• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء الثالث عشر) ، تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده) .
                    • الموضوع : من ص 83 الى ص 164 .

من ص 83 الى ص 164

لِرَبِّهِ كَفُوراً قال في المجمع،: التبذير التفريق بالإسراف، و أصله أن يفرق كما يفرق البذر إلا أنه يختص بما يكون على سبيل الإفساد، و ما كان على وجه الإصلاح لا يسمى تبذيرا و إن كثر. انتهى.

و قوله: ﴿إِنَّ اَلْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ اَلشَّيَاطِينِ تعليل للنهي عن التبذير، و المعنى لا تبذر إنك إن تبذر كنت من المبذرين و المبذرون إخوان الشياطين، و كأن وجه المواخاة بينهم أن الواحد منهم يصير ملازما لشيطانه و بالعكس كالأخوين الذين هما شقيقان متلازمان في أصلهما الواحد كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَ قَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ: حم السجدة:

 ٢٥، و قوله: ﴿اُحْشُرُوا اَلَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْوَاجَهُمْ: الصافات: ٢٢ أي قرناءهم:

و قوله: ﴿وَ إِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي اَلغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ: الأعراف: ٢٠٢.

و من هنا يظهر أن تفسير من فسر الآية بأنهم قرناء الشياطين أحسن من قول من قال:

المعنى أنهم اتباع الشياطين سالكون سبيلهم.

و أما قوله: ﴿وَ كَانَ اَلشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً فالمراد بالشيطان فيه هو إبليس الذي هو أبو الشياطين و هم ذريته و قبيله و اللام حينئذ للعهد الذهني و يمكن أن يكون اللام للجنس و المراد به جنس الشيطان و على أي حال كونه كفورا لربه من جهة كفرانه بنعم الله حيث إنه يصرف ما آتاه من قوة و قدرة و استطاعة في سبيل إغواء الناس و حملهم على المعصية و دعوتهم إلى الخطيئة و كفران النعمة.

و قد ظهرت مما تقدم النكتة في جمع الشيطان أولا و إفراده ثانيا فإن الاعتبار أولا بأن كل مبذر أخو شيطانه الخاص فالجميع إخوان للشياطين و الاعتبار ثانيا بإبليس الذي هو أبو الشياطين أو بجنس الشيطان.

قوله تعالى: ﴿وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ اِبْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً أصله إن تعرض عنهم و «ما» زائدة للتأكيد و النون للتأكيد.

و السياق يشهد بأن الكلام في إنفاق الأموال فالمراد بقوله: ﴿وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ الإعراض عمن سأله شيئا من المال ينفقه له و يسد به خلته و ليس المراد به كل إعراض كيف اتفق بل الإعراض عند ما ليس عنده شي‏ء من المال يبذله له و ليس بآيس من

 

 

 

 وجدانه بدليل قوله: ﴿اِبْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا أي كنت تعرض عنهم لا لكونك مليئا بالمال شحيحا به، و لا لأنك فاقد له آيس من حصوله بل لأنك فاقد له مبتغ و طالب لرحمة من ربك ترجوها يعني الرزق.

و قوله: ﴿فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً أي سهلا لينا أي لا تغلظ في القول و لا تجف في الرد كما قال تعالى: ﴿وَ أَمَّا اَلسَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ: الضحى: ١٠ بل رده بقول سهل لين.

قال في الكشاف،: و قوله: ﴿اِبْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ إما أن يتعلق بجواب الشرط مقدما عليه أي فقل لهم قولا سهلا لينا و عدهم وعدا جميلا رحمة لهم و تطييبا لقلوبهم ابتغاء رحمة من ربك أي ابتغ رحمة الله التي ترجوها برحمتك عليهم، و إما أن يتعلق بالشرط أي و إن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجو أن يفتح لك فسمى الرزق رحمة فردهم ردا جميلا فوضع الابتغاء موضع الفقد لأن فاقد الرزق مبتغ له فكان الفقد سبب الابتغاء و الابتغاء مسببا عنه فوضع المسبب موضع السبب. انتهى.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ اَلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً جعل اليد مغلولة إلى العنق كناية عن الإمساك كمن لا يعطي و لا يهب شيئا لبخله و شح نفسه، و بسط اليد كل البسط كناية عن إنفاق الإنسان كل ما في وجده بحيث لا يبقى شيئا كمن يبسط يده كل البسط بحيث لا يستقر عليها شي‏ء ففي الكلام نهي بالغ عن التفريط و الإفراط في الإنفاق.

و قوله: ﴿فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً متفرع على قوله: ﴿وَ لاَ تَبْسُطْهَا إلخ و الحسر هو الانقطاع أو العرى أي و لا تبسط يدك كل البسط حتى يتعقب ذلك أن تقعد ملوما لنفسك و غيرك منقطعا عن واجبات المعاش أو عريانا لا تقدر على أن تظهر للناس و تعاشرهم و تراودهم.

و قيل: إن قوله: ﴿فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً متفرع على الجملتين لا على الجملة الأخيرة فحسب و المعنى إن أمسكت قعدت ملوما مذموما و إن أسرفت بقيت متحسرا مغموما.

و فيه أن كون قوله: ﴿وَ لاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ اَلْبَسْطِ ظاهرا في النهي عن التبذير و الإسراف غير معلوم و كذا كون إنفاق جميع المال في سبيل الله إسرافا و تبذيرا غير ظاهر و إن كان منهيا عنه بهذه الآية كيف و من المأخوذ في مفهوم التبذير أن يكون على

 

 

 

 وجه الإفساد، و وضع المال و لو كان كثيرا أو جميعه في سبيل الله و إنفاقه على من يستحقه ليس بإفساد له، و لا وجه للتحسر و الغم على ما لم يفسد و لا أفسد.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ظاهر السياق أن الآية في مقام التعليل لما تقدم في الآية السابقة من النهي عن الإفراط و التفريط في إنفاق المال و بذله.

و المعنى: أن هذا دأب ربك و سنته الجارية يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر لمن يشاء فلا يبسطه كل البسط و لا يمسك عنه كل الإمساك رعاية لمصلحة العباد إنه كان بعباده خبيرا بصيرا و ينبغي لك أن تتخلق بخلق الله و تتخذ طريق الاعتدال و تتجنب الإفراط و التفريط.

و قيل: إنها تعليل على معنى أن ربك يبسط و يقبض، و ذلك من الشئون الإلهية المختصة به تعالى، و ليس لك أن تتصف به و الذي عليك أن تقتصد من غير أن تعدل عنه إلى إفراط أو تفريط، و قيل في معنى التعليل غير ذلك، و هي وجوه بعيدة.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْأً كَبِيراً الإملاق‏ الفاقة و الفقر، و قال في المفردات،: الخطأ العدول عن الجهة و ذلك أضرب: أحدها أن تريد غير ما تحسن إرادته و فعله، و هذا هو الخطأ التام المأخوذ به الإنسان يقال: خطئ يخطأ و خطأة، قال تعالى: ﴿إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْأً كَبِيراً و قال: ﴿وَ إِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ و الثاني أن يريد ما يحسن فعله و لكن يقع منه خلاف ما يريد فيقال: أخطأ إخطاء فهو مخطئ و هذا قد أصاب في الإرادة و أخطأ في الفعل، و هذا المعنى بقوله: ﴿وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، و الثالث أن يريد ما لا يحسن فعله و يتفق منه خلافه فهذا مخطئ في الإرادة مصيب في الفعل فهو مذموم بقصده غير محمود على فعله.

و جملة الأمر أن من أراد شيئا فاتفق منه غيره يقال: أخطأ، و إن وقع منه كما أراده يقال: أصاب، و قد يقال لمن فعل فعلا لا يحسن أو أراد إرادة لا يجمل: أنه أخطأ، و لذا يقال: أصاب الخطأ و أخطأ الصواب و أصاب الصواب و أخطأ الخطأ ـ

 

 

 

و هذه اللفظة مشتركة كما ترى مترددة بين معان يجب لمن يتحرى الحقائق أن يتأملها. انتهى بتلخيص.

و في الآية نهي شديد عن قتل الأولاد خوفا من الفقر و الحاجة و قوله ﴿نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ تعليل للنهي و تمهيد لقوله بعده: ﴿إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْأً كَبِيراً.

و المعنى و لا تقتلوا أولادكم خوفا من أن تبتلوا بالفقر و الحاجة فيؤديهم ذلك إلى ذل السؤال أو ازدواج بناتكم من غير الأكفاء أو غير ذلك مما يذهب بكرامتكم فإنكم لستم ترزقونهم حتى تفقدوا الرزق عند فقركم و إعساركم بل نحن نرزقهم و إياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا.

و قد تكرر في كلامه تعالى النهي عن قتل الأولاد خوفا من الفقر و خشية من الإملاق، و هو مع كونه من قتل النفس المحترمة التي يبالغ كلامه تعالى في النهي عنه إنما أفرد بالذكر و اختص بنهي خاص لكونه من أقبح الشقوة و أشد القسوة، و لأنهم - كما قيل - كانوا يعيشون في أراضي يكثر فيها السنة و يسرع إليها الجدب فكانوا إذا لاحت لوائح الفاقة و الإعسار بجدب و غيره بادروا إلى قتل الأولاد خوفا من ذهاب الكرامة و العزة.

و في الكشاف،: قتلهم أولادهم هو وأدهم بناتهم كانوا يأدونهن خشية الفاقة و هي الإملاق فنهاهم الله و ضمن لهم أرزاقهم انتهى، و الظاهر خلاف ما ذكره و أن الآيات المتعرضة لوأد البنات آيات خاصة تصرح به و بحرمته كقوله تعالى: ﴿وَ إِذَا اَلْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ: التكوير: ٩، و قوله: ﴿وَ إِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارى مِنَ اَلْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي اَلتُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ: النحل: ٥٩.

و أما الآية التي نحن فيها و أترابها فإنها تنهى عن قتل الأولاد خشية إملاق، و لا موجب لحمل الأولاد على البنات مع كونه أعم، و لا حمل الهون على خوف الفقر مع كونهما متغايرين فالحق أن الآية تكشف عن سنة سيئة أخرى غير وأد البنات دفعا للهون و هي قتل الأولاد من ذكر و أنثى خوفا من الفقر و الفاقة و الآيات تنهى عنه.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَقْرَبُوا اَلزِّنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَ سَاءَ سَبِيلاً نهي عن الزنا و قد

 

 

 

 بالغ في تحريمه حيث نهاهم عن أن يقربوه، و علله بقوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً فأفاد أن الفحش صفة لازمة له لا يفارقه، و قوله: ﴿وَ سَاءَ سَبِيلاً فأفاد أنه سبيل سي‏ء يؤدي إلى فساد المجتمع في جميع شئونه حتى ينحل عقده و يختل نظامه و فيه هلاك الإنسانية و قد بالغ سبحانه في وعيد من أتى به حيث قال في صفات المؤمنين: ﴿وَ لاَ يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ اَلْعَذَابُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً: الفرقان: ٧٠.

«كلام في حرمة الزنا»

و هو بحث قرآني اجتماعي.

من المشهود أن في كل من الزوجين من الإنسان أعني الذكر و الأنثى إذا أدرك و صحت بنيته ميلا غريزيا إلى الآخر و ليس ذلك مما يختص بالإنسان بل ما نجده من عامة الحيوان أيضا على هذه الغريزة الطبيعية.

و قد جهز بحسب الأعضاء و القوى بما يدعوه إلى هذا الاقتراب و التمايل و التأمل في نوع تجهيز الصنفين لا يدع ريبا في أن هذه الشهوة الطبيعية وسيلة تكوينية إلى التوالد و التناسل الذي هو ذريعة إلى بقاء النوع، و قد جهز بأمور أخرى متممة لهذه البغية الطبيعية كحب الولد و تجهيز الأنثى من الحيوان ذي الثدي باللبن لتغذي طفلها حتى يستطيع التقام الغذاء الخشن و مضغه و هضمه فكل ذلك تسخير إلهي يتوسل به إلى بقاء النوع.

و لذلك نرى أن الحيوان مع عدم افتقاره إلى الاجتماع و المدنية لسذاجة حياته و قلة حاجته يهتدي حينا بعد حين بحسب غريزته إلى الاجتماع الزوجي السفاد ثم يلتزم الزوجان أو الأنثى منهما الطفل أو الفرخ و يتكفلان أو تتكفل الأنثى تغذيته و تربيته حتى يدرك و يستقل بإدارة رحى حياته.

و لذلك أيضا لم يزل الناس منذ ضبط التاريخ سيرهم و سننهم تجري فيهم سنة الازدواج التي فيها نوع من الاختصاص و الملازمة بين الرجل و المرأة لتجاب به داعية

 

 

 

 الغريزة و يتوسل به إلى إنسال الذرية، و هو أصل طبيعي لانعقاد المجتمع الإنساني فإن من الضروري أن الشعوب المختلفة البشرية على ما لها من السعة و الكثرة تنتهي إلى مجتمعات صغيرة منزلية انعقدت في سالف الدهور.

و ما مر من أن في سنة الازدواج شي‏ء من معنى الاختصاص هو المنشأ لما كان الرجال يعدون أهلهم إعراضا لأنفسهم و يرون الذب عن الأهل و صونها من تعرض غيرهم فريضة على أنفسهم كالذب عن أنفسهم أو أشد، و الغريزة الهائجة إذ ذاك هي المسماة بالغيرة و ليست بالحسد و الشح.

و لذلك أيضا لم يزالوا على مر القرون و الأجيال يمدحون النكاح و يعدونه سنة حسنة ممدوحة، و يستقبحون الزنا و هو المواقعة من غير علقة النكاح و يستشنعونه في الجملة و يعدونه إثما اجتماعيا و فاحشة أي فعلا شنيعا لا يجهر به و إن كان ربما وجد بين بعض الأقوام الهمجية في بعض الأحيان و على شرائط خاصة بين الحرائر و الشبان أو بين الفتيات من الجواري على ما ذكر في تواريخ الأمم و الأقوام.

و إنما استفحشوه و أنكروه لما يستتبعه من فساد الأنساب و قطع النسل و ظهور الأمراض التناسلية و دعوته إلى كثير من الجنايات الاجتماعية من قتل و جرح و سرقة و خيانة و غير ذلك و ذهاب العفة و الحياء و الغيرة و المودة و الرحمة.

غير أن المدنية الغربية الحديثة لابتنائها على التمتع التام من مزايا الحياة المادية و حرية الأفراد في غير ما تعتني به القوانين المدنية سواء فيه السنن القومية و الشرائع الدينية و الأخلاق الإنسانية أباحته إذا وقع من غير كره كيفما كان، و ربما أضيف إلى ذلك بعض شرائط جزئية أخرى في موارد خاصة، و لم تبال بما يستتبعه من وجوه الفساد عناية بحرية الأفراد فيما يهوونه و يرتضونه و القوانين الاجتماعية تراعي رأي الأكثرين.

فشاعت الفاحشة بين الرجال و النساء حتى عمت المحصنين و المحصنات و المحارم حتى كاد أن لا يوجد من لم يبتل به و كثر مواليدها كثرة كاد أن تثقل كفة الميزان و أخذت تضعف الأخلاق الكريمة التي كانت تتصف بها الإنسانية الطبيعية و ترتضيها لنفسه بتسنين سنة الازدواج من العفة و الغيرة و الحياء يوما فيوما حتى صار بعض هذه الفضائل أضحوكة و سخرية، و لو لا أن في ذكر الشنائع بعض الشناعة ثم في خلال الأبحاث القرآنية

 

 

 

 خاصة لأوردنا بعض ما نشرته المنشورات من الإحصاءات في هذا الباب.

و الشرائع السماوية على ما يذكره القرآن الكريم و قد مرت الإشارة إلى ذلك في تفسير الآيات ١٥١-١٥٣ من سورة الأنعام تنهى عن الزنا أشد النهي و قد كان محرما في ملة اليهود و يستفاد من الأناجيل حرمته.

و قد نهي عنه في الإسلام و عد من المعاصي الكبيرة و أغلظ في التحريم في المحارم كالأم و البنت و الأخت و العمة و الخالة، و في التحريم في الزنا، مع الإحصان‏ و هو زنا الرجل و له زوجة و المرأة ذات البعل، و قد أغلظ فيما شرع له من الحد و هو الجلد مائة جلدة و القتل في المرة الثالثة أو الرابعة لو أقيم الحد مرتين أو ثلاثا و الرجم في الزنا مع الإحصان.

و قد أشار سبحانه إلى حكمة التحريم فيما نهى عنه بقوله: ﴿وَ لاَ تَقْرَبُوا اَلزِّنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَ سَاءَ سَبِيلاً حيث عده أولا فاحشة ثم وصفه ثانيا بقوله: ﴿وَ سَاءَ سَبِيلاً و المراد و الله أعلم سبيل البقاء كما يستفاد من قوله: ﴿أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجَالَ وَ تَقْطَعُونَ اَلسَّبِيلَ: العنكبوت: ٢٩، أي و تتركون إتيان النساء الذي هو السبيل فتنقطع بذلك و ليس إلا سبيلا للبقاء من جهة تسببه إلى تولد المواليد و بقاء النسل بذلك، و من جهة أن الازدواج و عقد المجتمع المنزلي هو أقوى وسيلة يضمن بقاء المجتمع المدني بعد انعقاده.

فمع انفتاح باب الزنا لا تزال الرغبات تنقطع عن النكاح و الازدواج إذ لا يبقى له إلا محنة النفقة و مشقة حمل الأولاد و تربيتها و مقاساة الشدائد في حفظها و القيام بواجب حياتها و الغريزة تقنع من سبيل آخر من غير كد و تعب، و هو مشهود من حال الشبان و الفتيات في هذه البلاد، و قد قيل لبعضهم: لم لا تتزوج؟ فقال: و ما أصنع بالازدواج و كل نساء البلد نسائي، و لا يبقى حينئذ للازدواج و النكاح إلا شركة الزوجين في مساعي الحياة الجزئية غير التناسل كالشركة في تجارة أو عمل و يسرع إليهما الافتراق لأدنى عذر، و هذا كله مشهود اليوم في المجتمعات الغربية.

و من هنا أنهم يعدون الازدواج شركة في الحياة منعقدة بين الزوجين الرجل و المرأة و جعلوها هي الغاية المطلوبة بالذات من الازدواج دون الإنسال و تهيئة الأولاد و لا إجابة

 

 

 

 غريزة الميل الطبيعي بل عدوا ذلك من الآثار المترتبة عليه إن توافقا على ذلك و هذا انحراف عن سبيل الفطرة و التأمل في حال الحيوان على اختلاف أنواعه يهدي إلى أن الغاية المطلوبة منه عندها هو إرضاء الغريزة الهائجة و إنسال الذرية و كذا الإمعان في حال الإنسان أول ما يميل إلى ذلك يعطي أن الغاية القريبة الداعية إليه عنده هو إرضاء الغريزة و يعقبه طلب الولد.

و لو كانت الغريزة الإنسانية التي تدفعه إلى هذه السنة الطبيعية إنما تطلب الشركة في الحياة و التعاون على واجب المأكل و المشرب و الملبس و المسكن و ما هذا شأنه يمكن أن يتحقق بين رجلين أو بين امرأتين لظهر أثره في المجتمع البشري و استن عليه و لا أقل في بعض المجتمعات في طول تاريخ الإنسان و تزوج رجل برجل أحيانا أو امرأة بامرأة و لم تجر سنة الازدواج على وتيرة واحدة دائما و لم تقم هذه الرابطة بين طرفين أحدهما من الرجال و الآخر من النساء أبدا.

و من جهة أخرى أخذ مواليد الزنا في الإزدياد يوما فيوما يقطع منابت المودة و الرحمة و تعلق قلوب الأولاد بالآباء و يستوجب ذلك انقطاع المودة و الرحمة من ناحية الآباء بالنسبة إلى الأولاد و هجر المودة و الرحمة بين الطبقتين الآباء و الأولاد يقضي بهجر سنة الازدواج للمجتمع و فيه انقراضهم و هذا كله أيضا مما يلوح من المجتمعات الغربية.

و من التصور الباطل أن يتصور أن البشر سيوفق يوما أن يدير رحى مجتمعة بأصول فنية و طرق علمية من غير حاجة إلى الاستعانة بالغرائز الطبيعية فيهيأ يومئذ طبقة المواليد مع الاستغناء عن غريزة حب الأولاد بوضع جوائز تسوقهم إلى التوليد و الإنسال أو بغير ذلك كما هو معمول بعض الممالك اليوم فإن السنن القومية و القوانين المدنية تستمد في حياتها بما جهز به الإنسان من القوى و الغرائز الطبيعية فلو بطلت أو أبطلت انفصم بذلك عقد مجتمعة، و هيئة المجتمع قائمة بأفراده و سننه مبنية على إجابتهم لها و رضاهم بها و كيف تجري في مجتمع سنة لا ترتضيها قرائحهم و لا تستجيبها نفوسهم ثم يدوم الأمر عليه.

فهجر الغرائز الطبيعية و ذهول المجتمع البشري عن غاياته الأصلية يهدد الإنسانية بهلاك سيغشاها و يهتف بأن أمامهم يوما سيتسع فيه الخرق على الراقع و إن كان اليوم لا

 

 

 

 يحس به كل الإحساس لعدم تمام نمائه بعد.

ثم إن لهذه الفاحشة أثرا آخر سيئا في نظر التشريع الإسلامي و هو إفساده للأنساب و قد بني المناكح و المواريث في الإسلام عليها.

[بيان ]

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ إلى آخر الآية نهي عن قتل النفس المحترمة إلا بالحق أي إلا أن يكون قتلا بالحق بأن يستحق ذلك لقود أو ردة أو لغير ذلك من الأسباب الشرعية، و لعل في توصيف النفس بقوله: ﴿حَرَّمَ اَللَّهُ من غير تقييد إشارة إلى حرمة قتل النفس في جميع الشرائع السماوية فيكون من الشرائع العامة كما تقدمت الإشارة إليه في ذيل الآيات ١٥١-١٥٣ من سورة الأنعام.

و قوله: ﴿وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً المراد بجعل السلطان لوليه تسليطه شرعا على قتل قاتل وليه قصاصا و الضميران في ﴿فَلاَ يُسْرِفْ﴾ و ﴿إِنَّهُ﴾ للولي، و المراد بكونه منصورا هو التسليط الشرعي المذكور.

و المعنى و من قتل مظلوما فقد جعلنا بحسب التشريع لوليه و هو ولي دمه سلطنة على القصاص و أخذ الدية و العفو فلا يسرف الولي في القتل بأن يقتل غير القاتل أو يقتل أكثر من الواحد إنه كان منصورا أي فلا يسرف فيه لأنه كان منصورا فلا يفوته القاتل بسبب أنا نصرناه أو فلا يسرف اعتمادا على أنا نصرناه.

و ربما احتمل بعضهم رجوع الضمير في قوله: ﴿فَلاَ يُسْرِفْ إلى القاتل المدلول عليه بالسياق، و في قوله: ﴿إِنَّهُ إلى ﴿مَنْ و المعنى قد جعلنا لولي المقتول ظلما سلطنة فلا يسرف القاتل الأول بإقدامه على القتل ظلما فإن المقتول ظلما منصور من ناحيتنا لما جعلنا لوليه من السلطنة، و هو معنى بعيد من السياق و دونه إرجاع ضمير ﴿إِنَّهُ فقط إلى المقتول.

و قد تقدم كلام في معنى القصاص في ذيل قوله تعالى: ﴿وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصَاصِ حَيَاةٌ: البقرة: ١٧٩ في الجزء الأول من الكتاب.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَقْرَبُوا مَالَ اَلْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ نهي

 

 

 

عن أكل مال اليتيم و هو من الكبائر التي أوعد الله عليها النار قال تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اَلْيَتَامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً: النساء: ١٠.

و في النهي عن الاقتراب مبالغة لإفادة اشتداد الحرمة.

و قوله: ﴿إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي بالطريقة التي هي أحسن و فيه مصلحة إنماء ماله، و قوله: ﴿حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ هو أوان البلوغ و الرشد و عند ذلك يرتفع عنه اليتم فالتحديد بهذه الجملة لكون النهي عن القرب في معنى الأمر بالصيانة و الحفظ كأنه قيل: احتفظوا على ماله حتى يبلغ أشده فتردوه إليه، و بعبارة أخرى الكلام في معنى قولنا: لا تقربوا مال اليتيم ما دام يتيما، و قد تقدم بعض ما يناسب المقام في سورة الأنعام آية ١٥٢.

قوله تعالى: ﴿وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ اَلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُلاً أي مسئول عنه و هو من الحذف و الإيصال السائغ في الكلام، و قيل: المراد السؤال عن نفس العهد فإن من الجائز أن تتمثل الأعمال يوم القيامة فتشهد للإنسان أو عليه و تشفع له أو تخاصمه.

قوله تعالى: ﴿وَ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسْطَاسِ اَلْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً القسطاس‏ بكسر القاف و ضمها هو الميزان قيل: رومي معرب و قيل:

عربي، و قيل مركب في الأصل من القسط و هو العدل و طاس‏ و هو كفة الميزان و القسطاس المستقيم هو الميزان العادل لا يخسر في وزنه.

و قوله: ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً الخير هو الذي يجب أن يختاره الإنسان إذا تردد الأمر بينه و بين غيره، و التأويل‏ هو الحقيقة التي ينتهي إليها الأمر، و كون إيفاء الكيل و الوزن بالقسطاس المستقيم خيرا لما فيه من الاتقاء من استراق أموال الناس و اختلاسها من حيث لا يشعرون و جلب وثوقهم.

و كونهما أحسن تأويلا لما فيهما من رعاية الرشد و الاستقامة في تقدير الناس معيشتهم فإن معايشهم تقوم في التمتع بأمتعة الحياة على أصلين اكتساب الأمتعة الصالحة للتمتع و المبادلة على الزائد على قدر حاجتهم فهم يقدرون معيشتهم على قدر ما يسعهم أن يبذلوه من المال عينا أو قيمة، و على قدر ما يحتاجون إليه من الأمتعة المشتراة فإذا

 

 

 

 خسروا بالتطفيف و نقص الكيل و الوزن فقد اختلت عليهم الحياة من الجهتين جميعا، و ارتفع الأمن العام من بينهم.

و أما إذا أقيم الوزن بالقسط فقد أطل عليهم الرشد و استقامت أوضاعهم الاقتصادية بإصابة الصواب فيما قدروا عليه معيشتهم و اجتلب وثوقهم إلى أهل السوق و استقر بينهم الأمن العام.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً القراءة المشهورة ﴿لاَ تَقْفُ بسكون القاف و ضم الفاء من قفا يقفو قفوا إذا اتبعه و منه قافية الشعر لكونها في آخر المصراع تابعة لما تقدمها، و قرئ ﴿لاَ تَقْفُ بضم القاف و سكون الفاء من قاف بمعنى قفا، و لذلك نقل عن بعض أهل اللغة أن قاف مقلوب قفا مثل جبذ مقلوب جذب، و منه القيافة بمعنى اتباع أثر الأقدام.

و الآية تنهى عن اتباع ما لا علم به، و هي لإطلاقها تشمل الاتباع اعتقادا و عملا، و تتحصل في مثل قولنا: لا تعتقد ما لا علم لك به و لا تقل ما لا علم لك به و لا تفعل ما لا علم لك به لأن في ذلك كله اتباعا.

و في ذلك إمضاء لما تقضي به الفطرة الإنسانية و هو وجوب اتباع العلم و المنع عن اتباع غيره فإن الإنسان بفطرته الموهوبة لا يريد في مسير حياته باعتقاده أو عمله إلا أصابة الواقع و الحصول على ما في متن الخارج و المعلوم هو الذي يصح له أن يقول:

إنه هو، و أما المظنون و المشكوك و الموهوم فلا يصح فيها إطلاق القول بأنه هو فافهم ذلك.

و الإنسان بفطرته السليمة يتبع في اعتقاده ما يراه حقا و يجده واقعا في الخارج، و يتبع في عمله ما يرى نفسه مصيبا في تشخيصه، و ذلك فيما تيسر له أن يحصل العلم به، و أما فيما لا يتيسر له العلم به كالفروع الاعتقادية بالنسبة إلى بعض الناس و غالب الأعمال بالنسبة إلى غالب الناس فإن الفطرة السليمة تدفعه إلى اتباع علم من له علم بذلك و خبرة باعتبار علمه و خبرته علما لنفسه فيئول اتباعه في ذلك بالحقيقة اتباعا لعلمه بأن له علما

 

 

 

 و خبرة كما يرجع السالك و هو لا يعرف الطريق إلى الدليل لكن مع علمه بخبرته و معرفته، و يرجع المريض إلى الطبيب و مثله أرباب الحوائج إلى مختلف الصناعات المتعلقة بحوائجهم إلى أصحاب تلك الصناعات.

و يتحصل من ذلك أنه لا يتخطى العلم في مسير حياته بحسب ما تهدي إليه فطرته غير أنه يعد ما يثق به نفسه و يطمئن إليه قلبه علما و إن لم يكن ذاك اليقين الذي يسمى علما في صناعة البرهان من المنطق.

فله في كل مسألة ترد عليه إما علم بنفس المسألة و إما دليل علمي بوجوب العمل بما يؤديه و يدل عليه، و على هذا ينبغي أن ينزل قوله سبحانه ﴿وَ لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فاتباع الظن عن دليل علمي بوجوب اتباعه اتباع للعلم كاتباع العلم في مورد العلم.

فيئول المعنى إلى أنه يحرم الاقتحام على اعتقاد أو عمل يمكن تحصيل العلم به إلا بعد تحصيل العلم، و الاقتحام على ما لا يمكن فيه ذلك إلا بعد الاعتماد على دليل علمي يجوز الاقتحام و الورود و ذلك كأخذ الأحكام عن النبي و اتباعه و إطاعته فيما يأمر به و ينهى عنه عن قبل ربه و تناول المريض ما يأمر به الطبيب و الرجوع إلى أصحاب الصنائع فيما يرجع إلى صناعتهم فإن الدليل العلمي على عصمة النبي دليل علمي على مطابقة ما يخبر به أو ما يأمر به و ينهى عنه الواقع و أصابة من اتبعه الصواب، و الحجة العلمية على خبرة الطبيب في طبه و أصحاب الصناعات في صناعاتهم حجة علمية على أصابة من يرجع إليهم فيما يعمل به.

و لو لا كون الاقتحام على العمل عن حجة علمية على وجوب الاقتحام اقتحاما علميا لكانت الآية قاصرة عن الدلالة على مدلولها من رأس فإن الطريق إلى فهم مدلول الآية هو ظهورها اللفظي فيه، و الظهور اللفظي من الأدلة الظنية غير أنه حجة عن دليل علمي و هو بناء العقلاء على حجيته فلو كان غير ما تعلق العلم به بعينه مما لا علم به مطلقا لكان اتباع الظهور و منه ظهور نفس الآية منهيا عنه بالآية و كانت الآية ناهية عن اتباع نفسه فكانت ناقضة لنفسها.

و من هنا يظهر اندفاع ما أورده بعضهم في المقام كما عن الرازي في تفسيره أن العمل بالظن كثير في الفروع فالتمسك بالآية تمسك بعام مخصوص و هو لا يفيد إلا الظن

 

 

 

 فلو دلت على أن التمسك بالظن غير جائز لدلت على أن التمسك بها غير جائز فالقول بحجيتها يقضي إلى نفيه و هو غير جائز.

و فيه أن الآية تدل على عدم جواز اتباع غير العلم بلا ريب غير أن موارد العمل بالظن شرعا موارد قامت عليها حجة علمية فالعمل فيها بالحقيقة إنما هو عمل بتلك الحجج العلمية و الآية باقية على عمومها من غير تخصص، و لو سلم فالعمل بالعام المخصص فيما بقي من الأفراد سالمة عن التخصيص عمل بحجة عقلائية نظير العمل بالعام غير المخصص من غير فرق بينهما البتة.

و نظيره الاستشكال فيها بأن الطريق إلى فهم المراد من الآية هو ظهورها و الظهور طريق ظني فلو دلت الآية على حرمة اتباع غير العلم لدلت على حرمة الأخذ بظهور نفسها، و لازمها حرمة العمل بنفسها.

و يرده ما تقدمت الإشارة إليه أن اتباع الظهور اتباع لحجة علمية عقلائية و هي بناء العقلاء على حجيته فليس اتباعه من اتباع غير العلم بشي‏ء.

و قوله: ﴿إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً تعليل للنهي السابق في قوله: ﴿وَ لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ.

و الظاهر المتبادر إلى الذهن، أن الضميرين في ﴿كَانَ عَنْهُ راجعان إلى ﴿كُلُّ فيكون ﴿عَنْهُ نائب فاعل لقوله: ﴿مَسْؤُلاً مقدما عليه كما ذكره الزمخشري في الكشاف، أو مغنيا عن نائب الفاعل، و قوله: ﴿أُولَئِكَ إشارة إلى السمع و البصر و الفؤاد، و إنما عبر عنها بأولئك المختص بالعقلاء لأن كون كل منها مسئولا عنه يجريه مجرى العقلاء و هو كثير النظير في كلامه تعالى.

و ربما منع بعضهم كون «أولئك» مختصا بالعقلاء استنادا إلى قول جرير:

ذم المنازل بعد منزلة اللوى *** و العيش بعد أولئك الأيام

 و على ذلك فالمسئول هو كل من السمع و البصر و الفؤاد يسأل عن نفسه فيشهد للإنسان أو عليه كما قال تعالى: ﴿وَ تُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ: يس: ٦٥.

 

 

 

 و اختار بعضهم رجوع ضمير ﴿عَنْهُ إلى ﴿كُلُّ و عود باقي الضمائر إلى القافي المدلول عليه في الكلام فيكون المسئول هو القافي يسأل عن سمعه و بصره و فؤاده كيف استعملها؟ و فيما استعملها؟ و عليه ففي الكلام التفات عن الخطاب إلى الغيبة، و كان الأصل أن يقال: كنت عنه مسئولا. و هو بعيد.

و المعنى: لا تتبع ما ليس لك به علم لأن الله سبحانه سيسأل عن السمع و البصر و الفؤاد و هي الوسائل التي يستعملها الإنسان لتحصيل العلم، و المحصل من التعليل بحسب انطباقه على المورد أن السمع و البصر و الفؤاد إنما هي نعم آتاها الله الإنسان ليشخص بها الحق و يحصل بها على الواقع فيعتقد به و يبني عليه عمله و سيسأل عن كل منها هل أدرك ما استعمل فيه إدراكا علميا؟ و هل اتبع الإنسان ما حصلته تلك الوسيلة من العلم؟.

فيسأل السمع هل كان ما سمعه معلوما مقطوعا به؟ و عن البصر هل كان ما رآه ظاهرا بينا؟ و عن الفؤاد هل كان ما فكره و قضى به يقينيا لا شك فيه؟ و هي لا محالة تجيب بالحق و تشهد على ما هو الواقع فمن الواجب على الإنسان أن يتحرز عن اتباع ما ليس له به علم فإن الأعضاء و وسائل العلم التي معه ستسأل فتشهد عليه فيما اتبعه مما حصلته و لم يكن له به علم و لا يقبل حينئذ له عذر.

و مآله إلى نحو من قولنا: لا تقف ما ليس لك به علم فإنه محفوظ عليك في سمعك و بصرك و فؤادك، و الله سائلها عن عملك لا محالة، فتكون الآية في معنى قوله تعالى:

﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصَارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - إلى أن قال - ﴿وَ مَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لاَ أَبْصَارُكُمْ وَ لاَ جُلُودُكُمْ وَ لَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اَللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَ ذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ اَلَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ: حم السجدة - ٢٠-٢٣ و غيرها من آيات شهادة الأعضاء.

غير أن الآية تزيد عليها بعد الفؤاد من الشهداء على الإنسان و هو الذي به يشعر الإنسان ما يشعر و يدرك ما يدرك، و هو من أعجب ما يستفاد من آيات الحشر أن يوقف الله النفس الإنسانية فيسألها عما أدركت فتشهد على الإنسان نفسه.

 

 

 

 و قد تبين أن الآية تنهى عن الإقدام على أمر مع الجهل به سواء كان اعتقادا مع الجهل أو عملا مع الجهل بجوازه و وجه الصواب فيه أو ترتيب أثر لأمر مع الجهل به و ذيلها يعلل ذلك بسؤاله تعالى السمع و البصر و الفؤاد، و لا ضير في كون العلة أعم مما عللتها فإن الأعضاء مسئولة حتى عما إذا أقدم الإنسان مع العلم بعدم جواز الإقدام قال تعالى: ﴿اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْوَاهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ الآية.

قال في المجمع، في معنى قوله: ﴿وَ لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ: معناه لا تقل:

سمعت و لم تسمع و لا رأيت و لم تر و لا علمت و لم تعلم عن ابن عباس و قتادة، و قيل:

معناه لا تقل في قفا غيرك كلاما أي إذا مر بك فلا تغتبه عن الحسن، و قيل: هو شهادة الزور عن محمد بن الحنفية.

و الأصل أنه عام في كل قول أو فعل أو عزم يكون على غير علم فكأنه سبحانه قال: لا تقل إلا ما تعلم أنه يجوز أن يقال، و لا تفعل إلا ما تعلم أنه يجوز أن يفعل و لا تعتقد إلا ما تعلم أنه مما يجوز أن يعتقد انتهى.

و فيه أن الذي ذكره أعم مما تفيده الآية فإنها تنهى عن اقتفاء ما لا علم به لا عن الاقتفاء إلا مع العلم و الثاني أعم من الأول فإنه يشمل النهي عن الاقتفاء مع العلم بعدم الجواز لكن الأول إنما يشمل النهي عن الاقتفاء مع الجهل بوجه الاعتقاد أو العمل:

و أما ما نقله من الوجوه في أول كلامه فالأحرى بها أن يذكر في تفسير التعليل بعنوان الإشارة إلى بعض المصاديق دون المعلل.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَمْشِ فِي اَلْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ اَلْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ اَلْجِبَالَ طُولاً المرح‏ شدة الفرح بالباطل كما قيل و لعل التقييد بالباطل للدلالة على خروجه عن حد الاعتدال فإن الفرح الحق هو ما يكون ابتهاجا بنعمة من نعم الله شكرا له و هو لا يتعدى حد الاعتدال، و أما إذا فرح و اشتد منه ذلك حتى خف عقله و ظهر آثاره في أفعاله و أقواله و قيامه و قعوده و خاصة في مشيه فهو من الباطل.

و قوله: ﴿وَ لاَ تَمْشِ فِي اَلْأَرْضِ مَرَحاً نهي عن استعظام الإنسان نفسه بأكثر مما هو عليه لمثل البطر و الأشر و الكبر و الخيلاء، و إنما ذكر المشي في الأرض مرحا لظهور ذلك فيه.

 

 

 

و قوله: ﴿إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ اَلْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ اَلْجِبَالَ طُولاً كناية عن أن فعالك هذا و أنت تريد به إظهار القدرة و القوة و العظمة إنما هو وهم تتوهمه فإن هناك ما هو أقوى منك لا يخترق بقدميك و هي الأرض و ما هو أطول منك و هي الجبال فاعترف بذلك أنك وضيع مهين فلا شي‏ء مما يبتغيه الإنسان و يتنافس فيه في هذه النشأة من ملك و عزة و سلطنة و قدرة و سؤدد و مال و غيرها إلا أمور وهمية لا حقيقة لها وراء الإدراك الإنساني سخر الله النفوس للتصديق بها و الاعتماد في العمل عليها لتعمير النشأة و تمام الكلمة، و لو لا هذه الأوهام لم يعش الإنسان في الدنيا و لا تمت كلمته تعالى: ﴿وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إِلى حِينٍ: البقرة: ٣٦.

قوله تعالى: ﴿كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً الإشارة بذلك إلى ما تقدم من الواجبات و المحرمات كما قيل و الضمير في ﴿سَيِّئُهُ يرجع إلى ذلك، و المعنى كل ما تقدم كان سيئه و هو ما نهي عنه و كان معصية من بين المذكورات عند ربك مكروها لا يريده الله تعالى.

و في غير القراءة المعروفة «سيئة» بفتح الهمزة و التاء في آخرها و هي على هذه القراءة خبر كان و المعنى واضح.

قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ اَلْحِكْمَةِ ذلك إشارة إلى ما تقدم من تفصيل التكاليف و في الآية إطلاق الحكمة على الأحكام الفرعية و يمكن أن يكون لما تشتمل عليه من المصالح المستفادة إجمالا من سابق الكلام.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَجْعَلْ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً كرر سبحانه النهي عن الشرك و قد نهى عنه سابقا اعتناء بشأن التوحيد و تفخيما لأمره، و هو كالوصلة يتصل به لاحق الكلام بسابقه، و معنى الآية ظاهر.

بحث روائي

 في الإحتجاج، عن بريد بن عمير بن معاوية الشامي عن الرضا (عليه السلام): في حديث يذكر فيه الجبر و التفويض و الأمر بين أمرين قال: قلت له: و هل لله مشية و إرادة في ذلك

 

 

 

 يعني فعل العبد فقال: أما الطاعات فإرادة الله و مشيته فيها الأمر بها و الرضا لها و المعاونة لها و مشيته في المعاصي النهي عنها و السخط بها و الخذلان عليها الحديث.

 و في تفسير العياشي، عن أبي ولاد الحناط قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: ﴿وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً فقال: الإحسان أن تحسن صحبتهما و لا تكلفهما أن يسألاك شيئا مما يحتاجان إليه و إن كانا مستغنيين أ ليس الله يقول: ﴿لَنْ تَنَالُوا اَلْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ؟ ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام) أما قوله: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ اَلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ قال: إن أضجراك فلا تقل لهما أف و لا تنهرهما إن ضرباك، و قال ﴿وَ قُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً قال: تقول لهما: غفر الله لكما فذلك منك قول كريم، و قال:

﴿وَ اِخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ اَلذُّلِّ مِنَ اَلرَّحْمَةِ قال: لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلا برحمة و رقة و لا ترفع صوتك فوق أصواتهما و لا يديك فوق أيديهما، و لا تتقدم قدامهما:

أقول: و رواه الكليني في الكافي، بإسناده عن أبي ولاد الحناط عنه (عليه السلام).

 و في الكافي، بإسناده عن حديد بن حكيم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أدنى العقوق أف، و لو علم الله عز و جل شيئا أهون منه لنهى عنه:

أقول: و رواه عنه أيضا بسند آخر و روى هذا المعنى أيضا بإسناده عن أبي البلاد عنه (عليه السلام) و رواه العياشي في تفسيره، عن حريز عنه (عليه السلام)، و الطبرسي في مجمع البيان، عن الرضا عن أبيه عنه (عليه السلام). و الروايات في وجوب بر الوالدين و حرمة عقوقهما في حياتهما و بعد مماتهما من طرق العامة و الخاصة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أئمة أهل بيته (عليه السلام) أكثر من أن تحصى.

 و في المجمع، عن أبي عبد الله (عليه السلام): الأواب التواب المتعبد الراجع عن ذنبه.

 و في تفسير العياشي، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يا با محمد عليكم بالورع و الاجتهاد و أداء الأمانة و صدق الحديث و حسن الصحبة لمن صحبكم و طول السجود، و كان ذلك من سنن التوابين الأوابين. قال أبو بصير: الأوابون التوابون.

 أقول: و روي أيضا عن أبي بصير عنه (عليه السلام): في معنى الآية هم التوابون المتعبدون.

 

 

 

 و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و هناد عن علي بن أبي طالب قال: إذا مالت الأفياء و راحت الأرواح فاطلبوا الحوائج إلى الله فإنها ساعة الأوابين و قرأ ﴿فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً.

 و فيه، أخرج ابن حريز عن علي بن الحسين رضي الله عنه: أنه قال لرجل من أهل الشام: أ قرأت القرآن؟ قال: نعم قال: أ فما قرأت في بني إسرائيل: ﴿وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ قال. و إنكم للقرابة الذي أمر الله أن يؤتى حقه؟ قال: نعم:

أقول: و رواه في البرهان، عن الصدوق بإسناده عنه (عليه السلام) و عن الثعلبي في تفسيره، عن السدي عن ابن الديلمي عنه (عليه السلام).

 و في تفسير العياشي، عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله: ﴿وَ لاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً قال: من أنفق شيئا في غير طاعة الله فهو مبذر، و من أنفق في سبيل الخير فهو مقتصد.

و فيه، عن أبي بصير عنه (عليه السلام): في الآية قال: بذل الرجل ماله و يقعد ليس له مال قلت: فيكون تبذير في حلال؟ قال: نعم.

 و في تفسير القمي، قال: قال الصادق (عليه السلام): المحسور العريان.

 و في الكافي، بإسناده عن عجلان قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فجاء سائل فقام إلى مكتل فيه تمر فملأ يده فناوله ثم جاء آخر فسأله فقام فأخذه بيده فناوله ثم آخر فقال: الله رازقنا و إياك.

ثم قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان لا يسأله أحد من الدنيا شيئا إلا أعطاه فأرسلت إليه امرأة ابنا لها فقالت: فاسأله فإن قال: ليس عندنا شي‏ء فقل: أعطني قميصك قال: فأخذ قميصه فرماه إليه و في نسخة أخرى: و أعطاه فأدبه الله تبارك و تعالى على القصد فقال: ﴿وَ لاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ اَلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً قال: الإحسار الفاقة:

أقول: و رواه العياشي في تفسيره، عن عجلان عنه (عليه السلام)، و روى قصة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) القمي في تفسيره، و رواها في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم عن المنهال بن عمرو و عن

 

 

 

 ابن جرير الطبري عن ابن مسعود.

 و في الكافي، بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: علم الله عز اسمه نبيه كيف ينفق؟ و ذلك أنه كانت عنده أوقية من الذهب فكره أن يبيت عنده فتصدق بها فأصبح و ليس عنده شي‏ء و جاء من يسأله فلم يكن عنده ما يعطيه فلامه السائل و اغتم هو حيثما لم يكن عنده شي‏ء و كان رحيما رقيقا فأدب الله عز و جل نبيه بأمره فقال: ﴿وَ لاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ اَلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً يقول: إن الناس قد يسألونك و لا يعذرونك فإذا أعطيت جميع ما عندك من المال قد كنت حسرت من المال.

 و في تفسير العياشي، عن ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: ﴿وَ لاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ قال: فضم يده و قال: هكذا فقال: ﴿وَ لاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ اَلْبَسْطِ فبسط راحته و قال: هكذا.

 و في تفسير القمي، عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: قلت: و ما الإملاق؟ قال: الإفلاس.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة: في قوله: ﴿وَ لاَ تَقْرَبُوا اَلزِّنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً قال قتادة عن الحسن أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يقول: لا يزني العبد حين يزني و هو مؤمن، و لا يبهت حين يبهت و هو مؤمن، و لا يسرق حين يسرق و هو مؤمن، و لا يشرب الخمر حين يشربها و هو مؤمن، و لا يغل حين يغل و هو مؤمن قيل: يا رسول الله و الله إن كنا لنرى أنه يأتي ذلك و هو مؤمن فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إذا فعل شيئا من ذلك نزع الإيمان من قلبه فإن تاب تاب الله عليه.

أقول: و الحديث مروي بطرق أخرى عن عائشة و أبي هريرة و قد ورد من طرق أهل البيت (عليه السلام) أن روح الإيمان يفارقه إذ ذاك.

 و في الكافي، بإسناده عن إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): إن الله عز و جل يقول في كتابه: ﴿وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً - فَلاَ يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً فما هذا الإسراف الذي نهى الله عنه؟ قال: نهى أن يقتل

 

 

 

 غير قاتله أو يمثل بالقاتل. قلت: فما معنى ﴿إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً قال: و أي نصرة أعظم من أن يدفع القاتل إلى أولياء المقتول فيقتله و لا تبعة يلزمه في قتله في دين و لا دنيا.

 و في تفسير العياشي، عن أبي العباس قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين قتلا رجلا فقال: يخير وليه أن يقتل أيهما شاء و يغرم الباقي نصف الدية أعني دية المقتول فيرد على ذريته، و كذلك إن قتل رجل امرأة إن قبلوا دية المرأة فذاك و إن أبى أولياؤها إلا قتل قاتلها غرموا نصف دية الرجل و قتلوه و هو قول الله: ﴿فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ.

 أقول: و في معنى هاتين الروايتين غيرهما، و قد روي في الدر المنثور، عن البيهقي في سننه عن زيد بن أسلم :أن الناس في الجاهلية كانوا إذا قتل الرجل من القوم رجلا لم يرضوا حتى يقتلوا به رجلا شريفا إذا كان قاتلهم غير شريف لم يقتلوا قاتلهم و قتلوا غيره فوعظوا في ذلك بقول الله: ﴿وَ لاَ تَقْتُلُوا إلى قوله ﴿فَلاَ يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ. و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿وَ زِنُوا بِالْقِسْطَاسِ اَلْمُسْتَقِيمِ:

 و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: القسطاس المستقيم هو الميزان الذي له لسان.

 أقول: و ذكر اللسان للدلالة على الاستقامة فإن الميزان ذا الكفتين كذلك.

 و في تفسير العياشي، عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى فرض الإيمان على جوارح بني آدم و قسمه عليها فليس من جوارحه جارحة إلا و قد وكلت من الإيمان بغير ما وكلت به أختها فمنها عيناه اللتان ينظر بهما و رجلاه اللتان يمشي بهما.

ففرض على العين أن لا تنظر إلى ما حرم الله عليه و أن تغض عما نهاه الله عنه مما لا يحل و هو عمله و هو من الإيمان، قال الله تبارك و تعالى: ﴿وَ لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً فهذا ما فرض من غض البصر عما حرم الله و هو عمله و هو من الإيمان.

و فرض الله على الرجلين أن لا يمشي بهما إلى شي‏ء من معاصي الله و الله فرض عليهما المشي فيما فرض الله فقال: ﴿وَ لاَ تَمْشِ فِي اَلْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ اَلْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ

 

 

 

 اَلْجِبَالَ طُولاً قال: ﴿وَ اِقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اُغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ اَلْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ اَلْحَمِيرِ:

أقول: و رواه في الكافي، بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عنه (عليه السلام) في حديث مفصل.

 و فيه، عن أبي جعفر قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له رجل: بأبي أنت و أمي إني أدخل كنيفا لي و لي جيران و عندهم جوار يغنين و يضربن بالعود فربما أطيل الجلوس استماعا مني لهن فقال: لا تفعل فقال الرجل و الله ما أتيتهن إنما هو سماع أسمعه بأذني.

فقال له: أ ما سمعت الله يقول: ﴿إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً قال بلى و الله فكأني لم أسمع هذه الآية قط من كتاب الله من عجمي و لا عربي لا جرم أني لا أعود إن شاء الله و أني أستغفر الله.

فقال: قم و اغتسل و صل ما بدا لك فإنك كنت مقيما على أمر عظيم ما كان أسوأ حالك لو مت على ذلك أحمد الله و اسأله التوبة من كل ما يكره فإنه لا يكره إلا كل قبيح، و القبيح دعه لأهله فإن لكل أهلا:

أقول: و رواه الشيخ في التهذيب، عنه (عليه السلام) و الكليني في الكافي، عن مسعدة بن زياد عنه (عليه السلام). و فيه، عن الحسين بن هارون عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: ﴿إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً قال: يسأل السمع عما يسمع و البصر عما يطرف و الفؤاد عما يعقد عليه. و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ الآية قال:

قال: لا تؤم أحدا مما ليس لك به علم. قال: قال رسول الله (عليه السلام): من بهت مؤمنا أو مؤمنة أقيم في طينة خبال أو يخرج مما قال.

أقول: و فسرت طينة خبال في رواية ابن أبي يعفور عن الصادق (عليه السلام) على ما في الكافي، بأنها صديد يخرج من فروج المومسات و روي من طرق أهل السنة ما يقرب منها عن أبي ذر و أنس عنه (ص).

 

 

 

و الروايات كما ترى بعضها مبني على خصوص مورد الآية و بعضها على عموم التعليل كما أشير إليه في البيان المتقدم.

[سورة الإسراء (١٧): الآیات ٤٠ الی ٥٥]

﴿أَ فَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اِتَّخَذَ مِنَ اَلْمَلاَئِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً ٤٠ وَ لَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا اَلْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَ مَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً ٤١ قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَبْتَغَوْا إِلى ذِي اَلْعَرْشِ سَبِيلاً ٤٢ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً ٤٣ تُسَبِّحُ لَهُ اَلسَّمَاوَاتُ اَلسَّبْعُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ٤٤ وَ إِذَا قَرَأْتَ اَلْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً ٤٥ وَ جَعَلْنَا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَ إِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي اَلْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً ٤٦ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَ إِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ اَلظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً ٤٧ اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ اَلْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ٤٨ وَ قَالُوا أَ إِذَا كُنَّا عِظَاماً وَ رُفَاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ٤٩ قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً ٥٠ أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ اَلَّذِي   

 

 

 

﴿فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَ يَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً ٥١ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً ٥٢ وَ قُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا اَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ اَلشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ اَلشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِيناً ٥٣ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ٥٤ وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ اَلنَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَ آتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً ٥٥ 

بيان‏

في الآيات تعقيب مسألة التوحيد و توبيخ المشركين على اتخاذهم الآلهة و نسبة الملائكة الكرام إلى الأنوثية، و أنهم لا يتذكرون بما يلقي إليهم القرآن من حجج الوحدانية، و لا يفقهون الآيات بل يستهزءون بالرسول و بما يلقى إليهم من أمر البعث و يسيئون القول في أمر الله و غير ذلك.

قوله تعالى: ﴿أَ فَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اِتَّخَذَ مِنَ اَلْمَلاَئِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً الإصفاء الإخلاص قال في المجمع،: تقول: أصفيت فلانا بالشي‏ء إذا آثرته به. انتهى.

خطاب لمن يقول منهم: إن الملائكة بنات الله أو بعضهم بنات الله و الاستفهام للإنكار، و لعله بدل البنات من الإناث لكونهم يعدون الأنوثة من صفات الخسة.

و المعنى إذا كان سبحانه ربكم لا رب غيره و هو الذي يتولى أمر كل شي‏ء فهل تقولون إنه آثركم بكرامة لم يتكرم به هو نفسه و هو أنه خصكم بالبنين و لم يتخذ لنفسه من الولد إلا الإناث و هم الملائكة الكرام الذين تزعمون أنهم إناث إنكم لتقولون

 

 

 

 قولا عظيما من حيث استتباعه التبعة السيئة.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا اَلْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَ مَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً قال في المفردات،: الصرف‏ رد الشي‏ء من حالة إلى حالة أو إبداله بغيره. قال: و التصريف كالصرف إلا في التكثير، و أكثر ما يقال في صرف الشي‏ء من حالة إلى حالة و من أمر إلى أمر، و تصريف الرياح هو صرفها من حال إلى حال قال تعالى: ﴿وَ صَرَّفْنَا الآيات ﴿وَ صَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ اَلْوَعِيدِ و منه تصريف الكلام و تصريف الدراهم. انتهى.

و قال: النفر الانزعاج من الشي‏ء و إلى الشي‏ء كالفزع إلى الشي‏ء و عن الشي‏ء يقال:

نفر عن الشي‏ء نفورا قال تعالى: ﴿مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً ﴿وَ مَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً انتهى.

فقوله: ﴿وَ لَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا اَلْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا معناه بشهادة السياق: و أقسم لقد رددنا الكلام معهم في أمر التوحيد و نفي الشريك من وجه إلى وجه و حولناه من لحن إلى لحن في هذا القرآن فأوردناه بمختلف العبارات و بيناه بأقسام البيانات ليتذكروا و يتبين لهم الحق.

و قوله: ﴿وَ مَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً أي ما يزيدهم التصريف إلا انزعاجا كلما استؤنف جي‏ء ببيان جديد أورثهم نفرة جديدة.

و في الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة تنبيها على أنهم غير صالحين للخطاب و التكليم بعد ما كان حالهم هذا الحال.

قال في المجمع،: فإن قيل: إذا كان المعلوم أنهم يزدادون النفور عند إنزال القرآن فما المعنى في إنزاله؟ و ما وجه الحكمة فيه؟ قيل: الحكمة فيه إلزام الحجة و قطع المعذرة في إظهار الدلائل التي تحسن التكليف، و إنه يصلح عند إنزاله جماعة ما كانوا يصلحون عند عدم إنزاله، و لو لم ينزل لكان هؤلاء الذين ينفرون عن الإيمان يفسدون بفساد أعظم من هذا النفور فالحكمة اقتضت إنزاله لهذه المعاني، و إنما ازدادوا نفورا عند مشاهدة الآيات و الدلائل لاعتقادهم أنها شبه و حيل و قلة تفكرهم فيها. انتهى.

و قوله: إنه لو لم ينزل لكانوا يفسدون بفساد أعظم من النفور لا يخلو من شي‏ء فإن

 

 

 

 ازدياد النفور يبلغ بهم إلى الجحود و معاندة الحق و الصد عنه و لا فساد أعظم منه في باب الدعوة.

لكن ينبغي أن يعلم أن الكفر و الجحود و النفور عن الحق و العناد معه كما كانت تضر أصحابها و يوردهم مورد الهلاك فهي تنفع أرباب الإيمان و الرضا بالحق و التسليم له إذ لو لم يتحقق لهذه الخصال الحسنة و الصفات الجميلة مقابلات لم تتحقق لها كينونة فافهم ذلك.

فمن الواجب في الحكمة أن تتم الحجة ثم تزيد في تمامها حتى يظهر من الشقي كل ما في وسعه من الشقاء، و يتخذ السعداء بمختلف مساعيهم من الدرجات ما يحاذي دركات الأشقياء و قد قال تعالى: ﴿كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاَءِ وَ هَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَ مَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً: الآية: ٢٠ من السورة.

قوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَبْتَغَوْا إِلى ذِي اَلْعَرْشِ سَبِيلاً أعرض عن مخاطبتهم فصرف الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بأمره أن يكلمهم في أمر التوحيد و نفي الشريك. و الذي يقولون به أن هناك آلهة دون الله يتولون جهات التدبير في العالم على اختلاف مراتبهم و الواحد منهم رب لما يدبره كإله السماء و إله الأرض و إله الحرب و إله قريش.

و إذ كانوا شركاء من جهة التدبير لكل واحد منهم الملك على حسب ربوبيته و الملك من توابع الخلق الذي يختص به سبحانه حتى على معتقدهم‏[1] كان الملك مما يقبل في نفسه أن يقوم به غيره تعالى و حب الملك و السلطنة ضروري لكل موجود كانوا بالضرورة طالبين أن ينازعوه في ملكه و ينتزعوه من يده حتى ينفرد الواحد منهم بالملك و السلطنة، و يتعين بالعزة و الهيمنة تعالى الله عن ذلك.

فملخص الحجة أنه لو كان معه آلهة كما يقولون و كان يمكن أن ينال غيره تعالى شيئا من ملكه الذي هو من لوازم ذاته الفياضة لكل شي‏ء و حب الملك و السلطنة مغروز

 

 

 

 في كل موجود بالضرورة لطلب أولئك الآلهة أن ينالوا ملكه فيعزلوه عن عرشه و يزدادوا ملكا على ملك لحبهم ذلك ضرورة لكن لا سبيل لأحد إليه تعالى عن ذلك.

فقوله: ﴿إِذاً لاَبْتَغَوْا إِلى ذِي اَلْعَرْشِ سَبِيلاً أي طلبوا سبيلا إليه ليغلبوه على ما له من الملك، و التعبير عنه تعالى بذي العرش و هو من الصفات الخاصة بالملك للدلالة على أن ابتغاءهم السبيل إليه إنما هو لكونه ذا العرش و هو ابتغاء سبيل إلى عرشه ليستقروا عليه.

و من هنا يظهر أن قول بعضهم إن الحجة في الآية هي في معنى الحجة التي في قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللَّهُ لَفَسَدَتَا الآية: الأنبياء: ٢٢ في غير محله.

و ذلك أن الحجتين مختلفتان في مقدماتهما فالحجة التي في الآية التي نحن فيها تسلك إلى نفي الشريك من جهة ابتغاء الآلهة السبيل إلى ذي العرش و طلبهم الغلبة عليه بانتزاع الملك منه، و التي في آية الأنبياء تسلك من جهة أن اختلاف الآلهة في ذواتهم يؤدي إلى اختلافهم في التدبير و ذلك يؤدي إلى فساد النظام فالحق أن الحجة التي فيما نحن فيه غير الحجة التي في آية الأنبياء، و التي تقرب من حجة آية الأنبياء ما في قوله: ﴿إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَ لَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ: المؤمنون: ٩١.

و كذا ما نقل عن بعض قدماء المفسرين: أن المراد من ابتغائهم سبيلا إلى ذي العرش طلبهم التقرب و الزلفى منه لعلوه عليهم، و تقريب الحجة أنه لو كان معه آلهة كما يقولون لطلبوا التقرب منه تعالى و الزلفى لديه لعلمهم بعلوه و عظمته، و الذي كان حاله هذا الحال لا يكون إلها فليسوا بآلهة.

في غير محله لشهادة السياق على خلافه كوصفه تعالى بذي العرش و قوله بعد:

﴿سُبْحَانَهُ وَ تَعَالى عَمَّا يَقُولُونَ إلخ فإنه ظاهر في أن لما قدروه من ثبوت الآلهة المستلزم لابتغائهم سبيلا إلى الله محذورا عظيما لا تحتمله ساحة العظمة و الكبرياء مثل كون ملكه في معرض ابتغاء سبيل إليه و تهاجم غيره عليه و كونه لا يأبى بحسب طبعه أن يبتز و ينتقل إلى من دونه.

قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَهُ وَ تَعَالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً التعالي‏ هو العلو البالغ و لهذا

 

 

 

 وصف المفعول المطلق أعني ﴿عُلُوًّا بقوله: ﴿كَبِيراً فالكلام في معنى تعالى تعاليا:

و الآية تنزيه له تعالى عما يقولونه من ثبوت الآلهة و كون ملكه و ربوبيته مما يمكن أن يناله غيره.

قوله تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ اَلسَّمَاوَاتُ اَلسَّبْعُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إلخ الآية و ما قبلها و إن كانت واقعة موقع التعظيم كقوله: ﴿وَ قَالُوا اِتَّخَذَ اَللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ لكنها تفيد بوجه في الحجة المتقدمة فإنها بمنزلة المقدمة المتممة لقوله: ﴿لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إلخ فإن الحجة بالحقيقة قياس استثنائي و الذي بمنزلة الاستثناء هو ما في الآية من تسبيح الأشياء له سبحانه كأنه قيل: لو كان معه آلهة لكان ملكه في معرض المنازعة و المهاجمة لكن الملك من السماوات و الأرض و من فيهن ينزهه عن ذلك و يشهد أن لا شريك له في الملك فإنها لم تبتدئ إلا منه و لا تنتهي إلا إليه و لا تقوم إلا به و لا تخضع سجدا إلا له فلا يتلبس بالملك و لا يصلح له إلا هو فلا رب غيره.

و من الممكن أن تكون الآيتان أعني قوله: ﴿سُبْحَانَهُ وَ تَعَالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً. تُسَبِّحُ لَهُ اَلسَّمَاوَاتُ إلخ جميعا في معنى الاستثناء و التقدير لو كان معه آلهة لطلبوا مغالبته و عزله من ملكه لكنه سبحانه ينزه ذاته عن ذلك بذاته الفياضة التي يقوم به كل شي‏ء و تلزمه الربوبية من غير أن يفارقه أو ينتقل إلى غيره، و كذلك ملكه و هو عالم السماوات و الأرض و من فيهن ينزهنه سبحانه بذواتها المسبحة له حيث إنها قائمة الذات به لو انقطعت أو حجبت عنه طرفة عين فنت و انعدمت فليس معه آلهة و لا أن ملكه و ربوبيته مما يمكن أن يبتغيه غيره فتأمل فيه.

و كيف كان فقوله: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ اَلسَّمَاوَاتُ اَلسَّبْعُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ يثبت لأجزاء العالم المشهود التسبيح و أنها تسبح الله و تنزهه عما يقولون من الشريك و ينسبون إليه.

و التسبيح‏ تنزيه قولي كلامي و حقيقة الكلام الكشف عما في الضمير بنوع من الإشارة إليه و الدلالة عليه غير أن الإنسان لما لم يجد إلى إرادة كل ما يريد الإشارة إليه من طريق التكوين طريقا التجأ إلى استعمال الألفاظ و هي الأصوات الموضوعة للمعاني،

 

 

 

و دل بها على ما في ضميره، و جرت على ذلك سنة التفهيم و التفهم، و ربما استعان على بعض مقاصده بالإشارة بيده أو رأسه أو غيرهما، و ربما استعان على ذلك بكتابة أو نصب علامة.

و بالجملة فالذي يكشف به عن معنى مقصود قول و كلام و قيام الشي‏ء بهذا الكشف قول منه و تكليم و إن لم يكن بصوت مقروع و لفظ موضوع، و من الدليل عليه ما ينسبه القرآن إليه تعالى من الكلام و القول و الأمر و الوحي و نحو ذلك مما فيه معنى الكشف عن المقاصد و ليس من قبيل القول و الكلام المعهود عندنا معشر المتلسنين باللغات و قد سماه الله سبحانه قولا و كلاما.

و عند هذه الموجودات المشهودة من السماء و الأرض و من فيهما ما يكشف كشفا صريحا عن وحدانية ربها في ربوبيته و ينزهه تعالى عن كل نقص و شين فهي تسبح الله سبحانه.

و ذلك أنها ليست لها في أنفسها إلا محض الحاجة و صرف الفاقة إليه في ذاتها و صفاتها و أحوالها. و الحاجة أقوى كاشف عما إليه الحاجة لا يستقل المحتاج دونه و لا ينفك عنه فكل من هذه الموجودات يكشف بحاجته في وجوده و نقصه في ذاته عن موجده الغني في وجوده التام الكامل في ذاته و بارتباطه بسائر الموجودات التي يستعين بها على تكميل وجوده و رفع نقائصه في ذاته أن موجده هو ربه المتصرف في كل شي‏ء المدبر لأمره.

ثم النظام العام الجاري في الأشياء الجامع لشتاتها الرابط بينها يكشف عن وحدة موجدها، و أنه الذي إليه بوحدته يرجع الأشياء و به بوحدته ترتفع الحوائج و النقائص فلا يخلو من دونه من الحاجة، و لا يتعرى ما سواه من النقيصة و هو الرب لا رب غيره و الغني الذي لا فقر عنده و الكمال الذي لا نقص فيه.

فكل واحد من هذه الموجودات يكشف بحاجته و نقصه عن تنزه ربه عن الحاجة و براءته من النقص حتى أن الجاهل المثبت لربه شركاء من دونه أو الناسب إليه شيئا من النقص و الشين تعالى و تقدس يثبت بذلك تنزهه من الشريك و ينسب بذلك إليه البراءة من النقص فإن المعنى الذي تصور في ضمير هذا الإنسان و اللفظ الذي يلفظه لسانه و جميع ما استخدمه في تأدية هذا المقصود كل ذلك أمور موجودة تكشف بحاجتها الوجودية

 

 

 

عن رب واحد لا شريك له و لا نقص فيه.

فمثل هذا الإنسان الجاحد في كون جحوده اعترافا مثل ما لو ادعى إنسان أن لا إنسان متكلما في الدنيا و شهد على ذلك قولا فإن شهادته أقوى حجة على خلاف ما ادعاه و شهد عليه و كلما تكررت الشهادة على هذا النمط و كثر الشهود تأكدت الحجة من طريق الشهادة على خلافها.

فإن قلت: مجرد الكشف عن التنزه لا يسمى تسبيحا حتى يقارن القصد و القصد مما يتوقف على الحياة و أغلب هذه الموجودات عادمة للحياة كالأرض و السماء و أنواع الجمادات فلا مخلص من حمل التسبيح على المجاز فتسبيحها دلالتها بحسب وجودها على تنزه ربها.

قلت: كلامه تعالى مشعر بأن العلم سار في الموجودات مع سريان الخلقة فلكل منها حظ من العلم على مقدار حظه من الوجود، و ليس لازم ذلك أن يتساوى الجميع من حيث العلم أو يتحد من حيث جنسه و نوعه أو يكون عند كل ما عند الإنسان من ذلك أو أن يفقه الإنسان بما عندها من العلم قال تعالى حكاية عن أعضاء الإنسان: ﴿قَالُوا أَنْطَقَنَا اَللَّهُ اَلَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ: حم السجدة: ٢١ و قال ﴿فَقَالَ لَهَا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ: حم السجدة: ١١ و الآيات في هذا المعنى كثيرة، و سيوافيك كلام مستقل في ذلك إن شاء الله تعالى.

و إذا كان كذلك فما من موجود مخلوق إلا و هو يشعر بنفسه بعض الشعور و هو يريد بوجوده إظهار نفسه المحتاجة الناقصة التي يحيط بها غنى ربه و كماله لا رب غيره فهو يسبح ربه و ينزهه عن الشريك و عن كل نقص ينسب إليه.

و بذلك يظهر أن لا وجه لحمل التسبيح في الآية على مطلق الدلالة مجازا فالمجاز لا يصار إليه إلا مع امتناع الحمل على الحقيقة، و نظيره قول بعضهم: إن تسبيح بعض هذه الموجودات قالي حقيقي كتسبيح الملائكة و المؤمنين من الإنسان و تسبيح بعضها حالي مجازي كدلالة الجمادات بوجودها عليه تعالى و لفظ التسبيح مستعمل في الآية على سبيل عموم المجاز، و قد عرفت ضعفه آنفا.

و الحق أن التسبيح في الجميع حقيقي قالي غير أن كونه قاليا لا يستلزم أن يكون

 

 

 

 بألفاظ موضوعة و أصوات مقروعة كما تقدمت الإشارة إليه و قد تقدم في آخر الجزء الثاني من الكتاب كلام في الكلام نافع في المقام.

فقوله تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ اَلسَّمَاوَاتُ اَلسَّبْعُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ يثبت لها تسبيحا حقيقيا و هو تكلمها بوجودها و ما له من الارتباط بسائر الموجودات الكائنة و بيانها تنزه ربها عما ينسب إليه المشركون من الشركاء و جهات النقص.

و قوله: ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ تعميم التسبيح لكل شي‏ء و قد كانت الجملة السابقة عدت السماوات السبع و الأرض و من فيهن، و تزيد عليها بذكر الحمد مع التسبيح فتفيد أن كل شي‏ء كما يسبحه تعالى كذلك يحمده بالثناء عليه بجميل صفاته و أفعاله.

و ذلك أنه كما أن عند كل من هذه الأشياء شيئا من الحاجة و النقص عائدا إلى نفسه كذلك عنده من جميل صنعه و نعمته تعالى شي‏ء راجع إليه تعالى موهوب من لدنه، و كما أن إظهار هذه الأشياء لنفسها في الوجود إظهار لحاجتها و نقصها و كشف عن تنزه ربها عن الحاجة و النقص، و هو تسبيحها كذلك إبرازها لنفسها إبراز لما عندها من جميل فعل ربها الذي وراءه جميل صفاته تعالى فهو حمدها فليس الحمد إلا الثناء على الجميل الاختياري فهي تحمد ربها كما تسبحه و هو قوله: ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ.

و بلفظ آخر إذا لوحظ الأشياء من جهة كشفها عما عند ربها بإبرازها ما عندها من الحاجة و النقص مع ما لها من الشعور بذلك كان ذلك تسبيحا منها، و إذا لوحظت من جهة كشفها ما لربها بإظهارها ما عندها من نعمة الوجود و سائر جهات الكمال فهو حمد منها لربها و إذا لوحظ كشفها ما عند الله سبحانه من صفة جمال أو جلال مع قطع النظر عن علمها و شعورها بما تكشف عنه كان ذلك دلالة منها عليه تعالى و هي آياته.

و هذا نعم الشاهد على أن المراد بالتسبيح في الآية ليس مجرد دلالتها عليه تعالى بنفي الشريك و جهات النقص فإن الخطاب في قوله: ﴿وَ لَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إما للمشركين و إما للناس أعم من المؤمن و المشرك و هم على أي حال يفقهون دلالة الأشياء

 

 

 

 على صانعها مع أن الآية تنفي عنهم الفقه.

و لا يصغي إلى قول من قال: إن الخطاب للمشركين و هم لعدم تدبرهم فيها و قلة انتفاعهم بها كان فهمهم بمنزلة العدم، و لا إلى دعوى من يدعي أنهم لعدم فهمهم بعض المراد من التسبيح جعلوا ممن لا يفقه الجميع تغليبا.

و ذلك لأن تنزيل الفهم منزلة العدم أو جعل البعض كالجميع لا يلائم مقام الاحتجاج و هو سبحانه يخاطبهم في سابق الآية بالحجة على التنزيه على أن هذا النوع من المسامحة بالتغليب و نحوه لا يحتمله كلامه تعالى.

و أما ما وقع في قوله بعد هذه الآية: ﴿وَ إِذَا قَرَأْتَ اَلْقُرْآنَ إلى آخر الآيات من نفي الفقه عن المشركين فليس يؤيد ما ذكروه فإن الآيات تنفي عنهم فقه القرآن و هو غير نفي فقه دلالة الأشياء على تنزهه تعالى إذ بها تتم الحجة عليهم.

فالحق أن التسبيح الذي تثبته الآية لكل شي‏ء هو التسبيح بمعناه الحقيقي و قد تكرر في كلامه تعالى إثباته للسماوات و الأرض و من فيهن و ما فيهن و فيها موارد لا تحتمل إلا الحقيقة كقوله تعالى: ﴿وَ سَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ اَلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَ اَلطَّيْرَ: الأنبياء:

 ٧٩، و قوله: ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا اَلْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِشْرَاقِ: ص: ١٨، و يقرب منه قوله: ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ اَلطَّيْرَ: سبأ: ١٠ فلا معنى لحملها على التسبيح بلسان الحال.

و قد استفاضت الروايات من طرق الشيعة و أهل السنة أن للأشياء تسبيحا و منها روايات تسبيح الحصى في كف رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و سيوافيك بعضها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.

و قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً أي يمهل فلا يعاجل بالعقوبة و يغفر من تاب و رجع إليه، و في الوصفين دلالة على تنزهه تعالى عن كل نقص فإن لازم الحلم أن لا يخاف الفوت، و لازم المغفرة أن لا يتضرر بالمغفرة و لا بإفاضة الرحمة فملكه و ربوبيته لا يقبل نقصا و لا زوالا.

و قد قيل في وجه هذا التذييل إنه إشارة إلى أن الإنسان في قصوره عن فهم هذا

 

 

 

 التسبيح الذي لا يزال كل شي‏ء مشتغلا به حتى نفسه بجميع أركان وجوده بأبلغ بيان، مخطئ من حقه أن يؤاخذ به لكن الله سبحانه بحلمه و مغفرته لا يعاجله و يعفو عن ذلك إن شاء.

و هو وجه حسن و لازمه أن يكون الإنسان في وسعه أن يفقه هذا التسبيح من نفسه و من غيره، و لعلنا نوفق لبيانه إن شاء الله في موضع يليق به.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا قَرَأْتَ اَلْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً ظاهر توصيف الحجاب بالمستور أنه حجاب مستور عن الحواس على خلاف الحجابات المتداولة بين الناس المعمولة لستر شي‏ء عن شي‏ء فهو حجاب معنوي مضروب بين النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بما أنه قار للقرآن حامل له و بين المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة يحجبه عنهم فلا يستطيعون أن يفقهوا حقيقة ما عنده من معارف القرآن و يؤمنوا به و لا أن يذعنوا بأنه رسول من الله جاءهم بالحق، و لذلك تولوا عنه إذا ذكر الله وحده و بالغوا في إنكار المعاد و رموه بأنه رجل مسحور، و الآيات التالية تؤيد هذا المعنى.

و إنما وصف المشركين بقوله: ﴿اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لأن إنكار الآخرة يلغو معه الإيمان بالله وحده و بالرسالة فالكفر بالمعاد يستلزم الكفر بجميع أصول الدين، و ليكون تمهيدا لما سيذكر من إنكارهم البعث.

و المعنى: إذا قرأت القرآن و تلوته عليهم جعلنا بينك و بين المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة - و في توصيفهم بذلك ذم لهم - حجابا معنويا محجوبا عن فهمهم فلا يسعهم أن يسمعوا ذكره تعالى وحده، و لا أن يعرفوك بالرسالة الحقة، و لا أن يؤمنوا بالمعاد و يفقهوا حقيقته.

و للقوم في قوله: ﴿حِجَاباً مَسْتُوراً أقوال أخر فعن بعضهم أن «مفعول» فيه للنسب أي حجابا ذا ستر نظير قولهم: رجل مرطوب و مكان مهول و جارية مغنوجة أي ذو رطوبة و ذو هول و ذات غنج، و منه قوله تعالى: ﴿وَعْدُهُ مَأْتِيًّا أي ذا إتيان و الأكثر في ذلك أن يجي‏ء على فاعل كلابن و تامر.

 

 

 

 و عن الأخفش أن «مفعول» ربما ورد بمعنى فاعل كميمون و مشئوم بمعنى يامن و شائم كما أن «فاعل» ربما ورد بمعنى مفعول كماء دافق أي مدفوق فمستور بمعنى ساتر.

و عن بعضهم أن ذلك من الإسناد المجازي و المستور بحسب الحقيقة هو ما وراء الحجاب لا نفسه.

عن بعضهم أنه من قبيل الحذف و الإيصال و أصله حجابا مستورا به الرسول ص عنهم.

و قيل: المعنى حجابا مستورا بحجاب آخر أي بحجب متعددة و قيل المعنى حجابا مستورا كونه حجابا بمعنى أنهم لا يدرون أنهم لا يدرون و الثلاثة الأخيرة أسخف الوجوه.

قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلْنَا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَ إِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي اَلْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً الأكنة جمع كن بالكسر و هو على ما ذكره الراغب ما يحفظ فيه الشي‏ء و يستر به عن غيره، و الوقر الثقل في السمع، و في المجمع،: النفور جمع نافر، و هذا الجمع قياس في كل فاعل اشتق من فعل مصدره على فعول مثل ركوع و سجود و شهود. انتهى.

و قوله: ﴿وَ جَعَلْنَا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً إلخ كالبيان للحجاب المذكور سابقا أي أغشينا قلوبهم بأغشية و حجب حذار أن يفقهوا القرآن و جعلنا في آذانهم وقرا و ثقلا أن يسمعوه فهم لا يسمعون القرآن سمع قبول و لا يفقهونه فقه إيمان و تصديق كل ذلك مجازاة لهم بما كفروا و فسقوا.

و قوله: ﴿وَ إِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي اَلْقُرْآنِ وَحْدَهُ أي على نعت التوحيد و نفي الشريك ولوا على أدبارهم نافرين و أعرضوا عنه مستدبرين.

قوله تعالى: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ إلى آخر الآية، النجوى مصدر و لذا يوصف به الواحد و المثنى و المجموع و المذكر و المؤنث و هو لا يتغير في لفظه.

و الآية بمنزلة الحجة على ما ذكر في الآية السابقة أنه جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه و في آذانهم وقرا فقوله: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إلخ ناظر إلى جعل الوقر

 

 

 

 و قوله: ﴿وَ إِذْ هُمْ نَجْوى إلخ ناظر إلى جعل الأكنة.

يقول تعالى: نحن أعلم بآذانهم التي يستمعون بها إليك و بقلوبهم التي ينظرون بها في أمرك - و كيف لا؟ و هو تعالى خالقها و مدبر أمرها فإخباره أنه جعل على قلوبهم أكنة و في آذانهم وقرا أصدق و أحق بالقبول - فنحن أعلم بما يستمعون به و هو آذانهم في وقت يستمعون إليك، و نحن أعلم أي بقلوبهم إذ هم نجوى إذ يناجي بعضهم بعضا متحرزين عن الإجهار و رفع الصوت و هم يرون الرأي إذ يقول الظالمون أي يقول القائلون منهم و هم ظالمون في قولهم - إن تتبعون إلا رجلا مسحورا و هذا تصديق أنهم لم يفقهوا الحق.

و في الآية إشعار بل دلالة على أنهم كانوا لا يأتونه (ص) لاستماع القرآن علنا حذرا من اللائمة و إنما يأتونه متسترين مستخفين حتى إذا رأى بعضهم بعضا على هذا الحال تلاوموا بالنجوى خوفا أن يحس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنون بموقفهم فقال بعضهم لبعض:

إن تتبعون إلا رجلا مسحورا، و بهذا يتأيد ما ورد في أسباب النزول بهذا المعنى، و سنورده إن شاء الله في البحث الروائي الآتي.

قوله تعالى: ﴿اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ اَلْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً المثل‏ بمعنى الوصف، و ضرب الأمثال التوصيف بالصفات و معنى الآية ظاهر، و هي تفيد أنهم لا مطمع في إيمانهم كما قال تعالى: ﴿وَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ: يس: ١٠.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا أَ إِذَا كُنَّا عِظَاماً وَ رُفَاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قال في المجمع،: الرفات‏ ما تكسر و بلي من كل شي‏ء، و يكثر بناء فعال في كل ما يحطم و يرضض يقال: حطام و دقاق و تراب و قال المبرد: كل شي‏ء مدقوق مبالغ في دقه حتى انسحق فهو رفات. انتهى.

في الآية مضي في بيان عدم فقههم بمعارف القرآن حيث استبعدوا البعث و هو من أهم ما يثبته القرآن و أوضح ما قامت عليه الحجج من طريق الوحي و العقل حتى وصفه الله في مواضع من كلامه بأنه ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ و ليس لهم حجة على نفيه غير أنهم استبعدوه استبعادا.

 

 

 

و من أعظم ما يزين في قلوبهم هذا الاستبعاد زعمهم أن الموت فناء للإنسان و من المستبعد أن يتكون الشي‏ء عن عدم بحت كما قالوا: أ إذا كنا عظاما و رفاتا بفساد أبداننا عن الموت حتى إذا لم يبق منها إلا العظام ثم رمت العظام و صارت رفاتا أ إنا لفي خلق جديد نعود أناسي كما كنا؟ ذلك رجع بعيد و لذلك رده سبحانه إليهم بتذكيرهم القدرة المطلقة و الخلق الأول كما سيأتي.

قوله تعالى: ﴿قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ جواب عن استبعادهم، و قد عبروا في كلامهم بقولهم: ﴿أَ إِذَا كُنَّا﴾ فأمر سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يأمرهم أمر تسخير أن يكونوا حجارة أو حديدا «إلخ» مما تبديله إلى الإنسان أبعد و أصعب عندهم من تبديل العظام الرفات إليه.

فيكون إشارة إلى أن القدرة المطلقة الإلهية لا يشقها شي‏ء تريد تجديد خلقه سواء أ كان عظاما و رفاتا أو حجارة أو حديدا أو غير ذلك.

و المعنى: قل لهم ليكونوا شيئا أشد من العظام و الرفات حجارة أو حديدا أو مخلوقا آخر من الأشياء التي تكبر في صدورهم و يبالغون في استبعاد أن يخلق منه الإنسان فليكونوا ما شاءوا فإن الله سيعيد إليهم خلقهم الأول و يبعثهم.

قوله تعالى: ﴿فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ اَلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أي فإذا أجبت عن استبعادهم بأنهم مبعوثون أياما كانوا و إلى أي حال و صفة تحولوا سيسألونك و يقولون من يعيدنا إلى ما كنا عليه من الخلقة الإنسانية؟ فاذكر لهم الله سبحانه و ذكرهم من وصفه بما لا يبقى معه لاستبعادهم محل و هو فطره إياهم أول مرة و لم يكونوا شيئا و قل: يعيدكم الذي خلقكم أول مرة.

ففي تبديل لفظ الجلالة من قوله: ﴿اَلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ إثبات الإمكان و رفع الاستبعاد بإراءة المثل.

قوله تعالى: ﴿فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَ يَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً قال الراغب: الإنغاض‏ تحريك الرأس نحو الغير كالمتعجب منه. انتهى.

و المعنى: فإذا قرعتهم بالحجة و ذكرتهم بقدرة الله على كل شي‏ء و فطرة إياهم أول

 

 

 

 مرة وجدتهم يحركون إليك رءوسهم تحريك المستهزئ المستخف بك المستهين له و يقولون متى هو؟ قل عسى أن يكون قريبا فإنه لا سبيل إلى العلم به و هو من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله لكن وصف اليوم معلوم بإعلامه تعالى و لذا وصفه لهم واضعا الصفة مكان الوقت فقال: ﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ، الآية.

قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً ﴿يَوْمَ منصوب بفعل مضمر أي تبعثون يوم كذا و كذا و الدعوة هي أمره تعالى لهم أن يقوموا ليوم الجزاء و استجابتهم هي قبولهم الدعوة الإلهية، و قوله: ﴿بِحَمْدِهِ حال من فاعل تستجيبون و التقدير تستجيبون متلبسين بحمده أي حامدين له تعدون البعث و الإعادة منه فعلا جميلا يحمد فاعله و يثنى عليه لأن الحقائق تنكشف لكم اليوم فيتبين لكم أن من الواجب في الحكمة الإلهية أن يبعث الناس للجزاء و أن تكون بعد الأولى أخرى.

و قوله: ﴿وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً أي تزعمون يوم البعث أنكم لم تلبثوا في القبور بعد الموت إلا زمانا قليلا و ترون أن اليوم كان قريبا منكم جدا.

و قد صدقهم الله في هذه المزعمة و أن خطأهم فيما ضربوا له من المدة قال تعالى:

﴿قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ: المؤمنون، ١١٤، و قال: ﴿وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ يُقْسِمُ اَلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ وَ قَالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ اَلْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اَللَّهِ إِلى يَوْمِ اَلْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ اَلْبَعْثِ: الروم: ٥٦ إلى غير ذلك من الآيات.

و في التعرض لقوله: ﴿وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً تعريض لهم في استبطائهم اليوم و استهزائهم به، و تأييد لما مر من رجاء قربه في قوله: ﴿قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً أي و أنكم ستعدونه قريبا، و كذا في قوله: ﴿فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ تعريض لهم في استهزائهم به و تعجبهم منه أي و أنكم ستحمدونه يوم البعث و أنتم اليوم تستبعدونه و تستهزءون بأمره.

قوله تعالى: ﴿قُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا اَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ اَلشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إلخ يلوح من السياق أن المراد بعبادي هم المؤمنون فالإضافة للتشريف، و قوله: ﴿قُلْ

 

 

 

 لِعِبَادِي يَقُولُوا إلخ أي مرهم أن يقولوا فهو أمر و جواب أمر مجزوم، و قوله: ﴿اَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي الكلمة التي هي أحسن، و هو اشتمالها على الأدب الجميل و تعريها عن الخشونة و الشتم و سوء الأمر.

الآية و ما بعدها من الآيتين ذات سياق واحد، و خلاصة مضمونها الأمر بإحسان القول و لزوم الأدب الجميل في الكلام تحرزا عن نزغ الشيطان، و ليعلموا أن الأمر إلى مشية الله لا إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) حتى يرفع القلم عن كل من آمن به و انتسب إليه و يتأهل للسعادة، فله ما يقول، و له أن يحرم غيره كل خير و يسي‏ء القول فيه فما للإنسان إلا حسن سريرته و كمال أدبه، و قد فضل الله بذلك بعض الأنبياء على بعض و خص داود بإيتاء الزبور الذي فيه أحسن القول و جميل الثناء على الله سبحانه.

و من هنا يظهر أن المؤمنين قبل الهجرة ربما كانوا يحاورون المشركين فيغلظون لهم في القول و يخاشنونهم بالكلام و ربما جبهوهم بأنهم أهل النار، و أنهم معشر المؤمنين أهل الجنة ببركة من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فكان ذلك يهيج المشركين عليهم و يزيد في عداوتهم و يبعثهم إلى المبالغة في فتنتهم و تعذيبهم و إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و العناد مع الحق.

فأمر الله سبحانه نبيه ص أن يأمرهم بقول التي هي أحسن و المقام مناسب لذلك فقد تقدم آنفا حكاية إساءة الأدب من المشركين إلى النبي و تسميتهم إياه رجلا مسحورا و استهزائهم بالقرآن و بما فيه من معارف المبدإ و المعاد، و هذا هو وجه اتصال الآيات الثلاث بما قبلها و اتصال بعض الثلاث ببعض فافهم ذلك.

فقوله: ﴿وَ قُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا اَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أمر بالأمر و المأمور به قول الكلمة التي هي أحسن فهو نظير قوله: ﴿وَ جَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ: النحل: ١٢٥ و قوله:

﴿إِنَّ اَلشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ تعليل للأمر، و قوله: ﴿إِنَّ اَلشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِيناً تعليل لنزغ الشيطان بينهم.

و ربما قيل: إن المراد بقول التي هي أحسن الكف عن قتال المشركين و معاملتهم بالسلم و الخطاب للمؤمنين بمكة قبل الهجرة فالآية نظيرة قوله: ﴿وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً: البقرة: ٨٣ على ما ورد في أسباب النزول، و أنت خبير بأن سياق التعليل في الآية لا يلائمه.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً قد تقدم أن الآية و ما بعدها تتمة السياق السابق، و على ذلك فصدر الآية من تمام كلام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) الذي أمر بإلقائه على المؤمنين بقوله: ﴿قُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا إلخ و ذيل الآية خطاب للنبي خاصة فلا التفات في الكلام.

و يمكن أن يكون الخطاب في صدر الآية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين جميعا بتغليب جانب خطابه على غيبتهم، و هذا أنسب بسياق الآية السابقة و تلاحق الكلام، و الكلام لله جميعا.

و كيف كان فقوله: ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ في مقام تعليل الأمر السابق ثانيا، و يفيد أنه يجب على المؤمنين أن يتحرزوا من إغلاظ القول على غيرهم و القضاء بما الله أعلم به من سعادة أو شقاء كأن يقولوا: فلان سعيد بمتابعة النبي و فلان شقي و فلان من أهل الجنة و فلان من أهل النار و عليهم أن يرجعوا الأمر و يفوضوه إلى ربهم فربكم و الخطاب للنبي و غيره أعلم بكم و هو يقضي فيكم على ما علم من استحقاق الرحمة أو العذاب إن يشأ يرحمكم و لا يشاء ذلك إلا مع الإيمان و العمل الصالح على ما بينه في كلامه أو إن يشأ يعذبكم و لا يشاء ذلك إلا مع الكفر و الفسوق، و ما جعلناك أيها النبي عليهم وكيلا مفوضا إليه أمرهم حتى تختار لمن تشاء ما تشاء فتعطي هذا و تحرم ذاك.

و من ذلك يظهر أن الترديد في قوله: ﴿إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ باعتبار المشية المختلفة باختلاف الموارد بالإيمان و الكفر و العمل الصالح و الطالح و أن قوله: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً لردع المؤمنين عن أن يعتمدوا في نجاتهم على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الانتساب إلى قبول دينه نظير قوله: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَ لاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ اَلْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ: النساء: ١٢٣ و قوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هَادُوا وَ اَلنَّصَارى وَ اَلصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ: البقرة: ٦٢ و آيات أخرى في هذا المعنى.

و في الآية أقوال أخر تركنا التعرض لها لعدم الجدوى.

قوله تعالى: ﴿وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ اَلنَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَ آتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً صدر الآية توسعة في معنى التعليل السابق كأنه قيل:

 

 

 

 و كيف لا يكون أعلم بكم و هو أعلم بكم و هو أعلم بمن في السماوات و الأرض و أنتم منهم.

و قوله: ﴿وَ لَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ اَلنَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ كأنه تمهيد لقوله: ﴿وَ آتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً و الجملة تذكر فضل داود (عليه السلام) بكتابه الذي هو زبور و فيه أحسن الكلمات في تسبيحه و حمده تعالى، و فيه تحريض للمؤمنين أن يرغبوا في أحسن القول و يتأدبوا بالأدب الجميل في المحاورة و الكلام.

و لهم في تفسير الآية أقوال أخرى تركنا التعرض لها و من أرادها فليراجع المطولات.

بحث روائي‏

 في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ - إِذاً لاَبْتَغَوْا إِلى ذِي اَلْعَرْشِ سَبِيلاً قال: قال: لو كانت الأصنام آلهة كما تزعمون لصعدوا إلى العرش‏ أقول: أي لاستولوا على ملكه تعالى و أخذوا بأزمة الأمور و أما العرش بمعنى الفلك المحدد للجهات أو جسم نوراني عظيم فوق العالم الجسماني كما ذكره بعضهم فلا دليل عليه من الكتاب، و على تقدير ثبوته لا ملازمة بين الربوبية و الصعود على هذا الجسم.

 و في الدر المنثور، أخرج أحمد و ابن مردويه عن ابن عمر أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إن نوحا لما حضرته الوفاة قال لابنيه: آمركما بسبحان الله و بحمده فإنها صلاة كل شي‏ء، و بها يرزق كل شي‏ء. أقول: قد ظهر مما قدمناه في معنى تسبيح الأشياء الارتباط المشار إليه في الرواية بين تسبيح كل شي‏ء و بين رزقه فإن الرزق يقدر بالحاجة و السؤال و كل شي‏ء إنما يسبح الله تعالى بالإشارة بإظهار حاجته و نقصه إلى تنزهه تعالى من ذلك.

 و في تفسير العياشي، عن أبي الصباح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: قول الله: ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ قال: كل شي‏ء يسبح بحمده، و إنا لنرى أن تنقض الجدر هو تسبيحها:

 

 

 

أقول: و رواه أيضا عن الحسين بن سعيد عنه (عليه السلام).

 و فيه، عن النوفلي عن السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام) قال: نهى رسول الله (عليه السلام) أن يوسم البهائم و أن يضرب وجهها فإنها تسبح بحمد ربها:

أقول: و روى النهي عن ضربها على وجوهها: الكليني في الكافي، بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: و في حديث آخر: لا تسمها في وجوهها.

 و فيه، عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من طير يصاد في بر أو بحر و لا شي‏ء يصاد من الوحش إلا بتضييعه التسبيح.

 أقول: و هذا المعنى رواه أهل السنة بطرق كثيرة عن ابن مسعود و أبي الدرداء و أبي هريرة و غيرهم عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).

 و فيه، عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام): أنه دخل عليه رجل فقال: فداك أبي و أمي إني أجد الله يقول في كتابه: ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ فقال له: هو كما قال الله تبارك و تعالى.

قال: أ تسبح الشجرة اليابسة؟ فقال: نعم أ ما سمعت خشب البيت كيف ينقصف؟ و ذلك تسبيحه فسبحان الله على كل حال.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إن النمل يسبحن. و فيه، أخرج النسائي و أبو الشيخ و ابن مردويه عن ابن عمر قال: نهى رسول الله عن قتل الضفدع و قال: نعيقها تسبيح. و فيه، أخرج الخطيب عن أبي حمزة قال: كنا مع علي بن الحسين فمر بنا عصافير يصحن فقال: أ تدرون ما تقول هذه العصافير؟ فقلنا: لا فقال: أما إني ما أقول:

إنا نعلم الغيب و لكني سمعت أبي يقول: سمعت علي بن أبي طالب أمير المؤمنين يقول:

إن الطير إذا أصبحت سبحت ربها و سألته قوت يومها و إن هذه تسبح ربها و تسأل قوت يومها.

 

 

 

 أقول: و روي أيضا مثله عن أبي الشيخ و أبي نعيم في الحلية عن أبي حمزة الثمالي عن محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام) و لفظه قال محمد بن علي بن الحسين: و سمع عصافير يصحن قال: تدري ما يقلن؟ قلت: لا قال: يسبحن ربهن عز و جل و يسألن قوت يومهن.

 و فيه، أخرج الخطيب في تاريخه عن عائشة قالت: دخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال لي: يا عائشة اغسلي هذين البردين فقلت: يا رسول الله بالأمس غسلتهما فقال لي:

أ ما علمت أن الثوب يسبح فإذا اتسخ انقطع تسبيحه. و فيه، أخرج العقيلي في الضعفاء و أبو الشيخ و الديلمي عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): آجال البهائم كلها و خشاش الأرض و النمل و البراغيث و الجراد و الخيل و البغال و الدواب كلها و غير ذلك آجالها في التسبيح فإذا انقضى تسبيحها قبض الله أرواحها، و ليس إلى ملك الموت منها شي‏ء. أقول: و لعل المراد من قوله: و ليس إلى ملك الموت منها شي‏ء، أنه لا يتصدى بنفسه قبض أرواحها و إنما يباشرها بعض الملائكة و الأعوان، و الملائكة أسباب متوسطة على أي حال.

 و فيه، أخرج أحمد عن معاذ بن أنس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أنه مر على قوم و هم وقوف على دواب لهم و رواحل فقال لهم: اركبوها سالمة و دعوها سالمة، و لا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق و الأسواق فرب مركوبة خير من راكبها و أكثر ذكرا لله منه.

و في الكافي، بإسناده عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: للدابة على صاحبها ستة حقوق: لا يحملها فوق طاقتها، و لا يتخذ ظهرها مجلسا يتحدث عليها، و يبدأ بعلفها إذا نزل، و لا يسمها في وجهها، و لا يضربها فإنها تسبح، و يعرض عليها الماء إذا مر بها.

 و في مناقب ابن شهرآشوب،: علقمة و ابن مسعود :كنا نجلس مع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و نسمع الطعام يسبح و رسول الله يأكل، و أتاه مكرز العامري و سأله آية فدعا بتسع

 

 

 

 حصيات فسبحن في يده‏،

و في حديث أبي ذر :فوضعهن على الأرض فلم يسبحن و سكتن ثم عاد و أخذهن فسبحن.

 ابن عباس قال: قدم ملوك حضرموت على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالوا كيف نعلم أنك رسول الله؟ فأخذ كفا من حصى فقال: هذا يشهد أني رسول الله فسبح الحصا في يده و شهد أنه رسول الله.

 و فيه، أبو هريرة و جابر الأنصاري و ابن عباس و أبي بن كعب و زين العابدين :أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يخطب بالمدينة إلى بعض الأجذاع فلما كثر الناس و اتخذوا له منبرا و تحول إليه حن كما يحن الناقة، فلما جاء إليه و أكرمه كان يئن أنين الصبي الذي يسكت.

 أقول: و الروايات في تسبيح الأشياء على اختلاف أنواعها كثيرة جدا، و ربما اشتبه أمرها على بعضهم فزعم أن هذا التسبيح العام من قبيل الأصوات، و أن لعامة الأشياء لغة أو لغات ذات كلمات موضوعة لمعان نظير ما للإنسان مستعملة للكشف عما في الضمير غير أن حواسنا مصروفة عنها و هو كما ترى.

و الذي تحصل من البحث المتقدم في ذيل الآية الكريمة أن لها تسبيحا هو كلام بحقيقة معنى الكلام و هو إظهارها تنزه ربها بإظهارها نقص ذاتها و صفاتها و أفعالها عن علم منها بذلك، و هو الكلام فما روي من سماعهم تسبيح الحصى في كف النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو سماع تسبيح الجبال و الطير إذا سبح داود (عليه السلام) أو ما يشبه ذلك إنما كان بإدراكهم تسبيحها الواقعي بحقيقة معناه من طريق الباطن ثم محاكاة الحس ذلك بما يناظره و يناسبه من الألفاظ و الكلمات الموضوعة لما يفيد ما أدركوه من المعنى.

نظير ذلك ما تقدم من ظهور المعاني المجردة عن الصورة في الرؤيا فيما يناسبه من الصور المألوفة كظهور حقيقة يعقوب و أهله و بنيه ليوسف (عليه السلام) في رؤياه في صورة الشمس و القمر و الكواكب و نظير سائر الرؤى التي حكاها الله سبحانه في سورة يوسف و قد تقدم البحث عنها.

فالذي يناله من ينكشف له تسبيح الأشياء أو حمدها أو شهادتها أو ما يشابه ذلك حقيقة المعنى أولا ثم يحاكيه الحس الباطن في صورة ألفاظ مسموعة تؤدي ما ناله من المعنى و الله أعلم.

 و في الدر المنثور،: أخرج أبو يعلى و ابن أبي حاتم و صححه و ابن مردويه و أبو نعيم

 

 

 

 و البيهقي معا في الدلائل، عن أسماء بنت أبي بكر قالت :لما نزلت ﴿يَدَا أَبِي لَهَبٍ أقبلت العوراء أم جميل و لها ولولة و في يدها فهر و هي تقول:

مذمما أبينا *** و دينه قلينا *** و أمره عصينا

و رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) جالس و أبو بكر إلى جنبه فقال أبو بكر: لقد أقبلت هذه و أنا أخاف أن تراك فقال: إنها لن تراني و قرأ قرآنا اعتصم به كما قال تعالى: ﴿وَ إِذَا قَرَأْتَ اَلْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً فجاءت حتى قامت على أبي بكر فلم تر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالت: يا أبا بكر بلغني أن صاحبك هجاني فقال أبو بكر: لا و رب هذا البيت ما هجاك فانصرفت و هي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها:

أقول: و روي أيضا بطريق آخر عن أسماء و عن أبي بكر و ابن عباس مختصرا و رواه أيضا في البحار، عن قرب الإسناد عن الحسن بن ظريف عن معمر عن الرضا عن أبيه عن جده (عليه السلام) في حديث يذكر فيه جوامع معجزات النبي (صلى الله عليه وآله و سلم). و في تفسير العياشي، عن زرارة عن أحدهما (عليه السلام) قال: في ﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ قال: هو أحق ما جهر به، و هي الآية التي قال الله: ﴿وَ إِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي اَلْقُرْآنِ وَحْدَهُ بسم الله الرحمن الرحيم‏﴿ وَلَّوْا عَلى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً كان المشركون يستمعون إلى قراءة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) - فإذا قرأ ﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ نفروا و ذهبوا فإذا فرغ منه عادوا و تسمعوا:

أقول: و روي هذا المعنى أيضا عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) و رواه القمي في تفسيره، مضمرا.

 و في الدر المنثور، أخرج البخاري في تاريخه، عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: لم كتمتم ﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ فنعم الاسم و الله كتموا فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان إذا دخل منزله اجتمعت عليه قريش فيجهر ببسم الله الرحمن الرحيم و يرفع صوته بها فتولى قريش فرارا فأنزل الله: ﴿وَ إِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي اَلْقُرْآنِ وَحْدَهُ - وَلَّوْا عَلى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً.

 و فيه، أخرج ابن إسحاق و البيهقي في الدلائل، عن الزهري قال :حدثت أن أبا

 

 

 

 جهل و أبا سفيان و الأخنس بن شريق خرجوا ليلة يستمعون من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو يصلي بالليل في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه و كل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فتلاوموا فقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا.

ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا.

فلما أصبح الأخنس أتى أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني عن رأيك فيما سمعت من محمد قال: و الله سمعت أشياء أعرفها و أعرف ما يراد بها و سمعت أشياء ما عرفت معناها و لا ما يراد بها. قال الأخنس: و أنا و الذي حلفت به.

ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فقال: ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال:

ما ذا سمعت؟ تنازعنا نحن و بنو عبد مناف في الشرف أطعموا فأطعمنا و حملوا فحملنا و أعطوا فأعطينا - حتى إذا تجانبنا على الركب و كنا كفرسي الرهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى تدرك هذه؟ لا و الله لا نؤمن به أبدا و لا نصدقه فقام عنه الأخنس و تركه. و في المجمع،" :كان المشركون يؤذون أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بمكة فيقولون يا رسول الله ائذن لنا في قتالهم فيقول لهم: إني لم أومر فيهم بشي‏ء فأنزل الله سبحانه:

﴿قُلْ لِعِبَادِي الآية :عن الكلبي. أقول: قد أشرنا في تفسير الآية أنه لا يلائم سياقها. و الله أعلم.

 

 

 

[سورة الإسراء (١٧): الآیات ٥٦ الی ٦٥]

﴿قُلِ اُدْعُوا اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ اَلضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لاَ تَحْوِيلاً ٥٦ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ اَلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً ٥٧ وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِكَ فِي اَلْكِتَابِ مَسْطُوراً ٥٨ وَ مَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا اَلْأَوَّلُونَ وَ آتَيْنَا ثَمُودَ اَلنَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَ مَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً ٥٩ وَ إِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَ مَا جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ اَلشَّجَرَةَ اَلْمَلْعُونَةَ فِي اَلْقُرْآنِ وَ نُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً ٦٠ وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً ٦١ قَالَ أَ رَأَيْتَكَ هَذَا اَلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً ٦٢ قَالَ اِذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً ٦٣ وَ اِسْتَفْزِزْ مَنِ اِسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وَ شَارِكْهُمْ فِي اَلْأَمْوَالِ وَ اَلْأَوْلاَدِ وَ عِدْهُمْ وَ مَا يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً ٦٤ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَ كَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ٦٥

 

 

 

بيان‏

احتجاج من وجه آخر على التوحيد و نفي ربوبية الآلهة الذين يدعون من دون الله و أنهم لا يستطيعون كشف الضر و لا تحويله عن عبادهم بل هم أمثالهم في الحاجة إلى الله سبحانه يبتغون إليه الوسيلة يرجون رحمته و يخافون عذابه.

و أن الضر و الهلاك و العذاب بيد الله، و قد كتب في الكتاب على كل قرية أن يهلكها قبل يوم القيامة أو يعذبها عذابا شديدا و قد كانت الأولون يرسل إليهم الآيات الإلهية لكن لما كفروا و كذبوا بها و تعقب ذلك عذاب الاستئصال لم يرسلها الله إلى الآخرين فإنه شاء أن لا يعاجلهم بالهلاك غير أن أصل الفساد سينمو بينهم و الشيطان سيضلهم فيحق عليهم القول فيأخذهم الله و كان أمرا مفعولا.

قوله تعالى: ﴿قُلِ اُدْعُوا اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ اَلضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لاَ تَحْوِيلاً الزعم‏ بتثليث الزاي مطلق الاعتقاد ثم غلب استعماله في الاعتقاد الباطل، و لذا نقل عن ابن عباس أن ما كان في القرآن من الزعم فهو كذب.

و الدعاء و النداء واحد غير أن النداء إنما هو فيما إذا كان معه صوت و الدعاء ربما يطلق على ما كان بإشارة أو غيرها، و ذكر بعضهم في الفرق بينهما أن النداء قد يقال إذا قيل: يا أو أيا أو نحوهما من غير أن يضم إليه الاسم، و الدعاء لا يكاد يقال إلا إذا كان معه الاسم نحو يا فلان. انتهى.

و الآية تحتج على نفي ألوهية آلهتهم من دون الله بأن الرب المستحق للعباد يجب أن يكون قادرا على إيصال النفع و دفع الضر إذ هو لازم ربوبية الرب على أن المشركين مسلمون لذلك و إنما اتخذوا الآلهة و عبدوهم طمعا في نفعهم و خوفا من ضررهم لكن الذين يدعونهم من دون الله لا يستطيعون ذلك فليسوا بآلهة، و الشاهد على ذلك أن يدعوهم هؤلاء الذين يعبدونهم لكشف ضر مسهم أو تحويله عنهم إلى غيرهم فإنهم لا يملكون كشفا و لا تحويلا.

 

 

 

 و كيف يملكون من عند أنفسهم كشف ضر أو تحويله و يستقلون بقضاء حاجة و رفع فاقة و هم في أنفسهم مخلوقون لله يبتغون إليه الوسيلة يرجون رحمته و يخافون عذابه باعتراف من المشركين.

فقد بان أولا أن المراد بقوله: ﴿اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ هم الذين كانوا يعبدونهم من الملائكة و الجن و الإنس فإنهم إنما يقصدون بعبادة الأصنام التقرب إليهم و كذا بعبادة الشمس و القمر و الكواكب التقرب إلى روحانيتهم من الملائكة.

على أن الأصنام بما هي أصنام ليست بأشياء حقيقية كما قال تعالى: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَ آبَاؤُكُمْ﴾.

و أما ما صنعت منه من خشب أو فلز فليس إلا جمادا حاله حال الجماد في التقرب إليه و السجود له و تسبيحه، و ليست من تلك الجهة بأصنام.

و ثانيا: أن المراد بنفي قدرتهم نفي استقلالهم بالقدرة من دون استعانة بالله و استمداد من إذنه و الدليل عليه قوله سبحانه في الآية التالية: ﴿أُولَئِكَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ اَلْوَسِيلَةَ إلخ.

و قال بعض المفسرين: و كأن المراد من نفي ملكهم ذلك نفي قدرتهم التامة الكاملة عليه، و كون قدرة الآلهة الباطلة مفاضة منه تعالى مسلم عند الكفرة لأنهم لا ينكرون أنها مخلوقة لله تعالى بجميع صفاتها و أن الله سبحانه أقوى و أكمل صفة منها.

و بهذا يتم الدليل و يحصل الإفحام و إلا فنفي قدرة نحو الجن و الملائكة الذين عبدوا من دون الله تعالى مطلقا على كشف الضر مما لا يظهر دليله فإنه إن قيل هو أن الكفرة يتضرعون إليهم و لا يحصل لهم الإجابة عورض بأنا نرى أيضا المسلمين يتضرعون إلى الله تعالى و لا يحصل لهم الإجابة.

و قد يقال: المراد نفي قدرتهم على ذلك أصلا و يحتج له بدليل الأشعري على استناد جميع الممكنات إليه عز و جل ابتداء انتهى.

قلت: هو سبحانه يثبت في كلامه أنواعا من القدرة للملائكة و الجن و الإنس في آيات كثيرة لا تقبل التأويل البتة غير أنه يخص حقيقة القدرة بنفسه في مثل قوله:

 

 

 

﴿أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً: البقرة: ١٦٥ و يظهر به أن غيره إنما يقدر على ما يقدر بإقداره و يملك ما يملك بتمليكه تعالى إياه فلا أحد مستقلا بالقدرة و الملك إلا هو، و ما عند غيره تعالى من القدرة و الملك مستعار منوط في تأثيره بالإذن و المشية.

و على هذا فلا سبيل إلى تنزيل الحجة في الآية على نفي قدرة آلهتهم من الملائكة و الجن و الإنس من أصلها بل الحجة مبتنية على أن أولئك المدعوين غير مستقلين بالملك و القدرة، و أنهم فيما عندهم من ذلك كالداعين محتاجون إلى الله مبتغون إليه الوسيلة و الدعاء إنما يتعلق بالقدرة المستقلة بالتأثير و الدعاء و المسألة ممن هو قادر بقدرة غيره مالك بتمليكه مع قيام القدرة و الملك بصاحبهما الأصلي فهو في الحقيقة دعاء و مسألة ممن قام بهما حقيقة و استقلالا دون من هو مملك بتمليكه.

و أما ما ذكره أن نفي قدرتهم مطلقا غير ظاهر الدليل فإنه إن قيل: إن الكفرة يتضرعون إليهم و لا يحصل لهم الإجابة، عورض بأنا نرى أيضا المسلمين يتضرعون إلى الله تعالى و لا يحصل لهم الإجابة، فقد أجاب الله سبحانه في كلامه عن مثل هذه المعارضة.

توضيح ذلك: أنه تعالى قال و قوله الحق: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ: البقرة:

 ١٨٦ و قال: ﴿اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ: المؤمن: ٦٠ فأطلق الكلام و أفاد أن العبد إذا جد بالدعاء و لم يلعب به و لم يتعلق قلبه في دعائه الجدي إلا به تعالى بأن انقطع عن غيره و التجأ إليه فإنه يستجاب له البتة ثم ذكر هذا الانقطاع في الدعاء و السؤال في ذيل هذه الآيات الذي كالمتمم لما في هذه الحجة بقوله: ﴿وَ إِذَا مَسَّكُمُ اَلضُّرُّ فِي اَلْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى اَلْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ: الآية - ٦٧ من السورة فأفاد أنكم عند مس الضر في البحر تنقطعون عن كل شي‏ء إليه فتدعونه بهداية من فطرتكم فيستجيب لكم و ينجيكم إلى البر.

و يتحصل من الجميع أن الله سبحانه إذا انقطع العبد عن كل شي‏ء و دعاه عن قلب فارغ سليم فإنه يستجيب له و أن غيره إذا انقطع داعيه عن الله و سأله مخلصا فإنه لا يملك الاستجابة.

و على هذا فلا محل للمعارضة من قبل المشركين فإنهم لا يستجاب لهم إذا دعوا آلهتهم و هم أنفسهم يرون أنهم إذا مسهم الضر في البحر و انقطعوا إلى الله و سألوه

 

 

 

 النجاة نجاهم إلى البر و هم معترفون بذلك، و لئن دعاه المسلمون على هذا النمط عن جد في الدعاء و انقطاع إليه كان حالهم في البر حال غيرهم و هم في البحر و لم يخيبوا و لا ردوا.

و لم يقابل سبحانه في كلامه بين دعائهم آلهتهم و دعاء المسلمين لإلههم حتى يعارض باشتراك الدعاءين في الرد و عدم الاستجابة و إنما قابل بين دعاء المشركين لآلهتهم و بين دعائهم أنفسهم له سبحانه في البحر عند انقطاع الأسباب و ضلال كل مدعو من دون الله.

و من لطيف النكتة في الكلام إلقاؤه سبحانه الحجة إليهم بواسطة نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) إذ قال: ﴿قُلِ اُدْعُوا اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ و لو ناقشه المشركون بمثل هذه المعارضة لدعا ربه عن انقطاع و إخلاص فاستجيب له.

قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ اَلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ إلى آخر الآية ﴿أُولَئِكَ مبتدأ و ﴿اَلَّذِينَ صفة له و ﴿يَدْعُونَ صلته و ضميره عائد إلى المشركين، و ﴿يَبْتَغُونَ خبر ﴿أُولَئِكَ و ضميره و سائر ضمائر الجمع إلى آخر الآية راجعة إلى ﴿أُولَئِكَ و قوله: ﴿أَيُّهُمْ أَقْرَبُ بيان لابتغاء الوسيلة لكون الابتغاء فحصا و سؤالا في المعنى هذا ما يعطيه السياق.

و الوسيلة على ما فسروه هي التوصل و التقرب، و ربما استعملت بمعنى ما به التوصل و التقرب و لعله هو الأنسب بالسياق بالنظر إلى تعقيبه بقوله: ﴿أَيُّهُمْ أَقْرَبُ.

و المعنى و الله أعلم أولئك الذين يدعوهم المشركون من الملائكة و الجن و الإنس يطلبون ما يتقربون به إلى ربهم يستعلمون أيهم أقرب؟ حتى يسلكوا سبيله و يقتدوا بأعماله ليتقربوا إليه تعالى كتقربه و يرجون رحمته من كل ما يستمدون به في وجودهم و يخافون عذابه فيطيعونه و لا يعصونه إن عذاب ربك كان محذورا يجب التحرز منه.

و التوسل إلى الله ببعض المقربين إليه - على ما في الآية الكريمة قريب منه قوله ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ اِبْتَغُوا إِلَيْهِ اَلْوَسِيلَةَ: المائدة: ٣٥ غير ما يرومه المشركون من الوثنيين فإنهم يتوسلون إلى الله و يتقربون بالملائكة الكرام و الجن و الأولياء

 

 

 

 من الإنس فيتركون عبادته تعالى و لا يرجونه و لا يخافونه و إنما يعبدون الوسيلة و يرجون رحمته و يخافون سخطه ثم يتوسلون إلى هؤلاء الأرباب و الآلهة بالأصنام و التماثيل فيتركونهم و يعبدون الأصنام و يتقربون إليهم بالقرابين و الذبائح.

و بالجملة يدعون التقرب إلى الله ببعض عباده أو أصنام خلقه ثم لا يعبدون إلا الوسيلة مستقلة بذلك و يرجونها و يخافونها مستقلة بذلك من دون الله فيشركون بإعطاء الاستقلال لها في الربوبية و العبادة.

و المراد بأولئك الذين يدعون إن كان هو الملائكة الكرام و الصلحاء المقربون من الجن و الأنبياء و الأولياء من الإنس كان المراد من ابتغائهم الوسيلة و رجاء الرحمة و خوف العذاب ظاهره المتبادر، و إن كان المراد بهم أعم من ذلك حتى يشمل من كانوا يعبدونه من مردة الشياطين و فسقة الإنسان كفرعون و نمرود و غيرهما كان المراد بابتغائهم الوسيلة إليه تعالى ما ذكر من خضوعهم و سجودهم و تسبيحهم التكويني و كذا المراد من رجائهم و خوفهم ما لذواتهم.

و ذكر بعضهم: أن ضمائر الجمع في الآية جميعا راجعة إلى أولئك و المعنى أولئك الأنبياء الذين يعبدونهم من دون الله يدعون الناس إلى الحق أو يدعون الله و يتضرعون إليه يبتغون إلى ربهم التقرب، و هو كما ترى.

و قال في الكشاف، في معنى الآية: يعني أن آلهتهم أولئك يبتغون الوسيلة و هي القربة إلى الله تعالى، و ﴿أَيُّهُمْ بدل من واو ﴿يَبْتَغُونَ و أي موصولة أي يبتغي من هو أقرب منهم و أزلف الوسيلة إلى الله فكيف بغير الأقرب؟ أو ضمن ﴿يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ اَلْوَسِيلَةَ معنى يحرصون فكأنه قيل: يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله و ذلك بالطاعة و ازدياد الخير و الصلاح و يرجون و يخافون كما غيرهم من عباد الله فكيف يزعمون أنهم آلهة. انتهى.

و المعنيان لا بأس بهما لو لا أن السياق لا يلائمهما كل الملاءمة و ثانيهما أقرب إليه من أولهما.

و قيل: إن معنى الآية أولئك الذين يدعونهم و يعبدونهم و يعتقدون أنهم آلهة يبتغون الوسيلة و القربة إلى الله تعالى بعبادتهم و يجتهد كل منهم ليكون أقرب من رحمته.

 

 

 

 انتهى. و هو معنى لا ينطبق على لفظ الآية البتة.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِكَ فِي اَلْكِتَابِ مَسْطُوراً ذكروا أن المراد بالعذاب الشديد عذاب الاستئصال فيبقى للإهلاك المقابل له الإماتة بحتف الأنف فالمعنى ما من قرية إلا نحن نميت أهلها قبل يوم القيامة أو نعذبهم عذاب الاستئصال قبل يوم القيامة إذ لا قرية بعد طي بساط الدنيا بقيام الساعة و قد قال تعالى: ﴿وَ إِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً: الكهف: ٨ و لذا قال بعضهم: إن الإهلاك للقرى الصالحة و التعذيب للقرى الطالحة.

و قد ذكروا في وجه اتصال الآية أنها موعظة، و قال بعضهم: كأنه تعالى بعد ما ذكر من شأن البعث و التوحيد ما ذكر، ذكر بعض ما يكون قبل يوم البعث مما يدل على عظمته سبحانه و فيه تأييد لما ذكر قبله.

و الظاهر أن في الآية عطفا على ما تقدم من قوله قبل آيات: ﴿وَ إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا اَلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً فإن آيات السورة لا تزال ينعطف بعضها على بعض، و الغرض العام بيان سنة الله تعالى الجارية بدعوتهم إلى الحق ثم إسعاد من سعد منهم بالسمع و الطاعة و عقوبة من خالف منهم و طغى بالاستكبار.

و على هذا فالمراد بالإهلاك التدمير بعذاب الاستئصال كما نقل عن أبي مسلم المفسر و المراد بالعذاب الشديد ما دون ذلك من العذاب كقحط أو غلاء ينجر إلى جلاء أهلها و خراب عمارتها أو غير ذلك من البلايا و المحن.

فتكون في الآية إشارة إلى أن هذه القرى سيخرب كل منها بفساد أهلها و فسق مترفيها، و أن ذلك بقضاء من الله سبحانه كما يشير إليه ذيل الآية، و بذلك يتضح اتصال الآية التالية ﴿وَ مَا مَنَعَنَا إلخ بهذه الآية فإن المعنى أنهم مستعدون للفساد مهيئون لتكذيب الآيات الإلهية و هي تتعقب بالهلاك و الفناء على من يردها و يكذب بها و قد أرسلناها إلى الأولين فكذبوا بها و استؤصلوا فلو أنا أرسلنا إلى هؤلاء شيئا من جنس تلك الآيات المخوفة لحق بهم الإهلاك و التدمير و انطوى بساط الدنيا فأمهلناهم حتى حين و سيلحق بهم و لا يتخطاهم - كما أشير إليه في قوله: ﴿وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ

 

 

 

 رَسُولٌ الآيات: يونس: ٤٧.

و ذكر بعضهم: أن المراد بالقرى في الآية القرى الكافرة و أن تعميم القرى لا يساعد عليه السياق انتهى. و هو دعوى لا دليل عليها.

و قوله: ﴿كَانَ ذَلِكَ فِي اَلْكِتَابِ مَسْطُوراً أي إهلاك القرى أو تعذيبها عذابا شديدا كان في الكتاب مسطورا و قضاء محتوما، و بذلك يظهر أن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ الذي يذكر القرآن أن الله كتب فيه كل شي‏ء كقوله: ﴿وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ: يس: ١٢، و قوله: ﴿وَ مَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ فِي اَلسَّمَاءِ وَ لاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَ لاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ: يونس: ٦١.

و من غريب الكلام ما ذكره بعضهم: و ذكر غير واحد أنه ما من شي‏ء إلا بين فيه أي في اللوح المحفوظ و الكتاب المسطور بكيفياته و أسبابه الموجبة له و وقته المضروب له، و استشكل العموم بأنه يقتضي عدم تناهي الأبعاد، و قد قامت البراهين النقلية و العقلية على خلاف ذلك فلا بد أن يقال بالتخصيص بأن يحمل الشي‏ء على ما يتعلق بهذه النشأة أو نحو ذلك.

و قال بعضهم: بالعموم إلا أنه التزم كون البيان على نحو يجتمع مع التناهي فاللوح المحفوظ في بيانه جميع الأشياء الدنيوية و الأخروية و ما كان و ما يكون نظير الجفر الجامع في بيانه لما يبينه. انتهى.

و الكلام مبني على كونه لوحا جسمانيا موضوعا في بعض أقطار العالم مكتوبا فيه أسماء الأشياء و أوصافها و أحوالها و ما يجري عليها في الأنظمة الخاصة بكل منها و النظام العام الجاري عليها من جميع الجهات، و لو كان كما يقولون لوحا ماديا جسمانيا لم يسع كتابة أسماء أجزائه التي تألف منها جسمه و تفصيل صفاتها و حالاتها فضلا عن غيره من الموجودات التي لا يحصيها و لا يحيط بتفاصيل صفاتها و أحوالها و ما يحدث عليها و النسب التي بينها إلا الله سبحانه، و ليس ينفع في ذلك التخصيص بما في هذه النشأة أو بما دون ذلك و هو ظاهر.

و ما التزم به البعض أنه من قبيل انطواء غير المتناهي في المتناهي نظير اشتمال

 

 

 

الحروف المقطعة جميع الكلام مع عدم تناهي التأليفات الكلامية التزام بوجود صور الحوادث فيه بالقوة و الإمكان أو الإجمال و كلامه سبحانه فيما يصف فيه هذا اللوح كالصريح أو هو صريح في اشتماله على الأشياء و الحوادث مما كان أو يكون أو هو كائن بالفعل و على نحو التفصيل و بسمة الوجوب الذي لا سبيل للتغير إليه، و لو كان كذلك لكفى فيه كتابة حروف التهجي في دائرة على لوح.

على أن الجمع بين جسمية اللوح و ماديته التي من خاصتها قبول التغير و بين كونه محفوظا من أي تغير و تحول مفروض مما يحتاج إلى دليل أجلى من هذه التصويرات و في الكلام مواقع أخرى للنظر.

فالحق أن الكتاب المبين هو متن‏[2] الأعيان بما فيه من الحوادث من جهة ضرورة ترتب المعلولات على عللها، و هو القضاء الذي لا يرد و لا يبدل لا من جهة إمكان المادة و قوتها، و التعبير عنه بالكتاب و اللوح لتقريب الأفهام إلى حقيقة المعنى بالتمثيل، و سنستوفي الكلام في هذا البحث إن شاء الله في موضع يناسبه.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا اَلْأَوَّلُونَ إلى آخر الآية قد تقدم وجه اتصال الآية بما قبلها و محصله أن الآية السابقة أفادت أن الناس - و آخروهم كأوليهم - مستحقون بما فيهم من غريزة الفساد و الفسق لحلول الهلاك و سائر أنواع العذاب الشديد، و قد قضى الله على القرى أن تهلك أو تعذب عذابا شديدا و هذا هو الذي منعنا أن نرسل بالآيات التي يقترحونها فإن السابقين منهم اقترحوها فأرسلناها إليهم فكذبوا بها فأهلكناهم، و هؤلاء اللاحقون في خلق سابقيهم فلو أرسلنا بالآيات حسب اقتراحهم لكذبوا بها فحل الهلاك بهم لا محالة كما حل بسابقيهم، و ما يريد الله سبحانه أن يعاجلهم بالعقوبة.

و بهذا يظهر أن للآيتين ارتباطا بما سيحكيه من اقتراحهم الآيات بقوله: ﴿وَ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ اَلْأَرْضِ يَنْبُوعاً: الآية ٩٠ من السورة إلى آخر الآيات، و ظاهر آيات السورة أنها نزلت دفعة واحدة.

 

 

 

 

 فقوله: ﴿وَ مَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ المنع‏ هو قسر الغير عما يريد أن يفعله و كفه عنه، و الله سبحانه يحكم و لا معقب لحكمه و هو الغالب القاهر إذا أراد شيئا قال له كن فيكون، فكون تكذيب الأولين لآياته مانعا له من إرسال الآيات المقترحة بعد ذلك كون الفعل بالنظر إلى ما ارتكز فيهم من خلق التكذيب خاليا عن المصلحة بالنسبة إلى أمة أراد الله أن لا يعاجلهم بالعقوبة و الهلاك أو خاليا عن المصلحة مطلقا للعلم بأن عامتهم لا يؤمنون بالآيات المقترحة.

و إن شئت فقل: إن المنافاة بين إرسال الآيات المقترحة مع تكذيب الأولين و كون الآخرين سالكين سبيلهم المستتبع للاستئصال و بين تعلق المشية بإمهال هذه الأمة عبر عنها في الآية بالمنع استعارة.

و كأنه للإشعار بذلك عبر عن إيتاء الآيات بالإرسال كأنها تتعاضد و تتداعى للنزول لكن التكذيب و تعرق الفساد في فطر الناس يمنع من ذلك.

و قوله: ﴿إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا اَلْأَوَّلُونَ التعبير عن الأمم الهالكة بالأولين المضايف للآخرين فيه إيماء إلى أن هؤلاء آخر أولئك الأولين فهم في الحقيقة أمة واحدة لآخرها من الخلق و الغريزة ما لأولها، لذيلها من الحكم ما لصدرها و لذلك كانوا يقولون:

﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا اَلْأَوَّلِينَ: المؤمنون: ٢٤ و يكررون ذكر هذه الكلمة.

و كيف كان فمعنى الآية أنا لم نرسل الآيات التي يقترحونها و المقترحون هم قريش - لأنا لو أرسلناها لم يؤمنوا و كذبوا بها فيستحقوا عذاب الاستئصال كما أنا أرسلناها إلى الأولين بعد اقتراحهم إياها فكذبوا بها فأهلكناهم لكنا قضينا على هذه الأمة أن لا نعذبهم إلا بعد مهلة و نظرة كما يظهر من مواضع من كلامه تعالى.

و ذكروا في معنى الآية الكريمة وجهين آخرين:

أحدهما: أنا لا نرسل الآيات لعلمنا بأنهم لا يؤمنون عندها فيكون إنزالها عبثا لا فائدة فيه كما أن من قبلهم لم يؤمنوا عند إنزال الآيات و هذا إنما يتم في الآيات المقترحة و أما الآيات التي يتوقف عليها ثبوت النبوة فإن الله يؤتيها رسوله لا محالة، و كذا الآيات التي في نزولها لطف منه سبحانه فإن الله يظهرها أيضا لطفا منه، و أما غير هذين

 

 

 

 النوعين فلا فائدة في إنزالها.

و ثانيهما: أن المعنى أنا لا نرسل الآيات لأن آباءكم و أسلافكم سألوا مثلها و لم يؤمنوا به عند ما نزل و أنتم على آثار أسلافكم مقتدون فكما لم يؤمنوا هم لا تؤمنون أنتم.

و المعنى الثاني منقول عن أبي مسلم و تمييزه من المعنيين السابقين من غير أن ينطبق على أحدهما لا يخلو من صعوبة.

و قوله: ﴿وَ آتَيْنَا ثَمُودَ اَلنَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا ثمود هم قوم صالح و لقد آتاهم الناقة آية، و المبصرة الظاهرة البينة على حد ما في قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلْنَا آيَةَ اَلنَّهَارِ مُبْصِرَةً: إسراء - ١٢، و هي صفة الناقة أو صفة لمحذوف و التقدير آية مبصرة و المعنى و آتينا قوم ثمود الناقة حالكونها ظاهرة بينة أو حالكونها آية ظاهرة بينة فظلموا أنفسهم بسببها أو ظلموا مكذبين بها.

و قوله: ﴿وَ مَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً أي إن الحكمة في الإرسال بالآيات التخويف و الإنذار فإن كانت من الآيات التي تستتبع عذاب الاستئصال ففيها تخويف بالهلاك في الدنيا و عذاب النار في الآخرة، و إن كانت من غيرها ففيها تخويف و إنذار بعقوبة العقبى.

و ليس من البعيد أن يكون المراد بالتخويف إيجاد الخوف و الوحشة بإرسال ما دون عذاب الاستئصال على حد ما في قوله تعالى: ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ: النحل، ٤٧ فيرجع محصل معنى الآية إنا لا نرسل بالآيات المقترحة لأنا لا نريد أن نعذبهم بعذاب الاستئصال و إنما نرسل ما نرسل من الآيات تخويفا ليحذروا بمشاهدتها عما هو أشد منها و أفظع و نسب الوجه إلى بعضهم.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَ مَا جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ اَلشَّجَرَةَ اَلْمَلْعُونَةَ فِي اَلْقُرْآنِ وَ نُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً فقرأت الآية و هي أربع واضحة المعاني لكنها بحسب ما بينها من الاتصال و ارتباط بعضها ببعض لا تخلو من إجمال و السبب الأصلي في ذلك إجمال الفقرتين الوسطيين الثانية و الثالثة.

 

 

 

 فلم يبين سبحانه ما هذه الرؤيا التي أراها نبيه ص و لم يقع في سائر كلامه ما يصلح لأن يفسر به هذه الرؤيا، و الذي ذكره من رؤياه في مثل قوله: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اَللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَ لَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ: الأنفال، ٤٣ و قوله ﴿لَقَدْ صَدَقَ اَللَّهُ رَسُولَهُ اَلرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرَامَ: الفتح - ٢٧ من الحوادث الواقعة بعد الهجرة و هذه الآية مكية نازلة قبل الهجرة.

و لا يدرى ما هذه الشجرة الملعونة في القرآن التي جعلها فتنة للناس، و لا توجد في القرآن شجرة يذكرها الله ثم يلعنها نعم ذكر سبحانه شجرة الزقوم و وصفها بأنها فتنة كما في قوله ﴿أَمْ شَجَرَةُ اَلزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ: الصافات - ٦٣ لكنه سبحانه لم يلعنها في شي‏ء من المواضع التي ذكرها، و لو كان مجرد كونها شجرة تخرج في أصل الجحيم و سببا من أسباب عذاب الظالمين موجبا للعنها لكانت النار و كل ما أعد الله فيها للعذاب ملعونة و لكانت ملائكة العذاب و هم الذين قال تعالى فيهم: ﴿وَ مَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ اَلنَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَ مَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا: المدثر: ٣١ ملعونين و قد أثنى الله عليهم ذاك الثناء البالغ في قوله: ﴿عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اَللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ: التحريم: ٦ و قد عد سبحانه أيدي المؤمنين من أسباب عذاب الكفار إذ قال: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اَللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ: التوبة: ١٤ و ليست بملعونة.

و بهذا يتأيد أنه لم يكن المراد بالآية الكشف عن قناع الفقرتين و إيضاح قصة الرؤيا و الشجرة الملعونة في القرآن المجعولتين فتنة للناس بل إنما أريدت الإشارة إلى إجمالهما و التذكير بما يقتضيانه بحكم السياق.

نعم ربما يلوح السياق إلى بعض شأن الأمرين: الرؤيا و الشجرة الملعونة فإن الآيات السابقة كانت تصف الناس أن أخراهم كأولاهم و ذيلهم كصدرهم في عدم الاعتناء بآيات الله سبحانه و تكذيبها، و أن المجتمعات الإنسانية ذائقون عذاب الله قرية بعد قرية و جيلا بعد جيل بإهلاك أو بعذاب مخوف دون ذلك، و الآيات اللاحقة ﴿وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ إلخ المشتملة على قصة إبليس و عجيب تسلطه على إغواء بني آدم تجري على سياق الآيات السابقة.

 

 

 

 و بذلك يظهر أن الرؤيا و الشجرة المشار إليهما في الآية أمران سيظهران على الناس أو هما ظاهران يفتتن بهما الناس فيشيع بهما فيهم الفساد و يتعرق فيهم الطغيان و الاستكبار و ذيل الآية ﴿وَ نُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً يشير إلى ذلك و يؤيده بل و صدر الآية ﴿وَ إِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ.

أضف إلى ذلك أنه تعالى وصف هذه الشجرة التي ذكرها بأنها ملعونة في القرآن، و بذلك يظهر أن القرآن مشتمل على لعنها و أن لعنها بين اللعنات الموجودة في القرآن كما هو ظاهر قوله: ﴿وَ اَلشَّجَرَةَ اَلْمَلْعُونَةَ فِي اَلْقُرْآنِ و قد لعن في القرآن إبليس و لعن فيه اليهود و لعن فيه المشركون و لعن فيه المنافقون و لعن فيه أناس بعناوين أخر كالذين يموتون و هم كفار و الذين يكتمون ما أنزل الله و الذين يؤذون الله و رسوله إلى غير ذلك.

و قد جعل الموصوف بهذه اللعنة شجرة، و الشجرة كما تطلق على ذي الساق من النبات كذلك تستعمل في الأصل الذي تطلع منه و تنشأ عليه فروع بالنسب أو بالاتباع على أصل اعتقادي، قال في لسان العرب،: و يقال: فلان من شجرة مباركة أي من أصل مبارك. انتهى. و قد ورد ذلك في لسانه (ص) كثيرا

كقوله: أنا و علي من شجرة واحدة، و من هذا الباب‏ قوله في حديث العباس: عم الرجل صنو أبيه.[3]

و بالتأمل في ذلك يتضح للباحث المتدبر أن هذه الشجرة الملعونة قوم من هؤلاء الملعونين في كلامه لهم صفة الشجرة في النشوء و النمو و تفرع الفروع على أصل له حظ من البقاء و الاثمار و هم فتنة تفتتن بها هذه الأمة، و ليس يصلح لهذه الصفة إلا طوائف ثلاث من المعدودين و هم أهل الكتاب و المشركون و المنافقون و لبثهم في الناس و بقاؤهم على الولاء إما بالتناسل و التوالد كأهل بيت من الطوائف المذكورة يعيشون بين الناس و يفسدون على الناس دينهم و دنياهم و يفتتن بهم الناس و إما بطلوع عقيدة فاسدة ثم اتباعها على الولاء من خلف بعد سلف.

و لم يظهر من المشركين و أهل الكتاب في زمن الرسول قبل الهجرة و بعدها قوم بهذا النعت، و قد آمن الله الناس من شرهم مستقلين بذلك بمثل قوله النازل في أواخر

 

 

 

عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): ﴿اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ: المائدة: ٣ و قد استوفينا البحث عن معنى الآية فيما تقدم.

فالذي يهدي إليه الإمعان في البحث أن المراد بالشجرة الملعونة قوم من المنافقين المتظاهرين بالإسلام يتعرقون بين المسلمين إما بالنسل و إما بالعقيدة و المسلك هم فتنة للناس، و لا ينبغي أن يرتاب في أن في سياق الآية تلويحا بالارتباط بين الفقرتين أعني قوله: ﴿وَ مَا جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ اَلشَّجَرَةَ اَلْمَلْعُونَةَ و خاصة بعد الإمعان في تقدم قوله: ﴿وَ إِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ و تذييل الفقرات جميعا بقوله: ﴿وَ نُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً فإن ارتباط الفقرات بعضها ببعض ظاهر في أن الآية بصدد الإشارة إلى أمر واحد هو سبحانه محيط به و لا ينفع فيه عظة و تخويف إلا زيادة في الطغيان.

و يستفاد من ذلك أن الشأن هو أن الله سبحانه أرى نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) في الرؤيا هذه الشجرة الملعونة و بعض أعمالهم في الإسلام ثم بين لرسوله أن ذلك فتنة.

فقوله: ﴿وَ إِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ مقتضى السياق أن المراد بالإحاطة الإحاطة العلمية، و الظرف متعلق بمحذوف و التقدير و اذكر إذ قلنا لك كذا و كذا و المعنى و اذكر للتثبت فيما ذكرنا لك في هذه الآيات أن شيمة الناس الاستمرار في الفساد و الفسوق و اقتداء أخلافهم بأسلافهم في الإعراض عن ذكر الله و عدم الاعتناء بآيات الله، وقتا قلنا لك إن ربك أحاط بالناس علما و علم أن هذه السنة ستجري بينهم كما كانت تجري.

و قوله: ﴿وَ مَا جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ اَلشَّجَرَةَ اَلْمَلْعُونَةَ فِي اَلْقُرْآنِ محصل معناه على ما تقدم أنه لم نجعل الشجرة الملعونة في القرآن التي تعرفها بتعريفنا، و ما أريناك في المنام من أمرهم إلا فتنة للناس و امتحانا و بلاء نمتحنهم و نبلوهم به و قد أحطنا بهم.

و قوله: ﴿وَ نُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً ضميرا الجمع للناس ظاهرا و المراد بالتخويف إما التخويف بالموعظة و البيان أو بالآيات المخوفة التي هي دون الآيات المهلكة المبيدة، و المعنى و نخوف الناس فما يزيدهم التخويف إلا طغيانا و لا أي طغيان كان بل

 

 

 

 طغيانا كبيرا أي أنهم لا يخافون من تخويفنا حتى ينتهوا عما هم عليه بل يجيبوننا بالطغيان الكبير فهم يبالغون في طغيانهم و يفرطون في عنادهم مع الحق.

و سياق الآية سياق التسلية فالله سبحانه يعزي نبيه ص فيها بأن الذي أراه من الأمر، و عرفه من الفتن، و قد جرت سنته تعالى على امتحان عباده بالمحن و الفتن، و قد اعترف بذلك غير واحد من المفسرين.

و يؤيد جميع ما تقدم ما ورد من طرق أهل السنة و اتفقت عليه أحاديث أئمة أهل البيت (عليه السلام) أن المراد بالرؤيا في الآية هي رؤيا رآها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في بني أمية و الشجرة شجرتهم و سيوافيك الروايات في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.

و قد ذكر جمع من المفسرين استنادا إلى ما نقل عن ابن عباس أن المراد بالرؤيا التي أراها الله نبيه هو الإسراء، و المراد بالشجرة الملعونة في القرآن شجرة الزقوم، و ذكروا أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لما رجع من الإسراء و أصبح أخبر المشركين بذلك فكذبوه و استهزءوا به، و كذلك لما سمع المشركون آيات ذكر الله فيها الزقوم كذبوه و سخروا منه فأنزل الله في هذه الآية أن الرؤيا التي أريناك و هي الإسراء و شجرة الزقوم ما جعلناهما إلا فتنة للناس.

ثم لما ورد عليهم أن الرؤيا على ما صرح به أهل اللغة هي ما يراه النائم في منامه و الإسراء كان في اليقظة اعتذروا عنه تارة بأن الرؤيا كالرؤية مصدر رأى و لا اختصاص لها بالمنام، و تارة بأن الرؤيا ما يراه الإنسان بالليل سواء فيه النوم و اليقظة، و تارة بأنها مشاكلة لتسمية المشركين له رؤيا، و تارة بأنه جار على زعمهم كما سموا أصنامهم آلهة فقد روي أن بعضهم قال للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لما قص عليهم إسراءه لعله شي‏ء رأيته في منامك فسماه الله رؤيا على زعمهم كما قال في الأصنام ﴿آلِهَتُهُمُ، و تارة بأنه سمي رؤيا تشبيها له بالمنام لما فيها من العجائب أو لوقوعه ليلا أو لسرعته.

و قد أجاب عن ذلك بعضهم أن الإسراء كان في المنام كما روي عن عائشة و معاوية.

و لما ورد عليهم أيضا أن لا معنى لتسمية الزقوم شجرة ملعونة و لا ذنب للشجرة اعتذروا عنه تارة بأن المراد من لعنها لعن طاعميها على نحو المجاز في الإسناد للدلالة على المبالغة في لعنهم كما قيل و تارة بأن اللعنة بمعنى البعد و هي في أبعد مكان من الرحمة

 

 

 

 لكونها تنبت في أصل الجحيم، و تارة بأنها جعلت ملعونة لأن طلعها يشبه رءوس الشياطين و الشياطين ملعونون، و تارة بأن العرب تسمي كل غذاء مكروه ضار ملعونا.

أما ما ذكروه في معنى الرؤيا فما قيل: إن الرؤيا مصدر مرادف للرؤية أو إنها بمعنى الرؤية ليلا يرده عدم الثبوت لغة و لم يستندوا في ذلك إلى شي‏ء من كلامهم من نظم أو نثر إلا إلى مجرد الدعوى.

و أما قولهم: إن ذلك مشاكلة لتسمية المشركين الإسراء رؤيا أو جرى على زعمهم أنه رؤيا فيجب تنزيه كلامه سبحانه من ذلك البتة فما هي القرينة الدالة على هذه العناية و أنه ليس فيه اعتراف بكونها رؤيا حقيقة؟ و لم يطلق تعالى على أصنامهم «آلهة» و «شركاء» و إنما أطلق ﴿آلِهَتُهُمُ و ﴿لِشُرَكَائِهِمْ فأضافها إليهم و الإضافة نعمت القرينة على عدم التسليم، و نظير الكلام جار في اعتذارهم بأنه من تشبيه الإسراء بالرؤيا فالاستعارة كسائر المجازات لا تصح إلا مع قرينة، و لو كانت هناك قرينة لم يستدل كل من قال بكون الإسراء مناميا بوقوع لفظة الرؤيا في الآية بناء على كون الآية ناظرة إلى الإسراء.

و أما قول القائل: إن الإسراء كان في المنام فقد اتضح بطلانه في أول السورة في تفسير آية الإسراء.

و أما المعاذير التي ذكروها تفصيا عن جعل الشجرة ملعونة في القرآن فقولهم: إن حقيقة لعنها لعن طاعميها على طريق المجاز في الإسناد للمبالغة في لعنهم فهو و إن كان كثير النظير في محاورات العامة لكنه مما يجب أن ينزه عنه ساحة كلامه تعالى و إنما هو من دأب جهلة الناس و سفلتهم تراهم إذا أرادوا أن يسبوا أحدا لعنوه بلعن أبيه و أمه و عشيرته مبالغة في سبه، و إذا شتموا رجلا أساءوا ذكر زوجته و بنته و سبوا السماء التي تظله و الأرض التي تقله و الدار التي يسكنها و القوم الذين يعاشرهم و أدب القرآن يمنعه أن يبالغ في لعن أصحاب النار بلعن الشجرة التي يعذبهم الله بأكل ثمارها.

و قولهم: إن اللعن مطلق الإبعاد مما لم يثبت لغة و الذي ذكروه و يشهد به ما ورد من استعماله في القرآن أن معناه الإبعاد من الرحمة و الكرامة و ما قيل: إنها كما قال الله ﴿شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ اَلْجَحِيمِ فهي في أبعد مكان من الرحمة إن أريدت بالرحمة الجنة

 

 

 

 فهو قول من غير دليل و إن أريدت به الرحمة المقابلة للعذاب كان لازمه كون الشجرة ملعونة بمعنى الإبعاد من الرحمة و الكرامة و مقتضاه كون جهنم و ما أعد الله فيها من العذاب و ملائكة النار و خزنتها ملعونين مغضوبين مبعدين من الرحمة، و ليس شي‏ء منها ملعونا و إنما اللعن و الغضب و البعد للمعذبين فيها من الإنس و الجن.

و قولهم: إنها جعلت ملعونة لأن طلعها يشبه رءوس الشياطين و الشياطين ملعونون فهو مجاز في الإسناد بعيد من الفهم يرد عليه ما أوردناه على الوجه الأول.

و قولهم: إن العرب تسمي كل غذاء مكروه ضار ملعونا فيه استعمال الشجرة و إرادة الثمرة مجازا ثم جعلها ملعونة لكونها مكروهة ضارة أو نسبة اللعن و هو وصف الثمرة إلى الشجرة مجازا و على أي حال كونها معنى من معاني اللعن غير ثابت بل الظاهر أنهم يصفونه باللعن بمعناه المعروف و العامة يلعنون كل ما لا يرتضونه من طعام و شراب و غيرهما.

و أما انتساب القول إلى ابن عباس فعلى تقدير ثبوته لا حجية فيه و خاصة مع معارضته لما في حديث عائشة الآتية و غيرها و هو يتضمن تفسير النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لا يعارضه قول غيره.

و قال في الكشاف، في قوله تعالى: ﴿وَ إِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ و اذكر إذ أوحينا إليك أن ربك أحاط بقريش يعني بشرناك بوقعة بدر و بالنصرة عليهم و ذلك قوله: ﴿سَيُهْزَمُ اَلْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ اَلدُّبُرَ ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ و غير ذلك فجعله كأن قد كان و وجد فقال: ﴿أَحَاطَ بِالنَّاسِ على عادته في إخباره.

و حين تزاحف الفريقان يوم بدر و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في العريش مع أبي بكر كان يدعو و يقول: اللهم إني أسألك عهدك و وعدك ثم خرج و عليه الدرع يحرض الناس و يقول:

﴿سَيُهْزَمُ اَلْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ اَلدُّبُرَ.

و لعل الله تعالى أراه مصارعهم في منامه فقد كان يقول حين ورد ماء بدر: و الله لكأني أنظر إلى مصارع القوم و هو يومئ إلى الأرض و يقول: هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان فتسامعت قريش بما أوحي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من أمر يوم بدر و ما أرى

 

 

 

 في منامه من مصارعهم فكانوا يضحكون و يستسخرون و يستعجلون به استهزاء.

و حين سمعوا بقوله: ﴿إِنَّ شَجَرَةَ اَلزَّقُّومِ طَعَامُ اَلْأَثِيمِ جعلوها سخرية و قالوا:

إن محمدا يزعم أن الجحيم تحرق الحجارة ثم يقول: ينبت فيها الشجر إلى أن قال و المعنى أن الآيات إنما يرسل بها تخويفا للعباد، و هؤلاء قد خوفوا بعذاب الدنيا و هو القتل يوم بدر. انتهى ثم ذكر تفسير الرؤيا في الآية بالإسراء ناسبا له إلى قيل.

و هو ظاهر في أنه لم يرتض تفسير الرؤيا في الآية بالإسراء و إن نسب إلى الرواية فعدل عنه إلى تفسيرها برؤيا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) وقعة بدر قبل وقوعها و تسامع قريش بذلك و استهزاءهم به.

و هو و إن تقصى به عما يلزم تفسيرهم الرؤيا بالإسراء من المحذور لكنه وقع فيما ليس بأهون منه إن لم يكن أشد و هو تفسير الرؤيا بما رجى أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يرى في منامه وقعة بدر و مصارع القوم فيها قبل وقوعها و يسخر قريش منه فيجعل فتنة لهم فلا حجة له على ما فسر إلا قوله: «و لعل الله أراه مصارعهم في منامه» و كيف يجترئ على تفسير كلامه تعالى بتوهم أمر لا مستند له و لا حجة عليه من أثر يعول عليه أو دليل من خلال الآيات يرجع إليه.

و ذكر بعضهم: أن المراد بالرؤيا رؤيا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه يدخل مكة و المسجد الحرام و هي التي ذكرها الله سبحانه بقوله: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اَللَّهُ رَسُولَهُ اَلرُّؤْيَا الآية.

و فيه أن هذه الرؤيا إنما رآها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعد الهجرة قبل صلح الحديبية و الآية مكية؛ و سنستوفي البحث عن هذه الرؤيا إن شاء الله تعالى.

و ذكر بعضهم: أن المراد بالشجرة الملعونة في القرآن هم اليهود و نسب إلى أبي مسلم المفسر.

و قد تقدم ما يمكن أن يوجه به هذا القول مع ما يرد عليه.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً قال في المجمع،: قال الزجاج: طينا منصوب على الحال بمعنى أنك أنشأته في حال كونه من طين، و يجوز أن يكون تقديره من طين فحذف «من»

 

 

 

 فوصل الفعل، و مثله قوله: ﴿أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلاَدَكُمْ أي لأولادكم و قيل: إنه منصوب على التميز. انتهى.

و جوز في الكشاف، كونه حالا من الموصول لا من المفعول ﴿خَلَقْتَ كما قاله الزجاج، و قيل: إن الحالية على أي حال خلاف الظاهر لكون ﴿طِيناً جامدا.

و في الآية تذكير آخر للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بقصة إبليس و ما جرى بينه و بين الله سبحانه من المحاورة عند ما عصى أمر السجدة ليتثبت فيما أخبره الله من حال الناس أنهم لم يزالوا على الاستهانة بأمر الله و الاستكبار عن الحق و عدم الاعتناء بآيات الله و لن يزالوا على ذلك فليذكر قصة إبليس و ما عقد عليه أن يحتنك ذرية آدم و سلطه الله يومئذ على من أطاعه من بني آدم و اتبع دعوته و دعوة خيله و رجله و لم يستثن في عقده إلا عباده المخلصين.

فالمعنى: و اذكر إذ قال ربك للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس فكأنه قيل: فما ذا صنع؟ أو فما ذا قال؟ إذ لم يسجد؟ فقيل: إنه أنكر الأمر بالسجدة و قال أ أسجد و الاستفهام للإنكار لمن خلقته من طين و قد خلقتني من نار و هي أشرف من الطين.

و في القصة اختصار بحذف بعض فقراتها، و الوجه فيه أن السياق اقتضى ذلك فإن الغرض بيان العلل و العوامل المقتضية لاستمرار بني آدم على الظلم و الفسوق فقد ذكر أولا أن الأولين منهم لم يؤمنوا بالآيات المقترحة و الآخرون بانون على الاقتداء بهم ثم ذكره (ص) أن هناك من الفتن ما سيفتنون به ثم ذكره بما قصه عليه من قصة آدم و إبليس و فيها عقد إبليس أن يغوي ذرية آدم و سؤاله أن يسلطه الله عليهم و إجابته تعالى إياه على ذلك في الغاوين فليس بمستبعد أن يميل أكثر الناس إلى سبيل الضلال و ينكبوا على الظلم و الطغيان و الإعراض عن آيات الله و قد أحاطت بهم الفتنة الإلهية من جانب و الشيطان بخيله و رجله من جانب.

قوله تعالى: ﴿قَالَ أَ رَأَيْتَكَ هَذَا اَلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً الكاف في ﴿أَ رَأَيْتَكَ زائدة لا محل لها من الإعراب و إنما

 

 

 

تفيد معنى الخطاب كما في أسماء الإشارة، و المراد بقوله: ﴿هَذَا اَلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ آدم (عليه السلام) و تكريمه على إبليس تفضيله عليه بأمره بالسجدة و رجمه حيث أبى.

و من هنا يظهر أنه فهم التفضيل من أمر السجدة كما أنه اجترى على إرادة إغواء ذريته مما جرى في محاورته تعالى الملائكة من قولهم: ﴿أَ تَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَ يَسْفِكُ اَلدِّمَاءَ: البقرة: ٣٠، و قد تقدم في تفسير الآية ما ينفع هاهنا.

و الاحتناك‏ على ما في المجمع، - الاقتطاع من الأصل، يقال: احتنك فلان ما عند فلان من مال أو علم إذا استقصاه فأخذه كله، و احتنك الجراد المزرع إذا أكله كله و قيل: إنه من قولهم: حنك الدابة بحبلها إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به، و الظاهر أن المعنى الأخير هو الأصل في الباب، و الاحتناك الإلجام.

و المعنى: قال إبليس بعد ما عصى و أخذه الغضب الإلهي رب أ رأيت هذا الذي فضلته بأمري بسجدته و رجمي بمعصيته أقسم لئن أخرتني إلى يوم القيامة و هو مدة مكث بني آدم في الأرض لألجمن ذريته إلا قليلا منهم و هم المخلصون.

قوله تعالى: ﴿قَالَ اِذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً قيل: الأمر بالذهاب ليس على حقيقته و إنما هو كناية عن تخليته و نفسه كما تقول لمن يخالفك: افعل ما تريد، و قيل: الأمر على حقيقته و هو تعبير آخر لقوله في موضع آخر: ﴿فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ و الموفور المكمل فالجزاء الموفور الجزاء الذي يوفى كله و لا يدخر منه شي‏ء، و معنى الآية واضح.

قوله تعالى: ﴿وَ اِسْتَفْزِزْ مَنِ اِسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ إلى آخر الآية الاستفزاز الإزعاج و الاستنهاض بخفة و إسراع، و الإجلاب‏ كما في المجمع، السوق بجلبة من السائق و الجلبة شدة الصوت، و في المفردات،: أصل الجلب سوق الشي‏ء يقال: جلبت جلبا قال الشاعر: «و قد يجلب الشي‏ء البعيد الجواب» و أجلبت عليه صحت عليه بقهر، قال الله عز و جل: ﴿وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ انتهى.

و الخيل على ما قيل الأفراس حقيقة و لا واحد له من لفظه و يطلق على الفرسان

 

 

 

 مجازا، و الرجل‏ بالفتح فالكسر هو الراجل كحذر و حاذر و كمل و كامل و هو خلاف الراكب، و ظاهر مقابلته بالخيل أن يكون المراد به الرجالة و هم غير الفرسان من الجيش.

فقوله: ﴿وَ اِسْتَفْزِزْ مَنِ اِسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ أي استنهض للمعصية من استطعت أن تستنهضه من ذرية آدم و هم الذين يتولونه منهم و يتبعونه كما ذكره في سورة الحجر بصوتك، و كأن الاستفزاز بالصوت كناية عن استخفافهم بالوسوسة الباطلة من غير حقيقة، و تمثيل بما يساق الغنم و غيره بالنعيق و الزجر و هو صوت لا معنى له.

و قوله: ﴿وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ أي و صح عليهم لسوقهم إلى معصية الله بأعوانك و جيوشك فرسانهم و رجالتهم و كأنه إشارة إلى أن قبيله و أعوانه منهم من يعمل ما يعمل بسرعة كما هو شأن الفرسان في معركة الحرب و منهم من يستعمل في غير موارد الحملات السريعة كالرجالة، فالخيل و الرجل كناية عن المسرعين في العمل و المبطئين فيه و فيه تمثيل نحو عملهم.

و قوله: ﴿وَ شَارِكْهُمْ فِي اَلْأَمْوَالِ وَ اَلْأَوْلاَدِ الشركة إنما يتصور في الملك و الاختصاص و لازمه كون الشريك سهيما لشريكه في الانتفاع الذي هو الغرض من اتخاذ المال و الولد فإن المال عين خارجي منفصل من الإنسان و كذا الولد شخص إنساني مستقل عن والديه، و لو لا غرض الانتفاع لم يعتبر الإنسان مالية لمال و لا اختصاص بولد.

فمشاركة الشيطان للإنسان في ماله أو ولده مساهمته له في الاختصاص و الانتفاع كأن يحصل المال الذي جعله الله رافعا لحاجة الإنسان الطبيعية من غير حله فينتفع به الشيطان لغرضه و الإنسان لغرضه الطبيعي، أو يحصله من طريق الحل لكن يستعمله في غير طاعة الله فينتفعان به معا و هو صفر الكف من رحمة الله و كأن يولد الإنسان من غير طريق حله أو يولد من طريق حله ثم يربيه تربية غير صالحة و يؤدبه بغير أدب الله فيجعل للشيطان سهما و لنفسه سهما، و على هذا القياس.

و هذا وجه مستقيم لمعنى الآية و جامع لما ذكره المفسرون في معنى الآية من الوجوه المختلفة كقول بعضهم الأموال و الأولاد التي يشارك فيها الشيطان كل مال أصيب من حرام و أخذ من غير حقه و كل ولد زنا كما عن ابن عباس و غيره.

 

 

 

 و قول آخر: إن مشاركته في الأموال أنه أمرهم أن يجعلوها سائبة و بحيرة و غير ذلك و في الأولاد أنهم هودوهم و نصروهم و مجسوهم كما عن قتادة.

و قول آخر: إن كل مال حرام و فرج حرام فله فيه شرك كما عن الكلبي، و قول آخر: إن المراد بالأولاد تسميتهم عبد شمس و عبد الحارث و نحوهما، و قول آخر:

هو قتل الموءودة من أولادهم كما عن ابن عباس أيضا، و قول آخر: إن المشاركة في الأموال الذبح للآلهة كما عن الضحاك إلى غير ذلك مما روي عن قدماء المفسرين.

و قوله: ﴿وَ عِدْهُمْ وَ مَا يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً أي ما يعدهم إلا وعدا غارا بإظهار الخطإ في صورة الصواب و الباطل على هيئة الحق فالغرور مصدر بمعنى اسم الفاعل للمبالغة.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَ كَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً المراد بعبادي أعم من المخلصين الذين استثناهم إبليس بقوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً بل غير الغاوين من اتباع إبليس كما قال في موضع آخر: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ: الحجر: ٤٢ و الإضافة للتشريف.

و قوله: ﴿وَ كَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً أي قائما على نفوسهم و أعمالهم حافظا لمنافعهم متوليا لأمورهم فإن الوكيل‏ هو الكافل لأمور الغير القائم مقامه في تدبيرها و إدارة رحاها، و بذلك يظهر أن المراد به وكالته الخاصة لغير الغاوين من عباده كما مر في سورة الحجر.

و قد تقدمت أبحاث مختلفة حول قصة سجدة آدم نافعة في هذا المقام في مواضع متفرقة من كلامه تعالى كسورة البقرة و سورة الأعراف و سورة الحجر.

بحث روائي‏

 في تفسير العياشي، عن ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: ﴿وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ قال: هو الفناء بالموت أو غيره‏،- و في

 

 

 

 رواية أخرى عنه (عليه السلام): ﴿وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ قال:

بالقتل و الموت أو غيره. أقول: و لعله تفسير لجميع الآية.

و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿وَ مَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ الآية قال نزلت في قريش.

 قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في الآية: و ذلك أن محمدا سأل قومه أن يأتيهم فنزل جبرئيل فقال: إن الله عز و جل يقول: ﴿وَ مَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا اَلْأَوَّلُونَ، و كنا إذا أرسلنا إلى قريش آية فلم يؤمنوا بها أهلكناهم فلذلك أخرنا عن قومك الآيات.

 و في الدر المنثور، أخرج أحمد و النسائي و البزاز و ابن جرير و ابن المنذر و الطبراني و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل، و الضياء في المختارة، عن ابن عباس قال" :سأل أهل مكة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يجعل لهم الصفا ذهبا و أن ينحي عنهم الجبال فيزرعون فقيل له: إن شئت أن نتأنى بهم و إن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم من الأمم قال: لا بل أستأني بهم فأنزل الله.

﴿وَ مَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا اَلْأَوَّلُونَ. أقول: و روي ما يقرب منه بغير واحد من الطرق.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن سهل بن سعد قال ":رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بني فلان ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فما استجمع ضاحكا حتى مات فأنزل الله: ﴿وَ مَا جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ.

 و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر أن النبي قال: رأيت ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنهم القردة و أنزل الله في ذلك: ﴿وَ مَا جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ اَلشَّجَرَةَ اَلْمَلْعُونَةَ يعني الحكم و ولده. و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أريت بني أمية على منابر الأرض و سيتملكونكم فتجدونهم أرباب سوء، و اهتم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لذلك فأنزل الله: ﴿وَ مَا جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ.

 

 

 

 و فيه، أخرج ابن مردويه عن الحسين بن علي: أن رسول الله أصبح و هو مهموم فقيل:

ما لك يا رسول الله؟ فقال: إني أريت في المنام كان بني أمية يتعاورون منبري هذا فقيل: يا رسول الله لا تهتم فإنها دنيا تنالهم فأنزل الله: ﴿وَ مَا جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل، و ابن عساكر عن سعيد بن المسيب قال :رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بني أمية على المنابر فساءه ذلك فأوحى الله إليه إنما هي دنيا أعطوها فقرت عينه، و هي قوله: ﴿وَ مَا جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ يعني بلاء للناس:

أقول: و رواه في تفسير البرهان، عن الثعلبي في تفسيره، يرفعه إلى سعيد بن المسيب.

 و في تفسير البرهان، عن كتاب فضيلة الحسين يرفعه إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): رأيت في النوم بني الحكم أو بني العاص ينزون على منبري كما تنزو القردة فأصبح كالمتغيظ فما رؤي رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) مستجمعا ضاحكا بعد ذلك حتى مات.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن عائشة: أنها قالت لمروان بن الحكم سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول لأبيك و جدك: إنكم الشجرة الملعونة في القرآن.

و في مجمع البيان،: رؤيا رآها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن قرودا تصعد منبره و تنزل و ساءه ذلك و اغتم:، رواه سهل بن سعيد عن أبيه. ثم قال: و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام)، و قالوا: على هذا التأويل الشجرة الملعونة في القرآن هو بنو أمية.

أقول: و ليس من التأويل في شي‏ء بل هو تنزيل كما تقدم بيانه، إلا أن التأويل ربما أطلق في كلامهم على مطلق توجيه المقصود.

و روى هذا المعنى العياشي في تفسيره، عن عدة من الثقات كزرارة و حمران و محمد بن مسلم و معروف بن خربوذ و سلام الجعفي و القاسم بن سليمان و يونس بن عبد الرحمن الأشل و عبد الرحيم القصير عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) و رواه القمي في تفسيره، مضمرا، و رواه العياشي أيضا عن أبي الطفيل عن علي (عليه السلام).

 

 

 

 و في بعض هذه الروايات أن مع بني أمية غيرهم و قد تقدم ما يهدي إليه البحث في معنى الآية، و قد مر أيضا الروايات في ذيل قوله تعالى: ﴿وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ الآية: إبراهيم: ٢٦ أن الشجرة الخبيثة هي الأفجران من قريش.

 و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و سعيد بن منصور و أحمد و البخاري و الترمذي و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و الحاكم و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل، عن ابن عباس :في قوله: ﴿وَ مَا جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ليلة أسري به إلى بيت المقدس و ليست برؤيا منام «و الشجرة الملعونة في القرآن» قال: هي شجرة الزقوم. أقول: و روي هذا المعنى أيضا عن ابن سعد و أبي يعلى و ابن عساكر عن أم هاني، و قد عرفت حال الرواية في الكلام على تفسير الآية.

 و فيه، أخرج ابن جرير و ابن مردويه عن ابن عباس :في قوله: ﴿وَ مَا جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْنَاكَ الآية قال: إن رسول الله أرى أنه دخل مكة هو و أصحابه و هو يومئذ بالمدينة فسار إلى مكة قبل الأجل فرده المشركون فقال أناس: قد رد و قد كان حدثنا أنه سيدخلها فكانت رجعته فتنتهم. أقول: و قد تقدم ما على الرواية في تفسير الآية على أنها تعارض ما تقدمها.

 و في تفسير البرهان، عن الحسين بن سعيد في كتاب الزهد، عن عثمان بن عيسى عن عمر بن أذينة عن سليمان بن قيس قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن الله حرم الجنة على كل فحاش بذي‏ء قليل الحياء لا يبالي ما قال و ما قيل له - فإنك إن فتشته لم تجده إلا لغية أو شرك شيطان.

فقال رجل. يا رسول الله و في الناس شرك شيطان؟ فقال: أ و ما تقرأ قول الله عز و جل: ﴿وَ شَارِكْهُمْ فِي اَلْأَمْوَالِ وَ اَلْأَوْلاَدِ؟ فقال: من لا يبالي ما قال و ما قيل له؟ فقال: نعم من تعرض للناس فقال فيهم و هو يعلم أنهم لا يتركونه فذلك الذي لا يبالي ما قال و ما قيل له. و في تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن شرك

 

 

 

الشيطان: قوله: ﴿وَ شَارِكْهُمْ فِي اَلْأَمْوَالِ وَ اَلْأَوْلاَدِ قال: ما كان من مال حرام فهو شرك الشيطان. قال: و يكون مع الرجل حتى يجامع فيكون من نطفته و نطفة الرجل إذا كان حراما.

 أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة، و هي من قبيل ذكر المصاديق، و قد تقدم المعنى الجامع لها.

و ما ذكر فيها على مشاركته الرجل في الوقاع و النطفة و غير ذلك كناية عن أن له نصيبا في جميع ذلك فهو من التمثيل بما يتبين به المعنى المقصود، و نظائره كثيرة في الروايات.

[سورة الإسراء (١٧): الآیات ٦٦ الی ٧٢]

﴿رَبُّكُمُ اَلَّذِي يُزْجِي لَكُمُ اَلْفُلْكَ فِي اَلْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ٦٦ وَ إِذَا مَسَّكُمُ اَلضُّرُّ فِي اَلْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى اَلْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَ كَانَ اَلْإِنْسَانُ كَفُوراً ٦٧ أَ فَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ اَلْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً ٦٨ أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ اَلرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً ٦٩ وَ لَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْنَاهُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ رَزَقْنَاهُمْ مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ٧٠ يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتَابَهُمْ وَ لاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ٧١ وَ مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي اَلْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً ٧٢    

 

 

 

(بيان‏)

الآيات كالمكملة للآيات السابقة تثبت لله سبحانه من استجابة الدعوة و كشف الضر ما نفاه القبيل السابق عن أصنامهم و أوثانهم فإن الآيات السابقة تبتدأ بقوله تعالى: ﴿قُلِ اُدْعُوا اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ اَلضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لاَ تَحْوِيلاً و هذه الآيات تفتتح بقوله: ﴿رَبُّكُمُ اَلَّذِي يُزْجِي لَكُمُ اَلْفُلْكَ فِي اَلْبَحْرِ إلخ.

و إنما قلنا: هي كالمكملة لبيان الآيات السابقة مع أن ما تحتويه كل من القبلين حجة تامة في مدلولها تبطل إحداهما ألوهية آلهتهم و تثبت الأخرى ألوهية الله سبحانه لافتتاح القبيل الأول بقوله: ﴿قُلِ دون الثاني و ظاهره كون مجموع القبيلين واحدا من الاحتجاج أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بإلقائه إلى المشركين لإلزامهم بالتوحيد.

و يؤيده السياق السابق المبدو بقوله: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَبْتَغَوْا إِلى ذِي اَلْعَرْشِ سَبِيلاً و قد لحقه قوله ثانيا: ﴿وَ قَالُوا أَ إِذَا كُنَّا عِظَاماً إلى أن قال ﴿ قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً.

و قد ختم الآيات بقوله: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ إلخ فأشار به إلى أن هذا الذي يذكر من الهدى و الضلالة في الدنيا يلازم الإنسان في الآخرة فالنشأة الأخرى على طبق النشأة الأولى فمن أبصر في الدنيا أبصر في الآخرة، و من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى و أضل سبيلا.

قوله تعالى: ﴿رَبُّكُمُ اَلَّذِي يُزْجِي لَكُمُ اَلْفُلْكَ فِي اَلْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً الإزجاء على ما في مجمع البيان، سوق الشي‏ء حالا بعد حال فالمراد به إجراء السفن في البحر بإرسال الرياح و نحوه و جعل الماء رطبا مائعا يقبل الجري و الخرق، و الفلك جمع الفلكة و هي السفينة.

و ابتغاء الفضل طلب الرزق فإن الجواد إنما يجود غالبا بما زاد على مقدار حاجة نفسه و فضل الشي‏ء ما زاد و بقي منه و من ابتدائية، و ربما قيل: إنها للتبعيض، و ذيل

 

 

 

 الآية تعليل للحكم بالرحمة، و المعنى ظاهر. و الآية تمهيد لتاليها.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا مَسَّكُمُ اَلضُّرُّ فِي اَلْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ إلى آخر الآية الضر الشدة، و مس الضر في البحر هو خوف الغرق بالإشراف عليه بعصف الرياح و تقاذف الأمواج و نحو ذلك.

و قوله: ﴿ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ المراد بالضلال على ما ذكروا الذهاب عن الخواطر دون الخروج عن الطريق و قيل: هو بمعنى الضياع من قولهم: ضل عن فلان كذا أي ضاع عنه و يعود على أي حال إلى معنى النسيان.

و المراد بالدعاء دعاء المسألة دون دعاء العبادة فيعم قوله: ﴿مَنْ تَدْعُونَ الإله الحق و الآلهة الباطلة التي يدعوها المشركون، و الاستثناء متصل، و المعنى و إذا اشتد عليكم الأمر في البحر بالإشراف على الغرق نسيتم كل إله تدعونه و تسألونه حوائجكم إلا الله.

و قيل: المراد دعاء العبادة دون المسألة فيختص بمن يعبدونه من دون الله و الاستثناء منقطع، و المعنى إذا مسكم الضر في البحر ذهب عن خواطركم الآلهة الذين تعبدونهم لكن الله سبحانه لا يغيب عنكم و لا ينسى.

و الظاهر أن المراد بالضلال معناه المعروف و هو خلاف الهدى و الكلام مبني على تمثيل لطيف كأن الإنسان إذا مسه الضر في البحر و وقع في قلبه أن يدعو لكشف ضره قصده آلهته الذين كان يدعوهم و يستمر في دعائهم قبل ذلك و أخذوا يسعون نحوه و يتسابقون في قطع الطريق إلى ذكره ليذكرهم و يدعوهم و يستغيث بهم لكنهم جميعا يضلون الطريق و لا ينتهون إلى ذكره فينساهم و الله سبحانه مشهود لقلبه حاضر في ذكره يذكره الإنسان عند ذلك فيدعوه و قد كان معرضا عنه فيجيبه و ينجيه إلى البر.

و بذلك يظهر أن المراد بالضلال معناه المعروف، و بمن تدعون آلهتهم من دون الله فحسب و أن الاستثناء منقطع و الوجه في جعل الاستثناء منقطعا أن الذي يبتني عليه الكلام من معنى التشبيه لا يناسب ساحة قدسه تعالى لتنزهه من السعي و الوقوع في الطريق و قطعه و نحو ذلك.

مضافا إلى أن قوله: ﴿فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى اَلْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ظاهر في أن المراد بالدعوة

 

 

 

 دعاء المسألة و أنهم في البر أي في حالهم العادي غير حال الضر معرضون عنه تعالى لا يدعونه فقوله: ﴿مَنْ تَدْعُونَ الظاهر في استمرار الدعوة المراد به آلهتهم الذين كانوا يدعونهم فاستثناؤه تعالى استثناء منقطع.

و قوله: ﴿فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى اَلْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ أي فلما نجاكم من الغرق و كشف عنكم الضر رادا لكم إلى البر أعرضتم عنه أو عن دعائه و فيه دلالة على أنه تعالى غير مغفول عنه للإنسان في حال و أن فطرته تهديه إلى دعائه في الضراء و السراء و الشدة و الرخاء جميعا فإن الإعراض إنما يتحقق عن أمر ثابت موجود فقوله: إن الإنسان يدعوه في الضر و يعرض عنه بعد كشفه في معنى أنه مهدي إليه بالفطرة دائما.

و قوله: ﴿وَ كَانَ اَلْإِنْسَانُ كَفُوراً أي إن الكفران من دأب الإنسان من حيث إن له الطبيعة الإنسانية فإنه يتعلق بالأسباب الظاهرية فينسى مسبب الأسباب فلا يشكره تعالى و هو يتقلب في نعمة الظاهرة و الباطنة.

و في تذييل الكلام بهذه الجملة تنبيه على أن إعراض الإنسان عن ربه في غير حال الضر ليس بحال غريزي فطري له حتى يستدل بنسيانه ربه على نفي الربوبية بل هو دأب سي‏ء من الإنسان يوقعه فيه كفران النعمة.

و في الآية حجة على توحده تعالى في ربوبيته، و محصله أن الإنسان إذا انقطع عن جميع الأسباب الظاهرية و أيس منها لم ينقطع عن التعلق بالسبب من أصله و لم يبطل منه رجاء النجاة من رأس بل رجى النجاة و تعلق قلبه بسبب ما يقدر على ما لا يقدر عليه سائر الأسباب، و لا معنى لهذا التعلق الفطري لو لا أن هناك سببا فوق الأسباب إليه يرجع الأمر كله، و هو الله سبحانه، و ليس يصرف الإنسان عنه إلا الاشتغال بزخارف الحياة الدنيا و التعلق بالأسباب الظاهرية و الغفلة عما وراءها.

قوله تعالى: ﴿أَ فَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ اَلْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً خسوف‏ القمر استتار قرصه بالظلمة و الظل و خسف الله به الأرض أي ستره فيها، و الحاصب كما في المجمع، الريح التي ترمي بالحصباء و الحصى الصغار و قيل: الحاصب‏ الريح المهلكة في البر و القاصف‏ الريح المهلكة في البحر.

 

 

 

 و الاستفهام للتوبيخ يوبخهم الله تعالى على إعراضهم عن دعائه في البر فإنهم لا مؤمن لهم من مهلكات الحوادث في البر كما لا مؤمن لهم حال مس الضر في البحر إذ لا علم لهم بما سيحدث لهم و عليهم فمن الجائز أن يخسف الله بهم جانب البر أو يرسل عليهم ريحا حاصبا فيهلكهم بذلك ثم لا يجدوا لأنفسهم وكيلا يدفع عنهم الشدة و البلاء و يعيد إليهم الأمن و السلام.

قوله تعالى: ﴿أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرى إلى آخر الآية القصف‏ الكسر بشدة و قاصف الريح هي التي تكسر السفن و الأبنية، و قيل: القاصف الريح المهلكة في البحر و التبيع هو التابع يتبع الشي‏ء، و ضمير ﴿فِيهِ للبحر و ضمير ﴿بِهِ للغرق أو للإرسال أو لهما معا باعتبار ما وقع و لكل قائل، و الآية من تمام التوبيخ.

و المعنى أم هل أمنتم بنجاتكم إلى البر أن يعيدكم الله في البحر تارة أخرى فيرسل عليكم ريحا كاسرة للسفن أو مهلكة فيغرقكم بسبب كفركم ثم لا تجدوا بسبب الإغراق أحدا يتبع الله لكم عليه فيسأله لم فعل هذا بكم؟ و يؤاخذه على ما فعل.

و في قوله: ﴿ثُمَّ لاَ تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً التفات من الغيبة إلى التكلم بالغير و كان النكتة فيه الظهور على الخصم بالعظمة و الكبرياء. و هو المناسب في المقام، و ليكون مع ذلك توطئة لما في الآيات التالية من سياق التكلم بالغير.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْنَاهُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ رَزَقْنَاهُمْ مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً الآية مسوقة للامتنان مشوبا بالعتاب كأنه تعالى لما ذكر وفور نعمه و تواتر فضله و رحمته على الإنسان و حمله في البحر ابتغاء فضله و رزقه، و رفاه حاله في البر ثم نسيانه لربه و إعراضه عن دعائه إذا نجاه و كشف ضره كفرانا مع أنه متقلب دائما بين نعمه التي لا تحصى نبه على جملة تكريمه و تفضيله ليعلم بذلك مزيد عنايته بالإنسان و كفران الإنسان لنعمه على كثرتها و بلوغها.

و بذلك يظهر أن المراد بالآية بيان حال لعامة البشر مع الغض عما يختص به بعضهم من الكرامة الخاصة الإلهية و القرب و الفضيلة الروحية المحضة فالكلام يعم المشركين و الكفار و الفساق و إلا لم يتم معنى الامتنان و العتاب.

 

 

 

 فقوله: ﴿وَ لَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ المراد بالتكريم تخصيص الشي‏ء بالعناية و تشريفه بما يختص به و لا يوجد في غيره، و بذلك يفترق عن التفضيل فإن التكريم معنى نفسي و هو جعله شريفا ذا كرامة في نفسه، و التفضيل معنى إضافي و هو تخصيصه بزيادة العطاء بالنسبة إلى غيره مع اشتراكهما في أصل العطية، و الإنسان يختص من بين الموجودات الكونية بالعقل و يزيد على غيره في جميع الصفات و الأحوال التي توجد بينها و الأعمال التي يأتي بها.

و ينجلي ذلك بقياس ما يتفنن الإنسان به في مأكله و مشربه و ملبسه و مسكنه و منكحه و يأتي به من النظم و التدبير في مجتمعة، و يتوسل إليه من مقاصده باستخدام سائر الموجودات الكونية، و قياس ذلك مما لسائر الحيوان و النبات و غيرهما من ذلك فليس عندها من ذلك إلا وجوه من التصرف ساذجة بسيطة أو قريب من البساطة و هي واقفة في موقفها المحفوظ لها يوم خلقت من غير تغير أو تحول محسوس؛ و قد سار الإنسان في جميع وجوه حياته الكمالية إلى غايات بعيدة و لا يزال يسعى و يرقى.

و بالجملة بنو آدم مكرمون بما خصهم الله به من بين سائر الموجودات الكونية و هو الذي يمتازون به من غيرهم و هو العقل الذي يعرفون به الحق من الباطل و الخير من الشر و النافع من الضار.

و أما ما ذكره المفسرون أو وردت به الرواية أن الذي كرمهم الله به النطق أو تعديل القامة و امتدادها أو الأصابع يفعلون بها ما يشاءون أو الأكل باليد أو الخط أو حسن الصورة أو التسلط على سائر الخلق و تسخيرهم له أو أن الله خلق أباهم آدم بيده أو أنه جعل محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم) منهم أو جميع ذلك و ما ذكر منها فإنما ذكر على سبيل التمثيل.

فبعضها مما يتفرع على العقل كالخط و النطق و التسلط على غيره من الخلق و بعضها من مصاديق التفضيل دون التكريم و قد تقدم الفرق بينهما، و بعضها خارج عن مدلول الآية كالتكريم بخلق أبيهم آدم (عليه السلام) بيده و جعل محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) منهم فإن ذلك من التكريم الأخروي و التشريف المعنوي الخارج عن مدلول الآية كما تقدم.

و بذلك يظهر ما في قول بعضهم: إن التكريم بجميع ذلك و قد أخطأ صاحب

 

 

 

 روح المعاني حيث قال بعد ذكر الأقوال. و الكل في الحقيقة على سبيل التمثيل و من ادعى الحصر في واحد كابن عطية حيث قال: إنما التكريم بالعقل لا غيره فقد ادعى غلطا و رام شططا و خالف صريح العقل و صحيح النقل. انتهى. و وجه خطأه ظاهر مما تقدم.

و قوله: ﴿وَ حَمَلْنَاهُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ أي حملناهم على السفن و الدواب و غير ذلك يركبونها إلى مقاصدهم و ابتغاء فضل ربهم و رزقه و هذا أحد مظاهر تكريمهم.

و قوله: ﴿وَ رَزَقْنَاهُمْ مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ أي من الأشياء التي يستطيبونها من أقسام النعم من الفواكه و الثمار و سائر ما يتنعمون به و يستلذونه مما يصدق عليه الرزق، و هذا أيضا أحد مظاهر التكريم فمثل الإنسان في هذا التكريم الإلهي مثل من يدعى إلى الضيافة و هي تكريم ثم يرسل إليه مركوب يركبه للحضور لها و هو تكريم ثم يقدم عليه أنواع الأغذية و الأطعمة الطيبة اللذيذة و هو تكريم.

و بذلك يظهر أن عطف قوله: ﴿وَ حَمَلْنَاهُمْ إلخ و قوله: ﴿وَ رَزَقْنَاهُمْ إلخ على التكريم من قبيل عطف المصاديق المترتبة على العنوان الكلي المنتزع منها.

و قوله: ﴿وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً لا يبعد أن يكون المراد بمن خلقناهم أنواع الحيوان ذوات الشعور و الجن الذي يثبته القرآن فإن الله سبحانه يعد أنواع الحيوان أمما أرضية كالأمة الإنسانية و يجريها مجرى أولي العقل كما قال:

﴿وَ مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي اَلْكِتَابِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾.

و هذا هو الأنسب بمعنى الآية و قد عرفت أن الغرض منها بيان ما كرم الله به بني آدم و فضلهم على سائر الموجودات الكونية و هي فيما نعلم الحيوان و الجن و أما الملائكة فليسوا من الموجودات الكونية الواقعة تحت تأثير النظام المادي الحاكم في عالم المادة.

فالمعنى: و فضلنا بني آدم على كثير مما خلقنا و هم الحيوان و الجن و أما غير

 

 

 

الكثير و هم الملائكة فهم خارجون عن محل الكلام لأنهم موجودات نورية غير كونية و لا داخلة في مجرى النظام الكوني، و الآية إنما تتكلم في الإنسان من جهة أنه أحد الموجودات الكونية و قد أنعم عليه بنعم نفسية و إضافية.

و قد تبين مما تقدم:

أولا: أن كلا من التكريم و التفضيل في الآية ناظر إلى نوع من الموهبة الإلهية التي أوتيها الإنسان، أما تكريمه فيما يختص بنوعه من الموهبة لا يتعداه إلى غيره و هو العقل الذي يميز به الخير من الشر و النافع من الضار و الحسن من القبيح و يتفرع عليه مواهب أخرى كالتسلط على غيره و استخدامه في سبيل مقاصده و النطق و الخط و غيره.

و أما تفضيله فبما يزيد به على غيره في الأمور المشتركة بينه و بين غيره كما أن الحيوان يتغذى بما وجده من لحم أو فاكهة أو حب أو عشب و نحو ذلك على وجه ساذج و الإنسان يتغذى بذلك و يزيد عليه بما يبدعه من ألوان الغذاء المطبوخ و غير المطبوخ على أنحاء مختلفة و فنون مبتكرة و طعوم مستطابة لذيذة لا تكاد تحصى و لا تزال تزداد نوعا و صنفا، و قس على ذلك الحال في مشربه و ملبسه و مسكنه و نكاحه و اجتماعه المنزلي و المدني و غير ذلك.

و قال في مجمع البيان،: و متى قيل: إذا كان معنى التكريم و التفضيل واحدا فما معنى التكرار؟ فجوابه أن قوله: ﴿كَرَّمْنَا ينبئ عن الإنعام و لا ينبئ عن التفضل فجاء بلفظ التفضيل ليدل عليه، و قيل: إن التكريم يتناول نعم الدنيا و التفضيل يتناول نعم الآخرة، و قيل: إن التكريم بالنعم التي يصح بها التكليف، و التفضل بالتكليف الذي عرضهم به للمنازل العالية. انتهى.

أما ما ذكره أن التفضيل يدل على نكتة زائدة على مدلول التكريم و هو كونه تفضلا و إعطاء لا عن استحقاق ففيه أنه ممنوع و التفضيل كما يصح لا عن استحقاق من المفضل كذلك يصح عن استحقاق منه لذلك، و أما ما نقله عن غيره فدعوى من غير دليل.

و قال الرازي في تفسيره، في الفرق بينهما: إن الأقرب في ذلك أن يقال: إنه تعالى فضل الإنسان على سائر الحيوانات بأمور خلقية طبيعية ذاتية مثل العقل و النطق و الخط

 

 

 

 و الصورة الحسنة و القامة المديدة ثم إنه عز و جل عرضه بواسطة العقل و الفهم لاكتساب العقائد الحقة و الأخلاق الفاضلة فالأول هو التكريم و الثاني هو التفضيل فكأنه قيل:

فضلناهم بالتعريض لاكتساب ما فيه النجاة و الزلفى بواسطة ما كرمناهم به من مبادئ ذلك فعليهم أن يشكروا و يصرفوا ما خلق لهم لما خلق له فيوحدوا الله تعالى و لا يشركوا به شيئا و يرفضوا ما هم عليه من عبادة غيره انتهى.

و محصله الفرق بين التكريم و التفضيل بأن الأول إنما هو في الأمور الذاتية أو ما يلحق بها من الغريزيات و الثاني في الأمور الاكتسابية و أنت خبير بأن الإنسان و إن وجد فيه من المواهب الإلهية و الكمالات الوجودية أمور ذاتية و أمور اكتسابية على ما ذكره لكن اختصاص التكريم بالنوع الأول و التفضيل بالنوع الثاني لا يساعد عليه لغة و لا عرف. فالوجه ما قدمناه.

و ثانيا: أن الآية ناظرة إلى الكمال الإنساني من حيث وجوده الكوني و تكريمه و تفضيله بالقياس إلى سائر الموجودات الكونية الواقعة تحت النظام الكوني فالملائكة الخارجون عن النظام الكوني خارجون عن محل الكلام و المراد بتفضيل الإنسان على كثير ممن خلق تفضيله على غير الملائكة من الموجودات الكونية، و أما الملائكة فوجودهم غير هذا الوجود فلا تعرض لهم في ذلك بوجه.

و بذلك يظهر فساد ما استدل بعضهم بالآية على كون الملائكة أفضل من الإنسان حتى الأنبياء (عليه السلام) قال: لأن قوله تعالى: ﴿وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا يدل على أن هاهنا من لم يفضلهم عليه، و ليس إلا الملائكة لأن بني آدم أفضل من كل حيوان سوى الملائكة بالاتفاق.

وجه الفساد: أن الذي تعرضت له الآية إنما هو التفضيل من حيث الوجود الكوني الدنيوي و الملائكة غير موجودين بهذا النحو من الوجود، و إلى هذا يرجع ما أجاب به بعضهم أن التفضيل في الآية لم يرد به الثواب لأن الثواب لا يجوز التفضيل به ابتداء، و إنما المراد بذلك ما فضلهم الله به من فنون النعم التي أوتيها في الدنيا.

و أما ما أجابوا عنه بأن المراد بالكثير في الآية الجميع و من بيانية، و المعنى و فضلناهم على من خلقنا و هم كثير.

 

 

 

 ففيه أنه وجه سخيف لا يساعد عليه كلامهم و لا سياق الآية، و ما قيل: إنه من قبيل قولهم: بذلت له العريض من جاهي و أبحته المنيع من حريمي و لا يراد به أني بذلت له عريض جاهي و منعته ما ليس بعريض و أبحته منيع حريمي و لم أبحه ما ليس بمنيع بل المراد بذلت له جاهي الذي من صفته أنه عريض و أبحته حريمي الذي هو منيع، يرده أنه إن أريد بما فسر به المثالان أن العناية في الكلام مصروفة إلى أخذ كل الجاه عريضا و كل الحريم منيعا لم ينقسم الجاه و الحريم حينئذ إلى عريض و غير عريض و منيع و غير منيع و لم ينطبق على مورد الآية المدعى أنه أطلق فيها البعض و أريد به الكل، و إن أريد به أن المعنى بذلت له عريض جاهي فكيف بغير العريض و أبحته المنيع من حريمي فكيف بغير المنيع كان شمول حكم البعض للكل بالأولوية و لم يجز في مورد الآية قطعا.

و ربما أجيب عن ذلك بأنا إن سلمنا أن المراد بالكثير غير الملائكة و لفظة من للتبعيض فغاية ما في الباب أن تكون الآية ساكتة عن تفضيل بني آدم على الملائكة و هو أعم من تفضيل الملك على الإنسان لجواز التساوي، و لو سلم أنها تدل على التفضيل فغايته أن تدل على تفضيل جنس الملائكة على جنس بني آدم و هذا لا ينافي أن يكون بعض بني آدم أفضل من الملائكة كالأنبياء (عليه السلام).

و الحق كما عرفت أن الآية غير متعرضة للتفضيل من جهة الثواب و الفضل الأخروي و بعبارة أخرى هي متعرضة للتفضيل من جهة الوجود الكوني، و المراد بكثير ممن خلقنا غير الملائكة و من تبعيضية و المراد بمن خلقنا الملائكة و غيرهم من الإنسان و الحيوان و الجن. و الإنسان مفضل بحسب وجوده الكوني على الحيوان و الجن هذا و سيوافيك كلام في معنى تفضيل الإنسان على الملك إن شاء الله.

كلام في الفضل بين الإنسان و الملك‏

اختلف المسلمون في أن الإنسان و الملك أيهما أفضل؟ فالمعروف المنسوب إلى الأشاعرة أن الإنسان أفضل و المراد به أفضلية المؤمنين منهم إذ لا يختلف اثنان في أن من الإنسان من هو أضل من الأنعام و هو أهل الجحود منهم فكيف يمكن أن

 

 

 

 يفضل على الملائكة المقربين؟ و قد استدل عليه بالآية الكريمة: ﴿وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً على أن يكون الكثير بمعنى الجميع كما أومأنا إليه في تفسير الآية و بما ورد من طريق الرواية أن المؤمن أكرم على الله من الملائكة.

و هو المعروف أيضا من مذهب الشيعة، و ربما استدلوا عليه بأن الملك مطبوع على الطاعة من غير أن يتأتى منه المعصية لكن الإنسان من جهة اختياره تتساوى نسبته إلى الطاعة و المعصية و قد ركب من قوى رحمانية و شيطانية و تألف من عقل و شهوة و غضب فالإنسان المؤمن المطيع يطيعه و هو غير ممنوع من المعصية بخلاف الملك فهو أفضل من الملك.

و مع ذلك فالقول بأفضلية الإنسان بالمعنى الذي تقدم ليس باتفاقي بينهم فمن الأشاعرة من قال بأفضلية الملك مطلقا كالزجاج و نسب إلى ابن عباس.

و منهم من قال بأفضلية الرسل من البشر، مطلقا ثم الرسل من الملائكة على من سواهم من البشر و الملائكة ثم عامة الملائكة على عامة البشر.

و منهم من قال بأفضلية الكروبيين من الملائكة مطلقا ثم الرسل من البشر ثم الكمل منهم ثم عموم الملائكة من عموم البشر، كما يقول به الإمام الرازي و نسب إلى الغزالي.

و ذهبت المعتزلة إلى أفضلية الملائكة من البشر و استدلوا على ذلك بظاهر قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ. إلى قوله: ﴿وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً و قد مر تقرير حجتهم في تفسير الآية.

و قد بالغ الزمخشري في التشنيع على القائلين بأفضلية الإنسان من الملك ممن فسر الكثير في الآية بالجميع فقال في الكشاف، في ذيل قوله تعالى: ﴿وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا هو ما سوى الملائكة و حسب بني آدم تفضيلا أن ترفع عليهم الملائكة و هم هم و منزلتهم عند الله منزلتهم.

و العجب من المجبرة كيف عكسوا في كل شي‏ء و كابروا حتى جسرتهم عادة المكابرة

 

 

 

 على العظيمة التي هي تفضيل الإنسان الملك، و ذلك بعد ما سمعوا تفخيم الله أمرهم و تكثيره مع التعظيم ذكرهم و علموا أين أسكنهم؟ و أنى قربهم؟ و كيف نزلهم من أنبيائه منزلة أنبيائه من أممهم؟.

ثم جرهم فرط التعصب عليهم إلى أن لفقوا أقوالا و أخبارا منها: قالت الملائكة ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون منها و يتمتعون و لم تعطنا ذلك فأعطناه في الآخرة فقال: و عزتي و جلالي لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان، و رووا عن أبي هريرة أنه قال ":المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده.

و من ارتكابهم أنهم فسروا كثيرا بمعنى جميع في هذه الآية و خذلوا حتى سلبوا الذوق فلم يحسوا ببشاعة قولهم: و فضلناهم على جميع ممن خلقنا على أن معنى قولهم:

على جميع ممن خلقنا أشجى لحلوقهم و أقذى لعيونهم و لكنهم لا يشعرون فانظر في تمحلهم و تشبثهم بالتأويلات البعيدة في عداوة الملأ الأعلى كان جبريل (عليه السلام) غاظهم حين أهلك مدائن قوم لوط فتلك السخيمة لا تنحل عن قلوبهم انتهى.

و ما أشار إليه من رواية سؤال الملائكة أن يجعل لهم الآخرة كما جعل لبني آدم الدنيا رويت عن ابن عمر و أنس بن مالك و زيد بن أسلم و جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لفظ الأخير قال: لما خلق الله آدم و ذريته قالت الملائكة: يا رب خلقتهم يأكلون و يشربون و ينكحون و يركبون الخيل فاجعل لهم الدنيا و لنا الآخرة فقال الله تعالى: لا أجعل من خلقته بيدي كمن قلت له: كن فكان. و متن الرواية لا يخلو عن شي‏ء فإن الأكل و الشرب و النكاح و نحوها في الإنسان استكمالات مادية إنما يلتذ الإنسان بها لما أنه يعالج البقاء لشخصه أو لنوعه بما جهز الله به بنيته المادية و الملائكة واجدون في أصل وجودهم كمال ما يتوسل إلى بعضه الإنسان بقواه المادية و أعماله المملة المتعبة منزهون عن مطاوعة النظام المادي الجاري في الكون فمن المحال أن يسألوا ذلك فليسوا بمحرومين حتى يحرصوا على ذلك فيرجوه أو يتمنوه.

و نظير هذا وارد على ما تقدم من استدلالهم على أفضلية الإنسان من الملك بأن وجود الإنسان مركب من القوى الداعية إلى الطاعة و القوى الداعية إلى المعصية فإذا

 

 

 

اختار الطاعة على المعصية و انتزع إلى الإسلام و العبودية كانت طاعته أفضل من طاعة الملائكة المفطورين على الطاعة المجبولين على ترك المعصية فهو أكثر قربا و زلفى و أعظم ثوابا و أجرا.

و هذا مبني على أصل عقلائي معتبر في المجتمع الإنساني و هو أن الطاعة التي هي امتثال الخطاب المولوي من أمر و نهي و لها الفضل و الشرف على المعصية و بها يستحق الأجر و الثواب لو استحق إنما يترتب عليها أثرها إذا كان الإنسان المتوجه إليه الخطاب في موقف يجوز له فيه الفعل و الترك متساوي النسبة إلى الجانبين، و كلما كان أقرب إلى المعصية منه إلى الطاعة قوي الأثر و العكس بالعكس فليس يستوي في امتثال النهي عن الزنا مثلا العنين و الشيخ الهرم و من يصعب عليه تحصيل مقدماته و الشاب القوي البنية الذي ارتفع عنه غالب موانعه من لا مانع له عنه أصلا إلا تقوى الله فبعض هذه التروك لا يعد طاعة و بعضها طاعة و بعضها أفضل الطاعة على هذا القياس.

و لما كانت الملائكة لا سبيل لهم إلى المعصية لفقدهم غرائز الشهوة و الغضب و نزاهتهم عن هوى النفس كان امتثالهم للخطابات المولوية الإلهية أشبه بامتثال العنين و الشيخ الهرم لنهي الزنا و كان الفضل للإنسان في طاعته عليهم.

و فيه أنه لو تم ذلك لم يكن لطاعة الملائكة فضل أصلا إذ لا سبيل لهم إلى المعصية و لا لهم مقام استواء النسبة و لم يكن لهم شرف ذاتي و قيمة جوهرية إذ لا شرف على هذا إلا بالطاعة التي تقابلها معصية، و تسمية المطاوعة الذاتية التي لا تتخلف عن الذات طاعة مجاز، و لو كان كذلك لم يكن لقربهم من ربهم موجب و لا لأعمالهم منزلة.

لكن الله سبحانه أقامهم مقام القرب و الزلفى و أسكنهم في حظائر القدس و منازل الإنس، و جعلهم خزان سره و حملة أمره و وسائط بينه و بين خلقه، و هل هذا كله لإرادة منه جزافية من غير صلاحية منهم و استحقاق من ذواتهم؟.

و قد أثنى الله عليهم أجزل الثناء إذ قال فيهم: ﴿بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ: الأنبياء: ٢٧ و قال: ﴿لاَ يَعْصُونَ اَللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾: التحريم: ٦ فوصف ذواتهم بالإكرام من غير تقييده بقيد و مدح طاعتهم و استنكافهم عن المعصية.

 

 

 

[1]  كما نقل أنهم كانوا يقولون في التلبية: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه و ما ملك و الكتب المقدسة البرهمنية و البوذية مملوءة أن الملك كله لله سبحانه.

[2]  بما لها من الثبوت في مرتبة عللها لا في مرتبة أنفسها «منه».

[3]  الصنوان: النخلتان تطلعان من عرق واحد.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=2092
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 05 / 17
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 14