• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء الثالث عشر) ، تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده) .
                    • الموضوع : من ص 1 الى ص 82 .

من ص 1 الى ص 82

 

 

 

الميزان في تفسير القرآن

الجزء الثالث عشر

 

 

 

 

 

 

تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سرّه

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

(۱۷) سورة الإسراء مكية و هي مائة و إحدى عشرة آية (١١١)

[سورة الإسراء (١٧): آیة ١]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ ﴾﴿سُبْحَانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى اَلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ ١

بيان‏

السورة تتعرض لأمر توحيده تعالى عن الشريك مطلقا و مع ذلك يغلب فيها جانب التسبيح على جانب التحميد كما بدأت به فقيل: ﴿سُبْحَانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ الآية، و كرر ذلك فيها مرة بعد مرة كقوله: ﴿سُبْحَانَهُ وَ تَعَالى عَمَّا يَقُولُونَ و قوله:

﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي: الآية - ٩٣، و قوله: ﴿وَ يَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا: الآية - ١٠٨ حتى أن الآية الخاتمة للسورة: ﴿وَ قُلِ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي اَلْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ اَلذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراًتحمد الله على تنزهه عن الشريك و الولي و اتخاذ الولد.

و السورة مكية لشهادة مضامين آياتها بذلك و عن بعضهم كما في روح المعاني، استثناء آيتين منها و هما قوله: ﴿وَ إِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَالآية و قوله: ﴿وَ إِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَالآية و عن بعضهم إلا أربع آيات و هي الآيتان المذكورتان و قوله:

﴿وَ إِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِالآية و قوله: ﴿وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ الآية.

 

 

 

 و عن الحسن أنها مكية إلا خمس آيات منها و هي قوله: ﴿وَ لاَ تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ الآية ﴿وَ لاَ تَقْرَبُوا اَلزِّنى الآية ﴿أُولَئِكَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ ﴿أَقِمِ اَلصَّلاَةَ ﴿وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى‏ الآية.

و عن مقاتل مكية إلا خمس: ﴿وَ إِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ الآية ﴿وَ إِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ الآية ﴿وَ إِذْ قُلْنَا لَكَ الآية ﴿وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي الآية ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ الآية.

و عن قتادة و المعدل عن ابن عباس مكية إلا ثماني آيات و هي قوله: ﴿وَ إِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ الآية إلى قوله: ﴿وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ الآية.

و لا دلالة في مضامين الآيات على كونها مدنية و لا الأحكام المذكورة فيها مما يختص نزولا بالمدينة و قد نزلت نظائرها في السور المكية كالأنعام و الأعراف.

و قد افتتحت السورة فيما ترومه من التسبيح بالإشارة إلى معراج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فذكر إسراءه (ص) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى و هو بيت المقدس و الهيكل الذي بناه داود و سليمان (عليه السلام) و قدسه الله لبني إسرائيل.

ثم سبق الكلام بالمناسبة إلى ما قدره الله لمجتمع بني إسرائيل من الرقي و الانحطاط و العزة و الذلة فكلما أطاعوا رفعهم الله و كلما عصوا خفضهم الله و قد أنزل عليهم الكتاب و أمرهم بالتوحيد و نفي الشريك.

ثم عطف فيها الكلام على حال هذه الأمة و ما أنزل عليهم من الكتاب بما يشاكل حال بني إسرائيل و أنهم إن أطاعوا أثيبوا و إن عصوا عوقبوا فإنما هي الأعمال يعامل الإنسان بما عمل منها و على ذلك جرت السنة الإلهية في الأمم الماضين.

ثم ذكرت فيها حقائق جمة من المعارف الراجعة إلى المبدإ و المعاد و الشرائع العامة من الأوامر و النواهي و غير ذلك.

و من غرر الآيات فيها قوله تعالى ﴿قُلِ اُدْعُوا اَللَّهَ أَوِ اُدْعُوا اَلرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنى‏: الآية - ١١٠ من السورة، و قوله: ﴿كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاَءِ وَ هَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَ مَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً: الآية - ٢٠ منها، و قوله: ﴿وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا: الآية - ٥٨ منها و غير ذلك.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً إلى آخر الآية سبحان‏ اسم مصدر للتسبيح بمعنى التنزيه و يستعمل مضافا و هو مفعول مطلق قائم مقام فعله فتقدير «سبحان الله» سبحت الله تسبيحا أي نزهته عن كل ما لا يليق بساحة قدسه و كثيرا ما يستعمل للتعجب لكن سياق الآيات إنما يلائم التنزيه لكونه الغرض من البيان و إن أصر بعضهم على كونه للتعجب.

و الإسراء و السري‏ السير بالليل يقال سرى و أسرى أي سار ليلا و سرى و أسرى به أي سار به ليلا و السير يختص بالنهار أو يعمه و الليل.

و قوله ﴿لَيْلاً مفعول فيه و يفيد من الفائدة أن هذا الإسراء تم له بالليل فكان الرواح و المجي‏ء في ليلة واحدة قبل أن يطلع فجرها.

و قوله: ﴿إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى هو بيت المقدس بقرينة قوله: ﴿اَلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ و القصا البعد و قد سمي المسجد الأقصى لكونه أبعد مسجد بالنسبة إلى مكان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و من معه من المخاطبين و هو مكة التي فيها المسجد الحرام.

و قوله: ﴿لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا بيان غاية الإسراء و هي إراءة بعض الآيات الإلهية لمكان من و في السياق دلالة على عظمة هذه الآيات التي أراها الله سبحانه كما صرح به في موضع آخر من كلامه يذكر فيه حديث المعراج بقوله ﴿لَقَدْ رَأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ اَلْكُبْرى‏: النجم - ١٨.

و قوله: ﴿إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ تعليل لإسرائه به لإراءة آياته أي أنه سميع لأقوال عباده بصير بأفعالهم و قد سمع من مقال عبده و رأى من حاله ما استدعى أن يكرمه هذا الإكرام فيسري به ليلا و يريه من آياته الكبرى.

و في الآية التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير في قوله: ﴿بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ثم رجوع إلى الغيبة السابقة و الوجه فيه الإشارة إلى أن الإسراء و ما ترتب عليه من إراءة الآيات إنما صدر عن ساحة العظمة و الكبرياء و موطن العزة و الجبروت فعملت فيه السلطنة العظمى و تجلى الله له بآياته الكبرى و لو قيل ليريه من آياته أو غير ذلك لفاتت النكتة.

و المعنى لينزه تنزيها من أسرى بعظمته و كبريائه و بالغ قدرته و سلطانه بعبده محمد في جوف ليلة واحدة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى و هو بيت المقدس الذي بارك

 

 

 

 حوله ليريه بعظمته و كبريائه آياته الكبرى و إنما فعل به ذلك لأنه سميع بصير علم بما سمع من مقاله و رأى من حاله أنه خليق أن يكرم هذه التكرمة.

بحث روائي

 في تفسير القمي، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاء جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل بالبراق إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأخذ واحد باللجام و واحد بالركاب و سوى الآخر عليه ثيابه فتضعضعت البراق فلطمها جبرائيل ثم قال لها اسكني يا براق فما ركبك نبي قبله و لا يركبك بعده مثله .

قال: فرفت به و رفعته ارتفاعا ليس بالكثير و معه جبرئيل يريه الآيات من السماء و الأرض. قال فبينا أنا في مسيري إذ نادى مناد عن يميني: يا محمد فلم أجبه و لم ألتفت إليه ثم نادى مناد عن يساري: يا محمد فلم أجبه و لم ألتفت إليه ثم استقبلتني امرأة كاشفة عن ذراعيها عليها من كل زينة الدنيا فقالت يا محمد أنظرني حتى أكلمك فلم ألتفت إليها ثم سرت فسمعت صوتا أفزعني فجاوزت فنزل بي جبرئيل فقال صل فصليت فقال تدري أين صليت قلت لا، فقال صليت بطور سيناء حيث كلم الله موسى تكليما ثم ركبت فمضينا ما شاء الله ثم قال لي انزل فصل فنزلت و صليت فقال لي تدري أين صليت فقلت لا قال: صليت في بيت لحم و بيت لحم بناحية بيت المقدس حيث ولد عيسى بن مريم.

ثم ركبت فمضينا حتى انتهينا إلى بيت المقدس فربطت البراق بالحلقة التي كانت الأنبياء تربط بها فدخلت المسجد و معي جبرئيل إلى جنبي فوجدنا إبراهيم و موسى و عيسى فيمن شاء الله من أنبياء الله (عليه السلام) فقد جمعوا إلي و أقيمت الصلاة و لا أشك إلا و جبرئيل سيتقدمنا فلما استووا أخذ جبرئيل بعضدي فقدمني و أممتهم و لا فخر.

ثم أتاني الخازن بثلاثة أواني إناء فيه لبن و إناء فيه ماء و إناء فيه خمر و سمعت قائلا يقول: إن أخذ الماء غرق و غرقت أمته - و إن أخذ الخمر غوى و غويت أمته

 

 

 

و إن أخذ اللبن هدى و هديت أمته قال: فأخذت اللبن و شربت منه فقال لي جبرئيل هديت و هديت أمتك.

ثم قال لي ما ذا رأيت في مسيرك؟ فقلت ناداني مناد عن يميني فقال أ و أجبته فقلت لا و لم ألتفت إليه فقال داعي اليهود لو أجبته لتهودت أمتك من بعدك ثم قال ما ذا رأيت؟ فقلت ناداني مناد عن يساري فقال لي أ و أجبته؟ فقلت لا و لم ألتفت إليه فقال: ذاك داعي النصارى و لو أجبته لتنصرت أمتك من بعدك. ثم قال ما ذا استقبلك؟ فقلت لقيت امرأة كاشفة عن ذراعيها عليها من كل زينة الدنيا فقالت: يا محمد أنظرني حتى أكلمك. فقال: أ و كلمتها؟ فقلت لم أكلمها و لم ألتفت إليها فقال: تلك الدنيا و لو كلمتها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة. ثم سمعت صوتا أفزعني، فقال لي جبرئيل: أ تسمع يا محمد؟ قلت نعم قال:

هذه صخرة قذفتها عن شفير جهنم منذ سبعين عاما فهذا حين استقرت قالوا فما ضحك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حتى قبض.

قال فصعد جبرئيل و صعدت معه إلى السماء الدنيا و عليها ملك يقال له إسماعيل و هو صاحب الخطفة التي قال الله عز و جل: ﴿إِلاَّ مَنْ خَطِفَ اَلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ و تحته سبعون ألف ملك تحت كل ملك سبعون ألف ملك.

فقال يا جبرئيل! من هذا الذي معك؟ فقال محمد رسول الله قال و قد بعث؟ قال نعم ففتح الباب فسلمت عليه و سلم علي و استغفرت له و استغفر لي و قال مرحبا بالأخ الصالح و النبي الصالح، و تلقتني الملائكة حتى دخلت السماء الدنيا فما لقيني ملك إلا ضاحكا مستبشرا حتى لقيني ملك من الملائكة لم أر أعظم خلقا منه كريه المنظر ظاهر الغضب فقال لي مثل ما قالوا من الدعاء إلا أنه لم يضحك و لم أر فيه من الاستبشار ما رأيت من ضحك الملائكة فقلت: من هذا يا جبرئيل فإني قد فزعت منه؟ فقال:

يجوز أن يفزع منه فكلنا نفزع منه إن هذا مالك خازن النار لم يضحك قط، و لم يزل منذ أن ولاه الله جهنم يزداد كل يوم غضبا و غيظا على أعداء الله و أهل معصيته فينتقم الله به منهم، و لو ضحك إلى أحد قبلك أو كان ضاحكا إلى أحد بعدك لضحك إليك فسلمت عليه فرد السلام علي و بشرني بالجنة.

فقلت لجبرئيل و جبرئيل بالمكان الذي وصفه الله ﴿مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ: أ لا تأمره

 

 

 

 أن يريني النار فقال له جبرئيل: يا مالك أر محمدا النار فكشف عنها غطاءها و فتح بابا منها فخرج منها لهب ساطع في السماء و فارت و ارتفعت حتى ظننت ليتناولني مما رأيت فقلت: يا جبرئيل! قل له فليرد عليها غطاءها فأمره فقال لها: ارجعي فرجعت إلى مكانها الذي خرجت منه.

ثم مضيت فرأيت رجلا آدما جسيما فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا أبوك آدم - فإذا هو يعرض عليه ذريته فيقول: روح طيبة و ريح طيبة من جسد طيب ثم تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) سورة المطففين على رأس سبع عشرة آية ﴿ كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ اَلْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ اَلْمُقَرَّبُونَ إلى آخرها قال:

فسلمت على أبي آدم و سلم علي و استغفرت له و استغفر لي، و قال: مرحبا بالابن الصالح و النبي الصالح المبعوث في الزمن الصالح.

قال: ثم مررت بملك من الملائكة جالس على مجلس و إذا جميع الدنيا بين ركبتيه و إذا بيده لوح من نور ينظر فيه مكتوب فيه كتاب ينظر فيه لا يلتفت يمينا و لا شمالا، مقبلا عليه كهيئة الحزين فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ قال: هذا ملك الموت دائب في قبض الأرواح فقلت: يا جبرئيل أدنني منه حتى أكلمه فأدناني منه فسلمت عليه، و قال له جبرئيل: هذا محمد نبي الرحمة الذي أرسله الله إلى العباد فرحب بي و حياني بالسلام و قال: أبشر يا محمد فإني أرى الخير كله في أمتك - فقلت: الحمد لله المنان ذي النعم على عباده ذلك من فضل ربي و رحمته علي فقال جبرئيل: هو أشد الملائكة عملا فقلت: أ كل من مات أو هو ميت فيما بعد هذا تقبض روحه؟ فقال: نعم. قلت:

و تراهم حيث كانوا و تشهدهم بنفسك؟ فقال: نعم. فقال ملك الموت: ما الدنيا كلها عندي فيما سخره الله لي و مكنني عليها - إلا كالدرهم في كف الرجل يقلبه كيف يشاء، و ما من دار إلا و أنا أتصفحه كل يوم خمس مرات، و أقول إذا بكى أهل الميت على ميتهم: لا تبكوا عليه فإن لي فيكم عودة و عودة حتى لا يبقى منكم أحد فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): كفى بالموت طامة يا جبرئيل فقال جبرئيل: إن ما بعد الموت أطم و أطم من الموت.

قال: ثم مضيت فإذا أنا بقوم بين أيديهم موائد من لحم طيب و لحم خبيث يأكلون اللحم الخبيث و يدعون الطيب فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الذين

 

 

 

 يأكلون الحرام و يدعون الحلال و هم من أمتك يا محمد.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ثم رأيت ملكا من الملائكة جعل الله أمره عجيبا نصف جسده النار و النصف الآخر ثلج فلا النار تذيب الثلج و لا الثلج تطفئ النار و هو ينادي بصوت رفيع و يقول: سبحان الذي كف حر هذه النار فلا تذيب الثلج و كف برد هذا الثلج فلا يطفئ حر هذه النار اللهم يا مؤلف بين الثلج و النار ألف بين قلوب عبادك المؤمنين فقلت من هذا يا جبرئيل؟ فقال هذا ملك وكله الله بأكناف السماء و أطراف الأرضين و هو أنصح ملائكة الله لأهل الأرض من عباده المؤمنين يدعو لهم بما تسمع منذ خلق.

و رأيت ملكين يناديان في السماء أحدهما يقول: اللهم أعط كل منفق خلفا و الآخر يقول: اللهم أعط كل ممسك تلفا.

ثم مضيت فإذا أنا بأقوام لهم مشافر كمشافر الإبل يقرض اللحم من جنوبهم و يلقى في أفواههم - فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الهمازون اللمازون.

ثم مضيت فإذا أنا بأقوام ترضخ رءوسهم بالصخر فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الذين ينامون عن صلاة العشاء.

ثم مضيت فإذا أنا بأقوام تقذف النار في أفواههم و تخرج من أدبارهم فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا و سيصلون سعيرا.

ثم مضيت فإذا أنا بأقوام يريد أحدهم أن يقوم فلا يدر من عظم بطنه فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس. و إذا هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النار غدوا و عشيا يقولون ربنا متى تقوم الساعة؟.

قال: ثم مضيت فإذا أنا بنسوان معلقات بثديهن فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل فقال: هؤلاء اللواتي يورثن أموال أزواجهن أولاد غيرهم. ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) اشتد غضب الله على امرأة أدخلت على قوم في نسبهم من ليس منهم فاطلع على عوراتهم و أكل خزائنهم.

ثم قال: مررنا بملائكة من ملائكة الله عز و جل خلقهم الله كيف شاء و وضع

 

 

 

وجوههم كيف شاء، ليس شي‏ء من أطباق أجسادهم إلا و هو يسبح الله و يحمده من كل ناحية بأصوات مختلفة أصواتهم مرتفعة بالتحميد و البكاء من خشية الله فسألت جبرئيل عنهم فقال: كما ترى خلقوا إن الملك منهم إلى جنب صاحبه ما كلمهم كلمة قط و لا رفعوا رءوسهم إلى ما فوقها و لا خفضوها إلى ما تحتها خوفا من الله و خشوعا فسلمت عليهم فردوا علي إيماء برءوسهم لا ينظرون إلي من الخشوع فقال لهم جبرئيل:

هذا محمد نبي الرحمة أرسله الله إلى العباد رسولا و نبيا. و هو خاتم النبيين و سيدهم أ فلا تكلمونه؟ قال: فلما سمعوا ذلك من جبرئيل أقبلوا علي بالسلام و أكرموني و بشروني بالخير لي و لأمتي.

قال: ثم صعدنا إلى السماء الثانية فإذا فيها رجلان متشابهان فقلت: من هذان يا جبرئيل؟ فقال لي: ابنا الخالة يحيى و عيسى (عليه السلام) فسلمت عليهما و سلما علي و استغفرت لهما و استغفرا لي و قالا: مرحبا بالأخ الصالح و النبي الصالح و إذا فيها من الملائكة و عليهم الخشوع - قد وضع الله وجوههم كيف شاء ليس منهم ملك إلا يسبح الله بحمده بأصوات مختلفة.

ثم صعدنا إلى السماء الثالثة فإذا فيها رجل فضل حسنه على سائر الخلق كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم - فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا أخوك يوسف فسلمت عليه و سلم علي و استغفرت له و استغفر لي، و قال: مرحبا بالنبي الصالح و الأخ الصالح و المبعوث في الزمن الصالح، و إذا فيها ملائكة عليهم من الخشوع مثل ما وصفت في السماء الأولى و الثانية، و قال لهم جبرئيل في أمري ما قال للآخرين و صنعوا في مثل ما صنع الآخرون.

ثم صعدنا إلى السماء الرابعة و إذا فيها رجل فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال هذا إدريس رفعه الله مكانا عليا فسلمت عليه و سلم علي و استغفرت له و استغفر لي، و إذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات التي عبرناها فبشروني بالخير لي و لأمتي ثم رأيت ملكا جالسا على سرير تحت يديه سبعون ألف ملك تحت كل ملك سبعون ألف ملك فوقع في نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه هو فصاح به جبرئيل فقال: قم فهو قائم إلى يوم القيامة.

 

 

 

ثم صعدنا إلى السماء الخامسة فإذا فيها رجل كهل عظيم العين لم أر كهلا أعظم منه حوله ثلة من أمته فأعجبني كثرتهم فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا المحبب في قومه هارون بن عمران فسلمت عليه و سلم علي و استغفرت له و استغفر لي و إذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات.

ثم صعدنا إلى السماء السادسة و إذا فيها رجل آدم طويل كأنه من شنوة و لو أن له قميصين لنفذ شعره فيهما و سمعته يقول: يزعم بنو إسرائيل أني أكرم ولد آدم على الله- و هذا رجل أكرم على الله مني فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا أخوك موسى بن عمران فسلمت عليه و سلم علي و استغفرت له و استغفر لي، و إذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات.

قال: ثم صعدنا إلى السماء السابعة فما مررت بملك من الملائكة إلا قالوا: يا محمد احتجم و أمر أمتك بالحجامة، و إذا فيها رجل أشمط الرأس و اللحية جالس على كرسي فقلت: يا جبرئيل من هذا الذي في السماء السابعة على باب البيت المعمور في جوار الله؟ فقال: هذا يا محمد أبوك إبراهيم و هذا محلك و محل من اتقى من أمتك ثم قرأ رسول الله: ﴿إِنَّ أَوْلَى اَلنَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ هَذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَللَّهُ وَلِيُّ اَلْمُؤْمِنِينَ فسلمت عليه و سلم علي و قال: مرحبا بالنبي الصالح و الابن الصالح و المبعوث في الزمن الصالح و إذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات فبشروني بالخير لي و لأمتي.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): و رأيت في السماء السابعة بحارا من نور تتلألأ تلألؤها يخطف بالأبصار، و فيها بحار من ظلمة و بحار من ثلج ترعد فكلما فزعت و رأيت هولا سألت جبرئيل فقال: أبشر يا محمد و اشكر كرامة ربك و اشكر الله بما صنع إليك قال: فثبتني الله بقوته و عونه حتى كثر قولي لجبرئيل و تعجبي.

فقال جبرئيل: يا محمد تعظم ما ترى؟ إنما هذا خلق من خلق ربك فكيف بالخالق الذي خلق ما ترى و ما لا ترى أعظم من هذا من خلق ربك إن بين الله و بين خلقه سبعين ألف حجاب و أقرب الخلق إلى الله أنا و إسرافيل و بيننا و بينه أربعة حجب حجاب من نور و حجاب من الظلمة و حجاب من الغمامة و حجاب من الماء.

 

 

 

 قال: و رأيت من العجائب التي خلق الله و سخر على ما أراده ديكا رجلاه في تخوم الأرضين السابعة - و رأسه عند العرش و هو ملك من ملائكة الله تعالى خلقه الله كما أراد رجلاه في تخوم الأرضين السابعة ثم أقبل مصعدا حتى خرج في الهواء إلى السماء السابعة و انتهى فيها مصعدا حتى انتهى قرنه إلى قرب العرش و هو يقول: سبحان ربي حيثما كنت لا تدري أين ربك من عظم شأنه، و له جناحان في منكبه إذا نشرهما جاوزا المشرق و المغرب فإذا كان في السحر نشر جناحيه و خفق بهما و صرخ بالتسبيح يقول: سبحان الله الملك القدوس، سبحان الله الكبير المتعال لا إله إلا الله الحي القيوم و إذا قال ذلك سبحت ديوك الأرض كلها و خفقت بأجنحتها و أخذت بالصراخ فإذا سكت ذلك الديك في السماء سكت ديوك الأرض كلها، و لذلك الديك زغب أخضر و ريش أبيض كأشد بياض ما رأيته قط، و له زغب أخضر أيضا تحت ريشه الأبيض كأشد خضرة ما رأيتها قط.

قال: ثم مضيت مع جبرئيل فدخلت البيت المعمور فصليت فيه ركعتين و معي أناس من أصحابي عليهم ثياب جدد و آخرين عليهم ثياب خلقان فدخل أصحاب الجدد و جلس أصحاب الخلقان.

ثم خرجت فانقاد لي نهران نهر يسمى الكوثر و نهر يسمى الرحمة - فشربت من الكوثر و اغتسلت من الرحمة ثم انقادا لي جميعا حتى دخلت الجنة و إذا على حافتيها بيوتي و بيوت أهلي و إذا ترابها كالمسك، و إذا جارية تنغمس في أنهار الجنة فقلت:

لمن أنت يا جارية؟ فقالت: لزيد بن حارثة فبشرته بها حين أصبحت، و إذا بطيرها كالبخت، و إذا رمانها مثل الدلي العظام، و إذا شجرة لو أرسل طائر في أصلها ما دارها سبعمائة سنة، و ليس في الجنة منزل إلا و فيه غصن منها فقلت: ما هذه يا جبرئيل؟ فقال: هذه شجرة طوبى قال الله ﴿طُوبى لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): فلما دخلت الجنة رجعت إلى نفسي فسألت جبرئيل عن تلك البحار و هولها و أعاجيبها فقال: هي سرادقات الحجب التي احتجب الله تبارك و تعالى بها و لو لا تلك الحجب لهتك نور العرش كل شي‏ء فيه.

و انتهيت إلى سدرة المنتهى فإذا الورقة منها تظل أمة من الأمم فكنت منها كما

 

 

 

 قال الله تعالى ﴿قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فناداني ﴿آمَنَ اَلرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ فقلت أنا مجيبا عني و عن أمتي: ﴿وَ اَلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلاَئِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قَالُوا سَمِعْنَا وَ أَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَ إِلَيْكَ اَلْمَصِيرُ فقال الله ﴿لاَ يُكَلِّفُ اَللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَ عَلَيْهَا مَا اِكْتَسَبَتْ فقلت: ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا فقال الله لا أؤاخذك، فقلت ﴿رَبَّنَا وَ لاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا فقال الله: لا أحملك فقلت: ﴿رَبَّنَا وَ لاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَ اُعْفُ عَنَّا وَ اِغْفِرْ لَنَا وَ اِرْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكَافِرِينَ فقال الله تبارك و تعالى: قد أعطيتك ذلك لك و لأمتك، فقال الصادق (عليه السلام) ما وفد إلى الله تعالى أحد أكرم من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حين سأل لأمته هذه الخصال.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): يا رب أعطيت أنبياءك فضائل فأعطني فقال الله: قد أعطيتك فيما أعطيتك كلمتين من تحت عرشي: لا حول و لا قوة إلا بالله، و لا منجا منك إلا إليك.

قال: و علمتني الملائكة قولا أقوله إذا أصبحت و أمسيت: اللهم إن ظلمي أصبح مستجيرا بعفوك، و ذنبي أصبح مستجيرا بمغفرتك و ذلي أصبح مستجيرا بعزتك، و فقري أصبح مستجيرا بغناك و وجهي الفاني أصبح مستجيرا بوجهك الباقي الذي لا يفنى، و أقول ذلك إذا أمسيت.

ثم سمعت الأذان فإذا ملك يؤذن لم ير في السماء قبل تلك الليلة فقال: الله أكبر الله أكبر فقال الله: صدق عبدي أنا أكبر من كل شي‏ء فقال: «أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله» فقال الله: صدق عبدي أنا الله لا إله إلا أنا و لا إله غيري - فقال:

«أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله» فقال الله: صدق عبدي أن محمدا عبدي و رسولي أنا بعثته و انتجبته - فقال: «حي على الصلاة حي على الصلاة» فقال:

صدق عبدي دعا إلى فريضتي فمن مشى إليها راغبا فيها محتسبا كانت له كفارة لما مضى من ذنوبه فقال: «حي على الفلاح حي على الفلاح» فقال الله: هي الصلاح و النجاح و الفلاح. ثم أممت الملائكة في السماء كما أممت الأنبياء في بيت المقدس.

قال: ثم غشيتني ضبابة فخررت ساجدا فناداني ربي أني قد فرضت على كل نبي

 

 

 

 كان قبلك خمسين صلاة و فرضتها عليك و على أمتك فقم بها أنت في أمتك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): فانحدرت حتى مررت على إبراهيم فلم يسألني عن شي‏ء حتى انتهيت إلى موسى فقال: ما صنعت يا محمد؟ فقلت قال ربي: فرضت على كل نبي كان قبلك خمسين صلاة و فرضتها عليك و على أمتك. فقال موسى: يا محمد إن أمتك آخر الأمم و أضعفها و إن ربك لا يزيده شي‏ء و إن أمتك لا تستطيع أن تقوم بها فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك.

فرجعت إلى ربي حتى انتهيت إلى سدرة المنتهى فخررت ساجدا ثم قلت: فرضت علي و على أمتي خمسين صلاة و لا أطيق ذلك و لا أمتي فخفف عني فوضع عني عشرا فرجعت إلى موسى فأخبرته فقال: ارجع لا تطيق فرجعت إلى ربي فوضع عني عشرا فرجعت إلى موسى فأخبرته فقال ارجع و في كل رجعة أرجع إليه أخر ساجدا حتى رجع إلى عشر صلوات فرجعت إلى موسى و أخبرته فقال: لا تطيق فرجعت إلى ربي فوضع عني خمسا فرجعت إلى موسى و أخبرته فقال: لا تطيق فقلت: قد استحيت من ربي و لكن أصبر عليها فناداني مناد: كما صبرت عليها فهذه الخمس بخمسين كل صلاة بعشر، و من هم من أمتك بحسنة يعملها فعملها كتبت له عشرا و إن لم يعمل كتبت له واحدة، و من هم من أمتك بسيئة فعملها كتبت عليه واحدة و إن لم يعملها لم أكتب عليه.

فقال الصادق (عليه السلام): جزى الله موسى عن هذه الأمة خيرا فهذا تفسير قول الله:

﴿سُبْحَانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى اَلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ. أقول: و قد ورد ما يقرب مما قصته هذه الرواية في روايات كثيرة جدا من طرق الشيعة و أهل السنة، و قوله في الرواية «رجلا آدما» يقال: رجل آدم أي أسمر اللون، و الطامة هي الأمر الشديد الذي يغلب ما سواه، و لذلك سميت القيامة بالطامة، و الأكتاف‏ جمع كتف و المراد الأطراف و النواحي، و قوله: «فوقع في نفس رسول الله أنه هو» أي أنه الملك الذي يدبر أمر العالم و ينتهي إليه كل أمر.

و قوله: شنوة بالشين و النون و الواو و ربما يهمز قبيلة كانوا معروفين بطول القامة،

 

 

 

و قوله: «أشمط الرأس و اللحية» الشمط بياض الشعر يخالطه سواد، و الزغب‏ أول ما يبدو من الشعر و الريش و صغارهما، و البخت‏ الإبل الخراساني و الدلي‏ بضم الدال و كسر اللام و تشديد الياء جمع دلو على فعول، و الصبابة بفتح الصاد المهملة و الباء الموحدة الشوق و الهوى الرقيق و بالمعجمة مضمومة الغيم الرقيق.

 و في أمالي الصدوق، عن أبيه عن علي عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبان بن عثمان عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قال: لما أسري برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى بيت المقدس حمله جبرئيل على البراق فأتيا بيت المقدس و عرض عليه محاريب الأنبياء و صلى بها و رده فمر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في رجوعه بعير لقريش و إذا لهم ماء في آنية و قد أضلوا بعيرا لهم و كانوا يطلبونه فشرب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من ذلك الماء و أهرق باقيه.

فلما أصبح رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال لقريش: إن الله جل جلاله قد أسرى بي إلى بيت المقدس و أراني آثار الأنبياء و منازلهم، و إني مررت بعير لقريش في موضع كذا و كذا و قد أضلوا بعيرا لهم فشربت من مائهم و أهرقت باقي ذلك فقال أبو جهل:

قد أمكنتكم الفرصة منه فاسألوه كم الأساطين فيها و القناديل؟ فقالوا: يا محمد إن هاهنا من قد دخل بيت المقدس فصف لنا كم أساطينه و قناديله و محاريبه؟ فجاء جبرئيل فعلق صورة بيت المقدس تجاه وجهه فجعل يخبرهم بما يسألونه عنه فلما أخبرهم، قالوا:

حتى يجي‏ء العير و نسألهم عما قلت، فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) تصديق ذلك أن العير يطلع عليكم مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق.

فلما كان من الغد أقبلوا ينظرون إلى العقبة و يقولون هذه الشمس تطلع الساعة فبينما هم كذلك إذ طلعت عليهم العير - حين طلع القرص يقدمها جمل أورق فسألوهم عما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالوا: لقد كان هذا: ضل جمل لنا في موضع كذا و كذا، و وضعنا ماء فأصبحنا و قد أهريق الماء فلم يزدهم ذلك إلا عتوا. أقول: و في معناها روايات أخرى من طرق الفريقين.

 و فيه، بإسناده عن عبد الله بن عباس قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لما أسري به إلى السماء انتهى به جبرئيل إلى نهر يقال له النور و هو قوله عز و جل: ﴿جَعَلَ اَلظُّلُمَاتِ

 

 

 

 وَ اَلنُّورَ﴾ فلما انتهى به إلى ذلك قال له جبرئيل: يا محمد اعبر على بركة الله فقد نور الله لك بصرك و مر لك أمامك فإن هذا نهر لم يعبره أحد لا ملك مقرب و لا نبي مرسل غير أن لي في كل يوم اغتماسة فيه ثم أخرج منه فأنفض أجنحتي فليس من قطرة تقطر من أجنحتي إلا خلق الله تبارك و تعالى منها ملكا مقربا له عشرون ألف وجه و أربعون ألف لسان كل لسان يلفظ بلغة لا يفقهها اللسان الآخر.

فعبر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حتى انتهى إلى الحجب و الحجب خمس مائة حجاب من الحجاب إلى الحجاب مسيرة خمسمائة عام ثم قال: تقدم يا محمد فقال له: يا جبرئيل و لم لا تكون معي؟ قال: ليس لي أن أجوز هذا المكان فتقدم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ما شاء الله أن يتقدم حتى سمع ما قال الرب تبارك و تعالى: أنا المحمود و أنت محمد شققت اسمك من اسمي فمن وصلك وصلته و من قطعك بتكته انزل إلى عبادي فأخبرهم بكرامتي إياك و أني لم أبعث نبيا إلا جعلت له وزيرا و أنك رسولي و أن عليا وزيرك. و في المناقب، عن ابن عباس في خبر ":و سمع يعني رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) صوتا «آمنا برب العالمين» قال يعني جبرئيل: هؤلاء سحرة فرعون، و سمع لبيك اللهم لبيك قال:

هؤلاء الحجاج، و سمع التكبير قال: هؤلاء الغزاة، و سمع التسبيح قال: هؤلاء الأنبياء.

فلما بلغ إلى سدرة المنتهى و انتهى إلى الحجب، قال جبرئيل: تقدم يا رسول الله ليس لي أن أجوز هذا المكان و لو دنوت أنملة لاحترقت. و في الإحتجاج، عن ابن عباس قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيما احتج على اليهود: حملت على جناح جبرئيل حتى انتهيت إلى السماء السابعة فجاوزت سدرة المنتهى عندها جنة المأوى حتى تعلقت بساق العرش فنوديت من ساق العرش: إني أنا الله لا إله إلا أنا السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الرءوف الرحيم فرأيته بقلبي و ما رأيته بعيني. الخبر.

 و في الكافي، بإسناده عن أبي الربيع قال: حججنا مع أبي جعفر (عليه السلام) في السنة التي كان حج فيها هشام بن عبد الملك و كان معه نافع مولى عمر بن الخطاب فنظر نافع إلى أبي جعفر (عليه السلام) في ركن البيت و قد اجتمع إليه الناس فقال نافع: يا أمير المؤمنين من هذا الذي قد تداك عليه الناس؟ فقال: هذا نبي أهل الكوفة هذا محمد بن علي

 

 

 

فقال: اشهد لآتينه فلأسألنه من مسائل لا يجيبني فيها إلا نبي أو وصي أو ابن نبي.

قال: فاذهب إليه و اسأله لعلك تخجله.

فجاء نافع حتى اتكى على الناس ثم أشرف على أبي جعفر (عليه السلام) و قال: يا محمد بن علي إني قرأت التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان و قد عرفت حلالها و حرامها، و قد جئت أسألك عن مسائل لا يجيب فيها إلا نبي أو وصي نبي أو ابن نبي. قال:

فرفع أبو جعفر (عليه السلام) رأسه و قال: سل عما بدا لك.

فقال: أخبرني كم بين عيسى و بين محمد من سنة؟ قال: أخبرك بقولي أو بقولك قال:

أخبرني بالقولين جميعا قال: أما في قولي فخمسمائة سنة، و أما في قولك فستمائة سنة، قال فأخبرني عن قول الله عز و جل: ﴿وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَ جَعَلْنَا مِنْ دُونِ اَلرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ من الذي سأله محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) و كان بينه و بين عيسى (عليه السلام) خمسمائة سنة؟.

قال: فتلا أبو جعفر (عليه السلام) هذه الآية: ﴿سُبْحَانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى اَلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا فكان من الآيات التي أراها الله تبارك و تعالى محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم) حيث أسري به إلى البيت المقدس أن حشر الله الأولين و الآخرين من النبيين و المرسلين ثم أمر جبرئيل فأذن شفعا و أقام شفعا، و قال في أذانه حي على خير العمل - ثم تقدم محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) فصلى بالقوم.

فلما انصرف قال لهم: على ما تشهدون؟ ما كنتم تعبدون؟ قالوا نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أنك رسول الله أخذ على ذلك عهودنا و مواثيقنا. فقال:

نافع: صدقت يا أبا جعفر.

 و في العلل، بإسناد عن ثابت بن دينار قال: سألت زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) عن الله جل جلاله هل يوصف بمكان؟ فقال: تعالى الله عن ذلك - قلت: فلم أسرى بنبيه محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى السماء؟ قال: ليريه ملكوت السماوات و ما فيها من عجائب صنعه و بدائع خلقه.

قلت: فقول الله عز و جل: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى قال:

ذاك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) دنا من حجب النور فرأى ملكوت السماوات ثم تدلى فنظر من

 

 

 

 تحته إلى ملكوت الأرض حتى ظن أنه في القرب من الأرض كقاب قوسين أو أدنى. و في تفسير القمي، بإسناده عن إسماعيل الجعفي قال: كنت في المسجد الحرام قاعدا و أبو جعفر (عليه السلام) في ناحية فرفع رأسه فنظر إلى السماء مرة و إلى الكعبة مرة ثم قال:

﴿سُبْحَانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى و كرر ذلك ثلاث مرات ثم التفت إلي فقال: أي شي‏ء يقولون أهل العراق في هذه الآية يا عراقي؟ قلت: يقولون أسري به من المسجد الحرام إلى البيت المقدس. فقال: ليس هو كما يقولون و لكنه أسري به من هذه إلى هذه و أشار بيده إلى السماء و قال: ما بينهما حرم.

قال: فلما انتهى به إلى سدرة المنتهى تخلف عنه جبرئيل فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم):

يا جبرئيل أ في مثل هذا الموضع تخذلني؟ فقال: تقدم أمامك فوالله لقد بلغت مبلغا لم يبلغه خلق من خلق الله قبلك فرأيت ربي و حال بيني و بينه السبحة قلت: و ما السبحة جعلت فداك؟ فأومأ بوجهه إلى الأرض و أومأ بيده إلى السماء و هو يقول: جلال ربي جلال ربي، ثلاث مرات. قال: يا محمد قلت: لبيك يا رب قال: فيم اختصم الملأ الأعلى؟ قلت سبحانك لا علم لي إلا ما علمتني.

قال: فوضع يده بين ثديي فوجدت بردها بين كتفي. قال: فلم يسألني عما مضى و لا عما بقي إلا علمته فقال: يا محمد فيم اختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: في الدرجات و الكفارات و الحسنات فقال: يا محمد إنه قد انقضت نبوتك و انقطع أكلك فمن وصيك فقلت: يا رب إني قد بلوت خلقك فلم أر فيهم من خلقك أحدا أطوع لي من علي فقال:

و لي يا محمد فقلت: يا رب إني قد بلوت خلقك فلم أر من خلقك أحدا أشد حبا لي من علي بن أبي طالب قال: و لي يا محمد فبشره بأنه آية الهدى و إمام أوليائي و نور لمن أطاعني و الكلمة الباقية التي ألزمتها المتقين من أحبه أحبني و من أبغضه أبغضني مع ما أني أخصه بما لم أخص به أحدا فقلت: يا رب أخي و صاحبي و وزيري و وارثي فقال: إنه أمر قد سبق أنه مبتلى و مبتلى به مع ما أني قد نحلته و نحلته و نحلته و نحلته أربعة أشياء عقدها بيده و لا يفصح بما عقدها.

 أقول: قوله (عليه السلام): «و لكنه أسري به من هذه إلى هذه» أي من الكعبة إلى البيت المعمور، و ليس المراد به نفي الإسراء إلى بيت المقدس و لا تفسير

 

 

 

 المسجد الأقصى في الآية بالبيت المعمور بل المراد نفي أن ينتهي الإسراء إلى بيت المقدس و لا يتجاوزه فقد استفاضت الروايات بتفسير المسجد الأقصى ببيت المقدس.

و قوله (ص): «فرأيت ربي» أي شاهدته بعين قلبي كما تقدم في بعض الروايات السابقة و يؤيده تفسير الرؤية بذلك في روايات أخر.

و قوله: «و حالت بيني و بينه السبحة» أي بلغت من القرب و الزلفى مبلغا لم يبق بيني و بينه إلا جلاله، و قوله: فوضع يده بين ثديي «إلخ» كناية عن الرحمة الإلهية، و محصله نزول العلم من لدنه تعالى على قلبه بحيث يزيل كل ريب و شك.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و مسلم و ابن مردويه من طريق ثابت عن أنس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: أتيت بالبراق و هو دابة أبيض طويل فوق الحمار و دون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين.

ثم خرجت فجاءني جبريل بإناء من خمر و إناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل:

اخترت الفطرة ثم عرج بنا إلى سماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل من أنت؟ قال:

جبريل قيل: و من معك؟ قال: محمد، قيل: و قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحب بي و دعا لي بخير.

ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال جبريل قيل:

و من معك؟ قال: محمد، قيل: و قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة عيسى بن مريم و يحيى بن زكريا فرحبا بي و دعوا لي بخير.

ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل قيل:

و من معك؟ قال محمد، قيل: و قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بيوسف و إذا هو قد أعطي شطر الحسن فرحب بي و دعا لي بخير.

ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل: و من معك؟ قال: محمد، قيل: و قد بعث إليه: قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب بي و دعا لي بخير.

 

 

 

 ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل: و من معك، قال: محمد، قيل: و قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا - فإذا أنا بهارون فرحب بي و دعا لي بخير.

ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل: و من معك؟ قال: محمد، قيل: و قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بموسى فرحب بي و دعا لي بخير.

ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل:

و من معك؟ قال: محمد، قيل: و قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم مسند ظهره إلى البيت المعمور و إذا يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه.

ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى فإذا ورقها فيها كآذان الفيلة و إذا ثمرها كالقلال فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها فأوحى إلي ما أوحى و فرض علي خمسين صلاة في كل يوم و ليلة فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فقال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك فإني قد بلوت بني إسرائيل و خبرتهم.

فرجعت إلى ربي فقلت: يا رب خفف عن أمتي فحط عني خمسا فرجعت إلى موسى فقلت: حط عني خمسا فقال: إن أمتك لا يطيقون ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف قال: فلم أزل أرجع بين ربي و موسى حتى قال: يا محمد إنهن خمس صلوات لكل يوم و ليلة لكل صلاة عشر فتلك خمسون صلاة و من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشرا، و من هم بسيئة فلم يعملها لم يكتب شيئا فإن عملها كتبت سيئة واحدة فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فقلت: قد رجعت إلى ربي حتى استحيت منه. أقول: و قد روي الخبر عن أنس بطرق مختلفة منها ما عن البخاري و مسلم و ابن جرير و ابن مردويه من طريق شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس قال: ليلة أسري برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من مسجد الكعبة جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه و هو نائم في

 

 

 

المسجد الحرام فقال أولهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم فقال أحدهم خذوا خيرهم فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه و تنام عيناه و لا ينام قلبه و كذلك الأنبياء تنام أعينهم و لا ينام قلوبهم - فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم فتولاه منهم جبريل فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره و جوفه فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه ثم أتى بطست من ذهب محشوا إيمانا و حكمة فحشا به صدره و لغاديده يعني عروق حلقه ثم أطبقه ثم عرج به إلى سماء الدنيا ثم ساق الحديث نحوا مما تقدم. و الذي وقع فيه من شق بطن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و غسله و إنقائه ثم حشوه إيمانا و حكمة حال مثالية شاهدها و ليس بالأمر المادي كما ربما يزعم، و يشهد به حشوه إيمانا و حكمة و أخبار المعراج مملوءة من المشاهدات المثالية و التمثلات الروحية، و قد ورد هذا المعنى في عدة من أخبار المعراج المروية من طرق القوم و لا ضير فيه كما لا يخفى.

و ظاهر الرواية أن معراجه (ص) كان قبل البعثة و أنه كان في المنام أما كونه قبل البعثة فيدفعه معظم الروايات الواردة في الإسراء و هي أكثر من أن تحصى و قد اتفق على ذلك علماء هذا الشأن.

على أن الحديث نفسه يدفع كون الإسراء قبل البعثة و قد اشتمل على فرض الصلوات و كونها أولا خمسين ثم سؤال التخفيف بإشارة من موسى (عليه السلام) و لا معنى للفرض قبل النبوة فمن الحري أن يحمل صدر الحديث على أن الملائكة أتوه أولا قبل أن يوحى إليه ثم تركوه ثم جاءوه ليلة أخرى بعد بعثته و قد ورد في بعض رواياتنا أن الذين كانوا نائمين معه في المسجد ليلة أسري به هم حمزة بن عبد المطلب و جعفر و علي ابنا أبي طالب.

و أما ما وقع فيه من كون ذلك في المنام فيمكن على بعد أن يكون ناظرا إلى ما ذكر فيه من حديث الشق و الغسل لكن الأظهر أن المراد به وقوع الإسراء بجملته في المنام كما يدل عليه ما يأتي من الروايات.

 و في الدر المنثور، أيضا أخرج ابن إسحاق و ابن جرير عن معاوية بن أبي سفيان :أنه كان إذا سئل عن مسرى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال كانت رؤيا من الله صادقة.

 

 

 

 أقول: و ظاهر الآية الكريمة ﴿سُبْحَانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ إلى قوله ﴿لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا يرده، و كذا آيات صدر سورة النجم و فيها مثل قوله: ﴿مَا زَاغَ اَلْبَصَرُ وَ مَا طَغى لَقَدْ رَأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ اَلْكُبْرى على أن الآيات في سياق الامتنان و فيها ثناء على الله سبحانه بذكر بديع رحمته و عجيب قدرته، و من الضروري أن ذلك لا يتم برؤيا يراها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الرؤيا يراها الصالح و الطالح و ربما يرى الفاسق الفاجر ما هو أبدع مما يراه المؤمن المتقي و الرؤيا لا تعد عند عامة الناس إلا نوعا من التخيل لا يستدل به على شي‏ء من القدرة و السلطنة بل غاية ما فيها أن يتفاءل بها فيرجى خيرها أو يتطير بها فيخاف شرها.

 و فيه، أخرج ابن إسحاق و ابن جرير عن عائشة قالت :ما فقدت جسد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و لكن الله أسرى بروحه. أقول: و يرد عليه ما ورد على سابقه على أنه يكفي في سقوط الرواية اتفاق كلمة الرواة و أرباب السير على أن الإسراء كان قبل الهجرة بزمان و أنه (ص) بنى بعائشة في المدينة بعد الهجرة بزمان لم يختلف في ذلك اثنان و الآية أيضا صريحة في إسرائه (ص) من المسجد الحرام.

 و فيه، أخرج الترمذي و حسنه و الطبراني و ابن مردويه عن ابن مسعود: قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يا محمد اقرأ أمتك مني السلام و أخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء و أنها قيعان و أن غراسها سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر و لا حول و لا قوة إلا بالله. و فيه، أخرج الطبراني عن عائشة قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لما أسري بي إلى السماء أدخلت الجنة فوقعت على شجرة من أشجار الجنة لم أر في الجنة أحسن منها و لا أبيض ورقا و لا أطيب ثمرة - فتناولت ثمرة من ثمرها فأكلتها فصارت نطفة في صلبي فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة فإذا أنا اشتقت إلى ريح الجنة شممت ريح فاطمة.

 و في تفسير القمي، عن أبيه عن ابن محبوب عن ابن رئاب عن أبي عبيدة عن الصادق (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يكثر تقبيل فاطمة فأنكرت ذلك عائشة فقال

 

 

 

 رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): يا عائشة إني لما أسري بي إلى السماء دخلت الجنة فأدناني جبرئيل من شجرة طوبى و ناولني من ثمارها فأكلته فحول الله ذلك ماء في ظهري فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة فما قبلتها قط إلا وجدت رائحة شجرة طوبى منها. و في الدر المنثور، أخرج الطبراني في الأوسط، عن ابن عمر ":أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لما أسري به إلى السماء أوحي إليه بالأذان فنزل به فعلمه جبريل. و فيه، أخرج ابن مردويه عن علي: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) علم الأذان ليلة أسري به و فرضت عليه الصلاة. و في العلل، بإسناده عن إسحاق بن عمار قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) كيف صارت الصلاة ركعة و سجدتين؟ و كيف إذا صارت سجدتين لم تكن ركعتين؟ فقال: إذا سألت عن شي‏ء ففرغ قلبك لتفهم. أن أول صلاة صلاها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إنما صلاها في السماء بين يدي الله تبارك و تعالى قدام عرشه جل جلاله.

و ذلك أنه لما أسري به و صار عند عرشه تبارك و تعالى قال: يا محمد ادن من صاد فاغسل مساجدك و طهرها و صل لربك فدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى حيث أمره الله تبارك و تعالى فتوضأ فأسبغ وضوءه ثم استقبل الجبار تبارك و تعالى قائما فأمره بافتتاح الصلاة ففعل.

فقال: يا محمد اقرأ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين إلى آخرها ففعل ذلك ثم أمره أن يقرأ نسبة ربه تبارك و تعالى بسم الله الرحمن الرحيم قل هو الله أحد الله الصمد ثم أمسك عنه القول فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): قل هو الله أحد الله الصمد فقال:

قل: لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفوا أحد فأمسك عنه القول فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم):

كذلك الله ربي كذلك الله ربي.

فلما قال ذلك قال: اركع يا محمد لربك فركع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال له و هو راكع: قل سبحان ربي العظيم و بحمده ففعل ذلك ثلاثا، ثم قال: ارفع رأسك يا محمد ففعل ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقام منتصبا بين يدي الله فقال: اسجد يا محمد لربك

 

 

 

 فخر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ساجدا فقال: قل: سبحان ربي الأعلى و بحمده - ففعل ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ثلاثا فقال: استو جالسا يا محمد ففعل فلما استوى جالسا ذكر جلال ربه جل جلاله فخر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ساجدا من تلقاء نفسه لا لأمر أمره ربه عز و جل فسبح أيضا ثلاثا فقال: انتصب قائما ففعل فلم ير ما كان رأى من عظمة ربه جل جلاله.

فقال له: اقرأ يا محمد و افعل كما فعلت في الركعة الأولى ففعل ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ثم سجد سجدة واحدة فلما رفع رأسه ذكر جلال ربه تبارك و تعالى فخر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ساجدا من تلقاء نفسه لا لأمر أمره ربه عز و جل فسبح أيضا ثم قال له.

ارفع رأسك ثبتك الله و اشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله و أن الساعة آتية لا ريب فيها و أن الله يبعث من في القبور اللهم صل على محمد و آل محمد كما صليت و باركت و ترحمت على إبراهيم و آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم تقبل شفاعته في أمته و ارفع درجته ففعل.

فقال: يا محمد و استقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ربه تبارك و تعالى وجهه مطرقا فقال:

السلام عليك فأجابه الجبار جل جلاله فقال: و عليك السلام يا محمد بنعمتي قويتك على طاعتي و بعصمتي اتخذتك نبيا و حبيبا.

ثم قال أبو الحسن: (عليه السلام) و إنما كانت الصلاة التي أمر بها ركعتين و سجدتين و هو (ص) إنما سجد سجدتين في كل ركعة كما أخبرتك من تذكره لعظمة ربه تبارك و تعالى فجعله الله عز و جل فرضا.

قلت: جعلت فداك و ما صاد الذي أمر أن يغتسل منه؟ فقال: عين تنفجر من ركن من أركان العرش يقال له: ماء الحياة و هو ما قال الله عز و جل: ﴿ ص وَ اَلْقُرْآنِ ذِي اَلذِّكْرِ إنما أمره أن يتوضأ و يقرأ و يصلي.

 أقول: و في معناه روايات أخر.

 و في الكافي، بإسناده عن علي بن أبي حمزة قال: سأل أبو بصير أبا عبد الله (عليه السلام) و أنا حاضر فقال: جعلت فداك كم عرج برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)؟ فقال: مرتين فأوقفه جبرئيل موقفا فقال له: مكانك يا محمد فلقد وقفت موقفا ما وقفه ملك قط و لا نبي

 

 

 

إن ربك يصلي فقال: يا جبرئيل و كيف يصلي؟ فقال: يقول: سبوح قدوس أنا رب الملائكة و الروح سبقت رحمتي غضبي فقال: اللهم عفوك عفوك.

قال: و كان كما قال الله: قاب قوسين أو أدنى فقال له أبو بصير: جعلت فداك و ما قاب قوسين أو أدنى؟ قال: ما بين سيتها إلى رأسها فقال. بينهما حجاب يتلألأ و لا أعلمه إلا و قد قال: من زبرجد فنظر في مثل سم الإبرة إلى ما شاء الله من نور العظمة الحديث.

أقول: و آيات صدر سورة النجم تؤيد ما في الرواية من وقوع المعراج مرتين ثم الاعتبار يساعد على ما في الرواية من صلاته تعالى فإن الأصل في معنى الصلاة الميل و الانعطاف، و هو من الله سبحانه الرحمة و من العبد الدعاء كما قيل، و اشتمال ما أخبر به جبرئيل من صلاته تعالى على قوله: «سبقت رحمتي غضبي» يؤيده ما ذكرناه و لذلك أيضا أوقفه جبرئيل في الموقف الذي أوقفه و ذكر له أنه موطأ ما وطئه أحد قبله و ذلك أن لازم ما وصفه بهذا الوصف أن يكون الموقف هو الحد الفاصل بين الخلق و الخالق و آخر ما ينتهي إليه الإنسان من الكمال فهو الحد الذي يظهر فيه الرحمة الإلهية و تفاض على ما دونه و لهذا أوقف (ص) لمشاهدته.

 و في المجمع، و هو ملخص من الروايات أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: أتاني جبرائيل و أنا بمكة فقال: قم يا محمد فقمت معه و خرجت إلى الباب فإذا جبرائيل و معه ميكائيل و إسرافيل فأتى جبرائيل بالبراق و كان فوق الحمار و دون البغل خده كخد الإنسان و ذنبه كذنب البقر و عرفه كعرف الفرس و قوائمه كقوائم الإبل عليه رحل من الجنة و له جناحان من فخذيه خطوه منتهى طرفه فقال: اركب فركبت و مضيت حتى انتهيت إلى بيت المقدس ثم ساق الحديث إلى أن قال: فلما انتهيت إلى بيت المقدس إذا ملائكة نزلت من السماء بالبشارة و الكرامة من عند رب العزة و صليت في بيت المقدس، و في بعضها بشر لي إبراهيم في رهط من الأنبياء ثم وصف موسى و عيسى ثم أخذ جبرائيل بيدي إلى الصخرة فأقعدني عليها فإذا معراج إلى السماء لم أر مثلها حسنا و جمالا.

فصعدت إلى السماء الدنيا و رأيت عجائبها و ملكوتها و ملائكتها يسلمون علي ثم صعد بي جبرائيل إلى السماء الثانية فرأيت فيها عيسى بن مريم و يحيى بن زكريا ثم

 

 

 

 صعد بي إلى السماء الثالثة فرأيت فيها يوسف. ثم صعد بي إلى السماء الرابعة فرأيت فيها إدريس. ثم صعد بي إلى السماء الخامسة فرأيت فيها هارون ثم صعد بي إلى السماء السادسة فإذا فيها خلق كثير يموج بعضهم في بعض و فيها الكروبيون ثم صعد بي إلى السماء السابعة فأبصرت فيها خلقا و ملائكة و في حديث أبي هريرة رأيت في السماء السادسة موسى، و رأيت في السماء السابعة إبراهيم.

قال: ثم جاوزناها متصاعدين إلى أعلى عليين و وصف ذلك إلى أن قال ثم كلمني ربي و كلمته و رأيت الجنة و النار، و رأيت العرش و سدرة المنتهى ثم رجعت إلى مكة فلما أصبحت حدثت به الناس فكذبني أبو جهل و المشركون و قال مطعم بن عدي: أ تزعم أنك سرت مسيرة شهرين في ساعة؟ أشهد أنك كاذب.

قالوا: ثم قالت قريش، أخبرنا عما رأيت فقال: مررت بعير بني فلان و قد أضلوا بعيرا لهم و هم في طلبه و في رحلهم قعب [1]مملوء من ماء فشربت الماء ثم غطيته فاسألوهم هل وجدوا الماء في القدح؟ قالوا: هذه آية واحدة.

قال: و مررت بعير بني فلان فنفرت بكرة فلان فانكسرت يدها فاسألوهم عن ذلك فقالوا: هذه آية أخرى قالوا: فأخبرنا عن عيرنا قال: مررت بها بالتنعيم و بين لهم أحمالها و هيئاتها و قال: يقدمها جمل أورق عليه فزارتان محيطتان و تطلع عليكم عند طلوع الشمس قالوا: هذه آية أخرى.

ثم خرجوا يشتدون نحو التيه و هم يقولون: لقد قضى محمد بيننا و بينه قضاء بينا، و جلسوا ينتظرون متى تطلع الشمس فيكذبوه؟ فقال قائل: و الله إن الشمس قد طلعت. و قال آخر: و الله هذه الإبل قد طلعت يقدمها بعير أورق فبهتوا و لم يؤمنوا.

و في تفسير العياشي، عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) صلى العشاء الآخرة و صلى الفجر في الليلة التي أسري به بمكة.

 أقول: و في بعض الأخبار أنه (ص) صلى المغرب بالمسجد الحرام ثم أسري به‏ و لا منافاة بين الروايتين و كذا لا منافاة بين كونه صلى المغرب أو العشاء الآخرة و الفجر

 

 

 

بمكة و بين كون الصلوات الخمس فرضت عليه في السماء ليلة الإسراء فإن فرض أصل الصلاة كان قبل ذلك، و أما أنها كم ركعة كانت فغير معلوم غير أن الآثار تدل على أنه (ص) كان يقيم الصلاة منذ بعثه الله نبيا و في سورة العلق: ﴿أَ رَأَيْتَ اَلَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذَا صَلَّى و قد روي أنه (ص) كان يصلي بعلي و خديجة (عليه السلام) بالمسجد الحرام قبل أن يعلن دعوته بمدة.

 و في الكافي، عن العامري عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما عرج برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) نزل بالصلاة عشر ركعات ركعتين ركعتين فلما ولد الحسن و الحسين (عليه السلام) زاد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) سبع ركعات شكرا لله فأجاز الله له ذلك و ترك الفجر لم يزد فيها لأنه يحضرها ملائكة الليل و ملائكة النهار فلما أمره الله بالتقصير في السفر وضع عن أمته ست ركعات و ترك المغرب لم ينقص منه شيئا، و إنما يجب السهو فيما زاد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فمن شك في أصل الفرض في الركعتين الأوليين استقبل صلاته.

 و روى الصدوق في الفقيه، بإسناده عن سعيد بن المسيب: أنه سأل علي بن الحسين (عليه السلام) فقال: متى فرضت الصلاة على المسلمين على ما هي اليوم عليه؟ فقال: بالمدينة حين ظهرت الدعوة و قوي الإسلام و كتب الله على المسلمين الجهاد زاد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في الصلاة سبع ركعات في الظهر ركعتين و في العصر ركعتين و في المغرب ركعة و في العشاء الآخرة ركعتين، و أقر الفجر على ما فرضت بمكة. الحديث.

 و في الدر المنثور، أخرج أحمد و النسائي و البزاز و الطبراني و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل، بسند صحيح عن ابن عباس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لما أسري بي مرت بي رائحة طيبة فقلت: يا جبرئيل ما هذه الرائحة الطيبة؟ قال: ماشطة بيت فرعون و أولادها كانت تمشطها فسقط المشط من يدها فقالت: بسم الله فقالت ابنة فرعون: أبي؟ قالت: بلى ربي و ربك و رب أبيك قالت: أ و لك رب غير أبي؟ قالت نعم قالت: فأخبر بذلك أبي؟ قالت: نعم.

فأخبرته فدعاها فقال: أ لك رب غيري؟ قالت: نعم ربي و ربك الله الذي في السماء فأمر ببقرة من نحاس فأحميت ثم أمر بها لتلقى فيها و أولادها. قالت: إن لي إليك حاجة قال: و ما هي؟ قالت: تجمع عظامي و عظام ولدي فتدفنه جميعا. قال

 

 

 

 ذلك لك لما لك علينا من حق فألقوا واحدا واحدا حتى بلغ رضيعا فيهم قال: نعي يا أمه و لا تقاعسي فإنك على الحق فألقيت هي و ولدها.

قال ابن عباس: و تكلم أربعة و هم صغار: هذا و شاهد يوسف و صاحب جريح و عيسى بن مريم:

أقول: و روي من وجه آخر عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).

 و فيه، أخرج ابن مردويه عن أنس أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: ليلة أسري بي مررت بناس يقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت عادت كما كانت فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون.

 أقول: و هذا النوع من التمثلات البرزخية التي تصور الأعمال بنتائجها و العذابات المعدة لها كثيرة الورود في أخبار الإسراء و قد تقدم شطر منها في ضمن الروايات.

و اعلم أن ما أوردناه من أخبار الإسراء نبذة يسيرة منها و هي كثيرة بالغة حد التواتر رواها جم غفير من الصحابة كأنس بن مالك و شداد بن الأوس و علي بن أبي طالب (عليه السلام) و أبو سعيد الخدري و أبو هريرة و عبد الله بن مسعود و عمر بن الخطاب و عبد الله بن عمر و عبد الله بن عباس و أبي بن كعب و سمرة بن جندب و بريدة و صهيب بن سنان و حذيفة بن اليمان و سهل بن سعد و أبو أيوب الأنصاري و جابر بن عبد الله و أبو الحمراء و أبو الدرداء و عروة و أم هاني و أم سلمة و عائشة و أسماء بنت أبي بكر كلهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و روتها جماعة كثيرة من رواة الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام).

و قد اتفقت أقوال من يعتنى بقوله من علماء الإسلام على أن الإسراء كان بمكة قبل الهجرة كما يستفاد من قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ الآية، و يدل عليه ما اشتملت عليه كثير من الروايات من إخباره (ص) قريشا بذلك صبيحة ليلته و إنكارهم ذلك عليه و إخباره إياهم بأساطين المسجد الأقصى و ما لقيه في الطريق من العير و غير ذلك.

ثم اختلفوا في السنة التي أسري به (ص) فيها فقيل: في السنة الثانية من البعثة كما

 

 

 

 عن ابن عباس، و قيل في السنة الثالثة منها كما في الخرائج، عن علي (عليه السلام). و قيل في السنة الخامسة، أو السادسة، و قيل بعد البعثة بعشر سنين و ثلاثة أشهر، و قيل: في السنة الثانية عشرة منها، و قيل: قبل الهجرة بسنة و خمسة أشهر، و قيل: قبلها بسنة و ثلاثة أشهر، و قيل: قبلها بستة أشهر.

و لا يهمنا الغور في البحث عن ذلك و لا عن الشهر و اليوم الذي وقع فيه الإسراء و لا مستند يصح التعويل عليه لكن ينبغي أن يتنبه أن من الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) ما يصرح بوقوع الإسراء مرتين، و هو المستفاد من آيات سورة النجم حيث يقول سبحانه: ﴿وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى الآيات على ما سيوافيك إن شاء الله من تفسيره.

و على هذا فمن الجائز أن يكون ما وصفه (ص) في بعض الروايات من عجيب ما شاهده راجعا إلى ما شاهده في الإسراء الأول و بعض ما وصفه في بعض آخر راجعا إلى الإسراء الثاني، و بعضه مما شاهده في الإسراءين معا.

ثم اختلفوا في المكان الذي أسري به (ص) منه فقيل: أسري به من شعب أبي طالب و قيل: أسري به من بيت أم هاني و في بعض الروايات دلالة على ذلك و قد أولوا قوله تعالى: ﴿أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ إلى أن المراد بالمسجد الحرام الحرم كله مجازا فيشمل مكة، و قيل: أسري به من نفس المسجد الحرام لظهور الآية الكريمة فيه و لا دليل على التأويل.

و من الجائز بالنظر إلى ما نبهنا به من كون الإسراء مرتين أن يكون أحد الإسراءين من المسجد الحرام و الآخر من بيت أم هاني، و أما كونه من الشعب فما ذكر فيما ذكر فيه من الروايات أن أبا طالب كان يطلبه طول ليلته و أنه اجتمع هو و بنو هاشم في المسجد الحرام ثم سل سيفه و هدد قريشا إن لم يحصل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ثم نزوله من السماء و مجيئه إليهم و إخباره قريشا بما رأى كل ذلك لا يلائم ما كان هو (ص) و بنو هاشم جميعا عليه من الشدة و البلية أيام كانوا في الشعب.

و على أي حال فالإسراء الذي تعطيه الآية: ﴿سُبْحَانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى و هو الإسراء الذي كان إلى بيت المقدس كان مبدؤه

 

 

 

 المسجد الحرام لكمال ظهور الآية و لا موجب للتأويل.

ثم اختلفوا في كيفية الإسراء فقيل: كان إسراؤه (عليه السلام) بروحه و جسده من المسجد الحرام إلى بيت المقدس ثم منه إلى السماوات و عليه الأكثر و قيل: كان بروحه و جسده من مكة إلى بيت المقدس ثم بروحه من بيت المقدس إلى السماوات و عليه جمع، و قيل: كان بروحه (عليه السلام) و هو رؤيا صادقة أراها الله نبيه و نسب إلى بعضهم.

 قال في المناقب، :اختلف الناس في المعراج فالخوارج ينكرونه، و قالت الجهمية:

عرج بروحه دون جسمه على طريق الرؤيا، و قالت الإمامية و الزيدية و المعتزلة: بل عرج بروحه و بجسمه إلى البيت المقدس لقوله تعالى: ﴿إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى و قال آخرون: بل عرج بروحه و بجسمه إلى السماوات: روي ذلك عن ابن عباس و ابن مسعود و جابر و حذيفة و أنس و عائشة و أم هاني. و نحن لا ننكر ذلك إذا قامت الدلالة، و قد جعل الله معراج موسى إلى الطور ﴿وَ مَا كُنْتَ بِجَانِبِ اَلطُّورِ و لإبراهيم إلى السماء الدنيا ﴿وَ كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ و لعيسى إلى الرابعة ﴿بَلْ رَفَعَهُ اَللَّهُ إِلَيْهِ و لإدريس إلى الجنة ﴿وَ رَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيًّا و لمحمد (صلى الله عليه وآله و سلم) ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ و ذلك لعلو همته. انتهى.

و الذي ينبغي أن يقال أن أصل الإسراء مما لا سبيل إلى إنكاره فقد نص عليه القرآن و تواترت عليه الأخبار عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الأئمة من أهل بيته (عليه السلام).

و أما كيفية الإسراء فظاهر الآية و الروايات بما يحتف بها من القرائن ظهورا لا يقبل الدفع أنه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بروحه و جسده جميعا، و أما العروج إلى السماوات فظاهر آيات سورة النجم كما سيأتي إن شاء الله في تفسيرها و صريح الروايات على كثرتها البالغة وقوعه، و لا سبيل إلى إنكاره من أصله غير أنه من الجائز أن يقال بكونه بروحه لكن لا على النحو الذي يراه القائلون به من كون ذلك من قبيل الأحلام و من نوع ما يراه النائم من الرؤى، و لو كان كذلك لم يكن لما يدل عليه الآيات بسياقها من إظهار المقدرة و الكرامة معنى، و لا لذاك الإنكار الشديد الذي أظهرته قريش عند ما قص (عليه السلام) لهم القصة وجه، و لا لما أخبرهم به من حوادث الطريق مفهوم معقول.

 

 

 

 بل ذلك إن كان بعروجه (ص) بروحه الشريفة إلى ما وراء هذا العالم المادي مما يسكنه الملائكة المكرمون و ينتهي إليه الأعمال و يصدر منه الأقدار و رأى عند ذلك من آيات ربه الكبرى و تمثلت له حقائق الأشياء و نتائج الأعمال و شاهد أرواح الأنبياء العظام و فاوضهم و لقي الملائكة الكرام و سامرهم، و رأى من الآيات الإلهية ما لا يوصف إلا بالأمثال كالعرش و الحجب و السرادقات.

و القوم لذهابهم إلى أصالة الوجود المادي و قصر الوجود غير المادي فيه تعالى لما وجدوا الكتاب و السنة يصفان أمورا غير محسوسة بتمثيلها في خواص الأجسام المحسوسة كالملائكة الكرام و العرش و الكرسي و اللوح و القلم و الحجب و السرادقات حملوا ذلك على كونها أجساما مادية لا يتعلق بها الحس و لا يجري فيها أحكام المادة، و حملوا أيضا ما ورد من التمثيلات في مقامات الصالحين و معارج القرب و بواطن صور المعاصي و نتائج الأعمال و ما يناظر ذلك إلى نوع من التشبيه و الاستعارة فوقعوا في ورطة السفسطة بتغليط الحس و إثبات الروابط الجزافية بين الأعمال و نتائجها و غير ذلك من المحاذير.

و لذلك أيضا لما نفى النافون منهم كون عروجه (ص) إلى السماوات بجسمه المادي اضطروا إلى القول بكونه في المنام و هو عندهم خاصة مادية للروح المادي و اضطروا لذلك إلى تأويل الآيات و الروايات بما لا تلائمه و لا واحدة منها.

بحث آخر:

قال في مجمع البيان،: فأما الموضع الذي أسري إليه أين كان فإن الإسراء إلى بيت المقدس، و قد نص به القرآن و لا يدفعه مسلم، و ما قاله بعضهم: إن ذلك كان في النوم فظاهر البطلان إذ لا معجز يكون فيه و لا برهان.

و قد وردت روايات كثيرة في قصة المعراج في عروج نبينا (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى السماء و رواها كثير من الصحابة مثل ابن عباس و ابن مسعود و أنس و جابر بن عبد الله و حذيفة و عائشة و أم هاني و غيرهم عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و زاد بعضهم و نقص بعض و تنقسم جملتها إلى أربعة أوجه.

 

 

 

 أحدها: ما يقطع على صحتها لتواتر الأخبار به و إحاطة العلم بصحته.

و ثانيها: ما ورد في ذلك مما يجوزه العقول و لا يأباه الأصول فنحن نجوزه ثم نقطع على أن ذلك كان في يقظته دون منامه.

و ثالثها: ما يكون ظاهره مخالفا لبعض الأصول إلا أنه يمكن تأويلها على وجه يوافق المعقول فالأولى تأويله على وجه يوافق الحق و الدليل.

و رابعها: ما لا يصح ظاهره و لا يمكن تأويله إلا على التعسف البعيد فالأولى أن لا نقبله.

فأما الأول المقطوع به فهو أنه أسري به على الجملة، و أما الثاني فمنه ما روي أنه طاف في السماوات و رأى الأنبياء و العرش و سدرة المنتهى و الجنة و النار و نحو ذلك.

و أما الثالث فنحو ما روي أنه رأى قوما في الجنة يتنعمون فيها و قوما في النار يعذبون فيها فيحمل على أنه رأى صفتهم أو أسماءهم، و أما الرابع فنحو ما روي أنه (ص) كلم الله جهرة و رآه و قعد معه على سريره و نحو ذلك مما يوجب ظاهره التشبيه، و الله سبحانه متقدس عن ذلك و كذلك، ما روي أنه شق بطنه و غسله لأنه (ص) كان طاهرا مطهرا من كل سوء و عيب و كيف يطهر القلب و ما فيه من الاعتقاد بالماء. انتهى.

و ما ذكره من التقسيم في محله غير أن غالب ما أورده من الأمثلة للأقسام منظور فيه فما ذكره من الطواف و رؤية الأنبياء و نحو ذلك تمثلات برزخية أو روحية و كذا ما ذكره من حديث شق البطن و الغسل تمثل برزخي لا ضير فيه و أحاديث الإسراء مملوءة من ذكر هذا النوع من التمثل كتمثل الدنيا في هيئة مرأة عليها من كل زينة الدنيا، و تمثل دعوة اليهودية و النصرانية و ما شاهده من أنواع النعيم و العذاب لأهل الجنة و النار و غير ذلك.

و مما يؤيد هذا الذي ذكرناه ما في السنة هذه الأخبار من الاختلاف في بيان حقيقة واحدة كما في بعضها من صعوده (ص) إلى السماء بالبراق و في آخر على جناح جبريل و في آخر بمعراج منصوب على صخرة بيت المقدس إلى السماء إلى غير ذلك مما يعثر عليه الباحث المتدبر في خلال هذه الروايات.

فهذه و أمثالها ترشد إلى أن هذه البيانات موضوعة على التمثيل أو التمثل الروحي، و وقوع هذه التمثيلات في ظواهر الكتاب و السنة مما لا سبيل إلى إنكاره البتة.

 

 

[سورة الإسراء (١٧): الآیات ٢ الی ٨]

﴿وَ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ وَ جَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً ٢ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً ٣ وَ قَضَيْنَا إِلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي اَلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي اَلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً ٤ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاَهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلاَلَ اَلدِّيَارِ وَ كَانَ وَعْداً مَفْعُولاً ٥ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ اَلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَ أَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَ بَنِينَ وَ جَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً ٦ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ اَلْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَ لِيَدْخُلُوا اَلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً ٧ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَ جَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً ٨  

(بيان)

الظاهر من سياق آيات صدر السورة أنها مسوقة لبيان أن السنة الإلهية في الأمم الإنسانية جرت على هدايتهم إلى طريق العبودية و سبيل التوحيد و أمكنهم من الوصول إلى ذلك باختيارهم فآتاهم من نعم الدنيا و الآخرة، و أمدهم بأسباب الطاعة و المعصية فإن أطاعوا و أحسنوا أثابهم بسعادة الدنيا و الآخرة، و إن أساءوا و عصوا جازاهم بنكال الدنيا و عذاب الآخرة.

و على هذا فهذه الآيات السبع كالمثال يمثل به ما جرى من هذه السنة العامة في بني إسرائيل أنزل الله على نبيهم الكتاب و جعله لهم هدى يهتدون به و قضى إليهم فيه أنهم سيعلون و يطغون و يفسقون فينتقم الله منهم باستيلاء عدوهم عليهم بالإذلال و القتل

 

 

 

 و الأسر ثم يعودون إلى الطاعة فيعود تعالى إلى النعمة و الرحمة ثم يستعلون و يطغون ثانيا فينتقم الله منهم ثانيا بأشد مما في المرة الأولى ثم من المرجو أن يرحمهم ربهم و إن يعودوا يعد.

و من ذلك يستنتج أن الآيات السبع كالتوطئة لما سيذكر بعدها من جريان هذه السنة العامة في هذه الأمة، و الآيات السبع كالمعترضة بين الآية الأولى و التاسعة.

قوله تعالى: ﴿وَ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ وَ جَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً الكتاب كثيرا ما يطلق في كلامه تعالى على مجموع الشرائع المكتوبة على الناس القاضية بينهم فيما اختلفوا فيه من الاعتقاد و العمل ففيه دلالة على اشتماله على الوظائف الاعتقادية و العملية التي عليهم أن يأخذوها و يتلبسوا بها، و لعله لذلك قيل:

﴿وَ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ و لم يقل التوراة ليدل به على اشتماله على شرائع مفترضة عليهم.

و بذلك يظهر أن قوله: ﴿وَ جَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بمنزلة التفسير لإيتائه الكتاب. و كونه هدى أي هاديا لهم هو بيانه لهم شرائع ربهم التي لو أخذوها و عملوا بها لاهتدوا إلى الحق و نالوا سعادة الدارين.

و قوله: ﴿أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً أن: فيه للتفسير و مدخولها محصل ما يشتمل عليه الكتاب الذي جعل هدى لهم فيئول المعنى إلى أن محصل ما كان الكتاب يبينه لهم و يهديهم إليه هو نهيه إياهم أن يشركوا بالله شيئا و يتخذوا من دونه وكيلا فقوله: ﴿أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً تفسيرا لقوله: ﴿وَ جَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إن كان ضمير ﴿أَلاَّ تَتَّخِذُوا عائدا إليهم كما هو الظاهر، و تفسير لجميع ما تقدمه إن احتمل رجوعه إلى موسى و بني إسرائيل جميعا.

و في الجملة التفات من التكلم مع الغير إلى التكلم وحده و وجهه بيان كون التكلم مع الغير لغرض التعظيم و جريان السياق على ما كان عليه من التكلم مع الغير كأن يقال:

«أن لا تتخذوا من دوننا وكلاء» لا يناسب معنى التوحيد الذي سيقت له الجملة، و لذلك عدل فيها إلى سياق التكلم وحده ثم لما ارتفعت الحاجة رجع الكلام إلى سياقه السابق فقيل: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ.

و رجوع اتخاذ الوكيل من دون الله إلى الشرك إنما هو من جهة أن الوكيل هو الذي

 

 

 

 يكفل إصلاح الشئون الضرورية لموكله و يقدم على رفع حوائجه و هو الله سبحانه فاتخاذ غيره ربا هو اتخاذ وكيل من دونه.

قوله تعالى: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً تطلق الذرية على الأولاد بعناية كونهم صغارا ملحقين بآبائهم، و هي على ما يهدي إليه السياق منصوبة على الاختصاص و يفيد الاختصاص عناية خاصة من المتكلم به في حكمه فهو بمنزلة التعليل كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ الأحزاب - ٣٣ أي ليفعل بكم ذلك لأنكم أهل بيت النبوة.

فقوله: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ يفيد فائدة التعليل بالنسبة إلى ما تقدمه كما أن قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً يفيد فائدة التعليل بالنسبة إليه.

أما الأول فلأن الظاهر أن تعلق العناية بهم إنما هو من جهة ما سبق من الله سبحانه لأهل سفينة نوح من الوعد الجميل حين نجاهم من الطوفان و أمر نوحا بالهبوط بقوله:

﴿يَا نُوحُ اِهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِنَّا وَ بَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ هود: ٤٨ ففي إنزاله الكتاب لموسى و جعله هدى لبني إسرائيل إنجاز للوعد الحسن الذي سبق لآبائهم من أهل السفينة و جرى على السنة الإلهية الجارية في الأمم فكأنه قيل: أنزلنا على موسى الكتاب و جعلناه هدى لبني إسرائيل لأنهم ذرية من حملنا مع نوح و قد وعدناهم السلام و البركات و التمتيع.

و أما الثاني فلأن هذه السنة أعني سنة الهداية و الإرشاد و طريقة الدعوة إلى التوحيد هي بعينها السنة التي كان نوح (عليه السلام) أول من قام بها في العالم البشري فشكر بذلك نعمة الله و أخلص له في العبودية و قد تقدم مرارا أن الشكر بحقيقته يلازم الإخلاص في العبودية فشكر الله له، و جعل سنته باقية ببقاء الدنيا، و سلم عليه في العالمين، و أثابه بكل كلمة طيبة و عمل صالح إلى يوم القيامة كما قال تعالى: ﴿وَ جَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ اَلْبَاقِينَ وَ تَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ سَلاَمٌ عَلى نُوحٍ فِي اَلْعَالَمِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ: الصافات: ٨٠.

فيتلخص معنى الآيتين في مثل قولنا: إنا جزينا نوحا بما كان عبدا شكورا لنا أنا أبقينا دعوته و أجرينا سنته و طريقته في ذرية من حملناهم معه في السفينة و من ذلك أنا أنزلنا على موسى الكتاب و جعلناه هدى لبني إسرائيل.

 

 

 

 و يظهر من قوله في الآية: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ و من قوله﴿ وَ جَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ اَلْبَاقِينَ أن الناس ذرية نوح (عليه السلام) من جهة الابن و البنت معا، و لو كانت الذرية منتهية إلى أبنائه فقط و كان المراد بقوله: ﴿مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ أبناءه فقط كان الأحسن بل المتعين أن يقال: ذرية نوح و هو ظاهر.

و للقوم في إعراب الآية وجوه أخرى كثيرة كقول من قال: إن ﴿ذُرِّيَّةَ منصوب على النداء بحذف حرفه، و التقدير يا ذرية من حملنا، و قيل: مفعول أول لقوله:

تتخذوا و مفعوله الثاني قوله: ﴿وَكِيلاً و التقدير أن لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح وكيلا من دوني، و قيل: بدل من موسى في الآية السابقة و هي وجوه ظاهرة السخافة.

و يتلوها في ذلك قول من قال: إن ضمير ﴿إِنَّهُ عائد إلى موسى دون نوح و الجملة تعليل لإيتائه الكتاب أو لجعله (عليه السلام) هدى لبني إسرائيل بناء على رجوع ضمير ﴿وَ جَعَلْنَاهُ إلى موسى دون الكتاب.

قوله تعالى: ﴿وَ قَضَيْنَا إِلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي اَلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي اَلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً قال الراغب في المفردات،: القضاء فصل الأمر قولا كان ذلك أو فعلا، و كل واحد منهما على وجهين: إلهي و بشري فمن القول الإلهي قوله: ﴿وَ قَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ أي أمر بذلك، و قال: ﴿وَ قَضَيْنَا إِلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي اَلْكِتَابِ فهذا قضاء بالإعلام و الفصل في الحكم أي أعلمناهم و أوحينا إليهم وحيا جزما و على هذا ﴿وَ قَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ اَلْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاَءِ مَقْطُوعٌ.

و من الفعل الإلهي قوله: ﴿وَ اَللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْ‏ءٍ و قوله: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ إشارة إلى إيجاده الإبداعي و الفراغ منه نحو: ﴿بَدِيعُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ.

قال: و من القول البشري نحو قضى الحاكم بكذا فإن حكم الحاكم يكون بالقول، و من الفعل البشري ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ انتهى موضع الحاجة.

و العلو هو الارتفاع و هو في الآية كناية عن الطغيان بالظلم و التعدي و يشهد بذلك عطفه على الإفساد عطف التفسير، و في هذا المعنى قوله: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي اَلْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً.

 

 

 

و معنى الآية و أخبرنا و أعلمنا بني إسرائيل إخبارا قاطعا في الكتاب و هو التوراة:

أقسم و أحق هذا القول أنكم شعب إسرائيل ستفسدون في الأرض و هي أرض فلسطين و ما يتبعها مرتين مرة بعد مرة و تعلون علوا كبيرا و تطغون طغيانا عظيما.

قوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاَهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا إلخ، قال الراغب:

البؤس و البأس و البأساء الشدة و المكروه إلا أن البؤس في الفقر و الحرب أكثر و البأس و البأساء في النكاية نحو ﴿وَ اَللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَ أَشَدُّ تَنْكِيلاً. انتهى موضع الحاجة.

و في المجمع: الجوس‏ التخلل في الديار يقال: تركت فلان يجوس بني فلان و يجوسهم و يدوسهم أي يطؤهم، قال أبو عبيد: كل موضع خالطته و وطأته فقد حسته و جسته قال: و قيل: الجوس‏ طلب الشي‏ء باستقصاء. انتهى.

و قوله: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاَهُمَا تفريع على قوله: ﴿لَتُفْسِدُنَّ إلخ، و ضمير التثنية راجع إلى المرتين و هما الإفسادتان فالمراد بها الإفسادة الأولى، و المراد بوعد أولاهما ما وعدهم الله من النكال و النقمة على إفسادهم فالوعد بمعنى الموعود، و مجي‏ء الوعد كناية عن وقت إنجازه، و يدل ذلك على أنه وعدهم على إفسادهم مرتين وعدين و لم يذكرا إنجازا فكأنه قيل: لتفسدن في الأرض مرتين و نحن نعدكم الانتقام على كل منهما فإذا جاء وعد المرة الأولى «إلخ» كل ذلك معونة السياق.

و قوله: ﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أي أنهضناهم و أرسلناهم إليكم ليذلوكم و ينتقموا منكم، و الدليل على كون البعث للانتقام و الإذلال قوله: ﴿أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ إلخ.

و لا ضير في عد مجيئهم إلى بني إسرائيل مع ما كان فيه من القتل الذريع و الأسر و السبي و النهب و التخريب بعثا إلهيا لأنه كان على سبيل المجازاة على إفسادهم في الأرض و علوهم و بغيهم بغير الحق، فما ظلمهم الله ببعث أعدائهم و تأييدهم عليهم و لكن كانوا هم الظالمين لأنفسهم.

و بذلك يظهر أن لا دليل من الكلام يدل على قول من قال: إن المراد بقوله: ﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ «إلخ» أمرنا قوما مؤمنين بقتالكم و جهادكم لاقتضاء ظاهر قوله: ﴿بَعَثْنَا و قوله ﴿عِبَاداً ذلك و ذلك لما عرفت أن عد ذلك بعثا إلهيا لا مانع فيه بعد ما كان

 

 

 

 على سبيل المجازاة، و كذا لا مانع من عد الكفار عبادا لله مع ما تعقبه من قوله:

﴿أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ.

و نظيره قول من قال: يجوز أن يكون هؤلاء المبعوثون مؤمنين أمرهم الله بجهاد هؤلاء، و يجوز أن يكونوا كفارا فتألفهم نبي من الأنبياء لحرب هؤلاء، و سلطهم على أمثالهم من الكفار و الفساق، و يرد عليه نظير ما يرد على سابقه.

و قوله: ﴿وَ كَانَ وَعْداً مَفْعُولاً تأكيد لكون القضاء حتما لازما و المعنى فإذا جاء وقت الوعد الذي وعدناه على المرة الأولى من إفسادكم مرتين بعثنا و أنهضنا عليكم من الناس عبادا لنا أولي بأس و شدة شديدة فدخلوا بالقهر و الغلبة أرضكم و توسطوا في دياركم فأذلوكم و أذهبوا استقلالكم و علوكم و سؤددكم و كان وعدا مفعولا لا محيص عنه.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ اَلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَ أَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَ بَنِينَ وَ جَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً قال في المجمع،: الكرة معناه الرجعة و الدولة، و النفير العدد من الرجال قال الزجاج: و يجوز أن يكون جمع نفر كما قيل: العبيد و الضئين و المعيز و الكليب، و نفر الإنسان و نفره و نفيره و نافرته رهطه الذين ينصرونه و ينفرون معه انتهى.

و معنى الآية ظاهر، و ظاهرها أن بني إسرائيل ستعود الدولة لهم على أعدائهم بعد وعد المرة الأولى فيغلبونهم و يقهرونهم و يتخلصون من استعبادهم و استرقاقهم و أن هذه الدولة سترجع إليهم تدريجا في برهة معتد بها من الزمان كما هو لازم إمدادهم بأموال و بنين و جعلهم أكثر نفيرا.

و في قوله في الآية التالية: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا إشعار بل دلالة بمعونة السياق أن هذه الواقعة و هي رد الكرة لبني إسرائيل على أعدائهم إنما كانت لرجوعهم إلى الإحسان بعد ما ذاقوا وبال إساءتهم قبل ذلك كما أن إنجاز وعد الآخرة إنما كان لرجوعهم ثانيا إلى الإساءة بعد رجوعهم هذا إلى الإحسان.

قوله تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا اللام في ﴿لِأَنْفُسِكُمْ و ﴿فَلَهَا للاختصاص أي إن كلا من إحسانكم و إساءتكم يختص بأنفسكم دون أن يلحق غيركم، و هي سنة الله الجارية أن العمل يعود أثره و تبعته إلى صاحبه إن خيرا و إن شرا فهو كقوله: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَ لَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ: البقرة - ١٤١.

 

 

 

 فالمقام مقام بيان أن أثر العمل لصاحبه خيرا كان أو شرا، و ليس مقام بيان أن الإحسان ينفع صاحبه و الإساءة تضره حتى يقال: و إن أسأتم فعليها كما قيل: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَ عَلَيْهَا مَا اِكْتَسَبَتْ: البقرة: ٢٨٦.

فلا حاجة إلى ما تكلفه بعضهم أن اللام في قوله: ﴿وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا بمعنى على، و قول آخرين: إنها بمعنى إلى لأن الإساءة تتعدى بها يقال: أساء إلى فلان و يسي‏ء إليه إساءة، و قول آخرين: إنها للاستحقاق كقوله: ﴿وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.

و ربما أورد على كون اللام للاختصاص بأن الواقع على خلافه فكثيرا ما يتعدى أثر الإحسان إلى غير محسنه و أثر الإساءة إلى غير فاعلها و هو ظاهر.

و الجواب عنه أن فيه غفلة عما يراه القرآن الكريم في آثار الأعمال أما آثار الأعمال الأخروية فإنها لا تتعدى صاحبها البتة قال تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ: الروم: ٤٤، و أما الآثار الدنيوية فإن الأعمال لا تؤثر أثرا في غير فاعلها إلا أن يشاء الله من ذلك شيئا على سبيل النعمة على الغير أو النقمة أو الابتلاء و الامتحان فليس في مقدرة الفاعل أن يوصل أثر فعله إلى الغير دائما إلا أحيانا يريده الله لكن الفاعل يلحقه أثر فعله الحسن أو السيئ دائما من غير تخلف.

فللمحسن نصيب من إحسانه و للمسي‏ء نصيب من إساءته، قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ: الزلزال: ٨ فأثر الفعل لا يفارق فاعله إلى غيره، و هذا معنى‏

ما روي عن علي (عليه السلام) أنه قال: ما أحسنتم إلى أحد و لا أسأت إليه و تلا الآية.

قوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ اَلْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَ لِيَدْخُلُوا اَلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً التتبير الإهلاك من التبار بمعنى الهلاك و الدمار.

و قوله: ﴿لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ من المساءة يقال: ساء زيد فلانا إذا أحزنه و هو على ما قيل متعلق بفعل مقدر محذوف للإيجاز، و اللام للغاية و التقدير بعثناهم ليسوئوا وجوهكم بظهور الحزن و الكآبة فيها و بدو آثار الذلة و المسكنة و صغار الاستعباد عليها بما يرتكبونه فيكم من القتل الذريع و السبي و النهب.

و قوله: ﴿وَ لِيَدْخُلُوا اَلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ المراد بالمسجد هو المسجد الأقصى

 

 

 

 بيت المقدس و لا يعبأ بما ذكره بعضهم أن المراد به جميع الأرض المقدسة مجازا، و في الكلام دلالة أولا أنهم في وعد المرة الأولى أيضا دخلوا المسجد عنوة و إنما لم يذكر قبلا للإيجاز، و ثانيا أن دخولهم المسجد إنما كان للهتك و التخريب، و ثالثا يشعر الكلام بأن هؤلاء المهاجمين المبعوثين لمجازاة بني إسرائيل و الانتقام منهم هم الذين بعثوا عليهم أولا.

و قوله: ﴿وَ لِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً أي ليهلكوا الذي غلبوا عليه إهلاكا فيقتلوا النفوس و يحرقوا الأموال و يهدموا الأبنية و يخربوا البلاد، و احتمل أن يكون ما مصدرية بحذف مضاف و تقدير الكلام: و ليتبروا مدة علوهم تتبيرا، و المعنى الأول أقرب إلى الفهم و أوفق بالسياق.

و المقايسة بين الوعدين أعني قوله: ﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا إلخ و قوله: ﴿لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ إلخ يعطي أن الثاني كان أشد على بني إسرائيل و أمر و قد كادوا أن يفنوا و يبيدوا فيه عن آخرهم و كفى في ذلك قوله تعالى: ﴿وَ لِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً.

و المعنى فإذا جاء وعد المرة الآخرة و هي الثانية من الإفسادتين بعثناهم ليسوئوا وجوهكم بظهور الحزن و الكآبة و بدو الذلة و المسكنة و ليدخلوا المسجد الأقصى كما دخلوه أول مرة و ليهلكوا الذي غلبوا عليه و يفنوا الذي مروا عليه إهلاكا و إفناء.

قوله تعالى: ﴿عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَ جَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً الحصير من الحصر و هو على ما ذكروه التضييق و الحبس قال تعالى:

﴿وَ اُحْصُرُوهُمْ: التوبة: ٥ أي ضيقوا عليهم.

و قوله: ﴿عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ أي بعد البعث الثاني على ما يفيده السياق و هو ترج للرحمة على تقدير أن يتوبوا و يرجعوا إلى الطاعة و الإحسان بدليل قوله:

﴿وَ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا أي و إن تعودوا إلى الإفساد و العلو، بعد ما رجعتم عنه و رحمكم ربكم نعد إلى العقوبة و النكال، و جعلنا جهنم للكافرين حصيرا و مكانا حابسا لا يستطيعون منه خروجا.

و في قوله: ﴿عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة و كأن الوجه فيه الإشارة إلى أن الأصل الذي يقتضيه ربوبيته تعالى أن يرحم عباده إن

 

 

 

 جروا على ما يقتضيه خلقتهم و يرشد إليه فطرتهم إلا أن ينحرفوا عن خط الخلقة و يخرجوا عن صراط الفطرة، و الإيماء إلى هذه النكتة يوجب ذكر وصف الرب فاحتاج السياق أن يتغير عن التكلم مع الغير إلى الغيبة ثم لما استوفيت النكتة بقوله: ﴿عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ عاد الكلام إلى ما كان عليه.

بحث روائي‏

 في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن نوحا إنما سمي عبدا شكورا لأنه كان يقول إذا أمسى و أصبح: اللهم إني أشهدك أنه ما أمسى و أصبح بي من نعمة أو عافية في دين أو دنيا فمنك وحدك لا شريك لك، لك الحمد و لك الشكر بها علي حتى ترضى و بعد الرضا.

 أقول: و روي هذا المعنى بتفاوت يسير بعدة طرق في الكافي و تفسيري القمي، و العياشي،.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي فاطمة أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: كان نوح (عليه السلام) لا يحمل شيئا صغيرا و لا كبيرا إلا قال: بسم الله و الحمد لله فسماه الله عبدا شكورا. أقول: و الروايات لا تنافي ما تقدم من تفسير الشكر بالإخلاص فمن المعلوم أن دعاءه لم يكن إلا عن تحققه بحقيقة ما دعا به و لا ينفك ذلك عن الإخلاص في العبودية.

 و في تفسير البرهان، عن ابن قولويه بإسناده عن صالح بن سهل عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: ﴿وَ قَضَيْنَا إِلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي اَلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي اَلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ﴾ قال: قتل أمير المؤمنين و طعن الحسن بن علي (عليه السلام) ﴿وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً قال: قتل الحسين (عليه السلام) ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاَهُمَا قال: إذا جاء نصر الحسين ﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلاَلَ اَلدِّيَارِ﴾ قوم يبعثهم الله قبل قيام القائم لا يدعون لآل محمد وترا إلا أخذوه ﴿وَ كَانَ وَعْداً مَفْعُولاً.

أقول: و في معناها روايات أخرى و هي مسوقة لتطبيق ما يجري في هذه الأمة من الحوادث على ما جرى منها في بني إسرائيل تصديقا لما تواتر عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)

 

 

 

 هذه الأمة ستركب ما ركبته بنو إسرائيل حذو النعل بالنعل و القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخله هؤلاء، و ليست الروايات واردة في تفسير الآيات، و من شواهد ذلك اختلاف ما فيها من التطبيق.

و أما أصل القصة التي تتضمنها الآيات الكريمة فقد اختلفت الروايات فيها اختلافا عجيبا يسلب عنها التعويل، و لذلك تركنا إيرادها هاهنا من أرادها فليراجع جوامع الحديث من العامة و الخاصة.

و قد نزل على بني إسرائيل منذ استقلوا بالملك و السؤدد نوازل هامة كثيرة فوق اثنتين على ما يضبطه تاريخهم - يمكن أن ينطبق ما تضمنته هذه الآيات على اثنتين منها لكن الذي هو كالمسلم عندهم أن إحدى هاتين النكايتين اللتين تشير إليهما الآيات هي ما جرى عليهم بيد بخت نصر (نبوكد نصر) من ملوك بابل قبل الميلاد بستة قرون تقريبا.

و كان ملكا ذا قوة و شوكة من جبابرة عهده، و كان يحمي بني إسرائيل فعصوه و تمردوا عليه فسار إليهم بجيوش لا قبل لهم بها و حاصر بلادهم ثم فتحها عنوة فخرب البلاد و هدم المسجد الأقصى و أحرق التوراة و كتب الأنبياء و أباد النفوس بالقتل العام و لم يبق منهم إلا شرذمة قليلة من النساء و الذراري و ضعفاء الرجال فأسرهم و سيرهم معه إلى بابل فلم يزالوا هناك لا يحميهم حام و لا يدفع عنهم دافع طول زمن حياة بخت نصر و بعده زمانا طويلا حتى قصد الكسرى كورش أحد ملوك الفرس العظام بابل و فتحه تلطف على الأسرى من بني إسرائيل و أذن لهم في الرجوع إلى الأرض المقدسة، و أعانهم على تعمير الهيكل المسجد الأقصى و تجديد الأبنية و أجاز لعزراء أحد كهنتهم أن يكتب لهم التوراة و ذلك في نيف و خمسين و أربعمائة سنة قبل الميلاد.

و الذي يظهر من تاريخ اليهود أن المبعوث أولا لتخريب بيت المقدس هو بخت نصر و بقي خرابا سبعين سنة، و المبعوث ثانيا هو قيصر الروم إسبيانوس سير إليهم وزيره طوطوز فخرب البيت و أذل القوم قبل الميلاد بقرن تقريبا.

و ليس من البعيد أن يكون الحادثتان هما المرادتان في الآيات فإن الحوادث الأخرى لم تفن جمعهم و لم تذهب بملكهم و استقلالهم بالمرة لكن نازلة بخت نصر ذهب بجميعهم

 

 

 

 و سؤددهم إلى زمن كورش ثم اجتمع شملهم بعده برهة ثم غلب عليهم الروم و أذهبت بقوتهم و شوكتهم فلم يزالوا على ذلك إلى زمن ظهور الإسلام.

و لا يبعده إلا ما تقدمت الإشارة إليه في تفسير الآيات أن فيها إشعارا بأن المبعوث إلى بني إسرائيل في المرة الأولى و الثانية قوم بأعيانهم و أن قوله: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ اَلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ مشعر بأن الكرة من بني إسرائيل على القوم المبعوثين عليهم أولا، و أن قوله: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ اَلْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ مشعر برجوع ضمير الجمع إلى ما تقدم من قوله: ﴿عِبَاداً لَنَا.

لكنه إشعار من غير دلالة ظاهرة لجواز أن يكون المراد كرة من غير بني إسرائيل على أعدائهم و هم ينتفعون بها و أن يكون ضمير الجمع عائدا إلى ما يدل عليه الكلام بسياقه من غير إيجاب السياق أن يكون المبعوثون ثانيا هم المبعوثين أولا).

[سورة الإسراء (١٧): الآیات ٩ الی ٢٢]

﴿إِنَّ هَذَا اَلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَ يُبَشِّرُ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ٩ وَ أَنَّ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ١٠ وَ يَدْعُ اَلْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَ كَانَ اَلْإِنْسَانُ عَجُولاً ١١ وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اَللَّيْلِ وَ جَعَلْنَا آيَةَ اَلنَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَ اَلْحِسَابَ وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً ١٢ وَ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ١٣ اِقْرَأْ كِتَابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ اَلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ١٤ مَنِ اِهْتَدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَ مَا كُنَّا  

 

 

 

﴿مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ١٥ وَ إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا اَلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ١٦ وَ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ اَلْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَ كَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ١٧ مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً ١٨ وَ مَنْ أَرَادَ اَلْآخِرَةَ وَ سَعى لَهَا سَعْيَهَا وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ١٩ كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاَءِ وَ هَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَ مَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ٢٠ اُنْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلاً ٢١ لاَ تَجْعَلْ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً ٢٢  

(بيان)

كان القبيل السابق من الآيات يذكر كيفية جريان السنة الإلهية في هداية الإنسان إلى سبيل الحق و دين التوحيد ثم إسعاد من استجاب الدعوة الحقة في الدنيا و الآخرة و عقاب من كفر بالحق و فسق عن الأمر في دنياه و عقباه، و كان ذكر نزول التوراة و ما جرى بعد ذلك على بني إسرائيل كالمثال الذي يورد في الكلام لتطبيق الحكم الكلي على أفراده و مصاديقه، و هذا القبيل من الآيات يذكر جريان السنة المذكورة في هذه الأمة كما جرت في أمة موسى، و قد استنتج من الآيات لزوم التجنب عن الشرك و وجوب التزام طريق التوحيد حيث قيل: ﴿لاَ تَجْعَلْ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا اَلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ أي للملة التي هي أقوم كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً: الأنعام: ١٦١.

 

 

 

 و الأقوم‏ أفعل تفضيل و الأصل في الباب القيام ضد القعود الذي هو أحد أحوال الإنسان و أوضاعه، و هو أعدل حالاته يتسلط به على ما يريده من العمل بخلاف القعود و الاستلقاء و الانبطاح و نحوها ثم كني به عن حسن تصديه للأمور إذا قوي عليها من غير عجز و عي و أحسن إدارتها للغاية يقال: قام بأمر كذا إذا تولاه و قام على أمر كذا أي راقبه و حفظه و راعى حاله بما يناسبه.

و قد وصف الله سبحانه هذه الملة الحنيفية بالقيام كما قال: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ: الروم: ٣٠، و قال: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ اَلْقَيِّمِ: الروم: ٤٣.

و ذلك لكون هذا الدين مهيمنا على ما فيه خير دنياهم و آخرتهم قيما على إصلاح حالهم في معاشهم، و معادهم و ليس إلا لكونه موافقا لما تقتضيه الفطرة الإنسانية و الخلقة التي سواه الله سبحانه عليها و جهزه بحسبها بما يهديه إلى غايته التي أريدت له، و سعادته التي هيئت لأجله.

و على هذا فوصف هذه الملة في قوله: ﴿لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ بأنها أقوم إن كان بقياسها إلى سائر الملل إنما هو من جهة أن كلا من تلك الملل سنة حيوية اتخذها ناس لينتفعوا بها في شي‏ء من أمور حياتهم لكنها إن كان تنفعهم في بعضها فهي تضرهم في بعض آخر و إن كانت تحرز لهم شطرا مما فيه هواهم فهي تفوت عليهم شطرا عظيما مما فيه خيرهم، و إنما ذلك الإسلام يقوم على حياتهم و بجميع ما يهمهم في الدنيا و الآخرة من غير أن يفوته فائت فالملة الحنيفية أقوم من غيرها على حياة الإنسان.

و إن كان بالقياس إلى سائر الشرائع الإلهية السابقة كشريعة نوح و موسى و عيسى (عليه السلام) كما هو ظاهر جعلها مما يهدي إليها القرآن قبال ما تقدم من ذكر التوراة و جعلها هدى لبني إسرائيل فإنما هو من جهة أن هذه الملة الحنيفية أكمل من الملل السابقة التي تتضمنها كتب الأنبياء السابقين فهي تشتمل من المعارف الإلهية على آخر ما تتحمله البنية الإنسانية و من الشرائع على ما لا يشذ منه شاذ من أعمال الإنسان الفردية و الاجتماعية، و قد قال تعالى: ﴿وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتَابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ: المائدة - ٤٨ فما يهدي إليه القرآن أقوم مما يهدي إليه غيره من الكتب.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ يُبَشِّرُ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً الصالحات صفة محذوف موصوفها اختصارا و التقدير و عملوا الأعمال الصالحات.

و في الآية جعل حق للمؤمنين الذين آمنوا و عملوا الصالحات على الله سبحانه كما يؤيده تسمية ذلك أجرا، و يؤيده أيضا قوله في موضع آخر: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ: حم السجدة: ٨ و لا محذور في أن يكون لهم على الله حق إذا كان الله سبحانه هو الجاعل له، و نظيره قوله: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ اَلْمُؤْمِنِينَ: يونس: ١٠٣.

و العناية في الآية ببيان الوعد المنجز كما أن الآية التالية تعني ببيان الوعيد المنجز و هو العذاب لمن يكفر بالآخرة، و أما من آمن و لم يعمل الصالحات فليس ممن له على الله أجر منجز و حق ثابت بل أمره مراعى بتوبة أو شفاعة حتى يلحق بذلك على معشر الصالحين من المؤمنين قال تعالى: ﴿وَ آخَرُونَ اِعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ: التوبة - ١٠٢ و قال: ﴿وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اَللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ: التوبة: ١٠٦.

نعم لهم ثبات على الحق بإيمانهم كما قال تعالى: ﴿وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ: يونس: ٢ و قال: ﴿يُثَبِّتُ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثَّابِتِ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ فِي اَلْآخِرَةِ: إبراهيم - ٢٧.

قوله تعالى: ﴿وَ أَنَّ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الاعتاد الإعداد و التهيئة من العتاد بالفتح و هو على ما ذكره الراغب ادخار الشي‏ء قبل الحاجة إليه كالإعداد.

و ظاهر السياق أنه عطف على قوله في الآية السابقة: ﴿أَنَّ لَهُمْ إلخ فيكون التقدير و يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن الذين لا يؤمنون «إلخ» و كون ذلك بشارة للمؤمنين من حيث إنه انتقام إلهي من أعدائهم في الدين.

و إنما خص بالذكر من أوصاف هؤلاء عدم إيمانهم بالآخرة مع جواز أن يكفروا بغيرها كالتوحيد و النبوة لأن الكلام مسوق لبيان الأثر الذي يعقبه الدين القيم، و لا موقع للدين و لا فائدة له مع إنكار المعاد و إن اعترف بوحدانية الرب تعالى و غيرها

 

 

 

من المعارف، و لذلك عد سبحانه نسيان يوم الحساب أصلا لكل ضلال في قوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ اَلْحِسَابِ: ص - ٢٦.

قوله تعالى: ﴿وَ يَدْعُ اَلْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَ كَانَ اَلْإِنْسَانُ عَجُولاً المراد بالدعاء على ما يستفاد من السياق مطلق الطلب سواء كان بلفظ الدعاء كقوله: اللهم ارزقني مالا و ولدا و غير ذلك أو من غير دعاء لفظي بل بطلب و سعي فإن ذلك كله دعاء و سؤال من الله سواء اعتقد به الإنسان و تنبه له أم لا إذ لا معطي و لا مانع في الحقيقة إلا الله سبحانه، قال تعالى: ﴿يَسْئَلُهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ: الرحمن: ٢٩ و قال: ﴿وَ آتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ: إبراهيم: ٣٤ فالدعاء مطلق الطلب و الباء في قوله: ﴿بِالشَّرِّ و ﴿بِالْخَيْرِ للصلة و المراد أن الإنسان يدعو الشر و يسأله دعاء كدعائه الخير و سؤاله و طلبه.

و على هذا فالمراد بكون الإنسان عجولا أنه لا يأخذ بالأناة إذا أراد شيئا حتى يتروى و يتفكر في جهات صلاحه و فساده حتى يتبين له وجه الخير فيما يريده من الأمر فيطلبه و يسعى إليه بل يستعجل في طلبه بمجرد ما ذكره و تعلق به هواه فربما كان شرا فتضرر به و ربما كان خيرا فانتفع به.

و الآية و ما يتلوها من الآيات في سياق التوبيخ و اللوم متفرعة على ما تقدم من حديث المن الإلهي بالهداية إلى التي هي أقوم كأنه قيل: إنا أنزلنا كتابا يهدي إلى ملة هي أقوم تسوق الآخذين بها إلى السعادة و الجنة و تؤديهم إلى أجر كبير، و ترشدهم إلى الخير كله لكن جنس الإنسان عجول لا يفرق لعجلته بين الخير و الشر بل يطلب كل ما لاح له و يسأل كل ما بدا له فتعلق به هواه من غير تمييز بين الخير و الشر و الحق و الباطل فيرد الشر كما يرد الخير و يهجم على الباطل كما يهجم على الحق.

و ليس ينبغي له أن يستعجل و يطلب كل ما يهواه و يشتهيه و لا يحق له أن يرتكب كل ما له استطاعة ارتكابه و يقترف كل ما أقدره الله عليه و مكنه منه مستندا إلى أنه من التيسير الإلهي و لو شاء لمنعه فهذان الليل و النهار و آيتان إلهيتان و ليستا على نمط واحد بل آية الليل ممحوة تسكن فيها الحركات و تهدأ فيها العيون، و آية النهار مبصرة تنتبه فيها القوى و يبتغي فيها الناس من فضل ربهم و يعلمون بها عدد السنين و الحساب.

 

 

 

 كذلك أعمال الشر و الخير جميعا كائنة في الوجود بإذن الله مقدورة للإنسان بإقداره سبحانه لكن ذلك لا يكون دليلا على جواز ارتكاب الإنسان الشر و الخير جميعا و أن يستعجل فيطلب كل ما بدا له فيرد الشر كما يرد الخير و يقترف المعصية كما يقترف الطاعة بل يجب عليه أن يأخذ عمل الشر ممحوا فلا يقترفه و عمل الخير مبصرا فيأتي به و يبتغي بذلك فضل ربه من سعادة الآخرة و الرزق الكريم فإن عمل الإنسان هو طائره الذي يدله على سعادته و شقائه، و هو لازم له غير مفارقة فما عمله من خير أو شر فهو لا يفارقه إلى غيره و لا يستدل به سواه.

هذا ما يعطيه السياق من معنى الآية و يتبين به:

أولا: أن الآية و ما يتلوها من الآيات مسوقة لغرض التوبيخ و اللوم، و هو وجه اتصالها و ما بعدها بما تقدمها من قوله: ﴿إِنَّ هَذَا اَلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الآية كما أشرنا إليه آنفا فهو سبحانه يلوم الإنسان أنه لما به من قريحة الاستعجال لا يقدر نعمة الهداية الإلهية حق قدرها و لا يفرق بين الملة التي هي أقوم و بين غيرها فيدعو بالشر دعاءه بالخير و يقصد الشقاء كما يقصد السعادة.

و ثانيا: أن المراد بالإنسان هو الجنس دون أفراد معينة منه كالكفار و المشركين كما قيل، و بالدعاء مطلق الطلب لا الدعاء المصطلح كما قيل، و بالخير و الشر ما فيه سعادة حياته أو شقاؤه بحسب الحقيقة دون مطلق ما يضر و ينفع كدعاء الإنسان على من رضي عنه بالنجاح و الفلاح و على من غضب عليه بالخيبة و الخسران و غير ذلك.

و بالعجلة حب الإنسان أن يسرع ما يهواه إلى التحقق دون اللج و التمادي على طلب العذاب و المكروه.

و للمفسرين اختلاف عجيب في مفردات الآية، و كلمات مضطربة في بيان وجه اتصال الآية و كذا الآيات التالية بما قبلها تركنا إيرادها و الغور فيها لعدم جدوى في التعرض لها من أرادها فليراجع كتبهم.

قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اَللَّيْلِ وَ جَعَلْنَا آيَةَ اَلنَّهَارِ مُبْصِرَةً إلى آخر الآية، قال في المجمع، مبصرة

 أي مضيئة منيرة نيرة قال أبو عمرو: أراد يبصر بها كما يقال: ليل نائم و سر كاتم، و قال الكسائي: العرب تقول: أبصر النهار إذا أضاء. انتهى موضع الحاجة.

 

 

 

 الليل و النهار هما النور و الظلمة المتعاقبان على الأرض من جهة مواجهة الشمس بالطلوع و زوالها بالغروب و هما كسائر ما في الكون من أعيان الأشياء و أحوالها آيتان لله سبحانه تدلان بذاتهما على توحده بالربوبية.

و من هنا يظهر أن المراد بجعلهما آيتين هو خلقهما كذلك لا خلقهما و ليستا آيتين ثم جعلهما آيتين و إلباسهما لباس الدلالة فالأشياء كلها آيات له تعالى من جهة أصل وجودها و كينونتها الدالة على مكونها لا لوصف طار يطرء عليها.

و من هنا يظهر أيضا أن المراد بآية الليل كآية النهار نفس الليل كنفس النهار على أن تكون الإضافة بيانية لا لامية و المراد بمحو الليل إظلامه و إخفاؤه عن الأبصار على خلاف النهار.

فما ذكره بعضهم أن المراد بآية الليل القمر و محوها ما يرى في وجهه من الكلف كما أن المراد بآية النهار الشمس و جعلها مبصرة خلو قرصها عن المحو و السواد. ليس بسديد فإن الكلام في الآيتين لا آيتي الآيتين. على أن ما فرع على ذلك من قوله:

﴿لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ إلخ متفرع على ضوء النهار و ظلمة الليل لا على ما يرى من الكلف في وجه القمر و خلو قرص الشمس من ذلك.

و نظيره في السقوط قول بعضهم: إن المراد بآية الليل ظلمته و بآية النهار ضوءه و المراد بمحو آية الليل إمحاء ظلمته بضوء النهار و نظيره إمحاء ضوء النهار بظلمة الليل و إنما اكتفى بذكر أحدهما لدلالته على الآخر.

و لا يخفى عليك وجه سقوطه بتذكر ما أشرنا إليه سابقا فإن الغرض بيان وجود الفرق بين الآيتين مع كونهما مشتركتين في الآئية و الدلالة، و ما ذكره من المعنى يبطل الفرق.

و قوله: ﴿لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ متفرع على قوله: ﴿وَ جَعَلْنَا آيَةَ اَلنَّهَارِ مُبْصِرَةً أي جعلناها مضيئة لتطلبوا فيه رزقا من ربكم فإن الرزق فضله و عطاؤه تعالى.

و ذكر بعضهم أن التقدير: لتسكنوا بالليل و لتبتغوا فضلا من ربكم بالنهار إلا أنه حذف لتسكنوا بالليل» لما ذكره في مواضع أخر و فيه أن التقدير ينافي كون الكلام مسوقا لبيان ترتب الآثار على إحدى الآيتين دون الأخرى مع كونهما معا آيتين.

و قوله: ﴿وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَ اَلْحِسَابَ أي لتعلموا بمحو الليل و إبصار النهار عدد السنين بجعل عدد من الأيام واحدا يعقد عليه، و تعلموا بذلك حساب الأوقات

 

 

 

 و الآجال، و ظاهر السياق أن علم السنين و الحساب متفرع على جعل النهار مبصرا نظير تفرع ما تقدمه من ابتغاء الرزق على ذلك و ذلك أنا إنما نتنبه للأعدام و الفقدانات من ناحية الوجودات لا بالعكس و الظلمة فقدان النور و لو لا النور لم ننتقل لا إلى نور و لا إلى ظلمة، و نحن و إن كنا نستمد في الحساب بالليل و النهار معا و نميز كلا منهما بالآخر ظاهرا لكن ما هو الوجودي منهما أعني النهار هو الذي يتعلق به إحساسنا أولا ثم نتنبه لما هو العدمي منها أعني الليل بنوع من القياس، و كذلك الحال في كل وجودي و عدمي مقيس إليه.

و ذكر الرازي في تفسيره أن الأولى أن يكون المراد بمحو آية الليل على القول بأنها القمر هو ما يعرض القمر من اختلاف النور من المحاق إلى المحاق بالزيادة و النقيصة ليلة فليلة لما فيه من الآثار العظيمة في البحار و الصحاري و أمزجة الناس.

و لازم ذلك كما أشار إليه أن يكون قوله: ﴿لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ و قوله:

﴿وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَ اَلْحِسَابَ متفرعين على محو آية الليل و جعل آية النهار مبصرة جميعا، و المعنى أنا جعلنا ذلك كذلك لتبتغوا بإضاءة الشمس و اختلاف نور القمر أرزاقكم، و لتعلموا بذلك أيضا السنين و الحساب فإن الشمس هي التي تميز النهار من الليل و القمر باختلاف تشكلاته يرسم الشهور القمرية و الشهور ترسم السنين فاللام في الجملتين أعني ﴿لِتَبْتَغُواو ﴿لِتَعْلَمُوا متعلق بالفعلين ﴿فَمَحَوْنَا و ﴿وَ جَعَلْنَا جميعا.

و فيه أن الآية في سياق لا يلائمه جعل ما ذكر فيها من الغرض غرضا مترتبا على الآيتين معا أعني الآية الممحوة و الآية المثبتة فقد عرفت أن الآيات في سياق التوبيخ و اللوم، و الآية أعني قوله: ﴿وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ آيَتَيْنِ كالجواب عما قدر أن الإنسان يحتج به في دعائه بالشر كدعائه بالخير.

و ملخصه: أن الإنسان لمكان عجلته لا يعتني بما أنزله الله من كتاب و هداه إليه من الملة التي هي أقوم بل يقتحم الشر و يطلبه كما يطلب الخير من غير أن يتروى في عمله و يتأمل وجه الصلاح و الفساد فيه بل يقتحمه بمجرد ما تعلق به هواه و يسرته قدرته، و هو يعتمد في ذلك على حريته الطبيعية في العمل كأنه يحتج فيه بأن الله أقدره على ذلك و لم يمنع عنه كما نقله الله من قول المشركين: ﴿لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ نَحْنُ وَ لاَ آبَاؤُنَا: النحل - ٣٥.

 

 

 

فأجيب عنه بعد ما أورد في سياق التوبيخ و اللوم بأن مجرد تعلق القدرة و صحة الفعل لا يستلزم جواز العمل و لا أن إقداره على الخير و الشر معا يدل على جواز اقتحام الشر كالخير فالليل و النهار آيتان من آيات الله يعيش فيهما الإنسان لكن الله سبحانه محى آية الليل و قدر فيها السكون و الخمود، و جعل آية النهار مبصرة مدركة يطلب فيها الرزق و يعلم بها عدد السنين و الحساب.

فكما أن كون الليل و النهار مشتركين في الآئية لا يوجب اشتراكهما في الحركات و التقلبات بل هي للنهار خاصة كذلك اشتراك أعمال الخير و الشر في أنها جميعا تتحقق بإذن الله سبحانه و هي مما أقدر الله الإنسان عليه سواء لا يستلزم جواز ارتكابه لهما و إتيانه بهما على حد سواء بل جواز الإتيان و الارتكاب من خواص عمل الخير دون عمل الشر فليس للإنسان أن يسلك كل ما بدا له من سبيل و لا أن يأتي بكل ما اشتهاه و تعلق به هواه معتمدا في ذلك على ما أعطي من الحرية الطبيعية و الأقدار الإلهي.

و مما تقدم يظهر فساد ما ذكره بعضهم أن الآية مسوقة للاحتجاج على التوحيد فإن الليل و النهار و ما يعرضهما من الاختلاف و ما يترتب على ذلك من البركات من أوضح آيات التوحيد.

و فيه أن دلالتهما على التوحيد لا توجب أن يكون الغرض إفادته و الاحتجاج بهما على ذلك في أي سياق وقعا.

و قوله في ذيل الآية: ﴿وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً إشارة إلى تمييز الأشياء و أن الخلقة لا تتضمن إبهامها و لا إجمالها.

قوله تعالى: ﴿وَ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ قال في المجمع،: الطائر هنا عمل الإنسان شبه بالطائر الذي يسنح و يتبرك به و الطائر الذي يبرح فيتشأم به، و السانح الذي يجعل ميامنه إلى مياسرك، و البارح الذي يجعل مياسره إلى ميامنك، و الأصل في هذا أنه إذا كان سانحا أمكن الرامي و إذا كان بارحا لم يمكنه قال أبو زيد:

كل ما يجري من طائر أو ظبي أو غيره فهو عندهم طائر. انتهى.

و في الكشاف،: أنهم كانوا يتفألون بالطير و يسمونه زجرا فإذا سافروا و مر بهم طير زجروه فإن مر بهم سانحا بأن مر من جهة اليسار إلى اليمين تيمنوا و إن مر بارحا بأن

 

 

 

 مر من جهة اليمين إلى الشمال تشأموا و لذا سمي تطيرا. انتهى.

و قال في المفردات،: تطير فلان و أطير أصله التفاؤل بالطير ثم يستعمل في كل ما يتفاءل به و يتشاءم ﴿قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ و لذلك قيل: لا طير إلا طيرك و قال:

﴿إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا أي يتشاءموا به ﴿أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اَللَّهِ أي شؤمهم ما قد أعد الله لهم بسوء أعمالهم و على ذلك قوله: ﴿قَالُوا اِطَّيَّرْنَا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ ﴿قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اَللَّهِ ﴿قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ ﴿وَ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ أي عمله الذي طار عنه من خير و شر و يقال: تطايروا إذا أسرعوا و يقال إذا تفرقوا. انتهى.

و بالجملة سياق ما قبل الآية و ما بعدها و خاصة قوله: ﴿مَنِ اِهْتَدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ إلخ، يعطي أن المراد بالطائر ما يستدل به على الميمنة و المشأمة و يكشف عن حسن العاقبة و سوءها فلكل إنسان شي‏ء يرتبط بعاقبة حاله يعلم به كيفيتها من خير أو شر.

و إلزام الطائر جعله لازما له لا يفارقه، و إنما جعل الإلزام في العنق لأنه العضو الذي لا يمكن أن يفارقه الإنسان أو يفارق هو الإنسان بخلاف الأطراف كاليد و الرجل، و هو العضو الذي يوصل الرأس بالصدر فيشاهد ما يعلق عليه من قلادة أو طوق أو غل أول ما يواجه الإنسان.

فالمراد بقوله: ﴿وَ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ أن الذي يستعقب لكل إنسان سعادته أو شقاءه هو معه لا يفارقه بقضاء من الله سبحانه فهو الذي ألزمه إياه، و هذا هو العمل الذي يعمله الإنسان لقوله تعالى: ﴿وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعى وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزَاهُ اَلْجَزَاءَ اَلْأَوْفى: النجم: ٤١.

فالطائر الذي ألزمه الله الإنسان في عنقه هو عمله، و معنى إلزامه إياه أن الله قضى أن يقوم كل عمل بعامله و يعود إليه خيره و شره و نفعه و ضره من غير أن يفارقه إلى غيره، و قد استفيد من قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾... ﴿إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ﴾ الآيات: الحجر: ٤٥ أن من القضاء المحتوم أن حسن العاقبة للإيمان و التقوى و سوء العاقبة للكفر و المعصية.

 

 

 

 و لازم ذلك أن يكون مع كل إنسان من عمله ما يعين له حاله في عاقبة أمره معية لازمة لا يتركه و تعيينا قطعيا لا يخطئ و لا يغلط لما قضي به أن كل عمل فهو لصاحبه ليس له إلا هو و أن مصير الطاعة إلى الجنة و مصير المعصية إلى النار.

و بما تقدم يظهر أن الآية إنما تثبت لزوم السعادة و الشقاء للإنسان من جهة أعماله الحسنة و السيئة المكتسبة من طريق الاختيار من دون أن يبطل تأثير العمل في السعادة و الشقاء بإثبات قضاء أزلي يحتم للإنسان سعادة أو شقاء سواء عمل أم لم يعمل و سواء أطاع أم عصى كما توهمه بعضهم.

قوله تعالى: ﴿وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً يوضح حال هذا الكتاب قوله بعده: ﴿اِقْرَأْ كِتَابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ اَلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً حيث يدل أولا على أن الكتاب الذي يخرج له هو كتابه نفسه لا يتعلق بغيره، و ثانيا أن الكتاب متضمن لحقائق أعماله التي عملها في الدنيا من غير أن يفقد منها شيئا كما في قوله: ﴿يَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا اَلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَ لاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا: الكهف: ٤٩، و ثالثا أن الأعمال التي أحصاها بادية فيها بحقائقها من سعادة أو شقاء ظاهرة بنتائجها من خير أو شر ظهورا لا يستتر بستر و لا يقطع بعذر، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ: ق: ٢٢.

و يظهر من قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ: آل عمران: ٣٠ أن الكتاب يتضمن نفس الأعمال بحقائقها دون الرسوم المخطوطة على حد الكتب المعمولة فيما بيننا في الدنيا فهو نفس الأعمال يطلع الله الإنسان عليها عيانا، و لا حجة كالعيان.

و بذلك يظهر أن المراد بالطائر و الكتاب في الآية أمر واحد و هو العمل الذي يعمله الإنسان غير أنه سبحانه قال: ﴿وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ كِتَاباً ففرق الكتاب عن الطائر و لم يقل: «و نخرجه» لئلا يوهم أن العمل إنما يصير كتابا يوم القيامة و هو قبل ذلك طائر و ليس بكتاب أو يوهم أن الطائر خفي مستور غير خارج قبل يوم القيامة فلا يلائم كونه ملزما له في عنقه.

و بالجملة في قوله: ﴿وَ نُخْرِجُ لَهُ إشارة إلى أن كتاب الأعمال بحقائقها مستور عن

 

 

 

 إدراك الإنسان محجوب وراء حجاب الغفلة و إنما يخرجه الله سبحانه للإنسان يوم القيامة فيطلعه على تفاصيله، و هو المعنى بقوله: ﴿يَلْقَاهُ مَنْشُوراً.

و في ذلك دلالة على أن ذلك أمر مهيأ له غير مغفول عنه فيكون تأكيدا لقوله:

﴿وَ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ لأن المحصل أن الإنسان ستناله تبعة عمله لا محالة أما أولا فلأنه لازم له لا يفارقه. و أما ثانيا فلأنه مكتوب كتابا سيظهر له فيلقاه منشورا.

قوله تعالى: ﴿اِقْرَأْ كِتَابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ اَلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً أي يقال: له: اقرأ كتابك «إلخ».

و قوله: ﴿كَفى بِنَفْسِكَ الباء فيه زائدة للتأكيد و أصله كفت نفسك و إنما لم يؤنث الفعل لأن الفاعل مؤنث مجازي يجوز معه التذكير و التأنيث، و ربما قيل: إنه اسم فعل بمعنى اكتف و الباء غير زائدة، و ربما وجه بغير ذلك.

و في الآية دلالة على أن حجة للكتاب قاطعة بحيث لا يرتاب فيها قارئه و لو كان هو المجرم نفسه و كيف لا؟ و فيه معاينة نفس العمل و به الجزاء، قال تعالى: ﴿لاَ تَعْتَذِرُوا اَلْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ: التحريم: ٧.

و قد اتضح مما أوردناه في وجه اتصال قوله: ﴿وَ يَدْعُ اَلْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ الآية بما قبله وجه اتصال هاتين الآيتين أعني قوله: ﴿وَ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ إلى قوله - ﴿حَسِيباً فمحصل معنى الآيات و السياق سياق التوبيخ و اللوم أن الله سبحانه أنزل القرآن و جعله هاديا إلى ملة هي أقوم جريا على السنة الإلهية في هداية الناس إلى التوحيد و العبودية و إسعاد من اهتدى منهم و إشقاء من ضل لكن الإنسان لا يميز الخير من الشر و لا يفرق بين النافع و الضار بل يستعجل كل ما يهواه فيطلب الشر كما يطلب الخير.

و الحال أن العمل سواء كان خيرا أو شرا لازم لصاحبه لا يفارقه و هو أيضا محفوظ عليه في كتاب سيخرج له يوم القيامة و ينشر بين يديه و يحاسب عليه، و إذا كان كذلك كان من الواجب على الإنسان أن لا يبادر إلى اقتحام كل ما يهواه و يشتهيه

 

 

 

 و لا يستعجل ارتكابه بل يتوقف في الأمور و يتروى حتى يميز بينها و يفرق خيرها من شرها فيأخذ بالخير و يتحرز الشر.

قوله تعالى: ﴿مَنِ اِهْتَدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى قال في المفردات،: الوزر الثقل تشبيها بوزر الجبل، و يعبر بذلك عن الإثم كما يعبر عنه بالثقل قال تعالى: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً الآية كقوله:

﴿وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَ أَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ قال: و قوله: ﴿وَ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل وزره من حيث يتعرى المحمول عنه. انتهى.

و الآية في موضع النتيجة لقوله: ﴿وَ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ إلخ و الجملة الثالثة ﴿وَ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى تأكيد للجملة الثانية ﴿وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا.

و المعنى إذا كان العمل خيرا كان أو شرا يلزم صاحبه و لا يفارقه و هو محفوظ على صاحبه سيشاهده عند الحساب فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه و ينتفع به نفسه من غير أن يتبع غيره. و من ضل عن السبيل فإنما يضل على نفسه و يتضرر به نفسه من دون أن يفارقه فيلحق غيره، و لا تتحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى لا كما ربما يخيل لاتباع الضلال أنهم إن ضلوا فوبال ضلالهم على أئمتهم الذين أضلوهم و كما يتوهم المقلدون لآبائهم و أسلافهم أن آثامهم و أوزارهم لآبائهم و أسلافهم لا لهم.

نعم لأئمة الضلال مثل أوزار متبعيهم، و لمن سن سنة سيئة أوزار من عمل بها و لمن قال: اتبعونا لنحمل خطاياكم آثام خطاياهم لكن ذلك كله وزر الإمامة و جعل السنة و تحمل الخطايا لا عين ما للعامل من الوزر بحيث يفارق العمل عامله و يلحق المتبوع بل إن كان عينه فمعناه أن يعذب بعمل واحد اثنان.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ظاهر السياق الجاري في الآية و ما يتلوها من الآيات بل هي و الآيات السابقة أن يكون المراد بالتعذيب التعذيب الدنيوي بعقوبة الاستئصال، و يؤيده خصوص سياق النفي ﴿وَ مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حيث لم يقل: و لسنا معذبين و لا نعذب و لن نعذب بل قال: ﴿وَ مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ الدال على استمرار النفي في الماضي الظاهر في أنه كانت السنة الإلهية في الأمم الخالية الهالكة جارية على أن لا يعذبهم إلا بعد أن يبعث إليهم رسولا ينذرهم بعذاب الله.

 

 

 

 و يؤيده أيضا أنه تعالى عبر عن هذا المبعوث بالرسول دون النبي فلم يقل حتى نبعث نبيا، و قد تقدم في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب في الفرق بين النبوة و الرسالة أن الرسالة منصب خاص إلهي يستعقب الحكم الفصل في الأمة إما بعذاب الاستئصال و إما بالتمتع من الحياة إلى أجل مسمى، قال تعالى: ﴿وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ: يونس: ٤٧ و قال:

﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اَللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى: إبراهيم: ١٠.

فالتعبير بالرسول لإفادة أن المراد نفي التعذيب الدنيوي دون التعذيب الأخروي أو مطلق التعذيب.

فقوله: ﴿وَ مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً كالدفع لما يمكن أن يتوهم من سابق الآيات المنبئة عن لحوق أثر الأعمال بصاحبها و بشارة الصالحين بالأجر الكبير و الطالحين بالعذاب الأليم فيوهم أن تبعات السيئات أعم من العذاب الدنيوي و الأخروي سيترتب عليها فيغشى صاحبها من غير قيد و شرط.

فأجيب أن الله سبحانه برحمته الواسعة و عنايته الكاملة لا يعذب الناس بعذاب الاستئصال و هو عذاب الدنيا إلا بعد أن يبعث رسولا ينذرهم به و إن كان له أن يعذبهم به لكنه برحمته و رأفته يبالغ في الموعظة و يتم الحجة بعد الحجة ثم ينزل العقوبة فقوله: ﴿وَ مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً نفي لوقوع العذاب لا لجوازه.

فالآية كما ترى ليست مسوقة لإمضاء حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان بل هي تكشف عن اقتضاء العناية الإلهية أن لا يعذب قوما بعذاب الاستئصال إلا بعد أن يبعث إليهم رسولا فيؤكد لهم الحجة و يقرعهم بالبيان بعد البيان.

و أما النبوة التي يبلغ بها التكاليف و نبين بها الشرائع فهي التي تستقر بها المؤاخذة الإلهية و المغفرة، و يثبت بها الثواب و العقاب الأخرويان فيما لا يتبين فيه الحق و الباطل إلا من طريق النبوة كالتكاليف الفرعية، و أما الأصول التي يستقل العقل بإدراكها كالتوحيد و النبوة و المعاد فإنما تلحق آثار قبولها و تبعات ردها الإنسان بالثبوت العقلي من غير توقف على نبوة أو رسالة.

 

 

 

و بالجملة أصول الدين و هي التي يستقل العقل ببيانها و يتفرع عليها قبول الفروع التي تتضمنها الدعوة النبوية، تستقر المؤاخذة الإلهية على ردها بمجرد قيام الحجة القاطعة العقلية من غير توقف على بيان النبي و الرسول لأن صحة بيان النبي و الرسول متوقفة عليها فلو توقف هي عليها لدارت.

و تستقر المؤاخذة الأخروية على الفروع بالبيان النبوي و لا تتم الحجة فيها بمجرد حكم العقل، و قد فصلنا القول فيه في مباحث النبوة في الجزء الثاني و في قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب، و في غيرهما. و المؤاخذة الدنيوية بعذاب الاستئصال يتوقف على بعث الرسول بعناية من الله سبحانه لا لحكم عقلي يحيل هذا النوع من المؤاخذة قبل بعث الرسول كما عرفت.

و للمفسرين في الآية مشاجرات طويلة تركنا التعرض لها لخروج أكثرها عن غرض البحث التفسيري، و لعل الذي أوردناه من البحث لا يوافق ما أوردوه لكن الحق أحق بالاتباع.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا اَلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً قال الراغب: الترفه‏ التوسع في النعمة يقال: أترف فلان فهو مترف إلى أن قال في قوله ﴿أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا هم الموصوفون بقوله سبحانه:

﴿فَأَمَّا اَلْإِنْسَانُ إِذَا مَا اِبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ انتهى. و قال في المجمع،: الترفه‏ النعمة، قال ابن عرفة: المترف المتروك يصنع ما يشاء و لا يمنع منه، و قال: التدمير الإهلاك و الدمار الهلاك. انتهى.

و قوله: ﴿إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أي إذا دنا وقت هلاكهم من قبيل قولهم:

إذا أراد العليل أن يموت كان كذا، و إذا أرادت السماء أن يمطر كان كذا، أي إذا دنا وقت موته و إذا دنا وقت إمطارها فإن من المعلوم أنه لا يريد الموت بحقيقة معنى الإرادة و أنها لا تريد الإمطار كذلك، و في القرآن: ﴿فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ الآية.

و يمكن أن يراد به الإرادة الفعلية و حقيقتها توافق الأسباب المقتضية للشي‏ء

 

 

 

 و تعاضدها على وقوعه، و هو قريب من المعنى الأول و حقيقته تحقق ما لهلاكهم من الأسباب و هو كفران النعمة و الطغيان بالمعصية كما قال سبحانه: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ: إبراهيم: ٧، و قال: ﴿اَلَّذِينَ طَغَوْا فِي اَلْبِلاَدِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا اَلْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ: الفجر: ١٤.

و قوله: ﴿أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا من المعلوم من كلامه تعالى أنه لا يأمر بالمعصية أمرا تشريعيا فهو القائل: ﴿قُلْ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ: الأعراف: ٢٨ و أما الأمر التكويني فعدم تعلقه بالمعصية من حيث إنها معصية أوضح لجعله الفعل ضروريا يبطل معه تعلقه باختيار الإنسان و لا معصية مع عدم الاختيار قال تعالى:

﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ: يس: ٨٢.

فمتعلق الأمر في قوله: ﴿أَمَرْنَا إن كان هو الطاعة كان الأمر بحقيقة معناه و هو الأمر التشريعي‏ و كان هو الأمر الذي توجه إليهم بلسان الرسول الذي يبلغهم أمر ربهم و ينذرهم بعذابه لو خالفوا و هو الشأن الذي يختص بالرسول كما تقدمت الإشارة إليه فإذا خالفوا و فسقوا عن أمر ربهم حق عليهم القول و هو أنهم معذبون إن خالفوا فأهلكوا و دمروا تدميرا.

و إن كان متعلق الأمر هو الفسق و المعصية كان الأمر مرادا به الإكثار من إفاضة النعم عليهم و توفيرها على سبيل الإملاء و الاستدراج و تقريبهم بذلك من الفسق حتى يفسقوا فيحق عليهم القول و ينزل عليهم العذاب.

و هذان وجهان في معنى قوله: ﴿أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا يجوز توجيهه بكل منهما لكن يبعد أول الوجهين أولا أن قولنا: أمرته ففعل و أمرته ففسق ظاهره تعلق الأمر بعين ما فرع عليه، و ثانيا عدم ظهور وجه لتعلق الأمر بالمترفين مع كون الفسق لجميع أهل القرية و إلا لم يهلكوا.

قال في الكشاف،: و الأمر مجاز لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم: افسقوا، و هذا لا يكون فبقي أن يكون مجازا، و وجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صبا

 

 

 

 فجعلوها ذريعة إلى المعاصي و اتباع الشهوات فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه، و إنما خولهم إياها ليشكروا و يعملوا فيها الخير و يتمكنوا من الإحسان و البر كما خلقهم أصحاء أقوياء و أقدرهم على الخير و الشر و طلب منهم إيثار الطاعة على المعصية فآثروا الفسوق فلما فسقوا حق عليهم القول و هو كلمة العذاب فدمرهم.

فإن قلت: هلا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا قلت لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه؟ و ذلك أن المأمور به إنما حذف لأن فسقوا يدل عليه و هو كلام مستفيض يقال: أمرته فقام و أمرته فقرأ لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة و لو ذهبت تقدر غيره لزمت من مخاطبك علم الغيب.

و لا يلزم على هذا قولهم: أمرته فعصاني أو فلم يمتثل أمري لأن ذلك مناف للأمر مناقض له، و لا يكون ما يناقض الأمر مأمورا به فكان محالا أن يقصد أصلا حتى يجعل دالا على المأمور به فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه و لا منوي لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوي لأمره مأمورا به كأنه يقول: كان مني أمر فلم يكن منه طاعة كما أن من يقول: فلان يعطي و يمنع و يأمر و ينهى غير قاصد إلى مفعول.

فإن قلت: هلا كان ثبوت العلم بأن الله لا يأمر بالفحشاء و إنما يأمر بالقصد و الخير دليلا على أن المراد أمرناهم بالخير ففسقوا؟.

قلت: لا يصح ذلك لأن قوله: ﴿فَفَسَقُوا يدافعه فكأنك أظهرت شيئا و أنت تدعي إضمار خلافه فكان صرف اللفظ إلى المجاز هو الوجه. انتهى.

و هو كلام حسن في تقريب ظهور قوله: ﴿أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا في كون المأمور به هو الفسق و أما كونه صريحا فيه بحيث لا يحتمل إلا ذلك كما يدعيه فلا، فلم لا يجوز أن تكون الآية من قبيل قولنا: أمرته فعصاني حيث تكون المعصية و هي منافية للأمر قرينة على كون المأمور به هو الطاعة و الفسق و المعصية واحد فإن الفسق‏ هو الخروج عن زي العبودية و الطاعة فهو المعصية و يكون المعنى حينئذ أمرنا

 

 

 

 مترفيها بالطاعة ففسقوا عن أمرنا و عصوه، أو يكون الأمر في الآية مستعملا استعمال اللازم، و المعنى توجه أمرنا إلى مترفيها ففسقوا فيها عنه.

فالحق أن الوجهين لا بأس بكل منهما و إن كان الثاني لا يخلو من ظهور و قد أجيب عن اختصاص الأمر بالمترفين بأنهم الرؤساء السادة و الأئمة المتبوعون و غيرهم أتباعهم و حكم التابع تابع لحكم المتبوع و لا يخلو من سقم.

و ذكر بعضهم في توجيه الآية أن قوله: ﴿أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا إلخ صفة لقرية و ليس جوابا لإذا و جواب إذا محذوف على حد قوله: ﴿حَتَّى إِذَا جَاؤُهَا وَ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَ قَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا إلى آخر الآية للاستغناء عنه بدلالة الكلام.

و ذكر آخرون أن في الآية تقديما و تأخيرا و التقدير و إذا أمرنا مترفي قرية ففسقوا فيها أردنا أن نهلكها، و ذلك أنه لا معنى لإرادة الهلاك قبل تحقق سببه و هو الفسق، و هو وجه سخيف كسابقه.

هذا كله على القراءة المعروفة ﴿أَمَرْنَا بفتح الهمزة ثم الميم مخففة من الأمر بمعنى الطلب، و ربما أخذ من الأمر بمعنى الإكثار أي أكثرنا مترفيها مالا و ولدا ففسقوا فيها.

و قرئ «آمرنا» بالمد و نسب إلى علي (عليه السلام) و إلى عاصم و ابن كثير و نافع و غيرهم و هو من الإيمان بمعنى إكثار المال و النسل أو بمعنى تكليف إنشاء فعل، و قرئ أيضا «أمرنا» بتشديد الميم من التأمير بمعنى تولية الإمارة و نسب ذلك إلى علي و الحسن و الباقر (عليه السلام) و إلى ابن عباس و زيد بن علي و غيرهم.

قوله تعالى: ﴿وَ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ اَلْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَ كَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً قال في المفردات: القرن‏ القوم المقترنون في زمن واحد و جمعه قرون قال: ﴿وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا اَلْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴿وَ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ اَلْقُرُونِ انتهى و معنى الآية ظاهر، و فيها تثبيت ما ذكر في الآية السابقة من سنة الله الجارية في إهلاك القرى بالإشارة إلى القرون الماضية الهالكة.

و الآية لا تخلو من إشعار بأن سنة الإهلاك إنما شرعت في القرون الإنسانية بعد نوح

 

 

 

(عليه السلام) و هو كذلك، و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: ﴿كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اَلنَّبِيِّينَ: البقرة - ٢١٣ في الجزء الثاني من الكتاب أن المجتمع الإنساني قبل زمن نوح (عليه السلام) كانوا على سذاجة الفطرة ثم اختلفوا بعد ذلك.

قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً العاجلة صفة محذوفة الموصوف و لعل موصوفها الحياة بقرينة مقابلتها للآخرة في الآية التالية و هي الحياة الآخرة، و قيل: المراد النعم العاجلة و قيل:

الأعراض الدنيوية العاجلة.

و في المفردات،: أصل الصلى‏ لإيقاد النار. قال: و قال الخليل: صلي الكافر النار قاسى حرها ﴿يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ اَلْمَصِيرُ﴾ و قيل: صلي‏ النار دخل فيها، و أصلاها غيره قال:

﴿فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً انتهى. و في المجمع،: الدحر الإبعاد و المدحور المبعد المطرود يقال: اللهم أدحر عنا الشيطان أي أبعده انتهى.

لما ذكر سبحانه سنته في التعذيب الدنيوي إثر دعوة الرسالة و أنه يهدي الأمم الإنسانية إلى الإيمان و العمل الصالح حتى إذا فسدوا و أفسدوا بعث إليهم رسولا فإذا طغوا و فسقوا عذبهم عذاب الاستئصال، عاد إلى بيان سنته في التعذيب الأخروي و الإثابة فيها في هذه الآية و الآيتين بعدها يذكر في آية ملاك عذاب الآخرة، و في آية ملاك ثوابها، و في آية محصل القول و الأصل الكلي في ذلك.

فقوله: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْعَاجِلَةَ أي الذي يريد الحياة العاجلة و هي الحياة الدنيا، و إرادة الحياة الدنيا إنما هي طلب ما فيها من المتاع الذي تلتذ به النفس و يتعلق به القلب، و التعلق بالعاجلة و طلبها إنما يعد طلبا لها إذا كانت مقصودة بالاستقلال لا لأجل التوسل بها إلى سعادة الأخرى و إلا كانت إرادة للآخرة فإن الآخرة لا يسلك إليها إلا من طريق الدنيا فلا يكون الإنسان مريدا للدنيا إلا إذا أعرض عن الآخرة و نسيها فتمحضت إرادته في الدنيا، و يدل عليه أيضا خصوص التعبير في الآية ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حيث يدل على استمرار الإرادة.

و هذا هو الذي لا يرى لنفسه إلا هذه الحياة المادية الدنيوية و ينكر الحياة الآخرة،

 

 

 

 و يلغو بذلك القول بالنبوة و التوحيد إذ لا أثر للإيمان بالله و رسله و التدين بالدين لو لا الاعتقاد بالمعاد، قال تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ: النجم: ٣٠.

و قوله: ﴿عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ أي أسرعنا في إعطائه ما يريده في الدنيا لكن لا بإعطائه ما يريده بل بإعطائه ما نريده فالأمر إلينا لا إليه و الأثر لإرادتنا لا لإرادته، و لا بإعطاء ما نعطيه لكل من يريد بل لمن نريد فليس يحكم فينا إرادة الأشخاص بل إرادتنا هي التي تحكم فيهم.

و إرادته سبحانه الفعلية لشي‏ء هو اجتماع الأسباب على كينونته و تحقق العلة التامة لظهوره فالآية تدل على أن الإنسان و هو يريد الدنيا يرزق منها على حسب ما يسمح له الأسباب و العوامل التي أجراها الله في الكون و قدر لها من الآثار فهو ينال شيئا مما يريده و يسأله بلسان تكوينه لكن ليس له إلا ما يهدي إليه الأسباب و الله من ورائهم محيط.

و قد ذكر الله سبحانه هذه الحقيقة بلسان آخر في قوله: ﴿وَ لَوْ لاَ أَنْ يَكُونَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَ سُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُنَ وَ زُخْرُفاً وَ إِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا: الزخرف:

 ٣٥ أي لو لا أن الناس جميعا يعيشون على نسق واحد تحت قانون الأسباب و العلل، و لا فرق بين الكافر و المؤمن قبال العلل الكونية بل من صادفته أسباب الغنى و الثروة أثرته و أغنته مؤمنا كان أم كافرا، و من كان بالخلاف، فبالخلاف خصصنا الكفار بمزيد النعم الدنيوية إذ ليس لها عندنا قدر و لا في سوق الآخرة من قيمة.

و ذكر بعضهم: أن المراد بإرادة العاجلة إرادتها بعمله و هو أن يريد بعمله الدنيا دون الآخرة فهو محروم من الآخرة، و هو تقييد من غير مقيد، و لعله أخذه من قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا وَ زِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَ هُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ إِلاَّ اَلنَّارُ: هود: ١٦ لكن الآيتين مختلفتان غرضا فالغرض فيما نحن فيه بيان أن مريد الدنيا لا ينال إلا منها، و الغرض من آية سورة

 

 

 

 هود أن الإنسان لا ينال إلا عمله فإذا كان مريدا للدنيا وفي إليه عمله فيها و بين الغرضين فرق واضح فافهم ذلك.

و قوله: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً أي و جعلنا جزاءه في الآخرة جهنم يقاسي حرها و هو مذموم مبعد من الرحمة و القيدان يفيدان أنه مخصوص بجهنم محروم من المغفرة و الرحمة.

و الآية و إن كانت تبين حال من تعلق بالدنيا و نسي الآخرة و أنكرها غير أن الطلب و الإنكار مختلفان بالمراتب فمن ذلك ما هو كذلك قولا و فعلا و منه ما هو كذلك فعلا مع الاعتراف به قولا، و تصديق ذلك قوله تعالى فيما سيأتي: ﴿وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ الآية.

قوله تعالى: ﴿وَ مَنْ أَرَادَ اَلْآخِرَةَ وَ سَعى لَهَا سَعْيَهَا وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً قال الراغب: السعي‏ المشي السريع و هو دون العدو، و يستعمل للجد في الأمر خيرا كان أو شرا، انتهى موضع الحاجة.

و قوله: ﴿مَنْ أَرَادَ اَلْآخِرَةَ أي الحياة الآخرة نظير ما تقدم من قوله: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْعَاجِلَةَ و الكلام في قول من قال: يعني من أراد بعمله الآخرة نظير الكلام في مثله في الآية السابقة.

و قوله ﴿وَ سَعى لَهَا سَعْيَهَا اللام للاختصاص و كذا إضافة السعي إلى ضمير الآخرة، و المعنى و سعى و جد للآخرة السعي الذي يختص بها، و يستفاد منه أن سعيه لها يجب أن يكون سعيا يليق بها و يحق لها كأن يكون يبذل كمال الجهد في حسن العمل و أخذه من عقل قطعي أو حجة شرعية.

و قوله: ﴿وَ هُوَ مُؤْمِنٌ أي مؤمن بالله و يستلزم ذلك توحيده و الإذعان بالنبوة و المعاد فإن من لا يعترف بإحدى الخصال الثلاث لا يعده الله سبحانه في كلامه مؤمنا به و قد تكاثرت الآيات فيه.

على أن نفس التقييد بقوله: ﴿وَ هُوَ مُؤْمِنٌ يكفي في التقييد المذكور فإن من ـ

 

 

 

أراد الآخرة و سعى لها سعيها فهو مؤمن بالله و بنشأة وراء هذه النشأة الدنيوية قطعا فلو لا أن التقييد بالإيمان لإفادة وجوب كون الإيمان صحيحا و من صحته أن يصاحب التوحيد و الإذعان بالنبوة لم يكن للتقييد وجه فمجرد التقييد بالإيمان يكفي مئونة الاستعانة بآيات أخر.

و قوله: ﴿فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً أي يشكره الله بحسن قبوله و الثناء على ساعيه، و شكره تعالى على عمل العبد تفضل منه على تفضل فإن أصل إثابته العبد على عمله تفضل لأن من وظيفة العبد أن يعبد مولاه من غير وجوب الجزاء عليه فالإثابة تفضل، و الثناء عليه بعد الإثابة تفضل على تفضل و الله ذو الفضل العظيم.

و في الآيتين دلالة على أن الأسباب الأخروية و هي الأعمال لا تتخلف عن غاياتها بخلاف الأسباب الدنيوية فإنه سبحانه يقول فيمن عمل للآخرة: ﴿فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً و يقول فيمن عمل للدنيا: ﴿عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ.

قوله تعالى: ﴿كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاَءِ وَ هَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَ مَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً قال في المفردات، أصل المد الجر و منه المدة للوقت الممتد و مدة الجرح و مد النهر و مده نهر آخر و مددت عيني إلى كذا قال تعالى: ﴿وَ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ الآية و مددته في غيه... و أمددت الجيش بمدد و الإنسان بطعام قال: و أكثر ما جاء الإمداد في المحبوب و المد في المكروه نحو ﴿وَ أَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَ لَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ﴿وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ اَلْعَذَابِ مَدًّا ﴿وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ ﴿وَ إِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي اَلغَيِّ انتهى بتلخيص منا.

فإمداد الشي‏ء و مده أن يضاف إليه من نوعه مثلا ما يمتد به بقاؤه و يدوم به وجوده و لو لا ذلك لانقطع كالعين من الماء التي تستمد من المنبع و يضاف إليها منه الماء حينا بعد حين و يمتد بذلك جريانها.

و الله سبحانه يمد الإنسان في أعماله سواء كان ممن يريد العاجلة أو الآخرة فإن جميع ما يتوقف عليه العمل في تحققه من العلم و الإرادة و الأدوات البدنية و القوى العمالة و المواد الخارجية التي يقع عليها العمل و يتصرف فيها العامل و الأسباب و الشرائط

 

 

 

 المربوطة بها كل ذلك أمور تكوينية لا صنع للإنسان فيها و لو فقد كلها أو بعضها لم يكن العمل، و الله سبحانه هو الذي يفيضها بفضله و يمد الإنسان بها بعطائه، و لو انقطع منه العطاء انقطع من العامل عمله.

فأهل الدنيا في دنياهم و أهل الآخرة في آخرتهم يستمدون من عطائه تعالى و لا يعود إليه سبحانه في عطائه إلا الحمد لأن الذي يعطيه نعمة على الإنسان أن يستعمله استعمالا حسنا في موضع يرتضيه ربه، و أما إذا فسق بعدم استعماله فيه و حرف الكلمة عن موضعها فلا يلومن إلا نفسه و على الله الثناء على جميل صنعه و له الحجة البالغة.

فقوله: ﴿كُلاًّ نُمِدُّ أي كلا من الفريقين المعجل لهم و المشكور سعيهم نمد، و إنما قدم المفعول على فعله لتعلق العناية به في الكلام فإن المقصود بيان عموم الإمداد للفريقين جميعا.

و قوله: ﴿هَؤُلاَءِ وَ هَؤُلاَءِ أي هؤلاء المعجل لهم و هؤلاء المشكور سعيهم بما أن لكل منهما نعته الخاص به، و يئول المعنى إلى أن كلا من الفريقين تحت التربية الإلهية يفيض عليهم من عطائه من غير فرق غير أن أحدهما يستعمل النعمة الإلهية لابتغاء الآخرة فيشكر الله سعيه، و الآخر يستعملها لابتغاء العاجلة و ينسى الآخرة فلا يبقى له فيها إلا الشقاء و الخيبة.

و قوله: ﴿مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ فإن جميع ما يستفيدون منه في أعمالهم كما تقدم لا صنع لهم و لا لغيرهم من المخلوقين فيه بل الله سبحانه هو الموجد لها و مالكها فهي من عطائه.

و يستفاد من هذا القيد وجه ما ذكر لكل من الفريقين من الجزاء فإن أعمالهم لما كانت بإمداده تعالى من خالص عطائه فحقيق على من يستعمل نعمته في الكفر و الفسوق أن يصلى النار مذموما مدحورا، و على من يستعملها في الإيمان به و طاعته أن يشكر سعيه.

و في قوله: ﴿رَبِّكَ التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة و قد كرر ذلك مرتين و الظاهر أن النكتة فيه الإشارة إلى أن إمدادهم من شئون صفة الربوبية و الله سبحانه هو الرب لا رب غيره غير أن الوثنيين يتخذون من دونه أربابا و لذلك نسب ربوبيته إلى نبيه فقال: ﴿رَبِّكَ.

 

 

 

و قوله: ﴿وَ مَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً أي ممنوعا و الحظر المنع فأهل الدنيا و أهل الآخرة مستمدون من عطائه منعمون بنعمته ممنونون بمنته.

و في الآية دلالة على أن العطاء الإلهي مطلق غير محدود بحد لمكان إطلاق العطاء و نفي الحظر في الآية فما يوجد من التحديد و التقدير و المنع باختلاف الموارد فإنما هو من ناحية المستفيض و خصوص استعداده للاستفاضة أو فقدانه من رأس لا من ناحية المفيض.

و من عجيب ما قيل في الآية ما نسب إلى الحسن و قتادة أن المراد بالعطاء العطاء الدنيوي فهو المشترك بين المؤمن و الكافر و أما العطاء الأخروي فللمؤمنين خاصة، و المعنى كما قيل: كل الفريقين نمد بالعطايا العاجلة لا الفريق الأول المريد للعاجلة فقط و ما كان عطاؤه الدنيوي محظورا من أحد.

و فيه أنه تقييد من غير مقيد مع صلاحية المورد للإطلاق و أما ما ذكر من اختصاص العطاء الأخروي بالمؤمنين من غير مشاركة الكفار لهم فيه فخارج من مصب الكلام في الآية فإن الكلام في الإمداد الذي يمد به الأعمال المنتهية إلى الجزاء لا في الجزاء، و عطايا المؤمنين في الآخرة من الجزاء لا من قبيل الأعمال، و نفس ما يمد به أعمال الفريقين عطايا دنيوية و أخروية على أن العطايا الأخروية أيضا مشتركة غير محظورة و الحظر فيها من قبل الكافرين كما أن الأمر في العطايا الدنيوية أيضا كذلك فربما يمنع لكن لا من قبل محدودية العطاء بل من قبل عدم صلاحية القابل.

و قال في روح المعاني،: إن التقسيم الذي تضمنته الآية غير حاصر و ذلك غير مضر، و التقسيم الحاصر أن كل فاعل إما أن يريد بفعله العاجلة فقط أو يريد الآخرة فقط أو يريدهما معا أو لم يرد شيئا و القسمان الأولان قد علم حكمهما من الآية، و القسم الثالث ينقسم إلى ثلاثة أقسام لأنه إما أن تكون إرادة الآخرة أرجح أو تكون مرجوحة أو تكون الإرادتان متعادلتين.

ثم أطال البحث فيما تكون فيه إرادة الآخرة أرجح و نقل اختلاف العلماء في قبول هذا النوع من العمل، و نقل اتفاقهم على عدم قبول ما يترجح فيه باعث الدنيا أو كان

 

 

 

 الباعثان فيه متساويين.

قال: و أما القسم الرابع عند القائلين بأن صدور الفعل من القادر يتوقف على حصول الداعي فهو ممتنع الحصول و الذين قالوا: إنه لا يتوقف، قالوا ذلك الفعل لا أثر له في الباطن و هو محرم في الظاهر. انتهى و قد سبقه إلى هذا التقسيم و البحث غيره.

و أنت خبير بأن الآيات الكريمة ليست في مقام بيان حكم الرد و القبول بالنسبة إلى كل عمل صدر عن عامل بل هي تأخذ غاية الإنسان و تعينها بحسب نشاة حياته مرة متعلقة بالحياة العاجلة و لازمه أن لا يريد بأعماله إلا مزايا الحياة الدنيوية المادية و يعرض عن الأخرى، و مرة متعلقة بالحياة الآخرة و لازمه أن يرى لنفسه حياة خالدة دائمة، بعضها و هي الحياة الدنيا مقدمة للبعض الآخر و هي الحياة بعد الموت و أعماله في الدنيا مقصودة بها سعادة الأخرى.

و معلوم أن هذا التقسيم لا ينتج إلا قسمين نعم أحد القسمين ينقسم إلى أقسام لم يستوف أحكامها في الآيات لعدم تعلق الغرض بها و ذلك أن من أراد الآخرة ربما سعى لها سعيها و ربما لم يسع لها سعيها كالفساق و أهل البدع، و على كلا الوجهين ربما كان مؤمنا و ربما لم يكن مؤمنا، و لم يذكر في كلامه تعالى إلا حكم طائفة خاصة و هي من أراد الآخرة و سعى لها سعيها و هو مؤمن لأن الغرض تمييز ملاك السعادة من ملاك الشقاء لا بيان تفصيل الأحوال.

قوله تعالى: ﴿اُنْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلاً إشارة إلى تفاوت الدرجات بتفاوت المساعي حتى لا يتوهم أن قليل العمل و كثيره على حد سواء و يسير السعي و السعي البالغ لا فرق بينهما فإن تسوية القليل و الكثير و الجيد و الردي في الشكر و القبول رد في الحقيقة لما يزيد به الأفضل على غيره.

و قوله: ﴿اُنْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ أي بعض الناس على بعض في الدنيا، و القرينة على هذا التقييد قوله بعد: ﴿وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ و التفضيل في الدنيا هو ما يزيد به بعض أهلها على بعض من أعراضها و أمتعتها كالمال و الجاه و الولد و القوة

 

 

 

 و الصيت و الرئاسة و السؤدد و القبول عند الناس.

و قوله: ﴿وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلاً أي هي أكبر من الدنيا في الدرجات و التفضيل فلا يتوهمن متوهم أن أهل الآخرة في عيشة سواء و لا أن التفاوت بين معايشهم كتفاوت أهل الدنيا في دنياهم بل الدار أوسع من الدنيا بما لا يقاس و ذلك أن سبب التفضيل في الدنيا هي اختلاف الأسباب الكونية و هي محدودة و الدار دار التزاحم و سبب التفضيل و اختلاف الدرجات في الآخرة هو اختلاف النفوس في الإيمان و الإخلاص و هي من أحوال القلوب، و اختلاف أحوالها أوسع من اختلاف أحوال الأجسام بما لا يقاس قال تعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اَللَّهُ: البقرة: ٢٨٤ و قال: ﴿يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَ لاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اَللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ: الشعراء: ٨٩.

ففي الآية أمره (ص) أن ينظر إلى ما بين أهل الدنيا من التفاضل و الاعتبار ليجعل ذلك ذريعة إلى فهم ما بين أهل الآخرة من تفاوت الدرجات و التفاضل في المقامات فإن اختلاف الأحوال في الدنيا يؤدي إلى اختلاف الإدراكات الباطنة و النيات و الأعمال التي يتيسر للإنسان أن يأتي بها و اختلاف ذلك يؤدي إلى اختلاف الدرجات في الآخرة.

قوله تعالى: ﴿لاَ تَجْعَلْ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً قال في المفردات،:

الخذلان‏ ترك من يظن به أن ينصر نصرته انتهى.

و الآية بمنزلة النتيجة للآيات السابقة التي ذكرت سنة الله في عباده و ختمت في أن من أراد منهم العاجلة انتهى به ذلك إلى أن يصلى جهنم مذموما مدحورا، و من أراد منهم الآخرة شكر الله سعيه الجميل، و المعنى لا تشرك بالله سبحانه حتى يؤديك ذلك إلى أن تقعد و تحتبس عن السير إلى درجات القرب و أنت مذموم لا ينصرك الله و لا ناصر دونه و قيل: القعود كناية عن المذلة و العجز.

 

 

 

بحث روائي

 في الكافي، بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى:

﴿إِنَّ هَذَا اَلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ قال: أي يدعو.

 و في تفسير العياشي، عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر (عليه السلام): ﴿إِنَّ هَذَا اَلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ قال: يهدي إلى الولاية.

أقول: و هي من الجري و يمكن أن يراد به ما عند الإمام من كمال معارف الدين و لعله المراد مما في بعض الروايات من قوله: يهدي إلى الإمام.

 و عنه: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿وَ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ يقول: خيره و شره معه حيث كان لا يستطيع فراقه حتى يعطى كتابه بما عمل.

 و فيه، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): عن الآية قال: قدره الذي قدر عليه.

 و فيه، عن خالد بن يحيى عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: ﴿اِقْرَأْ كِتَابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ اَلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً قال يذكر العبد جميع ما عمل و ما كتب عليه حتى كأنه فعله تلك الساعة فلذلك قالوا: ﴿يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا اَلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَ لاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا.

 و فيه، عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا مشددة منصوبة تفسيرها: كثرنا، و قال: لا قرأتها مخففة.

 أقول: و في حديث آخر عن حمران عنه: تفسيرها أمرنا أكابرها.

و قد روي في قوله تعالى: ﴿وَ يَدْعُ اَلْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ الآية و قوله: ﴿وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ آيَتَيْنِ الآية و قوله: ﴿وَ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ الآية من طرق الفريقين عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و علي (عليه السلام) و سلمان و غيره روايات تركنا إيرادها لعدم تأيدها بكتاب أو سنة أو حجة عقلية قاطعة مع ما فيها من ضعف الإسناد.

 

 

 

كلام في القضاء في فصول

١ - تحصيل معناه و تحديده‏

في تحصيل معناه و تحديده. إنا نجد الحوادث الخارجية و الأمور الكونية بالقياس إلى عللها و الأسباب المقتضية لها على إحدى حالتين فإنها قبل أن تتم عللها الموجبة لها و الشرائط و ارتفاع الموانع التي يتوقف عليها حدوثها و تحققها لا يتعين لها التحقق و الثبوت و لا عدمه بل يتردد أمرها بين أن تتحقق و أن لا تتحقق من رأس.

فإذا تمت عللها الموجبة لها و كملت ما تتوقف عليه من الشرائط و ارتفاع الموانع و لم يبق لها إلا أن تتحقق خرجت من التردد و الإبهام و تعين لها أحد الطرفين و هو التحقق، أو عدم التحقق، إن فرض انعدام شي‏ء مما يتوقف عليه وجودها. و لا يفارق تعين التحقق نفس التحقق.

و الاعتباران جاريان في أفعالنا الخارجية فما لم نشرف على إيقاع فعل من الأفعال كان مترددا بين أن يقع أو لا يقع فإذا اجتمعت الأسباب و الأوضاع المقتضية و أتممناها بالإرادة و الإجماع بحيث لم يبق له إلا الوقوع و الصدور عينا له أحد الجانبين فتعين له الوقوع.

و كذا يجري نظير الاعتبارين في أعمالنا الوضعية الاعتبارية كما إذا تنازع اثنان في عين يدعيه كل منهما لنفسه كان أمر مملوكيته مرددا بين أن يكون لهذا أو لذاك فإذا رجعا إلى حكم يحكم بينهما فحكم لأحدهما دون الآخر كان فيه فصل الأمر عن الإبهام و التردد و تعيين أحد الجانبين بقطع رابطته مع الآخر.

ثم توسع فيه ثانيا فجعل الفصل و التعيين بحسب القول كالفصل و التعيين بحسب الفعل فقول الحكم: إن المال لأحد المتنازعين فصل للخصومة و تعيين لأحد الجانبين بعد التردد بينهما، و قول المخبر إن كذا كذا، فصل و تعيين، و هذا المعنى هو الذي نسميه القضاء.

و لما كانت الحوادث في وجودها و تحققها مستندة إليه سبحانه و هي فعله جرى

 

 

 

 فيها الاعتباران بعينهما فهي ما لم يرد الله تحققها و لم يتم لها العلل و الشرائط الموجبة لوجودها باقية على حال التردد بين الوقوع و اللاوقوع فإذا شاء الله وقوعها و أراد تحققها فتم لها عللها و عامة شرائطها و لم يبق لها إلا أن توجد كان ذلك تعيينا منه تعالى و فصلا لها من الجانب الآخر و قطعا للإبهام، و يسمى قضاء من الله.

و نظير الاعتبارين جار في مرحلة التشريع و حكمه القاطع بأمر و فصله القول فيه قضاء منه.

و على ذلك جرى كلامه تعالى فيما أشار فيه إلى هذه الحقيقة، قال تعالى: ﴿وَ إِذَا قَضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ: البقرة: ١١٧، و قال: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ: حم السجدة: ١٢، و قال: ﴿قُضِيَ اَلْأَمْرُ اَلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ: يوسف: ٤١، و قال: ﴿وَ قَضَيْنَا إِلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي اَلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي اَلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ: إسراء: ٤ إلى غير ذلك من الآيات المتعرضة للقضاء التكويني.

و من الآيات المتعرضة للقضاء التشريعي قوله: ﴿وَ قَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً: إسراء: ٢٣، و قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ: يونس: ٩٣، و قوله: ﴿وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ قِيلَ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ: الزمر: ٧٥، و ما في الآية و ما قبلها من القضاء بمعنى فصل الخصومة تشريعي بوجه و تكويني بآخر.

فالآيات الكريمة كما ترى تمضي صحة هذين الاعتبارين العقليين في الأشياء الكونية من جهة أنها أفعاله تعالى، و كذا في التشريع الإلهي من جهة أنه فعله التشريعي، و كذا فيما ينسب إليه تعالى من الحكم الفصل.

و ربما عبر عنه بالحكم و القول بعناية أخرى قال تعالى‏﴿أَلاَ لَهُ اَلْحُكْمُ: الأنعام:

 ٦٢، و قال: ﴿وَ اَللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ: الرعد: ٤١، و قال: ﴿مَا يُبَدَّلُ اَلْقَوْلُ لَدَيَّ: ق: ٢٩، قال: ﴿وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ: ص: ٨٤.

٢- نظرة فلسفية في معنى القضاء:

 لا ريب أن قانون العلية و المعلولية ثابت و أن الموجود الممكن معلول له سبحانه إما بلا واسطة معها، و أن المعلول إذا نسب

 

 

 

 إلى علته التامة كان له منها الضرورة و الوجوب إذ ما لم يجب لم يوجد، و إذا لم ينسب إليها كان له الإمكان سواء أخذ في نفسه و لم ينسب إلى شي‏ء كالماهية الممكنة في ذاتها أو نسب إلى بعض أجزاء علته التامة فإنه لو أوجب ضرورته و وجوبه كان علة له تامة و المفروض خلافه.

و لما كانت الضرورة هي تعين أحد الطرفين و خروج الشي‏ء عن الإبهام كانت الضرورة المنبسطة على سلسلة الممكنات من حيث انتسابها إلى الواجب تعالى الموجب لكل منها في ظرفه الذي يخصه قضاء عاما منه تعالى كما أن الضرورة الخاصة بكل واحد منها قضاء خاص به منه، إذ لا نعني بالقضاء إلا فصل الأمر و تعيينه عن الإبهام و التردد.

و من هنا يظهر أن القضاء من صفاته الفعلية و هو منتزع من الفعل من جهة نسبته إلى علته التامة الموجبة له.

[hE]٣ - الروايات‏[hE]

و الروايات في تأييد ما تقدم كثيرة جدا:

 ففي المحاسن، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله إذا أراد شيئا قدره فإذا قدره قضاه فإذا قضاه أمضاه.

 و فيه، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن محمد بن إسحاق قال: قال: أبو الحسن (عليه السلام) ليونس مولى علي بن يقطين: يا يونس لا تتكلم بالقدر قال: إني لا أتكلم بالقدر و لكن أقول:

لا يكون إلا ما أراد الله و شاء و قضى و قدر فقال ليس هكذا أقول و لكن أقول:

لا يكون إلا ما شاء الله و أراد و قدر و قضى. ثم قال: أ تدري ما المشية؟ فقال: لا فقال: همه بالشي‏ء أ و تدري ما أراد؟ قال: لا قال: إتمامه على المشية فقال: أ و تدري ما قدر؟ قال: لا، قال: هو الهندسة من الطول و العرض و البقاء ثم قال إن الله إذا شاء شيئا أراده و إذا أراد قدره و إذا قدره قضاه و إذا قضاه أمضاه‏ الحديث.

 و في رواية أخرى عن يونس عنه (عليه السلام) قال: لا يكون إلا ما شاء الله و أراد و قدر و قضى. قلت: فما معنى شاء؟ قال: ابتداء الفعل قلت: فما معنى أراد؟ قال:

الثبوت عليه. قلت: فما معنى قدر؟ قال: تقدير الشي‏ء من طوله و عرضه. قلت:

 

 

 

 فما معنى قضى؟ قال: إذا قضى أمضى فذلك الذي لا مرد له‏

 و في التوحيد، عن الدقاق عن الكليني عن ابن عامر عن المعلى قال: سئل العالم (عليه السلام) كيف علم الله؟ قال: علم و شاء و أراد و قدر و قضى و أمضى فأمضى ما قضى و قضى ما قدر و قدر ما أراد فبعلمه كانت المشية و بمشيته كانت الإرادة و بإرادته كان التقدير و بتقديره كان القضاء و بقضائه كان الإمضاء فالعلم متقدم على المشية و المشية ثانية و الإرادة ثالثة و التقدير واقع على القضاء بالإمضاء فلله تبارك و تعالى البداء فيما علم متى شاء و فيما أراد لتقدير الأشياء فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء. الحديث.

و الذي ذكره (عليه السلام) من ترتب المشية على العلم و الإرادة على المشية و هكذا ترتب عقلي بحسب صحة الانتزاع.

 و فيه، بإسناده عن ابن نباتة قال :إن أمير المؤمنين (عليه السلام) عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر فقيل له: يا أمير المؤمنين تفر من قضاء الله؟ قال: أفر من قضاء الله إلى قدر الله عز و جل.

 أقول: و ذلك أن القدر لا يحتم المقدر فمن المرجو أن لا يقع ما قدر أما إذا كان القضاء فلا مدفع له، و الروايات في المعاني المتقدمة كثيرة من طرق أئمة أهل البيت (عليه السلام).

بحث فلسفي‏

في أن الفيض مطلق غير محدود على ما يفيده قوله تعالى: ﴿وَ مَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً.

أطبقت البراهين على أن وجود الواجب تعالى بما أنه واجب لذاته مطلق غير محدود بحد و لا مقيد بقيد و لا مشروط بشرط و إلا انعدم فيما وراء حده و بطل على تقدير عدم قيده أو شرطه و قد فرض واجبا لذاته فهو واحد وحدة لا يتصور لها ثان و مطلق

 

 

 

 إطلاقا لا يتحمل تقييدا.

و قد ثبت أيضا أن وجود ما سواه أثر مجعول له و أن الفعل ضروري المسانخة لفاعله فالأثر الصادر منه واحد بوحدة حقه ظلية مطلق غير محدود و إلا تركبت ذاته من حد و محدود و تألفت من وجود و عدم و سرت هذه المناقضة الذاتية إلى ذات فاعله لمكان المسانخة بين الفاعل و فعله، و قد فرض أنه واحد مطلق فالوجود الذي هو فعله، و أثره المجعول واحد غير كثير و مطلق غير محدود و هو المطلوب.

فما يتراءى في الممكنات من جهات الاختلاف التي تقضي بالتحديد من النقص و الكمال و الوجدان و الفقدان عائدة إلى أنفسها دون جاعلها.

و هي إن كانت في أصل وجودها النوعي أو لوازمها النوعية فمنشؤها ماهياتها القابلة للوجود بإمكانها الذاتي كالإنسان و الفرس المختلفين في نوعيهما و لوازم نوعيهما و إن كانت في كمالاتها الثانية المختلفة باختلاف أفراد النوع من فاقد للكمال محروم منه و واجد له و الواجد للكمال التام أو الناقص فمنشؤها اختلاف الاستعدادات المادية باختلاف العلل المعدة المهيأة للاستفاضة من العلة المفيضة.

فالذي تفيضه العلة المفيضة من الأثر واحد مطلق، لكن القوابل المختلفة تكثره باختلاف قابليتها فمن راد له متلبس بخلافه و من قابل يقبله تاما و من قابل يقبله ناقصا و يحوله إلى ما يشاكل خصوصية ما فيه من الاستعداد كالشمس التي تفيض نورا واحدا متشابه الأجزاء لكن الأجسام القابلة لنورها تتصرف فيه على حسب ما عندها من القوة و الاستعداد.

فإن قلت لا ريب في أن هذه الاختلافات أمور واقعية فإن كان ما عد منشأ لها من الماهيات و الاستعدادات أمورا وهمية غير واقعية لم يكن لإسناد هذه الأمور الواقعية إليها معنى و رجع الأمر إلى الوجود الذي هو أثر الجاعل الحق و هو خلاف ما ادعيتموه من إطلاق الفيض، و إن كانت أمورا واقعية غير وهمية كانت من سنخ الوجود لاختصاص الأصالة به فكان الاستناد أيضا إلى فعله تعالى و ثبت خلاف المدعي.

قلت: هذا النظر يعيد الجميع إلى سنخ الوجود الواحد و لا يبقى معه من الاختلاف

 

 

 

 أثر بل يكون هناك وجود واحد ظلي قائم بوجود واحد أصلي و لا يبقى لهذا البحث على هذا محل أصلا.

و بعبارة أخرى تقسيم الموجود المطلق إلى ماهية و وجود و كذا تقسيمه إلى ما بالقوة و ما بالفعل هو الذي أظهر السلوب في نفس الأمر و قسم الأشياء إلى واجد و فاقد و مستكمل و محروم و قابل و مقبول و منشأه تحليل العقل الأشياء إلى ماهية قابلة للوجود و وجود مقبول للماهية، و كذا إلى قوة فاقدة للفعلية و فعلية تقابلها أما إذا رجع الجميع إلى الوجود الذي هو حقيقة واحدة مطلقة لم يبق للبحث عن سبب الاختلاف محل و عاد أثر الجاعل و هو الفيض واحدا مطلقا لا كثرة فيه و لا حد معه فافهم ذلك.

[سورة الإسراء (١٧): الآیات ٢٣ الی ٣٩]

﴿وَ قَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ اَلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَ لاَ تَنْهَرْهُمَا وَ قُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ٢٣ وَ اِخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ اَلذُّلِّ مِنَ اَلرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ اِرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ٢٤ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً ٢٥ وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ وَ اَلْمِسْكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ لاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً ٢٦ إِنَّ اَلْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ اَلشَّيَاطِينِ وَ كَانَ اَلشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً ٢٧ وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ اِبْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً ٢٨ وَ لاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لاَ تَبْسُطْهَا  

 

 

 

﴿كُلَّ اَلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ٢٩ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ٣٠ وَ لاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْأً كَبِيراً ٣١ وَ لاَ تَقْرَبُوا اَلزِّنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَ سَاءَ سَبِيلاً ٣٢ وَ لاَ تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً ٣٣ وَ لاَ تَقْرَبُوا مَالَ اَلْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ اَلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُلاً ٣٤ وَ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسْطَاسِ اَلْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً ٣٥ وَ لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ٣٦ وَ لاَ تَمْشِ فِي اَلْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ اَلْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ اَلْجِبَالَ طُولاً ٣٧ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ٣٨ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ اَلْحِكْمَةِ وَ لاَ تَجْعَلْ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً ٣٩   

بيان

عدة من كليات الدين يذكرها الله سبحانه و هي تتبع قوله قبل آيات ﴿إِنَّ هَذَا اَلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الآية.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ قَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ﴿أَلاَّ تَعْبُدُوا إلخ، نفي و استثناء و «أن» مصدرية و جوز أن يكون نهيا و استثناء و أن مصدرية أو مفسرة، و على أي حال ينحل مجموع المستثنى و المستثنى منه إلى جملتين كقولنا: تعبدونه و لا تعبدون غيره و ترجع الجملتان بوجه آخر إلى حكم واحد و هو الحكم بعبادته عن إخلاص.

و القول سواء كان منحلا إلى جملتين أو عائدا إلى جملة واحدة متعلق القضاء و هو القضاء التشريعي المتعلق بالأحكام و القضايا التشريعية، و يفيد معنى الفصل و الحكم القاطع المولوي، و هو كما يتعلق بالأمر يتعلق بالنهي و كما يبرم الأحكام المثبتة يبرم الأحكام المنفية، و لو كان بلفظ الأمر فقيل: و أمر ربك أن لا تعبدوا إلا إياه، لم يصح إلا بنوع من التأويل و التجوز.

و الأمر بإخلاص العبادة لله سبحانه أعظم الأوامر الدينية و الإخلاص بالعبادة أوجب الواجبات كما أن معصيته و هو الشرك بالله سبحانه أكبر الكبائر الموبقة، قال تعالى:

﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ: النساء: ٤٨.

و إليه يعود جميع المعاصي بحسب التحليل إذ لو لا طاعة غير الله من شياطين الجن و الإنس و هوى النفس و الجهل لم يقدم الإنسان على معصية ربه فيما أمره به أو نهاه عنه و الطاعة عبادة قال تعالى: ﴿أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا اَلشَّيْطَانَ: يس:

 ٦٠، و قال: ﴿أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ: الجاثية: ٢٣، حتى أن الكافر المنكر للصانع مشرك بإلقائه زمام تدبير العالم إلى المادة أو الطبيعة أو الدهر أو غير ذلك و هو مقر بسذاجة فطرته بالصانع تعالى.

و لعظم أمر هذا الحكم قدمه على سائر ما عد من الأحكام الخطيرة شأنا كعقوق الوالدين و منع الحقوق المالية و التبذير و قتل الأولاد و الزنا و قتل النفس المحترمة و أكل مال اليتيم و نقض العهد و التطفيف في الوزن و اتباع غير العلم و الكبير ثم ختمها بالنهي ثانيا عن الشرك.

قوله تعالى: ﴿وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً عطف على سابقه أي و قضى ربك بأن تحسنوا بالوالدين إحسانا أو أن أحسنوا بالوالدين إحسانا و الإحسان في الفعل يقابل الإساءة.

و هذا بعد التوحيد لله من أوجب الواجبات كما أن عقوقهما أكبر الكبائر بعد الشرك

 

 

 

 بالله، و لذلك ذكره بعد حكم التوحيد و قدمه على سائر الأحكام المذكورة المعدودة و كذلك فعل في عدة مواضع من كلامه.

و قد تقدم في نظير الآية من سورة الأنعام الآية ١٥١ من السورة أن الرابطة العاطفية المتوسطة بين الأب و الأم من جانب و الولد من جانب آخر من أعظم ما يقوم به المجتمع الإنساني على ساقه، و هي الوسيلة الطبيعية التي تمسك الزوجين على حال الاجتماع فمن الواجب بالنظر إلى السنة الاجتماعية الفطرية أن يحترم الإنسان والديه بإكرامهما و الإحسان إليهما، و لو لم يجر هذا الحكم و هجر المجتمع الإنساني بطلت العاطفة و الرابطة للأولاد بالأبوين و انحل به عقد الاجتماع.

قوله تعالى: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ اَلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَ لاَ تَنْهَرْهُمَا وَ قُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴿إِمَّا مركب من «إن» الشرطية و «ما» الزائدة و هي المصححة لدخول نون التأكيد على فعل الشرط، و الكبر هو الكبر في السن و أف‏ كلمة تفيد الضجر و الانزجار، و النهر هو الزجر بالصياح و رفع الصوت و الإغلاظ في القول.

و تخصيص حالة الكبر بالذكر لكونها أشق الحالات التي تمر على الوالدين فيحسان فيها الحاجة إلى إعانة الأولاد لهما و قيامهم بواجبات حياتيهما التي يعجزان عن القيام بها، و ذلك من آمال الوالدين التي يأملانها من الأولاد حين يقومان بحضانتهم و تربيتهم في حال الصغر و في وقت لا قدرة لهم على شي‏ء من لوازم الحياة و واجباتها.

فالآية تدل على وجوب إكرامهما و رعاية الأدب التام في معاشرتهما و محاورتهما في جميع الأوقات و خاصة في وقت يشتد حاجتهما إلى ذلك و هو وقت بلوغ الكبر من أحدهما أو كليهما عند الولد و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وَ اِخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ اَلذُّلِّ مِنَ اَلرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ اِرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً خفض الجناح كناية عن المبالغة في التواضع و الخضوع قولا و فعلا مأخوذ من خفض فرخ الطائر جناحه ليستعطف أمه لتغذيته، و لذا قيده بالذل فهو دأب أفراخ الطيور إذا أرادت الغذاء من أمهاتها، فالمعنى واجههما في معاشرتك و محاورتك مواجهة يلوج منها تواضعك و خضوعك لهما و تذللك قبالهما رحمة بهما.

 

 

 

 هذا إن كان الذل بمعنى المسكنة و إن كان بمعنى المطاوعة فهو مأخوذ من خفض الطائر جناحه ليجمع تحته أفراخه رحمة بها و حفظا لها.

و قوله: ﴿وَ قُلْ رَبِّ اِرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً أي اذكر تربيتهما لك صغيرا فادع الله سبحانه أن يرحمهما كما رحماك و ربياك صغيرا.

قال في المجمع،: و في هذا دلالة على أن دعاء الولد لوالده الميت مسموع و إلا لم يكن للأمر به معنى. انتهى. و الذي يدل عليه كون هذا الدعاء في مظنة الإجابة و هو أدب ديني ينتفع به الولد و إن فرض عدم انتفاع والديه به على أن وجه تخصيص استجابة الدعاء بالوالد الميت غير ظاهر و الآية مطلقة.

قوله تعالى: ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً السياق يعطي أن تكون الآية متعلقة بما تقدمها من إيجاب إحسان الوالدين و تحريم عقوقهما، و على هذا فهي متعرضة لما إذا بدرت من الولد بادرة في حق الوالدين من قول أو فعل يتأذيان به، و إنما لم يصرح به للإشارة إلى أن ذلك مما لا ينبغي أن يذكر كما لا ينبغي أن يقع.

فقوله: ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ أي أعلم منكم به، و هو تمهيد لما يتلوه من قوله: ﴿إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فيفيد تحقيق معنى الصلاح أي إن تكونوا صالحين و علم الله من نفوسكم ذلك فإنه كان إلخ، و قوله: ﴿فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً أي للراجعين إليه عند كل معصية و هو من وضع البيان العام موضع الخاص.

و المعنى: إن تكونوا صالحين و علم الله من نفوسكم و رجعتم و تبتم إليه في بادرة ظهرت منكم على والديكم غفر الله لكم ذلك إنه كان للأوابين غفورا.

قوله تعالى: ﴿وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبى حَقَّهُ وَ اَلْمِسْكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ تقدم الكلام فيه في نظائره، و بالآية يظهر أن إيتاء ذي القربى و المسكين و ابن السبيل مما شرع قبل الهجرة لأنها آية مكية من سورة مكية.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ اَلْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ اَلشَّيَاطِينِ وَ كَانَ اَلشَّيْطَانُ

 

 

 

[1]  القعب: القدح الضخم الغليظ،


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=2091
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 05 / 17
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 14