• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء الثاني عشر) ، تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده) .
                    • الموضوع : من ص 308 الى ص 382 (الأخير) .

من ص 308 الى ص 382 (الأخير)

و القدرة المتعلقة به متعلقة بالجميع بعينه، و ليست هناك إلا قدرة واحدة متعلقة بالجميع يوجد بها كل شي‏ء في موطنه الخاص به، و هي مطلقة غير مقيدة لا اختلاف للأشياء بالنسبة إليها و إنما الاختلاف بينها أنفسها.

فقد تبين مما تقدم أن عموم القدرة يوجب ارتفاع الاختلاف من بين الأشياء بالنسبة إليها بالسهولة و الصعوبة و غير ذلك و الآية الكريمة من غرر الآيات القرآنية يتبين بها:

أولا: أن حقيقة المعاد ظهور حقيقة الأشياء بعد خفائها.

و ثانيا: أن القدرة الإلهية تتعلق بجميع الأشياء على نعت سواء من غير اختلاف بالسهولة و الصعوبة و القرب و البعد و غير ذلك.

و ثالثا: أن الأشياء بحسب الحقيقة مرتبطة وجودا بحيث إن إيجاد الواحد منها إيجاد الجميع و الجميع متعلق قدرة واحدة لا مؤثر فيها غيرها.

نعم هناك نظر آخر أبسط من ذلك و هو النظر فيها من جهة نظام الأسباب و المسببات، و قد صدقه الله في كلامه كما تقدم بيانه في البحث عن الإعجاز في الجزء الأول من الكتاب، و بهذه النظرة ينفصل الأشياء بعضها عن بعض و يتوقف وجود بعضها على وجود بعض أو عدمه فتتقدم و تتأخر و تسهل و تصعب، و تكون الأسباب وسائط بينها و بينه تعالى و يكون تعالى فاعلا بوساطة الأسباب، و هو نظر بسيط.

و قد ذكر كثير من المفسرين في قوله: ﴿وَ لِلَّهِ غَيْبُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ أنه بحذف مضاف و التقدير و لله علم غيب إلخ، و فيه أنه يستلزم ارتفاع الاتصال بين هذه الجملة و بين ما يليها إذ لا رابطة بين علم الغيب و بين هوان أمر الساعة، فتعود الجملة مستدركة مستغنى عنها في الكلام.

و قول بعضهم في رفع الاستدراك إن صدر الآية و ذيلها يثبتان العلم و القدرة و بهما معا يتم خلق الساعة غير مفيد فإنهم إنما استشكلوا في الساعة من جهة القدرة لعدهم إياها ممتنعة فلا حاجة إلى التشبث لإثباتها بمسألة العلم، و يشهد لذلك ما في سائر الآيات المثبتة لإمكان المعاد بعموم القدرة.

و ذكر بعضهم: أن المراد به علم غيبهما لا بتقدير العلم في الكلام حتى يقال: إن الأصل عدمه بل لأن إضافة الغيب و هو ما يغيب عن الحس و العقل إلى السماوات

 

 

 

 و الأرض تفيد أن المراد الأمور المجهولة التي فيهما مما يقع فيهما حالا أو بعد حين و ملكه تعالى له ملكه للعلم به.

و فيه أن المقدمة الأخيرة ممنوعة و قد تقدم بيانه على أن إشكال ارتفاع الاتصال بين الجملتين في محله بعد.

و أيضا ذكر بعضهم في توجيه التعليل المستفاد من قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ عَلى‏َ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ أن من جملة الأشياء إقامة الساعة في أسرع ما يكون فهو قادر على ذلك.

و فيه أنه لا يفي بتعليل ما يستفاد من الحصر بالنفي و الإثبات و إنما يفي بتعليل ما لو قيل: إن الله سيجعل أمر الساعة كلمح البصر مع إمكان كونه لا كذلك فافهم ذلك.

(بحث روائي)

 في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ قال: قال (عليه السلام): الفرث ما في الكرش‏

و في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السكوني قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ليس أحد يغص بشرب اللبن لأن الله عز و جل يقول: ﴿لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ

و في تفسير القمي، بإسناده عن رجل عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله:

﴿وَ أَوْحىَ رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ قال: نحن النحل الذي أوحى الله إليه أن اتخذي من الجبال بيوتا أمرنا أن نتخذ من العرب شيعة ﴿وَ مِنَ اَلشَّجَرِ يقول: من العجم ﴿وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ من الموالي، و الذي خرج من بطونها شراب مختلف ألوانه، العلم الذي يخرج منا إليكم.

أقول: و في هذا المعنى روايات أخر، و هي من باب الجري و يشهد به ما في بعض هذه الروايات من تطبيق النحل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الجبال على قريش، و الشجر على العرب، و مما يعرشون على الموالي، و ما يخرج من بطونها على العلم.

 

 

 

 و في تفسير القمي، بإسناده عن علي بن المغيرة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا بلغ العبد مائة سنة فذلك أرذل العمر.

 و في المجمع، روي عن علي (عليه السلام): أن أرذل العمر خمس و سبعون سنة، و روي عن النبي مثل ذلك.

أقول: روى ذلك في الدر المنثور، عن الطبري عن علي (عليه السلام)، و روى عن ابن مردويه عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): حديثا مفصلا يدل على أن أرذل العمر مائة سنة. و في تفسير العياشي، عن عبد الرحمن الأشل عن الصادق (عليه السلام): في قول الله:

﴿وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً قال: الحفدة بنو البنت، و نحن حفدة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم).

 و فيه، عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله (عليه السلام): في الحفدة قال: و هم العون منهم يعني البنين.

 و في المجمع،: في معنى الحفدة: هي أختان الرجل على بناته قال: و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام).

 أقول: و لا تنافي بين الروايات كما تقدم في البيان.

 و في التهذيب، بإسناده عن شعيب العقرقوفي عن أبي عبد الله (عليه السلام): في طلاق العبد و نكاحه قال: ليس له طلاق و لا نكاح أ ما تسمع الله تعالى يقول: ﴿عَبْداً مَمْلُوكاً لاَ يَقْدِرُ عَلىَ شَيْ‏ءٍ قال: لا يقدر على طلاق و لا على نكاح إلا بإذن مولاه.

 أقول: و في هذا المعنى عدة روايات من طرق الشيعة.

 و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ: قال:

قال (عليه السلام): كيف يستوي هذا؟ و من يأمر بالعدل أمير المؤمنين و الأئمة (عليه السلام)

 و في تفسير البرهان، عن ابن شهر آشوب عن حمزة بن عطاء عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ الآية قال: هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) و هو على صراط مستقيم.

أقول: و الروايتان من الجري و ليستا من أسباب النزول في شي‏ء لما تقدم في البيان السابق.

 

 

 

 و كذا ما روي من طرق أهل السنة :أن قوله: ﴿ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً، الآية نزل في هشام بن عمرو و هو الذي ينفق ماله سرا و جهرا في عبده أبي الجوزاء الذي كان ينهاه، و كذا ما روي أن الآية نزلت في عثمان بن عفان و عبد له.

و كذا ما روي :في قوله: ﴿وَ ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ الآية، أن الأبكم أبي بن خلف و من يأمر بالعدل حمزة و عثمان بن مظعون، و كذا- ما روي :أن الأبكم هاشم بن عمر بن الحارث القرشي و كان قليل الخير يعادي رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و ما روي :أن الأبكم أبو جهل و الآمر بالعدل عمار، و ما روي :أن الآمر بالعدل عثمان بن عفان، و الأبكم مولى له كافر و هو أسيد بن أبي العيص، إلى غير ذلك.

[سورة النحل (١٦): الآیات ٧٨ الی ٨٩]

﴿وَ اَللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصَارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ٧٨أَ لَمْ يَرَوْا إِلَى اَلطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ اَلسَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اَللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ٧٩وَ اَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ اَلْأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَ يَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَ مِنْ أَصْوَافِهَا وَ أَوْبَارِهَا وَ أَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَ مَتَاعاً إِلى‏ حِينٍ ٨٠وَ اَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْجِبَالِ أَكْنَاناً وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ اَلْحَرَّ وَ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ٨١فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ اَلْبَلاَغُ اَلْمُبِينُ ٨٢يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اَللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَ أَكْثَرُهُمُ اَلْكَافِرُونَ ٨٣

 

 

 

﴿وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ لاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ٨٤وَ إِذَا رَأَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا اَلْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَ لاَ هُمْ يُنْظَرُونَ ٨٥وَ إِذَا رَأَى اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاَءِ شُرَكَاؤُنَا اَلَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ اَلْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ٨٦وَ أَلْقَوْا إِلَى اَللَّهِ يَوْمَئِذٍ اَلسَّلَمَ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ٨٧اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ اَلْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ ٨٨وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلى‏ هَؤُلاَءِ وَ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى‏ لِلْمُسْلِمِينَ ٨٩

(بيان)

الآيات تذكر عدة أخرى من النعم الإلهية ثم تعطف الكلام إلى ما تكشف عنه من حق القول في وحدانيته تعالى في الربوبية و في البعث و في النبوة و التشريع نظيره القبيل السابق الذي أوردناه من الآيات.

قوله تعالى: ﴿وَ اَللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً إلى آخر الآية. الأمهات جمع أم و الهاء زائدة نظير أهراق و أصله أراق و قد تأتي أمات، و قيل:

الأمهات في الإنسان و الأمات في غيره من الحيوان، و الأفئدة جمع قلة للفؤاد و هو القلب و اللب، و لم يبن له جمع كثرة.

 

 

 

 و قوله: ﴿وَ اَللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ إشارة إلى التولد و ﴿لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً حال من ضمير الخطاب أي أخرجكم من أرحامهن بالتولد و الحال أن نفوسكم خالية من هذه المعلومات التي أحرزتموها من طريق الحس و الخيال و العقل بعد ذلك.

و الآية تؤيد ما ذهب إليه علماء النفس أن لوح النفس خالية عن المعلومات أول تكونها ثم تنتقش فيها شيئا فشيئا كما قيل و هذا في غير علم النفس بذاتها فلا يطلق عليه عرفا «يعلم شيئا» و الدليل عليه قوله تعالى في خلال الآيات السابقة فيمن يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا» فإن من الضروري أنه في تلك الحال عالم بنفسه.

و احتج بعضهم بعموم الآية على أن العلم الحضوري يعني به علم الإنسان بنفسه كسائر العلوم الحصولية مفقود في بادئ الحال حادث بعد ذلك ثم ناقش في أدلة كون علم النفس بذاتها حضوريا مناقشات عجيبة.

و فيه أن العموم منصرف إلى العلم الحصولي و يشهد بذلك الآية المتقدمة.

و قوله: ﴿وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصَارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إشارة إلى مبادئ العلم الذي أنعم بها على الإنسان فمبدأ التصور هو الحس، و العمدة فيه السمع و البصر و إن كان هناك غيرهما من اللمس و الذوق و الشم، و مبدأ الفكر هو الفؤاد.

قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ يَرَوْا إِلَى اَلطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ اَلسَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اَللَّهُإلخ، قال في المجمع: الجو الهواء البعيد من الأرض. انتهى. يقول: أ لم ينظروا إلى الطير حال كونها مسخرات لله سبحانه في جو السماء و الهواء البعيد من الأرض، ثم استأنف فقال مشيرا إلى ما هو نتيجة هذا النظر: ﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اَللَّهُ.

و إثبات الإمساك لله سبحانه و نفيه عن غيره مع وجود أسباب طبيعية هناك مؤثرة في ذلك و كلامه تعالى يصدق ناموس العلية و المعلولية إنما هو من جهة أن توقف الطير في الجو من دون أن تسقط كيفما كان و إلى أي سبب استند هو و سببه و الرابطة التي بينهما جميعا مستندة إلى صنعه تعالى فهو الذي يفيض الوجود عليه و على سببه و على الرابطة التي بينهما فهو السبب المفيض لوجوده حقيقة و إن كان سببه الطبيعي القريب معه يتوقف هو عليه.

و معنى توقفه في وجوده على سببه ليس أن سببه يفيد وجوده بعد ما استفاد

 

 

 

 وجود نفسه منه تعالى بل أن هذا المسبب يتوقف في أخذه الوجود منه تعالى إلى أخذ سببه الوجود منه تعالى قبل ذلك، و قد تقدم بعض الكلام في توضيح ذلك من قريب.

و هذا معنى توحيد القرآن، و الدليل عليه من جهة لفظه أمثال قوله: ﴿أَلاَ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ: الأعراف: ٥٤، و قوله: ﴿أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً: البقرة: ١٦٥، و قوله:

﴿اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ: الزمر: ٦٢، و قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ عَلى‏َ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ: النحل: ٧٧.

و الدليل على ما قدمناه في معنى النفي و الإثبات في الآية قوله تعالى: ﴿مُسَخَّرَاتٍفإن التسخير إنما يتحقق بقهر أحد السببين الآخر في فعله على ما يريده السبب القاهر ففي لفظه دلالة على أن للمقهور نوعا من السببية.

و ليس طيران الطائر في جو السماء بالحقيقة بأعجب من سكون الإنسان في الأرض فالجميع ينتهي إلى صنعه تعالى على حد سواء لكن ألفة الإنسان لبعض الأمور و كثرة عهده به توجب خمود قريحة البحث عنه فإذا صادف ما يخالف ما ألفه و كثر عهده به كالمستثنى من الكلية انتبه لذلك و انتزعت القريحة للبحث عنه و الإنسان يرى الأجسام الأرضية الثقيلة معتمدة على الأرض مجذوبة إليها فإذا وجد الطير مثلا تنقض كلية هذا الحكم بطيرانها تعجب منه و انبسط للبحث عنه و الحصول على علته، و للحق نصيب من هذا البحث و هذا هو أحد الأسباب في أخذ هذا النوع من الأمور في القرآن مواد للاحتجاج.

و قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي في كونها مسخرات في جو السماء فإن للطير و هو في الجو دفيفا و صفيفا و بسطا لأجنحتها و قبضا و سكونا و انتقالا و صعودا و نزولا و هي جميعا آيات لقوم يؤمنون كما ذكره الله.

قوله تعالى: ﴿وَ اَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً إلى آخر الآية، في المفردات:

البيت‏ مأوى الإنسان بالليل لأنه يقال: بات أقام بالليل كما يقال: ظل بالنهار. ثم قد يقال: للمسكن بيت من غير اعتبار الليل فيه، و جمعه أبيات و بيوت لكن البيوت بالمسكن أخص و الأبيات بالشعر، قال: و يقع ذلك على المتخذ من حجر و مدر و صوف و وبر. انتهى موضع الحاجة.

و السكن‏ ما يسكن إليه، و الظعن‏ الارتحال و هو خلاف الإقامة، و الصوف‏

 

 

 

 للضأن و الوبر للإبل كالشعر للإنسان و يسمى ما للمعز شعرا كالإنسان، و الأثاث‏ متاع البيت الكثير و لا يقال للواحد منه أثاث، قال في المجمع: و لا واحد للأثاث كما أنه لا واحد للمتاع. انتهى. و المتاع أعم من الأثاث فإنه مطلق ما يتمتع به و لا يختص بما في البيت.

و قوله: ﴿وَ اَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً أي جعل لكم بعض بيوتكم سكنا تسكنون إليه، و من البيوت ما لا يسكن إليه كالمتخذ لادخار الأموال و اختزان الأمتعة و غير ذلك و قوله: ﴿وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ اَلْأَنْعَامِ بُيُوتاً إلخ، أي من جلودها بعد الدبغ و هي الأنطاع و الأدم ﴿بُيُوتاً و هي القباب و الخيام ﴿تَسْتَخِفُّونَهَاأي تعدونها خفيفة من جهة الحمل ﴿يَوْمَ ظَعْنِكُمْ و ارتحالكم ﴿وَ يَوْمَ إِقَامَتِكُمْ من غير سفر و ظعن.

و قوله: ﴿وَ مِنْ أَصْوَافِهَا وَ أَوْبَارِهَا وَ أَشْعَارِهَا إلخ، معطوف على موضع ﴿مِنْ جُلُودِ أي و جعل لكم ﴿مِنْ أَصْوَافِهَا و هي للضأن و ﴿أَوْبَارِهَا و هي للإبل ﴿وَ أَشْعَارِهَا و هي للمعز ﴿أَثَاثاً تستعملونه في بيوتكم ﴿وَ مَتَاعاً تتمتعون به ﴿إِلى‏َ حِينٍ محدود، قيل: و فيه إشارة إلى أنها فانية داثرة فلا ينبغي للعاقل أن يختارها على نعيم الآخرة.

قوله: «تعالى ﴿وَ اَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً إلى آخر الآية، الظرفان أعني قوله: ﴿لَكُمْ و ﴿مِمَّا خَلَقَ متعلقان بجعل و تعليق الظلال بما خلق لكونها أمرا عدميا محققا بتبع غيره و هي مع ذلك من النعم العظيمة التي أنعم الله بها على الإنسان و سائر الحيوان و النبات فما الانتفاع بالظل للإنسان و غيره بأقل من الانتفاع بالنور و لو لا الظل و هو ظل الليل و ظل الأبنية و الأشجار و الكهوف و غيرها لما عاش على وجه الأرض عائش.

و قوله: ﴿وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْجِبَالِ أَكْنَاناًالكن‏ ما يستتر به الشي‏ء حتى أن القميص كن للابسه، و أكنان الجبال هي الكهوف و الثقب الموجودة فيها.

و قوله: ﴿وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ اَلْحَرَّ أي قميصا يحفظكم من الحر، قال في المجمع:، و لم يقل: و تقيكم البرد لأن ما وقى الحر وقى البرد، و إنما خص الحر

 

 

 

بذلك مع أن وقايتها للبرد أكثر لأن الذين خوطبوا بذلك أهل حر في بلادهم فحاجتهم إلى ما يقي الحر أكثر، عن عطاء.

قال: على أن العرب يكتفي بذكر أحد الشيئين عن الآخر للعلم به قال الشاعر:

و ما أدري إذا يممت أرضا أريد الخير أيهما يليني

فكنى عن الشر و لم يذكره لأنه مدلول عليه، ذكره الفراء انتهى.

و لعل بعض الوجه في ذكره الحر و الاكتفاء به أن البشر الأولى كانوا يسكنون المناطق الحارة من الأرض فكان شدة الحر أمس بهم من شدة البرد و تنبههم لاتخاذ السراويل إنما هو للاتقاء مما كان الابتلاء به أقرب إليهم و هو الحر و الله أعلم.

و قوله‏﴿وَ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ الظاهر أن المراد به درع الحديد و نحوه.

و قوله: ﴿كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ امتنان عليهم بإتمام النعم التي ذكرها، و كانت الغاية المرجوة من ذلك إسلامهم لله عن معرفتها فإن المترقب المتوقع ممن يعرف النعم و إتمامها عليه أن يسلم لإرادة منعمه و لا يقابله بالاستكبار لأن منعما هذا شأنه لا يريد به سوء.

قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ اَلْبَلاَغُ اَلْمُبِينُ قال في المجمع:، البلاغ الاسم و التبليغ المصدر مثل الكلام و التكليم، انتهى.

لما فرغ عن ذكر ما أريد ذكره من النعم و الاحتجاج بها ختمها بما مدلولها العتاب و اللوم و الوعيد على الكفر و يتضمن ذكر وحدانيته تعالى في الربوبية و المعاد و النبوة و بدأ ذلك ببيان وظيفة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في رسالته و هو البلاغ فقال: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا أي يتفرع على هذا البيان الذي ليس فيه إلا دعوتهم إلى ما فيه صلاح معاشهم و معادهم من غير أن يتبعه إجبار أو إكراه أنهم إن تولوا و أعرضوا عن الإصغاء إليه و الاهتداء به ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ اَلْبَلاَغُ اَلْمُبِينُ و التبليغ‏ الواضح الذي لا إبهام فيه و لا ستر عليه لأنك رسول و ما على الرسول إلا ذلك.

و في الآية تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و بيان وظيفة له.

قوله تعالى: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اَللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَ أَكْثَرُهُمُ اَلْكَافِرُونَ المعرفة

 

 

 

 و الإنكار متقابلان كالعلم و الجهل و هذا هو الدليل على أن المراد بالإنكار و هو عدم المعرفة لازم معناه و هو الإنكار في مقام العمل و هو عدم الإيمان بالله و رسوله و اليوم الآخر أو الجحود لسانا مع معرفتها قلبا، لكن قوله: ﴿وَ أَكْثَرُهُمُ اَلْكَافِرُونَ يخص الجحود بأكثرهم كما سيجي‏ء فيبقى للإنكار المعنى الأول.

و قوله‏﴿ وَ أَكْثَرُهُمُ اَلْكَافِرُونَ دخول اللام على ﴿اَلْكَافِرُونَ يدل على الكمال أي إنهم كافرون بالنعم الإلهية أو بما تدل عليه من التوحيد و غيره جميعا لكن أكثرهم كاملون في كفرهم و ذلك بالجحود عنادا و الإصرار عليه و الصد عن سبيل الله.

و المعنى: يعرفون نعمة الله بعنوان أنها نعمة منه و مقتضاه أن يؤمنوا به و برسوله و اليوم الآخر و يسلموا في العمل ثم إذا وردوا مورد العمل عملوا بما هو من آثار الإنكار دون المعرفة، و أكثرهم لا يكتفون بمجرد الإنكار العملي بل يزيدون عليه بكمال الكفر و العناد مع الحق و الجحود و الإصرار عليه.

و فيما قدمناه كفاية لك عما أطال فيه المفسرون في معنى قوله: ﴿وَ أَكْثَرُهُمُ اَلْكَافِرُونَ مع أنهم جميعا كافرون بإنكارهم من قول بعضهم، إنما قال: ﴿أَكْثَرُهُمُلأن منهم من لم تقم عليه الحجة كمن لم يبلغ حد التكليف أو كان مئوفا في عقله أو لم تصل إليه الدعوة فلا يقع عليه اسم الكفر.

و فيه أن هؤلاء خارجون عن إطلاق الآية رأسا فإنها تذكر توبيخا و إيعادا أنهم ينكرون نعمة الله بعد ما عرفوها، و هؤلاء إن كانوا ينكرونها كانوا بذلك كافرين و إن لم ينكروها لم يدخلوا في إطلاق الآية قطعا، و كيف يصح أن يقال: إنهم لم تقم عليهم الحجة و ليست الحجة إلا النعمة التي يعدها الله سبحانه و هم يعرفونها.؟ و قول بعضهم: إنما قال: ﴿وَ أَكْثَرُهُمُ اَلْكَافِرُونَ لأنه كان يعلم أن فيهم من سيؤمن، و فيه أنه قول لا دليل عليه.

و قول بعضهم: إن المراد بالأكثر الجميع و إنما عدل عن البعض احتقارا له أن يذكره، و نسب إلى الحسن البصري، و هو قول عجيب.

قيل: و في الآية دليل على فساد قول المجبرة إنه ليس لله على الكافر نعمة

 

 

 

 و إن جميع ما فعله بهم إنما هو خذلان و نقمة لأنه سبحانه نص في هذه الآية على خلاف قولهم، انتهى.

و الحق أن للنعمة اعتبارين: أحدهما كونها نعمة أي ناعمة ملائمة لحال المنعم عليه من حيث كونه في صراط التكوين أي من حيث سعادته الجسمية، و الآخر من حيث وقوع المنعم عليه في صراط التشريع أي من حيث سعادته الروحية الإنسانية بأن تكون النعمة بحيث توجب معرفتها إيمانه بالله و رسوله و اليوم الآخر و استعمالها في طريق مرضاة الله، و المؤمن منعم بالنعمتين كلتيهما و الكافر منعم في الدنيا بالطائفة الأولى محروم من الثانية، و في كلامه سبحانه شواهد كثيرة تشهد على ذلك.

قوله تعالى: ﴿وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ لاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ قال في المجمع:، قال الزجاج: و العتب‏ الموجدة يقال: عتب عليه يعتب إذا وجد عليه فإذا فاوضه ما عتب عليه قالوا: عاتبه، و إذا رجع إلى مسرته قيل:

أعتب، و الاسم العتبي‏ و هو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب، و استعتبه طلب منه أن يعتب. انتهى.

و قوله: ﴿وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً يفيد السياق أن المراد بهذا اليوم يوم القيامة، و بهؤلاء الشهداء الذين يبعث كل واحد منهم من أمة، شهداء الأعمال الذين تحملوا حقائق أعمال أمتهم في الدنيا و هم يستشهد بهم و يشهدون عليهم يوم القيامة و قد تقدم بعض الكلام في معنى هذه الشهادة في تفسير قوله: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى اَلنَّاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً: البقرة: ١٤٣ في الجزء الأول من الكتاب.

و لا دلالة في لفظ الآية على أن المراد بشهيد الأمة نبيها، و لا أن المراد بالأمة أمة الرسول فمن الجائز أن يكون غير النبي من أمته كالإمام شهيدا كما يدل عليه آية البقرة السابقة و قوله تعالى: ﴿وَ جِي‏ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ اَلشُّهَدَاءِ: الزمر: ٦٩، و على هذا فالمراد بكل أمة أمة الشهيد المبعوث و أهل زمانه.

و قوله: ﴿ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ لاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ذكر بعث شهداء الأمم دليل على أنهم يشهدون على أممهم بما عملوا في الدنيا، و قرينة على أن المراد من نفي الإذن للكافرين أنهم لا يؤذن لهم في الكلام و هو الاعتذار لا محالة و نفي الإذن في الكلام

 

 

 

 إنما هو تمهيد لأداء الشهود شهادتهم كما تلوح إليه آيات أخر كقوله: ﴿اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى‏َ أَفْوَاهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ: يس: ٦٥، و قوله: ﴿هَذَا يَوْمُ لاَ يَنْطِقُونَ وَ لاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ: المرسلات: ٣٦.

على أن سياق قوله: ﴿ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ إلخ، يفيد أن المراد بهذا الذي ذكر نفي ما يتقى به الشر يومئذ من الحيل و بيان أنه لا سبيل إلى تدارك ما فات منهم و إصلاح ما فسد من أعمالهم في الدنيا يومئذ و هو أحد أمرين: الاعتذار أو استئناف العمل، أما الثاني فيتكفله قوله: ﴿وَ لاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ و لا يبقى للأول و هو الاعتذار بالكلام إلا قوله: ﴿ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا.

و من هنا يظهر أن قوله: ﴿وَ لاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي لا يطلب منهم أن يعتبوا الله و يرضوه بيان لعدم إمكان تدارك ما فات منهم بتجديد العمل و الرجوع إلى السمع و الطاعة فإن اليوم يوم جزاء لا يوم عمل و لا سبيل إلى رجوعهم القهقرى إلى الدنيا حتى يعملوا صالحا فيجزوا به.

و قد بين سبحانه ذلك في مواضع أخرى من كلامه بلسان آخر كقوله تعالى:

﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى اَلسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَ قَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى اَلسُّجُودِ وَ هُمْ سَالِمُونَ: القلم: ٤٣، و قوله: ﴿وَ لَوْ تَرى‏َ إِذِ اَلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَ سَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ: الم السجدة: ١٢.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا رَأَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا اَلْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَ لاَ هُمْ يُنْظَرُونَ كانت الآية السابقة بالحقيقة مسوقة لبيان الفرق بين يوم الجزاء الذي هو يوم القيامة و بين سائر ظروف الجزاء في الدنيا بأن جزاء يوم القيامة لا يرتفع و لا يتغير باعتذار و لا باستعتاب، و هذه الآية بيان فرق عذاب اليوم مع العذابات الدنيوية التي تتعلق بالظالمين في الدنيا فإنها تقبل بوجه التخفيف أو الإنظار بتأخير ما و عذاب يوم القيامة لا يقبل تخفيفا و لا إنظارا.

فقوله: ﴿وَ إِذَا رَأَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا اَلْعَذَابَ ذكر الظلم في الصلة دون الكفر و نحوه للدلالة على سبب الحكم و ملاكه، و المراد برؤية العذاب إشرافه عليهم

 

 

 

 و إشرافهم عليه بعد فصل القضاء كما يفيده السياق، و المراد بالعذاب عذاب يوم القيامة و هو عذاب النار.

و المعنى و الله أعلم و إذا قضي الأمر بعذابهم و أشرفوا على العذاب بمشاهدة النار فلا مخلص لهم عنه بتخفيف أو بإنظار و إمهال.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا رَأَى اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ إلى آخر الآية، مضي في حديث يوم البعث، و قوله: ﴿وَ إِذَا رَأَى اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا و هم في عرف القرآن عبدة الأصنام و الأوثان قرينة على أن المراد بقوله: ﴿شُرَكَاءَهُمْ الذين أشركوهم بالله زعما منهم أنهم شركاء لله و افتراء و يدل أيضا عليه ذيل الآية و الآية التالية.

فتسميتهم شركاءهم و هم يسمونهم شركاء الله للدلالة بها على أن ليس لهم من الشركة إلا الشركة بجعلهم بحسب وهمهم فليس لإشراكهم شركاءهم من الحقيقة إلا أنها لا حقيقة لها.

و بذلك يظهر أن تفسير شركائهم بالأصنام أو بالمعبودات الباطلة و أنهم إنما عدوا شركائهم لأنهم جعلوا لها نصيبا من أموالهم و أنعامهم، أو الشياطين لأنهم شاركوهم في الأموال و الأولاد أو شركاؤهم في الكفر و هم الذين كفروا مثل كفرهم أو شاركوهم في وبال كفرهم، كل ذلك في غير محله و لا نطيل بالمناقشة في كل واحد منها.

و قوله: ﴿قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاَءِ شُرَكَاؤُنَا اَلَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ معناه ظاهر و هو تعريف منهم إياهم لربهم، و لا حاجة إلى البحث عن غرض المشركين في تعريفهم فإن اليوم يوم أحاط بهم الشقاء و العذاب من كل جانب، و الإنسان في مثل ذلك يلوي إلى كل ما يخطر بباله من طرق السعي في خلاص نفسه و تنفيس كربه.

و قوله: ﴿فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ اَلْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ قال في المجمع:، تقول: ألقيت الشي‏ء إذا طرحته، و اللقى الشي‏ء الملقى، و ألقيت إليه مقالة إذا قلتها له، و تلقاها إذا قبلها، انتهى.

و المعنى: أن شركائهم ردوا إليهم و كذبوهم، و قد عبر سبحانه في موضع آخر عن هذا التكذيب بالكفر كقوله: ﴿وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ: فاطر: ١٤ و قوله حكاية عن مخاطبة الشيطان لهم يوم القيامة ﴿إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ

 

 

 

 قَبْلُ: إبراهيم: ٢٢.

قوله تعالى: ﴿وَ أَلْقَوْا إِلَى اَللَّهِ يَوْمَئِذٍ اَلسَّلَمَ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَالسلم‏ الإسلام و الاستسلام، و كان في التعبير بإلقاء السلم إشارة إلى انضمام شي‏ء من الخضوع و المقهورية بالقهر الإلهي إلى سلمهم.

و ضمير ﴿أَلْقَوْا عائد إلى الذين أشركوا بقرينة قوله بعد ﴿وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ فالمراد أن المشركين يسلمون يوم القيامة لله و قد كانوا يدعون إلى الإسلام في الدنيا و هم يستكبرون.

و ليس المراد بإلقاء السلم هذا يوم القيامة هو انكشاف الحقيقة و ظهور الوحدانية و هو مدلول قوله في صفة يوم القيامة: ﴿وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ اَلْمُبِينُ: النور: ٢٥، لأن العلم بثبوت شي‏ء أمر، و التسليم و الإيمان بثبوته أمر آخر كما يظهر من قوله تعالى:

﴿وَ جَحَدُوا بِهَا وَ اِسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ: النمل: ١٤.

و مجرد العلم بأن الله هو الحق لا يكفي في سعادة الإنسان بل تحتاج في تمامها إلى تسليمه و الإيمان به بترتيب آثاره عليه ثم من التسليم و الإيمان ما كان عن طوع و اختيار و منه ما كان عن كره و اضطرار، و الذي ينفع في السعادة هو التسليم و الإيمان عن اختيار و موطن الاختيار الدنيا التي هي دار العمل دون الآخرة التي هي دار الجزاء.

و هم لم يسلموا للحق ما داموا في الدنيا و إن أيقنوا به حتى إذا وردوا الدار الآخرة و أوقفوا موقف الحساب عاينوا أن الله هو الحق المبين، و أن عذاب الشقاء أحاط بهم من كل جانب أسلموا للحق و هم مضطرون و ليس ينفعهم، و إلى هذا العلم و التسليم الاضطراري يشير قوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اَللَّهُ دِينَهُمُ اَلْحَقَّ وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلْحَقُّ اَلْمُبِينُ: النور: ٢٥، فصدر الآية يخبر عن إسلامهم لأنه الدين الحق، قال تعالى: ﴿إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللَّهِ اَلْإِسْلاَمُ: آل عمران: ١٩، و ذيل الآية عن انكشاف الحق لهم و ظهور الحقيقة عليهم.

و الآية المبحوث عنها أعني قوله: ﴿وَ أَلْقَوْا إِلَى اَللَّهِ يَوْمَئِذٍ اَلسَّلَمَ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ صدرها يشير إلى إسلامهم و ذيلها إلى كون ذاك الإسلام اضطراريا لا ينفعهم لأنهم كانوا يرون لله ألوهية و لشركائهم ألوهية فاختاروا تسليم شركائهم

 

 

 

و عبادتهم على التسليم لله ثم لما ظهر لهم الحق يوم القيامة و كذبهم شركائهم بطل ما زعموه و ضل عنهم ما افتروه فلم يبق للتسليم إلا الله سبحانه فسلموا له مضطرين و انقادوا له كارهين.

قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ اَلْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ استئناف متعرض لحال أئمة الكفر بالخصوص بعد ما أشار إلى حال عامة الظالمين و المشركين في الآيات السابقة.

و السامع إذا سمع ما شرحه الله من حالهم يوم القيامة في هذه الآيات و أنهم معذبون جميعا من غير أن يخفف عنهم أو ينظروا فيه، و قد سمع منه أن منهم طائفة هم أشد كفرا و أشقى من غيرهم إذ يقول‏﴿وَ أَكْثَرُهُمُ اَلْكَافِرُونَ خطر بباله طبعا أنهم هل يساوون غيرهم في العذاب الموعود و هم يزيدون عليهم في السبب و هو الكفر.

فاستؤنف الكلام جوابا عن ذلك فقيل: ﴿اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِبالعناد و اللجاج فاكتملوا في الكفر و اقتدى بهم غيرهم ﴿زِدْنَاهُمْ عَذَاباً و هو الذي للصد و هم يختصون به ﴿فَوْقَ اَلْعَذَابِ و هو الذي بإزاء مطلق الظلم و الكفر و يشاركون فيه عامة إخوانهم، و كان اللام في العذاب للعهد الذكري يشار بها إلى ما ذكر في قوله: ﴿وَ إِذَا رَأَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا اَلْعَذَابَ إلخ، ﴿بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ تعليل لزيادة العذاب.

و من هنا يظهر أن المراد بالإفساد الواقع في التعليل هو الصد لأنه الوصف الذي يزيدون به على غيرهم و هو إفساد الغير بصرفه عن سبيل الله، و بتقرير آخر: إفساد في الأرض بالمنع عن انعقاد مجتمع صالح كان من المترقب حصوله بإقبال أولئك المصروفين على دين الله و سلوك سبيله.

قوله تعالى: ﴿وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلى‏َ هَؤُلاَءِ إلخ، صدر الآية تكرار ما تقدم قبل بضع آيات من قوله: ﴿وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً غير أنه كان هناك توطئة و تمهيدا لحديث عدم الإذن لهم في الكلام يومئذ، و هو هاهنا توطئة و تمهيد لذكر شهادته (ص) لهؤلاء يومئذ و هو في الموضعين

 

 

 

 مقصود لغيره لا لنفسه.

و كيف كان فقوله: ﴿وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يدل على بعث واحد في كل أمة للشهادة على أعمال غيره و هو غير البعث بمعنى الإحياء للحساب بل بعث بعد البعث، و إنما جعل من أنفسهم ليكون أتم للحجة و أقطع للمعذرة كما يفيده السياق و ذكره المفسرون حتى أنهم ذكروا شهادة لوط على قومه و لم يكن منهم نسبا و وجهوه بأنه كان تأهل فيهم و سكن معهم فهو معدود منهم.

و قوله: ﴿وَ جِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلى‏َ هَؤُلاَءِ يفيد أنه (ص) شهيد على هؤلاء، و استظهروا أن المراد بهؤلاء هم أمته، و أيضا أنهم قاطبة من بعث إليه من لدن عصره إلى يوم القيامة ممن حضره و من غاب و من عاصره و من جاء بعده من الناس.

و آيات الشهادة من معضلات آيات القيامة على ما في جميع آيات القيامة من الإعضال و صعوبة المنال، و قد تقدم في ذيل قوله: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى اَلنَّاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً: البقرة: ١٤٣ في الجزء الأول من الكتاب نبذة من الكلام في معنى هذه الشهادة.

و من الواجب قبل الورود في بحث الشهادة و سائر الأمور التي تصفها الآيات ليوم القيامة كالجمع و الوقوف و السؤال و الميزان و الحساب أن يعلم أنه تعالى يعد في كلامه هذه الأمور في عداد الحجج التي تقام يوم القيامة على الإنسان لتثبيت ما عمله من خير أو شر و القضاء عليه بما ثبت بالحجة القاطعة للعذر و المنيرة للحق ثم المجازاة بما يستوجبه القضاء من سعادة أو شقاء و جنة أو نار، و هذا من أوضح ما يستفاد من آيات القيامة الشارحة لشئون هذا اليوم و ما يواجه الناس منها.

و هذا أصل مقتضاه أن يكون بين هذه الحجج و أجزائها و نتائجها روابط حقيقية بينة يضطر العقل إلى الإذعان بها، و لا يسع للإنسان بما عنده من الشعور الفطري ردها و لا الشك و الارتياب فيها.

و على هذا فمن الواجب أن تكون الشهادة القائمة هناك بإقامة منه تعالى مشتملة من الحقيقة على ما لا سبيل للمناقشة فيها، و الله سبحانه لو أمر أشقى الناس على أن يشهد على الأولين و الآخرين بما عملوه باختيار من الشاهد أو يخلق الشهادة في لسانه بلا

 

 

 

 إرادة منه، أو أن يشهد بما عملوه من غير أن يكون قد تحملها في الدنيا و شهدها شهود عيان بل معتمدا على إعلام من الله أو ملائكته أو على حجة ثم أمضى تعالى ذلك و أنفذه و جازى به محتجا في جميع ذلك بشهادته ثانيا عليها لم يكن ذلك مما لا تطيقه سعة قدرته و لا يسعه نفوذ إرادته و لا استطاع أحد أن ينازعه في ملكه أو يعقب حكمه أو يغلبه على أمره.

لكنها حجة تحكمية غير تامة لا تقطع بالحقيقة عذرا و لا تدفع ريبا نظير التحكمات التي نجدها من جبابرة الإنسان و الطواغيت العابثين بالحق و الحقيقة و كيف يتصور لمثل هذه الحجج المختلقة عين أو أثر يوم لا عين فيه إلا للحق و لا أثر فيه إلا للحقيقة؟.

و على هذا فمن الواجب أن يكون هذا الشهيد ذا عصمة إلهية يمتنع عليه الكذب و الجزاف، و أن يكون عالما بحقائق الأعمال التي يشهد عليها لا بظاهر صورها و هيئاتها المحسوسة بل بحقيقة ما انعقدت عليه في القلوب، و أن يستوي عنده الحاضر و الغائب من الناس كما تقدمت الإشارة إليه في تفسير آية سورة البقرة.

و من الواجب أن تكون شهادته شهادة عن معاينة كما هو ظاهر لفظ الشهيد و ظاهر تقييده بقوله: ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ في قوله: ﴿شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ غير مستندة إلى حجة عقلية أو دليل سمعي. و يشهد به قوله تعالى حكاية عن المسيح (عليه السلام):

﴿وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ اَلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى‏َ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ: المائدة: ١١٧.

و بهذا تتلاءم الآيتان مضمونا أعني قوله: ﴿وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلى‏َ هَؤُلاَءِ و قوله. ﴿وَ كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى اَلنَّاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً: البقرة: ١٤٣.

فإن ظاهر آية البقرة أن بين النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و بين الناس الذين هم عامة من بعث إليهم من زمانه إلى يوم القيامة شهداء يشهدون على أعمالهم، و أن الرسول إنما هو شهيد على هؤلاء الشهداء دون سائر الناس إلا بواسطتهم، و لا ينبغي أن يتوهم أن الأمة هم المؤمنون و غيرهم الناس و هم خارجون من الأمة فإن ظاهر الآية السابقة في السورة:

﴿وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الآية أن الكفار من الأمة

 

 

 

 المشهود عليهم.

و لازم ذلك أن يكون المراد بالأمة في الآية المبحوث عنها: ﴿وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ جماعة الناس من أهل عصر واحد يشهد أعمالهم شهيد واحد، و يكون حينئذ الأمة التي بعث إليها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) منقسمة إلى أمم كثيرة.

و يكون المراد بالشهيد الإنسان المبعوث بالعصمة و المشاهدة كما تقدم و يؤيده قوله: ﴿مِنْ أَنْفُسِهِمْ إذ لو لا المشاهدة لم يكن لكونه من أنفسهم وقع، و لا لتعدد الشهداء بتعدد الأمم وجه فلكل قوم شهيد من أنفسهم سواء كان نبيا لهم أو غير نبيهم فلا ملازمة كما يؤيده قوله: ﴿وَ جِي‏ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ اَلشُّهَدَاءِ: الزمر: ٦٩.

و يكون المراد بهؤلاء في قوله: ﴿وَ جِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلى‏َ هَؤُلاَءِ الشهداء دون عامة الناس فالشهداء شهداء على الناس و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) شهيد على الشهداء و ظاهر الشهادة على الشاهد تعديله دون الشهادة على عمله فهو (ص) شهيد على مقامهم لا على أعمالهم و لذلك لم يكن من الواجب أن يعاصرهم و يتحد بهم زمانا فافهم ذلك.

و الإنصاف أنه لو لا هذا التقريب لم يرتفع ما يتراءى ما في آيات الشهادة من الاختلاف كدلالة آية البقرة، و قوله: ﴿لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى اَلنَّاسِ: الحج: ٧٨، على كون الأمة هم المؤمنين، و دلالة غيرهما على الأعم، و دلالتهما على أن النبي إنما هو شهيد على الشهداء، و أن بينه و بين الناس شهداء و دلالة غيرهما على خلافه و أن على الناس شهيدا واحدا هو نبيهم لأن المفروض حينئذ أن شهيد كل أمة هو نبيهم، و كون أخذ الشهيد من أنفسهم لغوا لا أثر له مع عدم لزوم الحضور و المعاصرة و أن الشهادة إنما تكون من حي كما في الكلام المحكي عن المسيح (عليه السلام) و إشكالات أخرى تتوجه على نجاح الحجة و مضيها، تقدمت الإشارة إليها و الله الهادي.

و قوله: ﴿وَ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى‏َ لِلْمُسْلِمِينَذكروا أنه استئناف يصف القرآن بكرائم صفاته فصفته العامة أنه تبيان لكل شي‏ء و التبيان و البيان واحد كما قيل و إذ كان كتاب هداية لعامة الناس و ذلك شأنه كان الظاهر أن المراد بكل شي‏ء كل ما يرجع إلى أمر الهداية مما يحتاج إليه الناس في

 

 

 

اهتدائهم من المعارف الحقيقية المتعلقة بالمبدإ و المعاد و الأخلاق الفاضلة و الشرائع الإلهية و القصص و المواعظ فهو تبيان لذلك كله.

و من صفته الخاصة أي المتعلقة بالمسلمين الذين يسلمون للحق أنه هدى يهتدون به إلى مستقيم الصراط و رحمة لهم من الله سبحانه يحوزون بالعمل بما فيه خير الدنيا و الآخرة و ينالون به ثواب الله و رضوانه، و بشرى لهم يبشرهم بمغفرة من الله و رضوان و جنات لهم فيها نعيم مقيم.

هذا ما ذكروه و هو مبني على ما هو ظاهر التبيان من البيان المعهود من الكلام و هو إظهار المقاصد من طريق الدلالة اللفظية فإنا لا نهتدي من دلالة لفظ القرآن الكريم إلا على كليات ما تقدم، لكن في الروايات ما يدل على أن القرآن فيه علم ما كان و ما يكون و ما هو كائن إلى يوم القيامة، و لو صحت الروايات لكان من اللازم أن يكون المراد بالتبيان الأعم مما يكون من طريق الدلالة اللفظية فلعل هناك إشارات من غير طريق الدلالة اللفظية تكشف عن أسرار و خبايا لا سبيل للفهم المتعارف إليها.

و الظاهر على ما يستفاد من سياق هذه الآيات المسوقة للاحتجاج على الأصول الثلاثة: التوحيد و النبوة و المعاد، و الكلام فيها ينعطف مرة بعد أخرى عليها أن قوله: ﴿وَ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ إلخ، ليس باستئناف بل حال عن ضمير الخطاب في ﴿جِئْنَا بِكَ بتقدير «قد» أو بدون تقديرها على الخلاف بين النحاة في الجملة الحالية المصدرة بالفعل الماضي.

و المعنى: و جئنا بك شهيدا على هؤلاء و الحال أنا نزلنا عليك من قبل في الدنيا الكتاب و هو بيان لكل شي‏ء من أمر الهداية يعلم به الحق من الباطل فيتحمل شهادة أعمالهم فيشهد يوم القيامة على الظالمين بما ظلموا و على المسلمين بما أسلموا لأن الكتاب كان هدى و رحمة و بشرى لهم و كنت أنت بذلك هاديا و رحمة و مبشرا لهم.

و على هذا فصدر الآية كالتوطئة لذيلها كأنه قيل: سيبعث شهداء يشهدون على الناس بأعمالهم و أنت منهم و لذلك نزلنا عليك كتابا يبين الحق و الباطل و يميز بينهما حتى تشهد به يوم القيامة على الظالمين بظلمهم و قد تبين الكتاب و على المسلمين بإسلامهم و قد كان الكتاب هدى و رحمة و بشرى لهم و كنت هاديا و رحمة و مبشرا به.

 

 

 

 و من لطيف ما يؤيد هذا المعنى مقارنة الكتاب بالشهادة في بعض آيات الشهادة كقوله: ﴿وَ أَشْرَقَتِ اَلْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَ وُضِعَ اَلْكِتَابُ وَ جِي‏ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ اَلشُّهَدَاءِ:الزمر: ٦٩، و سيجي‏ء إن شاء الله أن المراد به اللوح المحفوظ، و قد تكرر في كلامه تعالى أن القرآن من اللوح المحفوظ كقوله: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ: الواقعة: ٧٨، و قوله: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ: البروج: ٢٢.

و شهادة اللوح المحفوظ و إن كانت غير شهادة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لكنهما جميعا متوقفتان على قضاء الكتاب النازل.

(بحث روائي)

 في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد: أن أعرابيا أتى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فسأله فقرأ عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ﴿وَ اَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً قال الأعرابي: نعم.

قال: ﴿وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ اَلْأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا قال الأعرابي:. نعم ثم قرأ عليه كل ذلك يقول: نعم حتى بلغ ﴿كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ فولى الأعرابي فأنزل الله: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اَللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَ أَكْثَرُهُمُ اَلْكَافِرُونَ

 في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن الباقر (عليه السلام): في قوله تعالى: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اَللَّهِ الآية، قال: عرفهم ولاية علي و أمرهم بولايته ثم أنكروا بعد وفاته.

 أقول: و الرواية من الجري.

 و في تفسير العياشي، عن جعفر بن أحمد عن التركي النيشابوري عن علي بن جعفر بن محمد عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام): أنه سئل عن هذه الآية: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اَللَّهِ الآية، قال: عرفوه ثم أنكروه.

 و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ: قال الصادق (عليه السلام): لكل زمان و أمة شهيد تبعث كل أمة مع إمامها أقول: و ذيل كلامه (عليه السلام): مضمون قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ

 و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد، و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن

 

 

 

 قتادة :قال الله: ﴿وَ جِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلىَ هَؤُلاَءِ قال: ذكر لنا أن نبي الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان إذا قرأ هذه الآية فاضت عيناه. أقول: «و الروايات في باب الشهادة يوم القيامة كثيرة جدا و قد أوردنا بعضها في ذيل قوله: ﴿وَ كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً: البقرة: ١٤٣ و بعضها في ذيل قوله:

﴿وَ جِئْنَا بِكَ عَلىَ هَؤُلاَءِ شَهِيداً: النساء: ٤١، و قوله: ﴿وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً: النساء: ١٥٩.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه و الخطيب في تالي التلخيص عن البراء: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) سئل عن قول الله: ﴿زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ اَلْعَذَابِ قال: عقارب أمثال النخل الطوال ينهشونهم في جهنم.

 و في الكافي، بإسناده عن عبد الأعلى بن أعين قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قد ولدني رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أنا أعلم كتاب الله و فيه بدء الخلق و ما هو كائن إلى يوم القيامة، و فيه خبر السماء و خبر الأرض و خبر الجنة و خبر النار و خبر ما كان و خبر ما هو كائن أعلم ذلك كما أنظر إلى كفي إن الله عز و جل يقول: فيه تبيان كل شي‏ء.

 أقول: و الآية منقولة في الرواية بالمعنى.

 و في تفسير العياشي، عن منصور عن حماد اللحام قال قال: أبو عبد الله (عليه السلام): نحن نعلم ما في السماوات و نعلم ما في الأرض، و ما في الجنة و ما في النار و ما بين ذلك.

قال: فبهت أنظر إليه فقال: يا حماد إن ذلك في كتاب الله تعالى ثم تلا هذه الآية:

﴿وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلى‏َ هَؤُلاَءِ وَ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى‏ لِلْمُسْلِمِينَ إنه من كتاب فيه تبيان كل شي‏ء و في الكافي، عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن سنان عن يونس بن يعقوب عن الحارث بن المغيرة و عدة من أصحابنا منهم عبد الأعلى و أبو عبيدة و عبد الله بن بشير الخثعمي سمعوا أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إني لأعلم ما في السماوات و ما في الأرض و أعلم ما في الجنة و أعلم ما في النار و أعلم ما كان و ما يكون ثم مكث هنيئة فرأى

 

 

 

أن ذلك كبر على من سمعه منه فقال: علمت ذلك من كتاب الله عز و جل إن الله يقول: فيه تبيان كل شي‏ء.

 و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن الوليد قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): قال الله لموسى: ﴿وَ كَتَبْنَا لَهُ فِي اَلْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ فعلمنا أنه لم يكتب لموسى الشي‏ء كله، و قال الله لعيسى: ﴿لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ و قال الله لمحمد (صلى الله عليه وآله و سلم) ﴿وَ جِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلىَ هَؤُلاَءِ وَ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ.

أقول: و رواه العياشي بالإسناد عنه (عليه السلام).

[سورة النحل (١٦): الآیات ٩٠ الی ١٠٥]

﴿إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسَانِ وَ إِيتَاءِ ذِي اَلْقُرْبىَ وَ يَنْهىَ عَنِ اَلْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ اَلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ٩٠وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اَللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَ لاَ تَنْقُضُوا اَلْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اَللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اَللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ٩١وَ لاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى‏ مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اَللَّهُ بِهِ وَ لَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ٩٢وَ لَوْ شَاءَ اَللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ لَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ٩٣وَ لاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَ تَذُوقُوا اَلسُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ لَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ٩٤وَ لاَ تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اَللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ اَللَّهِ هُوَ خَيْرٌ

 

 

 

﴿لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ٩٥مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ مَا عِنْدَ اَللَّهِ بَاقٍ وَ لَنَجْزِيَنَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ٩٦مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ٩٧فَإِذَا قَرَأْتَ اَلْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ اَلشَّيْطَانِ اَلرَّجِيمِ ٩٨إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى‏َ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ٩٩إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ١٠٠وَ إِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَ اَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ١٠١قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ اَلْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى‏ لِلْمُسْلِمِينَ ١٠٢وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ اَلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ١٠٣إِنَّ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اَللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اَللَّهُ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ١٠٤إِنَّمَا يَفْتَرِي اَلْكَذِبَ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اَللَّهِ وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْكَاذِبُونَ ١٠٥

(بيان)

تذكر الآيات عدة من الأحكام مما يلائم حال الإسلام قبل الهجرة مما يصلح به حال المجتمع العام كالأمر بالعدل و الإحسان و النهي عن الفحشاء و المنكر و البغي و ما

 

 

 

 يلحق بذلك كالأمر بإيتاء ذي القربى و النهي عن نقض العهد و اليمين، و تذكر أمورا أخرى تناسب ذلك و تثبتها.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسَانِ وَ إِيتَاءِ ذِي اَلْقُرْبىَ ابتدأ سبحانه بهذه الأحكام الثلاثة التي هي بالترتيب أهم ما يقوم به صلب المجتمع الإنساني لما أن صلاح المجتمع العام أهم ما يبتغيه الإسلام في تعاليمه المصلحة فإن أهم الأشياء عند الإنسان في نظر الطبيعة و إن كان هو نفسه الفردية، لكن سعادة الشخص مبنية على صلاح الظرف الاجتماعي الذي يعيش هو فيه، و ما أصعب أن يفلح فرد في مجتمع فاسد أحاط به الشقاء من كل جانب.

و لذلك اهتم في إصلاح المجتمع اهتماما لا يعادله فيه غيره و بذل الجهد البالغ في جعل الدساتير و التعاليم الدينية حتى العبادات من الصلاة و الحج و الصوم اجتماعية ما أمكن فيها ذلك، كل ذلك ليستصلح الإنسان في نفسه و من جهة ظرف حياته.

فقوله‏﴿إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ أمر بالعدل و يقابله الظلم قال في المفردات، العدالة و المعادلة لفظ يقتضي معنى المساواة، و يستعمل باعتبار المضايفة، و العدل بفتح العين و العدل بكسرها يتقاربان لكن العدل بفتح العين يستعمل فيما يدرك بالبصيرة كالأحكام، و على ذلك قوله تعالى: ﴿أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً و العدل بكسر العين و العديل فيما يدرك بالحاسة كالموزونات و المعدودات و المكيلات، فالعدل هو التقسيط على سواء.

قال: و العدل ضربان: مطلق يقتضي العقل حسنه، و لا يكون في شي‏ء من الأزمنة منسوخا و لا يوصف بالاعتداء بوجه نحو الإحسان إلى من أحسن إليك و كف الأذى عمن كف أذاه عنك، و عدل يعرف كونه عدلا بالشرع و يمكن أن يكون منسوخا في بعض الأزمنة كالقصاص و أروش الجنايات و أصل مال المرتد، و لذلك قال: ﴿فَمَنِ اِعْتَدى‏َ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ و قال: ﴿وَ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَافسمي اعتداء و سيئة.

و هذا النحو هو المعني بقوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسَانِ فإن العدل هو المساواة في المكافاة إن خيرا فخير و إن شرا فشر، و الإحسان أن يقابل الخير بأكثر

 

 

 

 منه و الشر بأقل منه، انتهى موضع الحاجة.

و ما ذكره على ما فيه من التفصيل يرجع إلى قولهم إن العدل هو لزوم الوسط و الاجتناب عن جانبي الإفراط و التفريط في الأمور و هو من قبيل التفسير بلازم المعنى فإن حقيقة العدل هي إقامة المساواة و الموازنة بين الأمور بأن يعطى كل من السهم ما ينبغي أن يعطاه فيتساوى في أن كلا منها واقع موضعه الذي يستحقه، فالعدل في الاعتقاد أن يؤمن بما هو الحق، و العدل في فعل الإنسان في نفسه أن يفعل ما فيه سعادته و يتحرز مما فيه شقاؤه باتباع هوى النفس، و العدل في الناس و بينهم أن يوضع كل موضعه الذي يستحقه في العقل أو في الشرع أو في العرف فيثاب المحسن بإحسانه، و يعاقب المسي‏ء على إساءته، و ينتصف للمظلوم من الظالم و لا يبعض في إقامة القانون و لا يستثني.

و من هنا يظهر أن العدل يساوق الحسن و يلازمه إذ لا نعني بالحسن إلا ما من طبعه أن تميل إليه النفس و تنجذب نحوه و إقرار الشي‏ء في موضعه الذي ينبغي أن يقر عليه من حيث هو كذلك مما يميل إليه الإنسان و يعترف بحسنه و يقدم العذر لو خالفه إلى من يقرعه باللوم لا يختلف في ذلك اثنان، و إن اختلف الناس في مصاديقه كثيرا باختلاف مسالكهم في الحياة.

و يظهر أيضا أن ما عد الراغب في كلامه من الاعتداء و السيئة عدلا لا يخلو عن مسامحة، فإن الاعتداء و السيئة الذين يجازى بهما المعتدي و المسي‏ء إنما هما اعتداء و سيئة بالنسبة إليهما و أما بالنسبة إلى من يجازيهما بهما فهما من لزوم وسط الاعتدال و خصلة الحسن لكونهما من وضع الشي‏ء موضعه الذي ينبغي أن يوضع فيه.

و كيف كان فالعدل و إن كان منقسما إلى عدل الإنسان في نفسه و إلى عدله بالنسبة إلى غيره، و هما العدل الفردي و العدل الاجتماعي، و اللفظ مطلق لكن ظاهر السياق أن المراد به في الآية العدل الاجتماعي و هو أن يعامل كل من أفراد المجتمع بما يستحقه و يوضع في موضعه الذي ينبغي أن يوضع فيه، و هذا أمر بخصلة اجتماعية متوجه إلى أفراد المكلفين بمعنى أن الله سبحانه يأمر كل واحد من أفراد المجتمع أن يأتي بالعدل، و لازمه أن يتعلق الأمر بالمجموع أيضا فيكلف المجتمع إقامة هذا الحكم و تتقلده الحكومة

 

 

 

 بما أنها تتولى أمر المجتمع و تدبره.

و قوله: ﴿وَ اَلْإِحْسَانِ الكلام فيه من حيث اقتضاء السياق كسابقه فالمراد به الإحسان إلى الغير دون الإحسان بمعنى إتيان الفعل حسنا، و هو إيصال خير أو نفع إلى غير لا على سبيل المجازاة و المقابلة كأن يقابل الخير بأكثر منه و يقابل الشر بأقل منه كما تقدم و يوصل الخير إلى غير متبرعا به ابتداء.

و الإحسان على ما فيه من إصلاح حال من أذلته المسكنة و الفاقة أو اضطرته النوازل، و ما فيه من نشر الرحمة و إيجاد المحبة يعود محمود أثره إلى نفس المحسن بدوران الثروة في المجتمع و جلب الأمن و السلامة بالتحبيب.

و قوله: ﴿وَ إِيتَاءِ ذِي اَلْقُرْبى‏َ أي إعطاء المال لذوي القرابة و هو من أفراد الإحسان خص بالذكر ليدل على مزيد العناية بإصلاح هذا المجتمع الصغير الذي هو السبب بالحقيقة لانعقاد المجتمع المدني الكبير كما أن مجتمع الازدواج الذي هو أصغر بالنسبة إلى مجتمع القرابة سبب مقدم مكون له فالمجتمعات المدنية العظيمة إنما ابتدأت من مجتمع بيتي عقده الازدواج ثم بسطه التوالد و التناسل و وسعه حتى صار قبيلة و عشيرة و لم يزل يتزايد و يتكاثر حتى عادت أمة عظيمة فالمراد بذي القربى الجنس دون الفرد و هو عام لكل قرابة كما ذكروه.

و في التفسير المأثور عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) أن المراد بذي القربى الإمام من قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)، و المراد بالإيتاء إعطاء الخمس الذي فرضه الله سبحانه في قوله: ﴿وَ اِعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى‏َ وَ اَلْيَتَامى‏َ وَ اَلْمَسَاكِينِ الآية: الأنفال: ٤١ و قد تقدم تفسيرها.

و لعل التعبير بالإفراد حيث قيل: ﴿ذِي اَلْقُرْبى‏َ و لم يقل: ذوي القربى أو أولي القربى كما في قوله: ﴿وَ إِذَا حَضَرَ اَلْقِسْمَةَ أُولُوا اَلْقُرْبى‏َ وَ اَلْيَتَامى‏َ وَ اَلْمَسَاكِينُ: النساء: ٨، و قوله: ﴿وَ آتَى اَلْمَالَ عَلى‏َ حُبِّهِ ذَوِي اَلْقُرْبى‏َ وَ اَلْيَتَامى‏َ وَ اَلْمَسَاكِينَ: البقرة:

 ١٧٧ يؤيد ذلك.

و احتمال إرادة الجنس من ذي القربى يبعده ما وقع في سياق آية الخمس من ذكر اليتامى و المساكين معه بصيغة الجمع مع عدم ظهور نكتة يختص بها ذوي القربى أو

 

 

 

اليتامى و المساكين تقضي بالفرق.

على أن الآية لا قرينة واضحة فيها على كون المراد بالإيتاء هو الإحسان ثم بالإحسان مطلق الإحسان. و الله أعلم.

قوله تعالى: ﴿وَ يَنْهى‏َ عَنِ اَلْفَحْشَاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ اَلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَقال في المفردات: الفحش و الفحشاء و الفاحشة ما عظم قبحه من الأفعال و الأقوال.

انتهى و لعل الأصل في معناه الخروج عن الحد فيما لا ينبغي يقال: غبن فاحش أي خارج عن حد التحمل و الصبر و السكوت.

و المنكر ما لا يعرفه الناس في مجتمعهم من الأعمال التي تكون متروكة عندهم لقبحها أو إثمها كالمواقعة أو كشف العورة في مشهد من الناس في المجتمعات الإسلامية.

و البغي‏ الأصل في معناه الطلب و كثر استعماله في طلب حق الغير بالتعدي عليه فيفيد معنى الاستعلاء و الاستكبار على الغير ظلما و عتوا، و ربما كان بمعنى الزنا و المراد به في الآية هو التعدي على الغير ظلما.

و هذه الثلاثة أعني الفحشاء و المنكر و البغي و إن كانت متحدة المصاديق غالبا فكل فحشاء منكر، و غالب البغي فحشاء و منكر لكن النهي إنما تعلق بها بما لها من العناوين لما أن وقوع الأعمال بهذه العناوين في مجتمع من المجتمعات يوجب ظهور الفصل الفاحش بين الأعمال المجتمعة فيه الصادرة من أهله فينقطع بعضها من بعض و يبطل الالتيام بينها و يفسد بذلك النظم و ينحل المجتمع في الحقيقة و إن كان على ساقه صورة و في ذلك هلاك سعادة الأفراد.

فالنهي عن الفحشاء و المنكر و البغي أمر بحسب المعنى باتحاد مجتمع تتعارف أجزاؤه و تتلاءم أعماله لا يستعلي بعضهم على بعض بغيا، و لا يشاهد بعضهم من بعض إلا الجميل الذي يعرفونه لا فحشاء و لا منكرا و عند ذلك تستقر عليهم الرحمة و المحبة و الألفة و ترتكز فيهم القوة و الشدة، و تهجرهم السخطة و العداوة و النفرة و كل خصلة سيئة تؤدي إلى التفرق و التهلكة.

ثم ختم سبحانه الآية بقوله: ﴿يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي تتذكرون فتعلمون أن الذي يدعوكم إليه فيه حياتكم و سعادتكم.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اَللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَ لاَ تَنْقُضُوا اَلْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَاإلخ، قال في المفردات: العهد حفظ الشي‏ء و مراعاته حالا بعد حال، و سمي الموثق الذي يلزم مراعاته عهدا. قال: و عهد فلان إلى فلان يعهد أي ألقى إليه العهد و أوصاه بحفظه، انتهى.

و ظاهر إضافة العهد إلى الله تعالى في قوله: ﴿وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اَللَّهِ أن المراد به هو العهد الذي يعاهد فيه الله على كذا دون مطلق العهد و يأتي نظير الكلام في نقض اليمين.

و قوله: ﴿وَ لاَ تَنْقُضُوا اَلْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا نقض اليمين نكثه و مخالفة مقتضاه و المراد باليمين هو اليمين بالحلف بالله سبحانه كأن ما عدا ذلك ليس بيمين و الدليل عليه قوله بعد: ﴿وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اَللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً. و المراد بتوكيدها إحكامها بالقصد و العزم و كونها لأمر راجح بخلاف قولهم:

لا و الله و بلى و الله و غيره من لغو الأيمان، فالتوكيد في هذه الآية يفيد ما يفيده التعقيد في قوله تعالى: ﴿لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اَللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَ لَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ اَلْأَيْمَانَ المائدة: ٨٩.

و نقض اليمين بحسب الاعتبار أشنع من نقض العهد و إن كان منهيا عنهما جميعا، على أن العناية بالحلف في الشرع الإسلامي أكثر كما في باب القضاء.

و توضيح شناعة نقضه: أن حقيقة معنى اليمين إيجاد ربط خاص بين النسبة الكلامية من خبر أو إنشاء و بين أمر ذي بال شريف بحيث يستوجب بطلان النسبة من جهة ظهور كذبه إن كان خبرا و مخالفة مقتضاه إن كان عزما أو أمرا أو نهيا كقولنا: و الله لأفعلن كذا و بالله عليك افعل أو لا تفعل كذا أن يذهب بذلك ما يعتقده المقسم من الكرامة و العزة للمقسم به فيئول الأمر إلى أن المقسم به بما له من الكرامة و العزة هو المسئول عن صحة النسبة الكلامية و المقسم هو المسئول عند المقسم به بما علق صحة النسبة على كرامته و عزته كمن يعقد عقدا أو يتعهد عملا ثم يعطي لمن عاقده أو تعهد له موثقا يثق به من مال أو ولد أو غير ذلك أو يضمن له ذلك شريف بشرافته.

و بهذا يظهر معنى قوله تعالى: ﴿وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اَللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاًفإن الحالف إذا قال: و الله لأفعلن كذا أو لأتركن كذا فقد علق ما حلف عليه نوعا من التعليق

 

 

 

 على الله سبحانه و جعله كفيلا عنه في الوفاء بما عقد عليه اليمين فإن نكث و لم يف كان لكفيله أن يؤديه إلى الجزاء و العقوبة، ففي نكث اليمين إهانة و إرزاء بساحة العزة و الكرامة مضافا إلى ما في نقض اليمين و العهد معا من الانقطاع و الانفصال عنه سبحانه بعد توكيد الاتصال.

فقوله: ﴿وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اَللَّهَ إلخ، حال من ضمير الجمع في قوله: ﴿وَ لاَ تَنْقُضُواو قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ في معنى تأكيد النهي بأن العمل مبغوض و هو به عليم.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً إلى آخر الآية، النقض‏ و يقابله الإبرام إفساد ما أحكم من حبل أو غزل بالفتل فنقض الشي‏ء المبرم كحل الشي‏ء المعقود، و النكث‏ النقض، قال في المجمع،: و كل شي‏ء نقض بعد الفتل فهو أنكاث حبلا كان أو غزلا، و الدخل‏ بفتحتين في الأصل كل ما دخل الشي‏ء و ليس منه، و يكنى به عن الدغل و الخدعة و الخيانة، كما قيل: و أربى أفعل من الربا و هو الزيادة.

و قوله: ﴿وَ لاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً في معنى التفسير لقوله في الآية السابقة: ﴿وَ لاَ تَنْقُضُوا اَلْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا و هو تمثيل بمرأة تغزل الغزل بقوة ثم تعود فتنقض ما أتعبت نفسها فيه و غزلته من بعد قوة و تجعله أنكاثا لا فتل فيه و لا إبرام.

و نقل عن الكلبي أنها امرأة حمقاء من قريش كانت تغزل مع جواريها إلى انتصاف النهار ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن و لا يزال ذلك دأبها و اسمها ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة، و كانت تسمى خرقاء مكة.

و قوله: ﴿تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى‏َ مِنْ أُمَّةٍأي تتخذون أيمانكم وسيلة للغدر و الخدعة و الخيانة تطيبون بها نفوس الناس ثم تخونون و تخدعونهم بنقضها، و إنما يفعلون ذلك لتكون أمة و هم الحالفون أربى و أزيد سهما من زخارف الدنيا من أمة و هم المحلوف لهم .

فالمراد بالدخل وسيلته من تسمية السبب باسم المسبب و ﴿أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌمفعول له بتقدير اللام، و الكلام نوع بيان لنقض اليمين أو لكونهم كالتي نقضت غزلها

 

 

 

 من بعد قوة أنكاثا و محصل المعنى أنكم كمثلها إذ تتخذون أيمانكم دخلا بينكم فتؤكدونها و تعقدونها ثم تخونون و تخدعون بنقضها و نكثها و الله ينهاكم عنه.

و ذكر بعضهم أن قوله: ﴿تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ إلخ، جملة استفهامية محذوفة الأداة و الاستفهام للإنكار.

و قوله: ﴿إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اَللَّهُ بِهِ إلخ، أي إن ذلك امتحان إلهي يمتحنكم به و أقسم ليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون فتعلمون عند ذلك ما حقيقة ما أنتم عليه اليوم من التكالب على الدنيا و سلوك سبيل الباطل لإماطة الحق و دحضه و يتبين لكم يومئذ من هو الضال و من هو المهتدي.

قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ شَاءَ اَللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ لَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلخ، لما انجر الكلام إلى ذكر اختلافهم عقب ذلك ببيان أن اختلافهم ليس بناقض للغرض الإلهي في خلقهم و لا أنهم معجزون له سبحانه و لو شاء لجعلهم أمة واحدة لا اختلاف بينهم و لكن الله سبحانه جعلهم مختلفين بالهداية و الإضلال فهدى قوما و أضل آخرين.

و ذلك أنه تعالى وضع سعادة الإنسان و شقاءه على أساس الاختيار و عرفهم الطاعة المفضية إلى غاية السعادة و المعصية المؤدية إلى غاية الشقاء فمن سلك مسلك المعصية و اجتاز للضلال جازاه الله ذلك، و من ركب سبيل الطاعة و اختار الهدى جازاه الله ذلك و سيسألهم جميعا عما عملوا و اختاروا.

و بما تقدم يظهر أن المراد بجعلهم أمة واحدة رفع الاختلاف من بينهم و حملهم على الهدى و السعادة، و بالإضلال و الهداية ما هو على سبيل المجازاة لا الضلال و الهدى الابتدائيان فإن الجميع على هدى فطري فالذي يشاء الله ضلاله فيضله هو من اختار المعصية على الطاعة من غير رجوع و لا ندم، و الذي شاء الله هداه فهداه هو من بقي على هداه الفطري و جرى على الطاعة أو تاب و رجع عن المعصية صراطا مستقيما و سنة إلهية و لن تجد لسنة الله تبديلا و لن تجد لسنة الله تحويلا.

و أن قوله: ﴿وَ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لدفع ما يسبق إلى الوهم أن استناد الضلال و الهدى إليه سبحانه يبطل تأثير اختيارهم في ذلك و تبطل بذلك الرسالة و تلغو

 

 

 

 الدعوة فأجيب بأن السؤال باق على حاله لما أن اختياركم لا يبطل بذلك بل الله سبحانه يمد لكم من الضلال و الهدى ما أنتم تختارونه بالركون إلى معصيته أو بالإقبال إلى طاعته.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا إلى آخر الآية، قال في المفردات: الصدود و الصد قد يكون انصرافا عن الشي‏ء و امتناعا نحو ﴿يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً و قد يكون صرفا و منعا نحو ﴿وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ اَلسَّبِيلِ انتهى.

و الآية نهي عن اتخاذ الأيمان دخلا بعد النهي عن أصل نقض الأيمان لأن لخصوص اتخاذها دخلا مفسدة مستقلة هي ملاك النهي غير المفسدة التي لأصل نقض الأيمان و قد أشار إلى مفسدة أصل النقض بقوله: ﴿وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اَللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إلخ، و يشير في هذه الآية إلى مفسدة اتخاذها دخلا بقوله: ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَ تَذُوقُوا اَلسُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ لَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.

و الملاكان كما هو ظاهر متغايران نعم أحدهما كالمقدمة للآخر كما أن نقض الأيمان كالمقدمة لاتخاذها دخلا فإن الإنسان إذا نقض اليمين لسبب من الأسباب لأول مرة هان عليه أمر النقض و مهد ذلك السبيل إلى النقض ثانيا و ثالثا و جعل الحلف ثم النقض وسيلة خدعة و خيانة فلا يلبث دون أن تكون حليف دغل و خدعة و خيانة و غرور و مكر و كيد و كذب و زور لا يبالي ما قال و ما فعل و يعود جرثومة فساد يفسد المجتمع الإنساني أينما توجه، و يقع في سبيل غير سبيل الله الذي خطته الفطرة السليمة.

و كيف كان فظاهر قوله: ﴿وَ لاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ نهي استقلالي عن الخدعة باليمين بعد النهي الضمني عنه في الآية السابقة، و قوله: ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا تفريع على المنهي عنه دون النهي أي يتفرع على اتخاذها دخلا أن تزل قدم بعد ثبوتها إلخ، و زلة القدم بعد ثبوتها مثل لنقض اليمين بعد العقد و التوكيد و الزوال عن الموقف الذي ارتكز فيه فإن ثبات الإنسان و استقامته على ما عزم عليه و اهتم به من كرائم الإنسانية و أصول فضائلها و عليه بناء الدين الإلهي، و حفظ اليمين على توكيده

 

 

 

قدم من الأقدام التي يتم بها هذا الأصل الوسيع، و كأنه لذلك جي‏ء بالقدم نكرة في قوله: ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ إلخ.

و قوله: ﴿وَ تَذُوقُوا اَلسُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ لَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ معطوف على قوله: ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ إلخ، و بيان نتيجته كما أنه بيان نتيجة و عاقبة لقوله: ﴿لاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً و بذلك يظهر أن قوله: ﴿بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ بمنزلة التفسير لقوله: ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا.

و المراد بالصدود عن سبيل الله الإعراض و الامتناع عن السنة الفطرية التي فطر الله الناس عليها و دعت الدعوة النبوية إليها من التزام الصدق و الاستقامة و رعاية العهود و المواثيق و الأيمان و التجنب عن الدغل و الخدعة و الخيانة و الكذب و الزور و الغرور.

و المراد بذوق السوء العذاب، و قوله: ﴿وَ لَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ حال عن فاعل ﴿تَذُوقُوا و يمكن أن يكون المراد بذوق السوء ما ينالهم من آثار الضلال السيئة في الدنيا، و قوله: ﴿وَ لَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ إخبارا عما يحل بهم في الآخرة هذا ما يستفاد من ظاهر الآية الكريمة.

فالمعنى: و لا تتخذوا أيمانكم وسيلة دخل بينكم حتى يؤديكم ذلك إلى الزوال عما ثبتم عليه و نقض ما أبرمتموه، و فيه إعراض عن سبيل الله الذي هو التزام الفطرة و التحرز عن الغدر و الخدعة و الخيانة و الدغل و بالجملة الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، و يؤديكم ذلك إلى أن تذوقوا السوء و الشقاء في حياتكم الدنيا و لكم عذاب عظيم في الأخرى.

و ذكر بعضهم: أن الآية مختصة بالنهي عن نقض بيعة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على ما استقرت عليه السنة في صدر الإسلام، و أن الآية نزلت في الذين بايعوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على نصرة الإسلام و أهله فنهاهم الله عن نقض تلك البيعة، و على هذا فالمراد بالصد عن سبيل الله صرف الناس و منعهم عن اتباع دين الله كما أن المراد بزلة قدم بعد ثبوتها الردة بعد الإسلام و الضلال بعد الرشد.

و فيه أن السياق لا يساعد على ذلك، و على تقدير التسليم خصوص المورد لا ينافي عموم الآية.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اَللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ اَللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قال في المفردات:، كل ما يحصل عوضا عن شي‏ء فهو ثمنه، انتهى.

و الظاهر أن الآية نهي عن نقض العهد بعد ما تقدم الأمر بالوفاء به اعتناء بشأنه كما جرى مثل ذلك في نقض الأيمان، و الآية مطلقة، و المراد بعهد الله العهد الذي عوهد به الله مطلقا، و المراد بالاشتراء به ثمنا قليلا بقرينة ذيل الآية أن يبدل العهد من شي‏ء من حطام الدنيا فينقض لنيله فسمى المبدل منه ثمنا لأنه عوض كما تقدم، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ مَا عِنْدَ اَللَّهِ بَاقٍ في مقام التعليل لقوله في الآية السابقة﴿ إِنَّمَا عِنْدَ اَللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ و قد وجهه بأن الذي عندكم أي في الحياة الدنيا التي هي حياة مادية قائمة على أساس التبدل و التحول منعوتة بنعت الحركة و التغير زائل نافد، و ما عند الله سبحانه مما يعد المتقين منكم باق لا يزول و لا يفنى و الباقي خير من النافد بصريح حكم العقل.

و اعلم أن قوله: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ مَا عِنْدَ اَللَّهِ بَاقٍ على ما في لفظه من الإطلاق قاعدة كلية غير منقوضة باستثناء، تحتها جزئيات كثيرة من المعارف الحقيقية.

قوله تعالى: ﴿وَ لَنَجْزِيَنَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لما كان الوفاء بالعهد مستلزما للصبر على مر مخالفة هوى النفس في نقضه و الاسترسال فيما تشتهيه، صرف الكلام عن ذكر أجر خصوص الموفين بالعهد إلى ذكر أجر مطلق الصابرين في جنب الله.

فقوله: ﴿وَ لَنَجْزِيَنَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ وعد مؤكد على مطلق الصبر سواء كان صبرا على الطاعة أو عن المعصية أو عند المصيبة غير أنه يجب أن يكون صبرا في جنب الله و لوجه الله فإن السياق لا يساعد على غيره.

و قوله: ﴿بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ الباء للمقابلة كما في قولنا: بعت هذا بهذا، و ليس المراد بأحسن ما كانوا يعملون الأحسن من أعمالهم في مقابل الحسن منها بأن يميز الله سبحانه بين أعمالهم الحسنة فيقسمها إلى حسن و أحسن ثم يجزيهم بأحسنها و يلغي الحسن كما ذكره بعضهم فإن المقام لا يؤيده، و آيات الجزاء تنفيه و الرحمة الواسعة الإلهية تأباه.

 

 

 

 و ليس المراد به الواجبات و المستحبات من أعمالهم قبال المباحات التي أتوا بها فإنها لا تخلو من حسن كما ذكره آخرون.

فإن الكلام ظاهر في أن المراد بيان الأجر على الأعمال المأتي بها في ظرف الصبر مما يرتبط به ارتباطا، و واضح أن المباحات التي يأتي بها الصابر في الله لا ارتباط لها بصبره فلا وجه لاعتبارها بين الأعمال ثم اختيار الأحسن من بينها.

على أنه لا مطمع لعبد في أن يثيبه الله على ما أتى به من المباحات حتى يبين له أن الثواب في مقابل ما أتى به من الواجبات و المستحبات التي هي أحسن مما أتى به من المباحات فيكون ذكر الحسن مستدركا زائدا.

و من هنا يظهر أن ليس المراد به النوافل بناء على عدم الإلزام فيها فتكون أحسن ما عمل فإن كون الواجب مشتملا من المصلحة الموجبة للحسن على أزيد من النقل معلوم من الخطابات التشريعية بحيث لا يرتاب فيه.

بل المراد بذلك أن العمل الذي يأتون به و له في نوعه ما هو حسن و ما هو أحسن فالله سبحانه يجزيه من الأجر على ما أتى به ما هو أجر الفرد الأحسن من نوعه فالصلاة التي يصليها الصابر في الله يجزيه الله سبحانه لها أجر الفرد الأحسن من الصلاة و إن كانت ما صلاها غير أحسن و بالحقيقة يستدعي الصبر أن لا يناقش في العمل و لا يحاسب ما هو عليه من الخصوصيات المقتضية لخسته و رداءته كما يفيده قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى اَلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ.

و يستفاد من الآية أن الصبر في الله يوجب كمال العمل و في قوله: ﴿وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْإلخ، التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير كما قيل، و الذي أظنه أنه رجوع إلى السياق السابق في الآيات و كان سياق التكلم مع الغير، و إنما الالتفات في قوله تعالى قبل بضع آيات: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسَانِ و الوجه فيه أن هذه الآية و ما بعدها من الآيات المسرودة إلى هذه الغاية مشتملة على عدة من الأوامر و النواهي الإلهية، و الأنسب بالأمر و النهي أن يستندا إلى أعظم مقامات مصدرهما و أقواها ليتأيدا بذلك، و هذه صناعة معمولة في المحاورات فيقال: إن الملك يأمر بكذا و إن مولاك يقول لك كذا، و لا يقال: فلان بن فلان يأمر أو يقول.

 

 

 

 فكان من الأنسب أن يسند هذه التكاليف إلى مقام الجلالة، و يقال بالالتفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسَانِ إلخ. و لذلك استمر السياق على هذا النسق في التكاليف التالية أيضا فقيل: ﴿وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اَللَّهِ إلخ، ﴿إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اَللَّهُ إلخ، ﴿وَ لَوْ شَاءَ اَللَّهُ إلخ، ﴿وَ لاَ تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اَللَّهِ إلخ، ﴿وَ مَا عِنْدَ اَللَّهِ بَاقٍ.

ثم رجع إلى السياق السابق و هو التكلم مع الغير فقال: ﴿وَ لَنَجْزِيَنَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا و جرى على ذلك حتى إذا بلغ قوله: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ اَلْقُرْآنَو هو حكم التفت ثانيا فقال: ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ و أحسن ما يجلي المعنى الذي ذكرناه قوله تعالى بعده:

﴿وَ إِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَ اَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ حيث جمع بين الأمرين فأسند تبديل آية مكان آية إلى ضمير التكلم و الأعلمية إلى الله عز اسمه.

قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏َ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً إلى آخر الآية. وعد جميل للمؤمنين إن عملوا عملا صالحا و بشرى للإناث أن الله لا يفرق بينهن و بين الذكور في قبول إيمانهن و لا أثر عملهن الصالح الذي هو الإحياء بحياة طيبة و الأجر بأحسن العمل على الرغم مما بنى عليه أكثر الوثنية و أهل الكتاب من اليهود و النصارى من حرمان المرأة من كل مزية دينية أو جلها و حط مرتبتها من مرتبة الرجل و وضعها وضعا لا يقبل الرفع البتة.

فقوله: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏َ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ﴾ حكم كلي من قبيل ضرب القاعدة لمن عمل صالحا أي من كان و قد قيده بكونه مؤمنا و هو في معنى الاشتراط فإن العمل ممن ليس مؤمنا حابط لا يترتب عليه أثر، كما قال تعالى: ﴿وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ: المائدة: ٥، و قال: ﴿وَ حَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَ بَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ: هود: ١٦.

و قوله: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةًالإحياء إلقاء الحياة في الشي‏ء و إفاضتها عليه فالجملة بلفظها دالة على أن الله سبحانه يكرم المؤمن الذي يعمل صالحا بحياة جديدة غير ما يشاركه سائر الناس من الحياة العامة، و ليس المراد به تغيير صفة الحياة فيه و تبديل الخبيثة من الطيبة مع بقاء أصل الحياة على ما كانت عليه، و لو كان كذلك

 

 

 

 لقيل: فلنطيبن حياته.

فالآية نظيرة قوله: ﴿أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ: الأنعام: ١٢٢، و تفيد ما يفيده من تكوين حياة ابتدائية جديدة.

و ليس من التسمية المجازية لأن الآيات المتعرضة لهذا الشأن ترتب عليه آثار الحياة الحقيقية كقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلْإِيمَانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ: المجادلة:

 ٢٢، و كقوله في آية الأنعام المنقولة آنفا: ﴿وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ فإن المراد بهذا النور العلم الذي يهتدي به الإنسان إلى الحق في الاعتقاد و العمل قطعا.

و كما أن له من العلم و الإدراك ما ليس لغيره كذلك له من موهبة القدرة على إحياء الحق و إماطة الباطل ما ليس لغيره، و قد قال سبحانه: ﴿وَ كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ: الروم: ٤٧، و قال: ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ عَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ: المائدة: ٦٩.

و هذا العلم و القدرة الحديثان يمهدان له أن يرى الأشياء على ما هي عليها فيقسمها قسمين حق باق و باطل فان، فيعرض بقلبه عن الباطل الفاني الذي هو الحياة الدنيا بزخارفها الغارة الفتانة و يعتز بعزة الله فلا يستذله الشيطان بوساوسه و لا النفس بأهوائها و هوساتها و لا الدنيا بزهرتها لما يشاهد من بطلان أمتعتها و فناء نعمتها.

و يتعلق قلبه بربه الحق الذي هو يحق كل حق بكلماته فلا يريد إلا وجهه و لا يحب إلا قربه و لا يخاف إلا سخطه و بعده، يرى لنفسه حياة طاهرة دائمة مخلدة لا يدبر أمرها إلا ربه الغفور الودود، و لا يواجهها في طول مسيرها إلا الحسن الجميل فقد أحسن كل شي‏ء خلقه، و لا قبيح إلا ما قبحه الله من معصيته.

فهذا الإنسان يجد في نفسه من البهاء و الكمال و القوة و العزة و اللذة و السرور ما لا يقدر بقدر، و كيف لا؟ و هو مستغرق في حياة دائمة لا زوال لها و نعمة باقية لا نفاد لها و لا ألم فيها و لا كدورة تكدرها، و خير و سعادة لا شقاء معها، هذا ما يؤيده الاعتبار و ينطق به آيات كثيرة من القرآن لا حاجة إلى إيرادها على كثرتها.

فهذه آثار حيوية لا تترتب إلا على حياة حقيقية غير مجازية، و قد رتبها الله

 

 

 

سبحانه على هذه الحياة التي يذكرها و يخصها بالذين آمنوا و عملوا الصالحات فهي حياة حقيقية جديدة يفيضها الله سبحانه عليهم.

و ليست هذه الحياة الجديدة المختصة بمنفصلة عن الحياة القديمة المشتركة و إن كانت غيرها فإنما الاختلاف بالمراتب لا بالعدد فلا يتعدد بها الإنسان، كما أن الروح القدسية التي يذكرها الله سبحانه للأنبياء لا توجب لهم إلا ارتفاع الدرجة دون تعدد الشخصية.

هذا ما يعطيه التدبر في الآية الكريمة و هو حقيقة قرآنية و به يظهر وجه توصيفها بالطيب في قوله: ﴿حَيَاةً طَيِّبَةً كأنها - كما اتضح - حياة خالصة لا خبث فيها يفسدها في نفسها أو في أثرها.

و للمفسرين في الآية وجوه من التفسير:

منها: أن الحياة الطيبة هي الحياة التي تكون في الجنة فلا موت فيها و لا فقر و لا سقم و لا أي شقاء آخر.

و منها: أنها الحياة التي تكون في البرزخ و لعل التخصيص من حمل ذيل الآية على جنة الآخرة.

و منها: أنها الحياة الدنيوية المقارنة للقناعة و الرضا بما قسم الله سبحانه فإنها أطيب الحياة.

و منها: أنها الرزق الحلال إذ لا عقاب عليه.

و منها: أنها رزق يوم بيوم.

و وجوه المناقشة فيها لا تكاد تخفى على الباحث المتدبر فلا نطيل بإيرادها.

و قوله: ﴿وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ تقدم الكلام فيه في الآية السابقة، و في معنى الآية قوله تعالى: ﴿وَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏َ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ: المؤمن: ٤٠.

قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ اَلْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ اَلشَّيْطَانِ اَلرَّجِيمِالاستعاذة طلب المعاذ، و المعنى: إذا قرأت القرآن فاطلب منه تعالى ما دمت تقرؤه أن يعيذك من الشيطان الرجيم أن يغويك، فالاستعاذة المأمور بها حال نفس القارئ ما دام يقرأ و قد أمر أن يوجدها لنفسه ما دام يقرأ، و أما قول القارئ: أعوذ بالله من الشيطان

 

 

 

 الرجيم أو ما يشابهه من اللفظ فهو سبب لإيجاد معنى الاستعاذة في النفس و ليس بنفسها إلا بنوع من المجاز، و قد قال سبحانه: استعذ بالله، و لم يقل: قل أعوذ بالله.

و بذلك يظهر أن قول بعضهم: إن المراد بالقراءة إرادتها فهي مجاز مرسل من قبيل إطلاق المسبب و إرادة السبب لا يخلو عن تساهل.

قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى‏َ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ في مقام التعليل للأمر الوارد في الآية السابقة أي استعذ بالله حين القراءة ليعيذك منه لأنه ليس له سلطان على من آمن بالله و توكل عليه.

و يظهر من الآية أولا: أن الاستعاذة بالله توكل عليه فإنه سبحانه بدل الاستعاذة في التعليل من التوكل و نفى سلطانه عن المتوكلين.

و ثانيا: أن الإيمان و التوكل ملاك صدق العبودية كقوله تعالى لإبليس: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ: الحجر: ٤٢، فنفى سلطانه عن عباده و قد بدل العباد في هذه الآية من الذين آمنوا و على ربهم يتوكلون، و الاعتبار يساعد عليه فإن التوكل و هو إلقاء زمام التصرف في أمور نفسه إلى غيره و التسليم لما يؤثره له منها أخص آثار العبودية.

قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ضمائر الإفراد الثلاثة للشيطان أي ينحصر سلطان الشيطان في الذين يتخذونه وليا لهم يدبر أمورهم كما يريد، و هم يطيعونه، و في الذين يشركون به إذ يتخذونه وليا من دون الله و ربا مطاعا غيره فإن الطاعة عبادة كما يشير إليه قوله: ﴿أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا اَلشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَ أَنِ اُعْبُدُونِي: يس: ٦١.

و بذلك يظهر أولا: أن ذيل الآية يفسر صدرها، و أن تولي من لم يأذن الله في توليه شرك بالله و عبادة لغيره.

و ثانيا: أن لا واسطة بين التوكل على الله، و تولي الشيطان و عبادته، فمن لم يتوكل على الله فهو من أولياء الشيطان.

و ربما قيل: إن ضمير الإفراد في قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ راجع إليه

 

 

 

 تعالى، و تفيد الآية حينئذ أن سلطانه على طائفتين: المشركين و الذين يتولونه من الموحدين هذا: و لزوم اختلاف الضمائر يدفعه.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَ اَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ إشارة إلى النسخ و حكمته، و جواب عما اتهموه (ص) به من الافتراء على الله، و الظاهر من سياق الآيات أن القائلين هم المشركون و إن كانت اليهود هم المتصلبين في نفي النسخ و من المحتمل أن تكون الكلمة مما تلقفه المشركون من اليهود فكثيرا ما كانوا يراجعونهم في أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).

و قوله: ﴿وَ إِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ قال في المفردات:، الإبدال و التبديل و التبدل و الاستبدال‏ جعل شي‏ء مكان آخر، و هو أعم من العوض فإن العوض هو أن يصير لك الثاني بإعطاء الأول، و التبديل قد يقال للتغيير مطلقا و إن لم يأت ببدله قال تعالى:

﴿فَبَدَّلَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ اَلَّذِي قِيلَ لَهُمْإلى أن قال و قال تعالى: ﴿فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ﴾﴿وَ إِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ و ﴿بَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ﴾﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ اَلسَّيِّئَةِ اَلْحَسَنَةَ انتهى موضع الحاجة.

فالتبديل بمعنى التغيير يخالف التبديل بمعناه المعروف في أن مفعوله الأول هو المأخوذ و المطلوب بخلافه بالمعنى المعروف فمعنى قوله: ﴿وَ إِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ معناه وضعنا الآية الثانية مكان الأولى بالتغيير فكانت الثانية المبدلة هي الباقية المطلوبة.

و قوله: ﴿وَ اَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ كناية عن أن الحق لم يتعد مورده و أن الذين أنزله هو الحقيق بأن ينزل فإن الله أعلم به منهم، و الجملة حالية.

و قوله: ﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ القول للمشركين يخاطبون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و يتهمونه بأنه يفتري على الله الكذب فإن تبديل قول مكان قول، و الثبات على رأي ثم العدول عنه مما يتنزه عنه ساحة رب العزة.

و قد بالغوا في قولهم إذ لم يقولوا: افتريت في هذه التبديل و النسخ بل قالوا:

﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ فقصروه (ص) في الافتراء، و أتوا بالجملة الاسمية و سموه مفتريا، و قد بنوا ذلك على أن ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من سنخ واحد و هو يسند الجميع إلى ربه و يقول: إنما أنا نذير فإذا كان مفتريا في واحد كان مفتريا في الجميع فليس إلا مفتريا.

 

 

 

 و قوله: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أي أكثر هؤلاء المشركين الذين يتهمونك بقولهم: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ لا يعلمون حقيقة هذا التبديل و الحكمة المؤدية إليه على ما سينكشف في الجواب أن الأحكام الإلهية تابعة لمصالح العباد و من المصالح ما يتغير بتغير الأوضاع و الأحوال و الأزمنة فمن الواجب أن يتغير الحكم بتغير مصلحته فينسخ الحكم الذي ارتفعت مصلحته الموجبة له بحكم آخر حدثت مصلحته.

فأكثر هؤلاء غافلون عن هذا الأمر و أما الأقل منهم فهم واقفون على حقيقة الأمر و لو إجمالا غير أنهم مستكبرون على الحق معاندون له و إنما يلقون القول إلقاء من غير رعاية جانب الحق.

قوله تعالى: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ اَلْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى‏َ لِلْمُسْلِمِينَ قد تقدمت في أول السورة إشارة إلى معنى الروح، و القدس الطهارة و النزاهة و الظاهر أن الإضافة للاختصاص أي روح طاهرة عن قذارات المادة نزيهة عن الخطإ و الغلط و الضلال، و هو المسمى في موضع آخر من كلامه تعالى بالروح الأمين، و في موضع آخر بجبريل من الملائكة قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ عَلى‏َ قَلْبِكَ: الشعراء: ١٩٤، و قال: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى‏َ قَلْبِكَ : البقرة: ٩٧.

فقوله: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ اَلْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ أمر بالجواب و الأسبق إلى الذهن أن يكون الضمير راجعا إلى القرآن من جهة كونه ناسخا أي الآية الناسخة، و يمكن أن يكون راجعا إلى مطلق القرآن، و في التعبير بالتنزيل دون الإنزال إشارة إلى التدريج.

و كان من طبع الكلام أن يقال: من ربي لكن عدل عنه إلى قوله: ﴿مِنْ رَبِّكَ للدلالة على كمال العناية و الرحمة في حقه (ص) كأنه لا يرضى بانقطاع خطابه فيغتنم الفرصة لتكليمه أينما أمكن، و ليدل على أن المراد بالقول المأمور به إخبارهم بذلك لا مجرد التلفظ بهذه الألفاظ فافهم.

و قوله: ﴿لِيُثَبِّتَ اَلَّذِينَ آمَنُواالتثبيت‏ تحكيم الثبات و تأكيده بإلقاء الثبات بعد الثبات عليهم كأنهم بأصل إيمانهم بالله و رسوله و اليوم الآخر ثبتوا على الحق و بتجدد الحكم حسب تجدد المصلحة يؤتون ثباتا على ثبات من غير أن يضعف ثباتهم الأول بالمضي

 

 

 

 على أعمال لا تطابق مصلحة الوقت فإن من الواضح أن من أمر بسلوك سبيل لمصلحة غاية فأخذ بسلوكه عن إيمان بالأمر الهادي فقطع قطعة منه على حسب ما يأمره به رعاية لمصلحة الغاية بسرعة أو بطء أو في ليل أو نهار ثم تغير نحو المصلحة فلو لم يغير الأمر الهادي نحو السلوك و استمر على أمره السابق لضعف إيمان السالك و انسلب أركانه لكن لو أمر بنحو جديد من السلوك يوافق المصلحة و يضمن السعادة زاد إيمانه ثباتا على ثبات.

ففي تنزيل القرآن بالنسخ و تجديد الحكم حسب تجدد المصلحة تثبيت للذين آمنوا و إعطاء لهم ثباتا على ثبات.

و قوله: ﴿وَ هُدىً وَ بُشْرى‏َ لِلْمُسْلِمِينَ و هم الذين يسلمون الحكم لله من غير اعتراض فالآية الناسخة بالنسبة إليهم إراءة طريق و بشارة بالسعادة و الجنة.

و تفريق الآثار بتخصيص التثبيت بالمؤمنين و الهدى و البشرى بالمسلمين إنما هو لما بين الإيمان و الإسلام من الفرق فالإيمان للقلب و نصيبه التثبت في العلم و الإذعان و الإسلام في ظاهر العمل و مرحلة الجوارح و نصيبها الاهتداء إلى واجب العمل، و البشرى بأن الغاية هي الجنة و السعادة.

و قد مر بعض الكلام في النسخ في تفسير قوله تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا: البقرة: ١٠٦ في الجزء الأول من الكتاب.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ افتراء آخر منهم على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو قولهم: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ و هو كما يلوح إليه سياق اعتراضهم و ما ورد في الجواب عنه أنه كان هناك رجل أعجمي غير فصيح في منطقه عنده شي‏ء من معارف الأديان و أحاديث النبوة ربما لاقاه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فاتهموه بأنه يأخذ ما يدعيه وحيا منه و الرجل هو الذي يعلمه و هو الذي حكاه الله تعالى من قولهم: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ و في القول إيجاز، و تقديره: إنما يعلمه بشر و ينسب ما تعلمه منه إلى الله افتراء عليه، و هو ظاهر.

و من المعلوم أن الجواب عنه بمجرد أن لسان الرجل أعجمي و القرآن عربي مبين لا يحسم مادة الشبهة من أصلها لجواز أن يلقي إليه المطالب بلسانه الأعجمي ثم يسبكها

 

 

 

 هو (ص) ببلاغة منطقه في قالب العربية الفصيحة بل هذا هو الأسبق إلى الذهن من قولهم: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ حيث عبروا عن ذلك بالتعليم دون التلقين و الإملاء، و التعليم أقرب إلى المعاني منه إلى الألفاظ.

و بذلك يظهر أن قوله: ﴿لِسَانُ اَلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ إلى قوله ﴿مُبِينٌ ليس وحده جوابا عن شبهتهم بل ما يتلوه من الكلام إلى تمام آيتين من تمام الجواب.

و ملخص الجواب مأخوذ من جميع الآيات الثلاث أن ما اتهمتموه به أن بشرا يعلمه ثم هو ينسبه إلى الله افتراء إن أردتم أنه يعلمه القرآن بلفظه بالتلقين عليه و أن القرآن كلامه لا كلام الله فجوابه أن هذا الرجل لسانه أعجمي و هذا القرآن عربي مبين.

و إن أردتم أن الرجل يعلمه معاني القرآن و اللفظ لا محالة للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو ينسبه إلى الله افتراء عليه فالجواب عنه أن الذي يتضمنه القرآن معارف حقة لا يرتاب ذو لب فيها و تضطر العقول إلى قبولها قد هدى الله النبي إليها فهو مؤمن بآيات الله إذ لو لم يكن مؤمنا لم يهده الله و الله لا يهدي من لا يؤمن بآياته و إذ كان مؤمنا بآيات الله فهو لا يفتري على الله الكذب فإنه لا يفتري عليه إلا من لا يؤمن بآياته، فليس هذا القرآن بمفترى، و لا مأخوذا من بشر و منسوبا إلى الله سبحانه كذبا.

فقوله: ﴿لِسَانُ اَلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ جواب عن أول شقي الشبهة و هو أن يكون القرآن بلفظه مأخوذا من بشر على نحو التلقين، و المعنى: أن لسان الرجل الذي يلحدون أي يميلون إليه و ينوونه بقولهم: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ أعجمي أي غير فصيح بين و هذا القرآن المتلو عليكم لسان عربي مبين و كيف يتصور صدور بيان عربي بليغ من رجل أعجمي اللسان.

و قوله: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ إلى آخر الآيتين جواب عن ثاني شقي الشبهة و هو أن يتعلم منه المعاني ثم ينسبها إلى الله افتراء.

و المعنى: إن الذين لا يؤمنون بآيات الله و يكفرون بها لا يهديهم الله إليه و إلى معارفه الحقة الظاهرة و لهم عذاب أليم، و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مؤمن بآيات الله لأنه مهدي بهداية الله، و إنما يفتري الكذب و ينسبه إلى الله الذين لا يؤمنون بآيات الله و أولئك هم الكاذبون المستمرون على الكذب، و أما مثل النبي المؤمن بآيات الله فإنه لا

 

 

 

يفتري الكذب و لا يكذب فالآيتان كنايتان عن أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مهدي بهداية الله مؤمن بآياته و مثله لا يفتري و لا يكذب.

و المفسرون قطعوا الآيتين عن الآية الأولى و جعلوا الآية الأولى هي الجواب الكامل عن الشبهة و قد عرفت أنها لا تفي بتمام الجواب.

ثم حملوا قوله: ﴿وَ هَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ على التحدي بإعجاز القرآن في بلاغته، و أنت تعلم أن لا خبر في لفظ الآية عن أن القرآن معجز في بلاغته و لا أثر عن التحدي، و نهاية ما فيه أنه عربي مبين لا وجه لأن يفصح عنه و يلفظه أعجمي.

ثم حملوا الآيتين التاليتين على تهديد أولئك الكفرة بآيات الله الرامين لرسوله (ص) بالافتراء، و وعيدهم بالعذاب الأليم، و قلب الافتراء و الكذب إليهم بأنهم أولى بالافتراء و الكذب بما أنهم لا يؤمنون بآيات الله فإن الله لم يهدهم.

ثم تكلموا بالبناء عليه في مفردات الآيتين بما يزيد في الابتعاد عن حق المعنى.

و قد عرفت أن ذلك يؤدي إلى عدم كفاية الجواب في حسم الإشكال من أصله.

 في الدر المنثور، أخرج أحمد عن عثمان بن أبي العاصي قال :كنت عند رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) جالسا إذ شخص بصره فقال: أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من السورة: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسَانِ إلى قوله ﴿تَذَكَّرُونَ.

أقول: و رواه أيضا عن ابن عباس عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه. و في المجمع، و جاءت الرواية أن عثمان بن مظعون قال :كنت أسلمت استحياء من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لكثرة ما كان يعرض علي الإسلام و لم يقر الإسلام في قلبي فكنت ذات يوم عنده حال تأمله فشخص بصره نحو السماء كأنه يستفهم شيئا فلما سري عنه سألته عن حاله فقال: نعم بينا أنا أحدثك إذ رأيت جبرائيل في الهواء فأتاني بهذه الآية: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسَانِ فقرأها علي إلى آخرها فقر الإسلام في قلبي.

و أتيت عمه أبا طالب فأخبرته فقال: يا آل قريش اتبعوا محمدا ترشدوا فإنه لا

 

 

 

 يأمركم إلا بمكارم الأخلاق، و أتيت الوليد بن المغيرة و قرأت عليه هذه الآية فقال:

إن كان محمد قاله فنعم ما قال، و إن قاله ربه فنعم ما قال. قال: فأنزل الله:

﴿أَ فَرَأَيْتَ اَلَّذِي تَوَلَّى وَ أَعْطىَ قَلِيلاً وَ أَكْدىَ الحديث.

 و فيه، عن عكرمة قال :إن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قرأ هذه الآية على الوليد بن المغيرة فقال: يا بن أخي أعد فأعاد فقال: إن له لحلاوة و إن له لطلاوة و إن أعلاه لمثمر و إن أسفله لمعذق و ما هو قول البشر. و في تفسير القمي، بإسناده عن إسماعيل بن مسلم عن الصادق (عليه السلام): في الآية:

ليس لله في عباده أمر إلا العدل و الإحسان.

 و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن عمرو بن عثمان قال" :خرج علي (عليه السلام) على أصحابه و هم يتذاكرون المروءة فقال: أين أنتم من كتاب الله؟ قالوا يا أمير المؤمنين في أي موضع؟ فقال: في قوله عز و جل: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسَانِ فالعدل الإنصاف و الإحسان التفضل.

أقول: و رواه العياشي عن عمرو بن عثمان العاصي عنه (عليه السلام)، و رواه في الدر المنثور، عن ابن النجار في تاريخه من طريق العكلي عن أبيه عنه (عليه السلام) و لفظه: مر علي بن أبي طالب بقوم يتحدثون فقال: فيم أنتم؟ فقالوا: نتذاكر المروءة، فقال: أ و ما كفاكم الله عز و جل ذاك في كتابه إذ يقول الله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسَانِ فالعدل الإنصاف و الإحسان التفضل. أقول: و قد ورد في عدة روايات تفسير العدل بالتوحيد أو بالشهادتين و تفسير الإحسان بالولاية: و في أخرى إرجاع تحريم نقض العهد بوجوب الثبات على الولاية.

 و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثىَ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً الآية، قال: قال (عليه السلام): القنوع.

 و في المعاني، بإسناده عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قيل له: إن أبا الخطاب يذكر عنك أنك قلت: إذا عرفت الحق فاعمل بما شئت، فقال: لعن الله أبا الخطاب و الله ما قلت هكذا و لكني قلت له: إذا عرفت الحق فاعمل ما شئت من خير يقبل منك إن الله عز و جل يقول: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ

 

 

 

 ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏َ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ و يقول:

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثىَ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً. أقول: و هو ما قدمناه في معنى الآية.

 و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ اَلْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إلى قوله ﴿يَتَوَكَّلُونَ فقال: يا محمد يسلط و الله من المؤمن على بدنه و لا يسلط على دينه قد سلط على أيوب فشوه خلقه و لم يسلط على دينه، و قد يسلط من المؤمنين على أبدانهم و لا يسلط على دينهم.

قلت له: قوله عز و جل‏﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ قال: الذين هم بالله مشركون يسلط على أبدانهم و على أديانهم.

أقول: و رواه العياشي عن أبي بصير عنه (عليه السلام) و إرجاع ضمير ﴿بِهِ إلى الله أحد المعنيين في الآية.

 و في الدر المنثور، أخرج الحاكم و صححه و البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس :في قوله: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ قال: قالوا: إنما يعلم محمدا عبدة بن الحضرمي و هو صاحب الكتب، فقال الله: ﴿لِسَانُ اَلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ

  و في تفسير العياشي، عن محمد بن عزامة الصيرفي عمن أخبره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله عز و جل خلق روح القدس فلم يخلق خلقا أقرب إلى الله منها و ليست بأكرم خلقه عليه، فإذا أراد أمرا ألقاه إليها فألقاه إلى النجوم فجرت به قوله تعالى[1] ﴿وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ اَلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ و هو لسان أبي فكيهة مولى بني الحضرمي كان «أعجمي» اللسان و كان قد اتبع نبي الله و آمن به، و كان من أهل الكتاب فقالت قريش: هذا و الله يعلم محمدا علمه بلسانه، يقول الله: ﴿وَ هَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ.

(بحث روائي)

 أقول: و الروايات في هذا الرجل مختلفة ففي هذه الرواية أنه أبو فكيهة مولى بني الحضرمي، و في الرواية السابقة أنه عبدة بن الحضرمي، و عن قتادة أنه عبدة بن الحضرمي و كان يسمى مقيص، و عن السدي أنه كان عبدا لبني الحضرمي نصرانيا، كان قد قرأ التوراة و الإنجيل يقال له أبو بشر، و عن مجاهد أنه ابن الحضرمي كان أعجميا يتكلم بالرومية، و عن ابن عباس أيضا في رواية أنه كان قينا بمكة اسمه بلعام و كان عجمي اللسان فكان المشركون يرون رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يدخل عليه و يخرج من عنده فقالوا: إنما يعلمه بلعام.

و المتيقن من مضامينها أنه كان رجلا روميا مولى لبني الحضرمي يسكن مكة نصرانيا له خبرة بكتب أهل الكتاب رموه بأنه يعلم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).

 و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال: كانوا يقولون: إنما يعلمه سلمان الفارسي، فأنزل الله: ﴿لِسَانُ اَلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ. أقول: و هو لا يلائم كون الآية مكية.

 و فيه، أخرج ابن الخرائطي في مساوي الأخلاق و ابن عساكر في تاريخه عن عبد الله بن جراد :أنه سأل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : هل يزني المؤمن؟ قال: قد يكون ذلك، قال: هل يسرق المؤمن؟ قال: قد يكون ذلك، قال: هل يكذب المؤمن؟ قال: لا، ثم أتبعها نبي الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ‏﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي اَلْكَذِبَ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ

  و في تفسير العياشي، عن العباس بن الهلال عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام): أنه ذكر رجلا كذابا ثم قال: قال الله:

﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي اَلْكَذِبَ اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾.

[سورة النحل (١٦): الآیات ١٠٦ الی ١١١]

﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَ لَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اَللَّهِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ١٠٦ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اِسْتَحَبُّوا اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا عَلَى

 

 

 

﴿اَلْآخِرَةِ وَ أَنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكَافِرِينَ ١٠٧أُولَئِكَ اَلَّذِينَ طَبَعَ اَللَّهُ عَلىَ قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصَارِهِمْ وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْغَافِلُونَ ١٠٨لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ هُمُ اَلْخَاسِرُونَ ١٠٩ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ١١٠يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ١١١

(بيان)

في الآيات وعيد على الكفر بعد الإيمان و هو الارتداد و وعد جميل للمهاجرين من بعد ما فتنوا المجاهدين الصابرين في الله، و فيها تعرض لحكم التقية.

قوله تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَالاطمئنان‏ السكون و الاستقرار، و الشرح‏ البسط، قال في المفردات: أصل الشرح‏ بسط اللحم و نحوه، يقال: شرحت اللحم و شرحته، و منه شرح الصدر أي بسطه بنور إلهي و سكينة من جهة الله و روح منه، قال تعالى‏﴿رَبِّ اِشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾﴿أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾﴿أَ فَمَنْ شَرَحَ اَللَّهُ صَدْرَهُ و شرح المشكل من الكلام بسطه و إظهار ما يخفى من معانيه. انتهى.

و قوله: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ شرط جوابه قوله: ﴿فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اَللَّهِ و عطف عليه قوله: ﴿وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ و ضمير الجمع في الجزاء عائد إلى اسم الشرط ﴿مَنْ لكونه بحسب المعنى كليا ذا أفراد.

و قوله: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ استثناء من عموم الشرط و المراد ـ

 

 

 

بالإكراه الإجبار على كلمة الكفر و التظاهر به فإن القلب لا يقبل الإكراه و المراد أستثني من أكره على الكفر بعد الإيمان فكفر في الظاهر و قلبه مطمئن بالإيمان.

و قوله: ﴿وَ لَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً أي بسط صدره للكفر فقبله قبول رضى و وعاه، و الجملة استدراك من الاستثناء فيعود إلى معنى المستثنى منه فإن المعنى ما أريد بقولي: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان و لكن أريد به من شرح بالكفر صدرا، و في مجموع الاستثناء و الاستدراك بيان كامل للشرط، و هذه هي النكتة لاعتراض الاستثناء بين الشرط و الجزاء و عدم تأخيره إلى أن تتم الشرطية.

و قيل: قوله: ﴿مَنْ كَفَرَ بدل من ﴿اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اَللَّهِ في الآية السابقة، و قوله: ﴿وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْكَاذِبُونَ جملة معترضة، و قوله: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَاستثناء من ذلك و قوله: ﴿وَ لَكِنْ مَنْ شَرَحَ مبتدأ خبره أو القائم مقام خبره قوله:

﴿فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اَللَّهِ.

و المعنى على هذا إنما يفتري الكذب الذين كفروا من بعد إيمانهم إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان و عند ذلك تم الكلام ثم بدأ فقال: و لكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله.

و الذوق السليم يكفي مئونة هذا الوجه على ما به من السخافة.

قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اِسْتَحَبُّوا اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا عَلَى اَلْآخِرَةِ وَ أَنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكَافِرِينَ بيان لسبب حلول غضب الله بهم و ثبوت العذاب العظيم عليهم و هو أنهم اختاروا الحياة الدنيا و هي الحياة المادية التي لا غاية لها إلا التمتع الحيواني و الاشتغال بمشتهيات النفس على الآخرة التي هي حياة دائمة مؤبدة في جوار رب العالمين و هي غاية الحياة الإنسانية.

و بعبارة أخرى هؤلاء لم يريدوا إلا الدنيا و انقطعوا عن الآخرة و كفروا بها و الله لا يهدي القوم الكافرين و إذ لم يهدهم الله ضلوا عن طريق السعادة و الجنة و الرضوان فوقعوا في غضب من الله و عذاب عظيم.

قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ اَلَّذِينَ طَبَعَ اَللَّهُ عَلىَ قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصَارِهِمْ وَ أُولَئِكَ

 

 

 

 هُمُ اَلْغَافِلُونَ إشارة إلى أن اختيار الحياة الدنيا على الآخرة و الحرمان من هداية الله سبحانه هو الوصف الذي يوصف به الذين طبع الله على قلوبهم و سمعهم و أبصارهم و الذين يسمون غافلين.

فإنهم باختيارهم الحياة الدنيا غاية لأنفسهم و حرمانهم من الاهتداء إلى الأخرى انقطعوا عن الآخرة و تعلقوا بالدنيا و جعلوها غاية لأنفسهم فوقف حسهم و عقلهم فيها دون أن يتعدياها إلى ما وراءها و هو الآخرة فليسوا يبصرون ما يعتبرون به و لا يسمعون عظة يتعظون بها و لا يعقلون حجة يهتدون بها إلى الآخرة.

فهم مطبوع على قلوبهم و سمعهم و أبصارهم فلا تنال قلوبهم و لا سمعهم و أبصارهم ما يدلهم على الآخرة، و هم غافلون عنها لا يتنبهون لشي‏ء من أمرها.

فظهر أن ما في الآية السابقة من الوصف بمنزلة المعرف لما في هذه الآية من الطبع و من الغفلة فعدم هداية الله إياهم إثر ما تعلقوا بالدنيا هو معنى الطبع و الغفلة، و الطبع صنع إلهي منسوب إليه تعالى فعله بهم مجازاة و الغفلة صفة منسوبة إليهم أنفسهم.

قوله تعالى: ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ هُمُ اَلْخَاسِرُونَ لأنهم ضيعوا رأس مالهم في الدنيا فبقوا لا زاد لهم يعيشون به في أخراهم، و قد وقع في نظير المقام من سورة هود: ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ هُمُ اَلْأَخْسَرُونَ: هود: ٢٢، و لعل وجه التشديد هناك أنه تعالى أضاف إلى صفاتهم هناك أنهم صدوا عن سبيل الله فراجع.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌالفتنة في الأصل إدخال الذهب النار ليظهر جودته ثم استعمل في مطلق البلاء و التعذيب، و قد كانت قريش و مشركو مكة يفتنون المؤمنين ليردوهم عن دينهم و يعذبونهم بأنواع العذاب حتى ربما كانوا يموتون تحت العذاب كما فتنوا عمارا و أباه و أمه فقتل أبواه و ارتد عمار ظاهرا فتفصى منهم بالتقية و في ذلك نزلت الآيات السابقة كما سيأتي إن شاء الله في البحث الروائي.

و من هنا يظهر أن للآية اتصالا بما قبلها من قوله: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ و هي في معنى قولنا: و بعد ذلك كله إن الله غفور رحيم للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا و صبروا.

 

 

 

 فقوله: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا وعد جميل للمهاجرين من بعد ما فتنوا بالمغفرة و الرحمة يوم القيامة قبال ما أوعد غيرهم بالخسران التام يومئذ و قد قيد ذلك بالجهاد و الصبر بعد المهاجرة.

و قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ بمنزلة تلخيص صدر الكلام لطوله ليلحق به ذيله، و يفيد فائدة التأكيد كقولنا: زيد في الدار زيد في الدار كذا و كذا، و يفيد أن لما ذكر من قيود الكلام دخلا في الحكم فالله سبحانه لا يرضى عنهم إلا أن يهاجروا و لا عن هجرتهم إلا أن يجاهدوا بعدها و يصبروا.

قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ إتيان النفس يوم القيامة كناية عن حضورها عند الملك الديان، كما قال:

﴿فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ: الصافات: ١٢٧ و الضمير في قوله: ﴿عَنْ نَفْسِهَا للنفس و لا ضير في إضافة النفس إلى ضمير النفس فإن النفس ربما يراد بها الشخص الإنساني كقوله:

﴿مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ: المائدة: ٢٢، و ربما يراد بها التأكيد و يتحد معناها بما تقدمها من المؤكد سواء كان إنسانا أو غيره، كما يقال: الإنسان نفسه و الفرس نفسه و الحجر نفسه و السواد نفسه، و يقال: نفس الإنسان و نفس الفرس و نفس الحجر و نفس السواد، و قوله: ﴿عَنْ نَفْسِهَا المراد فيه بالمضاف المعنى الثاني و بالمضاف إليه المعنى الأول، و قد دفع التعبير بالضمير بشاعة تكرار اللفظ بالإضافة، و في هذا المقدار كفاية عن الأبحاث الطويلة التي أوردها المفسرون.

و قوله: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا الظرف متعلق بقوله في الآية السابقة: ﴿لَغَفُورٌ رَحِيمٌ و مجادلة النفس عن نفسها دفاعها عن نفسها و قد نسيت كل شي‏ء وراء نفسها على خلاف ما كانت عليه في الدنيا من التعلق بكل شي‏ء دون نفسها بنسيانها و ليس ذلك إلا لظهور حقيقة الأمر عليها و هي أن الإنسان لا سبيل له إلى ما وراء نفسه، و ليس له في الحقيقة إلا أن يشتغل بنفسه.

فاليوم تأتي النفس و تحضر للحساب و هي تجادل و تصر على الدفاع عن نفسها بما تقدر عليه من الأعذار.

و قوله: ﴿وَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَالتوفية إعطاء الحق تاما

 

 

 

 من غير تنقيص، و قد علق التوفية على نفس العمل إذ قيل: ﴿مَا عَمِلَتْ فأفيد أن الذي أعطيته نفس العمل من غير أن يتصرف فيه بتغيير أو تعويض، و فيه كمال العدل حيث لم يضف إلى ما استحقته شي‏ء و لا نقص منه و لذلك عقبه بقوله: ﴿وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ففي الآية إشارة:

أولا: إلى أن نفسا لا تدافع يوم القيامة و لا تجادل عن غيرها بل إنما تشتغل بنفسها لا فراغ لها لغيرها كما قال: ﴿يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً: الدخان: ٤١، و قال: ﴿يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَ لاَ بَنُونَ: الشعراء: ٨٨، و قال: ﴿يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَ لاَ خُلَّةٌ وَ لاَ شَفَاعَةٌ: البقرة: ٢٥٤.

و ثانيا: إلى أن الجدال لا ينفعها في صرف ما استحقتها من الجزاء شيئا فإن الذي تجزاه هو عين ما عملت و لا سبيل إلى تغيير هذه النسبة و ليس من الظلم في شي‏ء.

(بحث روائي)

 في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عباس قال : لما أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يهاجر إلى المدينة قال لأصحابه: تفرقوا عني فمن كانت به قوة فليتأخر إلى آخر الليل و من لم تكن به قوة فليذهب في أول الليل فإذا سمعتم بي قد استقرت بي الأرض فالحقوا بي.

فأصبح بلال المؤذن و خباب و عمار و جارية من قريش كانت أسلمت فأصبحوا بمكة فأخذهم المشركون و أبو جهل فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى فجعلوا يضعون درعا من حديد في الشمس ثم يلبسونها إياه فإذا ألبسوها إياه قال أحد أحد، و أما خباب فجعلوا يجرونه في الشوك.

و أما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية، و أما الجارية فوتد لها أبو جهل أربعة أوتاد ثم مدها فأدخل الحربة في قلبها حتى قتلها ثم خلوا عن بلال و خباب و عمار فلحقوا برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأخبروه بالذي [كان‏] من أمرهم و اشتد على عمار الذي كان تكلم به فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): كيف كان قلبك حين قلت الذي قلت؟ أ كان منشرحا بالذي قلت أم لا؟ قال: لا قال و أنزل الله: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ.

 

 

 

أقول: و الجارية المذكورة في الرواية هي سمية أم عمار، و كان معهم ياسر أبو عمار، و قيل: و كان أبو عمار أول شهيدين في الإسلام، و قد استفاضت الروايات على قتلهما بالفتنة و إظهار عمار الكفر تقية و نزول الآية فيه.

 و فيه، أخرج عبد الرزاق و ابن سعد و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و الحاكم و صححه و البيهقي في الدلائل من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار عن أبيه قال :أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ذكر آلهتهم بخير ثم تركوه .

فلما أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: ما وراءك شي‏ء؟ قال: شر. ما تركت حتى نلت منك و ذكرت آلهتهم بخير. قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان.

قال: إن عادوا فعد، فنزلت: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ و في المجمع، عن ابن عباس و قتادة :أن الآية نزلت في جماعة أكرهوا و هم عمار و ياسر أبوه و أمه سمية و صهيب و بلال و خباب عذبوا و قتل أبو عمار و أمه و أعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه ثم أخبر سبحانه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال قوم: كفر عمار فقال (ص) كلا إن عمارا ملي‏ء إيمانا من قرنه إلى قدمه و اختلط الإيمان بلحمه و دمه .

و جاء عمار إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): و هو يبكي فقال (ص) ما وراءك؟ فقال: شر يا رسول الله ما تركت حتى نلت منك و ذكرت آلهتهم بخير فجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يمسح عينيه و يقول: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت فنزلت الآية.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن سعد عن عمر بن الحكم قال" :كان عمار بن ياسر يعذب حتى لا يدري ما يقول، و كان صهيب يعذب حتى لا يدري ما يقول، و كان أبو فكيهة يعذب حتى لا يدري ما يقول، و بلال و عامر و ابن فهيرة و قوم من المسلمين و فيهم نزلت هذه الآية: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا. أقول: و سمي منهم في بعض الروايات عباس بن أبي ربيعة و في بعضها الآخر هو و الوليد بن أبي ربيعة و الوليد بن الوليد بن المغيرة و أبو جندل بن سهيل بن عمرو و أجمع رواية في ذلك ما عن ابن عباس :أن هذه الآية نزلت فيمن كان يفتن من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا.

 

 

 

 و في الكافي، بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: فأما ما فرض على القلب من الإيمان الإقرار و المعرفة و العقد و الرضا و التسليم بأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلها واحدا لم يتخذ صاحبة و لا ولدا و أن محمدا عبده و رسوله، و الإقرار بما جاء به من عند الله من نبي أو كتاب: فذلك ما فرض الله على القلب من الإقرار و المعرفة و هو عمله و هو قول الله عز و جل: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَ لَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً.

 و فيه، بإسناده عن مسعدة بن صدقة قال: قيل لأبي عبد الله (عليه السلام): إن الناس يروون أن عليا (عليه السلام) قال على منبر الكوفة: يا أيها الناس إنكم ستدعون إلى سبي فسبوني ثم تدعون إلى البراءة مني فلا تبرءوا مني. قال: ما أكثر ما يكذبون الناس على علي (عليه السلام) ثم قال: إنما قال: إنكم ستدعون إلى سبي فسبوني ثم تدعون إلى البراءة و إني لعلى دين محمد و لم يقل: و لا تبرءوا مني.

فقال له السائل: أ رأيت إن اختار القتل دون البراءة؟ قال: و الله ما ذاك عليه و ما له إلا ما مضى عليه عمار بن ياسر حيث أكرهه أهل مكة و قلبه مطمئن بالإيمان فقال له النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عندها: يا عمار إن عادوا فعد فقد أنزل الله عذرك ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ و أمرك أن تعود إن عادوا:

أقول: و روى هذا المعنى العياشي في تفسيره، عن معمر بن يحيى بن سالم عن أبي جعفر (عليه السلام)، و قوله (عليه السلام): «و أمرك أن تعود إن عادوا» يستفاد ذلك من الآية حيث لم يرد الاستثناء فيها من الشخص بل وردت على العنوان و هو إكراه من اطمأن قلبه بالإيمان، و أما كونه أمرا منه تعالى كما أمر به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فلعل الوجه أن صريح الاستثناء هو الجواز و مع جواز ذلك لا مساغ للإباء الذي هو عرض النفس للقتل و إلقاؤها في التهلكة فيجامع هذا الجواز الوجوب دون الإباحة.

و في تفسير العياشي، عن عمرو بن مروان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : رفع عن أمتي أربعة خصال: ما أخطئوا و ما نسوا و ما أكرهوا عليه و ما لم يطيقوا، و ذلك في كتاب الله: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ.

 

 

 

[سورة النحل (١٦): الآیات ١١٢ الی ١٢٨]

﴿وَ ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اَللَّهِ فَأَذَاقَهَا اَللَّهُ لِبَاسَ اَلْجُوعِ وَ اَلْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ١١٢وَ لَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ اَلْعَذَابُ وَ هُمْ ظَالِمُونَ ١١٣فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اَللَّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَ اُشْكُرُوا نِعْمَتَ اَللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ١١٤إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللَّهِ بِهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَ لاَ عَادٍ فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ١١٥وَ لاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ اَلْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَ هَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اَللَّهِ اَلْكَذِبَ إِنَّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللَّهِ اَلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ١١٦مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ١١٧وَ عَلَى اَلَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ مَا ظَلَمْنَاهُمْ وَ لَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ١١٨ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا اَلسُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَ أَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ١١٩إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ ١٢٠شَاكِراً لِأَنْعُمِهِ اِجْتَبَاهُ وَ هَدَاهُ إِلى‏َ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ١٢١وَ آتَيْنَاهُ فِي اَلدُّنْيَا حَسَنَةً وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصَّالِحِينَ ١٢٢ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اِتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَ مَا كَانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ ١٢٣

 

 

 

﴿إِنَّمَا جُعِلَ اَلسَّبْتُ عَلَى اَلَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ١٢٤اُدْعُ إِلىَ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ اَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ وَ جَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ١٢٥وَ إِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ١٢٦وَ اِصْبِرْ وَ مَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَ لاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ١٢٧إِنَّ اَللَّهَ مَعَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ اَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ١٢٨

(بيان)

تتمة آيات الأحكام السابقة تذكر فيها محرمات الأكل و محللاته و نهي عن التحليل و التحريم ابتداعا بغير إذن الله و ذكر بعض ما شرع لليهود من الأحكام التي نسخت بعد، و في ذلك عطف على ما تقدم من حديث النسخ في قوله: ﴿وَ إِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ و إشارة إلى أن ما أنزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إنما هو دين إبراهيم (عليه السلام) المبني على الاعتدال و التوحيد مرفوعا عنه ما في دين اليهود من التشديد عليهم قبال ظلمهم.

و في آخرها أمر بالعدل في المعاقبة و ندب إلى الصبر و الاحتساب، و وعد جميل بالنصرة و الكفاية إن اتقوا و أحسنوا.

قوله تعالى: ﴿ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً إلى آخر الآية، الرغد من العيش هو الواسع الطيب.

هذا مثل ضربه الله تعالى فوصف فيه قرية آتاها ما تحتاج إليه من نعم الحياة، و أتم ذلك كله بنبي بعثه إليهم يدعوهم إلى ما فيه صلاح دنياهم و أخراهم فكفروا بأنعمه و كذبوا رسوله فبدل الله نعمته نقمة و عذبهم بما ظلموا بتكذيب رسوله، و في المثل

 

 

 

 تحذير عن كفران نعمة الله بعد إذ بذلت و الكفر بآياته بعد إذ أنزل.

و فيه توطئة و تمهيد لما سيذكره من محللات الأكل و محرماته و ينهى عن تشريع الحلال و الحرام بغير إذن الله كل ذلك بالاستفادة من سياق الآيات فإن كل سابقة منها تسوق النظر إلى اللاحقة.

و قيل: إن هذه القرية هي مكة عذبهم الله بالجوع سبع سنين لما كفروا بأنعم الله و قد وسعها عليهم و كذبوا رسوله و قد أرسله إليهم فابتلوا بالقحط و كان يغار عليهم قوافلهم بسخط من الله سبحانه لما دعا عليهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، ذكره في المجمع، و نسبه إلى ابن عباس و مجاهد و قتادة.

و فيه أن لا إشكال في أنه في نفسه يقبل الانطباق على ما ذكر لكن سياق الآيات إنما يلائم كونه مثلا عاما مذكورا توطئة و تمهيدا لما بيناه.

فقوله: ﴿ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً وصف القرية بثلاثة أوصاف متعاقبة غير أن الأوسط منها و هي الاطمئنان كالرابط بين الطرفين فإن القرية إذا أمنت المخاطرات كمهاجمة الأشرار و شن الغارات و قتل النفوس و سبي الذراري و نهب الأموال و كذا أمنت الحوادث الطبيعية كالزلازل و غيرها اطمأنت و سكنت فلم يضطر أهلها إلى الجلاء و التفرق.

و من كمال اطمئنانها أن يأتيها رزقها رغدا من كل مكان و لا يلجأ أهلها إلى الاغتراب و قطع الفيافي و ركوب البحار و تحمل المشاق البالغة في طلب الرزق و جلبه إليها.

فاتصاف القرية بصفاتها الثلاث المذكورة: الأمن و الاطمئنان و إتيان رزقها إليها من كل مكان يتم و يكمل لها جميع النعم المادية الصورية، و سيضيف سبحانه إليها النعم المعنوية في الآية التالية: ﴿وَ لَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فهي قرية أتم الله نعمه عليها و أكملها.

و قوله: ﴿فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اَللَّهِ فَأَذَاقَهَا اَللَّهُ لِبَاسَ اَلْجُوعِ وَ اَلْخَوْفِ التعبير بأنعم الله و هو جمع قلة للإشارة بها إلى الأصناف المذكورة و هي ثلاثة: الأمن و الاطمئنان و إتيان الرزق، و الإذاقة استعارة للإيصال اليسير فإذاقة الجوع و الخوف مشعر بأن الذي يوصلهما قادر على تضعيف ذلك و تكثيره بما لا يقدر بقدر كيف لا؟ و هو الله الذي له القدرة كلها.

 

 

 

ثم إضافة اللباس إلى الجوع و الخوف و فيها دلالة على الشمول و الإحاطة كما يشمل اللباس البدن، و يحيط به، تشعر بأن هذا المقدار اليسير من الجوع و الخوف الذي أذاقهم شملهم كما يشمل اللباس بدن الإنسان و هو سبحانه قادر على أن يزيد على ذلك فهو المتناهي في قهره و غلبته و هم المتناهون في ذلتهم و هوانهم.

ثم ختم الآية بقوله: ﴿بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ للدلالة على أن سنة المجازاة في الشكر و الكفر قائمة على ساق.

و المعنى: ضرب الله مثلا مثل قرية كان أهلها آمنين من كل شر و سوء يهددهم في نفوسهم و أعراضهم و أموالهم ساكنين غير مضطرين يأتيهم رزقهم طيبا واسعا من كل مكان من غير أن يضطروا إلى السفر و الاغتراب فكفر أهلها بهذه النعم الإلهية و لم يشكروه سبحانه فأنالهم الله شيئا يسيرا من نقمته بسلب هذه النعم و هو الجوع و الخوف اللذان عماهم و شملاهم قبال ما استمروا عليه بكفران الأنعام جزاء لكفرانهم.

قوله تعالى‏﴿وَ لَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ اَلْعَذَابُ وَ هُمْ ظَالِمُونَو هذا هو النعمة المعنوية التي أضافها إلى نعمة المادية المذكورة، و كان فيها صلاح معاشهم و معادهم و تحذير لهم من الكفران بأنعم الله و شرح ما فيه من الشؤم و الشقاء لكنهم كذبوا رسولهم الذي هو منهم يعرفونه و يدرون أنه إنما يدعوهم لأمر إلهي و يهديهم إلى سبيل الرشاد و سعادة الجد فظلموا ذلك فأخذهم العذاب بظلمهم.

و بهذا التقرير يظهر ما في القيود المأخوذة في الآية من النكات.

قوله تعالى: ﴿فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اَللَّهُ حَلاَلاً طَيِّباً إلى آخر الآية تفريع على ما تحصل من المثل نتيجة، و التقدير إذا كان الحال هذا الحال و كان في كفران هذا الرزق الرغد عذاب و في تكذيب الدعوة عذاب فكلوا مما رزقكم الله حال كونه حلالا طيبا أي لستم بممنوعين منه و أنتم تستطيبونه فكلوا منه و اشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون.

و قد ظهر بذلك:

أولا: أن الآية مسوقة لتحليل طيبات الرزق مطلقا فلا سبيل إلى ما ذكره بعضهم أن المراد فكلوا مما رزقكم الله من الغنائم رزقا حلالا طيبا بناء على أن الآية

 

 

 

 نزلت بعد وقعة بدر و المثل السابق مثل مضروب لأهل مكة، و المراد بالرسول الذي كذبوه هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و بالعذاب الذي أخذهم هو القتل الذريع لصناديدهم يوم بدر.

و هذا كله مما لا دليل عليه من طريق لفظ الآيات. على أنه قد تأيد سابقا أنها مكية.

و ثانيا: أن المراد بالحل و الطيب كون الرزق بحيث لم يحرم منه الإنسان طبعا و طبعه يستطيبه أي الحل و الطيب بحسب الطبع و ذلك ملاك الحلية الشرعية التي تتبع الحلية بحسب الفطرة فإن الدين فطري لأن الله سبحانه فطر الإنسان مجهزا بجهاز التغذية و جعل أشياء أرضية من الحيوان و النبات ملائمة لقوامه يميل إليها طبعه من غير نفرة فله أن يأكل منها و هو الحل.

و ثالثا: أن قوله: ﴿فَكُلُوا أمر مقدمي بالنسبة إلى قوله: ﴿وَ اُشْكُرُوا نعمة الله و ذكر النعمة تلويح إلى سبب الحكم فإن كون الشي‏ء نعمة هو السبب في وجوب الشكر عليه.

و رابعا: أن قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ خطاب للمؤمنين فإنهم هم الذين يعبدون الله و لا يعبدون غيره، و القصر في الجملة الذي يدل عليه تقديم المفعول على الفعل قصر القلب، و غيرهم و هم المشركون إنما يعبدون الأصنام و الآلهة من دون الله.

و جعل الخطاب للمشركين و دعوى أن المراد بالعبادة في قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ الإطاعة أو أن المعنى إن صح زعمكم أنكم تقصدون بعبادتكم لآلهتكم عبادته تعالى، لا يرجع إلى طائل فإن جعل العبادة بمعنى الإطاعة يحتاج إلى قرينة و لا قرينة و المشركون لا يعبدون الله سبحانه و لو بإشراكه في العبادة و لا يقصدون بعبادة آلهتهم عبادته تعالى بل ينزهونه تعالى عن عبادتهم لكونه أجل من أن يناله إدراك أو ينتهي إليه توجه.

و كون الخطاب في الآية للمؤمنين يوجب كون المثل مضروبا لأجلهم و رجوع سائر الخطابات التشريعية فيما قبل الآية و ما بعدها متوجهة إليهم، و ربما قيل: إن الخطاب لعامة الناس أعم من المؤمن و الكافر و تطبيقه على الآيات لا يخلو من تكلف و إن كان دون تخصيص الخطاب بالمشركين إشكالا.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللَّهِ بِهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَ لاَ عَادٍ فَإِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تقدم الكلام في معنى الآية في تفسير سورة البقرة الآية ١٧٣ و سورة المائدة الآية ٣ و سورة الأنعام الآية ١٤٥.

و الآية بمعناها على اختلاف ما في لفظها واقعة في أربعة مواضع من القرآن: في سورتي الأنعام و النحل و هما مكيتان من أوائل ما نزلت بمكة و أواخرها، و في سورتي البقرة و المائدة و هما من أوائل ما نزلت بالمدينة و أواخرها، و هي تدل على حصر محرمات الأكل في الأربع المذكورة: الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل لغير الله به كما نبه عليه بعضهم.

لكن بالرجوع إلى السنة يظهر أن هذه هي المحرمات الأصلية التي عني بها في الكتاب و ما سوى هذه الأربع من المحرمات مما حرمه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بأمر من ربه و قد قال تعالى: ﴿مَا آتَاكُمُ اَلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا: الحشر: ٧، و قد تقدم بعض الروايات الدالة على هذا المعنى.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ اَلْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَ هَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اَللَّهِ اَلْكَذِبَ إلخ، ﴿لِمَا في قوله: ﴿لِمَا تَصِفُ مصدرية و الكذب مفعول ﴿تَصِفُ أي لا تقولوا هذا حلال و هذا حرام بسبب وصف ألسنتكم لغاية افتراء الكذب على الله.

و كون الخطاب في الآيات للمؤمنين على ما يؤيده سياقها كما مر أو لعامة الناس يؤيد أن يكون المراد بقوله: ﴿وَ لاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ اَلْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَ هَذَا حَرَامٌ النهي عن الابتداع بإدخال حلال أو حرام في الأحكام الجارية في المجتمع المعمولة بينهم من دون أن ينزل به الوحي فإن ذلك من إدخال ما ليس من الدين في الدين و افتراء على الله و إن لم ينسبه واضعه إليه تعالى.

و ذلك أن الدين في عرف القرآن هو سنة الحياة و قد تكرر منه سبحانه قوله:

﴿يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجاً أو ما يقرب منه، فالدين لله و من زاد فيه شيئا فقد نسبه إليه تعالى افتراء عليه و إن سكت عن الإسناد أو نفى ذلك بلسانه.

و ذكر الجمهور أن المراد بالآية النهي عما كان المشركون يحلونه كالميتة و الدم و ما

 

 

 

 أهل لغير الله به أو يحرمونه كالبحيرة و السائبة و غيرهما و السياق - كما مر - لا يؤيده.

ثم قال سبحانه في مقام تعليل النهي: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللَّهِ اَلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ثم بين حرمانهم من الفلاح بقوله: ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.

قوله تعالى: ﴿وَ عَلَى اَلَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ إلخ، المراد بقوله: ﴿مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ كما قيل ما قصه تعالى على نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) في سورة الأنعام و قد نزلت قبل سورة النحل بلا إشكال بقوله: ﴿وَ عَلَى اَلَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ إلى آخر الآية،: الأنعام: ١٤٦.

و الآية في مقام دفع الدخل و فيها عطف على مسألة النسخ المذكورة سابقا كأن قائلا يقول: فإذا كانت محرمات الأكل منحصرة في الأربع المذكورة: الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل لغير الله به، و كان ما وراءها حلالا فما هذه الأشياء المحرمة على بني إسرائيل من قبل؟ هل هذا إلا ظلم بهم.

فأجاب عنه بأنا حرمنا عليهم ذلك و ما ظلمناهم في تحريمه و لكنهم كانوا يظلمون أنفسهم فنحرم عليهم بعض الأشياء أي إنه كان محللا لهم مأذونا فيه لكنهم ظلموا أنفسهم و عصوا ربهم فجزيناهم بتحريمه عقوبة كما قال سبحانه في موضع آخر: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ اَلَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ الآية، و لو أنهم بعد ذلك كله رجعوا إلى ربهم و تابوا عن معاصيهم تاب الله عليهم و رفع الحظر عنهم و أذن لهم فيما منعهم عنه إنه لغفور رحيم.

فقد ظهر أن الآية متصلة بما قبلها من حديث التحليل و التحريم، و أنها كالجواب عن سؤال مقدر، و أن ما بعدها من قوله: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا اَلسُّوءَ الآية، متصل بها متمم لمضمونها.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا اَلسُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَ أَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌالجهالة و الجهل‏ واحد و هو في الأصل ما يقابل العلم لكن الجهالة كثيرا ما تستعمل بمعنى عدم الانكشاف التام للواقع و إن لم يخل المحل عن علم ما مصحح للتكليف كحال من يقترف المحرمات و هو يعلم بحرمتها لكن الأهواء النفسانية تغلبه و تحمله على المعصية و لا تدعه يتفكر في حقيقة هذه المخالفة

 

 

 

 و المعصية فله علم بما ارتكب و لذلك يؤاخذ و يعاقب على ما فعل و هو مع ذلك جاهل بحقيقة الأمر و لو تبصر تمام التبصر لم يرتكب.

و المراد بالجهالة في الآية هذا المعنى إذ لو كان المراد هو الأول و كان ما ذكر من عمل السوء مجهولا من حيث حكمه أو من حيث موضوعه لم يكن العمل معصية حتى يحتاج إلى التوبة فالمغفرة و الرحمة.

و الآية كما تقدمت الإشارة إليه متصلة بما قبلها متممة لمضمونها، و معنى الآيتين أنا لم نظلم بني إسرائيل في تحريم الطيبات التي حرمناها، لهم بل هم الذين ظلموا أنفسهم حيث ارتكبوا المعاصي و أصروا عليها فأدى ذلك إلى تحريم الطيبات عليهم، و بعد ذلك كله باب المغفرة و الرحمة مفتوح و إن ربك للذين عملوا السوء أي عملوا عملا سوءا و هو السيئة بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك و أصلحوا حتى يتبين التوبة و تستقر إن ربك من بعدها أي من بعد التوبة لغفور رحيم.

و في تقييد التوبة أولا بالإصلاح ثم إرجاع الضمير أخيرا إليها وحدها في قوله:

﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ دلالة على أن شمول المغفرة و الرحمة من تبعات التوبة، و أما الإصلاح فإنما هو لتبيين التوبة و ظهور كونها توبة حقيقية و رجوعا جديا لا مجرد صورة خالية عن المعنى.

و قوله في ذيل الآية: ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا تلخيص لتفصيل قوله في صدرها:

﴿إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ إلخ، و فائدته حفظ فهم السامع عن التشوش و الضلال و إبراز العناية ببعدية المغفرة و الرحمة بالنسبة إلى التوبة نظير ما مر من قوله: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ الآية، و ما يتلوها على اتصالها بما تقدم من حصر محرمات الأكل في الأربع و تحليل ما وراءها، و هذه الآية إلى تمام أربع آيات بمنزلة التفصيل لما تقدمها كأنه قيل: هذا حال ملة موسى التي حرمنا فيها على بني إسرائيل بعض ما أحل لهم من الطيبات، و أما هذه الملة التي أنزلناها إليك فإنما هي الملة التي تحقق بها إبراهيم فاجتباه الله و هداه إلى صراط مستقيم و أصلح بها دنياه و آخرته، و هي ملة معتدلة جارية على الفطرة تحلل الطيبات

 

 

 

و تحرم الخبائث يجلب العمل بها من الخير ما جلبه لإبراهيم (عليه السلام) منه.

فقوله: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قال في المفردات، و قوله: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ أي قائما مقام جماعة في عبادة الله نحو قولهم: فلان في نفسه قبيلة، انتهى. و هو قريب مما نقل عن ابن عباس، و قيل: معناه الإمام المقتدى به، و قيل:

إنه كان أمة منحصرة في واحد مدة من الزمان لم يكن على الأرض موحد يوحد الله غيره.

و قوله: ﴿قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ القنوت: الإطاعة و العبادة أو دوامها، و الحنف: الميل من الطرفين إلى حاق الوسط و هو الاعتدال.

قوله تعالى: ﴿شَاكِراً لِأَنْعُمِهِ اِجْتَبَاهُ وَ هَدَاهُ إِلى‏َ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍلاالاجتباء من الجباية و هو الجمع و اجتباء الله الإنسان هو إخلاصه لنفسه و جمعه من التفرق في المذاهب المختلفة. و في تعقيب قوله: ﴿شَاكِراً لِأَنْعُمِهِ بقوله: ﴿اِجْتَبَاهُ إلخ، مفصولا إشعار بالعلية و ذلك يؤيد ما تقدم في سورة الأعراف في تفسير قوله: ﴿وَ لاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ : الأعراف: ١٧، أن حقيقة الشكر هو الإخلاص في العبودية.

قوله تعالى: ﴿وَ آتَيْنَاهُ فِي اَلدُّنْيَا حَسَنَةً وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصَّالِحِينَ الحسنة هي المعيشة الحسنة فقد كان (عليه السلام) ذا مال كثير و مروة عظيمة.

و قد بسطنا الكلام في معنى الاجتباء في تفسير سورة يوسف عند الآية ٦، و في معنى الهداية و الصراط المستقيم في تفسير الفاتحة عند قوله: ﴿اِهْدِنَا اَلصِّرَاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ: الآية - ٦، و في معنى قوله: ﴿وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصَّالِحِينَ: البقرة: ١٣٠، فراجع.

و في توصيفه تعالى إبراهيم (عليه السلام) بما وصفه من الصفات إشارة إلى أنها من مواهب هذا الدين الحنيف، فإن انتحل به الإنسان ساقه إلى ما ساق إليه إبراهيم (عليه السلام).

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اِتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَ مَا كَانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَتكرار اتصافه بالحنف و نفي الشرك لمزيد العناية به.

قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جُعِلَ اَلسَّبْتُ عَلَى اَلَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ إلى آخر الآية، قال في المفردات: أصل السبت‏ القطع و منه سبت السير قطعه و سبت شعره حلقه، و أنفه اصطلمه، و قيل: سمي يوم السبت لأن الله تعالى ابتدأ بخلق السماوات و الأرض يوم

 

 

 

 الأحد فخلقها في ستة أيام كما ذكره فقطع عمله يوم السبت فسمي بذلك.

و سبت فلان صار في السبت، و قوله: ﴿يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً قيل: يوم قطعهم للعمل ﴿وَ يَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَقيل: معناه لا يقطعون العمل و قيل: يوم لا يكونون في السبت و كلاهما إشارة إلى حالة واحدة، و قوله: ﴿إِنَّمَا جُعِلَ اَلسَّبْتُ أي ترك العمل فيه ﴿وَ جَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً أي قطعا للعمل و ذلك إشارة إلى ما قال في صفة الليل:

﴿لِتَسْكُنُوا فِيهِ انتهى.

فالمراد بالسبت على ما ذكره نفس اليوم لكن معنى جعله جعل ترك العمل فيه و تشريعه، و يمكن أن يكون المراد به المعنى المصدري دون اليوم المجعول فيه ذلك كما هو ظاهر قوله: ﴿تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ:الأعراف: ١٦٣.

و كيف كان فقد كان من طبع الكلام أن يقال: إنما جعل السبت للذين حتى، يفيد نوعا من الاختصاص و الملك و أن الله شرع لهم في كل أسبوع أن يقطعوا العمل يوما يفرغون فيه لعبادة ربهم و هو يوم السبت كما جعل للمسلمين في كل أسبوع يوما يجتمعون فيه للعبادة و الصلاة و هو يوم الجمعة.

فقوله: ﴿إِنَّمَا جُعِلَ اَلسَّبْتُ عَلَى اَلَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ بتعدية جعل بعلى دون اللام من قبيل قولهم: لي عليك دين و هذا عليك لا لك فتفيد معنى التكليف و التشديد و الابتلاء أي إنما جعل للتشديد عليهم و ابتلائهم و امتحانهم فقد كان هذا الجعل عليهم لا لهم كما انجر أمرهم فيه إلى لعن طائفة منهم و مسخ آخرين و قد أشير إلى ذلك في سورة البقرة الآية ٦٥ و سورة النساء الآية ٤٧.

و الأنسب على هذا أن يكون المراد بقوله: ﴿اِخْتَلَفُوا فِيهِ أي في السبت اختلافهم فيه بعد التشريع فإنهم تفرقوا فيه فرقا ممن قبله و ممن رده و ممن احتال للعمل فيه على ما أشير إلى قصصهم في سور البقرة و النساء و الأعراف لا اختلافهم فيه قبل التشريع بأن يعرض عليهم أن يسبتوا في كل أسبوع يوما للعبادة ثم يجعل ذلك اليوم هو الجمعة فيختلفوا فيه فيجعل عليهم يوم السبت كما وقع في بعض الروايات.

 

 

 

 و المعنى إنما جعل يوم السبت أو قطع العمل للعبادة يوما في كل أسبوع تشديدا و ابتلاء و فتنة و كلفة على اليهود الذين اختلفوا فيه بعد تشريعه بين من قبله و من رده و من احتال فيه للعمل مع التظاهر بقبوله و إن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون.

و بالبناء على هذا يكون وزان الآية وزان قوله السابق: ﴿وَ عَلَى اَلَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا إلخ، في أنها في معنى الجواب عن سؤال مقدر عطفا على ما مر من حديث النسخ، و التقدير و أما جعل السبت لليهود فإنما جعل لا لهم بل عليهم ليبتليهم الله و يفتنهم به و يشدد عليهم كما قد تكرر نظائره فيهم لكونهم عاتين معتدين مستكبرين و بالجملة الآية ناظرة إلى الاعتراض بتشريع بعض الأحكام غير الفطرية على اليهود و نسخه في هذه الشريعة.

و إنما لم يضم إلى قوله سابقا: ﴿وَ عَلَى اَلَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا إلخ، لكون مسألة السبت مغايرة لسنخ مسألة تحليل الطيبات و استثناء محرمات الأكل، و قد عرفت أن الكلام على اتصاله من قوله: ﴿وَ عَلَى اَلَّذِينَ هَادُوا إلى قوله: ﴿وَ مَا كَانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ سبع آيات تامة ثم اتصلت بها هذه الآية و هي ثامنتها الملحقة بها.

و من هنا يظهر الجواب عما اعترض به أن توسيط جعل السبت بين حكاية أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) باتباع ملة إبراهيم (عليه السلام) و بين أمره (ص) بالدعوة إليها و بعبارة أخرى وقوع قوله: ﴿إِنَّمَا جُعِلَ اَلسَّبْتُ إلخ، بين قوله: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ إلخ، و قوله:

﴿اُدْعُ إِلى‏َ سَبِيلِ رَبِّكَ إلخ، كالفصل بين الشجر و لحائه.

و محصل الجواب أن قوله: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اِتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ الآية من تمام السياق السابق، و قوله: ﴿إِنَّمَا جُعِلَ اَلسَّبْتُ الآية، متصل بما تقدمه كما عرفت، و أما قوله: ﴿اُدْعُ إِلى‏َ سَبِيلِ رَبِّكَ الآية، فهو استئناف و أمر بالدعوة إلى سبيل الله بفنون الخطاب لا إلى ملة إبراهيم حتى يتصل بالآية السابقة نوع اتصال و إن كان سبيل الله هو ملة إبراهيم بعينها لكن للفظ حكم و للمعنى بحسب المآل حكم آخر، فافهم.

و للقوم في تفسير الاختلاف اختلاف عميق فمنهم من قال: إن المراد إنما جعل السبت على الذين اختلفوا على نبيهم فيه حيث أمرهم بتعظيم الجمعة فعدلوا عنه و أخذوا

 

 

 

 السبت فجعله الله عليهم تشديدا فالاختلاف اختلاف سابق على الجعل لا لاحق به و ربما جعل «في» للتعليل فإن الاختلاف على هذا لم يقع في السبت بل من أجل السبت.

و ربما قيل: الاختلاف بمعنى المخالفة فإنهم خالفوا نبيهم في السبت و لم يختلفوا فيه.

و ربما قيل: إنهم أمروا باتخاذ الجمعة من غير تعيين و وكل ذلك إلى اجتهادهم فاختلفت أحبارهم في تعيينه و لم يهدهم الله إليه و وقعوا في السبت.

و ربما قيل: إن المراد أنهم اختلفوا فيما بينهم في شأن السبت فطائفة منهم فضلته على الجمعة و طائفة منهم عكست الأمر و فضلت الجمعة عليه. إلى غير ذلك مما قيل، و الأصل في ذلك ما ورد في بعض الروايات من القصة.

و أنت خبير بأن شيئا من الأقوال لا ينطبق على لفظ الآية ذاك الانطباق فالمصير إلى ما قدمناه.

قوله تعالى: ﴿اُدْعُ إِلى‏َ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ اَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ وَ جَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلى آخر الآية لا شك في أنه يستفاد من الآية أن هذه الثلاثة الحكمة و الموعظة و المجادلة من طرق التكليم و المفاوضة فقد أمر بالدعوة بأحد هذه الأمور فهي من أنحاء الدعوة و طرقها و إن كان الجدال لا يعد دعوة بمعناها الأخص.

و قد فسرت الحكمة كما في المفردات بإصابة الحق بالعلم و العقل، و الموعظة كما عن الخليل بأنه التذكير بالخير فيما يرق له القلب، و الجدال كما في المفردات بالمفاوضة على سبيل المنازعة و المغالبة.

و التأمل في هذه المعاني يعطي أن المراد بالحكمة و الله أعلم الحجة التي تنتج الحق الذي لا مرية فيه و لا وهن و لا إبهام و الموعظة هو البيان الذي تلين به النفس و يرق له القلب، لما فيه من صلاح حال السامع من الغبر و العبر و جميل الثناء و محمود الأثر و نحو ذلك.

و الجدال هو الحجة التي تستعمل لفتل الخصم عما يصر عليه و ينازع فيه من غير أن يريد به ظهور الحق بالمؤاخذة عليه من طريق ما يتسلمه هو و الناس أو يتسلمه هو وحده في قوله أو حجته.

 

 

 

 فينطبق ما ذكره تعالى من الحكمة و الموعظة و الجدال بالترتيب على ما اصطلحوا عليه في فن الميزان بالبرهان و الخطابة و الجدل.

غير أنه سبحانه قيد الموعظة بالحسنة و الجدال بالتي هي أحسن، ففيه دلالة على أن من الموعظة ما ليست بحسنة و من الجدال ما هو أحسن و ما ليس بأحسن و لا حسن و الله تعالى يأمر من الموعظة بالموعظة الحسنة و من الجدال بأحسنه.

و لعل ما في ذيل الآية من التعليل بقوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ يوضح وجه التقييد، فمعناه أنه سبحانه أعلم بحال أهل الضلال في دينه الحق، و هو أعلم بحال المهتدين فيه فهو يعلم أن الذي ينفع في هذا السبيل هو الحكمة و الموعظة الحسنة و الجدال الأحسن لا غير.

و الاعتبار الصحيح يؤيد ذلك فإن سبيله تعالى هو الاعتقاد الحق و العمل الحق و من المعلوم أن الدعوة إليه بالموعظة مثلا ممن لا يتعظ بما يعظ به دعوة عملا إلى خلاف ما يدعو إليه القول، و الدعوة إليه بالمجادلة مثلا بالمسلمات الكاذبة التي يتسلمها الخصم لإظهار الحق إحياء لحق بإحياء باطل و إن شئت فقل إحياء حق بإماتة حق إلا أن يكون الجدال على سبيل المناقضة.

و من هنا يظهر أن حسن الموعظة إنما هو من حيث حسن أثره في الحق الذي يراد به بأن يكون الواعظ نفسه متعظا بما يعظ و يستعمل فيها من الخلق الحسن ما يزيد في وقوعها من قلب السامع موقع القبول فيرق له القلب و يقشعر به الجلد و يعيه السمع و يخشع له البصر.

و يتحرز المجادل مما يزيد في تهييج الخصم على الرد و العناد و سوقه إلى المكابرة و اللجاج، و استعمال المقدمات الكاذبة و إن تسلمها الخصم إلا في المناقضة و يحترز سوء التعبير و الإزراء بالخصم و بما يقدسه من الاعتقاد و السب و الشتم و أي جهالة أخرى فإن في ذلك إحياء للحق بإحياء الباطل أي إماتة الحق كما عرفت.

و الجدال أحوج إلى كمال الحسن من الموعظة و لذلك أجاز سبحانه من الموعظة حسنتها و لم يجز من المجادلة إلا التي هي أحسن.

 

 

 

ثم إن في قوله: ﴿بِالْحِكْمَةِ وَ اَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ وَ جَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أخذا بالترتيب من حيث الأفراد فالحكمة مأذون فيها بجميع أفرادها، و الموعظة منقسمة إلى حسنة و غير حسنة و المأذون فيها منهما هي الموعظة الحسنة، و المجادلة منقسمة إلى حسنة و غير حسنة ثم الحسنة إلى التي هي أحسن و غيرها و المأذون فيها منها التي هي أحسن، و الآية ساكتة عن توزيع هذه الطرق بحسب المدعوين بالدعوة فالملاك في استعمالها من حيث المورد حسن الأثر و حصول المطلوب و هو ظهور الحق.

فمن الجائز أن يستعمل في مورد جميع الطرق الثلاث و في آخر طريقان أو طريق واحد حسب ما تستدعيه الحال و يناسب المقام.

و منه يظهر أن قول بعضهم إن ظاهر الآية أن يجمع (ص) في دعوته بين الطرق الثلاث ليس في محله إذ لا دليل على لزوم الجمع بينها بالنسبة إلى كل مدعو و أما بالنسبة إلى جميع المدعوين فهو حاصل.

و كذا ما ذكره بعضهم أن الطرق الثلاث المذكورة في الآية مترتبة حسب ترتب أفهام الناس في استعدادها لقبول الحق فمن الناس الخواص و هم أصحاب النفوس المشرقة القوية الاستعداد لإدراك الحقائق العقلية و شديدة الانجذاب إلى المبادئ العالية و كثيرة الألفة بالعلم و اليقين فهؤلاء يدعون بالحكمة و هي البرهان.

و منهم عوام و هم أصحاب نفوس كدرة و استعداد ضعيف مع شدة ألفتهم بالمحسوسات و قوة تعلقهم بالرسوم و العادات قاصرة عن تلقي البراهين من غير أن يكونوا معاندين للحق و هؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة.

و منهم أصحاب العناد و اللجاج الذين يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق و يكابرون ليطفئوا نور الله بأفواههم رسخت في نفوسهم الآراء الباطلة، و غلب عليهم تقليد أسلافهم في مذاهبهم الخرافية لا ينفعهم المواعظ و العبر، و لا يهديهم سائق البراهين و هؤلاء هم الذين أمر بمجادلتهم بالتي هي أحسن.

و فيه أنه لا يخلو من دقة لكن لا ينتج اختصاص كل طريق بما يناسبه من مرتبة الفهم فربما انتفع الخواص بالموعظة و المجادلة و ربما انتفعت العوام و هم الفاء العادات و الرسوم بالمجادلة بالتي هي أحسن، و لا دلالة في لفظ الآية على ما ذكر من التخصيص.

 

 

 

 و كذا ما ذكره بعضهم أن المجادلة بالتي هي أحسن ليست من الدعوة في شي‏ء بل الغرض منها شي‏ء آخر مغاير لها و هو الإلزام و الإفحام. قال: و لذلك لم يعطف الجدال في الآية على ما تقدمه بل غير السياق و قيل: ﴿وَ جَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ».

﴾و فيه غفلة عن حقيقة القياس الجدلي فالإفحام و إن كان غاية للقياس الجدلي لكنه ليس غاية دائمية فكثيرا ما يتألف قياس من مقدمات مقبولة أو مسلمة و خاصة في الأمور العملية و العلوم غير اليقينية كالفقه و الأصول و الأخلاق و الفنون الأدبية و لا يراد به الإلزام و الإفحام.

على أن في الإلزام و الإفحام دعوة كما أن في الموعظة دعوة و إن اختلفت صورتها باختلاف الطرق نعم تغيير السياق لما في الجدال من معنى المنازعة و المغالبة.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ قال في المفردات، العقوبة و العقاب و المعاقبة تختص بالعذاب، انتهى.

و الأصل في معناه العقب و هو مؤخر الرجل و عقيب الشي‏ء و عاقبة الأمر ما يليه من ورائه أو آخره، و التعقيب‏ الإتيان بشي‏ء عقيب شي‏ء و معاقبتك غيرك أن تأتي بما يسوءه عقيب إتيانه بما يسوءك فينطبق على المجازاة و المكافأة بالعذاب.

فقوله: ﴿وَ إِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ الخطاب فيه للمسلمين على ما يفيده السياق و لازمه أن يكون المراد بالمعاقبة مجازاة المشركين و الكفار، و بقوله:

﴿عُوقِبْتُمْ بِهِ عقاب الكفار إياهم و مجازاتهم لهم بما آمنوا بالله و رفضوا آلهتهم.

و المعنى: و إن أردتم مجازاة الكفار و عذابهم فجازوهم على ما فعلوا بكم بمثل ما عذبوكم به مجازاة لكم على إيمانكم و جهادكم في الله.

و قوله: ﴿وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ أي صبرتم على مر ما عوقبتم به و لم تعاقبوا و لم تكافئوا لهو خير لكم بما أنكم صابرون لما فيه من إيثار رضا الله و ثوابه فيما أصابكم من المحنة و المصيبة على رضا أنفسكم بالتشفي بالانتقام فيكون العمل خالصا لوجهه الكريم، و لما في الصفح و العفو من إعمال الفتوة و لها آثارها الجميلة.

قوله تعالى: ﴿وَ اِصْبِرْ وَ مَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ إلى آخر الآية أمر للنبي ص بالصبر و بشرى له أن الله قواه على الصبر على مر ما يلقاه في سبيله فإنه تعالى يذكر أن

 

 

 

 صبره إنما هو بحول و قوة من ربه ثم يأمره بالصبر و لازم الأمر قدرة المأمور على المأمور به ففي قوله: ﴿وَ مَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ إشارة إلى أن الله قواك على ما أمرك به.

و قوله: ﴿وَ لاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي على الكافرين، لكفرهم و قد تقدم تفسير هذا المعنى سابقا في السورة و غيرها.

و قوله: ﴿وَ لاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ الظاهر أن المراد النهي عن التحرج من مكرهم في الحال أو على سبيل الاستمرار دون مجرد الاستقبال.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ مَعَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ اَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ أي إن التقوى و الإحسان كل منهما سبب مستقل في موهبة النصرة الإلهية و إبطال مكر أعداء الدين و دفع كيدهم فالآية تعليل لقوله: ﴿وَ لاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ و وعد بالنصر.

و هذه الآيات الثلاث أشبه مضمونا بالآيات المدنية منها بالمكية و قد وردت روايات من طرق الفريقين أنها نزلت في منصرف النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن أحد و سيأتي في البحث الروائي و إن كان من الممكن توجيه اتصالها بما قبلها بوجه كما تصدى له بعضهم.

و مما يجب أن يتنبه له أن الآية التي قبل الثلاثة أجمع لغرض السورة من هذه الثلاث، و أن لآيات السورة مع الإغماض عن قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ هَاجَرُوا الآية، و قوله:

﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إلى تمام بضع آيات، و قوله: ﴿وَ إِنْ عَاقَبْتُمْ إلى آخر السورة، سياقا واحدا متصلا.

(بحث روائي)

 في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿وَ ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً الآية، قال: قال (عليه السلام) نزلت في قوم كان لهم نهر يقال له الثرثار و كانت بلادهم خصبة كثيرة الخير، و كانوا يستنجون بالعجين و يقولون: هو ألين لنا، فكفروا بأنعم الله و استخفوا فحبس الله عنهم الثرثار فجدبوا حتى أحوجهم الله إلى أكل ما يستنجون به حتى كانوا يتقاسمون عليه:

أقول و رواه في الكافي، عنه بإسناده عن عمرو بن شمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) مفصلا، و العياشي عن حفص و زيد الشحام عنه

 

 

 

 و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما من عبد يشهد له أمة إلا قبل الله شهادتهم، و الأمة الرجل فما فوقه إن الله يقول: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ.

 أقول: و قد تقدم في تفسير آيات الشهادة ما له تعلق بالحديث.

 و في تفسير العياشي، عن سماعة بن مهران قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:

 لقد كانت الدنيا و ما كان فيها إلا واحد يعبد الله و لو كان معه غيره لأضافه إليه حيث يقول: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ فصبر بذلك ما شاء الله ثم إن الله تبارك و تعالى آنسه بإسماعيل و إسحاق فصاروا ثلاثة:

أقول: و رواه في الكافي بإسناده عن سماعة عن عبد صالح. و في الدر المنثور، أخرج الشافعي في الأم و البخاري و مسلم عن أبي هريرة قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا و أوتيناه من بعدهم ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم يوم الجمعة فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا و النصارى بعد غد:

أقول: و روي مثله عن أحمد و مسلم عن أبي هريرة و حذيفة عنه (ص): و لم ترد الرواية في تفسير الآية.

 و فيه، أخرج ابن مردويه عن أبي ليلى الأشعري أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: تمسكوا بطاعة أئمتكم و لا تخالفوهم فإن طاعتهم طاعة الله و معصيتهم معصية الله فإن الله إنما بعثني أدعو إلى سبيله بالحكمة و الموعظة الحسنة فمن خالفني في ذلك فهو من الهالكين و قد برئت منه ذمة الله و ذمة رسوله و من ولي من أمركم شيئا فعمل بغير ذلك فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين. و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿وَ جَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ قال: قال (عليه السلام): بالقرآن. و في الكافي، عنه بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: ﴿اُدْعُ إِلىَ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ اَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ وَ جَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ قال بالقرآن.

 

 

 

 أقول: ظاهره أنه تفسير ﴿بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ و محصله الجدال على سنة القرآن الذي فيه أدب الله.

 و في تفسير العياشي، عن الحسن بن حمزة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ما صنع بحمزة بن عبد المطلب قال اللهم لك الحمد و إليك المشتكى و أنت المستعان على ما أرى ثم قال: لئن ظفرت لأمثلن و لأمثلن و لأمثلن قال: فأنزل الله: ﴿وَ إِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : أصبر أصبر

 و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر و الطبراني و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يوم قتل حمزة و مثل به: لئن ظفرت بقريش لأمثلن بسبعين رجلا منهم، فأنزل الله: ﴿وَ إِنْ عَاقَبْتُمْ الآية، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم):

بل نصبر يا رب فصبر و نهى عن المثلة.

 أقول: و روي أيضا ما في معناه عن أبي بن كعب و أبي هريرة و غيرهما عنه (ص).

تم و الحمد لله.

 

 

 

 

 

 

(استدراك)

تعلیق علی ص ٣٢۰ س ٢۰ قوله: فصدر الایه هذا بالانظر الی متن الآية لکن مقتضی سیاق آلایات السابقة علیها کون الدین بمعنی الجزاء، ویویده قوله: یوفیهم.

 

 

فهرس بعض ما في هذا المجلد

 

 

 

[1]  هذا الذيل مذكور في تفسير البرهان نقلا عن العياشي لكنه غير موجود في النسخة المطبوعة أخيرا من التفسير.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=2090
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 05 / 15
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 03