل و منتهاه بخلاف قوله: ﴿لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا﴾ إذ الغرض بيان شمول الملك للجميع.
قوله تعالى: ﴿اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىَ﴾ استئناف يذكر فيه مسألة توحيد الربوبية التي هي مخ الغرض من الدعوة و التذكرة و ذلك في أربع آيات ﴿اَلرَّحْمَنُ ﴾ إلى قوله ﴿لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنىَ﴾ .
و قد تقدم في قوله تعالى ﴿ثُمَّ اِسْتَوىَ عَلَى اَلْعَرْشِ يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهَارَ﴾ : الأعراف:
٥٤، أن الاستواء على العرش كناية عن الاحتواء على الملك و الأخذ بزمام تدبير الأمور و هو فيه تعالى على ما يناسب ساحة كبريائه و قدسه ظهور سلطنته على الكون و استقرار ملكه على الأشياء بتدبير أمورها و إصلاح شئونها.
فاستواؤه على العرش يستلزم إحاطة ملكه بكل شيء و انبساط تدبيره على الأشياء سماويها و أرضيها جليلها و دقيقها خطيرها و يسيرها، فهو تعالى رب كل شيء المتوحد بالربوبية إذ لا نعني بالرب إلا المالك للشيء المدبر لأمره، و لذلك عقب حديث الاستواء على العرش بحديث ملكه لكل شيء و علمه بكل شيء و ذلك في معنى التعليل و الاحتجاج على الاستواء المذكور.
و معلوم أن ﴿اَلرَّحْمَنُ﴾ و هو مبالغة من الرحمة التي هي الإفاضة بالإيجاد و التدبير و هو يفيد الكثرة أنسب بالنسبة إلى الاستواء من سائر الأسماء و الصفات و لذلك اختص من بينها بالذكر.
و قد ظهر بما تقدم أن ﴿اَلرَّحْمَنُ﴾ مبتدأ خبره ﴿اِسْتَوىَ﴾ و ﴿عَلَى اَلْعَرْشِ﴾ متعلق بقوله ﴿اِسْتَوىَ﴾ و المراد بيان الاستواء على العرش و هذا هو المستفاد أيضا من سائر الآيات فقد تكرر فيها حديث الاستواء على العرش كقوله: ﴿ثُمَّ اِسْتَوىَ عَلَى اَلْعَرْشِ يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهَارَ﴾ الأعراف: ٥٤، و قوله: ﴿ثُمَّ اِسْتَوىَ عَلَى اَلْعَرْشِ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ﴾ يونس: ٣، و قوله: ﴿ثُمَّ اِسْتَوىَ عَلَى اَلْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ:﴾ الم السجدة: ٤، و قوله: ﴿ثُمَّ اِسْتَوىَ عَلَى اَلْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي اَلْأَرْضِ﴾ : الحديد: ٤، إلى غير ذلك.
و بذلك يتبين فساد ما نسب إلى بعضهم أن قوله ﴿اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ﴾ مبتدأ و خبر ثم قوله ﴿اِسْتَوىَ﴾ فعل فاعله ﴿مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ﴾ و قوله ﴿لَهُ﴾ متعلق بقوله:
﴿اِسْتَوىَ﴾ و المراد باستواء كل شيء له تعالى جريها على ما يوافق إرادته و انقيادها لأمره.
و قد أشبعنا الكلام في معنى العرش في ذيل الآية ٥٤ من سورة الأعراف في الجزء الثامن من الكتاب، و سيأتي بعض ما يختص بالمقام في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: ﴿لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا وَ مَا تَحْتَ اَلثَّرىَ﴾
الثرى على ما قيل: هو التراب الرطب أو مطلق التراب، فالمراد بما تحت الثرى ما في جوف الأرض دون التراب و يبقى حينئذ لما في الأرض ما على بسيطها من أجزائها و ما يعيش فيها مما نعلمه و نحس به كالإنسان و أصناف الحيوان و النبات و ما لا نعلمه و لا نحس به.
و إذا عم الملك ما في السماوات و الأرض و من ذلك أجزاؤهما عم نفس السماوات و الأرض فليس الشيء إلا نفس أجزائه.
و قد بين في هذه الآية أحد ركني الربوبية و هو الملك، فإن معنى الربوبية كما تقدم آنفا هو الملك و التدبير.
قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ اَلسِّرَّ وَ أَخْفىَ﴾ الجهر بالقول: رفع الصوت به، و الإسرار خلافه، قال تعالى: ﴿وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اِجْهَرُوا بِهِ﴾ الملك:
١٣، و السر هو الحديث المكتوم في النفس، و قوله: ﴿وَ أَخْفىَ﴾ أفعل التفضيل من الخفاء على ما يعطيه سياق الترقي في الآية و لا يصغي إلى قول من قال: إن ﴿أَخْفىَ﴾ فعل ماض فاعله ضمير راجع إليه تعالى، و المعنى: أنه يعلم السر و أخفى علمه. هذا.
و في تنكير ﴿أَخْفىَ﴾ تأكيد للخفاء.
و ذكر الجهر بالقول في الآية أولا ثم إثبات العلم بما هو أدق منه و هو السر و الترقي إلى أخفى يدل على أن المراد إثبات العلم بالجميع، و المعنى: و إن تجهر بقولك و أعلنت ما تريده و كأن المراد بالقول ما في الضمير من حيث إن ظهوره إنما هو بالقول غالبا أو أسررته في نفسك و كتمته أو كان أخفى من ذلك بأن كان خفيا حتى عليك نفسك فإن الله يعلمه.
فالأصل ترديد القول بين المجهور به و السر و أخفى و إثبات العلم بالجميع ثم وضع إثبات العلم بالسر و أخفى موضع الترديد الثاني و الجواب إيجازا. فدل على الجواب في شقي الترديد معا و على معنى الأولوية بأوجز بيان كأنه قيل: و إن تسأل عن علمه بما تجهر به من قولك فهو يعلمه و كيف لا يعلمه؟ و هو يعلم السر و أخفى منه فهو في الكلام من لطيف الصنعة.
و ذكر بعضهم أن المراد بالسر ما أسررته من القول إلى غيرك و لم ترفع صوتك
به، و المراد بأخفى منه ما أخطرته ببالك هذا و الذي ذكره حق في الإسرار لكن القول لا يسمى سرا إلا من جهة كتمانه في النفس فالمعول على ما قدمناه من المعنى.
و كيف كان فالآية تثبت علمه تعالى بكل شيء ظاهر أو خفي فهي في ذكر العلم عقيب الاستواء على العرش نظيرة قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اِسْتَوىَ عَلَى اَلْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا﴾ الآية: الحديد: ٤، و معلوم أن علمه تعالى بما يجري في ملكه و يحدث في مستقر سلطانه من الحوادث يستلزم رضاه بذلك و إذنه و بنظر آخر مشيئته لهذا النظام الجاري و هذا هو التدبير.
فالآية تثبت عموم التدبير كما أن الآية السابقة كانت تثبت عموم الملك و مجموع مدلوليهما هو الملك و التدبير و ذلك معنى الربوبية المطلقة فالآيتان في مقام التعليل تثبت بهما ربوبيته تعالى المطلقة.
قوله تعالى: ﴿اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنىَ﴾ بمنزلة النتيجة لما تقدم من الآيات و لذلك كان الأنسب أن يكون اسم الجلالة خبرا لمبتدإ محذوف و التقدير هذا المذكور في الآيات السابقة هو الله لا إله إلا هو... إلخ، و إن كان الأقرب بالنظر إلى استقلال الآية و جامعيتها في مضمونها أن يكون اسم الجلالة مبتدأ و قوله: ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ خبره، و قوله: ﴿لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنىَ﴾ خبرا بعد خبر.
و كيف كان فقوله: ﴿اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ يمكن أن يعلل بما ثبت في الآيات السابقة من توحده تعالى بالربوبية المطلقة و يمكن أن يعلل بقوله بعده: ﴿لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنىَ﴾ .
أما الأول فلأن معنى الإله في كلمة التهليل إما المعبود و إما المعبود بالحق فمعنى الكلام الله لا معبود حق غيره أو لا معبود بالحق موجود غيره و المعبودية من شئون الربوبية و لواحقها فإن العبادة نوع تمثيل و ترسيم للعبودية و المملوكية و إظهار للحاجة إليه فمن الواجب أن يكون المعبود مالكا لعابده مدبرا أمره أي ربا له و إذ كان تعالى رب كل شيء لا رب سواه فهو المعبود لا معبود سواه.
و أما الثاني فلأن العبادة لأحد ثلاث خصال إما رجاء لما عند المعبود من الخير فيعبد طمعا في الخير الذي عنده لينال بذلك، و إما خوفا مما في الإعراض عنه و عدم الاعتناء بأمره من الشر و إما لأنه أهل للعبادة و الخضوع.
و الله سبحانه هو المالك لكل خير لا يملك شيء شيئا من الخير إلا ما ملكه هو إياه و هو المالك مع ذلك لما ملكه و القادر على ما عليه أقدره و هو المنعم المفضل المحيي الشافي الرازق الغفور الرحيم الغني العزيز و له كل اسم فيه معنى الخير فهو سبحانه المستحق للعبادة رجاء لما عنده من الخير دون غيره.
و الله سبحانه هو العزيز القاهر الذي لا يقوم لقهره شيء و هو المنتقم ذو البطش شديد العقاب لا شر لأحد عند أحد إلا بإذنه فهو المستحق لأن يعبد خوفا من غضبه لو لم يخضع لعظمته و كبريائه.
و الله سبحانه هو الأهل للعبادة وحده لأن أهلية الشيء لأن يخضع له لنفسه ليس إلا لكمال فالكمال وحده هو الذي يخضع عنده النقص الملازم للخضوع و هو إما جمال تنجذب إليه النفس انجذابا أو جلال يخر عنده اللب و يذهب دونه القلب و له سبحانه كل الجمال و ما من جمال إلا و هو آية لجماله، و له سبحانه كل الجلال و كل ما دونه آيته.
فالله سبحانه لا إله إلا هو و لا معبود سواه لأنه له الأسماء الحسنى.
و معنى ذلك أن كل اسم هو أحسن الأسماء التي هي نظائره له تعالى، توضيح ذلك أن توصيف الاسم بالحسن يدل على أن المراد به ما يسمى في اصطلاح الصرف صفة كاسم الفاعل و الصفة المشبهة دون الاسم بمعنى علم الذات لأن الأعلم إنما شأنها الإشارة إلى الذوات و الاتصاف بالحسن أو القبح من شأن الصفات باشتمالها على المعاني كالعادل و الظالم و العالم و الجاهل، فالمراد بالأسماء الحسنى الألفاظ الدالة على المعاني الوصفية الجميلة البالغة في الجمال كالحي و العليم و القدير، و كثيرا ما يطلق التسمية على التوصيف، قال تعالى: ﴿قُلْ سَمُّوهُمْ﴾ أي صفوهم.
و يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: ﴿وَ لِلَّهِ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنىَ فَادْعُوهُ بِهَا وَ ذَرُوا اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ﴾ : الأعراف: ١٨٠، أي يميلون من الحق إلى الباطل فيطلقون عليه من الأسماء ما لا يليق بساحة قدسه.
فالمراد بالأسماء الحسنى ما دل على معان وصفية كالإله و الحي و العليم و القدير دون اسم الجلالة الذي هو علم الذات، ثم الأسماء تنقسم إلى قبيحة كالظالم و الجائر و الجاهل، و إلى حسنة كالعادل و العالم، و الأسماء الحسنة تنقسم إلى ما فيه كمال ما و إن
كان غير خال عن شوب النقص و الإمكان نحو صبيح المنظر و معتدل القامة و جعد الشعر و ما فيه الكمال من غير شوب كالحي و العليم و القدير بتجريد معانيها عن شوب المادة و التركيب و هي أحسن الأسماء لبراءتها عن النقص و العيب و هي التي تليق أن تجري عليه تعالى و يتصف بها.
و لا يختص ذلك منها باسم دون اسم بل كل اسم أحسن فله تعالى لمكان الجمع المحلى باللام المفيد للاستغراق في قوله تعالى: ﴿لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنىَ﴾ و تقديم الخبر يفيد الحصر فجميعها له وحده.
و معنى كونها له تعالى أنه تعالى يملكها لذاته و الذي يوجد منها في غيره فهو بتمليك منه تعالى على حسب ما يريد كما يدل عليه سوق الآيات الآتية سوق الحصر كقوله: ﴿هُوَ اَلْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ : المؤمن: ٦٥، و قوله: ﴿وَ هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْقَدِيرُ﴾ : الروم:
٥٤ و قوله﴿ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ﴾ : المؤمن: ٥٦، و قوله: ﴿أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً﴾ : البقرة: ١٦٥، و قوله: ﴿فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً﴾ : النساء: ١٣٩، و قوله: ﴿وَ لاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ﴾ : البقرة: ٢٥٥، إلى غير ذلك.
و لا محذور في تعميم ملكه بالنسبة إلى جميع أسمائه و صفاته حتى ما كان منها عين ذاته كالحي و العليم و القدير و كالحياة و العلم و القدرة فإن الشيء ربما ينسب إلى نفسه بالملك كما في قوله تعالى: ﴿رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي﴾ : المائدة: ٢٥.
(بحث روائي)
في المجمع،: في قوله ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىَ﴾ و روي أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يرفع إحدى رجليه في الصلاة ليزيد تعبه فأنزل الله تعالى: ﴿طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىَ﴾ و روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام):
أقول: و رواه في الدر المنثور، عن عبد بن حميد و ابن المنذر عن الربيع بن أنس و أيضا عن ابن مردويه عن ابن عباس.
و في تفسير القمي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام)
قالا: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إذا صلى قام على أصابع رجليه حتى تورم فأنزل الله تبارك و تعالى: ﴿طه ﴾ بلغة طي يا محمد ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىَ إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشىَ﴾ .
أقول: و روى ما في معناه في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) و في الاحتجاج عن موسى بن جعفر عن آبائه عن علي (عليه السلام)، و روى هذا المعنى أيضا في الدر المنثور، عن ابن المنذر و ابن مردويه و البيهقي عن ابن عباس. و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن علي قال: لما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم):
﴿يَا أَيُّهَا اَلْمُزَّمِّلُ قُمِ اَللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ قام الليل كله حتى تورمت قدماه فجعل يرفع رجلا و يضع رجلا فهبط عليه جبريل فقال: ﴿طه﴾ يعني الأرض بقدميك يا محمد ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىَ﴾ و أنزل ﴿فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ اَلْقُرْآنِ﴾ . أقول: و المظنون المطابق للاعتبار أن تكون هذه الرواية هي الأصل في القصة بأن يكون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قام على قدميه في الصلاة حتى تورمت قدماه ثم جعل يرفع قدما و يضع أخرى أو قام على صدور قدميه أو أطراف أصابعه فذكر في كل من الروايات بعض القصة سببا للنزول و إن كان لفظ بعض الروايات لا يساعد على ذلك كل المساعدة.
نعم يبقى على الرواية أمران:
أحدهما: أن في انطباق الآيات بما لها من السياق على القصة خفاء.
و ثانيهما: ما في الرواية من قوله: «فقال طه يعني الأرض بقدميك يا محمد» و نظيره ما مر في رواية القمي فأنزل الله: ﴿طه﴾ بلغة طي يا محمد ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىَ﴾ و معناه أن طه جملة كلامية مركبة من فعل أمر من وطأ يطأ و مفعوله ضمير تأنيث راجع إلى الأرض، أي طإ الأرض و ضع قدميك عليها و لا ترفع إحداهما و تضع الأخرى.
فيرد عليه حينئذ أن هذا الذيل لا ينطبق على صدر الرواية فإن مفاد الصدر أنه (ص) كان يرفع رجلا و يضع أخرى في الصلاة إثر تورم قدميه يتوخى به أن يسكن وجع قدمه التي كان يرفعها فيستريح هنيئة و يشتغل بربه من غير شاغل يشغله و على
هذا فرفع الكلفة و التعب عنه (ص) على ما يناسب الحال إنما هو بأن يؤمر بتقليل الصلاة أو بتخفيف القيام لا بوضع القدمين على الأرض حتى يزيد ذلك في تعبه و يشدد وجعه فلا يلائم قوله ﴿طه﴾ قوله: ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىَ﴾ و لعل قوله:
«يعني الأرض بقدميك» من كلام الراوي و النقل بالمعنى.
على أنه مغاير للقراءات المأثورة البانية على كون ﴿طه﴾ حرفين مقطعتين لا معنى وضعي لهما كسائر الحروف المقطعة التي صدرت بها عدة من السور القرآنية.
و ذكر قوم منهم أن معنى ﴿طه﴾ يا رجل ثم قال بعضهم: إنه لغة نبطية و قيل:
حبشية، و قيل: عبرانية، و قيل: سريانية، و قيل: لغة عكل، و قيل: لغة عك، و قيل: هو لغة قريش، و احتمل الزمخشري أن يكون لغة عك و أصله يا هذا قلبت الياء طاء و حذفت ذا تخفيفا فصارت طاها، و قيل: معناه يا فلان، و قرأ قوم طه بفتح الطاء و سكون الهاء كأنه أمر من وطأ يطأ و الهاء للسكت و قيل: إنه من أسماء الله و لا عبرة بشيء من هذه الأقوال و لا جدوى في إمعان البحث عنها.
نعم ورد عن أبي جعفر (عليه السلام) كما في روح المعاني، و عن أبي عبد الله (عليه السلام) كما عن معاني الأخبار، بإسناده عن الثوري: أن طه اسم من أسماء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) - كما ورد في روايات أخرى :أن يس من أسمائه و روى الاسمين معا في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن سيف عن أبي جعفر.
و إذ كانت تسمية سماوية ما كان (ص) يدعى و لا يعرف به قبل نزول القرآن و لا أن لطه معنى وصفيا في اللغة و لا معنى لتسميته بعلم ارتجالي لا معنى له إلا الذات مع وجود اسمه و اشتهاره به و كان الحق في الحروف المقطعة في فواتح السور أنها تحمل معاني رمزية ألقاها الله إلى رسوله، و كانت سورة طه مبتدئة بخطاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ﴿طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ﴾ إلخ كما أن سورة يس كذلك ﴿يس وَ اَلْقُرْآنِ اَلْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ﴾ بخلاف سائر السور المفتتحة بالحروف المقطعة و ظاهر ذلك أن يكون المعنى المرموز إليه بمقطعات فاتحتي هاتين السورتين أمرا راجعا إلى شخصه (ص) متحققا به بعينه فكان وصفا لشخصيته الباطنة مختصا به فكان اسما من أسمائه (ص) فإذا أطلق عليه و قيل: طه أو يس كان المعنى من خوطب بطة أو يس ثم صار علما بكثرة الاستعمال.
هذا ما تيسر لنا من توجيه الرواية فيكون بابه باب التسمي بمثل تأبط شرا و من قبيل قوله:
أنا ابن جلا و طلاع الثنايا إذا أضع العمامة تعرفوني
يريد أنا ابن من كثر فيه قول الناس: جلا جلا حتى سمي جلا.
و في احتجاج الطبرسي، عن الحسن بن راشد قال: سئل أبو الحسن موسى (عليه السلام) عن قول الله: ﴿اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىَ﴾ فقال: استولى على ما دق و جل.
و في التوحيد، بإسناده إلى محمد بن مازن: أن أبا عبد الله (عليه السلام) سئل عن قول الله عز و جل: ﴿اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىَ﴾ فقال: استوى من كل شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء:.
أقول: و رواه القمي أيضا في تفسيره، عنه (عليه السلام) و رواه أيضا في التوحيد، بإسناده عن مقاتل بن سليمان عنه (عليه السلام):
و رواه أيضا في الكافي، و التوحيد، بالإسناد عن عبد الرحمن بن الحجاج عنه (عليه السلام): و زادا «لم يبعد منه بعيد و لم يقرب منه قريب استوى من كل شيء».
و في الاحتجاج، عن علي (عليه السلام): في حديث ﴿اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىَ﴾ يعني استوى تدبيره و علا أمره. أقول: ما ورد من التفسير في هذه الروايات الثلاث تفسير لمجموع الآية لا لقوله ﴿اِسْتَوىَ﴾ و إلا عاد قوله: ﴿اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ﴾ جملة تامة مركبة من مبتدإ و خبر و لا يساعد عليه سياق سائر آيات الاستواء كما تقدمت الإشارة إليه.
و يؤيد ذلك ما في الرواية الأخيرة من قوله: «و علا أمره» بعد قوله: «استوى تدبيره» فإنه ظاهر في أن الكون على العرش مقصود في التفسير فالروايات مبنية على كون الآية كناية عن الاستيلاء و انبساط السلطان.
و في التوحيد، بإسناده عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من زعم أن الله من شيء أو في شيء أو على شيء فقد أشرك. ثم قال: من زعم أن الله من شيء فقد جعله محدثا، و من زعم أنه في شيء فقد زعم أنه محصور، و من زعم أنه على شيء فقد جعله محمولا.
و فيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل و فيه: قال السائل: فقوله:
﴿اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىَ﴾ ؟ قال أبو عبد الله (عليه السلام): بذلك وصف نفسه، و كذلك هو مستول على العرش بائن من خلقه من غير أن يكون العرش حاملا له، و لا أن يكون العرش حاويا له و لا أن يكون العرش ممتازا له و لكنا نقول هو حامل العرش و ممسك العرش، و نقول من ذلك ما قال: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ﴾ .
فثبتنا من العرش و الكرسي ما ثبته و نفينا أن يكون العرش أو الكرسي حاويا و أن يكون عز و جل محتاجا إلى مكان أو إلى شيء مما خلق بل خلقه محتاجون إليه. أقول: و قوله (عليه السلام): فثبتنا من العرش و الكرسي ما ثبته إلخ، إشارة إلى طريقة أهل البيت (عليه السلام) في تفسير الآيات المتشابهة من القرآن مما يرجع إلى أسمائه و صفاته و أفعاله و آياته الخارجة عن الحس و ذلك بإرجاعها إلى المحكمات و نفي ما تنفيه المحكمات عن ساحته تعالى و إثبات ما ثبت بالآية و هو أصل المعنى المجرد عن شائبة النقص و الإمكان التي نفاها المحكمات.
فالعرش هو المقام الذي يبتدئ منه و ينتهي إليه أزمة الأوامر و الأحكام الصادرة من الملك و هو سرير مقبب مرتفع ذو قوائم معمول من خشب أو فلز يجلس عليه الملك ثم إن المحكمات من الآيات كقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ : الشورى: ١١، و قوله:
﴿سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ : الصافات - ١٥٩، تدل على انتفاء الجسم و خواصه عنه تعالى فينفي من العرش الذي وصفه لنفسه في قوله: ﴿اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىَ﴾ ،: طه: ٥ و قوله: ﴿وَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ﴾ : المؤمنون: ٨٦، كونه سريرا من مادة كذا على هيئة خاصة و يبقى أصل المعنى و هو أنه المقام الذي يصدر عنه الأحكام الجارية في النظام الكوني و هو من مراتب العلم الخارج من الذات.
و المقياس في معرفة ما عبرنا عنه بأصل المعنى أنه المعنى الذي يبقى ببقائه الاسم و بعبارة أخرى يدور مداره صدق الاسم و إن تغيرت المصاديق و اختلفت الخصوصيات.
مثال ذلك أن السراج ظهر أول يوم و هو آلة الاستضاءة في ظلمة الليل و مصداقه يومئذ إناء يجعل فيه فتيلة على مادة دسمة و يشتعل رأسها فتشعل بما تجذب من الدسومة
و تضيء ما حولها مثلا، ثم انتقل الاسم إلى مثل الشموع و المصابيح النفطية و لم يزل ينتقل من مصداق إلى مصداق حتى استقر اليوم في السراج الكهربائي الذي ليس معه من مادة المصداق الأولي و لا هيئته شيء أصلا غير أنه آلة الاستضاءة في الظلمة و بذلك يسمى سراجا حقيقة.
و نظيره السلاح الذي كان أول ما ظهر اسما لمثل الفأس من النحاس أو المجن مثلا و هو اليوم يطلق حقيقة على مثل المدفع و القنبلة الذرية و قد سرى هذا النوع من التحول و التطور إلى كثير من وسائل الحياة و الأعمال التي يعتورها الإنسان في عيشته.
و بالجملة كانت الصحابة لا يتكلمون في غير الأحكام من معارف الدين مما يرجع إلى أسمائه و صفاته و أفعاله و غيرها غير أنهم ينفون عنه لوازم التشبيه بما ورد من آيات التنزيه و يسكتون عن المعنى الإثباتي الذي يبقى بعد النفي فيقولون مثلا في مثل قوله:
﴿اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىَ﴾ إن الاستواء بمعنى استقرار الجسم في مكان بالاعتماد عليه منفي عنه تعالى و أما أن المراد بالاستواء ما هو؟ فالله أعلم بمراده، و الأمر مفوض إليه و قد ادعي إجماعهم على ذلك، بل قال بعضهم: إن أهل القرون الثلاثة الأول من الهجرة مجمعون على التفويض، و هو نفي لوازم التشبيه و السكوت عن البحث في أصل المراد.
لكنه مدفوع بأن طريقة أئمة أهل البيت (عليه السلام) المأثورة منهم هي الإثبات و النفي معا و الإمعان في البحث عن حقائق الدين دون النفي المجرد عن الإثبات و الدليل على ذلك ما حفظ عنهم من الأحاديث الجمة التي لا يسع إنكارها إلا لمكابر.
بل الذي روي[1] عن أم سلمة رضي الله عنها :في معنى الاستواء أنها قالت:
«الاستواء غير مجهول و الكيف غير معقول و الإقرار به إيمان و الجحود به كفر» يدل على أنها كانت ترى هذا الرأي و لو كانت ترى ما نسب إلى الصحابة لقالت: الاستواء مجهول و الكيف غير معقول، إلخ.
نعم الأكثرون من الصحابة و التابعين و تابعيهم من السلف على هذه الطريقة و قد
نسبه الغزالي إلى الأئمة الأربعة: أبي حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد، و إلى البخاري و الترمذي و أبي داود السجستاني من أرباب الصحاح و إلى عدة من أعيان السلف.
و كان الذي دعاهم إلى السكوت عن الإثبات كما ذكره جمع هو أن الثابت بعد المنفي خلاف ظاهر اللفظ فيكون من التأويل الذي حرم الله ابتغاءه في قوله:
﴿وَ اِبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَ مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللَّهُ﴾ : آل عمران: ٧، بناء على الوقف على ﴿إِلاَّ اَللَّهُ﴾ بل تعدى بعضهم إلى مطلق التفسير فمنعه قائلا كما نقله الآلوسي أن كل من فسر فقد أول و من لم يفسر لم يؤول لأن التأويل هو التفسير.
و قد تقدم في ذيل آية المحكم و المتشابه من سورة آل عمران بيان أن التأويل الذي يذكره و يذمه غير المعنى المخالف لظاهر اللفظ و أن رد المتشابه إلى المحكم و بيانه به ليس من التأويل في شيء و كذا أن التأويل غير التفسير.
ثم إن هؤلاء القوم على احتياطهم في البيانات الدينية الراجعة إلى أسمائه و صفاته تعالى و اقتصارهم على النفي من غير إثبات لم يسلكوا هذا المسلك فيما ورد في الكتاب و السنة من وصف أفعاله تعالى كالعرش و الكرسي و الحجب و القلم و اللوح و كتب الأعمال و أبواب السماء و غيرها بل حملوها على ما هو المعهود عندنا من مصاديق العرش و الكرسي و القلم و اللوح و غير ذلك مع أن الجميع ذو ملاك واحد و هو استلزام ما يجب تنزيهه تعالى عنه من الحاجة و الإمكان.
و ذلك أن الذي أوجد أمثال العرش و الكرسي و اللوح و القلم عندنا معاشر البشر هو الحاجة فإنما اتخذنا الكرسي لنستريح عليه أو نتعزز به و اتخذنا العرش لنستريح عليه و نتعزز به و نظهر التفرد بالعزة و العظمة و نمثل به التعيين بالملك و السلطان و اتخذنا اللوح و القلم و الكتابة لمسيس الحاجة إلى حفظ ما غاب عن الحس و التحرز عن النسيان و نحو ذلك و على هذا النمط.
فأي فرق بين الآيات المتشابهة التي تثبت له تعالى السمع و البصر و اليد و الساق و الرضا و الأسف التي توهم التجسم المنتهي إلى الحاجة و الإمكان و بين الآيات التي تثبت له عرشا و كرسيا و ملأ و حملة لعرشه و لوحا و قلما و هي توهم الحاجة و الإمكان؟ ثم أي فرق بين المحكم الذي يرفع التشابه في الطائفة الأولى و هو قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾
و بين المحكم الذي يرفع تشابه الطائفة الثانية و هو قوله: ﴿وَ اَللَّهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ﴾ مثلا.
نعم ذكر الإمام الرازي اعتذارا عن ذلك أن لو فتحنا باب التأويل في هذه الأمور أدى ذلك إلى جواز تأويل جميع معارف الدين و أحكام الشرع و هو قول الباطنية. و أنت خبير بأن تأويل الجميع حتى الأحكام التي تضمنتها الدعوة الدينية و أجراها بين الناس تعليم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تربيته دفع للضرورة و مكابرة مع البداهة و ليس من هذا القبيل ما قام الدليل على تشابهه و كانت هناك آية محكمة يمكن أن يرد إليها و يرتفع بها تشابهه فإبقاؤه على ظاهره سدا لباب التأويل في سائر المعارف المحكمة غير المتشابهة من قبيل إماتة حق لإماتة باطل و إن شئت فقل إماتة باطل بإحياء باطل آخر على أنك عرفت أن رد المتشابه إلى المحكم ليس من التأويل في شيء.
و ألجأ الاضطرار بعض هؤلاء أن قالوا إن خلق هذا الجسم النوراني العظيم الذي يدهش العقول بعظمته على هيئة سرير ذي قوائم و حمله و وضعه فوق السماوات السبع من غير جالس يجلس عليه أو حاجة تدعو إليه و حفظه كذلك في أزمنة لا نهاية لها إنما هو من باب اللطف خلقه الله ليخبر به المؤمنين فيؤمنوا به بالغيب فيؤجروا و يثابوا في الآخرة، و نظيره اللوح و القلم و سائر الآيات العظام الغائبة عن الحس. و سقوط هذا القول غني عن البيان.
و بعد هذه الطائفة المسماة بالمفوضة الطبقة المسماة بالمؤولة و هم الذين يجمعون في تفسير المتشابهات من آيات الأسماء و الصفات بين الإثبات و النفي فينزهونه عن لوازم الحاجة و الإمكان بتأويلها بمعنى الحمل على خلاف الظاهر إلى معان توافق الأصول المسلمة من الدين أو المذهب، و هؤلاء منشعبون على شعب:
منهم من اكتفى في الإثبات بعين ما نفاه بالدليل و هم الذين يفسرون الأسماء و الصفات بنفي النقائص، فمعنى العلم عندهم عدم الجهل و معنى العالم من ليس بجاهل و على هذا السبيل.
و لازمه تعطيل الذات المتعالية عن صفات الكمال و البراهين العقلية و ظواهر الكتاب و السنة و نصوصهما تدفعه، و هو من أقوال الصابئة المتسربة في الإسلام.
و منهم من فسرها بمعان مخالفة لظواهرها من كل ما احتمله عقل أو نقل لا يخالف الأصول المسلمة و هو المسمى عندهم بالتأويل.
و منهم من اكتفى بالمحتملات النقلية و لم يعتبر العقل.
و قد عرفت مما تقدم من أبحاثنا في المحكم و المتشابه أن تفسير الكتاب العزيز بغير الكتاب و السنة القطعية من التفسير بالرأي الممنوع في الكتاب و السنة.
و جل هؤلاء الطوائف الثلاث المسمين بالمؤولة يسلكون في أفعاله تعالى مما لا يرجع إلى الصفة مسلك السلف المسمين بالمفوضة في إبقائها على ظواهرها من المصاديق المعهودة عندنا، و أما ما يرجع منها بنحو إلى الصفة فيئولونه، ففي قوله: ﴿اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى﴾ يؤولون الاستواء إلى مثل الاستيلاء و الاستعلاء و يبقون العرش، و هو فعل له تعالى غير راجع إلى الصفة على ظاهره المعهود و هو الجسم المخلوق على هيئة سرير مقبب ذي قوائم، و فيما ورد من طرق الجماعة أن الله ينزل كل ليلة جمعة إلى السماء الدنيا يؤولون نزوله بنزول رحمته و يفسرون السماء الدنيا بفلك القمر، و هكذا.
و قد عرفت فيما مر أن حمل الآية على خلاف ظاهرها لا مسوغ له و لا دليل يدل عليه فلم ينزل الكتاب إلغازا و تعمية ثم الحديث فيه المحكم و المتشابه كالقرآن و إبقاء المتشابه من القرآن على ظاهره بالاستناد إلى ظاهر مثله الوارد في الحديث هو في الحقيقة رد لمتشابه القرآن إلى متشابه الحديث و قد أمرنا برد متشابه القرآن إلى محكمه.
ثم إن في عملهم بهذه الروايات و تحكيمها على ظاهر الكتاب مغمضا آخر و ذلك أنها أخبار آحاد ليست بمتواترة و لا قطعية الصدور، و ما هذا شأنه يحتاج في العمل بها حتى في صحاحها إلى حجية شرعية بالجعل أو الإمضاء، و قد اتضح في علم الأصول اتضاحا يتلو البداهة أن لا معنى لحجية أخبار الآحاد في غير الأحكام كالمعارف الاعتقادية و الموضوعات الخارجية.
نعم الخبر المتواتر و المحفوف بالقرائن القطعية كالمسموع من المعصوم مشافهة حجة و إن كان في غير الأحكام لأن الدليل على العصمة بعينه دليل على صدقه و هذه كلها مسائل مفروغ عنها في محلها من شاء الوقوف فليراجع.
و في سنن أبي داود، عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أعرابي فقال: يا رسول الله جهدت الأنفس و نهكت الأموال أو هلكت فاستسق لنا فإنا نستشفع بك إلى الله تعالى و نستشفع بالله تعالى عليك. فقال
رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ويحك أ تدري ما تقول؟ و سبح رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه.
ثم قال: ويحك إنه لا يستشفع بالله تعالى على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك. ويحك أ تدري ما الله؟ إن الله فوق عرشه و عرشه فوق سماواته لهكذا و قال بأصابعه مثل القبة، و إنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب. أقول: و متنه لا يخلو من اختلال، و إنما أوردناه لكونه من أصرح الأخبار في جسمية العرش، و هنا روايات تدل على أن له قوائم، و أخرى تدل على أن له حملة أربع، و أخرى تدل على أنه فوق السماوات بحذاء الكعبة، و أخرى تدل على أن الكرسي عنده كحلقة ملقاة في ظهري فلاة السماوات و الأرض بالنسبة إلى الكرسي كذلك، و قد تقدم طريقة أئمة أهل البيت (عليه السلام) في تفسير أمثال هذه الأخبار و قد أوردنا في تفسير سورة الأعراف في الجزء الثامن من الكتاب ما يستفاد منه محصل نظرهم (عليه السلام).
و في معاني الأخبار، بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: ﴿يَعْلَمُ اَلسِّرَّ وَ أَخْفى﴾ قال: ﴿اَلسِّرَّ﴾ ما أكننته في نفسك و ﴿أَخْفىَ﴾ ما خطر ببالك ثم أنسيته.
و في المجمع، روي عن السيدين الباقر و الصادق (عليه السلام): ﴿اَلسِّرَّ﴾ ما أخفيته في نفسك و ﴿أَخْفىَ﴾ ما خطر ببالك ثم أنسيته.
[سورة طه (٢٠): الآیات ٩ الی ٤٨]
﴿وَ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسىَ ٩ إِذْ رَأىَ نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ اُمْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى اَلنَّارِ هُدىً ١٠ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسى ١١ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ اَلْمُقَدَّسِ طُوىً ١٢ وَ أَنَا اِخْتَرْتُكَ﴾
﴿فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحىَ ١٣ إِنَّنِي أَنَا اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِذِكْرِي ١٤ إِنَّ اَلسَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزىَ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعى ١٥ فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَ اِتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدى ١٦ وَ مَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى ١٧ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَ أَهُشُّ بِهَا عَلى غَنَمِي وَ لِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرى ١٨ قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسى ١٩ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى ٢٠ قَالَ خُذْهَا وَ لاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا اَلْأُولى ٢١ وَ اُضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى ٢٢ لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا اَلْكُبْرى ٢٣ اِذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ٢٤ قَالَ رَبِّ اِشْرَحْ لِي صَدْرِي ٢٥ وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي ٢٦ وَ اُحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ٢٧ يَفْقَهُوا قَوْلِي ٢٨ وَ اِجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ٢٩ هَارُونَ أَخِي ٣٠ اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ٣١ وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ٣٢ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً ٣٣ وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً ٣٤ إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً ٣٥ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسى ٣٦ وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى ٣٧ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلى أُمِّكَ مَا يُوحى ٣٨ أَنِ اِقْذِفِيهِ فِي اَلتَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي اَلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ اَلْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ﴾
﴿عَلىَ عَيْنِي ٣٩ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلىَ مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلىَ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَ لاَ تَحْزَنَ وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ اَلْغَمِّ وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يَا مُوسى ٤٠ وَ اِصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ٤١ اِذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآيَاتِي وَ لاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي ٤٢ اِذْهَبَا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ٤٣ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ٤٤ قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغى ٤٥ قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَ أَرى ٤٦ فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ لاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَ اَلسَّلاَمُ عَلى مَنِ اِتَّبَعَ اَلْهُدى ٤٧ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ اَلْعَذَابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى ٤٨﴾
(بيان)
شروع في قصة موسى (عليه السلام) و قد ذكرت في السورة فصول أربعة منها و هي:
اختيار موسى للرسالة في جبل طور في وادي طوى و أمره بدعوة فرعون. ثم دعوته بشركة من أخيه فرعون إلى التوحيد و إرسال بني إسرائيل معه و إقامته الحجة و إيتاؤه المعجزة. ثم خروجه مع بني إسرائيل من مصر و تعقيب فرعون و غرقه و نجاة بني إسرائيل. ثم عبادة بني إسرائيل العجل و ما انتهى إليه أمرهم و أمر السامري و عجله، و قد تعرضت الآيات التي نقلناها للفصل الأول منها.
و وجه اتصال القصة بما قبلها أنها تذكرة بالتوحيد و وعيد بالعذاب فالقصة تبتدئ بوحي التوحيد و تنتهي بقول موسى: ﴿إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اَللَّهُ اَلَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ الآية و تذكر هلاك فرعون و طرد السامري و قد ابتدأت الآيات السابقة بأن القرآن المشتمل على الدعوة الحقة تذكرة لمن يخشى و انتهت إلى مثل قوله: ﴿اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنىَ﴾ .
قوله تعالى: ﴿وَ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسىَ﴾ الاستفهام للتقرير و الحديث، القصة.
قوله تعالى: ﴿إِذْ رَأىَ نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ اُمْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً﴾ إلى آخر الآية المكث اللبث، و الإيناس إبصار الشيء أو وجدانه و هو من الأنس خلاف النفور و لذا قيل: إنه إبصار شيء يؤنس به فيكون إبصارا قويا، و القبس بفتحتين هو الشعلة المقتبسة على رأس عود و نحوه و الهدى مصدر بمعنى اسم الفاعل أو مضاف إليه لمضاف مقدر أي ذا هداية، و المراد على أي حال من قام به الهداية.
و سياق الآية و ما يتلوها يشهد أنه كان في منصرفه من مدين إلى مصر و معه أهله و هم بالقرب من وادي طوى في طور سيناء في ليلة شاتية مظلمة و قد ضلوا الطريق إذ رأى نارا فرأى أن يذهب إليها فإن وجد عندها أحدا سأله الطريق و إلا أخذ قبسا من النار ليضرموا به نارا فيصطلوا بها.
و في قوله: ﴿فَقَالَ لِأَهْلِهِ اُمْكُثُوا﴾ إشعار بل دلالة على أنه كان مع أهله غيره كما أن في قوله: ﴿إِنِّي آنَسْتُ نَاراً﴾ مع ما يشتمل عليه من التأكيد و التعبير بالإيناس دلالة على أنه إنما رآها هو وحده و ما كان يراها غيره من أهله و يؤيد ذلك قوله أيضا أولا:
﴿إِذْ رَأىَ نَاراً﴾ ، و كذا قوله: ﴿لَعَلِّي آتِيكُمْ﴾ إلخ يدل على أن في الكلام حذفا و التقدير امكثوا لأذهب إليها لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هاديا نهتدي بهداه.
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسىَ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ﴾ إلى قوله ﴿طُوىً﴾ طوى اسم لواد بطور و هو الذي سماه الله سبحانه بالواد المقدس، و هذه التسمية و التوصيف هي الدليل على أن أمره بخلع النعلين إنما هو لاحترام الوادي أن لا يداس بالنعل ثم تفريع خلع النعلين مع ذلك على قوله: ﴿إِنِّي أَنَا رَبُّكَ﴾ يدل على أن تقديس الوادي إنما هو لكونه حظيرة لقرب و موطن الحضور و المناجاة فيئول معنى الآية إلى مثل
قولنا نودي يا موسى ها أنا ذا ربك و أنت بمحضر مني و قد تقدس الوادي بذلك فالتزم شرط الأدب و اخلع نعليك.
و على هذا النحو يقدس ما يقدس من الأمكنة و الأزمنة كالكعبة المشرفة و المسجد الحرام و سائر المساجد و المشاهد المحترمة في الإسلام و الأعياد و الأيام المتبركة فإنما ذلك قدس و شرف اكتسبته بالانتساب إلى واقعة شريفة وقعت فيها أو نسك و عبادة مقدسة شرعت فيها و إلا فلا تفاضل بين أجزاء المكان و لا بين أجزاء الزمان.
و لما سمع موسى (عليه السلام) قوله تعالى: ﴿يَا مُوسىَ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ﴾ فهم من ذلك فهم يقين أن الذي يكلمه هو ربه و الكلام كلامه و ذلك أنه كان وحيا منه تعالى و قد صرح تعالى بقوله: ﴿وَ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اَللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ﴾ : الشورى: ٥١، أن لا واسطة بينه تعالى و بين من يكلمه من حجاب أو رسول إذا كان تكليم وحي و إذ لم يكن هناك أي واسطة مفروضة لم يجد الموحى إليه مكلما لنفسه و لا توهمه إلا الله و لم يجد الكلام إلا كلامه و لو احتمل أن يكون المتكلم غيره أو الكلام كلام غيره لم يكن تكليما ليس بين الإنسان و بين ربه غيره.
و هذا حال النبي و الرسول في أول ما يوحى إليه بالنبوة و الرسالة لم يختلجه شك و لا اعترضه ريب في أن الذي يوحي إليه هو الله سبحانه من غير أن يحتاج إلى إعمال نظر أو التماس دليل أو إقامة حجة و لو افتقر إلى شيء من ذلك كان اكتسابا بواسطة القوة النظرية لا تلقيا من الغيب من غير توسط واسطة.
فإن قلت: قوله تعالى في القصة في موضع آخر من كلامه: ﴿وَ نَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ اَلطُّورِ اَلْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ .
و قوله في موضع آخر: ﴿مِنْ شَاطِئِ اَلْوَادِ اَلْأَيْمَنِ فِي اَلْبُقْعَةِ اَلْمُبَارَكَةِ مِنَ اَلشَّجَرَةِ﴾ يثبت الحجاب في تكليمه (عليه السلام).
قلت: نعم لكن ثبوت الحجاب أو الرسول في مقام التكليم لا ينافي تحقق التكليم بالوحي فإن الوحي كسائر أفعاله تعالى لا يخلو من واسطة و إنما يدور الأمر مدار التفات المخاطب الذي يتلقى الكلام فإن التفت إلى الواسطة التي تحمل الكلام
و احتجب بها عنه تعالى كان الكلام رسالة أرسل إليه بملك مثلا و وحيا من الملك، و إن التفت إليه تعالى كان وحيا منه و إن كان هناك واسطة لا يلتفت إليها، و من الشاهد على ما ذكرنا قوله في الآية التالية خطابا لموسى: ﴿فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحىَ﴾ فسماه وحيا، و قد أثبت في سائر كلامه فيه الحجاب.
و بالجملة قوله: ﴿إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ﴾ إلخ، تنبيه لموسى على أن الموقف موقف الحضور و مقام المشافهة و قد خلى به و خصه من نفسه بمزيد العناية، و لذا قيل:
إني أنا ربك، و لم يقل: أنا الله أو أنا رب العالمين، و لذا أيضا لم يلزم من قوله ثانيا:
﴿إِنَّنِي أَنَا اَللَّهُ﴾ تكرار، لأن الأول تخلية للمقام من الأغيار لإلقاء الوحي، و الثاني من الوحي.
و في قوله: ﴿نُودِيَ﴾ حيث طوي ذكر الفاعل و لم يقل: ناديناه أو ناداه الله من اللطف ما لا يقدر بقدر، و فيه تلويح أن ظهور هذه الآية لموسى كان على سبيل المفاجاة.
قوله تعالى: ﴿وَ أَنَا اِخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحىَ﴾ الاختيار مأخوذ من الخير، و حقيقته أن يتردد أمر الفاعل مثلا بين أفعال يجب أن يرجح واحدا منها ليفعله فيميز ما هو خيرها ثم يبني على كونه خيرا من غيره فيفعله، فبناؤه على كونه خيرا من غيره هو اختيار فالاختيار دائما لغاية هو غرض الفاعل من فعله.
فاختياره تعالى لموسى إنما هو لغاية إلهية و هي إعطاء النبوة و الرسالة و يشهد بذلك قوله على سبيل التفريع على الاختيار ﴿فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحىَ﴾ فقد تعلقت المشية الإلهية ببعث إنسان يتحمل النبوة و الرسالة و كان موسى في علمه تعالى خيرا من غيره و أصلح لهذا الغرض فاختاره (عليه السلام).
و قوله: ﴿وَ أَنَا اِخْتَرْتُكَ﴾ على ما يعطيه السياق من قبيل إصدار الأمر بنبوته و رسالته فهو إنشاء لا إخبار، و لو كان إخبارا لقيل: و قد اخترتك لكنه إنشاء الاختيار للنبوة و الرسالة بنفس هذه الكلمة ثم لما تحقق الاختيار بإنشائه فرع عليه الأمر بالاستماع للوحي المتضمن لنبوته و رسالته فقال: ﴿فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحىَ﴾ و الاستماع لما يوحى الإصغاء إليه.
قوله تعالى: ﴿إِنَّنِي أَنَا اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِذِكْرِي﴾ هذا هو الوحي الذي أمر (عليه السلام) بالاستماع له في إحدى عشرة آية تشتمل على النبوة و الرسالة معا أما النبوة ففي هذه الآية و الآيتين بعدها، و أما الرسالة فتؤخذ من قوله ﴿وَ مَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى﴾ و تنتهي في قوله: ﴿اِذْهَبْ إِلىَ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغىَ﴾ و قد نص تعالى أنه كان رسولا نبيا معا في قوله: ﴿وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ مُوسى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَ كَانَ رَسُولاً نَبِيًّا﴾ : مريم: ٥١.
و قد ذكر في الآيات الثلاث المشتملة على النبوة الركنان معا و هما ركن الاعتقاد و ركن العمل، و أصول الاعتقاد ثلاثة التوحيد و النبوة و المعاد و قد ذكر منها التوحيد و المعاد و طوي عن النبوة لأن الكلام مع النبي نفسه و أما ركن العمل فقد لخص على ما فيه من التفصيل في كلمة واحدة هي قوله: ﴿فَاعْبُدْنِي﴾ فتمت بذلك أصول الدين و فروعه في ثلاث آيات.
فقوله: ﴿إِنَّنِي أَنَا اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا﴾ عرف المسمى بالاسم بنفسه حيث قال:
إنني أنا الله و لم يقل: إن الله هو أنا لأن مقتضى الحضور أن يعرف وصف الشيء بذاته لا ذاته بوصفه كما قال إخوة يوسف لما عرفوه: ﴿إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هَذَا أَخِي﴾ و اسم الجلالة و إن كان علما للذات المتعالية لكنه يفيد معنى المسمى بالله إذ لا سبيل إلى الذات المقدسة فكأنه قيل: أنا الذي يسمى «الله» فالمتكلم حاضر مشهود و المسمى باسم «الله» كأنه مبهم أنه من هو؟ فقيل أنا ذاك على أن اسم الجلالة علم بالغلبة لا يخلو من أصل وصفي.
و قوله: ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي﴾ كلمة التوحيد مرتبة على قوله: ﴿إِنَّنِي أَنَا اَللَّهُ﴾ لفظا لترتبها عليه حقيقة فإنه إذا كان هو الذي منه يبدأ كل شيء و به يقوم و إليه يرجع فلا ينبغي أن يخضع خضوع العبادة إلا له فهو الإله المعبود بالحق لا إله غيره و لذا فرع على ذلك الأمر بعبادته حيث قال: ﴿فَاعْبُدْنِي﴾ .
و قوله: ﴿وَ أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِذِكْرِي﴾ خص الصلاة بالذكر و هو من باب ذكر الخاص بعد العام اعتناء بشأنه لأن الصلاة أفضل عمل يمثل به الخضوع العبودي و يتحقق بها ذكر الله سبحانه تحقق الروح بقالبه.
و على هذا المعنى فقوله: ﴿لِذِكْرِي﴾ من إضافة المصدر إلى مفعوله و اللام للتعليل و هو متعلق بأقم محصله أن: حقق ذكرك لي بالصلاة، كما يقال: كل لتشبع و اشرب لتروي و هذا هو المعنى السابق إلى الذهن من مثل هذا السياق.
و قد تكاثرت الأقوال في قوله: ﴿لِذِكْرِي﴾ فقيل: إنه متعلق بأقم كما تقدم و قيل: بالصلاة، و قيل: بقوله: ﴿فَاعْبُدْنِي﴾ ثم اللام قيل: للتعليل، و قيل للتوقيت و المعنى أقم الصلاة عند ذكري أو عند ذكرها إذا نسيتها أو فاتت منك فهي كاللام في قوله: ﴿أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ﴾ : الإسراء: ٧٨.
ثم الذكر قيل: المراد به الذكر اللفظي الذي تشتمل عليه الصلاة، و قيل الذكر القلبي الذي يقارنها و يتحقق بها أو يترتب عليها و يحصل بها حصول المسبب عن سببه أو الذكر الذي قبلها، و قيل: المراد الأعم من القلبي و القالبي.
ثم الإضافة قيل: إنها من إضافة المصدر إلى مفعوله، و قيل: من إضافة المصدر إلى فاعله و المراد صل لأن أذكرك بالثناء و الإثابة أو المراد صل لذكري إياها في الكتب السماوية و أمري بها.
و قيل: إنه يفيد قصر الإقامة في الذكر، و المعنى: أقم الصلاة لغرض ذكري لا لغرض آخر غير ذكري كثواب ترجوه أو عقاب تخافه، و قيل: لا قصر.
و قيل: إنه يفيد قصر المضاف في المضاف إليه، و المراد: أقم الصلاة لذكري خاصة من غير أن ترائي بها أو تشوبها بذكر غيري، و قيل: لا دلالة على ذلك من جهة اللفظ و إن كان حقا في نفسه.
و قيل: المراد بالذكر ذكر الصلاة أي أقم الصلاة عند تذكرها أو لأجل ذكرها و الكلام على تقدير مضاف و الأصل لذكر صلاتي أو على أن ذكر الصلاة سبب لذكر الله فأطلق المسبب و أريد به السبب إلى غير ذلك و الوجوه الحاصلة بين غث و سمين. و الذي يسبق إلى الفهم هو ما قدمناه.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلسَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزىَ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعىَ﴾ تعليل لقوله في الآية السابقة: ﴿فَاعْبُدْنِي﴾ و لا يناقض ذلك كون ﴿فَاعْبُدْنِي﴾ متفرعا على
كلمة التوحيد المذكورة قبله لأن وجوب عبادته تعالى و إن كان بحسب نفسه متفرعا على توحده لكنه لا يؤثر أثرا لو لا ثبوت يوم يجزى فيه الإنسان بما عمله و يتميز فيه المحسن من المسيء و المطيع من العاصي فيكون التشريع لغوا و الأمر و النهي سدى لا أثر لهما، و لذلك كانت مقضية قضاء حتما و تكرر في كلامه تعالى نفي الريب عنها.
و قوله: ﴿أَكَادُ أُخْفِيهَا﴾ ظاهر إطلاق الإخفاء أن المراد يقرب أن أخفيها و أكتمها فلا أخبر عنها أصلا حتى يكون وقوعها أبلغ في المباغتة و أشد في المفاجاة و لا تأتي إلا فجأة كما قال تعالى: ﴿لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً﴾ : الأعراف: ١٨٧، أو يقرب أن لا أخبر بها حتى يتميز المخلصون من غيرهم فإن أكثر الناس إنما يعبدونه تعالى رجاء في ثوابه أو خوفا من عقابه جزاء للطاعة و المعصية، و أصدق العمل ما كان لوجه الله لا طمعا في جنة أو خوفا من نار و لو أخفي و كتم يوم الجزاء تميز عند ذلك من يأتي بحقيقة العبادة من غيره.
و قيل: معنى أكاد أخفيها أقرب من أن أكتمها من نفسي و هو مبالغة في الكتمان إذا أراد أحدهم المبالغة في كتمان شيء، قال: كدت أخفيه من نفسي أي فكيف أظهره لغيري؟ و عزي إلى الرواية.
و قوله: ﴿لِتُجْزىَ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعىَ﴾ متعلق بقوله: ﴿آتِيَةٌ﴾ و المعنى واضح.
قوله تعالى: ﴿فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَ اِتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدىَ﴾ الصد الصرف، و الردى الهلاك، و الضميران في ﴿عَنْهَا﴾ و ﴿بِهَا﴾ للساعة، و معنى الصد عن الساعة الصرف عن ذكرها بما لها من الشأن و هو أنها يوم تجزى فيه كل نفس بما تسعى، و كذا معنى عدم الإيمان بها هو الكفر بها بما لها من الشأن.
و قوله: ﴿وَ اِتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ كعطف التفسير بالنسبة إلى قوله: ﴿مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا﴾ أي إن عدم الإيمان بها مصداق اتباع الهوى و إذ كان مع ذلك صالحا للتعليل أفاد الكلام علية الهوى لعدم الإيمان بها، و استفيد من ذلك بالالتزام أن الإيمان بالساعة هو الحق المخالف للهوى و المنجي من الردى.
فمحصل معنى الآية أنه إذا كانت الساعة آتية و الجزاء واقعا فلا يصرفنك عن الإيمان بها و ذكرها بما لها من الشأن الذين اتبعوا أهواءهم فصاروا يكفرون بها
و يعرضون عن عبادة ربهم فلا يصرفنك عنها حتى تنصرف فتهلك.
و لعل الإتيان في قوله: ﴿وَ اِتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ بصيغة الماضي مع كون المعطوف عليه بصيغة المضارع للتلويح إلى علية اتباع الهوى لعدم الإيمان.
قوله تعالى: ﴿وَ مَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسىَ﴾ شروع في وحي الرسالة و قد تم وحي النبوة في الآيات الثلاث الماضية و الاستفهام للتقرير، سئل (عليه السلام) عما في يده اليمنى و كانت عصاه، ليسميها و يذكر أوصافها فيتبين أنها جماد لا حياة له حتى يأخذ تبديلها حية تسعى مكانه في نفسه (عليه السلام).
و الظاهر أن المشار إليه بقوله: ﴿تِلْكَ﴾ العودة أو الخشبة، و لو لا ذلك لكان من حق الكلام أن يقال: و ما ذلك بجعل المشار إليه هو الشيء لمكان التجاهل بكونها عصا و إلا لم يستقم الاستفهام كما في قوله: ﴿فَلَمَّا رَأَى اَلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ﴾ الأنعام: ٧٨.
و يمكن أن تكون الإشارة بتلك إلى العصا لكن لا بداعي الاطلاع على اسمها و حقيقتها حتى يلغو الاستفهام بل بداعي أن يذكر ما لها من الأوصاف و الخواص و يؤيده ما في كلام موسى (عليه السلام) من الإطناب بذكر نعوت العصا و خواصها فإنه لما سمع السؤال عما في يمينه و هي عصا لا يرتاب فيها فهم أن المطلوب ذكر أوصافها فأخذ يذكر اسمها ثم أوصافها و خواصها، و هذه طريق معمولة فيما إذا سئل عن أمر واضح لا يتوقع الجهل به و من هذا الباب يوجه قوله تعالى: ﴿اَلْقَارِعَةُ مَا اَلْقَارِعَةُ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا اَلْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ اَلنَّاسُ كَالْفَرَاشِ اَلْمَبْثُوثِ﴾ : القارعة: ٤، و قوله: ﴿اَلْحَاقَّةُ مَا اَلْحَاقَّةُ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا اَلْحَاقَّةُ﴾ الحاقة: ٣.
قوله تعالى: ﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَ أَهُشُّ بِهَا عَلىَ غَنَمِي وَ لِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرىَ﴾ العصا معروفة و هي من المؤنثات السماعية، و التوكي و الاتكاء على العصا الاعتماد عليها، و الهش هو خبط ورق الشجرة و ضربه بالعصا لتساقط على الغنم فيأكله، و المآرب جمع مأربة مثلثة الراء و هي الحاجة، و المراد بكون مآربه فيها تعلق حوائجه بها من حيث إنها وسيلة رفعها. و معنى الآية ظاهر.
و إطنابه (عليه السلام) بالإطالة في ذكر أوصاف العصا و خواصها قيل: لأن المقام و هو
مقام المناجاة و المسارة مع المحبوب يقتضي ذلك لأن مكالمة المحبوب لذيذة و لذا ذكر أولا أنه عصاه ليرتب عليه منافعها العامة و هذه هي النكتة في ذكر أنها عصاه.
و قد قدمنا في ذيل الآية السابقة وجها آخر لهذا الاستفهام و جوابه و ليس الكلام عليه من باب الإطناب و خاصة بالنظر إلى جمعه سائر منافعها في قوله: ﴿وَ لِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرىَ﴾ .
قوله تعالى: ﴿قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسى ﴾ إلى قوله ﴿سِيرَتَهَا اَلْأُولى﴾ السيرة الحالة و الطريقة و هي في الأصل بناء نوع من السير كجلسة لنوع من الجلوس.
أمر سبحانه موسى أن يلقي عصاه عن يمينه و هو قوله: ﴿قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسىَ﴾ فلما ألقى العصا صارت حية تتحرك بجد و جلادة و ذلك أمر غير مترقب من جماد لا حياة له و هو قوله: ﴿فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعىَ﴾ و قد عبر تعالى عن سعيها في موضع آخر من كلامه بقوله: ﴿رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ﴾ : القصص: ٣١، و عبر عن الحية أيضا في موضع آخر بقوله: ﴿فَأَلْقىَ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ﴾ : الأعراف:
١٠٧، الشعراء: ٣٢ و الثعبان: الحية العظيمة.
و قوله: ﴿قَالَ خُذْهَا وَ لاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا﴾ أي حالتها ﴿اَلْأُولىَ﴾ و هي أنها عصا فيه دلالة على خوفه (عليه السلام) مما شاهده من حية ساعية و قد قصه تعالى في موضع آخر إذ قال: ﴿فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسىَ أَقْبِلْ وَ لاَ تَخَفْ﴾ : القصص: ٣١، و الخوف و هو الأخذ بمقدمات التحرز عن الشر غير الخشية التي هي تأثر القلب و اضطرابه فإن الخشية رذيلة تنافي فضيلة الشجاعة بخلاف الخوف و الأنبياء (عليه السلام) يجوز عليهم الخوف دون الخشية كما قال الله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اَللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اَللَّهَ﴾ : الأحزاب: ٣٩.
قوله تعالى: ﴿وَ اُضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرىَ﴾ الضم الجمع، و الجناح جناح الطائر و اليد و العضد و الإبط و لعل المراد به المعنى الأخير ليئول إلى قوله في موضع آخر: ﴿أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ﴾ و السوء كل رداءة و قبح قيل: كني به في الآية عن البرص و المعنى أجمع يدك تحت إبطك أي أدخلها في جيبك تخرج بيضاء من غير برص أو حالة سيئة أخرى.
و قوله: ﴿آيَةً أُخْرىَ﴾ حال من ضمير تخرج و فيه إشارة إلى أن صيرورة العصا حية آية أولى و اليد البيضاء آية أخرى و قال تعالى في ذلك: ﴿فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلىَ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ﴾ : القصص: ٣٢.
قوله تعالى: ﴿لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا اَلْكُبْرىَ﴾ اللام للتعليل و الجملة متعلقة بمقدر كأنه قيل: أجرينا ما أجرينا على يدك لنريك بعض آياتنا الكبرى.
قوله تعالى: ﴿اِذْهَبْ إِلىَ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغىَ﴾ هذا هو أمر الرسالة و كانت الآيات السابقة: ﴿وَ مَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ﴾ إلخ مقدمة له.
قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اِشْرَحْ لِي صَدْرِي ﴾ إلى قوله ﴿إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً﴾ الآيات و هي إحدى عشرة آية متن ما سأله موسى (عليه السلام) ربه حين سجل عليه حكم الرسالة و هي بظاهرها مربوطة بأمر رسالته لأنه أحوج ما يكون إليها في تبليغ الرسالة إلى فرعون و ملئه و إنجاء بني إسرائيل و إدارة أمورهم لا في أمر النبوة.
و يؤيد ذلك أنه لم يسأل بعد إتمام أمر النبوة في الآيات الثلاث السابقة بل إنما بادر إلى ذلك بعد ما ألقي إليه قوله: ﴿اِذْهَبْ إِلىَ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى﴾ و هو أمر الرسالة.
نعم الآيات الأربع الأول: ﴿رَبِّ اِشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ إلخ، لا يخلو من ارتباط في الجملة بأمر النبوة و هي تلقي عقائد الدين و أحكامه العملية عن ساحة الربوبية.
فقوله: ﴿رَبِّ اِشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ و الشرح البسط و الجملة من الاستعارة التخييلية و الاستعارة بالكناية كأن صدر الإنسان و قد استكن فيه القلب وعاء يعي ما يرد عليه من طريق المشاهدة و الإدراك ثم يختزن فيه السر و إذا كان أمرا عظيما يشق على الإنسان أو هو فوق طاقته ضاق عنه الصدر فلم يسعه و احتاج إلى انشراح حتى يسعه.
و قد استعظم موسى ما سجل عليه ربه من أمر الرسالة و قد كان على علم بما عليه أمة القبط من الشوكة و القوة و على رأس هذه الأمة المتجبرة فرعون الطاغي الذي كان ينازع الله في ربوبيته و ينادي أنا ربكم الأعلى، و كان يذكر ما عليه بنو إسرائيل من الضعف و الإسارة بين آل فرعون ثم الجهل و انحطاط الفكر، و كان كأنه يرى ما ستجره إليه هذه الدعوة من الشدائد و المصائب و يشاهد ما سيعقبه تبليغ هذه الرسالة
من الفظائع و الفجائع و هو رجل قليل التحمل سريع الانقلاب في ذات الله ينكر الظلم و يأبى الضيم كما يشهد به قصة قتله القبطي و استقائه في ماء مدين و في لسانه و هو السلاح الوحيد لمن أراد الدعوة و التبليغ عقدة ربما منعته بيان ما يريد بيانه.
فلذلك سأل ربه حل هذه المشكلات فسأل أولا أن يوسع صدره لما يحمله ربه من أعباء الرسالة و لما ستستقبله من العظائم و الشدائد في مسيره في الدعوة فقال: ﴿رَبِّ اِشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ .
ثم قال: ﴿وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾ و هو الأمر الذي قلده من الرسالة و لم يسأله تعالى أن يخفف في رسالته و يتنزل بعض التنزل عما أمره به أولا فيقنع بما هو دونه فتصير رسالة يسيرة في نفسها بعد ما كانت خطيرة و إنما سأل أن يجعلها على ما بها من العسر و الخطر يسيرة بالنسبة إليه هينة عنده و الدليل على ذلك قوله: ﴿وَ يَسِّرْ لِي﴾ .
و وجه الدلالة أن قوله: ﴿لِي﴾ و المقام هذا المقام يفيد الاختصاص فيؤدي ما هو معنى قولنا: و يسر لي، و أنا الذي أوقفتني هذا الموقف و قلدتني ما قلدتني أمري الذي قلدتنيه و من المعلوم أن مقتضى هذا السؤال تيسير الأمر بالنسبة إليه لا تيسيره في نفسه، و نظير الكلام يجري في قوله: ﴿اِشْرَحْ لِي﴾ فمعناه اشرح لي و أنا الذي أمرتني بالرسالة و قبالها شدائد و مكاره ﴿صَدْرِي﴾ حتى لا يضيق إذا ازدحمت علي و دهمتني، و لو قيل: رب اشرح صدري و يسر أمري فاتت هذه النكتة.
و قوله: ﴿وَ اُحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ سؤال له آخر يرجع إلى عقدة من لسانه و التنكير في ﴿عُقْدَةً﴾ للدلالة على النوعية فله وصف مقدر و هو الذي يلوح من قوله: ﴿يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ أي عقدة تمنع من فقه قولي.
و قوله: ﴿وَ اِجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي﴾ سؤال له آخر و هو رابع الأسئلة و آخرها، و الوزير فعيل من الوزر بالكسر فالسكون بمعنى الحمل الثقيل سمي الوزير وزيرا لأنه يحمل ثقل حمل الملك، و قيل: من الوزر بفتحتين بمعنى الجبل الذي يلتجأ إليه سمي به لأن الملك يلتجئ إليه في آرائه و أحكامه.
و بالجملة هو يسأل ربه أن يجعل له وزيرا من أهله و يبينه أنه هارون أخي و إنما يسأل ذلك لأن الأمر كثير الجوانب متباعد الأطراف لا يسع موسى أن يقوم به وحده
بل يحتاج إلى وزير يشاركه في ذلك فيقوم ببعض الأمر فيخفف عنه فيما يقوم به هذا الوزير و يكون مؤيدا لموسى فيما يقوم به موسى و هذا معنى قوله و هو بمنزلة التفسير لجعله وزيرا ﴿اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾ .
فمعنى قوله: ﴿وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾ سؤال إشراك في أمر كان يخصه و هو تبليغ ما بلغه من ربه بادي مرة فهو الذي يخصه و لا يشاركه فيه أحد سواه و لا له أن يستنيب فيه غيره و أما تبليغ الدين أو شيء من أجزائه بعد بلوغه بتوسط النبي فليس مما يختص بالنبي بل هو وظيفة كل من آمن به ممن يعلم شيئا من الدين و على العالم أن يبلغ الجاهل و على الشاهد أن يبلغ الغائب و لا معنى لسؤال إشراك أخيه معه في أمر لا يخصه بل يعمه و أخاه و كل من آمن به من الإرشاد و التعليم و البيان و التبليغ فتبين أن معنى إشراكه في أمره أن يقوم بتبليغ بعض ما يوحى إليه من ربه عنه و سائر ما يختص به من عند الله كافتراض الطاعة و حجية الكلمة.
و أما الإشراك في النبوة خاصة بمعنى تلقي الوحي من الله سبحانه فلم يكن موسى يخاف على نفسه التفرد في ذلك حتى يسأل الشريك و إنما كان يخاف التفرد في التبليغ و إدارة الأمور في إنجاء بني إسرائيل و ما يلحق بذلك، و قد نقل ذلك عن موسى نفسه في قوله: ﴿وَ أَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي﴾ القصص: ٣٤.
على أنه صح من طرق الفريقين أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) دعا بهذا الدعاء بألفاظه في حق علي (عليه السلام) و لم يكن نبيا.
و قوله: ﴿كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً﴾ ظاهر السياق و قد ذكر في الغاية تسبيحهما معا و ذكرهما معا أن الجملة غاية لجعل هارون وزيرا له إذ لا تعلق لتسبيحهما معا و ذكرهما معا بمضامين الأدعية السابقة و هي شرح صدره و تيسير أمره و حل عقدة من لسانه و يترتب على ذلك أن المراد بالتسبيح و الذكر تنزيههما معا لله سبحانه و ذكرهما له بين الناس علنا لا في حال خلوتهما أو في قلبيهما سرا إذ لا تعلق لذلك أيضا بجعله وزيرا بل المراد أن يسبحاه و يذكراه معا بين الناس في مجامعهم و نواديهم و أي مجلس منهم حلا فيه و حضرا فتكثر الدعوة إلى الإيمان بالله و رفض الشركاء.
و بذلك يرجع ذيل السياق إلى صدره كأنه يقول: إن الأمر خطير و قد غر هذا الطاغية و ملأه و أمته عزهم و سلطانهم و نشب الشرك و الوثنية بأعراقه في قلوبهم و أنساهم ذكر الله من أصله و قد امتلأت أعين بني إسرائيل بما يشاهدونه من عزة فرعون و شوكة ملئه و اندهشت قلوبهم من سطوة آل فرعون و ارتاعت نفوسهم من سلطتهم فنسوا الله و لا يذكرون إلا الطاغية، فهذا الأمر أمر الرسالة و الدعوة في نجاحه و مضيه في حاجة شديدة إلى تنزيهك بنفي الشريك كثيرا و إلى ذكرك بالربوبية و الألوهية بينهم كثيرا ليتبصروا فيؤمنوا و هذا أمر لا أقوى عليه وحدي فاجعل هارون وزيرا لي و أيدني به و أشركه في أمري كي نسبحك كثيرا و نذكرك كثيرا لعل السعي ينجع و الدعوة تنفع.
و بهذا البيان يظهر وجه تعلق هذه الغاية أعني قوله: ﴿كَيْ نُسَبِّحَكَ﴾ إلخ، بما تقدمه.
و ثانيا: وجه ورود قوله: ﴿كَثِيراً﴾ مرتين و أنه ليس من التكرار في شيء إذ كل من التسبيح و الذكر يجب أن يكون في نفسه كثيرا، و لو قيل كي نسبحك و نذكرك كثيرا أفاد كثرتهما مجتمعين و هو غير مراد.
و ثالثا: وجه تقديم التسبيح على الذكر فإن المراد بالتسبيح تنزيهه تعالى عن الشريك بدفع ألوهية الآلهة من دون الله و إبطال ربوبيتها لتقع الدعوة إلى الإيمان بالله وحده، و هو المراد بالذكر، موقعها. فالتسبيح من قبيل دفع المانع المتقدم على تأثير المقتضي، و قد ذكر لهذه الخصوصيات وجوه أخر مذكورة في المطولات لا جدوى فيها و لا في نقلها.
و قوله: ﴿إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً﴾ هو بظاهره تعليل كالحجة على قوله: ﴿كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً﴾ إلخ، أي أنك كنت بصيرا بي و بأخي منذ خلقتنا و عرفتنا نفسك و تعلم أنا لم نزل نعبدك بالتسبيح و الذكر ساعيين مجدين في ذلك فإن جعلته وزيرا لي و أيدتني به و أشركته في أمري تم أمر الدعوة و سبحناك كثيرا و ذكرناك كثيرا، و المراد بقوله ﴿بِنَا﴾ على هذا هو و أخوه. و يمكن أن يكون المراد بالضمير في ﴿بِنَا﴾ أهله، و المعنى: أنك كنت بصيرا بنا أهل البيت أنا أهل تسبيح و ذكر فإن جعلت هارون
أخي، و هو من أهلي، وزيرا لي سبحناك كثيرا و ذكرناك كثيرا، و هذا الوجه أحسن من سابقه لأنه يفي ببيان النكتة في ذكر الأهل في قوله السابق: ﴿وَ اِجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي﴾ أيضا فافهم ذلك.
قوله تعالى: ﴿قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسىَ﴾ إجابة لأدعيته جميعا و هو إنشاء نظير ما مر من قوله: ﴿وَ أَنَا اِخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحى﴾ .
قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرىَ﴾ إلى قوله ﴿كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَ لاَ تَحْزَنَ﴾ يذكره تعالى بمن آخر له عليه قبل أن يختاره للنبوة و الرسالة و يؤتي سؤله و هو منه عليه حينما تولد فقد كان بعض الكهنة أخبر فرعون أن سيولد في بني إسرائيل مولود يكون بيده زوال ملكه فأمر فرعون بقتل كل مولود يولد فيهم فكانوا يقتلون المواليد الذكور حتى إذا ولد موسى أوحى الله إلى أمه أن لا تخاف و ترضعه فإذا خافت عليه من عمال فرعون و جلاوزته تقذفه في تابوت فتقذفه في النيل فيلقيه اليم إلى الساحل حيال قصر فرعون فيأخذه فيتخذه ابنا له و كان لا عقب له و لا يقتله ثم إن الله سيرده إليها.
ففعلت كما أوحي إليها فلما جرى التابوت بجريان النيل أرسلت بنتا لها و هي أخت موسى أن تجس أخباره فكانت تطوف حول قصر فرعون حتى وجدت نفرا يطلبون بأمر فرعون مرضعا ترضع موسى فدلتهم أخت موسى على أمها فاسترضعوها له فأخذت ولدها و قرت به عينها و صدق الله وعده و قد عظم منه على موسى.
فقوله: ﴿وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرىَ﴾ امتنان بما صنعه به أول عمره و قد تغير السياق من التكلم وحده إلى التكلم بالغير لأن المقام مقام إظهار العظمة و هو ينبئ عن ظهور قدرته التامة بتخييب سعي فرعون الطاغية و إبطال كيده لإخماد نور الله و رد مكره إليه و تربية عدوه في حجره، و أما موقف نداء موسى و تكليمه إذ قال: ﴿يَا مُوسىَ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ﴾ إلخ فسياق التكلم وحده أنسب له.
و قوله: ﴿إِذْ أَوْحَيْنَا إِلى أُمِّكَ مَا يُوحىَ﴾ المراد به الإلهام و هو نوع من القذف في القلب في يقظة أو نوم، و الوحي في كلامه تعالى لا ينحصر في وحي النبوة كما قال تعالى: ﴿وَ أَوْحىَ رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ﴾ : النحل: ٦٨، و أما وحي النبوة فالنساء لا يتنبأن ـ
و لا يوحى إليهن بذلك قال تعالى: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ اَلْقُرىَ﴾ : يوسف: ١٠٩ و قوله: ﴿أَنِ اِقْذِفِيهِ فِي اَلتَّابُوتِ﴾ إلى آخر الآية هو مضمون ما أوحي إلى أم موسى و ﴿أَنِ﴾ للتفسير، و قيل: مصدرية متعلق بأوحي و التقدير أوحي بأن اقذفيه، و قيل: مصدرية و الجملة بدل من: ﴿مَا يُوحىَ﴾ .
و التابوت الصندوق و ما يشبهه و القذف الوضع و الإلقاء و كأن القذف الأول في الآية بالمعنى الأول و القذف الثاني بالمعنى الثاني و يمكن أن يكونا معا بالمعنى الثاني بعناية أن وضع الطفل في التابوت و إلقاءه في اليم إلقاء و طرح له من غير أن يعبأ بحاله، و اليم البحر: و قيل: البحر العذب، و الساحل شاطئ البحر و جانبه من البر، و الصنع و الصنيعة الإحسان.
و قوله: ﴿فَلْيُلْقِهِ اَلْيَمُّ﴾ أمر عبر به إشارة إلى تحقق وقوعه و مفاده أنا أمرنا اليم بذلك أمرا تكوينيا فهو واقع حتما مقضيا، و كذا قوله: ﴿يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي﴾ إلخ و هو جزاء مترتب على هذا الأمر.
و معنى الآيتين إذ أوحينا و ألهمنا أمك بما يوحى و يلهم و هو أن ضعيه أو ألقيه في التابوت و هو الصندوق فألقيه في اليم و البحر و هو النيل فمن المقضي من عندنا أن يلقيه البحر بالساحل و الشاطئ يأخذه عدو لي و عدو له و هو فرعون لأنه كان يعادي الله بدعوى الألوهية و يعادي موسى بقتله الأطفال و كان طفلا هذا ما أوحيناه إلى أمك.
و قوله: ﴿وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي﴾ ظاهر السياق أن هذا الفصل إلى قوله: ﴿وَ لاَ تَحْزَنَ﴾ فصل ثان تال للفصل السابق متمم له و المجموع بيان للمن المشار إليه بقوله: ﴿وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى﴾ .
فالفصل الأول يقص الوحي إلى أمه بقذفه في التابوت ثم في البحر لينتهي إلى فرعون فيأخذه عدو الله و عدوه و الفصل الثاني يقص إلقاء المحبة عليه لينصرف فرعون عن قتله و يحسن إليه حتى ينتهي الأمر إلى رجوعه إلى أمه و استقراره في حجرها لتقر عينها و لا تحزن و قد وعدها الله ذلك كما قال في سورة القصص: ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَ لاَ تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اَللَّهِ حَقٌّ﴾ : القصص: ١٣، و لازم هذا المعنى
كون الجملة أعني قوله: ﴿وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ﴾ إلخ، معطوفا على قوله: ﴿أَوْحَيْنَا إِلى أُمِّكَ﴾ .
و معنى إلقاء محبة منه عليه كونه بحيث يحبه كل من يراه كأن المحبة الإلهية استقرت عليه فلا يقع عليه نظر ناظر إلا تعلقت المحبة بقلبه و جذبته إلى موسى، ففي الكلام استعارة تخييلية و في تنكير المحبة إشارة إلى فخامتها و غرابة أمرها.
و اللام في قوله: ﴿وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي﴾ للغرض، و الجملة معطوفة على مقدر و التقدير ألقيت عليك محبة مني لأمور كذا و كذا و ليحسن إليك على عيني أي بمرأى مني فإني معك أراقب حالك و لا أغفل عنك لمزيد عنايتي بك و شفقتي عليك. و ربما قيل: إن المراد بقوله: ﴿وَ لِتُصْنَعَ عَلىَ عَيْنِي﴾ الإحسان إليه بإرجاعه إلى أمه و جعل تربيته في حجرها.
و كيف كان فهذا اللسان و هو لسان كمال العناية و الشفقة يناسب سياق التكلم وحده و لذا عدل إليه من لسان التكلم بالغير.
و قوله: ﴿إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلىَ مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلىَ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَ لاَ تَحْزَنَ﴾ الظرف على ما يعطيه السياق متعلق بقوله: ﴿وَ لِتُصْنَعَ﴾ و المعنى: و ألقيت عليك محبة مني يحبك كل من يراك لكذا و كذا و ليحسن إليك بمرأى مني و تحت مراقبتي في وقت تمشي أختك لتجوس خبرك و ترى ما يصنع بك فتجد عمال فرعون يطلبون مرضعا ترضعك فتقول لهم و الاستقبال في الفعل لحكاية الحال الماضية عارضة عليهم: هل أدلكم على من يكفله بالحضانة و الإرضاع فرددناك إلى أمك كي تسر و لا تحزن.
و قوله: ﴿فَرَجَعْنَاكَ﴾ بصيغة المتكلم مع الغير رجوع إلى السياق السابق و هو التكلم بالغير و ليس بالتفات.
قوله تعالى: ﴿وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ اَلْغَمِّ﴾ إلى آخر الآية، إشارة إلى من أو منن أخرى ملحقة بالمنين السابقين و هو قصة قتله (عليه السلام) القبطي و ائتمار الملإ أن يقتلوه و فراره من مصر و تزوجه هناك ببنت شعيب النبي و بقاؤه عنده بين أهل مدين عشر سنين أجيرا يرعى غنم شعيب، و القصة مفصلة مذكورة في سورة القصص.
فقوله: ﴿وَ قَتَلْتَ نَفْساً﴾ هو قتله القبطي بمصر، و قوله: ﴿فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ اَلْغَمِّ﴾ و هو ما كان يخافه أن يقتله الملأ من آل فرعون فأخرجه الله إلى أرض مدين فلما أحضره شعيب و ورد عليه و قص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين.
و قوله: ﴿وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً﴾ أي ابتليناك و اختبرناك ابتلاء و اختبارا، قال الراغب من المفردات،: أصل الفتن إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، و استعمل في إدخال الإنسان النار، قال: ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى اَلنَّارِ يُفْتَنُونَ﴾ ﴿ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ﴾ أي عذابكم، قال: و تارة يسمون ما يحصل عنه العذاب فتنة فيستعمل فيه نحو قوله:
﴿أَلاَ فِي اَلْفِتْنَةِ سَقَطُوا﴾ و تارة في الاختبار، نحو: ﴿وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً﴾ و جعلت الفتنة كالبلاء في أنهما تستعملان فيما يدفع إليه الإنسان من شدة و رخاء و هما في الشدة أظهر معنى و أكثر استعمالا و قد قال فيهما: ﴿وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ انتهى موضع الحاجة من كلامه.
و قوله: ﴿فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ﴾ متفرع على الفتنة. و قوله: ﴿ثُمَّ جِئْتَ عَلىَ قَدَرٍ يَا مُوسىَ﴾ لا يبعد أن يستفاد من السياق أن المراد بالقدر هو المقدر و هو ما حصله من العلم و العمل عن الابتلاءات الواردة عليه في نجاته من الغم بالخروج من مصر و لبثه في أهل مدين.
و على هذا فمجموع قوله: ﴿وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ﴾ - إلى قوله - ﴿يَا مُوسىَ﴾ من واحد و هو أنه ابتلي ابتلاء بعد ابتلاء حتى جاء على قدر و هو ما اكتسبه من فعلية الكمال.
و ربما أجيب عن الاستشكال في عد الفتن من المن بأن الفتن هاهنا بمعنى التخليص كتخليص الذهب بالنار، و ربما أجيب بأن كونه منا باعتبار الثواب المترتب على ذلك، و الوجهان مبنيان على فصل قوله: ﴿فَلَبِثْتَ﴾ إلى آخر الآية عما قبله و لذا قال بعضهم:
إن المراد بالفتنة هو ما قاساه موسى من الشدة بعد خروجه من مصر إلى أن استقر في مدين لمكان فاء التفريع في قوله: ﴿فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ﴾ الدال على تأخر اللبث عن الفتنة زمانا، و فيه أن الفاء إنما تدل على التفرع فحسب و ليس من الواجب أن يكون تفرعا زمانيا دائما.
و قال بعضهم: إن القدر بمعنى التقدير و المراد ثم جئت إلى أرض مصر على ما
قدرنا ثم اعترض على أخذ القدر بمعنى المقدار بأن المعروف من القدر بهذا المعنى هو ما كان بسكون الدال لا بفتحها و فيه أن القدر و القدر بسكون الدال و فتحها كما صرحوا به كالنعل و النعل بمعنى واحد. على أن القدر بمعنى المقدار كما قدمناه - أكثر ملاءمة للسياق أو متعين. و ذكر لمجيئه على مقدار بعض معان أخر و هي سخيفة لا جدوى فيها.
و ختم ذكر المن بنداء موسى (عليه السلام) زيادة تشريف له.
قوله تعالى: ﴿وَ اِصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ الاصطناع افتعال من الصنع بمعنى الإحسان على ما ذكروا يقال: صنعه أي أحسن إليه و اصطنعه أي حقق إحسانه إليه و ثبته فيه، و نقل عن القفال أن معنى الاصطناع أنه يقال: اصطنع فلان فلانا إذا أحسن إليه حتى يضاف إليه فيقال: هذا صنيع فلان و خريجه. انتهى.
و على هذا يئول معنى اصطناعه إياه إلى إخلاصه تعالى إياه لنفسه و يظهر موقع قوله: ﴿لِنَفْسِي﴾ أتم ظهور و أما على المعنى الأول فالأنسب بالنظر إلى السياق أن يكون الاصطناع مضمنا معنى الإخلاص، و المعنى على أي حال و جعلتك خالصا لنفسي فيما عندك من النعم فالجميع مني و إحساني و لا يشاركني فيك غيري فأنت لي مخلصا و ينطبق ذلك على قوله: ﴿وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتَابِ مُوسى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً﴾ : مريم: ٥١.
و من هنا يظهر أن قول بعضهم: المراد بالاصطناع الاختيار، و معنى اختياره لنفسه جعله حجة بينه و بين خلقه كلامه كلامه و دعوته دعوته و كذا قول بعضهم إن المراد بقوله: ﴿لِنَفْسِي﴾ لوحيي و رسالتي، و قول آخرين: لمحبتي، كل ذلك من قبيل التقييد من غير مقيد.
و يظهر أيضا أن اصطناعه لنفسه منظوم في سلك المنن المذكورة بل هو أعظم النعم و من الممكن أن يكون معطوفا على قوله: ﴿جِئْتَ عَلىَ قَدَرٍ﴾ عطف تفسير.
و الاعتراض على هذا المعنى بأن توسيط النداء بينه و بين المنن المذكورة لا يلائم كونه منظوما في سلكها على ما ذكر الفخر الرازي في تفسيره، فالأولى جعله تمهيدا لإرساله إلى فرعون مع شركة من أخيه في أمره.
و فيه أن توسيط النداء لا ينحصر وجهه فيما ذكر فلعل الوجه فيه تشريفه بمزيد
اللطف و تقريبه من موقف الأنس ليكون ذلك تمهيدا للالتفات ثانيا من التكلم بالغير إلى التكلم وحده بقوله: ﴿وَ اِصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ .
قوله تعالى: ﴿اِذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآيَاتِي وَ لاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي﴾ تجديد للأمر السابق خطابا لموسى وحده في قوله: ﴿اِذْهَبْ إِلىَ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغىَ﴾ بتغيير ما فيه بإلحاق أخي موسى به لتغير ما في المقام بإيتاء سؤال موسى أن يشرك هارون في أمره فوجه الخطاب ثانيا إليهما معا.
و أمرهما أن يذهبا بآياته و لم يؤت وقتئذ إلا آيتين وعد جميل بأنه مؤيد بغيرهما و سيؤتاه حين لزومه، و أما القول بأن المراد هما الآيتان و الجمع ربما يطلق على الاثنين، أو أن كلا من الآيتين ينحل إلى آيات كثيرة مما لا ينبغي الركون إليه.
و قوله: ﴿وَ لاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي﴾ نهي عن الوني و هو الفتور، و الأنسب للسياق السابق أن يكون المراد بالذكر الدعوة إلى الإيمان به تعالى وحده لا ذكره بمعنى التوجه إليه قلبا أو لسانا كما قيل.
قوله تعالى: ﴿اِذْهَبَا إِلىَ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغىَ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشىَ﴾ جمعهما في الأمر ثانيا فخاطب موسى و هارون معا و كذلك في النهي الذي قبله في قوله: ﴿وَ لاَ تَنِيَا﴾ و قد مهد لذلك بإلحاق هارون بموسى في قوله: ﴿اِذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ﴾ و ليس ببعيد أن يكون نقلا لمشافهة أخرى و تخاطب وقع بينه تعالى و بين رسوليه مجتمعين أو متفرقين بعد ذاك الموقف و يؤيده سياق قوله بعد: ﴿قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا﴾ إلخ.
و المراد بقوله: ﴿فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً﴾ المنع من أن يكلماه بخشونة و عنف و هو من أوجب آداب الدعوة.
و قوله: ﴿لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشىَ﴾ رجاء لتذكره أو خشيته و هو قائم بمقام المحاورة لا به تعالى العالم بما سيكون، و التذكر مطاوعة التذكير فيكون قبولا و التزاما لما تقتضيه حجة المذكر و إيمانه به و الخشية من مقدمات القبول و الإيمان فمآل المعنى لعله يؤمن أو يقرب من ذلك فيجيبكم إلى بعض ما تسألانه.
و استدل بعض من يرى قبول إيمان فرعون حين الغرق على إيمانه بالآية استنادا
إلى أن «لعل» من الله واجب الوقوع كما نسب إلى ابن عباس و قدماء المفسرين فالآية تدل على تحتم وقوع أحد الأمرين التذكر أو الخشية و هو مدار النجاة.
و فيه أنه ممنوع و لا تدل عسى و لعل في كلامه تعالى إلا على ما يدل عليه في كلام غيره و هو الترجي غير أن معنى الترجي في كلامه لا يقوم به، تعالى عن الجهل و تقدس و إنما يقوم بالمقام بمعنى أن من وقف هذا الموقف و اطلع على أطراف الكلام فهم أن من المرجو أن يقع كذا و كذا و أما في كلام غيره فربما قام الترجي بنفس المتكلم و ربما قام بمقام التخاطب.
و قال الإمام الرازي في تفسيره، إنه لا يعلم سر إرساله تعالى إلى فرعون مع علمه بأنه لا يؤمن إلا الله، و لا سبيل في المقام و أمثاله إلى غير التسليم و ترك الاعتراض.
و هو عجيب فإنه إن كان المراد بسر الإرسال وجه صحة الأمر بالشيء مع العلم باستحالة وقوعه في الخارج فاستحالة وقوع الشيء أو وجوب وقوعه إنما ذلك حال الفعل بالقياس إلى علته التامة التي هي الفاعل و سائر العوامل الخارجة عنه في وجوده و الأمر لا يتعلق بالفعل من حيث حاله بالقياس إلى جميع أجزاء علته التامة و إنما يتعلق به من جهة حاله بالقياس إلى الفاعل الذي هو أحد أجزاء علته التامة و نسبة الفعل و عدمه إليه بالإمكان دائما لكونه علة ناقصة لا تستوجب وجود الفعل و لا عدمه فالإرسال و الدعوة و كذا الأمر صحيح بالنسبة إلى فرعون لكون الإجابة و الائتمار بالنسبة إليه نفسه اختيارية ممكنة و إن كانت بالنسبة إليه مع انضمام سائر العوامل المانعة مستحيلة ممتنعة، هذا جواب القائلين بالاختيار، و أما المجبرة و هو منهم فالشبهة تسري عندهم إلى جميع موارد التكاليف لعموم الجبر و قد أجابوا عنها على زعمهم بأن التكليف صوري يترتب عليه تمام الحجة و قطع المعذرة.
و إن كان المراد بسر الإرسال مع العلم بأنه لا يؤمن الفائدة المترتبة عليه بحيث يخرج بها عن اللغوية فالدعوة الحقة كما تؤثر أثرها في قوم بتكميلهم في جانب السعادة كذلك تؤثر أثرها في آخرين بتكميل شقائهم، قال تعالى: ﴿وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لاَ يَزِيدُ اَلظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً﴾ الإسراء: ٨٢، و لو ألغي التكميل في جانب الشقاء لغا الامتحان فيه فلم تتم الحجة فيه، و لا انقطع العذر، و لو لم تتم
الحجة في جانب و انتقضت لم تنجع في الجانب الآخر و هو ظاهر.
قوله تعالى: ﴿قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغىَ﴾ الفرط التقدم و المراد به بقرينة مقابلته الطغيان أن يعجل بالعقوبة و لا يصبر إلى إتمام الدعوة و إظهار الآية المعجزة، و المراد بأن يطغى أن يتجاوز حده في ظلمه فيقابل الدعوة بتشديد عذاب بني إسرائيل و الاجتراء على ساحة القدس بما كان لا يجترئ عليه قبل الدعوة و نسبة الخوف إليهما لا بأس بها كما تقدم الكلام فيها في تفسير قوله تعالى: ﴿قَالَ خُذْهَا وَ لاَ تَخَفْ﴾ .
و استشكل على الآية بأن قوله تعالى في موضع آخر لموسى في جواب سؤاله إشراك أخيه في أمره قال: ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا﴾ : القصص: ٣٥، يدل على إعطاء الأمن لهما في موقف قبل هذا الموقف لقوله ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ﴾ فلا معنى لإظهارهما الخوف بعد ذلك.
و أجيب بأن خوفهما قبل كان على أنفسهما بدليل قول موسى هناك. ﴿وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ﴾ : الشعراء - ١٤، و الذي في هذه الآية خوف منهما على الدعوة كما تقدم.
على أن من الجائز أن يكون هذا الخوف المحكي في الآية هو خوف موسى قبل في موقف المناجاة و خوف هارون بعد بلوغ الأمر إليه فالتقطا و جمعا معا في هذا المورد، و قد تقدم احتمال أن يكون قوله: ﴿اِذْهَبَا إِلىَ فِرْعَوْنَ﴾ إلى آخر الآيات، حكاية كلامهما في غير موقف واحد.
قوله تعالى: ﴿قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَ أَرىَ﴾ أي لا تخافا من فرطه و طغيانه إنني حاضر معكما أسمع ما يقال و أرى ما يفعل فأنصركما و لا أخذلكما فهو تأمين بوعد النصرة، فقوله: ﴿لاَ تَخَافَا﴾ تأمين، و قوله: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَ أَرىَ﴾ تعليل للتأمين بالحضور و السمع و الرؤية، و هو الدليل على أن الجملة كناية عن المراقبة و النصرة و إلا فنفس الحضور و العلم يعم جميع الأشياء و الأحوال.
و قد استدل بعضهم بالآية على أن السمع و البصر صفتان زائدتان على العلم بناء على أن قوله: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا﴾ دال على العلم و لو دل ﴿أَسْمَعُ وَ أَرىَ﴾ عليه أيضا لزم
التكرار و هو خلاف الأصل.
و هو من أوهن الاستدلال، أما أولا: فلما عرفت أن مفاد ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا﴾ هو الحضور و الشهادة و هو غير العلم.
و أما ثانيا: فلقيام البراهين اليقينية على عينية الصفات الذاتية و هي الحياة و القدرة و العلم و السمع و البصر بعضها لبعض و المجموع للذات، و لا ينعقد مع اليقين ظهور لفظي ظني مخالف البتة.
و أما ثالثا: فلأن المسألة من أصول المعارف لا يركن فيها إلى غير العلم، فتتميم الدليل بمثل أصالة عدم التكرار كما ترى.
قوله تعالى: ﴿فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ﴾ إلى آخر الآية، جدد أمرهما بالذهاب إلى فرعون بعد تأمينهما و وعدهما بالحفظ و النصر و بين تمام ما يكلفان به من الرسالة و هو أن يدعوا فرعون إلى الإيمان و إلى رفع اليد عن تعذيب بني إسرائيل و إرسالهم معهما فكلما تحول حال في المحاورة جدد الأمر حسب ما يناسبه و هو قوله أولا لموسى: ﴿اِذْهَبْ إِلىَ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغىَ﴾ ، ثم قوله ثانيا لما ذكر أسئلته و أجيب إليها: ﴿اِذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ﴾ ﴿اِذْهَبَا إِلىَ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغىَ﴾ ، ثم قوله لما ذكرا خوفهما و أجيبا بالأمن: ﴿فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ﴾ إلخ، و فيه تفصيل ما عليهما أن يقولا له.
فقوله: ﴿فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ﴾ تبليغ أنهما رسولا الله، و في قوله بعد:
﴿وَ اَلسَّلاَمُ عَلىَ مَنِ اِتَّبَعَ اَلْهُدىَ﴾ إلخ، دعوته إلى بقية أجزاء الإيمان.
و قوله: ﴿فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ لاَ تُعَذِّبْهُمْ﴾ تكليف فرعي متوجه إلى فرعون.
و قوله: ﴿قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ﴾ استناد إلى حجة تثبت رسالتهما و في تنكير الآية سكوت عن العدد و إشارة إلى فخامة أمرها و كبر شأنها و وضوح دلالتها.
و قوله: ﴿وَ اَلسَّلاَمُ عَلىَ مَنِ اِتَّبَعَ اَلْهُدىَ﴾ كالتحية للوداع يشار به إلى تمام الرسالة و يبين به خلاصة ما تتضمنه الدعوة الدينية و هو أن السلامة منبسط على من اتبع الهدى و السعادة لمن اهتدى فلا يصادف في مسير حياته مكروها يكرهه لا في دنيا و لا في عقبى.
و قوله: ﴿إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ اَلْعَذَابَ عَلىَ مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى﴾ في مقام التعليل
لسابقه أي إنما نسلم على المهتدين فحسب لأن الله سبحانه أوحي إلينا أن العذاب و هو خلاف السلام على من كذب بآيات الله - أو بالدعوة الحقة التي هي الهدى - و تولى و أعرض عنها.
و في سياق الآيتين من الاستهانة بأمر فرعون و بما تزين به من زخارف الدنيا و تظاهر به من الكبر و الخيلاء ما لا يخفى، فقد قيل: ﴿فَأْتِيَاهُ﴾ و لم يقل: اذهبا إليه و إتيان الشيء أقرب مساسا به من الذهاب إليه و لم يكن إتيان فرعون و هو ملك مصر و إله القبط بذاك السهل الميسور، و قيل: ﴿فَقُولاَ﴾ و لم يقل: فقولا له كأنه لا يعتني به، و قيل: ﴿إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ﴾ و ﴿بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ﴾ فقرع سمعه مرتين بأن له ربا و هو الذي كان ينادي بقوله: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ اَلْأَعْلىَ﴾ ، و قيل: ﴿وَ اَلسَّلاَمُ عَلىَ مَنِ اِتَّبَعَ اَلْهُدىَ﴾ و لم يورد بالخطاب إليه، و نظيره قوله: ﴿أَنَّ اَلْعَذَابَ عَلىَ مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى﴾ من غير خطاب.
و هذا كله هو الأنسب تجاه ما يلوح من لحن قوله تعالى: ﴿لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَ أَرىَ﴾ من كمال الإحاطة و العزة و القدرة التي لا يقوم لها شيء.
و ليس مع ذلك فيما أمرا أن يخاطباه به من قولهما: ﴿إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ﴾ إلى آخر الآيتين خشونة في الكلام و خروج عن لين القول الذي أمرا به أولا فإن ذلك حق القول الذي لا مناص من قرعه سمع فرعون من غير تملق و لا احتشام و تأثر من ظاهر سلطانه الباطل و عزته الكاذبة.
(بحث روائي)
في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ﴾ يقول: آتيكم بقبس من النار تصطلون من البرد ﴿أَوْ أَجِدُ عَلَى اَلنَّارِ هُدىً﴾ كان قد أخطأ الطريق يقول: أو أجد على النار طريقا.
و في الفقيه،: سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: ﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ اَلْمُقَدَّسِ طُوىً﴾ قال: كانتا من جلد حمار ميت.
أقول: و رواه أيضا في تفسير القمي، مرسلا و مضمرا، و روى هذا المعنى في الدر المنثور، عن عبد الرزاق و الفاريابي و عبد بن حميد و ابن أبي حاتم عن علي. و قد ورد ذلك في بعض الروايات، و سياق الآية يعطي أن الخلع لاحترام الموقف.
و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿أَقِمِ اَلصَّلاَةَ لِذِكْرِي﴾ قيل: معناه أقم الصلاة متى ذكرت أن عليك صلاة كنت في وقتها أم لم تكن. عن أكثر المفسرين:، و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام):، و يعضده
ما رواه أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها غير ذلك:، رواه مسلم في الصحيح:.
أقول: و الحديث مروي بطرق أخرى مسندة و غير مسندة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من طرق أهل السنة و عن الصادقين (عليه السلام) من طرق الشيعة.
و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿أَكَادُ أُخْفِيهَا﴾ روي عن ابن عباس ﴿أَكَادُ أُخْفِيهَا﴾ عن نفسي» و هي كذلك في قراءة أبي:، و روي ذلك عن الصادق (عليه السلام):.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه و الخطيب و ابن عساكر عن أسماء بنت عميس قالت: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بإزاء ثبير و هو يقول: أشرق ثبير أشرق ثبير اللهم إني أسألك بما سألك أخي موسى أن تشرح لي صدري، و أن تيسر لي أمري و أن تحل عقدة من لساني يفقهوا قولي، و اجعل لي وزيرا من أهلي عليا أخي اشدد به أزرى - و أشركه في أمري كي نسبحك كثيرا و نذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا.
أقول و روي قريبا من هذا المعنى عن السلفي عن الباقر (عليه السلام) و روي أيضا في المجمع، عن ابن عباس عن أبي ذر عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قريبا منه. و قال في روح المعاني، بعد إيراد الحديث المذكور ما لفظه: و لا يخفى أنه يتعين هنا حمل الأمر على أمر الإرشاد و الدعوة إلى الحق و لا يجوز حمله على النبوة و لا يصح الاستدلال به على خلافة علي كرم الله وجهه بعد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بلا فصل.
و مثله: فيما ذكر ما صح من قوله (عليه السلام) له حين استخلفه في غزوة تبوك على أهل بيته «أ ما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» انتهى.
قلت: أما الاستدلال بالحديث أو بحديث المنزلة على خلافته (عليه السلام) بلا فصل
فالبحث فيه خارج عن غرض الكتاب و إنما نبحث عن المراد بقوله (ص) في دعائه لعلي (عليه السلام): ﴿وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾ طبقا لدعاء موسى (عليه السلام) المحكي في الكتاب العزيز فإن له مساسا بما فهمه (ص) من لفظ الآية و الحديث صحيح مؤيد بحديث المنزلة المتواتر[2] .
فمراده (ص) بالأمر في قوله: ﴿وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾ ليس هو النبوة قطعا لنص حديث المنزلة باستثناء النبوة، و هو الدليل القاطع على أن مراد موسى بالأمر في قوله: ﴿وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾ ليس هو النبوة و إلا بقي قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): ﴿أَمْرِي﴾ بلا معنى يفيده.
و ليس المراد بالأمر هو مطلق الإرشاد و الدعوة إلى الحق كما ذكره قطعا لأنه تكليف يقوم به جميع الأمة و يشاركه فيه غيره و حجة الكتاب و السنة قائمة فيه كأمثال قوله تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللَّهِ عَلىَ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اِتَّبَعَنِي﴾ : يوسف:
١٠٨، و قوله (ص) و قد رواه العامة و الخاصة : فليبلغ الشاهد الغائب، و إذا كان أمرا مشتركا بين الجميع فلا معنى لسؤال إشراك علي فيه.
على أن الإضافة في قوله: ﴿أَمْرِي﴾ تفيد الاختصاص فلا يصدق على ما هو مشترك بين الجميع، و نظير الكلام يجري في قول موسى المحكي في الآية.
نعم التبليغ الابتدائي و هو تبليغ الوحي لأول مرة أمر يختص بالنبي فليس له أن يستنيب لتبليغ أصل الوحي رجلا آخر، فالإشراك فيه إشراك في أمره و في قول موسى ما يشهد بذلك إذ يقول: ﴿وَ أَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي﴾ إذ ليس المراد بتصديقه إياه أن يقول: صدق أخي بل أن يوضح ما أبهم من كلامه و يفصل ما أجمل و يبلغ عنه بعض الوحي الذي كان عليه أن يبلغه.
فهذا النوع من التبليغ و ما معه من آثار النبوة كافتراض الطاعة مما يختص بالنبي و الإشراك فيها إشراك في أمره، فهذا المعنى هو المراد بالأمر في دعائه (ص) و هو المراد
أيضا مضافة إليه النبوة في دعاء موسى.
و قد تقدم ما يتعلق بهذا البحث في تفسير أول سورة براءة في حديث بعث النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عليا بآيات أول براءة إلى مكة بعد عزل أبي بكر عنها استنادا إلى ما أوحي إليه أنه لا يبلغها عنك إلا أنت أو رجل منك، في الجزء التاسع من الكتاب.
و في تفسير القمي، حدثني أبي عن الحسن بن محبوب عن العلاء بن رزين عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما حملت به أمه لم يظهر حملها إلا عند وضعها له، و كان فرعون قد وكل بنساء بني إسرائيل نساء من القبط يحفظنهن و ذلك لما كان بلغه عن بني إسرائيل أنهم يقولون: إنه يولد فينا رجل يقال له: موسى بن عمران يكون هلاك فرعون و أصحابه على يده، فقال فرعون عند ذلك: لأقتلن ذكور أولادهم حتى لا يكون ما يريدون، و فرق بين الرجال و النساء و حبس الرجال في المحابس.
فلما وضعت أم موسى بموسى نظرت إليه و حزنت عليه و اغتمت و بكت و قالت:
يذبح الساعة، فعطف الله الموكلة بها عليه فقالت لأم موسى: ما لك قد اصفر لونك؟ فقالت: أخاف أن يذبح ولدي، فقالت: لا تخافي، و كان موسى لا يراه أحد إلا أحبه و هو قول الله: ﴿وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ فأحبته القبطية الموكلة بها.
و في العلل، بإسناده عن ابن أبي عمير قال: قلت لموسى بن جعفر (عليه السلام): أخبرني عن قول الله عز و جل لموسى ﴿اِذْهَبَا إِلىَ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغىَ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً - لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى﴾ فقال: أما قوله: ﴿فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً﴾ أي كنياه و قولا له: يا أبا مصعب و كان كنية فرعون أبا مصعب الوليد بن مصعب، أما قوله: ﴿لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشىَ﴾ فإنما قال ليكون أحرص لموسى على الذهاب و قد علم الله عز و جل أن فرعون لا يتذكر و لا يخشى إلا عند رؤية البأس، أ لا تسمع الله عز و جل يقول: ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ اَلْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَ أَنَا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ﴾ ؟ فلم يقبل الله إيمانه و قال: ﴿آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ﴾ :.
أقول: و روى صدر الحديث في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم عن علي:. و تفسير القول اللين بالتكنية من قبيل ذكر بعض المصاديق لضرورة أنه لا ينحصر فيه.
و روى ذيل الحديث أيضا في الكافي، بإسناده عن عدي بن حاتم عن علي (عليه السلام) و فيه تأييد ما قدمنا أن لعل مستعملة في الآية للترجي.
[سورة طه (٢٠): الآیات ٤٩ الی ٧٩]
﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسىَ ٤٩ قَالَ رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطىَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىَ ٥٠ قَالَ فَمَا بَالُ اَلْقُرُونِ اَلْأُولىَ ٥١ قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَ لاَ يَنْسى ٥٢ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ مَهْداً وَ سَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ٥٣ كُلُوا وَ اِرْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي اَلنُّهى ٥٤ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَ فِيهَا نُعِيدُكُمْ وَ مِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرى ٥٥ وَ لَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَ أَبى ٥٦ قَالَ أَ جِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسى ٥٧ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً لاَ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لاَ أَنْتَ مَكَاناً سُوىً ٥٨ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ اَلزِّينَةِ وَ أَنْ يُحْشَرَ اَلنَّاسُ ضُحًى ٥٩ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى ٦٠ قَالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُوا عَلَى اَللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَ قَدْ خَابَ مَنِ اِفْتَرى ٦١ فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَ أَسَرُّوا اَلنَّجْوى ٦٢ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ﴾
﴿مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَ يَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ اَلْمُثْلى ٦٣ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ اِئْتُوا صَفًّا وَ قَدْ أَفْلَحَ اَلْيَوْمَ مَنِ اِسْتَعْلى ٦٤ قَالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى ٦٥ قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعى ٦٦ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى ٦٧ قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْأَعْلى ٦٨ وَ أَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَ لاَ يُفْلِحُ اَلسَّاحِرُ حَيْثُ أَتى ٦٩ فَأُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَ مُوسى ٧٠ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ اَلَّذِي عَلَّمَكُمُ اَلسِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاَفٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ اَلنَّخْلِ وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَ أَبْقى ٧١ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلىَ مَا جَاءَنَا مِنَ اَلْبَيِّنَاتِ وَ اَلَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا ٧٢ إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَ مَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ اَلسِّحْرِ وَ اَللَّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقى ٧٣ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَ لاَ يَحْيى ٧٤ وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ اَلصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ اَلدَّرَجَاتُ اَلْعُلى ٧٥ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَ ذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ٧٦ وَ لَقَدْ﴾
﴿أَوْحَيْنَا إِلىَ مُوسىَ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي اَلْبَحْرِ يَبَساً لاَ تَخَافُ دَرَكاً وَ لاَ تَخْشىَ ٧٧ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ اَلْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ٧٨ وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ مَا هَدى ٧٩﴾
(بيان)
فصل آخر من قصة موسى (عليه السلام) يذكر فيه خبر ذهاب موسى و هارون (عليه السلام) إلى فرعون و تبليغهما رسالة ربهما في نجاة بني إسرائيل، و قد فصل في الآيات خبر ذهابهما إليه و إظهارهما آيات الله و مقابلة السحرة و ظهور الحق و إيمان السحرة و أشير إجمالا إلى إسراء بني إسرائيل و شق البحر و اتباع فرعون لهم بجنوده و غرقهم.
قوله تعالى: ﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسىَ﴾ حكاية لمحاورة موسى و فرعون و قد علم مما نقله تعالى من أمره تعالى لهما أن يذهبا إلى فرعون و يدعواه إلى التوحيد و يكلماه في إرسال بني إسرائيل معهما، ما قالا له فهو محذوف و ما نقل من كلام فرعون جوابا دال عليه.
و يظهر مما نقل من كلام فرعون إنه علم بتعريفهما أنهما معا داعيان شريكان في الدعوة غير أن موسى هو الأصل في القيام بها و هارون وزيره و لذا خاطب موسى وحده و سأل عن ربهما معا. و قد وقع في كلمة الدعوة التي أمرا بأن يكلماه بها ﴿إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ لاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ﴾ إلخ، لفظ ﴿رَبِّكَ﴾ خطابا لفرعون مرتين و هو لا يرى لنفسه ربا بل يرى نفسه ربا لهما و لغيرهما كما قال في بعض كلامه المنقول منه: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ اَلْأَعْلىَ﴾ النازعات: ٢٤، و قال: ﴿لَئِنِ اِتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ اَلْمَسْجُونِينَ﴾ : الشعراء: ٢٩، فقوله: ﴿فَمَنْ رَبُّكُمَا﴾ و كان الحري بالمقام أن يقول فمن ربي الذي تدعيانه ربا لي؟ أو ما يقرب من ذلك يلوح إلى أنه يتغافل عن كونه سبحانه ربا له كأنه لم يسمع قولهما ﴿رَبِّكَ﴾ و يسأل عن ربهما الذي هما رسولان من عنده.
و كان من المسلم المقطوع عند الأمم الوثنيين أن خالق الكل حقيقة هي أعلى من أن يقدر بقدر و أعظم من أن يحيط به عقل أو وهم فمن المستحيل أن يتوجه إليه بعبادة أو يتقرب إليه بقربان فلا يؤخذ إلها و ربا بل الواجب التوجه إلى بعض مقربي خلقه بالعبادة و القربان ليقرب الإنسان من الله زلفى و يشفع له عنده فهؤلاء هم الآلهة و الأرباب و ليس الله سبحانه بإله و لا رب و إنما هو إله الآلهة و رب الأرباب فقول القائل: إن لي ربا إنما يعني به أحد الآلهة من دون الله و ليس يعني به الله سبحانه و لا يفهم ذلك من كلامه في محاوراتهم.
فقول فرعون: ﴿فَمَنْ رَبُّكُمَا﴾ ليس إنكارا لوجود خالق الكل و لا إنكار أن يكون له إله كما يظهر من قوله: ﴿وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ﴾ : الأعراف: ١٢٧، و إنما هو طلب منه للمعرفة بحال من اتخذاه إلها و ربا من هو غيره؟ و هذا معنى ما تقدم أن فرعون يتغافل في قوله هذا عن دعوتهما إلى الله سبحانه و هما في أول الدعوة فهو يقدر و لو كتقدير المتجاهل أن موسى و أخاه يدعوانه إلى بعض الآلهة التي يتخذ فيما بينهم ربا من دون الله فيسأل عنه، و قد كان من دأب الوثنيين التفنن في اتخاذ الآلهة يتخذ كل منهم من يهواه إلها و ربما بدل إلها من إله فتلك طريقتهم و سيأتي قول الملإ: ﴿وَ يَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ اَلْمُثْلىَ﴾ نعم، ربما تفوه عامتهم ببعض ما لا يوافق أصولهم كنسبة الخلق و التدبير إلى نفس الأصنام دون أربابها.
فمحصل مذهبهم أنهم ينزهون الله تعالى عن العبادة و التقرب و إنما يتقربون استشفاعا إليه ببعض خلقه كالملائكة و الجن و القديسين من البشر، و كان منهم الملوك العظام عند كثير منهم يرونهم مظاهر لعظمة اللاهوت فيعبدونهم في عرض سائر الآلهة و الأرباب و كان لا يمنع ذلك الملك الرب أن يتخذ إلها من الآلهة فيعبده فيكون عابدا لربه معبودا لغيره من الرعية كما كان رب البيت يعبد في بيته عند الروم القديم و كان أكثرهم من الوثنية الصابئة، فقد كان فرعون موسى ملكا متألها و هو يعبد الأصنام و هو الظاهر من خلال الآيات الكريمة.
و من هنا يظهر ما في أقوال كثير من المفسرين في أمره قال في روح المعاني،:
ذهب بعضهم إلى أن فرعون كان عارفا بالله تعالى إلا أنه كان معاندا و استدلوا عليه بعدة من الآيات. و بأن ملكه لم يتجاوز القبط و لم يبلغ الشام أ لا ترى أن موسى (عليه السلام)
[1] روح المعاني عن اللالكاني في كتاب السنة عن الحسن عن أمه عنها رض.
[2] نقل البحراني الحديث في غاية المرام بمائة من طرق أهل السنة و سبعين طريقاً من طرق الشيعة.
|