• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء الثاني عشر) ، تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده) .
                    • الموضوع : من ص 155 الى ص 231 .

من ص 155 الى ص 231

مِنْ طِينٍ: ص: ٧٦ بالتصريح.

و قد تقدم كلام في معنى السجود لآدم و أمر الملائكة و إبليس بذلك و ائتمارهم و تمرده عنه، نافع في هذا الباب في تفسير سورتي البقرة و الأعراف من هذا الكتاب.

قوله تعالى: ﴿فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَ إِنَّ عَلَيْكَ اَللَّعْنَةَ إِلى‏َ يَوْمِ اَلدِّينِ الرجيم‏ فعيل بمعنى المفعول من الرجم و هو الطرد و شاع استعماله في الطرد بالحجارة و الحصاة، و اللعن هو الطرد و الإبعاد من الرحمة.

و من هنا يظهر أن قوله: ﴿وَ إِنَّ عَلَيْكَ اَللَّعْنَةَ إلخ بمنزلة البيان لقوله: ﴿فَإِنَّكَ رَجِيمٌ فإن الرجم كان سببا لخروجه من بين الملائكة من السماء أو من المنزلة الإلهية و بالجملة من مقام القرب و هو مستوى الرحمة الخاصة الإلهية فينطبق على الإبعاد من الرحمة و هو اللعن.

و قد نسب سبحانه هذه اللعنة المجعولة على إبليس في موضع آخر إلى نفسه فقال: ﴿وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى‏َ يَوْمِ اَلدِّينِ: ص: ٥٨ و قيدها في الآيتين جميعا بقوله:

﴿إِلى‏َ يَوْمِ اَلدِّينِ.

أما جعل مطلق اللعنة عليه في قوله: ﴿عَلَيْكَ اَللَّعْنَةَ فلأن اللعن يلحق المعصية و ما من معصية إلا و لإبليس فيه صنع بالإغواء و الوسوسة فهو الأصل الذي يرجع إليه كل معصية و ما يلحقها من لعن حتى في عين ما يعود إلى أشخاص العصاة من اللعن و الوبال، و تذكر في ذلك ما تقدم في ذيل قوله تعالى: ﴿لِيَمِيزَ اَللَّهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ اَلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى‏َ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ: الأنفال: ٣٧ في الجزء التاسع من الكتاب.

على أنه لعنه الله أول فاتح فتح باب معصية الله و عصاه في أمره فإليه يعود وبال هذا الطريق بسالكيه ما سلكوا فيه.

و أما جعل لعنته خاصة عليه في قوله: ﴿عَلَيْكَ لَعْنَتِي فلأن الإبعاد من الرحمة بالحقيقة إنما يؤثر أثره إذا كان منه تعالى إذ لا يملك أحد من رحمته إعطاء و منعا إلا بإذنه فإليه يعود حقيقة الإعطاء و المنع.

على أن اللعن من غيره تعالى بالحقيقة دعاء عليه بالإبعاد من الرحمة و أما نفس

 

 

 

 الإبعاد الذي هو نتيجة الدعاء فهو من صنعه القائم به تعالى و حقيقته المبالغة في منع الرحمة.

و قال في المجمع: و قال بعض المحققين: إنما قال سبحانه هنا: ﴿وَ إِنَّ عَلَيْكَ اَللَّعْنَةَ بالألف و اللام، و قال في سورة _ ص: ﴿لَعْنَتِي بالإضافة لأن هناك يقول:

﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ مضافا، فقال: ﴿وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي على المطابقة، و قال هنا:

﴿مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ اَلسَّاجِدِينَ و ساق الآية على اللام في قوله: ﴿وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ و قوله: ﴿وَ اَلْجَانَّ فأتى باللام أيضا في قوله: ﴿وَ إِنَّ عَلَيْكَ اَللَّعْنَةَ انتهى و قال أيضا في الآية بيان أنه لا يؤمن قط.

و أما تقييد اللعنة بقوله: ﴿إِلى‏َ يَوْمِ اَلدِّينِ فلأن اللعنة هي عنوان الإثم و الوبال العائد إلى النفس من المعصية و المعصية محدودة بيوم القيامة فاليوم عمل و لا جزاء و غدا جزاء و لا عمل، و إن شئت فقل: هذه الدار دار كتابة الأعمال و حفظها و يوم القيامة دار الحساب و الجزاء.

و أما قول القائل: إن تحديد اللعن بيوم الدين دليل على كونه مغيا به مرفوعا فيه و فيما بعده فمما يدفعه ظاهر الآيات المبينة للعذاب يوم القيامة.

و يؤيد ذلك التعبير في الآية عن يوم القيامة بيوم الدين المشعر بأنه ملعون قبل يوم القيامة و مجزي به فيه، و لو انقطع العذاب بقيام الساعة لكان اليوم يوم انقطاع الدين لا يوم الدين.

و ربما قيل في دفع إشكال الغاية إن ذلك أبعد غاية يضربها الخلائق فهو كقوله:

﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ الآية، و هو كما ترى و قد عرفت معنى الآية المقيس عليها في تفسير سورة هود.

و ربما قيل: إن المراد باللعنة في الآية لعن الخلائق و ذلك منقطع بمجي‏ء يوم الدين دون لعنه تعالى و إبعاده له من رحمته فإنه متصل إلى الأبد.

و كأن هذا القائل ذهب عليه قوله تعالى في سورة _ ص: ﴿وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى‏َ يَوْمِ اَلدِّينِ: الآية: ٧٨.

قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى‏َ يَوْمِ يُبْعَثُونَ الإنظار هو الإمهال و قد صدر كلامه بقوله: ﴿رَبِّ و هو يخاصمه و قد عصاه و استكبر عليه تعالى لأنه في مقام

 

 

 

 الدعاء لا مفر له من دعوته تعالى بما يثير به الرحمة الإلهية المطلقة و هو الالتجاء إليه بربوبيته له ليستجيب له و هو مغضوب عليه.

و قد صدر مسألته بفاء التفريع في قوله: ﴿فَأَنْظِرْنِي و ذكر فيه بعثة عامة البشر من غير أن يخص بالذكر آدم أباهم الذي ابتلي بالرجم و اللعن من أجل الإباء عن السجود له و ذلك كله مبني على ما تقدم في تفسير آيات القصة في سورة الأعراف أن المأمور به كان هو السجود لعامة البشر و كان آدم (عليه السلام) كالقنبلة المنصوبة للسجود يمثل به النوع الإنساني.

و توضيحه أنه قد تقدم في قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ: الأعراف: ١١ أنهم إنما أمروا بالسجدة لنوع الإنسان لا لشخص آدم (عليه السلام) و لم يكن هذه السجدة تشريفا اجتماعيا من غير غاية حقيقية بل كانت خضوعا بحسب الخلقة فهم بحسب ما أريد من خلقتهم خاضعون للإنسان بحسب ما أريد من كمال خلقته، أي إنهم مسخرون لأجله عاملون في سبيل سعادة حياته أي إن للإنسان منزلة من القرب و مرحلة من كمال السعادة تفوق ما للملائكة من ذلك.

فسجودهم جميعا له دليل أنهم جميعا مسخرون في سبيل كماله من السعادة عاملون لأجل فوزه و فلاحه كملائكة الحياة و ملائكة الموت و ملائكة الأرزاق و ملائكة الوحي و المعقبات و الحفظة و الكتبة و غيرهم ممن تذكرهم متفرقات الآيات القرآنية فالملائكة أسباب إلهية و أعوان للإنسان في سبيل سعادته و كماله.

و من هنا يظهر للمتدبر الفطن أن إباء إبليس عن السجدة استنكاف منه عن الخضوع لنوع الإنسان و العمل في سبيل سعادته و إعانته على كمال المطلوب على خلاف ما ظهر من الملائكة فهو بإبائه عن السجدة خرج من جمع الملائكة كما يفيده قوله تعالى: ﴿مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ اَلسَّاجِدِينَ و أظهر الخصومة لنوع الإنسان و البراءة منهم ما حيوا و عاشوا أو خالدا مؤبدا.

و يؤيده جعله تعالى اللعنة المطلقة عليه من يوم أبى إلى يوم الدين و هو مدة مكث النوع الإنساني في هذه الدنيا فجعلها عليه كذلك و لما يدع إبليس أنه سيغويهم و لم يقل ـ

 

 

 

بعد: ﴿لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ مشعر بأن إباءه عن السجدة نوع خصومة و عداوة منه لهذا النوع آخذا من آدم إلى آخر من سيولد و يعيش من ذريته.

فكأنه عليه اللعنة فهم من قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّ عَلَيْكَ اَللَّعْنَةَ إِلى‏َ يَوْمِ اَلدِّينِ أن له شأنا مع النوع الإنساني إلى يوم القيامة و أن لشقائهم و فساد أعمالهم ارتباطا به من حيث امتنع عن السجود و لذلك سأل النظرة إلى يوم يبعثون مفرعا ذلك على اللعنة المجعولة عليه فقال: ﴿رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى‏َ يَوْمِ يُبْعَثُونَ و لم يقل: رب أنظرني إلى يوم يبعثون و لم يقل: أنظرني إلى يوم يموت آدم أو أنظرني ما دام حيا يعيش بل ذكر آدم و بنيه جميعا و طلب النظرة إلى يوم يبعثون مفرعا ذلك على اللعنة إلى يوم الدين فلما أجيب إلى ما سأل أبدى ما في كمون ذاته و قال: ﴿لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ.

قوله تعالى: ﴿قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ إِلى‏َ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ جواب منه سبحانه لإبليس و فيه إجابة و رد أما الإجابة فبالنسبة إلى أصل الإنظار الذي سأله و أما الرد فبالنسبة إلى القيد و هو أن يكون الإنظار إلى يوم يبعثون فإن من الواضح اللائح بالنظر إلى سياق الآيتين أن يوم وقت المعلوم غير يوم يبعثون فلم يسمح له بإنظاره إلى يوم يبعثون بل إلى يوم هو غيره و لا محالة هو قبل يوم البعث.

و بذلك يظهر فساد قول من قال إنه لعنه الله أجيب إلى ما سأل و اليومان في الآيتين واحد و من الدليل عليه قوله في سورة الأعراف في القصة: ﴿قَالَ إِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ: الآية: ١٥ من غير أن يقيد بشي‏ء.

أما فساد دعواه اتحاد اليومين في الآيتين فقد ظهر مما تقدم و أما فساد الاستدلال بإطلاق آية الأعراف فلأنها تتقيد بما في هذه السورة و سورة _ ص من التقييد بقوله:

﴿إِلى‏َ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ و هذا كثير شائع في كلامه تعالى و القرآن يشهد بعضه على بعض و ينطق بعضه ببعض.

و ظاهر يوم الوقت المعلوم أنه وقت تعين في العلم الإلهي نظير قوله: ﴿وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ: الحجر: ٢١ و قوله: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ: الصافات: ٤١ فهو معلوم عند الله قطعا و أما أنه معلوم لإبليس أو مجهول عنده فغير معلوم من اللفظ، و قول بعضهم: إنه سبحانه أبهم اليوم و لم يبين فهو معلوم لله غير معلوم لإبليس لأن في

 

 

 

 بيانه إغراء بالمعصية كلام خال عن الدليل فإبهام اللفظ بالنسبة إلينا غير إبهام ما ألقي إلى إبليس من القول بالنسبة إليه على أن إغراء إبليس بالمعصية و هو الأصل لكل معصية مفروضة لا يخلو عن إشكال فافهمه.

على أن قول إبليس ثانيا: ﴿لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ شاهد على أنه سيبقى إلى آخر ما يعيش الإنسان في الدنيا ممن يمكنه إغواؤه فقد كان فهم من قوله تعالى: ﴿إِلى‏َ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ أنه آخر عمر البشر العائشين في الأرض الجائز له إغواؤهم.

و نسب إلى ابن عباس و مال إليه الجمهور ":أن اليوم هو آخر أيام التكليف - و هو النفخة الأولى يوم يموت الخلائق و كأنه مبني على أن إبليس باق ما بقي التكليف و أمكنت المخالفة و المعصية، و هو مدة عمر الإنسان في الدنيا، و ينتهي ذلك إلى النفخة الأولى التي بها يموت الخلائق فهو يوم الوقت المعلوم الذي أنظره الله إليه، و بينه و بين النفخة الثانية التي فيها يبعثون أربعمائة سنة أو أربعون سنة على اختلاف الروايات، و هي ما به التفاوت بين ما سأله إبليس و بين ما أجاب إليه الله سبحانه.

و هذا وجه حسن لو لا ما فيه من قولهم: إن إبليس باق ما بقي التكليف و أمكنت المخالفة و المعصية فإنها مقدمة لا بينة و لا مبينة و ذلك أن تعويل القوم في ذلك على أن المستفاد من الآيات و الأخبار كون كل كفر و فسوق موجود في النوع الإنساني مستندا إلى إغواء إبليس و وسوسته كما يدل عليه أمثال قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا اَلشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ: يس: ٦٠ و قوله: ﴿وَ قَالَ اَلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ اَلْأَمْرُ إِنَّ اَللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ اَلْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ إلخ إلى غير ذلك من الآيات. و مقتضاها أن يدوم وجود إبليس ما دام التكليف باقيا، و التكليف باق ما بقي الإنسان و هو المطلوب.

و فيه أن كون المعصية الإنسانية مستندة بالجملة إلى إغواء إبليس مستفادة من الآيات و الروايات لا غبار عليه لكنه إنما يقتضي بقاء إبليس ما دامت المعصية و الغواية باقية لا بقاءه ما دام التكليف باقيا، و لا دليل على الملازمة بين المعصية و التكليف وجودا.

بل الحجة قائمة من العقل و النقل على أن غاية الإنسان النوعية و هي السعادة ستعم النوع و يتخلص المجتمع الإنساني إلى الخير و الصلاح و لا يعبد على الأرض يومئذ إلا

 

 

 

 الله سبحانه، و ينطوي وقتئذ بساط الكفر و الفسوق، و يصفو العيش و يرتفع أمراض القلوب و وساوس الصدور، و قد تقدم تفصيل ذلك في مباحث النبوة في الجزء الثاني و في قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب. قال تعالى: ﴿ظَهَرَ اَلْفَسَادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ اَلَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ: الروم: ٤١ و قال:

﴿وَ لَقَدْ كَتَبْنَا فِي اَلزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ اَلذِّكْرِ أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ اَلصَّالِحُونَ: الأنبياء: ١٠٥.

و من ذلك يظهر أن الذي استندوا إليه من الحجة إنما يدل على كون يوم الوقت المعلوم الذي جعله الله غاية إنظار إبليس هو يوم يصلح الله سبحانه المجتمع الإنساني فينقطع دابر الفساد و لا يعبد يومئذ إلا الله لا يوم يموت الخلائق بالنفخة الأولى.

قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ الباء في قوله: ﴿بِمَا أَغْوَيْتَنِي للسببية و ﴿بِمَا مصدرية أي أتسبب بإغوائك إياي إلى التزيين لهم و ألقي إليهم ما استقر في من الغواية كما قالوا يوم القيامة على ما حكى الله: ﴿أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا: القصص: ٦٣.

و قول بعضهم: إن الباء للقسم أي أقسم بإغوائك لأزينن من أردإ القول فلم يعهد في كتاب و لا سنة أن يقسم بمثل الإغواء و الإضلال و ليس فيه شي‏ء مفهوم من التعظيم اللازم في القسم.

و قد نسب لعنه الله في قوله: ﴿بِمَا أَغْوَيْتَنِي إلى الله سبحانه أنه أغواه و لم يرده الله سبحانه إليه و لا أجاب عنه و ليس مراده به غوايته إذ عصى أمر السجدة و لم يسجد لآدم (عليه السلام) و الدليل على ذلك أن لا رابطة بين معصيته في نفسه و بين معصية الإنسان لربه حتى يكون معصيته سبب معصيتهم و يتسبب هو بها إلى إغوائهم.

و إنما يريد به ما يفيده قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّ عَلَيْكَ اَللَّعْنَةَ إِلى‏َ يَوْمِ اَلدِّينِ من استقرار اللعنة المطلقة فيه و هي الإبعاد من الرحمة و الإضلال عن طريق السعادة و هي إغواء له أثر الغواية التي أبداها من نفسه و أتى بها من عنده فيكون من إضلاله تعالى مجازاة لا إضلالا ابتدائيا و هو جائز غير ممتنع عليه تعالى، و لذلك لم يرده كما قال تعالى:

﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ: البقرة: ٢٦ و قد بينا

 

 

 

 ذلك في ذيل الآية و مواضع أخرى من هذا الكتاب.

و عند هذا يستقيم معنى السببية أعني إغواءه الناس بسبب الإغواء الذي مسه و استقر فيه فإن البعد من الرحمة و البون من السعادة لما كان لازما لنفسه بلزوم اللعنة الإلهية له كان كلما اقترب من قلب إنسان بالوسوسة و التسويل أو استولى على نفس من النفوس و هو بعيد من الرحمة و السعادة أوجب ذلك بعد من اقترب منه أو تسلط عليه، و هو إغواؤه بإلقاء أثر الغواية التي عنده إليه و هو ظاهر.

هذا ما يعطيه التدبر في الآية و محصله أن المراد بالإغواء ليس هو الإضلال الابتدائي بل الإضلال على سبيل المجازاة الذي يدل عليه قوله: ﴿وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي الآية.

و أما القوم فكالمسلم عندهم أن قوله: ﴿بِمَا أَغْوَيْتَنِي لو كان بمعناه الظاهر و هو الإضلال لكان هو الإضلال الابتدائي و كان ناظرا إلى إبائه و امتناعه عن السجدة و لذا استشكلوا الآية و اختلفوا في تفسير الإغواء على اختلاف مذاهبهم في استناد الشر إليه تعالى و صدوره منه جوازا و امتناعا.

فقال بعضهم و هم أهل الجبر: إن إسناد الإغواء إليه تعالى بلا إنكار منه لذلك يدل على أن الشر كالخير من الله تعالى، و المعنى رب بما أضللتني بالامتناع عن السجدة - فهو منك - أقسم لأضلنهم أجمعين.

و قال آخرون و هم غيرهم: أنه لا يجوز استناد الشر و المعصية و كل قبيح إليه تعالى و وجهوا الآية بوجوه.

أحدها: أن الإغواء في الآية بمعنى التخييب و المعنى رب بما خيبتني من رحمتك لأخيبنهم بالدعوة إلى معصيتك.

الثاني: أن المراد بالإغواء الإضلال عن طريق الجنة و المعنى بما أضللتني عن طريق جنتك لما صدر مني من معصيتك لأضلنهم بالدعوة.

الثالث: أن المراد بقوله: ﴿بِمَا أَغْوَيْتَنِي بما كلفتني أمرا ضللت عنده بالمعصية و هو السجود فسمى ذلك إضلالا منه له توسعا و أنت بالتأمل فيما قدمناه تعرف أن الآية في غنى عن هذا البحث و ما أبدئ فيه من الوجوه.

 

 

 

 و نظير هذا البحث بحثهم عن الإنظار الواقع في قوله: ﴿فَإِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ من جهة أنه مفض إلى الإغواء القبيح و ترجيح للمرجوح على الراجح.

فقال المجوزون: إن الآية تدل على أن الحسن و القبح اللذين يعلل بهما العقل أفعالنا لا تأثير لهما في أفعاله تعالى فله أن يثيب من يشاء و يعذب من يشاء من غير جهة مرجحة حتى مع رجحان الخلاف، قالوا: و من زعم أن حكيما يحصر قوما في دار و يرسل فيها النار العظيمة و الأفاعي القاتلة الكثيرة و لم يرد أذى أحد من أولئك القوم بالإحراق و اللسع فقد خرج عن الفطرة الإنسانية فإذن من حكم الفطرة أن الله تعالى أراد بإنظار إبليس إضلال بعض الناس.

و المانعون يوجهون الإنظار بأنه تعالى كان يعلم من إبليس و أتباعه أنهم يموتون على الكفر و الفسوق و يصيرون إلى النار أنظر إبليس أو لم ينظر على أنه تعالى تدارك تأييده ذلك بمزيد ثواب المؤمنين المتقين. على أنه يقول: ﴿وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ و لو كان الإغواء من الله لأنكره عليه إلى غير ذلك مما أوردوه من الوجوه.

و ليت شعري ما الذي أغفلهم عن آيات الامتحان و الابتلاء على كثرتها كقوله تعالى: ﴿لِيَمِيزَ اَللَّهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ: الأنفال: ٣٧ و قوله: ﴿وَ لِيَبْتَلِيَ اَللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَ لِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ: آل عمران: ١٥٤ و غيرهما من الآيات الدالة على أن نظام السعادة و الشقاء و الثواب و العقاب مبني على أساس الامتحان و الابتلاء، و الإنسان واقع بين الخير و الشر و السعادة و الشقاء له ما يختاره من العمل بنتائجه.

فلو لا أن يكون هناك داع إلى الخير و هم الملائكة الكرام و إن شئت فقل: هو الله، و داع إلى الشر و هم إبليس و قبيله لم يكن للامتحان معنى قال تعالى: ﴿اَلشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ اَلْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَ اَللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً: البقرة: ٢٦٨.

و لئن أيد الله إبليس على الإنسان بالإنظار إلى يوم الوقت المعلوم فقد أيده عليه بالملائكة الباقين ببقاء الدنيا و لم يقل سبحانه له: إنك منظر بل قال: ﴿فَإِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ فأثبت منظرين غيره و جعله بعضهم.

و لئن أيده بالتمكين بتزيين الباطل من الكفر و الفسوق للإنسان أيد الإنسان بأن هداه إلى الحق و زين الإيمان في قلبه و فطرة على التوحيد، و عرفه الفجور

 

 

 

و التقوى، و جعل له نورا يمشي به في الناس إن آمن بربه إلى غير ذلك من الأيادي، قال:

﴿قُلِ اَللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ: يونس: ٣٥ و قال: ﴿وَ لَكِنَّ اَللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ اَلْإِيمَانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ: الحجرات: ٧ و قال: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا: الروم: ٣٠ و قال: ﴿وَ نَفْسٍ وَ مَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا: الشمس: ٨ و قال: ﴿أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ: الأنعام: ١٢٢ «و قال ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْأَشْهَادُ: المؤمن: ٥١ و التكلم بالغير مشعر بوساطة الملائكة.

فالإنسان خلق هو في نفسه أعزل ليس معه شي‏ء من السعادة و الشقاء بحسب بدء خلقته واقف في ملتقى سبيلين: سبيل الخير و الطاعة و هو سبيل الملائكة ليس لهم إلا الطاعة، و سبيل الشر و المعصية و هو سبيل إبليس و جنوده و ليس معهم إلا المخالفة و المعصية، فإلى أي السبيلين مال في مسير حياته وقع فيه و رافقه أصحابه و زينوا له ما عندهم و هدوه إلى ما ينتهي إليه سبيلهم و هو الجنة أو النار و السعادة أو الشقاء.

فقد بان مما تقدم أن إنظار إبليس إلى يوم الوقت المعلوم ليس من تقديم المرجوح على الراجح و لا إبطالا لقانون العلية بل ليتيسر به و بما يقابله من بقاء الملائكة ما هو الواجب من أمر الامتحان و الابتلاء فلا محل للاستشكال.

و قوله: ﴿لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ أي لأزينن لهم الباطل أو لأزينن لهم المعاصي على ما قيل و المعنى الأول أجمع و المفعول محذوف على أي حال، و الظاهر أن المفعول معرض عنه و الفعل مستعمل استعمال اللازم، و الغرض بيان أصل التزيين كناية عن الغرور يقال: زين له كذا و كذا أي حمله عليه غرورا، و ضمير ﴿لَهُمْ لآدم و ذريته على ما يدل عليه السياق، و المراد بالتزيين لهم في الأرض غرورهم في هذه الحياة الأرضية و هي الحياة الدنيا و هو السبب القريب للإغواء فيكون عطف قوله: ﴿وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عليه من عطف المسبب على السبب المترتب عليه.

و الآية تشعر بل تدل على ما قدمناه في تفسير آيات جنة آدم في الجزء الأول من الكتاب أن معصية آدم بالأكل من الشجرة المنهية عن وسوسة إبليس لم تكن معصية لأمر مولوي بل مخالفة لأمر إرشادي لا يوجب نقضا في عصمته فإنه يعرف الأرض في

 

 

 

 الآية ظرفا لتزيينه و إغوائه فما كان غروره لآدم و زوجته في الجنة إلا ليخرجهما منها و ينزلهما إلى الأرض فيتناسلا فيها فيغويهما و بنيهما عن الحق و يضلهم عن الصراط قال تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ اَلشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا: الأعراف: ٢٧.

و قوله: ﴿إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ استثنى من عموم الإغواء طائفة خاصة من البشر و هم المخلصون - بفتح اللام على القراءة المشهورة و السياق يشهد أنهم الذين أخلصوا لله و ما أخلصهم إلا الله سبحانه، و قد قدمنا في الكلام على الإخلاص في تفسير سورة يوسف أن المخلصين هم الذين أخلصهم الله لنفسه بعد ما أخلصوا أنفسهم لله فليس لغيره سبحانه فيهم شركة و لا في قلوبهم محل فلا يشتغلون بغيره تعالى فما ألقاه إليهم الشيطان من حبائله و تزييناته عاد ذكرا لله مقربا إليه.

و من هنا يترجح أن الاستثناء إنما هو من الإغواء فقط لا منه و من التزيين بمعنى أنه لعنه الله يزين للكل لكن لا يغوي إلا غير المخلصين.

و يستفاد من استثناء العباد أولا ثم تفسيره بالمخلصين أن حق العبودية إنما هو بأن يخلص الله العبد لنفسه أي أن لا يملكه إلا هو و يرجع إلى أن لا يرى الإنسان لنفسه ملكا و أنه لا يملك نفسه و لا شيئا من صفات نفسه و آثارها و أعمالها و أن الملك - بكسر الميم و ضمها - لله وحده.

و قوله تعالى: ﴿قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ظاهر الكلام على ما يعطيه السياق أنه كناية على أن الأمر إليه تعالى لا غنى فيه عنه بوجه كما أن كون طريق السفينة على البحر يقضي على راكبيها بأن لا مفر لهم مما يستدعيه العبور على الماء من العدة و الوسيلة و كذا كون طريق القافلة على الجبل يحوجهم إلى ما يتهيأ به لعبور قلله الشاهقة و مسالكه الصعبة فكونه صراطا عليه تعالى بالاستقامة هو أنه أمر متوقف من كل جهة إلى حكمه و قضائه تعالى فإنه الله الذي منه يبدأ كل شي‏ء و إليه ينتهي فلا يتحقق أمر إلا و هو ربه القيوم عليه.

و ظاهر السياق أيضا أن الإشارة بقوله: ﴿هَذَا صِرَاطٌ إلخ إلى قول إبليس:

﴿لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ لما أظهر بقوله هذا أنه سينتقم منهم

 

 

 

 و يبسط سلطته بالتزيين و الإغواء عليهم جميعا فلا يخلص منهم إلا القليل كأنه يشير إلى أنه سيستقل بما عزم عليه و يعلو بإرادته على الله سبحانه فيما أراد من خلقهم و استخلافهم و استعبادهم كما حكاه الله تعالى من قوله في موضع آخر من قوله: ﴿وَ لاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ: الأعراف: ١٧.

فمعنى الآية أن ما ذكرت من أنك ستغويهم أجمعين و استثنيت منهم من استثنيت و أظهرت نسبته إلى قوتك و مشيئتك زاعما فيه أنك مستقل به، أمر لا يملكه إلا أنا و لا يحكم فيه غيري و لا يصدر إلا عن قضائي فإن أغويت فبإذني أغويت و إن منعت فبمشيئتي منعت فليس إليك من الأمر شي‏ء و لا من الملك إلا ما ملكتك و لا من القدرة إلا ما أقدرتك، و الذي أقضيه لك من السلطان أن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك إلخ.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ هذا هو القضاء الذي أشار سبحانه إليه في الآية السابقة في أمر الإغواء و ذكر أنه له وحده ليس لغيره فيه صنع و لا نصيب.

و محصله أن آدم و بنيه كلهم عباده لا كما قاله إبليس حيث قصر عباده على المخلصين منهم إذ قال: ﴿إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ و لم يجعل سبحانه له عليهم أي على العباد سلطانا حتى يستقل بأمرهم فيغويهم و إنما جعل له السلطان على طائفة منهم و هم الذين اتبعوه من الغاوين و ولوه أمرهم و ألقوا إليه زمام تدبيرهم فهؤلاء هم الذين له عليهم سلطان.

فإذا أمعنت في الآية وجدتها ترد على إبليس قوله: ﴿لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ من ثلاث جهات أصلية:

إحداها: أنه حصر عباده في المخلصين منهم و نفى عنهم سلطان نفسه و عمم سلطانه على الباقين و الله سبحانه عمم عباده على الجميع و قصر سلطان إبليس على طائفة منهم و هم الذين اتبعوه من الغاوين و نفى سلطانه على الباقين.

و الثانية: أنه لعنه الله ادعى لنفسه الاستقلال في إغوائهم كما يظهر من قوله:

﴿لَأُغْوِيَنَّهُمْ في سياق المخاصمة و التقريع بالانتقام و الله سبحانه يرد عليه بأنه منه مزعمة

 

 

 

 باطلة و إنما هو عن قضاء من الله و سلطان بتسليطه و إنما ملكه إغواء من اتبعه و كان غاويا في نفسه و بسوء اختياره.

فلم يأت إبليس بشي‏ء من نفسه و لم يفسد أمرا على ربه لا في إغوائه أهل الغواية فإنه بقضاء من الله سبحانه أن يستقر لأهل الغواية غيهم بسببه و قد اعترف لعنه الله بذلك بعض الاعتراف بقوله: ﴿رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي و لا في استثنائه المخلصين فإنه أيضا بقضاء من الله نافذ فلا حكم إلا لله.

و هذا الذي تفيده الآية الكريمة أعني تسليط إبليس على إغواء الغاوين الذين هم في أنفسهم غاوون و تخليص المخلصين و هم مخلصون في أنفسهم من كيده كل ذلك بقضاء من الله، مبني على أصل عظيم يفيده التوحيد القرآني المفاد بأمثال قوله تعالى: ﴿إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ: يوسف: ٦٧ و قوله: ﴿وَ هُوَ اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْأُولى‏َ وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُ اَلْحُكْمُ: القصص: ٧٠ و قوله: ﴿اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ: آل عمران: ٦٠ و قوله: ﴿وَ يُحِقُّ اَللَّهُ اَلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ: يونس: ٨٢ و غير ذلك من الآيات الدالة على أن كل حكم إيجابي أو سلبي فهو مملوك لله نافذ بقضائه.

و من هنا يظهر ما في تفسيرهم قوله: ﴿إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ من المسامحة فإنهم قالوا: إنه إذا قبل من إبليس و اتبعه صار له سلطان عليه بعدوله عن الهدى إلى ما يدعوه إليه من الغي و ظاهره أنه سلطان قهري يحصل لإبليس عن سوء اختيارهم ليس من عند نفسه و لا بجعل من الله سبحانه.

وجه الفساد: أن فيه أخذ الاستقلال و الحول الذاتي من إبليس و إعطاؤه ذوات الأشياء و لو كان إبليس لا يملك شيئا من عند نفسه و بغير إذن ربه فالأشياء و الأمور أيضا لا تملك لنفسها شيئا و لا حكما حتى الضروريات و لوازم الذوات إلا بإذن من الله و تمليك فافهمه.

و الثالثة: أن سلطانه على إغواء من يغويه و إن كان بجعل و تسليط من الله سبحانه إلا أنه ليس بتسليط على الإغواء و الإضلال الابتدائي غير الجائز إسناده إلى ساحته سبحانه بل تسليط على الإغواء بنحو المجازاة المسبوق بغوايتهم من عندهم و في أنفسهم.

و الدليل على ذلك قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ فإبليس إنما يغوي

 

 

 

من اتبعه بغوايته أي إن الإنسان يتبعه بغوايته أولا فيغويه هو ثانيا فهناك غواية بعدها إغواء و الغواية إجرام من الإنسان و الإغواء بسبب إبليس مجازاة من الله سبحانه.

و لو كان هذا الإغواء إغواء ابتدائيا من إبليس لمن لا يستحق ذلك لكان هو الأليق باللوم دون الإنسان كما يذكره يوم القيامة على ما يحكيه سبحانه بقوله: ﴿وَ مَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ: إبراهيم: ٢٢. فاللوم على الإنسان المجرم و هو مسئول عن معصيته دون إبليس.

نعم إبليس ملوم على ما يتلبس به من الفعل بسوء اختياره و هو الإغواء الذي سلطه الله عليه مجازاة لما امتنع من السجود لآدم لما أمر به فالإغواء هو الذي استقرت ولايته عليه كما يشير سبحانه إليه في موضع آخر من كلامه إذ يقول: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا اَلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ: الأعراف: ٢٧ و قال تعالى و هو أوضح ما يؤيد جميع ما قدمناه: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَ يَهْدِيهِ إِلى‏َ عَذَابِ اَلسَّعِيرِ: الحج: ٤.

و قد تحصل مما تقدم أن المراد بقوله: ﴿عِبَادِي عامة الإنسان، و أن الاستثناء في قوله: ﴿مَنِ اِتَّبَعَكَ متصل لا منقطع، و أن ﴿مَنِ في قوله: ﴿مِنَ اَلْغَاوِينَ بيانية، و أن الكلام مبني على رد قول إبليس، و أن الآية مشتملة على قضاءين من الله سبحانه في عقدي المستثنى و المستثنى منه و غير ذلك.

و من ذلك يظهر عدم استقامة قول بعضهم: إن المراد بعبادي هم الذين استثناهم إبليس و عبر عنهم بقوله: ﴿عِبَادَكَ مِنْهُمُ فيكون الاستثناء منقطعا و الكلام مسوقا لتقرير قول إبليس إن له سلطانا على من يغويه و إن المخلصين لا سبيل له إليهم و المعنى أن المخلصين لا سلطان لك عليهم لكنك مسلط على من اتبعك من الغاوين.

و أنت تعلم بالتأمل فيما تقدم أن هذا هدم لأساس السياق و ما يعطيه مقام المخاصمة و تحق نسبته إلى ساحة العزة و الكبرياء و تنزيل خطابه تعالى منزلة لا يفيد معها أكثر من تغيير صورة كلام إبليس مع حفظ معناه تقريرا أو اعترافا فهو يقول: سأغويهم إلا المخلصين، و الله سبحانه يقول: لا تغوي المخلصين لكن تغوي غيرهم!.

و ربما فسر بعضهم قوله: ﴿عِبَادِي بجميع البشر و أخذ مع ذلك الاستثناء

 

 

 

 منقطعا و لعل ذلك بالبناء على عدم جواز استثناء أكثر الأفراد فلا يقال: له على مائة إلا تسعة و تسعون مثلا و من المعلوم أن الغاوين من الناس أكثر من المخلصين بما لا يقاس.

و فيه أن ذلك إنما هو فيما كان النظر في الاستثناء إلى صريح العدد و أما إذا كان المنظور إليه هو النوع أو الصنف بعنوانه فلا بأس بزيادة عدد الأفراد، و للإنسان عدة أصناف: المخلصون و من دونهم من المؤمنين و المستضعفون و الذين اتبعوا إبليس من الغاوين، و قد استثنى الصنف الأخير في الآية بعنوانه و بقي الباقون و هم أصناف.

و منهم من جعل الاستثناء منقطعا حذرا من ثبوت سلطان إبليس حتى على الغاوين زعما منه أنه ينافي إطلاق السلطنة الإلهية أو عدله تعالى و معنى الآية على هذا، أن عبادي ليس لك عليهم سلطان لكن من اتبعك من الغاوين ألقى إليك زمام نفسه و جعل لك على نفسه سلطانا و ليس ذلك من نفسك حتى تعجز الله في خلقه و لا من الله حتى ينافي عدله تعالى.

و فيه: أن له سلطانا على الغاوين لا من نفسه بل بجعل من الله و لا ينافي ذلك عدله في خلقه فإنه تسليط مجازاة لا تسليط ابتدائي، و لا منافاة بين كون السلطان بقضاء منه تعالى و كونه باتباع الغاوين له باختيارهم فكل ذلك مما قد تبين فيما قدمناه.

على أن قوله تعالى فيه: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ: الحج: ٤ و قوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا اَلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ: الأعراف: ٢٧ يدلان صريحا على ثبوت سلطانه و أنه بجعل من الله سبحانه و قضاء.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ الظاهر أن «موعد» اسم مكان و المراد بكون جهنم موعدهم كونه محل إنجاز ما وعدهم الله من العذاب.

و هذا منه سبحانه تأكيد لثبوت قدرته و رجوع الأمر كله إليه كأنه تعالى يقول له: ما ذكرته من السلطان على الغاوين ليس لك من نفسك و لم تعجزنا بل نحن سلطناك عليهم لاتباعهم لك على أنا سنجازيهم بعذاب جهنم.

و لكون الكلام مسوقا لبيان حالهم اقتصر على ذكر جزائهم و لم يذكر معهم إبليس و لا جزاءه بخلاف قوله: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ: ص: ٨٥ و قوله: ﴿فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً: إسراء: ٦٣ لأن المقام غير المقام.

 

 

 

قوله تعالى: ﴿لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ لم يبين سبحانه في شي‏ء من صريح كلامه ما هو المراد بهذه الأبواب أ هي كأبواب الحيطان مداخل تهدي الجميع إلى عرصة واحدة أم هي طبقات و دركات تختلف في نوع العذاب و شدته؟ و كثيرا ما يسمى في الأمور المختلفة الأنواع كل نوع بابا كما يقال: أبواب الخير و أبواب الشر و أبواب الرحمة، قال تعالى: ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ: الأنعام: ٤٤ و ربما سمي أسباب الشي‏ء و طرق الوصول إليه أبوابا كأبواب الرزق لأنواع المكاسب و المعاملات.

و ليس من البعيد أن يستفاد المعنى الثاني من متفرقات آيات النار كقوله تعالى: ﴿وَ سِيقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلى‏َ جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا إلى أن قال: ﴿قِيلَ اُدْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا: الزمر: ٧٢ «و قوله ﴿إِنَّ اَلْمُنَافِقِينَ فِي اَلدَّرْكِ اَلْأَسْفَلِ مِنَ اَلنَّارِ: النساء: ١٤٥ إلى غير ذلك من الآيات.

و يؤيده قوله: ﴿لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ فإن ظاهره أن نفس الجزء مقسوم موزع على الباب، و هذا إنما يلائم الباب بمعنى الطبقة دون الباب بمعنى المدخل و أما تفسير بعضهم الجزء المقسوم بالفريق المعين المفروز من غيره فوهنه ظاهر.

و على هذا فكون جهنم لها سبعة أبواب هو كون العذاب المعد فيها متنوعا إلى سبعة أنواع ثم انقسام كل نوع أقساما حسب انقسام الجزء الداخل الماكث فيه، و ذلك يستدعي انقسام المعاصي الموجبة للدخول فيها سبعة أقسام، و كذا انقسام الطرق المؤدية و الأسباب الداعية إلى تلك المعاصي ذاك الانقسام، و بذلك يتأيد ما ورد من الروايات في هذه المعاني كما سيوافيك إن شاء الله.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ اُدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ أي إنهم مستقرون في جنات و عيون يقال لهم: ادخلوها بسلام لا يوصف و لا يكتنه نعته في حال كونكم آمنين من كل شر و ضر.

لما ذكر سبحانه قضاءه فيمن اتبع إبليس من الغاوين ذكر ما قضى به في حق المتقين من الجنة، و قد ورد تفسير التقوى في كلامه (ص) بالورع عن محارم الله، و قد تكرر في كلامه تعالى بشراهم بالجنة فيكون المتقون أعم من المخلصين.

 

 

 

 و ما قيل: إنه لا شبهة في أن السياق يدل على أن المتقين هم المخلصون السابق ذكرهم، و أن المطلق يحمل على الفرد الكامل.

فيه أن ذلك مبني على كون المراد بالعباد في قوله: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ هم المخلصين حتى يختص السياق بالكلام فيهم، و قد تقدم أن المراد بالعباد عامة أفراد الإنسان خرج منه الغاوون بالاستثناء و بقي الباقون، و قد ذكر سبحانه قضاءه في الغاوين بالنار و هو ذا يذكر قضاءه في غيرهم ممن أوجب له الجنة و الأمر في المستضعفين مرجأ و في العصاة من أهل الكبائر الذين يموتون بغير توبة منوط بالشفاعة فيبقى أهل التقوى من المؤمنين و هم أعم من المخلصين فقضي فيهم بالجنة.

و أما حديث حمل المطلق على الفرد الكامل فهو خطأ و إنما يحمل على الفرد المتعارف و تفصيل المسألة في فن الأصول.

و ذكر الإمام الرازي في تفسيره أن المراد بالمتقين في الآية الذين اتقوا الشرك و نقله عن جمهور الصحابة و التابعين و أسنده إلى الخبر.

قال: و هذا هو الحق الصحيح و الذي يدل عليه أن المتقي هو الآتي بالتقوى مرة واحدة كما أن الضارب هو الآتي بالضرب مرة فليس من شرط صدق الوصف بكونه متقيا كونه آتيا بجميع أنواع التقوى، و الذي يقرر ذلك أن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يكون آتيا بالتقوى فإن الفرد مشتمل على الماهية بالضرورة و كل آت بالتقوى يجب أن يكون متقيا فالآتي بفرد يجب كونه متقيا، و لهذا قالوا: ظاهر الأمر لا يفيد التكرار. فظاهر الآية يقتضي حصول الجنات و العيون لكل من اتقى عن ذنب واحد، إلا أن الأمة مجمعة على أن التقوى عن الكفر شرط في حصول هذا الحكم.

و أيضا هذه الآية وردت عقيب قول إبليس: ﴿إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ عقيب قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ فلذا اعتبر الإيمان في هذا الحكم فوجب أن لا يزاد فيه قيد آخر لأن تخصيص العام لما كان خلاف الظاهر فكلما كان التخصيص أقل كان أوفق بمقتضى الأصل و الظاهر.

فثبت أن الحكم المذكور يتناول جميع القائلين: لا إله إلا الله محمد رسول الله و لو

 

 

 

 كانوا من أهل المعصية، و هذا تقرير بين و كلام ظاهر، انتهى.

و مقتضى كلامه شمول الآية لمن اتقى الشرك و لو اقترف جميع الكبائر الموبقة التي نص الكتاب العزيز باستحقاق النار بإتيانها و ترك جميع الواجبات التي نص على تركها بمثله، و المستأنس بكلامه تعالى المتدبر في آياته لا يرتاب في أن القرآن لا يسمي مثل هذا متقيا و لا يعده من المتقين، و قد أكثر القرآن ذكر المتقين و بشرهم بالجنة بشارة صريحة فيما يقرب من عشرين موضعا وصفهم في كثير منها باجتناب المحارم و بذلك فسر التقوى في الحديث كما تقدم.

ثم إن مجرد صحة إطلاق الوصف أمر و التسمية أمر آخر فلا يسمى بالمؤمنين و المحسنين و القانتين و المخلصين و الصابرين و خاصة في الأوصاف التي تحتمل البقاء و الاستمرار إلا من استقر فيه الوصف، و لو صح ما ذكره في المتقين لجرى مثل ذلك في الظالمين و الفاسقين و المفسدين و المجرمين و الغاوين و الضالين و قد أوعدهم الله النار، و أدى ذلك إلى تدافع عجيب و اختلال في كلامه تعالى، و لو قيل: إن هناك ما يصرف هذه الآيات أن تشمل المرة و المرتين كآيات التوبة و الشفاعة و نظائرها فهناك ما يصرف هذه الآية أن تشمل المتقي بالمرة و المرتين و هي نفس آيات الوعيد على الكبائر الموبقة كآيات الزنا و القتل ظلما و الربا و أكل مال اليتيم و أشباهها.

ثم الذي ذكره في تقريب الدلالة وجوه واهية كقوله: إن هذه الآية وقعت عقيب قول إبليس إلخ، فإنك قد عرفت فيما تقدم أن ذلك لا ينفعه شيئا، و كقوله:

إن زيادة قيد آخر بعد الإيمان خلاف الأصل إلخ، فإن الأصل إنما يركن إليه عند عدم الدليل اللفظي و قد عرفت أن هناك آيات جمة صالحة للتقييد.

و كقوله: إن ذلك خلاف الظاهر. و كأنه يريد به ظهور المطلق في الإطلاق، و قد ذهب عليه أن ظهور المطلق إنما هو حجة فيما إذا لم يكن هناك ما يصلح للتقييد.

فالحق أن الآية إنما تشمل الذين استرقت فيهم ملكة التقوى و هو الورع عن محارم الله فأولئك هم المقضي عليهم بالسعادة و الجنة قضاء لازما، نعم المستفاد من الكتاب و السنة أن أهل التوحيد و هم من حضر الموقف بشهادة أن لا إله إلا الله لا يخلدون في النار و يدخلون الجنة لا محالة، و هذا غير دلالة آية المتقين على ذلك.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ نَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلى‏َ سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ إلى آخر الآيتين. الغل‏ الحقد، و قيل هو ما في الصدر من حقد و حسد مما يبعث الإنسان إلى إضرار الغير، و السرر جمع سرير و النصب‏ هو التعب و العي الوارد من خارج.

يصف تعالى في الآيتين حال المتقين في سعادتهم بدخول الجنة، اختص بالذكر هذه الأمور من بين نعم الجنة على كثرتها فإن العناية باقتضاء من المقام متعلقة ببيان أنهم في سلام و أمن مما ابتلي به الغاوون من بطلان السعادة و ذهاب السيادة و الكرامة فذكر أنهم في أمن من قبل أنفسهم لأن الله نزع ما في صدورهم من غل فلا يهم الواحد منهم بصاحبه سوء بل هم إخوان على سرر متقابلين و لتقابلهم معنى سيأتي في البحث الروائي إن شاء الله تعالى و أنهم في أمن من ناحية الأسباب و العوامل الخارجة فلا يمسهم نصب أصلا و أنهم في أمن و سلام من ناحية ربهم فما هم من الجنة بمخرجين أبدا فلهم السعادة و الكرامة من كل جهة، و لا يغشاهم و لا يمسهم شقاء و وهن من جهة أصلا لا من ناحية أنفسهم و لا من ناحية سائر ما خلق الله و لا من ناحية ربهم.

(كلام) كلام في الأقضية الصادرة في بدء خلقة الإنسان

الأقضية التي صدرت عن مصدر العزة في بدء خلقة الإنسان على ما وقع في كلامه سبحانه عشرة:

الأول و الثاني قوله لإبليس: ﴿فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَ إِنَّ عَلَيْكَ اَللَّعْنَةَ إِلىَ يَوْمِ اَلدِّينِ: الحجر: ٣٥ و يمكن إرجاعهما إلى واحد.

الثالث قوله سبحانه له: ﴿فَإِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ إِلىَ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ»: الحجر: ٣٨.

الرابع و الخامس و السادس قوله له: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ: الحجر: ٤٣.

السابع و الثامن قوله سبحانه لآدم و من معه: ﴿اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إِلىَ حِينٍ: البقرة: ٣٦.

التاسع و العاشر قوله لهم: ﴿اِهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ

 

 

 

 هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ: البقرة: ٣٩.

و هناك أقضية فرعية مترتبة على هذه الأقضية الأصلية يعثر عليها المتدبر الباحث.

(بحث روائي)

 في تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله: ﴿وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي الآية قال: روح خلقها الله فنفخ في آدم منها.

 و فيه، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي قال: خلق خلقا و خلق روحا ثم أمر الملك فنفخ فيه و ليست بالتي نقصت من الله شيئا هي من قدرته تبارك و تعالى.

 و فيه، و في رواية سماعة عنه (عليه السلام): خلق آدم و نفخ فيه. و سألته عن الروح قال: هي قدرته من الملكوت.

 أقول: أي هي قدرته الفعلية منبعثة عن قدرته الذاتية صادرة منها كما يدل عليه الخبر السابق.

 و في المعاني، بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: ﴿وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي قال: روح اختاره و اصطفاه و خلقه و أضافه إلى نفسه و فضله على جميع الأرواح فأمر فنفخ منه في آدم.

 و في الكافي، بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عما يروون أن الله خلق آدم على صورته فقال: هي على صورة مخلوقة محدثة اصطفاها الله و اختارها على سائر الصور المختلفة فأضافها إلى نفسه كما أضاف الكعبة إلى نفسه فقال: ﴿بَيْتِيَ ﴿وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي.

 أقول: و هذه الروايات من غرر الروايات في معنى الروح تتضمن معارف جمة و سنوضح معناها عند الكلام في حقيقة الروح إن شاء الله.

 و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى:

﴿فَإِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ إِلىَ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ يوم ينفخ في الصور نفخة واحدة فيموت

 

 

 

إبليس ما بين النفخة الأولى و الثانية.

و في تفسير العياشي، عن وهب بن جميع و في تفسير البرهان، عن شرف الدين النجفي بحذف الإسناد عن وهب و اللفظ للثاني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

سألته عن إبليس و قوله: ﴿رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ إِلىَ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ أي يوم هو؟ قال: يا وهب أ تحسب أنه يوم يبعث الله فيه الناس و لكن الله عز و جل أنظره إلى يوم يبعث فيه قائمنا فيأخذ بناصيته و يضرب عنقه فذلك اليوم هو الوقت المعلوم.

و في تفسير القمي، بإسناده عن محمد بن يونس عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله تبارك و تعالى: ﴿فَأَنْظِرْنِي إلى قوله ﴿إِلىَ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ قال:

يوم الوقت المعلوم يذبحه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على الصخرة التي في بيت المقدس.

 أقول: و هو من أخبار الرجعة و في معناه و معنى الرواية السابقة عليه أخبار أخرى من طرق أهل البيت (عليه السلام).

و من الممكن أن تكون الرواية الأولى من هذه الثلاث الأخيرة صادرة على وجه التقية، و يمكن أن توجه الروايات الثلاث من غير تناف بينها بما تقدم في الكلام على الرجعة في الجزء الأول من الكتاب و غيره أن الروايات الواردة من طرق أهل البيت (عليه السلام) في تفسير غالب آيات القيامة تفسرها بظهور المهدي (عليه السلام) تارة و بالرجعة تارة و بالقيامة أخرى لكون هذه الأيام الثلاثة مشتركة في ظهور الحقائق و إن كانت مختلفة من حيث الشدة و الضعف فحكم أحدها جار في الآخرين فافهم ذلك.

 و في تفسير العياشي، عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت: أ رأيت قول الله: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ؟ ما تفسير هذا؟ قال: قال الله: إنك لا تملك أن تدخلهم جنة و لا نارا.

 و في تفسير القمي ":في قوله تعالى: ﴿لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ الآية، قال: قال: يدخل في كل باب أهل مذهب، و للجنة ثمانية أبواب. و في الدر المنثور، أخرج أحمد في الزهد عن خطاب بن عبد الله قال: قال علي: أ تدرون كيف أبواب جهنم قلنا كنحو هذه الأبواب. قال: لا، و لكنها هكذا

 

 

 

 و وضع يده فوق يده و بسط يده على يده. و فيه، أخرج ابن المبارك و هناد و ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و أحمد في الزهد و ابن أبي الدنيا في صفة النار و ابن جرير و ابن أبي حاتم و البيهقي في البعث من طرق عن علي قال: أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض فيملأ الأول ثم الثاني ثم الثالث حتى يملأ كلها. و فيه، أخرج ابن مردويه و الخطيب في تاريخه عن أنس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): في قوله تعالى: ﴿لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ قال: جزء أشركوا بالله، و جزء شكوا في الله، و جزء غفلوا عن الله. أقول: هو تعداد أجزاء الأبواب دون نفسها، و الظاهر أن الكلام غير مسوق للحصر.

 و فيه، أخرج ابن مردويه عن أبي ذر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لجهنم باب لا يدخل منه إلا من أخفرني في أهل بيتي و أراق دماءهم من بعدي. أقول: يقال: خفره أي غدر به و نقض عهده.

 و فيه، أخرج أحمد و ابن حبان و الطبري و ابن مردويه و البيهقي في البعث عن عتبة بن عبد الله عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: للجنة ثمانية أبواب و للنار سبعة أبواب و بعضها أفضل من بعض. أقول: و الروايات كما ترى تؤيد من قدمناه.

 و في تفسير القمي،" :في قوله تعالى: ﴿وَ نَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ الآية، قال: قال العداوة.

 و في تفسير البرهان، عن الحافظ أبي نعيم عن رجاله عن أبي هريرة قال: قال علي بن أبي طالب: يا رسول الله أيما أنا أحب إليك أم فاطمة قال: فاطمة أحب إلي منك و أنت أعز علي منها، و كأني بك و أنت على حوضي تذود عنه الناس، و إن عليه أباريق عدد نجوم السماء، و أنت و الحسن و الحسين و حمزة و جعفر في الجنة إخوانا على سرر متقابلين و أنت معي و شيعتك. ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ﴿إِخْوَاناً عَلىَ سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ لا ينظر أحدكم في قفاء صاحبه.

 

 

 

 و فيه، عن ابن المغازلي في المناقب يرفعه إلى زيد بن أرقم قال: دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إني مواخ بينكم كما آخى الله بين الملائكة، ثم قال لعلي: أنت أخي ثم تلا هذه الآية: ﴿إِخْوَاناً عَلىَ سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ الأخلاء في الله ينظر بعضهم إلى بعض:

أقول: و رواه أيضا عن أحمد في مسنده مرفوعا إلى زيد بن أوفى عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الرواية مبسوطة. و في الروايتين تفسير قوله تعالى: ﴿عَلىَ سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ بقوله: لا ينظر أحدهم في قفاء صاحبه، و قوله: الأخلاء في الله ينظر بعضهم إلى بعض و فيه إشارة إلى أن التقابل في الآية كناية عن عدم تتبع أحدهم عورات إخوانه و زلاتهم كما يفعل ذلك من في صدره غل و هو معنى لطيف.

و ما قرأه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من الآية إنما هو من باب الجري و الانطباق لا أن الآية نازلة في أهل البيت (عليه السلام) فسياق الآيات لا يلائمه البتة.

و نظيرها ما

 روي عن علي (عليه السلام): أن الآية نزلت فينا أهل بدر،

 و في رواية أخرى عنه (عليه السلام): أنها نزلت في أبي بكر و عمر،

 و في رواية أخرى عن علي بن الحسين (عليه السلام): أنها نزلت في أبي بكر و عمر و علي‏،

و في رواية أخرى ":أنها نزلت في علي و الزبير و طلحة،

و في رواية أخرى" :أنها نزلت في علي و عثمان و طلحة و الزبير،

 و في رواية أخرى عن ابن عباس ":أنها نزلت في عشرة: أبي بكر و عمر و عثمان و علي و طلحة و الزبير و سعد و سعيد و عبد الرحمن بن عوف و عبد الله بن مسعود.

و الروايات على ما بها من الاختلاف تطبيقات من الرواة، و الآية تأبى بسياقها عن أن تكون نازلة في بعض المذكورين كيف؟ و هي في جملة آيات تقص ما قضاه الله و حكم به يوم خلق آدم و أمر الملائكة و إبليس بالسجود له فأبى إبليس فرجمه ثم قضى ما قضى، و لا تعلق لذلك بأشخاص بخصوصيتهم هذا.

 [سورة الحجر (١٥): الآیات ٤٩ الی ٨٤ ]

﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ ٤٩وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ اَلْعَذَابُ

 

 

 

﴿اَلْأَلِيمُ ٥٠وَ نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ٥١إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ٥٢قَالُوا لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ ٥٣قَالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى‏ أَنْ مَسَّنِيَ اَلْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ٥٤قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُنْ مِنَ اَلْقَانِطِينَ ٥٥قَالَ وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ اَلضَّالُّونَ ٥٦قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا اَلْمُرْسَلُونَ ٥٧قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلى‏ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ٥٨إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ٥٩إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ اَلْغَابِرِينَ ٦٠فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ اَلْمُرْسَلُونَ ٦١قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ٦٢قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ ٦٣وَ أَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّا لَصَادِقُونَ ٦٤فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اَللَّيْلِ وَ اِتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَ لاَ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَ اُمْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ٦٥وَ قَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ اَلْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاَءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ٦٦وَ جَاءَ أَهْلُ اَلْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ ٦٧قَالَ إِنَّ هَؤُلاَءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ ٦٨وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ لاَ تُخْزُونِ ٦٩قَالُوا أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ اَلْعَالَمِينَ ٧٠قَالَ هَؤُلاَءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ٧١لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ٧٢فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ٧٣فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَ أَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ٧٤إِنَّ

 

 

 

﴿فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ٧٥وَ إِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ٧٦إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ٧٧وَ إِنْ كَانَ أَصْحَابُ اَلْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ ٧٨فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَ إِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ ٧٩وَ لَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ اَلْحِجْرِ اَلْمُرْسَلِينَ ٨٠وَ آتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ٨١وَ كَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ اَلْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ ٨٢فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ٨٣فَمَا أَغْنى‏َ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ٨٤

(بيان)

بعد ما تكلم سبحانه حول استهزائهم بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ما أنزل إليه من الكتاب و اقتراحهم عليه أن يأتيهم بالملائكة و هم ليسوا بمؤمنين و إن سمح لهم بأوضح الآيات أتى سبحانه في هذه الآيات ببيان جامع في التبشير و الإنذار و هو ما في قوله: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي إلى آخر الآيتين ثم أوضحه و أيده بقصة جامعة للجهتين متضمنة للأمرين معا و هي قصة ضيف إبراهيم و فيها بشرى إبراهيم بما لا مطمع فيه عادة و عذاب قوم لوط بأشد أنواع العذاب.

ثم أيده تعالى بإشارة إجمالية إلى تعذيب أصحاب الأيكة و هم قوم شعيب و أصحاب الحجر و هم ثمود قوم صالح (عليه السلام).

قوله تعالى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ اَلْعَذَابُ اَلْأَلِيمُ المراد بقوله: ﴿عِبَادِي على ما يفيده سياق الآيات مطلق العباد و لا يعبأ بما ذكره بعضهم: أن المراد بهم المتقون السابق ذكرهم أو المخلصون.

و تأكيد الجملتين بالاسمية و إن و ضمير الفصل و اللام في الخبر يدل على أن الصفات المذكورة فيها أعني المغفرة و الرحمة و ألم العذاب بالغة في معناها النهاية بحيث لا تقدر بقدر و لا يقاس بها غيرها، فما من مغفرة أو رحمة إلا و يمكن أن يفرض لها مانع يمنع

 

 

 

 من إرسالها أو مقدر يقدرها و يحدها، لكنه سبحانه يحكم لا معقب لحكمه و لا مانع يقاومه فلا يمنع عن إنجاز مغفرته و رحمته شي‏ء و لا يحدهما أمر إلا أن يشاء ذلك هو جل و عز، فليس لأحد أن ييأس من مغفرته أو يقنط من روحه و رحمته استنادا إلى مانع يمنع أو رادع يردع إلا أن يخافه تعالى نفسه كما قال: ﴿لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ وَ أَنِيبُوا إِلى‏َ رَبِّكُمْ: الزمر: ٥٤.

و ليس لأحد أن يحقر عذابه أو يؤمل عجزه أو يأمن مكره و الله غالب على أمره و لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.

قوله تعالى: ﴿وَ نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الضيف معروف و يطلق على المفرد و الجمع و ربما يجمع على أضياف و ضيوف و ضيفان لكن الأفصح كما قيل أن لا يثنى و لا يجمع لكونه مصدرا في الأصل.

و المراد بالضيف الملائكة المكرمون الذين أرسلوا لبشارة إبراهيم بالولد و لهلاك قوم لوط سماهم ضيفا لأنهم دخلوا عليه في صورة الضيف.

قوله تعالى: ﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُوا لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ ضمير الجمع في ﴿دَخَلُوا و ﴿فَقَالُوا في الموضعين للملائكة فقولهم:

﴿سَلاَماً تحية و تقديره نسلم عليك سلاما و قول إبراهيم (عليه السلام): ﴿إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ أي خائفون و الوجل‏: الخوف.

و إنما قال لهم إبراهيم ذلك بعد ما استقر بهم المجلس و قدم إليهم عجلا حنيذا فلم يأكلوا منه فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم و أوجس منهم خيفة كما في سورة هود فالقصة مذكورة على نحو التلخيص.

و قولهم: ﴿لاَ تَوْجَلْ تسكين لوجله و تأمين له و تطييب لنفسه بأنهم رسل ربه و قد دخلوا عليه ليبشروه بغلام عليم أي بولد يكون غلاما و عليما، و لعل المراد كونه عليما بتعليم الله و وحيه فيقرب من قوله في موضع آخر: ﴿وَ بَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا: الصافات: ١١٢.

قوله تعالى: ﴿قَالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلىَ أَنْ مَسَّنِيَ اَلْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ تلقى إبراهيم (عليه السلام) البشرى و هو شيخ كبير هرم لا عقب له من زوجه و قد أيئسته العادة الجارية ـ

 

 

 

عن الولد و إن كان يجل أن يقنط من رحمة الله و نفوذ قدرته، و لذا تعجب من قولهم و استفهمهم كيف يبشرونه بالولد و حاله هذه الحال؟ و زوجه عجوز عقيم كما وقع في موضع آخر من كلامه تعالى.

فقوله: ﴿أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى‏َ أَنْ مَسَّنِيَ اَلْكِبَرُ الكبر كناية عن الشيخوخة و مسه هو نيله منه ما نال بإفناء شبابه و إذهاب قواه، و المعنى إني لأتعجب من بشارتكم إياي و الحال أني شيخ هرم فني شبابي و فقدت قوى بدني، و العادة تستدعي أن لا يولد لمن هذا شأنه ولد.

و قوله: ﴿فَبِمَ تُبَشِّرُونَ تفريع على قوله: ﴿مَسَّنِيَ اَلْكِبَرُ و هو استفهام عما بشروه به كأنه يشك في كون بشارتهم بشرى بالولد مع تصريحهم بذلك لا استبعاد ذلك فيسأل ما هو الذي تبشرون به؟ فإن الذي يدل عليه ظاهر كلامكم أمر عجيب، و هذا شائع في الكلام يقول الرجل إذا أخبر بما يستبعده أو لا يصدقه: ما تقول؟ و ما تريد؟ و ما ذا تصنع؟.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ إلى قوله ﴿ إِلاَّ اَلضَّالُّونَ الباء في ﴿بِالْحَقِّ للمصاحبة أي إن بشارتنا ملازمة للحق غير منفكة منه فلا تدفعها بالاستبعاد فتكون من القانطين من رحمة الله و هذا، جواب للملائكة و قد قابلهم إبراهيم (عليه السلام) على نحو التكنية فقال: ﴿وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ اَلضَّالُّونَ و الاستفهام إنكاري أي إن القنوط من رحمة الله مما يختص بالضالين و لست أنا بضال فليس سؤالي سؤال قانط مستبعد.

قوله تعالى: ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا اَلْمُرْسَلُونَ الخطب الأمر الجليل و الشأن العظيم، و في خطابهم بالمرسلين دلالة على أنهم ذكروا له ذلك قبلا، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلى‏َ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إلى قوله ﴿ لَمِنَ اَلْغَابِرِينَ قال في المفردات: الغابر الماكث بعد مضي من هو معه قال تعالى: ﴿إِلاَّ عَجُوزاً فِي اَلْغَابِرِينَ يعني فيمن طال أعمارهم، و قيل: فيمن بقي و لم يسر مع لوط، و قيل: فيمن بقي بعد في العذاب، و في آخر: ﴿إِلاَّ اِمْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ اَلْغَابِرِينَ و في آخر: ﴿قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ اَلْغَابِرِينَ إلى أن قال و الغبار ما يبقى من التراب المثار و جعل على بناء

 

 

 

 الدخان و العثار و نحوهما من البقايا. انتهى و لعله من هنا ما ربما يسمى الماضي و المستقبل معا غابرا أما الماضي فبعناية أنه بقي فيما مضى و لم يتعد إلى الزمان الحاضر و أما المستقبل فبعناية أنه باق لم يفن بعد كالماضي.

و الآيات جواب الملائكة لسؤال إبراهيم ﴿قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا من عند الله سبحانه ﴿إِلى‏َ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ نكروهم و لم يسموهم صونا للسان عن التصريح باسمهم تنفرا منه و مستقبل الكلام يعينهم ثم استثنوا و قالوا: ﴿إِلاَّ آلَ لُوطٍ و هم لوط و خاصته و ظهر به أن القوم قومه ﴿إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أي مخلصوهم من العذاب ﴿أَجْمَعِينَ و ظاهر السياق كون الاستثناء منقطعا.

ثم استثنوا امرأة لوط من آله للدلالة على أن النجاة لا تشملها و أن العذاب سيأخذها و يهلكها فقالوا ﴿إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ اَلْغَابِرِينَ أي الباقين من القوم بعد خروج آل لوط من قريتهم.

و قد تقدم تفصيل قول في ضيف إبراهيم (عليه السلام) في سورة هود في الجزء العاشر من الكتاب و عقدنا هناك بحثا مستقلا فيه.

قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ اَلْمُرْسَلُونَ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ إنما قال لهم لوط (عليه السلام) ذلك لكونهم ظاهرين بصور غلمان مرد حسان و كان يشقه ما يراه منهم و شأن قومه شأنهم من الفحشاء كما تقدم في سورة هود و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَ أَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّا لَصَادِقُونَ الامتراء من المرية و هو الشك، و المراد بما كانوا فيه يمترون العذاب الذي كان ينذرهم به لوط و هم يشكون فيه، و المراد بإتيانهم بالحق إتيانهم بقضاء حق في أمر القوم لا معدل عنه كما وقع في موضع آخر من قولهم: ﴿وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ: هود: ٧٦ و قيل: المراد «و أتيناك بالعذاب الذي لا شك فيه» و ما ذكرناه هو الوجه.

و في آيات القصة تقديم و تأخير لا بمعنى اختلال ترتيبها بحسب النزول عند التأليف بوضع ما هو مؤخر في موضع المقدم و بالعكس بل بمعنى ذكره تعالى بعض أجزاء القصة في غير محله الذي يقتضيه الترتيب الطبعي و تعينه له سنة الاقتصاص لنكتة توجب ذلك.

 

 

 

 و ترتيب القصة بحسب أجزائها على ما ذكرها الله سبحانه في سورة هود و غيرها و الاعتبار يساعد ذلك مقتضاه أن يكون قوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ إلى تمام آيتين قبل سائر الآيات. ثم قوله: ﴿وَ جَاءَ أَهْلُ اَلْمَدِينَةِ إلى تمام ست آيات. ثم قوله:

﴿قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ إلى تمام أربع آيات. ثم قوله: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ إلى آخر الآيات.

و حقيقة هذا التقديم و التأخير أن للقصة فصولا أربعة و قد أخذ الفصل الثالث منها فوضع بين الأول و الثاني أعني أن قوله: ﴿وَ جَاءَ أَهْلُ اَلْمَدِينَةِ إلى آخره أخر في الذكر ليتصل آخره و هو قوله: ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ بأول الفصل الأخير: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ و ذلك ليتمثل به الغرض في الاستشهاد بالقصة و ينجلي أوضح الانجلاء و هو نزول عذاب هائل كعذابهم في حال سكرة منهم و أمن منه لا يخطر ببالهم شي‏ء من ذلك و ذلك أبلغ في الدهشة و أوقع في الحسرة يزيد في العذاب ألما على ألم.

و نظير هذا في التلويح بهذه النكتة ما في آخر قصة أصحاب الحجر الآتية من اتصال قوله: ﴿وَ كَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ اَلْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ بقوله: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ كل ذلك ليجلي معنى قوله تعالى في صدر المقال: ﴿وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ اَلْعَذَابُ اَلْأَلِيمُ فافهم ذلك.

قوله تعالى: ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اَللَّيْلِ إلى آخر الآية، الإسراء هو السير بالليل، فقوله: ﴿بِقِطْعٍ مِنَ اَللَّيْلِ يؤكده و قطع الليل شطر مقطوع منه، و المراد باتباعه أدبارهم هو أن يسير وراءهم فلا يترك أحدا يتخلف عن السير و يحملهم على السير الحثيث كما يشعر به قوله: ﴿وَ لاَ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ.

و المعنى: و إذ جئناك بعذاب غير مردود و أمر من الله ماض يجب عليك أن تسير بأهلك ليلا و تأخذ أنت وراءهم لئلا يتخلفوا عن السير و لا يساهلوا فيه و لا يلتفت أحد منكم إلى ورائه و امضوا حيث تؤمرون، و فيه دلالة على أنه كانت أمامهم هداية إلهية تهديهم و قائد يقودهم.

قوله تعالى: ﴿وَ قَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ اَلْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاَءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ القضاء

 

 

 

 مضمن معنى الوحي و لذا عدي بإلى كما قيل و المراد بالأمر أمر العذاب كما يفسره قوله: ﴿أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاَءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ و الإشارة إليه بلفظة ﴿ذَلِكَ للدلالة على عظم خطره و هول أمره.

و المعنى: و قضينا أمرنا العظيم في عذابهم موحيا ذلك إلى لوط و هو أن دابر هؤلاء و أثرهم الذي من شأنه أن يبقى بعدهم من نسل و بناء و عمل مقطوع حال كونهم مصبحين أو التقدير أوحينا إليه قاضيا، إلخ.

قوله تعالى: ﴿وَ جَاءَ أَهْلُ اَلْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ إلى قوله ﴿ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ يدل نسبة المجي‏ء إلى أهل المدينة على كونهم جماعة عظيمة يصح عدهم أهل المدينة لكثرتهم.

فالمعنى ﴿وَ جَاءَ إلى لوط ﴿أَهْلُ اَلْمَدِينَةِ جمع كثير منهم يريدون أضيافه و هم ﴿يَسْتَبْشِرُونَ لولعهم بالفحشاء و خاصة بالداخلين في بلادهم من خارج فاستقبلهم لوط مدافعا عن أضيافه ﴿قَالَ إِنَّ هَؤُلاَءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ بالعمل الشنيع بهم ﴿وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ وَ لاَ تُخْزُونِ قَالُوا المهاجمون من أهل المدينة: أ لم نقطع عذرك في إيوائهم ﴿أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ اَلْعَالَمِينَ أن تؤويهم و تشفع فيهم و تدافع عنهم فلما يئس لوط (عليه السلام) منهم عرض عليهم بناته أن ينصرفوا عن أضيافه بنكاحهن كما تقدم بيانه في سورة هود ﴿قَالَ هَؤُلاَءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ.

قوله تعالى: ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ إلى قوله ﴿مِنْ سِجِّيلٍ قال في المفردات: العمارة ضد الخراب. قال: و العمر اسم لمدة عمارة البدن بالحياة فهو دون البقاء فإذا قيل: طال عمره فمعناه عمارة بدنه بروحه، و إذا قيل: بقاؤه فليس يقتضي ذلك فإن البقاء ضد الفناء، و لفضل البقاء على العمر وصف الله به و قلما وصف بالعمر قال: و العمر بالضم و العمر بالفتح واحد لكن خص القسم بالعمر بالفتح دون العمر بالضم نحو ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ، انتهى.

و الخطاب في ﴿لَعَمْرُكَ للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فهو قسم ببقائه و قول بعضهم: إنه خطاب من الملائكة للوط (عليه السلام) و قسم بعمره لا دليل عليه من سياق الآيات.

و العمه هو التردد على حيرة و السجيل حجارة العذاب و قد تقدم تفصيل القول في معناه في تفسير سورة هود.

 

 

 

 و المعنى أقسم بحياتك و بقائك يا محمد إنهم لفي سكرتهم و هي غفلتهم بانغمارهم في الفحشاء و المنكر يترددون متحيرين ﴿فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ و هي الصوت الهائل ﴿مُشْرِقِينَ أي حال كونهم داخلين في إشراق الصبح فجعلنا عالي بلادهم سافلها و فوقها تحتها و أمطرنا و أنزلنا من السماء عليهم حجارة من سجيل.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ إلى قوله ﴿ لِلْمُؤْمِنِينَ الآية العلامة و المراد بالآيات أولا العلامات الدالة على وقوع الحادثة من بقايا الآثار و بالآية ثانيا العلامة الدالة للمؤمنين على حقية الإنذار و الدعوة الإلهية و التوسم‏ التفرس و الانتقال من سيماء الأشياء على حقيقة حالها.

و المعنى: أن في ذلك أي فيما جرى من الأمر على قوم لوط و في بلادهم لعلامات من بقايا الآثار للمتفرسين و إن تلك العلامات لبسبيل للعابرين مقيم لم تعف و لم تنمح بالكلية بعد، إن في ذلك لآية للمؤمنين تدل على حقية الإنذار و الدعوة و قد تبين بذلك وجه إيراد الآيات جمعا و مفردا في الموضعين.

قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ كَانَ أَصْحَابُ اَلْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ إلى ﴿ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَ إِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ الأيكة واحدة الأيك و هو الشجر الملتف بعضه ببعض فقد كانوا كما قيل في غيضة أي بقعة كثيفة الأشجار.

و هؤلاء كما ذكروا هم قوم شعيب (عليه السلام) أو طائفة من قومه كانوا يسكنون الغيضة، و يؤيده قوله تعالى ذيلا: ﴿وَ إِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ أي مكانا قوم لوط و أصحاب الأيكة لفي طريق واضح فإن الذي على طريق المدينة إلى الشام هي بلاد قوم لوط و قوم شعيب الخربة أهلكهم الله بكفرهم و تكذيبهم لدعوة شعيب (عليه السلام) و قد تقدمت قصتهم في سورة هود و قوله: ﴿فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ الضمير لأصحاب الأيكة و قيل: لهم و لقوم لوط. و معنى الآيتين ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ اَلْحِجْرِ اَلْمُرْسَلِينَ إلى قوله ﴿ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أصحاب الحجر هم ثمود قوم صالح و الحجر اسم بلدة كانوا يسكنونها و عدهم مكذبين لجميع المرسلين و هم إنما كذبوا صالحا المرسل إليهم إنما هو لكون دعوة الرسل دعوة واحدة و المكذب لواحد منهم مكذب للجميع. ـ

 

 

 

و قوله: ﴿وَ آتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ إن كان المراد بالآيات المعجزات و الخوارق - كما هو الظاهر - فالمراد بها الناقة و شربها و ما ظهر لهم بعد عقرها إلى أن أهلكوا، و قد تقدمت القصة في سورة هود، و إن كان المراد بها المعارف الإلهية التي بلغها صالح (عليه السلام) و نشرها فيهم أو المجموع من المعارف الحقة و الآية المعجزة فالأمر واضح.

و قوله: ﴿وَ كَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ اَلْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ أي كانوا يسكنون الغيران و الكهوف المنحوتة من الحجارة آمنين من الحوادث الأرضية و السماوية بزعمهم.

و قوله: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ أي صيحة العذاب التي كان فيها هلاكهم، و قد تقدمت الإشارة إلى مناسبة اجتماع الأمن مع الصيحة في الآيتين لقوله في صدر الآيات: ﴿وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ اَلْعَذَابُ اَلْأَلِيمُ.

و قوله: ﴿فَمَا أَغْنى‏َ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أي من الأعمال لتأمين سعادتهم في الحياة.

(بحث روائي)

 في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن مصعب بن ثابت قال: مر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على ناس من أصحابه يضحكون قال: اذكروا الجنة و اذكروا النار فنزلت:

﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ.

 أقول: و في معناه روايات أخر لكن في انطباق معنى الآية على ما ذكر فيها من السبب خفاء.

و فيه أخرج أبو نعيم في الحلية عن جعفر بن محمد في قوله: «إن في ذلك لآيات للمتوسمين» قال: هم المتفرسون.

 و فيه، أخرج البخاري في تاريخه و الترمذي و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن السني و أبو نعيم معا في الطب و ابن مردويه و الخطيب عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ قال المتفرسين.

 

 

 

 و في اختصاص المفيد، بإسناده عن أبي بكر بن محمد الحضرمي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال: ما من مخلوق إلا و بين عينيه مكتوب مؤمن أو كافر و ذلك محجوب عنكم و ليس بمحجوب عن الأئمة من آل محمد ثم ليس يدخل عليهم أحد إلا عرفوه مؤمنا أو كافرا ثم تلا هذه الآية: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ فهم المتوسمون.

أقول: و الروايات في هذا المعنى متظافرة متكاثرة، و ليس معناها نزول الآية فيهم (عليه السلام).

 و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه و ابن عساكر عن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : إن مدين و أصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيبا. أقول: و قد أوردنا ما يجب إيراده من الروايات في قصة بشرى إبراهيم و قصص لوط و شعيب و صالح (عليه السلام) في تفسير سورة هود في الجزء العاشر من الكتاب و اكتفينا بذلك عن إيرادها هاهنا فليرجع إلى هناك.

[سورة الحجر (١٥): الآیات ٨٥ الی ٩٩ ]

﴿وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ اَلسَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ اَلصَّفْحَ اَلْجَمِيلَ ٨٥إِنَّ رَبَّكَ هُوَ اَلْخَلاَّقُ اَلْعَلِيمُ ٨٦وَ لَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ اَلْمَثَانِي وَ اَلْقُرْآنَ اَلْعَظِيمَ ٨٧لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى‏ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ وَ لاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ اِخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ٨٨وَ قُلْ إِنِّي أَنَا اَلنَّذِيرُ اَلْمُبِينُ ٨٩كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى اَلْمُقْتَسِمِينَ ٩٠اَلَّذِينَ جَعَلُوا اَلْقُرْآنَ عِضِينَ ٩١فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ٩٢عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ٩٣فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ ٩٤إِنَّا كَفَيْنَاكَ اَلْمُسْتَهْزِئِينَ ٩٥  

 

 

 

﴿اَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ٩٦وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ٩٧فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ اَلسَّاجِدِينَ ٩٨وَ اُعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اَلْيَقِينُ ٩٩

(بيان)

في الآيات تخلص إلى غرض البيان السابق و هو أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يصدع بما يؤمر و يأخذ بالصفح و الإعراض عن المشركين و لا يحزن عليهم و لا يضيق صدره بما يقولون فإن من القضاء الحق أن يجازي الناس بأعمالهم في الدنيا و الآخرة و خاصة يوم القيامة الذي لا ريب فيه و هو اليوم الذي لا يغادر أحدا و لا يدع مثقال ذرة من الخير و الشر إلا ألحقه بعامله فلا ينبغي أن يؤسف لكفر كافر فإن الله عليم به سيجازيه، و لا يحزن عليه فإن الاشتغال بالله سبحانه أهم و أوجب.

و لقد كرر سبحانه أمره بالصفح و الإعراض عن أولئك المستهزءين به و هم الذين مر ذكرهم في مفتتح السورة و الاشتغال بتسبيحه و تحميده و عبادته، و أخبره أنه كفاه شرهم فليشتغل بما أمره الله به، و بذلك تختتم السورة.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ اَلسَّاعَةَ لَآتِيَةٌ الباء في قوله: ﴿بِالْحَقِّ للمصاحبة أي إن خلقها جميعا لا ينفك عن الحق و يلازمه فللخلق غاية سيرجع إليها قال تعالى: ﴿إِنَّ إِلى‏َ رَبِّكَ اَلرُّجْعى‏َ: العلق: ٨ و لو لا ذلك لكان لعبا باطلا قال تعالى: ﴿وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ: الدخان: ٣٩ و قال: ﴿وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً: ص: ٢٧ و من الدليل على كون المراد بالحق ما يقابل اللعب الباطل تذييل الكلام بقوله: ﴿وَ إِنَّ اَلسَّاعَةَ لَآتِيَةٌ و هو ظاهر.

و بذلك يظهر فساد ما ذكره بعضهم أن المراد بالحق العدل و الإنصاف و الباء للسببية و المعنى ما خلقنا ذلك إلا بسبب العدل و الإنصاف يوم الجزاء بالأعمال.

 

 

 

 و ذلك أن كون الحق في الآية بمعنى العدل و الإنصاف لا شاهد عليه من اللفظ على أن الذي ذكره من المعنى إنما يلائم كون الباء بمعنى لام الغرض أو للمصاحبة دون السببية.

و كذا ما ذكره بعضهم أن الحق بمعنى الحكمة و أن الجملة الأولى ﴿وَ مَا خَلَقْنَا إلخ، ناظرة إلى العذاب الدنيوي و الثانية ﴿وَ إِنَّ اَلسَّاعَةَ لَآتِيَةٌ إلى العذاب الأخروي و المعنى و ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما إلا متلبسا بالحق و الحكمة بحيث لا يلائم استمرار الفساد و استقرار الشرور، و قد اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء دفعا لفسادهم و إرشادا لمن بقي إلى الصلاح، و إن الساعة لآتية فينتقم أيضا فيها من أمثال هؤلاء.

و في الآية مشاجرة بين أصحاب الجبر و التفويض كل من الفريقين يجر نارها إلى قرصته فاستدل بها أصحاب الجبر على أن أفعال العباد مخلوقة لله لأن أعمالهم من جملة ما بينهما فهي مخلوقة له.

و استدل بها أصحاب التفويض على أن أفعال العباد ليست مخلوقة له بل لأنفسهم فإن المعاصي و قبائح الأعمال من الباطل فلو كانت مخلوقة له لكانت مخلوقة بالحق و الباطل لا يكون مخلوقا بالحق.

و الحق أن الحجتين جميعا من الباطل فإن جهات القبح و المعصية في الأفعال حيثيات عدمية إذ الطاعة و المعصية كالنكاح و الزنا و أكل المال من حله و بالباطل و أمثال ذلك مشتركة في أصل الفعل و إنما تختلف طاعة و معصية بموافقة الأمر و مخالفته و المخالفة جهة عدمية، و إذا كان كذلك فاستناد الفعل إلى الخلقة من جهة الوجود لا يستلزم استناد القبيح أو المعصية إليها فإن ذلك من جهاته العدمية فليس الفعل بجهته العدمية مما بين السماوات و الأرض حتى تشمله الآية، و لا بجهته الوجودية من الباطل حتى يكون خلقه خلقا للباطل بالحق.

على أن الضرورة قائمة على حكومة نظام العلل و المعلولات في الوجود و أن قيام وجود شي‏ء بشي‏ء بحيث لا يستقل دونه هو ملاك الاتصاف فالمتصف بالطاعة و المعصية و حسن الفعل و قبيحه هو الإنسان دون الذي خلقه و يسر له أن يفعل كذا و كذا كما ـ

 

 

 

أن المتصف بالسواد و البياض الجسم الذي يقوم به هذان اللونان دون الذي أوجده.

و قد استوفينا الكلام في هذا البحث في تفسير قوله: ﴿وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ: البقرة: ٢٦ الجزء الأول من الكتاب.

قوله تعالى: ﴿فَاصْفَحِ اَلصَّفْحَ اَلْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ اَلْخَلاَّقُ اَلْعَلِيمُ قال في المفردات:

صفح الشي‏ء عرضه و جانبه كصفحة الوجه و صفحة السيف و صفحة الحجر و الصفح‏ ترك التثريب و هو أبلغ من العفو و لذلك قال: ﴿فَاعْفُوا وَ اِصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اَللَّهُ بِأَمْرِهِ و قد يعفوا الإنسان و لا يصفح قال تعالى: ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلاَمٌ ﴿فَاصْفَحِ اَلصَّفْحَ اَلْجَمِيلَ ﴿أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ اَلذِّكْرَ صَفْحاً.

و صفحت عنه أوليته صفحة جميلة معرضا عن ذنبه أو لقيت صفحته متجافيا عنه أو تجاوزت الصفحة التي أثبت فيها ذنبه من الكتاب إلى غيرها من قولك تصفحت الكتاب، و قوله: ﴿إِنَّ اَلسَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ اَلصَّفْحَ اَلْجَمِيلَ﴾ فأمر له (عليه السلام) أن يخفف كفر من كفر كما قال: ﴿وَ لاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ و المصافحة الإفضاء بصفحة اليد. انتهى.

و سيأتي ما في الرواية من تفسير علي (عليه السلام) الصفح بالعفو من غير عتاب.

و قوله: ﴿فَاصْفَحِ اَلصَّفْحَ اَلْجَمِيلَ تفريع على سابقه أي إذا كانت الخلقة بالحق و هناك يوم فيه يحاسبون و يجازون لا ريب فيه فلا تشغل نفسك بما ترى منهم من التكذيب و الاستهزاء و اعف عنهم من غير أن تقع فيهم بعتاب أو مناقشة و جدال فإن ربك الذي خلقك و خلقهم هو عليم بحالك و حالهم و وراءهم يوم لا يفوتونه.

و من هنا يظهر أن قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ اَلْخَلاَّقُ اَلْعَلِيمُ تعليل لقوله: ﴿فَاصْفَحِ اَلصَّفْحَ اَلْجَمِيلَ.

و هذه الآيات الحافة لقوله: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تطييب لنفسه ليأخذ قوله: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ موقعه فقد عرفت في أول السورة أن الغرض الأصيل منها هو الأمر بإعلان الدعوة و عرفت أيضا بالتدبر في الآيات السابقة أنها مسرودة ليتخلص بها إلى تسليته (ص) عما لقي من قومه من الإيذاء و الإهانة و الاستهزاء و يتخلص من ذلك إلى الأمر المطلوب.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ اَلْمَثَانِي وَ اَلْقُرْآنَ اَلْعَظِيمَ السبع المثاني‏ هي سورة الحمد على ما فسر في عدة من الروايات المأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أئمة أهل البيت (عليه السلام) فلا يصغي إلى ما ذكره بعضهم: أنها السبع الطوال، و ما ذكره بعض آخر أنها الحواميم السبع، و ما قيل: إنها سبع صحف من الصحف النازلة على الأنبياء، فلا دليل على شي‏ء منها من لفظ الكتاب و لا من جهة السنة.

و قد كثر اختلافهم في قوله: ﴿مِنَ اَلْمَثَانِي من جهة كون ﴿مِنَ للتبعيض أو للتبيين و في كيفية اشتقاق لفظة المثاني و وجه تسميتها بالمثاني.

و الذي ينبغي أن يقال و الله أعلم أن ﴿مِنَ للتبعيض فإنه سبحانه سمى جميع آيات كتابه مثاني إذ قال: ﴿كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ: الزمر: ٢٣ و آيات سورة الحمد من جملتها فهي بعض المثاني لا كلها.

و الظاهر أن المثاني‏ جمع مثنية اسم مفعول من الثني بمعنى اللوي و العطف و الإعادة قال تعالى ﴿يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ: هود: ٥ و سميت الآيات القرآنية مثاني لأن بعضها يوضح حال البعض و يلوي و ينعطف عليه كما يشعر به قوله: ﴿كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ حيث جمع بين كون الكتاب متشابها يشبه بعض آياته بعضا و بين كون آياته مثاني، و في كلام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): في صفة القرآن: «يصدق بعضه بعضا» و عن علي (عليه السلام): فيه: «ينطق بعضه ببعض و يشهد بعضه على بعض» أو هي جمع مثنى بمعنى التكرير و الإعادة كناية عن بيان بعض الآيات ببعض.

و لعل في ذلك كفاية و غنى عما ذكروه من مختلف المعاني كما في الكشاف و حواشيه و المجمع و روح المعاني و غيرها كقولهم: إنها من التثنية أو الثني بمعنى التكرير و الإعادة سميت آيات القرآن مثاني لتكرر المعاني فيها، و كقولهم: سميت الفاتحة مثاني لوجوب قراءتها في كل صلاة مرتين أو لأنها تثنى في كل ركعة بما يقرأ بعدها من القرآن، أو لأن كثيرا من كلماتها مكررة كالرحمن و الرحيم و إياك و الصراط و عليهم، أو لأنها نزلت مرتين مرة بمكة و مرة بالمدينة أو لما فيها من الثناء على الله، أو لأن الله استثناها و ادخرها لهذه الأمة و لم ينزلها على الأمم الماضين كما في الرواية، إلى غير ذلك من الوجوه المذكورة في التفاسير.

 

 

 

 و في قوله: ﴿سَبْعاً مِنَ اَلْمَثَانِي وَ اَلْقُرْآنَ اَلْعَظِيمَ من تعظيم أمر الفاتحة و القرآن ما لا يخفى أما القرآن فلتوصيفه من ساحة العظمة و الكبرياء بالعظيم، و أما الفاتحة فلمكان التعبير عنه بالنكرة غير الموصوفة ﴿سَبْعاً و فيه من الدلالة على عظمة قدرها و جلالة شأنها ما لا يخفى و قد قوبل بها القرآن العظيم و هي بعضه.

و الآية كما تبين في مقام الامتنان و هي مع ذلك لوقوعها في سياق الدعوة إلى الصفح و الإعراض تفيد أن في هذه الموهبة العظمى المتضمنة لحقائق المعارف الإلهية الهادية إلى كل كمال و سعادة بإذن الله عدة أن تحملك على الصفح الجميل و الاشتغال بربك و التوغل في طاعته.

قوله تعالى: ﴿لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى‏َ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ إلى قوله ﴿ اَلْمُبِينُ الآيتان في مقام بيان الصفح الجميل الذي تقدم الأمر به، و لذلك جي‏ء بالكلام في صورة الاستئناف.

و المذكور فيهما أربعة دساتير: منفيان و مثبتان فقوله: ﴿لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى‏َ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ مد العينين إلى ما متعوا به من زهرة الحياة الدنيا كناية عن التعدي عن قصر النظر على ما آتاه الله من نعمة، و المراد بالأزواج الأزواج من الرجال و النساء أو الأصناف من الناس كالوثنيين و اليهود و النصارى و المجوس، و المعنى لا تتجاوز عن النظر عما أنعمناك به من النعم الظاهرة و الباطنة إلى ما متعنا به أزواجا قليلة أو أصنافا من الكفار.

و ربما أخذ بعضهم قوله: ﴿لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ كناية عن إطالة النظر و إدامته، و أنت تعلم أن الغرض على أي حال النهي عن الرغبة و الميل و التعلق القلبي بما في أيديهم من أمتعة الحياة كالمال و الشوكة و الصيت و الذي يكنى به عن ذلك هو النهي عن أصل النظر إليه لا عن إطالته و إدامته و يشهد به ما سننقله من آية الكهف.

و قوله: ﴿وَ لاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي من جهة تماديهم في التكذيب و الاستهزاء و إصرارهم على أن لا يؤمنوا بك.

و قوله: ﴿وَ اِخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ قالوا: هو كناية عن التواضع و لين الجانب، و الأصل فيه أن الطائر إذا أراد أن يضم إليه أفراخه بسط جناحه عليها ثم

 

 

 

 خفضه لها هذا.

و الذي ذكروه و إن أمكن أن يتأيد بآيات أخر كقوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اَللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ: آل عمران: ١٥٩ و قوله في صفة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ: التوبة: ١٢٨ لكن الذي وقع في نظير الآية مما يمكن أن يفسر به خفض الجناح هو صبر النفس مع المؤمنين و هو يناسب أن يكون كناية عن ضم المؤمنين إليه و قصر الهم على معاشرتهم و تربيتهم و تأديبهم بأدب الله أو كناية عن ملازمتهم و الاحتباس فيهم من غير مفارقة، كما أن الطائر إذا خفض الجناح لم يطر و لم يفارق، قال تعالى: ﴿وَ اِصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَ اَلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا الآية: الكهف: ٢٨.

و قوله: ﴿وَ قُلْ إِنِّي أَنَا اَلنَّذِيرُ اَلْمُبِينُ أي لا دعوى لي إلا أني نذير أنذركم بعذاب الله سبحانه مبين أبين لكم ما تحتاجون إلى بيانه، و ليس لي وراء ذلك من الأمر شي‏ء.

فهذه الأمور الأربعة أعني ترك الرغبة بما في أيديهم من متاع الحياة الدنيا و ترك الحزن عليهم إذا كفروا و استهزءوا، و خفض الجناح للمؤمنين و إظهار أنه نذير مبين هو الصفح الجميل الذي يليق بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و لو أسقط منها واحد لاختل الأمر.

و من ذلك يظهر أن قول بعضهم: إن قوله: ﴿فَاصْفَحِ اَلصَّفْحَ اَلْجَمِيلَ منسوخ بآية السيف غير وجيه فإن هذا الصفح الذي تأمر به الآية و يفسره قوله: ﴿لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ باق على إحكامه و اعتباره حتى بعد نزول آية السيف فلا وجه لنسبة النسخ إليه.

قوله تعالى: ﴿كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى اَلْمُقْتَسِمِينَ اَلَّذِينَ جَعَلُوا اَلْقُرْآنَ عِضِينَ قال في المجمع:

عضين جمع عضة و أصله عضوة فنقصت الواو و لذلك جمعت عضين بالنون كما قيل:

عزوة و عزون و الأصل عزوة، و التعضية: التفريق مأخوذة من الأعضاء يقال: عضيت الشي‏ء أي فرقته و بعضته قال رؤبة: و ليس دين الله بالمعضي، انتهى موضع الحاجة.

و قوله: ﴿كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى اَلْمُقْتَسِمِينَ لا يخلو السياق من دلالة على أنه متعلق بمقدر يلوح إليه قوله: ﴿وَ قُلْ إِنِّي أَنَا اَلنَّذِيرُ اَلْمُبِينُ أي بعذاب منزل ينزل عليكم كما أنزلنا على المقتسمين، و المراد بالمقتسمين هم الذين يصفهم قوله بعد: ﴿اَلَّذِينَ

 

 

 

 جَعَلُوا اَلْقُرْآنَ عِضِينَ و هم على ما وردت به الرواية قوم من كفار قريش جزءوا القرآن أجزاء فقالوا: سحر، و قالوا: أساطير الأولين، و قالوا: مفترى، و تفرقوا في مداخل طرق مكة أيام الموسم يصدون الناس الواردين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كما سيأتي في البحث الروائي إن شاء الله.

و قيل قوله: ﴿كَمَا أَنْزَلْنَا متعلق بما تقدم من قوله: ﴿وَ لَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ اَلْمَثَانِي أي أنزلنا عليك القرآن كما أنزلنا على المقتسمين، و المراد بالمقتسمين اليهود و النصارى الذين فرقوا القرآن أجزاء و أبعاضا و قالوا نؤمن ببعض و نكفر ببعض.

و فيه أن السورة مكية نازلة في أوائل البعثة و لم يبتل الإسلام يومئذ باليهود و النصارى ذاك الابتلاء و قولهم: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ اَلنَّهَارِ وَ اُكْفُرُوا آخِرَهُ: آل عمران: ٧٢ مما قالته اليهود بعد الهجرة و كذا ما أشبه ذلك و الدليل على ما ذكرنا سياق الآيات.

و ربما قيل: سموا مقتسمين لأنهم اقتسموا أنبياء الله و كتبه المنزلة إليهم فآمنوا ببعض و كفروا ببعض، و يدفعه أن الآية التالية تفسر المقتسمين بالذين جعلوا القرآن عضين لا بالذين فرقوا بين أنبياء الله أو بين كتبه.

فالظاهر أن الآيتين تذكران قوما نهضوا في أوائل البعثة على إطفاء نور القرآن و بعضوه أبعاضا ليصدوا عن سبيل الله فأنزل الله عليهم العذاب و أهلكهم، و هم الذين ذكروا في الآيتين ثم يذكر الله مآل أمرهم بقوله: ﴿فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ.

قوله تعالى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ قال في المجمع: الصدع و الفرق و الفصل نظائر، و صدع بالحق إذا تكلم به جهارا، انتهى.

و الآية تفريع على ما تقدم، و من حقها أن تتفرع لأنها الغرض في الحقيقة من السورة أي إذا كان الأمر على ما ذكر و أمرت بالصفح الجميل و كنت نذيرا بعذابنا كما أنزلنا على المقتسمين فأظهر كلمة الحق و أعلن الدعوة.

و بذلك يظهر أن قوله: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ اَلْمُسْتَهْزِئِينَ في مقام التعليل لقوله:

﴿فَاصْدَعْ إلخ كما يشعر الكلام أو يدل على أن هؤلاء المستهزءين هم المقتسمون

 

 

 

المذكورون قبل، و معنى الآية إذا كان الأمر كما ذكرناه و كنت نذيرا بعذابنا كما أنزلناه على المقتسمين ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ و أعلن الدعوة و أظهر الحق ﴿وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ إِنَّا أي لأننا ﴿كَفَيْنَاكَ اَلْمُسْتَهْزِئِينَ بإنزال العذاب عليهم و هم ﴿اَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اَللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ رجع ثانيا إلى حزنه (ص) و ضيق صدره من استهزائهم لمزيد العناية بتسليته و تطييب نفسه و تقوية روحه، و قد أكثر سبحانه في كلامه و خاصة في السور المكية من ذلك لشدة الأمر عليه (ص).

قوله تعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ اَلسَّاجِدِينَ وَ اُعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اَلْيَقِينُ وصاه سبحانه بالتسبيح و التحميد و السجدة و العبادة أو إدامة العبودية مفرعا ذلك على ضيق صدره بما يقولون ففي ذلك استعانة على الغم و المصيبة، و قد أمره في الآيات السابقة بالصفح و الصبر، و يستفاد الأمر بالصبر أيضا من قوله: ﴿وَ اُعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اَلْيَقِينُ فإن ظاهره الأمر بالصبر على العبودية حتى حين، و بذلك يصير الكلام قريب المضمون من قوله تعالى لدفع الشدائد و المقاومة على مر الحوادث:

﴿اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاَةِ: البقرة: ١٥٣.

و بذلك يتأيد أن المراد بالساجدين المصلون و أنه أمر بالصلاة و قد سميت سجودا تسمية لها باسم أفضل أجزائها و يكون المراد بالتسبيح و التحميد اللفظي منهما كقول سبحان الله و الحمد لله أو ما في معناهما نعم لو كان المراد بالصلاة في آية البقرة التوجه إلى الله سبحانه أمكن أن يكون المراد بالتسبيح و التحميد أو بهما و بالسجود المعنى اللغوي و هو تنزيهه تعالى عما يقولون و الثناء عليه بما أنعم به عليه من النعم و التذلل له تذلل العبودية.

و أما قوله: ﴿وَ اُعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اَلْيَقِينُ فإن كان المراد به الأمر بالعبادة كان كالمفسر للآية السابقة و إن كان المراد الأخذ بالعبودية كما هو ظاهر السياق، و خاصة سياق الآيات السابقة الآمرة بالصفح و الإعراض و لازمهما الصبر كان بقرينة تقييده بقوله: ﴿حَتَّى يَأْتِيَكَ اَلْيَقِينُ أمرا بانتهاج منهج التسليم و الطاعة و القيام بلوازم العبودية.

 

 

 

 و على هذا فالمراد بإتيان اليقين حلول الأجل و نزول الموت الذي يتبدل به الغيب من الشهادة و يعود به الخبر عيانا، و يؤيد ذلك تفريع ما تقدم من قوله: ﴿فَاصْفَحِ اَلصَّفْحَ اَلْجَمِيلَ على قوله: ﴿وَ مَا خَلَقْنَا اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ اَلسَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فإنه بالحقيقة أمر بالعفو و الصبر على ما يقولون لأن لهم يوما ينتقم الله منهم و يجازيهم بأعمالهم فيكون معنى الآية دم على العبودية و اصبر على الطاعة و عن المعصية و على مر ما يقولون حتى يدركك الموت و ينزل عليك عالم اليقين فتشاهد ما يفعل الله بهم ربك.

و في التعبير بمثل قوله: ﴿حَتَّى يَأْتِيَكَ اَلْيَقِينُ إشعار أيضا بذلك فإن العناية فيه بأن اليقين طالب له و سيدركه فليعبد ربه حتى يدركه و يصل إليه و هذا هو عالم الآخرة الذي هو عالم اليقين العام بما وراء الحجاب دون الاعتقاد اليقيني الذي ربما يحصل بالنظر أو بالعبادة.

و بذلك يظهر فساد ما ربما قيل: إن الآية تدل على ارتفاع التكليف بحصول اليقين، و ذلك لأن المخاطب به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد دلت آيات كثيرة من كتاب الله أنه من الموقنين و أنه على بصيرة و أنه على بينة من ربه و أنه معصوم و أنه مهدي بهداية الله سبحانه إلى غير ذلك. مضافا إلى ما قدمناه من دلالة الآية على كون المراد باليقين هو الموت.

و سنفرد لدوام التكليف بحثا عقليا بعد الفراغ عن البحث الروائي إن شاء الله تعالى.

بحث روائي

 في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه و ابن النجار عن علي بن أبي طالب: في قوله.

﴿فَاصْفَحِ اَلصَّفْحَ اَلْجَمِيلَ قال: الرضا بغير عتاب.

و في المجمع، حكي عن علي بن أبي طالب (عليه السلام): أن الصفح الجميل هو العفو من غير عتاب.

 و في العيون، بإسناده عن علي بن الحسن بن فضال عن أبيه عن الرضا (عليه السلام): في

 

 

 

 الآية قال: العفو من غير عتاب.

 و في التهذيب، بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن السبع المثاني و القرآن العظيم هي فاتحة الكتاب؟ قال: نعم. قلت: بسم الله الرحمن الرحيم من السبع؟ قال: نعم هي أفضلهن.

أقول: و هو مروي من طرق الشيعة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) و غير واحد من أئمة أهل البيت (عليه السلام)، و من طرق أهل السنة عن علي و عدة من الصحابة كعمر بن الخطاب و عبد الله بن مسعود و ابن عباس و أبي بن كعب و أبي هريرة و غيرهم.

 و في الدر المنثور، أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال: سأل رجل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ، قال: أ رأيت قول الله: ﴿كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى اَلْمُقْتَسِمِينَ؟ قال:

اليهود و النصارى. قال: ﴿اَلَّذِينَ جَعَلُوا اَلْقُرْآنَ عِضِينَ قال: آمنوا ببعض و كفروا ببعض. أقول: و قد عرفت فيما مر أن مضمون الرواية لا يلائم كون السورة مكية.

 و في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): عن قوله: ﴿اَلَّذِينَ جَعَلُوا اَلْقُرْآنَ عِضِينَ قالا: هم قريش.

 و في المعاني، بإسناده عن عبد الله بن علي الحلبي قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: مكث رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بمكة بعد ما جاء الوحي عن الله تبارك و تعالى ثلاث عشرة سنة مستخفيا منها ثلاث سنين خائفا لا يظهر حتى أمر الله عز و جل أن يصدع بما أمر فأظهر حينئذ الدعوة.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن أبي عبيدة أن عبد الله بن مسعود قال ": ما زال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مستخفيا حتى نزل: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ فخرج هو و أصحابه.

 و في تفسير العياشي، عن محمد بن علي الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: اكتتم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بمكة سنين ليس يظهر و علي معه و خديجة ثم أمره الله أن يصدع بما يؤمر فظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فجعل يعرض نفسه على قبائل العرب فإذا أتاهم قالوا:

كذاب امض عنا.

 و في تفسير العياشي، عن أبان بن عثمان الأحمر رفعه قال" :كان المستهزءون خمسة

 

 

 

 من قريش: الوليد بن المغيرة المخزومي و العاص بن وائل السهمي و الحارث بن حنظلة[1]

و الأسود بن عبد يغوث بن وهب الزهري و الأسود بن المطلب بن أسد فلما قال الله:

﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ اَلْمُسْتَهْزِئِينَ علم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قد أخزاهم فأماتهم الله بشر ميتات:

أقول: و رواه الصدوق في المعاني، بإسناده عن أبان و روى فيه، أيضا و الطبرسي في الإحتجاج، عن موسى بن جعفر عن آبائه عن علي (عليه السلام): ما في هذا المعنى و هو حديث طويل فيه تفصيل هلاك كل من هؤلاء الخمسة لعنهم الله. و روي كون المستهزءين خمسة من قريش عن علي و عن ابن عباس مع سبب هلاكهم. و الروايات مع ذلك مختلفة من طرق أهل السنة من جهة عددهم و أسمائهم و أسباب هلاكهم، و الذي اتفق فيه حديث الفريقين هو ما قدمناه.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه و الديلمي عن أبي الدرداء سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: ما أوحي إلي أن أكون تاجرا و لا أجمع المال متكاثرا و لكن أوحي إلي:

أن ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ اَلسَّاجِدِينَ وَ اُعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اَلْيَقِينُ. أقول: و روي ما في معناه أيضا عن ابن مردويه عن ابن مسعود عنه (ص).

 و فيه، أخرج البخاري و ابن جرير عن أم العلاء ":أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) دخل على عثمان بن مظعون و قد مات فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله فقال: و ما يدريك أن الله أكرمه؟ أما هو فقد جاءه اليقين إني لأرجو له الخير.

 و في الكافي، بإسناده عن حفص بن غياث قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن من صبر صبر قليلا و من جزع جزع قليلا.

ثم قال: عليك بالصبر في جميع أمورك فإن الله عز و جل بعث محمدا و أمره بالصبر و الرفق فقال: ﴿وَ اِصْبِرْ عَلى‏َ مَا يَقُولُونَ وَ اُهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً وَ ذَرْنِي وَ اَلْمُكَذِّبِينَ أُولِي اَلنَّعْمَةِ و قال تبارك و تعالى: ﴿اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا اَلَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَ مَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ مَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ.

 

 

 

 

فصبر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حتى نالوه بالعظائم و رموه بها و ضاق صدره و قال الله:

﴿وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ اَلسَّاجِدِينَ.

(بحث فلسفي في كيفية وجود التكليف و دوامه)

قد تقدم في خلال أبحاث النبوة و كيفية انتشاء الشرائع السماوية في هذا الكتاب أن كل نوع من أنواع الموجودات له غاية كمالية هو متوجه إليها ساع نحوها طالب لها بحركة وجودية تناسب وجوده لا يسكن عنها دون أن ينالها إلا أن يمنعه عن ذلك مانع مزاحم فيبطل دون الوصول إلى غايته كالشجرة تقف عن الرشد و النمو قبل أن تبلغ غايتها لآفات تعرضها، و تقدم أيضا أن الحرمان من بلوغ الغايات إنما هو في أفراد خاصة من الأنواع و أما النوع بنوعيته فلا يتصور فيه ذلك.

و أن الإنسان و هو نوع وجودي له غاية وجودية لا ينالها إلا بالاجتماع المدني كما يشهد به تجهيز وجوده بما لا يستغني به عن سائر أمثاله كالذكورة و الأنوثة و العواطف و الإحساسات و كثرة الحوائج و تراكمها.

و أن تحقق هذا الاجتماع و انعقاد المجتمع الإنساني يحوج أفراد المجتمع إلى أحكام و قوانين ينتظم باحترامها و العمل بها شتات أمورهم و يرتفع بها اختلافاتهم الضرورية و يقف بها كل منهم في موقفه الذي ينبغي له و يحوز بها سعادته و كماله الوجودي، و هذه الأحكام و القوانين العملية في الحقيقة منبعثة عن الحوائج التي تهتف بها خصوصية وجود الإنسان و خلقته الخاصة بما لها من التجهيزات البدنية و الروحية كما أن خصوصية وجوده و خلقته مرتبطة بخصوصيات العلل و الأسباب التي تكون وجود الإنسان من الكون العام.

و هذا معنى كون الدين فطريا أي أنه مجموع أحكام و قوانين يرشد إليها وجود الإنسان بحسب التكوين و إن شئت فقل: سنن يستدعيها الكون العام فلو أقيمت أصلحت المجتمع و بلغت بالأفراد غايتها في الوجود و كمالها المطلوب و لو تركت و أبطلت أفسدت العالم الإنساني و زاحمت الكون العام في نظامه.

و أن هذه الأحكام و القوانين سواء كانت معاملية اجتماعية تصلح بها حال المجتمع

 

 

 

 و يجمع بها شمله أو عبادية تبلغ بالإنسان غاية كماله من المعرفة و الصلاح في مجتمع صالح فإنها جميعا يجب أن يتلقاها الإنسان من طريق نبوة إلهية و وحي سماوي لا غير.

و بهذه الأصول الماضية يتبين أن التكليف الإلهي يلازم الإنسان ما عاش في هذه النشأة الدنيوية سواء كان في نفسه ناقصا لم يكمل وجودا بعد أو كاملا علما و عملا: أما لو كان ناقصا فظاهر، و أما لو كان كاملا فلأن معنى كماله أن يحصل له في جانبي العلم و العمل ملكات فاضلة يصدر عنها من الأعمال المعاملية ما يلائم المجتمع و يصلحه و يتمكن من كمال المعرفة و صدور الأعمال العبادية الملائمة للمعرفة كما تقتضيه العناية الإلهية الهادية للإنسان إلى سعادته.

و من المعلوم أن تجويز ارتفاع التكليف عن الإنسان الكامل ملازم لتجويز تخلفه عن الأحكام و القوانين و هو فيما يرجع إلى المعاملات يوجب فساد المجتمع و العناية الإلهية تأباه. و فيما يرجع إلى العبادات يوجب تخلف الملكات عن آثارها فإن الأفعال مقدمات معدة لحصول الملكات ما لم تحصل، و إذا حصلت عادت تلك الأفعال آثارا لها تصدر عنها صدورا لا تخلف فيه.

و من هنا يظهر فساد ما ربما يتوهم أن الغرض من التكليف تكميل الإنسان و إيصاله غاية وجوده فإذا كمل لم يكن لبقاء التكليف معنى.

وجه الفساد: أن تخلف الإنسان عن التكليف الإلهي و إن كان كاملا، في المعاملات يفسد المجتمع و فيه إبطال العناية الإلهية بالنوع، و في العبادات يستلزم تخلف الملكات عن آثارها، و هو غير جائز، و لو جاز لكان فيه إبطال الملكة و فيه أيضا إبطال العناية. نعم بين الإنسان الكامل و غيره فرق في صدور الأفعال و هو أن الكامل مصون عن المخالفة لمكان الملكة الراسخة بخلاف غير الكامل و الله المستعان.

 

 

 

(١٦) (سورة النحل مكية، و هي مائة و ثمان و عشرون آية) (١٢٨)

[سورة النحل (١٦): الآیات ١ الی ٢١]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ ﴾﴿أَتىَ أَمْرُ اَللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ ١يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏َ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ ٢خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالى‏َ عَمَّا يُشْرِكُونَ ٣خَلَقَ اَلْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ٤وَ اَلْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْ‏ءٌ وَ مَنَافِعُ وَ مِنْهَا تَأْكُلُونَ ٥وَ لَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ ٦وَ تَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلى‏َ بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ اَلْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ٧وَ اَلْخَيْلَ وَ اَلْبِغَالَ وَ اَلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَ زِينَةً وَ يَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ٨وَ عَلَى اَللَّهِ قَصْدُ اَلسَّبِيلِ وَ مِنْهَا جَائِرٌ وَ لَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ٩هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَ مِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ١٠يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ اَلزَّرْعَ وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلنَّخِيلَ وَ اَلْأَعْنَابَ وَ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ١١وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ وَ اَلنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ١٢وَ مَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُخْتَلِفاً

 

 

 

﴿أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ١٣وَ هُوَ اَلَّذِي سَخَّرَ اَلْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَ تَرَى اَلْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ١٤وَ أَلْقى‏ فِي اَلْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ أَنْهَاراً وَ سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ١٥وَ عَلاَمَاتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ١٦أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ أَ فَلاَ تَذَكَّرُونَ ١٧وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اَللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ١٨وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَ مَا تُعْلِنُونَ ١٩وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ ٢٠أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَ مَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ٢١

 (بيان)

الغالب على الظن إذا تدبرنا السورة أن صدر السورة مما نزلت في أواخر عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بمكة قبيل الهجرة، و هي أربعون آية يذكر الله سبحانه في شطر منها أنواع نعمه السماوية و الأرضية مما تقوم به حياة الإنسان و ينتفع به في معاشه نظاما متقنا و تدبيرا متصلا يدل على وحدانيته تعالى في ربوبيته.

و يحتج في شطر آخر على بطلان مزاعم المشركين و خيبة مساعيهم و أنه سيجازيهم كما جازى أمثالهم من الأمم الماضية و سيفصل القضاء بينهم يوم القيامة.

و قد افتتح سبحانه هذه الآيات بقوله: ﴿أَتىَ أَمْرُ اَللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ مفرعا آيات الاحتجاج على ما فيه من التنزيه و التسبيح و من ذلك يعلم أن عمدة الغرض في صدر السورة الإنباء بإشراف الأمر الإلهي و دنوه منهم و قرب

 

 

 

 نزوله عليهم، و فيه إبعاد للمشركين فقد كانوا يستعجلون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) استهزاء به لما كانوا يسمعون كلام الله سبحانه يذكر كثيرا نزول أمره تعالى و ينذرهم به و فيه مثل قوله للمؤمنين: ﴿فَاعْفُوا وَ اِصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اَللَّهُ بِأَمْرِهِ و ليس إلا أمره تعالى بظهور الحق على الباطل و التوحيد على الشرك و الإيمان على الكفر، هذا ما يعطيه التدبر في صدر السورة.

و أما ذيلها و هي ثمان و ثمانون آية من قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اَللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا إلى آخر السورة على ما بينها من الاتصال و الارتباط فسياق الآيات فيه يشبه أن تكون مما نزلت في أوائل عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالمدينة بعيد الهجرة فصدر السورة و ذيلها متقاربا النزول و ذلك لما فيها من آيات لا تنطبق مضامينها إلا على بعض الحوادث الواقعة بعيد الهجرة كقوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اَللَّهِ الآية، و قوله:

﴿وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ الآية النازلة على قول في سلمان الفارسي و قد آمن بالمدينة، و قوله: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ الآية النازلة في عمار كما سيأتي و كذا الآيات النازلة في اليهود و الآيات النازلة في الأحكام كل ذلك يفيد الظن بكون الآيات مدنية.

و مع ذلك فاختلاف النزول لائح من بعضها كقوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ هَاجَرُوا الآية: الآية - ٤١ و قوله: ﴿وَ إِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ: الآية: ١٠١ إلى تمام آيتين أو خمس آيات، و قوله: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ: الآية: ١٠٦ و عدة آيات تتلوها.

و الإنصاف بعد ذلك كله أن قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ هَاجَرُوا: الآية: ٤١ إلى تمام آيتين، و قوله: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ: الآية: ١٠٦ و بضع آيات بعدها، و قوله: ﴿وَ إِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا: الآية: ١٢٦ و آيتان بعدها مدنية لشهادة سياقها بذلك، و الباقي أشبه بالمكية منها بالمدنية. و هذا و إن لم يوافق شيئا من المأثور لكن السياق يشهد به و هو أولى بالاتباع. و قد مر في تفسير آية ١١٨ من سورة الأنعام احتمال أن تكون نازلة بعد سورة النحل و هي مكية. و الغرض الذي هو كالجامع لآيات ذيل السورة أن فيها أمرا بالصبر و وعدا حسنا على الصبر في ذات الله.

و غرض السورة الإخبار بإشراف أمر الله و هو ظهور الدين الحق عليهم و يوضح

 

 

 

 تعالى ذلك ببيان أن الله هو الإله المعبود لا غير لقيام تدبير العالم به، كما أن الخلقة قائمة به و لانتهاء جميع النعم إليه، و انتفاء ذلك عن غيره، فالواجب أن يعبد الله و لا يعبد غيره، و بيان أن الدين الحق لله فيجب أن يؤخذ به و لا يشرع دونه دين و رد ما أبداه المشركون من الشبهة على النبوة و التشريع و بيان أمور من الدين الإلهي.

هذا هو الذي يرومه معظم آيات السورة و تنعطف إلى بيانه مرة بعد مرة و في ضمنها آيات تتعرض لأمر الهجرة و ما يناسب ذلك مما يحوم حولها.

قوله تعالى: ﴿أَتى‏َ أَمْرُ اَللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالى‏َ عَمَّا يُشْرِكُونَ ظاهر السياق أن الخطاب للمشركين لأن الآيات التالية مسوقة احتجاجا عليهم، إلى قوله في الآية الثانية و العشرين: ﴿إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ و وجه الكلام فيها إلى المشركين، و هي جميعا كالمتفرعة على قوله في ذيل هذه الآية: ﴿سُبْحَانَهُ وَ تَعَالى‏َ عَمَّا يُشْرِكُونَ و مقتضاه أن يكون الأمر الذي أخبر بإتيانه أمرا يطهر ساحة الربوبية من شركهم بحسم مادته، و لم تقع في كلامه حكاية استعجال من المؤمنين في أمر، بل المذكور استعجال المشركين بما كان يذكر في كلامه تعالى من أمر الساعة و أمر، الفتح و أمر نزول العذاب، كما يشير إليه قوله: ﴿قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَا ذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ اَلْمُجْرِمُونَ إلى قوله ﴿وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ: يونس: ٥٣ إلى غير ذلك من الآيات.

و على هذا فالمراد بالأمر ما وعد الله النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الذين آمنوا و أوعد المشركين مرة بعد مرة في كلامه أنه سينصر المؤمنين و يخزي الكافرين و يعذبهم و يظهر دينه بأمر من عنده كما قال: ﴿فَاعْفُوا وَ اِصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اَللَّهُ بِأَمْرِهِ: البقرة: ١٠٩. و إليه يعود أيضا ضمير ﴿فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ على ما يفيده السياق أو يكون المراد بإتيان الأمر إشرافه على التحقق و قربه من الظهور، و هذا شائع في الكلام يقال لمن ينتظر ورود الأمير: هذا الأمير جاء و قد دنا مجيئه و لم يجي‏ء بعد.

و على هذا أيضا يكون قوله: ﴿سُبْحَانَهُ وَ تَعَالى‏َ عَمَّا يُشْرِكُونَ من قبيل الالتفات من الخطاب إلى الغيبة إشارة إلى أنهم ينبغي أن يعرض عن مخاطبتهم و مشافهتهم لانحطاط أفهامهم لشركهم و لم يستعجلوا نزول الأمر إلا لشركهم استهزاء و سخرية.

 

 

 

و بما مر يندفع ما ذكره بعضهم أن الخطاب في الآية للمؤمنين أو للمؤمنين و المشركين جميعا فإن السياق لا يلائمه.

على أنه تعالى يخص في كلامه الاستعجال بغير المؤمنين و ينفيه عنهم قال:

﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا اَلْحَقُّ﴾: الشورى: ١٨.

و كذا ما ذكروه أن المراد بالأمر هو يوم القيامة و ذلك أن المشركين و إن كانوا يستعجلونه أيضا كما يدل عليه قولهم على ما حكاه الله تعالى: ﴿مَتى‏َ هَذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ: يس: ٤٨ لكن سياق الآيات لا يساعد عليه كما عرفت.

و من العجيب ما استدل به جمع منهم على أن المراد بالأمر يوم القيامة أنه تعالى لما قال في آخر سورة الحجر: ﴿فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ و كان فيه تنبيه على حشر هؤلاء و سؤالهم قال في مفتتح هذه السورة: ﴿أَتى‏َ أَمْرُ اَللَّهِ فأخبر بقرب يوم القيامة و كذا قوله في آخر الحجر: ﴿وَ اُعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اَلْيَقِينُ و هو مفسر بالموت شديد المناسبة بأن يكون المراد بالأمر في هذه السورة يوم القيامة و مما يؤكد المناسبة قوله هناك: ﴿يَأْتِيَكَ و هاهنا: ﴿أَتى‏َ. و أمثال هذه الأقاويل الملفقة مما ينبغي أن يلتفت إليه.

و نظيره قول بعضهم: إن المراد بالأمر واحدة الأوامر و معناه الحكم كأنه يشير به إلى ما في السورة من أحكام العهد و اليمين و محرمات الأكل و غيرها و الخطاب على هذا للمؤمنين خاصة و هو كما ترى.

قوله تعالى: ﴿يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏َ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إلى آخر الآية. الناس على اختلافهم الشديد قديما و حديثا في حقيقة الروح لا يختلفون في أنهم يفهمون منه معنى واحدا و هو ما به الحياة التي هي ملاك الشعور و الإرادة فهذا المعنى هو المراد في الآية الكريمة.

و أما حقيقته إجمالا فالذي يفيده مثل قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ اَلرُّوحُ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ صَفًّا: النبأ: ٣٨ و قوله: ﴿تَعْرُجُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ إِلَيْهِ: المعارج: ٤ و غيرهما أنه موجود مستقل ذو حياة و علم و قدرة و ليس من قبيل الصفات و الأحوال القائمة بالأشياء

 

 

 

 كما ربما يتوهم، و قد أفاد بقوله: ﴿قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أنه من سنخ أمره، و عرف أيضا أمره بمثل قوله: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ: يس: ٨٣ فدل على أنه كلمة الإيجاد التي يوجد سبحانه بها الأشياء أي الوجود الذي يفيضه عليها لكن لا من كل جهة بل من جهة استناده إليه تعالى بلا مادة و لا زمان و لا مكان كما يفيده قوله: ﴿وَ مَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ: القمر: ٥٠ فإن هذا التعبير إنما يورد فيما لا تدريج فيه أي لا مادة و لا حركة له، و ليكن هذا الإجمال عندك حتى يرد عليك تفصيله فيما سيأتي إن شاء الله في تفسير سورة الإسراء.

فتحصل أن الروح كلمة الحياة التي يلقيها الله سبحانه إلى الأشياء فيحييها بمشيئته، و لذلك سماه وحيا و عد إلقاءه و إنزاله على نبيه إيحاء في قوله: ﴿وَ كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا: الشورى: ٥٢ فإن الوحي‏ هو الكلام الخفي و التفهيم بطريق الإشارة و الإيماء فيكون إلقاء كلمته تعالى - كلمة الحياة - إلى قلب النبي (عليه السلام) وحيا للروح إليه، فافهم ذلك.

فقوله تعالى: ﴿يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ الباء للمصاحبة أو للسببية و لا كثير تفاوت بينهما في المآل كما هو ظاهر عند المتأمل فإن تنزيل الملائكة بمصاحبة الروح إنما هو لإلقائه في روح النبي (عليه السلام) ليفيض عليه المعارف الإلهية و كذا تنزيلهم بسبب الروح لأن كلمته تعالى أعني كلمة الحياة تحكم في الملائكة و تحييهم كما تحكم في الإنسان و تحييه، و ضمير ﴿يُنَزِّلُ له تعالى و الجملة استئناف تفيد تعليل قوله في الآية السابقة: ﴿سُبْحَانَهُ وَ تَعَالى‏َ عَمَّا يُشْرِكُونَ.

و المعنى: أن الله منزه و متعال عن شركهم أو عن الشريك الذي يدعونه له و لتنزهه و تعاليه عن الشريك ينزل سبحانه الملائكة بمصاحبة الروح الذي هو من سنخ أمره و كلمته في الإيجاد أو بسببه على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون.

و ذكر بعضهم أن المراد بالروح الوحي أو القرآن و سمي روحا لأن به حياة القلوب، كما أن الروح الحقيقي به حياة الأبدان. قال: و قوله: ﴿مِنْ أَمْرِهِ أي

 

 

 

 بأمره، و نظيره قوله: ﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ أي بأمر الله لأن أحدا لا يحفظه عن أمره، انتهى.

أما قوله: إن ﴿مِنْ في قوله ﴿مِنْ أَمْرِهِ بمعنى الباء استنادا إلى قوله:

﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ أي بأمر الله إلخ فقد مر في تفسير سورة الرعد أن ﴿مِنْ على ظاهر معناه و أن بعض أمره تعالى يحفظ الأشياء من بعض أمره فلا وجه لأخذ ﴿مِنْ أَمْرِهِ بمعنى «بأمره» بل قوله ﴿بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ معناه بالروح الكائن من أمره على أن الظرف مستقر لا لغو كما في قوله: ﴿قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي و معناه ما تقدم.

و أما قوله: إن الروح بمعنى الوحي أو القرآن و كذا قول بعضهم: إنه بمعنى النبوة فلا يخلو عن وجه بحسب النتيجة بمعنى أن نتيجة نزول الملائكة بالروح من أمره هو الوحي أو النبوة، و أما في نفسه و هو أن يسمى الوحي أو النبوة روحا باشتراك لفظي أو مجازا من حيث إنه يحيي القلوب و يعمرها، كما أن الروح به حياة الأبدان و عمارتها فهو فاسد لما بيناه مرارا أن الطريق إلى تشخيص مصاديق الكلمات في كلامه تعالى هو الرجوع إلى سائر ما يصلح من كلامه لتفسيره دون الرجوع إلى العرف و ما يراه في مصاديق الألفاظ.

و المتحصل من كلامه سبحانه أن الروح خلق من خلق الله و هو حقيقة واحدة ذات مراتب و درجات مختلفة منها ما في الحيوان و غير المؤمنين من الإنسان و منها ما في المؤمنين من الإنسان، قال تعالى: ﴿وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ المجادلة: ٢٢ و منها ما يتأيد به الأنبياء و الرسل كما قال ﴿وَ أَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ: البقرة: ٨٧ و قال:

﴿وَ كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا: الشورى: ٥٢ على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله.

هذا ما تفيده الآيات الكريمة و أما أن إطلاق اللفظ على هذا المعنى هل هي حقيقة أو مجاز و ما أمعنوا في البحث أنه من الاستعارة المصرحة أو استعارة بالكناية أو أن قوله: ﴿بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ من قبيل التشبيه لذكر المشبه صريحا بناء على كون ﴿مِنْ في قوله: ﴿مِنْ أَمْرِهِ بيانية كما صرحوا في قوله: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اَلْخَيْطُ اَلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اَلْأَسْوَدِ مِنَ اَلْفَجْرِ بقره - ١٨٧ أنه من التشبيه للتصريح بالمشبه

 

 

 

 في متن الكلام فكل ذلك من الأبحاث الأدبية الفنية التي ليس لها كثير تأثير في الحصول على الحقائق.

و ذكر بعضهم أن ﴿مِنْ أَمْرِهِ بيان للروح، و ﴿مِنْ للتبيين، و المراد بالروح الوحي، كما تقدم.

و فيه أنه مدفوع بقوله تعالى: ﴿قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي فإن من الواضح أن الآيتين تسلكان مسلكا واحدا، و ظاهر آية الإسراء أن ﴿مِنْ فيها للابتداء أو للنشوء، و المراد بيان أن الروح من سنخ الأمر و شأن من شئونه و يقرب منها قوله تعالى: ﴿تَنَزَّلُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ: القدر: ٤.

و ذكر بعضهم أن المراد بالروح هو جبريل و أيده بقوله: ﴿نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ عَلى‏َ قَلْبِكَ: الشعراء: ١٩٤ فإن من المسلم أن المراد به في الآية، هو جبريل و الباء للمصاحبة و المراد بالملائكة ملائكة الوحي و هم أعوان جبريل، و المراد بالأمر واحد الأوامر، و المعنى ينزل تعالى ملائكة الوحي بمصاحبة جبريل بأمره و إرادته.

و فيه أن هذه الآية نظيرة قوله تعالى: ﴿يُلْقِي اَلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏َ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ اَلتَّلاَقِ: المؤمن: ١٥ و ظاهره لا يلائم كون المراد بالروح هو جبريل.

و أردأ الوجوه ما ذكره بعضهم أن المراد بالروح أرواح الناس لا ينزل ملك إلا و معه واحد من الأرواح، و هو منقول عن مجاهد، و فساده ظاهر.

و قوله: ﴿عَلى‏َ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أي إن بعث الرسل و تنزيل الملائكة بالروح من أمره عليهم متوقف على مجرد المشية الإلهية من غير أن يقهره تعالى في ذلك قاهر غيره فيجبره على الفعل أو يمنعه من الفعل كما في سائر أفعاله تعالى فإنه تعالى يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.

فلا ينافي ذلك كون فعله ملازما لحكم و مصالح و مختلفا باختلاف الاستعدادات لا يقع إلا عن استعداد في المحل و صلاحية للقبول فإن استعداد المستعد ليس إلا كسؤال السائل، فكما أن سؤال السائل إنما يقربه من جود المسئول و عطائه من غير أن يجبره على الإعطاء و يقهره كذلك الاستعداد في تقريبه المستعد لإفاضته تعالى و حرمان غير المستعد من ذلك فهو تعالى يفعل ما يشاء من غير أن يوجبه عليه شي‏ء أو يمنعه عنه شي‏ء

 

 

 

 لكنه لا يفعل شيئا و لا يفيض رحمة إلا عن استعداد فيما يفيض عليه و صلاحية منه.

و قد أفاد ذلك في خصوص الرسالة حيث قال: ﴿وَ إِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى‏َ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اَللَّهِ اَللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اَللَّهِ وَ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ: الأنعام: ١٢٤ فإن الآية ظاهرة في أن الموارد مختلفة في قبول كرامة الرسالة و أن الله سبحانه أعلم بالمورد الذي يصلح لها و يستأهل لتلك الكرامة و هو غير هؤلاء المجرمين الماكرين و أما هم فليس لهم عند الله إلا الصغار و العذاب لإجرامهم و مكرهم. هذا.

و من هنا يظهر فساد استدلال بعضهم بالآية على نفي المرجح في مورد الرسالة و محصل ما ذكره أن الآية تعلق الرسالة على مجرد المشية الإلهية من غير أن تقيدها بشي‏ء، فالرسول إنما ينال الرسالة بمشية من الله لا لاختصاصه بصفات تؤهله لذلك و يرجحه على غيره و وجه الفساد ظاهر مما تقدم.

و نظيره في الفساد الاستدلال بالآية على كون الرسالة عطائية غير كسبية، و ذلك أنه تعالى غير محكوم عليه في ما ينسب إليه من الفعل لا يفعل إلا ما يشاء، و الأمور العطائية و الكسبية في ذلك سواء، و لا شي‏ء يقع في الوجود إلا بإذنه.

و قوله: ﴿أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ بيان لقوله: ﴿يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ لكونه في معنى الوحي أو بيان للروح بناء على كونه بمعنى الوحي، و الإنذار هو إخبار فيه تخويف، كما أن التبشير هو إخبار فيه سرور على ما ذكره الراغب أو إعلام بالمحذور كما ذكره غيره، و التقدير على الأول أخبروهم مخوفين بوحدانيتي في الألوهية و وجوب تقواي، و على الثاني أعلموهم ذلك، على أن يكون ﴿أَنَّهُ مفعولا ثانيا لا منصوبا بنزع الخافض.

و قد علم بذلك أن قوله: ﴿فَاتَّقُونِ متفرع على قوله: ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا و الجملتان جميعا مفعول ثان أو في موضعه لقوله: ﴿أَنْذِرُوا و يوضح ذلك أن لا إله و هو الذي يبتدئ منه و ينتهي إليه كل شي‏ء أو المعبود بالحق من لوازم صفة ألوهيته أن يتقيه الإنسان لتوقف كل خير و سعادة إليه، فلو فرض أنه واحد لا شريك له في ـ

 

 

 

ألوهيته كان لازمه أن يتقى وحده لأن التقوى و هو إصلاح مقام العمل فرع لما في مقام الاعتقاد و النظر، فعبادة الآلهة الكثيرين و الخضوع لهم لا يجامع الاعتقاد بإله واحد لا شريك له الذي هو القيوم على كل شي‏ء و بيده زمام كل أمر و لذا لم يؤمر نبي أن يدعو إلى توحيد من غير عمل أو إلى عمل من غير توحيد، قال تعالى: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ: الأنبياء: ٢٥.

فالذي أمر الرسل بالإنذار به في الآية هو مجموع قوله: ﴿أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ و هو تمام الدين لاندراج الاعتقادات الحقة في التوحيد و الأحكام العملية جميعا في التقوى، و لا يعبأ بما ذكره بعضهم أن قوله: ﴿فَاتَّقُونِ للمستعجلين من الكفار المذكورين في الآية الأولى أو لخصوص كفار قريش من غير أن يكون داخلا فيما أمر به الرسل من الإنذار.

قوله تعالى: ﴿خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالى‏َ عَمَّا يُشْرِكُونَ تقدم معنى خلق السماوات و الأرض بالحق، و لازم خلقها بالحق أن لا يكون للباطل فيها أثر، و لذلك عقبه بتنزيهه عن الشركاء الذين يدعونهم ليشفعوا لهم عند الله و يهدوهم إلى الخير و يقوهم الشر فإنهم من الباطل الذي لا أثر له.

و في الآية و الآيات التالية لها احتجاج على وحدانيته تعالى في الألوهية و الربوبية من جهتي الخلق و التدبير جميعا فإن الخلق و الإيجاد آية الألوهية و كون الخلق بعضها نعمة بالنسبة إلى بعض آية الربوبية لأن الشي‏ء لا يكون نعمة بالنسبة إلى آخر إلا عن ارتباط بينهما و اتصال من أحدهما بالآخر يؤدي إلى نظام جامع بينهما و تدبير واحد يجمعهما، و وحدة التدبير آية وحدة المدبر فكون ما في السماوات و الأرض من مخلوق نعما للإنسان يدل على أن الله سبحانه وحده ربه و رب كل شي‏ء.

قوله تعالى: ﴿خَلَقَ اَلْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ المراد به الخلق الجاري في النوع الإنساني و هو جعل نسله من النطفة فلا يشمل آدم و عيسى (عليه السلام).

و الخصيم‏ صفة مشبهة من الخصومة و هي الجدال، و الآية و إن أمكن أن تحمل على الامتنان حيث إن من عظيم المن أن يبدل الله سبحانه بقدرته التامة قطرة من ماء مهين إنسانا كامل الخلقة منطيقا متكلما ينبئ عن كل ما جل و دق ببيانه البليغ لكن كثرة

 

 

 

 الآيات التي توبخ الإنسان و تقرعه على وقاحته في خصامه في ربه كقوله تعالى: ﴿أَ وَ لَمْ يَرَ اَلْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَ ضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ اَلْعِظَامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ: يس: ٧٨ ترجح أن يكون المراد بذيل الآية بيان وقاحة الإنسان.

و يؤيد ذلك أيضا بعض التأييد ما في ذيل الآية السابقة من تنزيهه تعالى من شركهم.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْ‏ءٌ وَ مَنَافِعُ وَ مِنْهَا تَأْكُلُونَ الأنعام‏ جمع نعم و هي الإبل و البقر و الغنم سميت بذلك لنعمة مسها بخلاف الحافر الذي يصلب كذا في المجمع، و في المفردات: الدف‏ء خلاف البرد. انتهى. و كأن المراد بالدف‏ء ما يحصل من جلودها و أصوافها و أوبارها من الحرارة للاتقاء من البرد، أو المراد بالدف‏ء ما يدفأ به.

و المراد بالمنافع سائر ما يستفاد منها لغير الدف‏ء من أصوافها و أوبارها و جلودها و ألبانها و شحومها و غير ذلك، و قوله: ﴿لَكُمْ يمكن أن يكون متعلقا بقوله:

﴿خَلَقَهَا و يكون قوله: ﴿فِيهَا دِفْ‏ءٌ وَ مَنَافِعُ حالا من ضمير ﴿خَلَقَهَا و يمكن أن يكون ﴿لَكُمْ ظرفا مستقرا متعلقا بالجملة الثانية أي في الأنعام دف‏ء كائنا لكم.

قوله تعالى: ﴿وَ لَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ الجمال‏ الزينة و حسن المنظر، قال في المجمع: الإراحة رد الماشية بالعشي من مراعيها إلى منازلها و المكان الذي تراح فيه مراح، و السروح‏ خروج الماشية إلى المرعى بالغداة، يقال:

سرحت الماشية سرحا و سروحا و سرحها أهلها. انتهى.

يقول تعالى: و لكم في الأنعام منظر حسن حين تردونها بالعشي إلى منازلها و حين تخرجونها بالغداة إلى مراعيها.

قوله تعالى: ﴿وَ تَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلى‏َ بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ اَلْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ الأثقال‏ جمع ثقل و هو المتاع الذي يثقل حمله و المراد بقوله: ﴿بِشِقِّ اَلْأَنْفُسِ مشقة تتحملها الأنفس في قطع المسافات البعيدة و المسالك الصعبة.

و المراد أن الأنعام كالإبل و بعض البقر تحمل أمتعتكم الثقيلة إلى بلد ليس يتيسر

 

 

 

 لكم بلوغها إلا بمشقة تتحملها أنفسكم فرفع عنكم المشاق بخلقها و تسخيرها لكم إن ربكم رءوف رحيم.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلْخَيْلَ وَ اَلْبِغَالَ وَ اَلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَ زِينَةً وَ يَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ معطوف على الأنعام فيما مر أي و الخيل و البغال و الحمير خلقها لكم لتركبوها، و زينة أي إن في خلقها ارتباطا بمنافعكم و ذلك أنكم تركبونها و تتخذونها زينة و جمالا، و قوله: ﴿وَ يَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ أي يخلق ما لا علم لكم به من الحيوان و غيره، و سخرها لكم لتنتفعوا بها، و الدليل على ما قدرناه هو السياق.

قوله تعالى: ﴿وَ عَلَى اَللَّهِ قَصْدُ اَلسَّبِيلِ وَ مِنْهَا جَائِرٌ وَ لَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ القصد على ما ذكره الراغب و غيره استقامة الطريق و هو كونه قيما على سالكيه أوصلهم إلى الغاية، و الظاهر أن المصدر بمعنى الفاعل و الإضافة من إضافة الصفة إلى موصوفها و المراد السبيل القاصد بدليل مقابلته بقوله: «و منها جائر» أي و من السبيل ما هو جائر أي مائل عن الغاية يورد سالكيه غيرها و يضلهم عنها.

و المراد بكون قصد السبيل على الله وجوب جعل سبيل قاصد عليه تعالى يسلكه عباده فيوردهم مورد السعادة و الفلاح و إذ لا حاكم غيره يحكم عليه فهو الذي أوجب على نفسه أن يجعل لهم طريقا هذا نعته ثم يهديهم إليه أما الجعل فهو ما جهز الله كل موجود و منها الإنسان من القوى و الأدوات بما لو استعملها كما نظمت أدته إلى سعادته و كماله المطلوب قال تعالى: ﴿اَلَّذِي أَعْطى‏َ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‏َ: طه: ٥٠ و قال في الإنسان خاصة: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ: الروم: ٣٠.

و أما الهداية فهي التي فعلها من ناحية الفطرة و تناهي بما من طريق بعث الرسل و إنزال الكتب و تشريع الشرائع قال تعالى: ﴿وَ نَفْسٍ وَ مَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا: الشمس: ٨ و قال: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ اَلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً: الدهر: ٣.

و إنما أدرج سبحانه هذه الآية بين هذه الآيات التي سياقها عد النعم العلوية و السفلية من السماء و الأرض و الأنعام و الخيل و البغال و الحمير و الماء النازل من السماء و الزرع و نظائرها لما أن الكلام انجر في آيتي الأنعام و الخيل إلى معنى قطع الطرق ـ

 

 

 

و ركوب المراكب فناسب أن يذكر ما أنعم به من الطريق المعنوي الموصل للإنسان إلى غايته الحقيقية يبتغيها في مسير الحياة كما أنعم بمثله في عالم المادة و نشأة الصورة.

فذكر سبحانه أن من نعمه التي من بها على عباده أن أوجب على نفسه لهم سبيلا قاصدا يوصلهم إلى سعادة حياتهم فجعله لهم و هداهم إليه.

و قد نسب سبحانه قصد السبيل إلى نفسه دون السبيل الجائر لأن سبيل الضلال ليس سبيلا مجعولا له و في عرض سبيل الهدى و إنما هو الخروج عن السبيل و عدم التلبس بسلوكه فليس بسبيل حقيقة و إنما هو عدم السبيل.

و كيف كان فالآية ظاهرة في نسبة قصد السبيل إليه تعالى و ترك نسبة السبيل الجائر المؤدي بسبب المقابلة إلى نفي نسبته إليه تعالى.

و إذ كان من الممكن أن يتوهم أن لازم جعله قصد السبيل أن يكون مكفورا في نعمته مغلوبا في تدبيره و ربوبيته حيث جعل السبيل و لم يسلكه الأكثرون و هدى إليه و لم يهتد به المدعوون دفعه بقوله تعالى: ﴿وَ لَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ أي إن عدم اهتداء الجميع ليس لعجز منه سبحانه عن ذلك أو غلبة من هؤلاء المتخلفين و ظهورهم عليه بل لأنه تعالى لم يشأ ذلك و لو شاء لم يسعهم إلا أن يهتدوا جميعا فهو القاهر الغالب على كل حال.

و بعبارة أخرى السبيل القاصد الذي جعله الله تعالى هو السبيل المبني على اختيار الإنسان يقطعه بإتيان الأعمال الصالحة و اجتناب المعاصي عن اختيار منه، و ما هذا شأنه لم يكن مما يجبر عليه و لا عاما للجميع فإن الطبائع متنوعة و التراكيب مختلفة و لا محالة تتنوع آثارها، و يختلف الأفراد بالإيمان و الكفر و التقوى و الفجور و الطاعة و المعصية.

و الآية مما تشاجرت فيها الأشاعرة و المعتزلة من فرق المسلمين فاستدلت المعتزلة بأن تغيير الأسلوب بجعل قصد السبيل على الله دون السبيل الجائر للدلالة على ما يجوز إضافته إليه تعالى و ما لا يجوز كما ذكره في الكشاف.

و تكلفت الأشاعرة في الجواب عنه فمن مجيب بأن السبيلين جميعا منه تعالى و إنما لم ينسب السبيل الجائر إليه تأدبا، و من مجيب بأن المراد بقوله: ﴿وَ عَلَى اَللَّهِ قَصْدُ

 

 

 

 اَلسَّبِيلِ أن عليه تعالى بيان السبيل الحق فضلا و كرما منه دون بيان السبيل الجائر و أما أصل الجعل فهما جميعا مجعولان له تعالى، و من منكر أن يكون تغيير الأسلوب في الآية لأمر مطلوب.

و الحق أن دلالة الآية على كون قصد السبيل مضافا إليه تعالى دون السبيل الجائر مما لا ريب فيه لكن ذلك لا يستلزم كون السبيل الجائر مخلوقا لغيره تعالى لما تقدم أن سبيل الضلال ليس بسبيل حقيقة بل حقيقته عدم سلوك سبيل الهدى كما أن الضلال عدم الهدى فليس بأمر موجود حتى ينسب خلقه و إيجاده إليه تعالى و إنما ينسب الضلال إليه تعالى فيما ينسب بمعنى عدم هدايته للضال أي عدم إيجاده الهدى في نفسه.

و مع ذلك فالذي ينسب إليه من الضلال كما في قوله: ﴿يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ: فاطر: ٨ و قوله: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً: البقرة: ٢٦ هو الضلال بطريق المجازاة دون الضلال الابتدائي، كما يفسره قوله: ﴿وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ: البقرة: ٢٦ فإذا فسق الإنسان و خرج بسوء اختياره عن زي العبودية بأن عصى و لم يرجع و هو ضلاله الابتدائي من قبل نفسه جازاه الله بالضلال بأن أثبته على حاله و لم يقض عليه الهدى.

و أما الضلال الابتدائي من الإنسان فإنما هو انكفاف و قصور عن الطاعة و قد هداه الله من طريق الفطرة و دعوة النبوة.

قوله تعالى: ﴿هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَ مِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ شروع في نوع آخر من النعم و هي النعم النباتية التي يقتات بها الإنسان و غيره و ما سخر له لتدبير أمرها كالليل و النهار و الشمس و القمر و ما يحذو حذوها، و لذلك غير السياق فقال: ﴿هُوَ اَلَّذِي إلخ، و لم يقل: و أنزل من السماء.

و قوله: ﴿تُسِيمُونَ من الإسامة و هي رعي المواشي و منه السائمة للماشية الراعية و ﴿مِنَ الأولى تبعيضية و الثانية نشوئية و الشجر من النبات ما له ساق و ورق و ربما توسع فأطلق على ذي الساق و غيره جميعا، و منه الشجر المذكور في الآية لمكان قوله: ﴿فِيهِ تُسِيمُونَ و الباقي واضح.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ اَلزَّرْعَ وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلنَّخِيلَ وَ اَلْأَعْنَابَ وَ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرَاتِ إلخ، الزيتون‏ شجر معروف و يطلق على ثمره أيضا يقال: إنه اسم جنس جمعي واحده زيتونة، و كذا النخيل، و يطلق على الواحد و الجمع، و الأعناب‏ جمع عنبة و هي ثمرة شجرة الكرم و يطلق على نفس الشجرة كما في الآية، و السياق يفيد أن قوله: ﴿وَ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرَاتِ تقديره و من كل الثمرات أنبت أشجارها. و لعل التصريح بأسماء هذه الثمرات الثلاث بخصوصها و عطف الباقي عليها لكونها مما يقتات بها غالبا.

و لما كان في هذا التدبير العام الوسيع الذي يجمع شمل الإنسان و الحيوان في الارتزاق به حجة على وحدانيته تعالى في الربوبية ختم الآية بقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.

قوله تعالى: ﴿وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهَارَ وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ إلى آخر الآية قد تكرر الكلام في معنى تسخير الليل و النهار و الشمس و القمر و النجوم، و لكون كل من المذكورات و كذا مجموع الليل و النهار و مجموع الشمس و القمر و النجوم ذا خواص و آثار في نفسه من شأنه أن يستقل بإثبات وحدانيته في ربوبيته تعالى ختم الآية بقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فجمع الآيات في هذه الآية بخلاف الآيتين السابقة و اللاحقة.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ الذرء الخلق، و اختلاف ألوان ما ذرأه في الأرض غير ما مر كما يختلف ألوان المعادن و سائر المركبات العنصرية التي ينتفع بها الإنسان في معاشه و لا يبعد أن يكون اختلاف الألوان كناية عن الاختلاف النوعي بينها فتقرب الآية مضمونا من قوله تعالى: ﴿وَ فِي اَلْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَ غَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقى‏َ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلى‏َ بَعْضٍ فِي اَلْأُكُلِ: الرعد: ٤ و قد تقدم تقريب الاستدلال به.

و اختلاف الألوان فيما ذرأ في الأرض كإنبات الشجر و الثمر أمر واحد يستدل به على وحدانيته في الربوبية و لذا قال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً و لم يقل: لآيات.

و هذه حجج ثلاث نسب الأولى إلى الذين يتفكرون، و الثانية إلى الذين ـ

 

 

 

يعقلون، و الثالثة إلى الذين يتذكرون، و ذلك أن الحجة الأولى مؤلفة من مقدمات ساذجة يكفي في إنتاجها مطلق التفكر، و الثانية مؤلفة من مقدمات علمية لا يتيسر فهمها إلا لمن غار في أوضاع الأجرام العلوية و السفلية و عقل آثار حركاتها و انتقالاتها، و الثالثة مؤلفة من مقدمات كلية فلسفية إنما ينالها الإنسان بتذكر ما للوجود من الأحكام العامة الكلية كاحتياج هذه النشأة المتغيرة إلى المادة و كون المادة العامة واحدة متشابهة الأمر، و وجوب انتهاء هذه الاختلافات الحقيقية إلى أمر آخر وراء المادة الواحدة المتشابهة.

قوله تعالى: ﴿وَ هُوَ اَلَّذِي سَخَّرَ اَلْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا إلخ و هذا فصل آخر من النعم الإلهية و هو نعم البحر و الجبال و الأنهار و السبل و العلامات و كان ما تقدمه من الفصل مشتملا على نعم البر و السهل من الأشجار و الأثمار و نحوها، و لذلك قال: ﴿وَ هُوَ اَلَّذِي سَخَّرَ و لم يقل: و سخر إلخ.

و الطري‏ فعيل من الطراوة و هو الغض الجديد من الشي‏ء على ما ذكره في المفردات، و المخر شق الماء عن يمين و شمال، يقال: مخرت السفينة تمخر مخرا فهي ماخرة و مخر الأرض أيضا شقها للزراعة. على ما في المجمع و المراد بأكل اللحم الطري من البحر هو أكل لحوم الحيتان المصطادة منه، و باستخراج حلية تلبسونها ما يستخرج منه بالغوص من أمثال اللؤلؤ و المرجان التي تتحلى و تتزين بها النساء.

و قوله: ﴿وَ تَرَى اَلْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ أي تشاهد السفائن تشق ماءه عن اليمين و الشمال، و لعل قوله: ﴿وَ تَرَى من الخطابات العامة التي لا يقصد بها مخاطب خاص و كثيرا ما يستعمل كذلك و معناه يراه كل راء و يشاهده كل من له أن يشاهد فليس من قبيل الالتفات من خطاب الجمع السابق إلى خطاب الواحد.

و قوله: ﴿وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي و لتطلبوا بعض رزقه في ركوب البحر و إرسال السفائن فيه و الجملة معطوفة على محذوف و التقدير و ترى الفلك مواخر فيه لتنالوا بذلك كذا و كذا و لتبتغوا من فضله، و هو كثير النظير في كلامه تعالى.

و قوله: ﴿وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي و من الغايات في تسخير البحر و إجراء الفلك

 

 

 

 فيه شكركم له المرجو منكم إذ هو من زيادته تعالى في النعمة فقد أغناكم بما أنعم عليكم في البر عن أن تتصرفوا في البحر بالغوص و إجراء السفن و غير ذلك لكنه تعالى زادكم بتسخير البحر لكم نعمة لعلكم تشكرونه على هذا الزائد فإن الإنسان قليلا ما يتنبه في الضروريات أنها نعمة موهوبة من لدنه سبحانه و لو شاء لقطعها و أما الزوائد النافعة فهي أقرب من هذا التنبه و الانتقال.

قوله تعالى: ﴿وَ أَلْقى‏َ فِي اَلْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ أَنْهَاراً وَ سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ قال في المجمع: الميد الميل يمينا و شمالا و هو الاضطراب ماد يميد ميدا. انتهى.

و قوله: ﴿أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي كراهة أن تميد بكم أو أن لا تميد بكم و المراد أنه طرح على الأرض جبالا ثوابت لئلا تضطرب و تميل يمينا و شمالا فيختل بذلك نظام معاشكم.

و قوله: ﴿وَ أَنْهَاراً أي و جعل فيها أنهارا تجري بمائها و تسوقه إلى مزارعكم و بساتينكم و تسقيكم و ما عندكم من الحيوان الأهلي.

و قوله: ﴿وَ سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ معطوف على قوله: ﴿وَ أَنْهَاراً أي و جعل سبلا لغاية الاهتداء المرجو منكم، و السبل منها ما هي طبيعية و هي المسافات الواقعة بين بقعتين من الأرض الواصلة إحداهما بالأخرى من غير أن يقطع ما بينهما بحاجب أو مانع كالسهل بين الجبلين، و منها ما هي صناعية و هي التي تتكون بعبور المارة و آثار الأقدام أو يعملها الإنسان.

و الظاهر من السياق عموم السبل لكلا القسمين، و لا ضير في نسبة ما جعله الإنسان إلى جعله تعالى كما نسب الأنهار و العلامات إلى جعله تعالى و أكثرها من صنع الإنسان و كما نسب ما عمله الإنسان من الأصنام و غيرها إلى خلقه تعالى في قوله: ﴿وَ اَللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ مَا تَعْمَلُونَ: الصافات: ٩٦.

و ذلك أنها كائنة ما كانت من آثار مجعولاته تعالى و جعل الشي‏ء ذي الأثر جعل لأثره بوجه و إن لم يكن جعلا مستقيما من غير واسطة.

قوله تعالى: ﴿وَ عَلاَمَاتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ العلامات‏ جمع علامة و هي ما يعلم به الشي‏ء، و هو معطوف على قوله: ﴿أَنْهَاراً أي و جعل علامات تستدلون بها على

 

 

 

 الأشياء الغائبة عن الحس و هي كل آية و أمارة طبيعية أو وضعية تدل على مدلولها و منها الشواخص و النصب و اللغات و الإشارات و الخطوط و غيرها.

ثم ذكر سبحانه الاهتداء بالنجوم فقال: ﴿وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ و لعل الالتفات فيه من الخطاب إلى الغيبة للتحرز عن تكرار ﴿تَهْتَدُونَ بصيغة الخطاب في آخر الآيتين.

و الآية السابقة: ﴿وَ عَلَى اَللَّهِ قَصْدُ اَلسَّبِيلِ وَ مِنْهَا جَائِرٌ وَ لَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ المتضمنة لمسألة الهداية المعنوية التي هي كالمعترضة بين الآيات العادة للنعم الصورية و إن كان الأنسب ظاهرا أن يوضع بعد هذه الآية أعني قوله: ﴿وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ المتعرضة هي و ما قبلها للهداية الصورية غير أن ذلك لم يكن خاليا من اللبس و إيهام التناقض بخلاف موقعها الذي هي واقعة فيه و إن كانت كالمعترضة كما هو ظاهر.

قوله تعالى: ﴿أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ إلى قوله ﴿- إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ الآيات تقرير إجمالي للحجة المذكورة تفصيلا في ضمن الآيات الست عشرة الماضية و استنتاج للتوحيد و هي حجة واحدة أقيمت لتوحيد الربوبية، و ملخصها أن الله سبحانه خالق كل شي‏ء فهو الذي أنعم بهذه النعم التي لا يحيط بها الإحصاء التي ينتظم بها نظام الكون، و هو تعالى عالم بسرها و علنها فهو الذي يملك الكل و يدبر الأمر فهو ربها، و ليس شي‏ء مما يدعونه على شي‏ء من هذه الصفات فليست أربابا فالإله واحد لا غير و هو الله عز اسمه.

و من هنا يظهر فساد ما ذكره بعضهم أن الآيات تثبت التوحيد من طريقين طريق الخلقة و طريق النعمة، بيان الفساد أن طريق الخلقة وحدها إنما تثبت الصانع و وحدانيته في الخلق و الإيجاد، و الوثنيون و إليهم وجه الكلام في الآيات لا ينكرون وجود الصانع و لا أن الله سبحانه خالق الكل حتى أوثانهم و أن أوثانهم ليسوا بخالقين لشي‏ء و إنما يدعون لأوثانهم تدبير أمر العالم بتفويض من الله لذلك إليهم و الشفاعة عند الله فلا يفيد إثبات الصانع تجاه هؤلاء شيئا.

و إنما سيقت آيات الخلقة لتثبيت أمر النعمة إذ من البين أنه إذا كان الله سبحانه خالقا لكل شي‏ء موجودا له كانت آثار وجودات الأشياء و هي النعم التي يتنعم بها

 

 

 

 له سبحانه كما أن وجوداتها له ملكا طلقا لا يقبل بطلانا و لا نقلا و لا تبديلا فهو سبحانه المنعم بها حقيقة لا غيره من شي‏ء حتى الذي نفس النعمة من آثار وجوده فإنه و ما له من أثر هو لله وحده.

و لذلك ضم إلى حديث الخلق و الإنعام قوله تعالى: ﴿وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَ مَا تُعْلِنُونَ لأن مجرد استناد الخلق و الإنعام إلى شي‏ء لا يستلزم ربوبيته و لا يستوجب عبادته لو لا انضمام العلم إليهما ليتم بذلك أنه مدبر يهدي كل شي‏ء إلى كماله المطلوب له و سعادته المكتوبة في صحيفة عمله، و من المعلوم أن العبادة إنما تستقيم عبادة إذا كان المعبود موسوما بسمة العلم عالما بعبادة من يعبده شاهدا لخضوعه.

فمجموع ما تتضمنه الآيات من حديث الخلق و النعمة و العلم مقدمات لحجة واحدة أقيمت على توحيد الربوبية الذي ينكره الوثنية كما عرفت.

فقوله: ﴿أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ أَ فَلاَ تَذَكَّرُونَ قياس ما له سبحانه من النعت إلى ما لغيره منه و نفي للمساواة، و الاستفهام للإنكار، و المراد بمن لا يخلق آلهتهم الذين يدعونهم من دون الله.

و بيانه - كما ظهر مما تقدم أن الله سبحانه يخلق الأشياء و يستمر في خلقها فلا يستوي هو و من لا يخلق شيئا فإنه تعالى لخلقه الأشياء يملك وجوداتها و آثار وجوداتها التي هي الأنظمة الخاصة بها و النظام العام الجاري عليها.

و قوله: ﴿وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إلخ، إشارة إلى كثرة النعم الإلهية كثرة خارجة عن حيطة الإحصاء، و بالحقيقة ما من شي‏ء إلا و هو نعمة إذا قيس إلى النظام الكلي و إن كان ربما وجد بينها ما ليس بنعمة إذا قيس إلى بعض آخر.

و قد علل سبحانه ذلك بقوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ و هو من ألطف التعليل و أدقه فأفاد سبحانه أن خروج النعمة عن حد الإحصاء إنما هو من بركات اتصافه تعالى بصفتي المغفرة و الرحمة فإنه بمغفرته و المغفرة هي الستريستر ما في الأشياء من وبال النقص و شوهة القصور، و برحمته و الرحمة إتمام النقص و رفع الحاجة يظهر فيها الخير و الكمال و يحليها بالجمال فببسط المغفرة و الرحمة على الأشياء يكون كل شي‏ء نافعا في غيره خيرا مطلوبا عنده فيصير نعمة بالنسبة إليه فالأشياء بعضها نعمة

 

 

 

 لبعض فللنعمة الإلهية من السعة و العرض ما لمغفرته و رحمته من ذلك: فإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، فافهم ذلك.

و الآية من الموارد التي استعملت فيها المغفرة في غير الذنب و المعصية للأمر المولوي هو المعروف عند المتشرعة.

و قوله: ﴿وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَ مَا تُعْلِنُونَ إشارة إلى الركن الثالث من أركان الربوبية و هو العلم فإن الإله لو كان غير متصف بالعلم استوت العبادة و اللاعبادة بالنسبة إليه فكانت عبادته لغوا لا أثر لها.

فمن الواجب في الرب المعبود أن يكون له علم و لا كل علم، كيفما كان بل العلم بظاهر من يعبده و باطنه فإن العبادة متقومة بالنية فهي إنما تقع عبادة حقيقة إذا أتي بها عن نية صالحة و هو مما يرجع إلى الضمير فلا يتم العلم بكون صورة العبادة واجدة لحقيقة معناها إلا بعد إحاطة المعبود بظاهر من يعبده و باطنه لكن الله سبحانه عليم بما يسره الإنسان و ما يعلنه كما أنه خالق منعم و يستحق بذلك أن يعبد.

و من هنا يظهر وجه اختيار ما في الآية من التعبير لبيان علمه فلم يعبر بمثل قوله:

﴿عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ و قوله: ﴿وَ اَللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ بل قال: ﴿وَ اَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَ مَا تُعْلِنُونَ فذكر العلم بالإسرار و الإعلان، و أضافه إلى الإنسان لأن الكلام في عبادة الإنسان لربه، و الواجب في العلم بالعبادة المرتبطة بعمل الجوارح و القلب جميعا أن يكون عالما بما يسره الإنسان و ما يعلنه من النية القلبية و الأحوال و الحركات البدنية.

و قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ إشارة إلى فقدان الركن الأول من أركان الربوبية في آلهتهم الذين يدعون من دون الله و يتفرع عليه الركن الثاني و هو إيتاء النعمة، فليس الذين يدعونهم آلهة و أربابا و الله الرب.

و قوله: ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَ مَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إشارة إلى فقدان الركن الثالث من أركان الربوبية في أصنامهم و هو العلم بما يسرون و ما يعلنون و قد بالغ في نفي ذلك فنفى أصل الحياة المستلزم لنفي مطلق العلم فضلا عن نوعه الكامل الذي هو العلم بما يسرون و ما يعلنون فقال: ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ فأثبت الموت أولا

 

 

 

 و هو لا يجامع الشعور ثم أكده بنفي الحياة ثانيا.

و خص من وجوه جهلهم عدم شعورهم متى يبعث عبادهم من الناس فقال:

﴿وَ مَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أي ما يدري الأصنام أيان يبعث عبادهم فإن العبادة هي التي يجزى بها الإنسان يوم البعث فمن الواجب في الإله المعبود أن يعلم متى يوم البعث حتى يجزي عباده فيه عن عبادتهم، و هؤلاء لا يدرون شيئا من ذلك.

و من هنا يظهر أن أول ضميري الجمع ﴿يَشْعُرُونَ للأصنام و الثاني ﴿يُبْعَثُونَ للمشركين، و أما إرجاعهما كليهما إلى الأصنام فغير مرضي لأن العلم بالبعث مختص به سبحانه محجوب عن غيره و لا يختص الجهل به بالأصنام، و أردأ منه قول بعضهم:

إن ضميري الجمع معا في الآية عائدان إلى المشركين. هذا.

و الآيات و إن كانت مسوقة بظاهرها لنفي ربوبية الأصنام لكن البيان بعينه بأدنى دقة جار في أرباب الأصنام كالملائكة المقربين و الجن و الكملين من البشر و الكواكب من كل ما يعبده الوثنيون فإن صفات الخلق و الإنعام و العلم لا تقوم بالأصالة و الاستقلال إلا بالله سبحانه، و لا ربوبية حقيقة إلا بالأصالة و الاستقلال، فافهم.

و في الآيتين أعني قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ إلى قوله ﴿ يُبْعَثُونَ التفات من الخطاب إلى الغيبة، و لعل النكتة فيه ذكر يوم البعث فيهما و المشركون لا يقولون به فحول الخطاب منهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) للتوسل بذلك إليه من غير اعتراض.

و قوله: ﴿إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ بيان لنتيجة الحجة التي أقيمت في الآيات السابقة أي إذا كان الله سبحانه هو الواجد لما تتوقف عليه الألوهية و هي المعبودية بالحق، و غيره تعالى ممن يدعون من دونه غير واجد لشي‏ء مما تتوقف عليه و هو الخلق و الإنعام و العلم فإلهكم الذي يحق له أن يعبد واحد و لازم معناه أنه الله عز اسمه.

(بحث روائي)

في المجمع، أربعون آية من أولها مكية و الباقي من قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اَللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ إلى آخر السورة مدنية، عن الحسن و قتادة، و قيل: مكية كلها غير ثلاث آيات نزلت في انصراف النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من أحد: ﴿وَ إِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا

 

 

 

إلى آخر السورة نزلت فيما بين مكة و المدينة عن ابن عباس و عطاء و الشعبي، و في إحدى الروايات عن ابن عباس: بعضها مكي و بعضها مدني فالمكي من أولها إلى قوله:

﴿وَ لَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، و المدني قوله: ﴿وَ لاَ تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اَللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إلى قوله -:

﴿بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.

أقول: و قد قدمنا أن الذي يعطيه السياق خلاف ذلك كله فراجع.

و في تفسير العياشي، عن هشام بن سالم عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله: ﴿أَتىَ أَمْرُ اَللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ قال: إذا أخبر الله النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بشي‏ء إلى وقت فهو قوله: ﴿أَتىَ أَمْرُ اَللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ حتى يأتي ذلك الوقت و قال:

إن الله إذا أخبر أن شيئا كائن فكأنه قد كان.

 أقول: كأنه إشارة إلى أن التعبير في الآية بلفظ الماضي لتحقق الوقوع.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال :لما نزلت: ﴿أَتىَ أَمْرُ اَللَّهِ ذعر أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حتى نزل ﴿فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ فسكنوا. و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن ابن جريج قال" :لما نزلت هذه الآية: ﴿أَتىَ أَمْرُ اَللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ قال رجال من المنافقين بعضهم لبعض: إن هذا يزعم أن أمر الله قد أتى فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى تنظروا ما هو كائن فلما رأوا أنه لا ينزل شي‏ء قالوا: ما نراه نزل .

فنزلت: ﴿اِقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ الآية فقالوا: إن هذا يزعم مثلها أيضا فلما رأوا أنه لا ينزل شي‏ء قالوا: ما نراه نزل شي‏ء فنزل: ﴿وَ لَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ اَلْعَذَابَ إِلىَ أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ الآية. أقول: و الرواية تدل على أن المسلمين كان بينهم قبل الهجرة منافقون كما يشهد به بعض آخر من الروايات.

 و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه و الحاكم و صححه عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): تطلع عليكم قبل الساعة سحابة سوداء من قبل المغرب مثل الترس فلا تزال ترتفع في السماء حتى تملأ السماء ثم ينادي مناد: يا أيها الناس! فيقبل الناس بعضهم على بعض: هل سمعتم؟ فمنهم من يقول: نعم و منهم من

 

 

 

 يشك ثم ينادي الثانية: يا أيها الناس فيقول الناس: هل سمعتم؟ فيقولون: نعم ثم ينادي: أيها الناس أتى أمر الله فلا تستعجلوه. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : فوالذي نفسي بيده إن الرجلين لينشران الثوب فما يطويانه و إن الرجل ليملأ حوضه فما يسقي فيه شيئا، و إن الرجل ليحلب ناقته فما يشربه و يشغل الناس. أقول: و قد رام بعضهم أن يستفيد من هذه الروايات الثلاث و في معناها بعض روايات أخر أن المراد بالأمر هو يوم القيامة و لا دلالة فيها على ذلك.

أما الرواية الأولى فلا يدل ذعرهم أنهم فهموا منها ذلك فإن أمر الله أيا ما كان مما يهيب عباده على أنه لا حجة في فهمهم و ليس الشبهة مفهومية حتى يرجع إليهم بما هم أهل اللسان.

على أن الرواية لا تخلو عن شي‏ء فإن الله سبحانه يعد الاستعجال بالقيامة من صفات الكفار و يذمهم عليه و يبرئ المؤمنين منه قال: ﴿وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا: الشورى: ١٨ و قد مرت الإشارة إليه في البيان المتقدم هذا إذا كان الخطاب في قوله:

﴿فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ للمؤمنين، و أما إذا كان المخاطب به المشركين و هم كانوا يستعجلونه، فمعنى النهي عن استعجالهم هو حلول الأجل و قرب الوقوع لا الإمهال و الإنظار، و لا معنى حينئذ لسكونهم لما سمعوا قوله: ﴿فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ.

و أما الرواية الثانية فظاهرها أنهم فهموا منها العذاب الدنيوي دون الساعة فهي تؤيد ما قدمناه في البيان لا ما ذكروه.

و أما الرواية الثالثة فأقصى ما تدل عليه أن قيام الساعة من مصاديق إتيان أمر الله و لا ريب في ذلك و هو غير كون المراد بالأمر في الآية هو الساعة.

 و في كتاب الغيبة، للنعماني بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله (عليه السلام) : في قوله عز و جل: ﴿أَتىَ أَمْرُ اَللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ قال: هو أمرنا أمر الله عز و جل فلا يستعجل به يؤيده بثلاثة أجناد: الملائكة و المؤمنون و الركب، و خروجه كخروج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و ذلك قوله: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ.

أقول: و رواه المفيد في كتاب الغيبة، عن عبد الرحمن عنه (عليه السلام)، و مراده

 

 

 

 ظهور المهدي (عليه السلام) كما صرح به في روايات أخر و هو من جري القرآن أو بطنه.

 و في الكافي، بإسناده عن سعد الإسكاف قال: أتى رجل أمير المؤمنين (عليه السلام) يسأله عن الروح أ ليس هو جبرئيل؟ فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): جبرئيل من الملائكة و الروح غير جبرئيل، فكبر ذلك على الرجل فقال له: لقد قلت عظيما من القول ما أحد يزعم أن الروح غير جبرئيل. فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): إنك ضال تروي عن أهل الضلال، يقول الله لنبيه: ﴿أَتى‏َ أَمْرُ اَللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالى‏َ عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ و الروح غير الملائكة.

 أقول: و هو يؤيد ما قدمناه، و في روايات أخر: أنه خلق أعظم من جبرئيل.

 و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ قال (عليه السلام): خلقه من قطرة من ماء مهين فيكون خصيما متكلما بليغا

و فيه،: في قوله تعالى: ﴿حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ قال (عليه السلام): حين ترجع من المرعى و حين تخرج إلى المرعى. و في تفسير العياشي، عن زرارة عن أحدهما (عليه السلام) قال: سألته عن أبوال الخيل و البغال و الحمير قال: نكرهها، قلت: أ ليس لحمها حلالا؟ قال: فقال: أ ليس قد بين الله لكم: ﴿وَ اَلْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْ‏ءٌ وَ مَنَافِعُ وَ مِنْهَا تَأْكُلُونَ و قال في الخيل و البغال و الحمير: ﴿لِتَرْكَبُوهَا وَ زِينَةً فجعل الأكل من الأنعام التي قص الله في الكتاب، و جعل للركوب الخيل و البغال و الحمير و ليس لحومها بحرام و لكن الناس عافوها.

 أقول: و الروايات في الخيل و البغال و الحمير مختلفة و مذهب أهل البيت (عليه السلام) حلية أكل لحومها على كراهية.

 و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿وَ يَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قال: قال (عليه السلام):

العجائب التي خلقها الله في البر و البحر. و في الدر المنثور، :في قوله تعالى: ﴿وَ عَلَى اَللَّهِ قَصْدُ اَلسَّبِيلِ وَ مِنْهَا جَائِرٌ أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن الأنباري في المصاحف عن علي أنه كان يقرأ هذه الآية:

«فمنكم جائر».

و في تفسير العياشي، عن إسماعيل بن أبي زياد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه

 

 

 

 عن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ﴿وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ قال: هو الجدي لأنه نجم لا يدور عليه بناء القبلة، و به يهتدي أهل البر و البحر.

أقول: و هو مروي عن الصادق (عليه السلام) أيضا.

 و في الكافي، بإسناده عن داود الجصاص قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ﴿وَ عَلاَمَاتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ قال: النجم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و العلامات الأئمة (عليه السلام):

أقول: و رواه أيضا بطريقين آخرين عنه و عن الرضا (عليه السلام) و رواه العياشي و القمي في تفسيريهما، و الشيخ في أماليه، عن الصادق (عليه السلام). و ليس بتفسير و إنما هو من البطن و من الدليل عليه‏ ما رواه الطبرسي في المجمع، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): نحن العلامات و النجم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و لقد قال: إن الله جعل النجوم أمانا لأهل السماء و جعل أهل بيتي أمانا لأهل الأرض.

[سورة النحل (١٦): الآیات ٢٢ الی ٤٠]

﴿إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ٢٢لاَ جَرَمَ أَنَّ اَللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَ مَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْمُسْتَكْبِرِينَ ٢٣وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ مَا ذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ ٢٤لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَ مِنْ أَوْزَارِ اَلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ ٢٥قَدْ مَكَرَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اَللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ اَلْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ اَلسَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ أَتَاهُمُ اَلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ٢٦

 

 

 

﴿ثُمَّ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَ يَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ إِنَّ اَلْخِزْيَ اَلْيَوْمَ وَ اَلسُّوءَ عَلَى اَلْكَافِرِينَ ٢٧اَلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا اَلسَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى‏ إِنَّ اَللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ٢٨فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى اَلْمُتَكَبِّرِينَ ٢٩وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا مَا ذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَ لَدَارُ اَلْآخِرَةِ خَيْرٌ وَ لَنِعْمَ دَارُ اَلْمُتَّقِينَ ٣٠جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُنَ كَذَلِكَ يَجْزِي اَللَّهُ اَلْمُتَّقِينَ ٣١اَلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ٣٢هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ مَا ظَلَمَهُمُ اَللَّهُ وَ لَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ٣٣فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَ حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ٣٤وَ قَالَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اَللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ نَحْنُ وَ لاَ آبَاؤُنَا وَ لاَ حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى اَلرُّسُلِ إِلاَّ اَلْبَلاَغُ اَلْمُبِينُ ٣٥وَ لَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ اِجْتَنِبُوا اَلطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اَللَّهُ وَ مِنْهُمْ

 

 

 

﴿مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ اَلضَّلاَلَةُ فَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ ٣٦إِنْ تَحْرِصْ عَلىَ هُدَاهُمْ فَإِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَ مَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ٣٧وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اَللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى‏ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ٣٨لِيُبَيِّنَ لَهُمُ اَلَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَ لِيَعْلَمَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ٣٩إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْ‏ءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ٤٠

(بيان)

هذهذا هو الشطر الثاني من آيات صدر السورة، و قد كان الشطر الأول يتضمن توحيد الربوبية و إقامة الحجة على المشركين في ذلك بعد ما أنذرهم بإتيان الأمر و نزه الله سبحانه عن شركهم.

و هذا الشطر الثاني يتضمن ما يناسب المقام ذكره من مساوي صفات المشركين المتفرعة على إنكارهم التوحيد و أباطيل أقوالهم كاستكبارهم على الله و استهزائهم بآياته و إنكارهم الحشر، و بيان بطلانها و إظهار فسادها، و تهديدهم بإتيان الأمر و حلول العذاب الدنيوي، و الإيعاد بعذاب يوم الموت و يوم القيامة و حقائق أخر ستنكشف بالبحث.

قوله تعالى: ﴿إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ قد تقدم الكلام في قوله: ﴿إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ و أنه نتيجة الحجة التي أقيمت في الآيات السابقة.

و قوله: ﴿فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ إلخ تفريع عليه، و افتتاح لفصل

 

 

 

جديد من الكلام حول أعمال الكفار من أقوالهم و أعمالهم الناشئة عن عدم إيمانهم بالله سبحانه و إنما ذكر عدم إيمانهم بالآخرة و لم يذكر عدم إيمانهم بالله وحده لأن الذي أقيمت عليه الحجة هو التوحيد الكامل و هو وجوب الاعتقاد بإله عليم قدير خلق كل شي‏ء و أتم النعمة لا لغوا باطلا بل بالحق ليرجعوا إليه فيحاسبهم على ما عملوا و يجازيهم بما اكتسبوا مما عهده إليهم من الأمر و النهي بواسطة الرسل.

فالتوحيد المندوب إليه في الآيات الماضية هو القول بوحدانيته تعالى و الإيمان بما أتى به رسل الله و الإيمان بيوم الحساب و الجزاء، و لذلك وصف الكفار بعدم الإيمان بالآخرة لأن الإيمان بها يستلزم الإيمان بالوحدانية و الرسالة.

و لك أن تراجع في استيضاح ما ذكرناه قوله في أول الآيات: ﴿يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلىَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالى‏َ عَمَّا يُشْرِكُونَ فإنه كلام جامع للأصول الثلاثة.

و قوله: ﴿قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ أي للحق و قوله: ﴿وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ أي عن الحق، و الاستكبار - على ما ذكروه - طلب الترفع بترك الإذعان للحق.

و المعنى: إلهكم واحد على ما تدل عليه الآيات الواضحة في دلالتها، و إذا كان الأمر على هذا الوضوح و الجلاء لا يستتر بستر و لا يرتاب فيه فهم فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة للحق جاحدة له عنادا و هم مستكبرون عن الانقياد للحق من غير حجة و لا برهان.

قوله تعالى: ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّ اَللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَ مَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْمُسْتَكْبِرِينَ ﴿لاَ جَرَمَ كلمة مركبة باقية على حالة واحدة يفيد معنى التحقيق على ما ذكره الخليل و سيبويه و إليه يرجع ما ذكره غيرهما و إن اختلفوا في أصل تركبه قال الخليل: و هو كلمة تحقيق و لا يكون إلا جوابا يقال فعلوا كذا فيقول السامع:

لا جرم يندمون.

و المعنى من المحقق - أو حق - ﴿أَنَّ اَللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَ مَا يُعْلِنُونَ، و هو كناية و تهديد بالجزاء السيئ أي إنه يعلم ما يخفونه من أعمالهم و ما يظهرونه فسيجزيهم بما عملوا و يؤاخذهم على ما أنكروا و استكبروا إنه لا يحب المستكبرين.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ مَا ذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ قال الراغب في المفردات: السطر و السطر بفتح فسكون أو بفتحتين السطر من الكتابة و من الشجر المغروس و من القوم الوقوف إلى أن قال و جمع السطر أسطر و سطور و أسطار.

قال: و أما قوله: ﴿أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ فقد قال المبرد: هي جمع أسطورة نحو أرجوحة و أراجيح و أثفية و أثافي و أحدوثة و أحاديث، و قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ مَا ذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ أي شي‏ء كتبوه كذبا و مينا فيما زعموا نحو قوله تعالى: ﴿أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ اِكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلى‏َ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً انتهى و قال غيره:

أساطير جمع أسطار و أسطار جمع سطر فهو جمع الجمع.

و قوله: ﴿وَ إِذَا قِيلَ لَهُمْ مَا ذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ يمكن أن يكون القائل بعض المؤمنين و إنما قاله اختبارا لحالهم و استفهاما لما يرونه في الدعوة النبوية، و يمكن أن يكون من المشركين و إنما قاله لهم ليقلدهم فيما يرونه، و عبر عن القرآن بمثل قوله: ﴿مَا ذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ لنوع من التهكم و الاستهزاء، و يمكن أن يكون شاكا متحيرا باحثا، و الآية التالية و كذا قوله فيما سيأتي: ﴿وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا مَا ذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ يؤيد أحد الوجهين الأخيرين.

و قوله: ﴿قَالُوا أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ أي الذي يسأل عنه أكاذيب خرافية كتبها الأولون و أثبتوها و تركوها لمن خلفهم، و لازم هذا القول دعوى أنه ليس نازلا من عند الله سبحانه.

قوله تعالى: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إلى آخر الآية. قال في المفردات: الوزر بفتحتين الملجأ الذي يلتجأ إليه من الجبل، قال تعالى: ﴿كَلاَّ لاَ وَزَرَ إِلى‏َ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ اَلْمُسْتَقَرُّ و الوزر بالكسر فالسكون الثقل تشبيها بوزر الجبل، و يعبر بذلك عن الإثم كما يعبر عنه بالثقل، قال تعالى: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً الآية كقوله: ﴿وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَ أَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ.

قال: و حمل وزر الغير بالحقيقة هو على نحو

 ما أشار إليه (ص) بقوله: «من سن سنة حسنة كان له أجرها و أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجره شي‏ء، و من

 

 

 

 سن سنة سيئة كان له وزرها و وزر من عمل بها أي مثل وزر من عمل بها، و قوله:

﴿وَ لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏َ أي لا تحمل وزره من حيث يتعرى المحمول عنه، انتهى.

و الذي ذكره من الحديث النبوي مروي من طرق الخاصة و العامة جميعا و يصدقه من الكتاب العزيز مثل قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اِتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ مَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ كُلُّ اِمْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ: الطور: ٢١ و قوله:

﴿وَ نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَ آثَارَهُمْ: يس: ١٢ و الآيات في هذا المعنى كثيرة.

 و أما قوله في تفسير قوله (ص): «كان له وزرها و وزر من عمل بها»: أي مثل وزر من عمل بها فكلام ظاهري لا بأس بأن يوجه به الآية و الرواية لرفع التناقض بينهما و بين مثل قوله تعالى: ﴿لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏َ: الأنعام: ١٦٤ و قوله:

﴿لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ: هود: ١١١ إذ لو حمل الآمر وزر السيئة و عذب بعذابها دون الفاعل ناقض ذلك الآية الأولى، و لو قسم بينهما و حمل كل منهما بعض الوزر و عذب ببعض العذاب ناقض الآية الثانية، و أما لو حمل السان و الآمر مثل ما للعامل الفاعل لم يناقض شيئا.

و أما بحسب الحقيقة فكما أن العمل عمل واحد حسنة أو سيئة كذلك وزره و عذابه مثلا واحد لا تعدد فيه، غير أن نفس العمل لما كان قائما بأكثر من واحد قيامه بالآمر و الفاعل قياما طوليا لا عرضيا يوجب المحذور كانت تبعته من الوزر و العذاب قائمة بأكثر من واحد، فهناك وزر واحد يزرها اثنان، و عذاب واحد يعذب به الآمر و الفاعل جميعا.

و يسهل تصور ذلك بالتأمل في مضمون الآيات المبنية على تجسم الأعمال فإن العمل كالسيئة مثلا على تقدير التجسم واحد شخصي يتمثل لاثنين و يعذب بتمثله إنسانين الآمر و الفاعل أو السان و المستن فهو بوجه بعيد كالشخص الواحد يتصوره اثنان فيلتذان أو يتألمان معا به و ليس إلا واحدا.

و قد تقدم بعض الكلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: ﴿لِيَمِيزَ اَللَّهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ الآية في الجزء التاسع من الكتاب، و سيأتي إن شاء الله تفصيل القول فيه فيما يناسبه من المورد.

 

 

 

[1]  طلاطلة ط.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=2088
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 05 / 15
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 03