و قال: ﴿وَ مَا كَانَ اِسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾: التوبة: ١١٤ و قد تقدم تفصيل القول في قصصه (عليه السلام) في سورة الأنعام في الجزء السابع من الكتاب.
و من لطيف ما في دعائه (عليه السلام) اختلاف النداء المكرر الذي فيه بلفظ «رب» و «ربنا» و العناية فيما أضيف إلى نفسه بما يختص بنفسه من السبقة و الإمامة، و فيما أضيف إلى نفسه و غيره إلى المشتركات.
(بحث روائي)
في الدر المنثور، أخرج أبو نعيم في الدلائل عن عقيل بن أبي طالب: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لما أتاه الستة النفر من الأنصار جلس إليهم عند جمرة العقبة فدعاهم إلى الله و إلى عبادته و المؤازرة على دينه فسألوه أن يعرض عليهم ما أوحي إليه فقرأ من سورة إبراهيم:
﴿وَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنَامَ﴾ إلى آخر السورة فرق القوم و أخبتوا حين سمعوا منه ما سمعوا و أجابوه.
و في تفسير العياشي، عن أبي عبيدة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أحبنا فهو منا أهل البيت فقلت: جعلت فداك منكم؟ قال: منا و الله أ ما سمعت قول الله و هو قول إبراهيم (عليه السلام): ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾.
و فيه، عن محمد الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من اتقى الله منكم و أصلح فهو منا أهل البيت قال: منكم أهل البيت؟ قال: منا أهل البيت قال فيها إبراهيم:
﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾ قال عمر بن يزيد: قلت له: من آل محمد؟ قال إي و الله من آل محمد إي و الله من أنفسهم أ ما تسمع قول الله تعالى: ﴿إِنَّ أَوْلَى اَلنَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ﴾ و قول إبراهيم: ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾.؟ أقول: و قد ورد في بعض الروايات أن بني إسماعيل لم يعبدوا صنما قط إثر دعاء إبراهيم: ﴿وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنَامَ﴾، و أنهم إنما قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله و الظاهر أن الرواية موضوعة، و قد تقدمت الإشارة إليه في البيان السابق.
و كذا ما ورد في بعض الروايات من طرق العامة و الخاصة أن أرض الطائف كانت في الأردن من أرض فلسطين فلما دعا إبراهيم (عليه السلام) لبنيه بقوله: ﴿وَ اُرْزُقْهُمْ مِنَ اَلثَّمَرَاتِ﴾ أمر الله بها فسارت بترابها إلى مكة فطافت على البيت سبعة أشواط ثم استقرت حيث الطائف الآن.
و هذا و إن كان ممكن الوقوع في نفسه من طريق الإعجاز لكن لا يكفي لثبوته أمثال هذه الروايات الضعيفة و المرسلة على أن هذه الآيات في مقام الامتنان و لو قارن هذا الدعاء و استجابته تعالى له مثل هذه الآية العظيمة العجيبة و المعجزة الباهرة لأشير إليها مزيدا للامتنان. و الله أعلم.
و في مرسلة العياشي، عن حريز عمن ذكره عن أحدهما (عليه السلام): أنه كان يقرأ «رب اغفر لي و لولدي» يعني: إسماعيل و إسحاق، و في مرسلته الأخرى عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام): مثله و ظاهر هذه الرواية أن القراءة مبنية على كفر والد إبراهيم و الروايتان ضعيفتان لا يعبأ بهما.
[سورة إبراهيم (١٤): الآیات ٤٢ الی ٥٢]
﴿وَ لاَ تَحْسَبَنَّ اَللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ اَلظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ اَلْأَبْصَارُ ٤٢مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ٤٣وَ أَنْذِرِ اَلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ اَلْعَذَابُ فَيَقُولُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَ نَتَّبِعِ اَلرُّسُلَ أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ٤٤وَ سَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَ ضَرَبْنَا لَكُمُ اَلْأَمْثَالَ ٤٥وَ قَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَ عِنْدَ اَللَّهِ﴾
﴿مَكْرُهُمْ وَ إِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ اَلْجِبَالُ ٤٦فَلاَ تَحْسَبَنَّ اَللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ ذُو اِنتِقَامٍ ٤٧يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَ اَلسَّمَاوَاتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ ٤٨وَ تَرَى اَلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي اَلْأَصْفَادِ ٤٩سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَ تَغْشى وُجُوهَهُمُ اَلنَّارُ ٥٠لِيَجْزِيَ اَللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اَللَّهَ سَرِيعُ اَلْحِسَابِ ٥١هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَ لِيَذَّكَّرَ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ ٥٢﴾
(بيان)
لما أنذر و بشر سبحانه في الآيات السابقة و دعا إلى صراطه بما أنه العزيز الحميد ختم بيانه بدفع ما ربما يسبق إلى أوهام ضعفاء العقول من الناس من أن الأمر لو كان على ما ذكر و كانت هذه الدعوة دعوة نبوية من لدن رب عزيز حميد فما بال هؤلاء الظالمين يتمتعون بما شاءوا؟ و ما باله لا يأخذ الظالمين بظلمهم و لا يلجم المتخلفين عن دعوته المخالفين عن أمره؟ أ هو في غفلة عما يعملونه أم هو مخلف وعده رسله يعدهم بالنصر ثم لا يفي بوعده؟.
فأجاب تعالى أنه ليس بغافل عما يعمل الظالمون و لا مخلف وعده رسله كيف؟ و هو تعالى عليم بما يمكرون و عزيز ذو انتقام بل إنما يؤخرهم ليوم شديد و هو يوم الجزاء. على أنه تعالى ربما أخذهم بذنوبهم في الدنيا كما أخذ الأمم الماضين.
ثم ختم السورة بقوله: ﴿هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَ لِيَذَّكَّرَ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ﴾ و هي آية جامعة لغرض السورة كما سيجيء بيانه إن شاء الله.
قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَحْسَبَنَّ اَللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ اَلظَّالِمُونَ﴾ إلى آخر الآيتين يقال:
شخص بصره أي سكن بحيث لا يطرف جفنة، و يقال: بعير مهطع إذا صوب عنقه أي رفعه و هطع و أهطع بمعنى، و يقال: أقنع رأسه إذا رفعه، و قوله: لا يرتد إليهم طرفهم أي لا يقدرون على أن يطرفوا من هول ما يشاهدونه، و قوله: و أفئدتهم هواء أي قلوبهم خالية عن التعقل و التدبير لشدة الموقف أو أنها زائلة.
و المعنى: و لا تحسبن الله و لا تظننه غافلا عما يعمل هؤلاء الظالمون بما تشاهد من تمتعهم و إترافهم في العيش و إفسادهم في الأرض إنما يمهلهم الله و يؤخر عقابهم إلى يوم يسكن فيه أبصارهم فلا تطرف و الحال أنهم مادون لأعناقهم رافعون لرءوسهم لا يقدرون على رد طرفهم و قلوبهم مدهوشة خالية عن كل تحيل و تدبير من شدة هول يوم القيامة و في الآية إنذار للظالمين و تعزية لغيرهم.
قوله تعالى: ﴿وَ أَنْذِرِ اَلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ اَلْعَذَابُ﴾ إلى آخر الآية. في الآية إنذار بعد إنذار و بين الإنذارين فرق من جهتين:
إحداهما: أن الإنذار في الآيتين السابقتين إنذار بما أعد الله من أهوال يوم القيامة و أليم العذاب فيه، و أما الذي في هذه الآية و ما يتلوها فهو إنذار بعذاب الاستئصال في الدنيا و من الدليل عليه قوله: ﴿فَيَقُولُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلىَ أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ إلخ.
و بذلك يظهر أن لا وجه لما ذكره بعضهم أن المراد بهذا اليوم الذي يأتيهم فيه العذاب هو يوم القيامة، و كذا ما ذكره آخرون أن المراد به يوم الموت.
و الثانية: أن الإنذار الأول إنذار بعذاب قطعي لا صارف له عن أمة ظالمة و لا فرد ظالم من أمة و أما الإنذار الثاني فهو إنذار بعذاب غير مصروف عن أمة ظالمة و أما الفرد فربما صرف عنه، و لذلك ترى أنه تعالى يقول أولا: ﴿وَ أَنْذِرِ اَلنَّاسَ﴾ ثم يقول:
﴿فَيَقُولُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ إلخ و لم يقل: فيقولون أي الناس لأن عذاب الاستئصال لا يصيب المؤمنين قال تعالى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ اَلْمُؤْمِنِينَ﴾: يونس:
١٠٣ و إنما يصيب الأمة الظالمة بحلول أجلهم و هم طائفة من ظالمي الأمة لا جميع أفرادها.
و بالجملة فقوله: ﴿وَ أَنْذِرِ اَلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ اَلْعَذَابُ﴾ إنذار للناس بعذاب الاستئصال الذي يقطع دابر الظالمين منهم، و قد تقدم في تفسير سورة يونس و غيره أن ذلك
مكتوب على الأمم قضاء بينهم و بين رسولهم حتى هذه الأمة المحمدية و قد تكرر هذا الوعيد منه تعالى في عدة مواضع من كلامه.
و هذا هو اليوم الذي يطهر الله الأرض فيه من قذارة الشرك و الظلم و لا يعبد عليها يومئذ إلا الله سبحانه فإن الدعوة عامة و الأمة هم أهل الأرض فإذا محا الله عنهم الشرك لم يبق منهم إلا المؤمنون و يكون الدين كله لله، قال تعالى: ﴿وَ لَقَدْ كَتَبْنَا فِي اَلزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ اَلذِّكْرِ أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ اَلصَّالِحُونَ﴾.
و مما تقدم يظهر الجواب عما أورد على كون المراد بالعذاب في الآية عذاب الاستئصال أن القصر في الآية السابقة ينافيه فإن قوله: ﴿إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ اَلْأَبْصَارُ﴾ يقصر أخذهم و عقابهم في يوم القيامة.
و ذلك لما عرفت أن العذاب المنذر به في الآيتين السابقتين هو العذاب الذي لا يصرفه عنهم صارف و لا يتخلف عنه أحد من الظالمين و هو مقصور في عذاب يوم القيامة، و لا ينافي انحصاره في يوم القيامة وجود نوع آخر من العذاب في الدنيا.
على أن القصر لو تم على ما يريده المعترض لدفع ما يدل عليه الآيات الكثيرة الدالة على نزول العذاب بهذه الأمة كما أشرنا إليه.
على أن حمل العذاب في الآية على عذاب يوم القيامة يوجب صرف الآيات عن ظهورها و رفع اليد عما يعطيه السياق فيها و لا مساغ له.
و قوله: ﴿فَيَقُولُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلىَ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَ نَتَّبِعِ اَلرُّسُلَ﴾ المراد به الظالمون من الناس و هم الذين يأخذهم العذاب المستأصل و لا يتخطاهم، و مرادهم بقولهم: ﴿أَخِّرْنَا إِلىَ أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ الاستمهال بمدة قصيرة تضاف إلى عمرهم في الدنيا حتى يتداركوا فيه ما فوتوه بظلمهم و الدليل عليه قولهم: ﴿نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَ نَتَّبِعِ اَلرُّسُلَ﴾.
و التعبير بالرسل بلفظ الجمع في قولهم: ﴿وَ نَتَّبِعِ اَلرُّسُلَ﴾ مع أن الآية تصف حال ظالمي هذه الأمة ظاهرا و كان مقتضى ذلك أن يقال: و نتبع الرسول إنما هو للدلالة على أن الملاك في نزول هذا العذاب القضاء بين الرسالة و بين منكريها من غير اختصاص ذلك برسول دون رسول كما يفيده قوله: ﴿وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ
قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾: يونس: ٤٧.
و قوله: ﴿أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ﴾ الإقسام تعليق الحكم في الكلام بأمر شريف من جهة شرافته ليدل به على صدقه إذ لو كذب المتكلم و قد أقسم في كلامه لأذهب بذلك شرف المقسم به كقولنا: و الله إن كذا لكذا و لعمري إن الأمر على كذا، و يعد القسم أقوى أسباب التأكيد. و لا يبعد أن يكون الإقسام في الآية كناية عن إيراد الكلام في صورة جازمة غير قابلة للترديد.
و الكلام على تقدير القول و المعنى يقال لهم توبيخا و تبكيتا: أ لم تكونوا أقسمتم من قبل نزول العذاب ما لكم من زوال و أنكم بما عندكم من القوة و السطوة و وسائل الدفاع أمة خالدة مسيطرة على الحوادث فما لكم تستمهلون إلى أجل قريب.
قوله تعالى: ﴿وَ سَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ إلى آخر الآية معطوف على محل قوله: ﴿أَقْسَمْتُمْ﴾ في الآية السابقة، و المعنى: أ و لم تكونوا سكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم من الأمم السابقة، و ظهر لكم أن هذه الدعوة حقة و يتعقبها لو ردت عذاب مستأصل، من جهتين: جهة المشاهدة حيث تبين لكم كيف فعلنا بأولئك الظالمين الذين سكنتم في مساكنهم؟ و جهة البيان حيث ضربنا لكم الأمثال و أنذرناكم عذابا مستأصلا يتعقبه إنكار الحق و رد الدعوة النبوية و يقطع دابر الظالمين.
قوله تعالى: ﴿وَ قَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَ عِنْدَ اَللَّهِ مَكْرُهُمْ وَ إِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ اَلْجِبَالُ﴾ حال من الضمير في ﴿فَعَلْنَا﴾ في الآية السابقة أو من الضمير في ﴿بِهِمْ﴾ فيها أو من الضميرين جميعا على ما قيل، و ضمائر الجمع راجعة إلى ﴿اَلَّذِينَ ظَلَمُوا﴾.
و المراد بكون مكرهم عند الله إحاطته تعالى به بعلمه و قدرته، و من المعلوم أن المكر إنما يكون مكرا إذا لم يحط به الممكور به و جهله، و أما إذا كان الممكور به عالما بما هيأه الماكر من المكر و قادرا على دفعه لغا المكر أو عاد مكرا على نفس الماكر كما قال تعالى: ﴿وَ مَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَ مَا يَشْعُرُونَ﴾: الأنعام: ١٢٣.
و قوله: ﴿وَ إِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ اَلْجِبَالُ﴾ إن وصلية على ما قيل و اللام في ﴿لِتَزُولَ﴾ متعلق بمقدر يدل عليه لفظ المكر كقولنا يقتضي أو يوجب و ما أشبه ذلك، و التقدير: الله محيط بمكرهم عالم به قادر على دفعه إن كان مكرهم
دون هذه الشدة و إن كان على هذه الشدة.
و المعنى تبين لكم كيف فعلنا بهم و الحال أنهم مكروا ما في وسعهم من المكر و الله محيط بمكرهم و إن كان مكرهم عظيما موجبا لزوال الجبال.
و ربما قيل: إن ﴿إِنْ﴾ نافية و اللام هي الداخلة على المنفي و المراد بالجبال الآيات و المعجزات كناية و المعنى و ما كان مكرهم لتبطل به آيات الله و معجزاته التي هي كالجبال الراسيات التي لا تزول عن مكانها، و أيد هذا المعنى بقراءة ابن مسعود «و ما كان مكرهم» و هو معنى بعيد.
و قرئ أيضا: ﴿لِتَزُولَ﴾ بفتح اللام الأولى و ضم اللام الثانية، و على هذا تكون ﴿إِنْ﴾ مخففة من المشددة و المعنى و التحقيق أن مكرهم كان من العظمة بحيث تزول منه الجبال.
قوله تعالى: ﴿فَلاَ تَحْسَبَنَّ اَللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ ذُو اِنتِقَامٍ﴾ تفريع على ما تقدم أن ترك مؤاخذة الظالمين بعملهم إنما هو لتأخيرهم إلى يوم القيامة أي إذا كان الأمر كذلك فلا تحسبن الله مخلفا لما وعد رسله من نصرهم و مؤاخذة المتخلفين عن دعوتهم، و كيف يخلف وعده و هو عزيز ذو انتقام شديد و لازم عزته المطلقة أن لا يخلف وعده فإن إخلاف الوعد إما لكون الواعد غير قادر على إنجاز ما وعده أو لتغير من الرأي بعروض حال ثانية تقهره على خلاف ما بعثته إليه الحال الأولى التي أوجبت عليه الوعد و الله سبحانه عزيز على الإطلاق لا يتصف بعجز و لا تقهره حال و لا شيء آخر و هو الواحد القهار.
و لازم اتصافه بالانتقام أن ينتقم للحق ممن استكبر عنه و استعلى عليه و ينتصف للمظلوم من الظالم.
و ذو انتقام من أسمائه تعالى الحسنى التي سمى الله تعالى بها نفسه في مواضع من كلامه و قارنه في جميعها باسمه العزيز، قال تعالى: ﴿وَ اَللَّهُ عَزِيزٌ ذُو اِنْتِقَامٍ﴾: آل عمران:
٤، المائدة: ٩٥ و قال: ﴿أَ لَيْسَ اَللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي اِنْتِقَامٍ﴾: الزمر: ٣٧ و قال في الآية المبحوث عنها: ﴿إِنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ ذُو اِنتِقَامٍ﴾ و من ذلك يظهر أن «ذا انتقام» من فروع اسم «العزيز». ـ
(كلام في معنى الانتقام و نسبته إليه تعالى)
الانتقام هو العقوبة لكن لا كل عقوبة بل عقوبة خاصة و هي أن تذيق غيرك من الشر ما يعادل ما أذاقك منه أو تزيد عليه قال تعالى: ﴿فَمَنِ اِعْتَدىَ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدىَ عَلَيْكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ﴾.
و هو أصل حيوي معمول به عند الإنسان و ربما يشاهد من بعض الحيوان أيضا أعمال يشبه أن تكون منه، و أيا ما كان يختلف الغرض الذي يبعث الإنسان إليه فالداعي إليه في الانتقام الفردي هو التشفي غالبا فإذا سلب الواحد من الإنسان غيره شيئا من الخير أو أذاقه شيئا من الشر وجد الذي فعل به ذلك في نفسه من الأسى و الأسف ما لا تسكن فورته و لا تخمد ناره إلا بأن يذيقه من الشر ما يعادل ما ذاق منه أو يزيد عليه فالعامل الذي يدعو إليه هو الإحساس الباطني و أما العقل فربما أجازه و أنفذه و ربما استنكف.
و الانتقام الاجتماعي و نعني به القصاصات و أنواع المؤاخذات التي نعثر عليها في السنن و القوانين الدائرة في المجتمعات أعم من الراقية و الهمجية الغالب فيه أن يكون الغرض الداعي إليه غاية فكرية و مطلوبا عقليا و هو حفظ النظام عن الاختلال و سد طريق الهرج و المرج فلو لا أصل الانتقام و مؤاخذة المجرم الجاني بما أجرم و جنى اختل الأمن العام و ارتحل السلام من بين الناس.
و لذا كان هذا النوع من الانتقام حقا من حقوق المجتمع و إن كان ربما استصحب حقا فرديا كمن ظلم غيره بما فيه مؤاخذة قانونية فربما يؤاخذ الظالم استيفاء لحق المجتمع و إن أبطل المظلوم حقه بالعفو.
فقد تبين أن من الانتقام ما يبتني على الإحساس و هو الانتقام الفردي الذي غايته التشفي، و منه ما يبتني على العقل و هو الانتقام الاجتماعي الذي غايته حفظ النظام و هو من حقوق المجتمع و إن شئت قلت من حقوق السنة أو القانون الجاري في المجتمع فإن استقامة الأحكام المعدلة لحياة الناس و سلامتها في نفسها تقتضي مؤاخذة المجرم المتخلف عنها و إذاقته جزاء سيئته المر، فهو من حقوق السنة و القانون كما أنه من حقوق المجتمع.
إذا عرفت هذا علمت أن ما ينسب إليه تعالى في الكتاب و السنة من الانتقام هو ما كان حقا من حقوق الدين الإلهي و الشريعة السماوية و إن شئت فقل من حقوق المجتمع الإسلامي و إن كان ربما استصحب الحق الفردي فيما إذا انتصف سبحانه للمظلوم من ظالمة فهو الولي الحميد.
و أما الانتقام الفردي المبني على الإحساس لغاية التشفي فساحته المقدسة أعز من أن يتضرر بإجرام المجرمين و معصية المسيئين أو ينتفع بطاعة المحسنين.
و من هنا يظهر سقوط ما ربما استشكله بعضهم أن الانتقام إنما يكون لتشفي القلب و إذ كان تعالى لا ينتفع و لا يتضرر بشيء من أعمال عباده خيرا أو شرا طاعة أو معصية فلا وجه لنسبة الانتقام إليه كما أن رحمته غير المتناهية تأبى أن يعذبهم بعذاب خالد غير متناه كيف لا؟ و الواحد من أرباب الرحمة يرحم المجرم المقدم على أي معصية إذا كان عن جهالة منه و هو تعالى يصف الإنسان و هو مخلوقه المعلوم له حاله بذلك إذ يقول: ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾: الأحزاب: ٧٢.
وجه السقوط أن فيه خلطا بين الانتقام الفردي و الاجتماعي، و الذي يثبت فيه تعالى هو الاجتماعي منه دون الفردي كما توهم كما أن فيه خلطا بين الرحمة النفسانية التي هي تأثر و انفعال قلبي من الإنسان و بين الرحمة العقلية التي هي تتميم نقص الناقص المستعد لذلك، و التي تثبت فيه تعالى هي الرحمة العقلية دون الرحمة النفسانية و لم يثبت الخلود في العذاب إلا فيما إذا بطل استعداد الرحمة و إمكان الإفاضة قال تعالى: ﴿بَلىَ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾: البقرة: ٨١.
و هاهنا نكتة يجب أن تتنبه لها و هي أن الذي تقدم من معنى الانتقام المنسوب إليه تعالى إنما يتأتى على مسلك المجازاة و الثواب و العقاب، و أما على مسلك نتائج الأعمال فترجع حقيقته إلى لحوق الصور السيئة المؤلمة بالنفس الإنسانية عن الملكات الرديئة التي اكتسبتها في الحياة الدنيا، بعد الموت، و قد تقدم البحث في الجزء الأول من الكتاب في ذيل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا﴾:
الآيةالبقرة: ٢٦ في جزاء الأعمال.
بيان
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَ اَلسَّمَاوَاتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ
اَلْقَهَّارِ﴾ الظرف متعلق بقوله: ﴿ذُو اِنتِقَامٍ﴾ و تخصيص انتقامه تعالى بيوم القيامة مع عمومه لجميع الأوقات و الظروف إنما هو لكون اليوم أعلى مظاهر الانتقام الإلهي كما أن تخصيص بروزهم لله بذلك اليوم كذلك، و على هذا النسق جل الأوصاف المذكورة في كلامه تعالى ليوم القيامة كقوله: ﴿اَلْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾: الانفطار: ١٩ و قوله: ﴿مَا لَكُمْ مِنَ اَللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ﴾: المؤمن: ٣٣ إلى غير ذلك و قد تقدمت الإشارة إليه كرارا.
و الظاهر أن اللام في الأرض للعهد في الموضعين معا و كذا في السماوات و السماوات معطوفة على الأرض الأولى و المعنى تبدل هذه الأرض غير هذه الأرض و تبدل هذه السماوات غير هذه السماوات.
و للمفسرين في معنى تبدل الأرض و السماوات أقوال مختلفة:
فقيل: تبدل الأرض فضة و السماوات ذهبا و ربما قيل إن الأرض تبدل من أرض نقية كالفضة و السماوات كذلك.
و قيل: تبدل الأرض نارا و السماوات جنانا.
و قيل: تبدل الأرض خبزة نقية يأكل الناس منها طول يوم القيامة.
و قيل: تبدل الأرض لكل فريق مما يقتضيه حاله فتبدل لبعض المؤمنين خبزة يأكل منها ما دام في العرصات و لبعض آخر فضة و تبدل للكافر نارا.
و قيل: التبديل هو أنه يزاد في الأرض و ينقص منها و تذهب آكامها و جبالها و أوديتها و شجرها و تمد مد الأديم و تصير مستوية لا ترى فيها عوجا و لا أمتا، و تتغير السماوات بذهاب الشمس و القمر و النجوم و بالجملة يتغير كل من الأرض و السماوات عما هو عليه في الدنيا من الصفات و الأشكال.
و منشأ اختلافهم في تفسير التبديل اختلاف الروايات الواردة في تفسير الآية مع أن الروايات لو صحت و اتصلت كان اختلافها أقوى شاهد على أن ظاهرها غير مراد و أن بياناتها واقعة موقع التمثيل للتقريب.
و التدبر الكافي في الآيات التي تحوم حول تبديل الأرض و السماء يفيد أن أمر التبديل أعظم مما تتصوره من بسط الجبل على السهل أو تبديل التراب فضة أو خبزا
نقيا مثلا كقوله تعالى: ﴿وَ أَشْرَقَتِ اَلْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا﴾: الزمر - ٦٩ و قوله: ﴿وَ سُيِّرَتِ اَلْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً﴾: النبأ: ٢٠ و قوله: ﴿وَ تَرَى اَلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ اَلسَّحَابِ﴾: النمل: ٨٨ إن كانت الآية ناظرة إلى يوم القيامة إلى غير ذلك من الآيات.
فالآيات تنبئ عن نظام غير هذا النظام الذي نعهده و شئون دون ما نتصوره فإشراق الأرض يومئذ بنور ربها غير إشراق بسيطها بنور الشمس أو الكواكب أو غيرها، و سير الجبال ينتهي عادة إلى زوالها عن مكانها و تلاشيها مثلا لا إلى كونها سرابا، و هكذا نرجو أن يوفقنا الله سبحانه لبسط الكلام في هذا المعنى فيما سيأتي إن شاء الله تعالى.
و قوله: ﴿وَ بَرَزُوا لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ﴾ معنى بروزهم و ظهورهم لله يومئذ مع كون الأشياء بارزة غير خفية عليه دائما سقوط جميع العلل و الأسباب التي كانت تحجبهم عنه تعالى ما داموا في الدنيا فلا يبقى يومئذ على ما يشاهدون شيء من الأسباب يملكهم و يتولى أمرهم و يستقل بالتأثير فيهم إلا الله سبحانه كما يدل عليه آيات كثيرة فهم لا يلتفتون إلى جانب و لا يتوجهون إلى جهة في ظاهرهم و باطنهم و حاضرهم و الماضي الغائب من أحوالهم و أعمالهم إلا وجدوه سبحانه شاهدا مهيمنا عليه محيطا به.
و الدليل على هذا الذي ذكرناه توصيفه تعالى بالواحد القهار المشعر بنوع من الغلبة فبروزهم لله يومئذ إنما هو ناشئ عن كونه تعالى هو الواحد الذي يقوم به وجود كل شيء و يقهر كل من دونه من مؤثر فلا يحول بينهم و بينه حائل فهم بارزون له بروزا مطلقا.
قوله تعالى: ﴿وَ تَرَى اَلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي اَلْأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَ تَغْشىَ وُجُوهَهُمُ اَلنَّارُ﴾ المقرنين من التقرين و هو جمع الشيء إلى نظيره و الأصفاد جمع الصفد و هو الغل الذي يجمع اليد إلى العنق أو هو مطلق السلسلة يقرن بين المقيدين، و السرابيل جمع السربال و هو القميص و القطران شيء أسود منتن يطلى به الإبل فإنهم يطلون به فيصير كالقميص عليهم و الغشاوة بالفتح الستر و التغطية يقال: غشي يغشى غشاوة أي ستره و غطاه، و معنى الآيتين واضح.
قوله تعالى: ﴿لِيَجْزِيَ اَللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اَللَّهَ سَرِيعُ اَلْحِسَابِ﴾ معنى
الآية واضح، و هي بظاهرها تدل على أن الذي تجزى به كل نفس هو عين ما كسبته من حسنة أو سيئة و إن تبدلت صورته، فهي من الآيات الدالة على أن الذي يلحق بهم يوم القيامة هو نتيجة أعمالهم.
فالآية تفسر أولا معنى الجزاء في يوم الجزاء، و ثانيا معنى انتقامه تعالى يومئذ و أنه ليس من قبيل عقوبة المجرم العاصي تشفيا منه بل إلحاق ما يستدعيه عمل المجرم به و إن شئت فقل إيصال ما اكتسبه المجرم بعينه إليه.
و في تعليل هذا الجزاء و هو في يوم القيامة بقوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ سَرِيعُ اَلْحِسَابِ﴾ إيماء إلى أن الجزاء واقع من غير فصل و مهل إلا أن ظرف ظهوره هو ذلك اليوم لا غير، أو أن الحكم بالجزاء و كتابته واقع عند العمل و تحققه يوم القيامة و مآل الوجهين واحد في الحقيقة.
قوله تعالى: ﴿هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَ لِيَذَّكَّرَ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ﴾ البلاغ بمعنى التبليغ على ما ذكره الراغب أو بمعنى الكفاية على ما ذكره غيره.
و الآية خاتمة السورة فالأنسب أن تكون الإشارة بهذا إلى ما أورد في السورة من البيان لا إلى مجموع القرآن كما ذكره بعضهم و لا إلى ما ذكر من قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَحْسَبَنَّ اَللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ اَلظَّالِمُونَ﴾ إلى آخر السورة كما ذكره آخرون.
و قوله: ﴿وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ﴾ إلخ، اللام فيه للغاية و هو معطوف على محذوف إنما حذف لفخامة أمره و عظم شأنه لا يحيط به أفهام الناس لاشتماله من الأسرار الإلهية على ما لا يطيقونه، و إنما تسع عقولهم ما ذكر من غاياته و هو الإنذار و العلم بوحدانيته تعالى و التذكر، فهم ينذرون بما ذكر فيها من مؤاخذته تعالى الظالمين عاجلا و آجلا، و تتم عليهم الحجة بما ذكر فيها من آيات التوحيد، و يتذكر المؤمنون منهم خاصة بما فيها من المعارف الإلهية.
و بهذا يتطابق مختتم السورة و مفتتحها أعني قوله في أول السورة: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ اَلنَّاسَ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلىَ صِرَاطِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَمِيدِ﴾ فقد تقدم أن مدلول الآية أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالدعوة و التبليغ إلى صراط الله بما أنه
تعالى ربهم العزيز الحميد ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذنه فإنهم إن استجابوا الدعوة و آمنوا خرجوا بذلك من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان بالفعل و إن لم يستجيبوا أنذروا و وقفوا على التوحيد الحق و خرجوا من الجهل إلى العلم و هو نوع خروج من الظلمة إلى النور و إن كان وبالا عليهم و خسارا ففي الدعوة على أي حال إنذار للناس و إعلامهم أنما هو إله واحد و تذكر لأولي الألباب منهم خاصة و هم المؤمنون.
(بحث روائي)
في المعاني، بإسناده عن ثوبان: أن يهوديا جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: يا محمد فرفعه ثوبان برجله و قال: قل: يا رسول الله فقال: لا أدعوه إلا بأسماء أهله قال: أ رأيت قول الله: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَ اَلسَّمَاوَاتُ﴾ أين الناس يومئذ قال: في الظلمة دون المحشر. قال: فما أول ما يأكل أهل الجنة إذا دخلوها؟ قال كبد الحوت قال: فما شرابهم على إثر ذلك، قال: السلسبيل. قال صدقت يا محمد.
أقول: و روي الحديث في الدر المنثور، عن مسلم و ابن جرير و الحاكم و البيهقي في الدلائل عن ثوبان: مثله إلى قوله: في الظلمة و روي أيضا عن عدة عن عائشة: أنها سألت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن ذلك فقال: على الصراط. و في تفسير العياشي، عن ثوير بن أبي فاختة عن الحسين بن علي (عليه السلام) قال: ﴿تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ﴾
يعني بأرض لم يكتسب عليها الذنوب بارزة ليست عليها جبال و لا نبات كما دحاها أول مرة.
أقول: و رواه القمي أيضا في تفسيره، و فيه دلالة على حدوث الجبال و كذا النبات بعد تمام خلقة الأرض.
و في الدر المنثور، أخرج البزار و ابن المنذر و الطبراني و ابن مردويه و البيهقي في البعث عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في قول الله: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ﴾. قال: أرض بيضاء كأنها فضة لم يسفك فيها دم حرام و لم تعمل فيها خطيئة.
أقول: و رواه أيضا عن ابن مردويه عن علي عنه (ص): مثله. و فيه، أخرج ابن أبي الدنيا في صفة الجنة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب في الآية قال: تبدل الأرض من فضة و السماء من ذهب. أقول: و حمل بعضهم الكلام على التشبيه كما وقع في حديث ابن مسعود السابق.
و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سأله أبرش الكلبي عن قول الله عز و جل: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ﴾ قال: تبدل خبزة نقية يأكل الناس منها حتى يفرغ من الحساب. فقال الأبرش: فقلت: إن الناس يومئذ لفي شغل من الأكل فقال أبو جعفر (عليه السلام) فهم في النار لا يشتغلون عن أكل الضريع و شرب الحميم و هم في عذاب فكيف يشتغلون عنه في الحساب؟. أقول: و قوله: «تبدل خبزة نقية» يحتمل التشبيه كما ربما يستفاد من الخبر الآتي.
و في إرشاد المفيد، و احتجاج الطبرسي، عن عبد الرحمن بن عبد الله الزهري قال: حج هشام بن عبد الملك فدخل المسجد الحرام متكئا على ولد سالم مولاه و محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام) جالس في المسجد فقال له سالم مولاه يا أمير المؤمنين هذا محمد بن علي قال هشام: المفتونون به أهل العراق؟ قال: نعم. فقال: اذهب إليه فقل له: يقول لك أمير المؤمنين: ما الذي يأكل الناس و يشربون إلى أن يفصل بينهم يوم القيامة قال أبو جعفر (عليه السلام): يحشر الناس على مثل قرص نقي فيها أنهار متفجرة - يأكلون و يشربون حتى يفرغ من الحساب .
قال: فرأى هشام أنه قد ظفر به فقال: الله أكبر اذهب إليه فقل: ما أشغلهم عن الأكل و الشرب يومئذ. فقال أبو جعفر (عليه السلام): هم في النار أشغل و لم يشتغلوا عن ذلك قالوا أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله. فسكت هشام لا يرجع كلاما و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أفلح مولى أبي أيوب: أن رجلا من يهود سأل النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ﴾ ما الذي تبدل به؟ فقال: خبزة،
فقال اليهودي: درمكة بأبي أنت، قال: فضحك ثم قال: قاتل الله اليهود هل تدرون ما الدرمكة؟ لباب الخبز. و فيه، أخرج أحمد و ابن جرير و ابن أبي حاتم و أبو نعيم في الدلائل عن أبي أيوب الأنصاري قال: أتى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) حبر من اليهود و قال: أ رأيت إذ يقول الله: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ﴾ فأين الخلق عند ذلك؟ قال: أضياف الله لن يعجزهم ما لديه.
أقول: و اختلاف الروايات في تفسير التبديل لا يخلو عن دلالة على أنها أمثال مضروبة للتقريب و المسلم من معنى التبدل أن حقيقة الأرض و السماء و ما فيهما يومئذ هي هي غير أن النظام الجاري فيهما يومئذ هو غير النظام الجاري فيهما في الدنيا.
و في المعاني، بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لقد خلق الله عز و جل في الأرض منذ خلقها سبعة عالمين ليس فيهم من ولد آدم، خلقهم من أديم الأرض - فأسكنهم فيها واحدا بعد واحد مع عالمه .
ثم خلق الله عز و جل آدم أبا البشر و خلق ذريته منه لا و الله ما خلت الجنة من أرواح المؤمنين منذ خلقها، و لا خلت النار من أرواح الكفار و العصاة منذ خلقها عز و جل لعلكم ترون إذا كان يوم القيامة و صير أبدان أهل الجنة مع أرواحهم في الجنة و صير أبدان أهل النار مع أرواحهم في النار إن الله تعالى لا يعبد في بلاده و لا يخلق خلقا يعبدونه و يوحدونه؟ بلى و الله ليخلقن الله خلقا من غير فحولة و لا إناث يعبدونه و يوحدونه و يعظمونه و يخلق لهم أرضا تحملهم و سماء تظلهم أ ليس الله عز و جل يقول: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَ اَلسَّمَاوَاتُ﴾؟ و قد قال عز و جل: ﴿أَ فَعَيِينَا بِالْخَلْقِ اَلْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾.
أقول: و رواه العياشي، في تفسيره عن محمد بن مسلم عنه (عليه السلام): مثله، و هو غير المعاني التي أوردناها سابقا.
و في تفسير القمي، قوله : ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ﴾ قال تبدل خبزة بيضاء في الموقف يأكل منها المؤمنون ﴿وَ تَرَى اَلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي اَلْأَصْفَادِ﴾ قال: قال:
مقرنين بعضهم إلى بعض ﴿سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ﴾ قال: قال:
السرابيل القميص.
قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ﴾ هو الصفر الحار المذاب انتهى حره يقول الله عز و جل: ﴿وَ تَغْشىَ وُجُوهَهُمُ اَلنَّارُ﴾ سربلوا ذلك الصفر و تغشى وجوههم النار.
أقول: يعني أن المراد بالجملتين: ﴿سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَ تَغْشىَ وُجُوهَهُمُ اَلنَّارُ﴾ جميعا بيان أنهم مستورون مغشيون أما أبدانهم فبالقطران و أما وجوههم فبالنار.
(١٥) (سورة الحجر مكية و هي تسع و تسعون آية) (٩٩)
[سورة الحجر (١٥): الآیات ١ الی ٩]
﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ ﴾﴿الر تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ ١رُبَمَا يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ٢ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا وَ يُلْهِهِمُ اَلْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ٣وَ مَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَ لَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ ٤مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَ مَا يَسْتَأْخِرُونَ ٥وَ قَالُوا يَا أَيُّهَا اَلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ٦لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلاَئِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ ٧مَا نُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ مَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ ٨إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ٩﴾
(بيان)
تشتمل السورة على الكلام حول استهزاء الكفار بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و رميه بالجنون و رمي القرآن الكريم بأنه من إهذار المجانين ففيها تعزية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أمره بالصبر و الثبات و الصفح عنهم و تطييب لنفسه الشريفة و إنذار و تبشير.
و هي مكية على ما تشهد به آياتها، و نقل في المجمع عن الحسن استثناء قوله:
﴿وَ لَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ اَلْمَثَانِي﴾ الآية، و قوله ﴿كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى اَلْمُقْتَسِمِينَ اَلَّذِينَ جَعَلُوا اَلْقُرْآنَ عِضِينَ﴾ و سيأتي ما فيه.
و تشتمل السورة على قوله تعالى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ﴾ إلخ، و الآية تقبل الانطباق على ما ضبطه التاريخ أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) اكتتم في أول البعثة ثلاث سنين أو أربعا أو خمسا لا يعلن دعوته لاشتداد الأمر عليه فكان لا يدعو إلا آحادا ممن يرجو منهم الإيمان يدعوهم خفية و يسر إليهم الدعوة حتى أذن له ربه في ذلك و أمره أن يعلن دعوته.
و تؤيده الروايات المأثورة من طرق الشيعة و أهل السنة أنه (ص) كان يكتتم في أول بعثته سنين لا يظهر فيها دعوته لعامة الناس حتى أنزل الله تعالى عليه: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ اَلْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ فخرج إلى الناس و أظهر الدعوة، و عليه فالسورة مكية نازلة في أول الدعوة العلنية.
و من غرر الآيات القرآنية المشتملة على حقائق جمة في السورة قوله تعالى:
﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ﴾ الآية، و قوله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾.
قوله تعالى: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ﴾ الإشارة إلى الآيات الكريمة القرآنية فالمراد بالكتاب القرآن، و تنكير القرآن للدلالة على عظم شأنه و فخامة أمره كما أن التعبير بتلك و هي للإشارة إلى البعيد لذلك.
و المعنى هذه الآيات العالية منزلة الرفيعة درجة التي ننزلها إليك آيات الكتاب الإلهي و آيات قرآن عظيم الشأن فاصل بين الحق. و الباطل على خلاف ما يرميها به الكفار بما يرمونك بالجنة مستهزءين بكلام الله.
و من الممكن أن يراد بالكتاب اللوح المحفوظ فإن القرآن منه و فيه قال تعالى:
﴿ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ﴾: الواقعة: ٧٨ و قال: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾: البروج: ٢٢ فيكون قوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اَلْكِتَابِ وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ﴾ كالملخص من قوله: ﴿وَ اَلْكِتَابِ اَلْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾: الزخرف: ٤.
قوله تعالى: ﴿رُبَمَا يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ﴾ توطئة لما سيتعرض له من قولهم للنبي: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ يشير به إلى أنهم سيندمون
على ما هم عليه من الكفر و يتمنون الإسلام لله و الإيمان بكتابه يوم لا سبيل لهم إلى تحصيل ذلك.
فقوله: ﴿رُبَمَا يَوَدُّ﴾ المراد به ودادة التمني لا مطلق الودادة و الحب، و الدليل على ذلك قوله في بيان هذه المودة: ﴿لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ﴾ فإن لفظي ﴿لَوْ﴾ و ﴿كَانُوا﴾ تدلان على أن ودادتهم ودادة تمن و أنهم يتمنون الإسلام بالنسبة إلى ماضي حالهم مما فاتهم و لن يعود إليهم فليس إلا الإسلام ما داموا في الدنيا.
فالآية تدل على أن الذين كفروا سيندمون على كفرهم و يتمنون أن لو كانوا مسلمين بعد انطواء بساط الحياة الدنيا.
قوله تعالى: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا وَ يُلْهِهِمُ اَلْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ الإلهاء الصرف و الإشغال يقال: ألهاه كذا عن كذا أي شغله عنه و أنساه ذكره.
و قوله: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا وَ يُلْهِهِمُ اَلْأَمَلُ﴾ أمر برفع اليد عنهم و تركهم و ما هم فيه من الباطل، و هو كناية عن النهي عن الجدال معهم و الاحتجاج عليهم لإثبات هذه الحقيقة و هي أنهم سوف يودون الإسلام و يتمنونه و لا سبيل لهم إلى تحصيله و تدارك ما فات منه، و قوله: ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ في موضع التعليل للأمر أي ذرهم و لا تجادلهم و لا تحاجهم فلا حاجة إلى ذلك لأنهم سوف يعلمون ذلك فإن الحق ظاهر لا محالة.
و في الآية تعريض لهم أنهم لا غاية لهم في حياتهم إلا الأكل و التمتع بلذات المادة و التلهي بالآمال و الأماني فلا منطق لهم إلا منطق الأنعام و الحيوان العجم فمن الحري أن يتركوا و ما هم فيه، و لا يلقى إليهم الحجج الحقة المبنية على أساس العقل السليم و المنطق الإنساني.
قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَ لَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ﴾ إلى آخر الآيتين تثبيت و توكيد لقوله في الآية السابقة: ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ على ما يعطيه السياق و المعنى دعهم فإنهم لا يسلمون في هذه الحياة الدنيا و إنما يودون الإسلام بعد حلول أجلهم و نزول الهلاك بهم، و الناس ليسوا بذوي خيرة في ذلك بل لكل أمة كتاب معلوم عند الله مكتوب فيه أجلهم لا يقدرون أن يستقدموه و لا يستأخروه ساعة.
و في الآيتين دلالة على أن الأمة من الإنسان لها كتاب كما أن للفرد منه كتابا، قال تعالى: ﴿وَ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً﴾: إسراء: ١٣.
قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا يَا أَيُّهَا اَلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ كلام خارج مخرج الاستهزاء و لذلك خاطبوه (ص) لا باسمه بل بوصف نزول الذكر عليه كما كان يدعيه، و جاءوا بالفعل المجهول للدلالة على أن منزله غير معلوم عندهم و لا اعتماد و لا وثوق لهم بما يدعيه هو أن الله تعالى هو الذي أنزله، و توصيفه بالذي نزل عليه الذكر و كذا تسمية النازل عليه ذكرا كل ذلك من الاستهزاء كما أن قولهم: ﴿إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ رمي و تكذيب.
قوله تعالى: ﴿لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلاَئِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ﴾ لو ما مثل هلا للتحضيض أي هلا تأتينا بالملائكة إن كنت صادقا في دعوى النبوة ليشهدوا على صدق دعواك و ينذر معك، فهو قريب المعنى من قولهم على ما حكاه الله: ﴿لَوْ لاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً﴾: الفرقان: ٧.
و وجه اقتراحهم على الأنبياء أن يأتوا بالملائكة و يظهروهم لهم اعتقادهم أن البشرية كينونة مادية مغمورة في قذارة الشهوة و الغضب لا نسبة بينها و بين العالم السماوي الذي هو محض النورانية و الطهارة فمن ادعى نوعا من الاتصال بذاك العالم الروحاني فعليه أن يأتي ببعض أهله من الملائكة الكرام ليصدقوه في دعواه و يعينوه في دعوته.
على أن الملائكة عند الوثنيين آلهة دون الله سبحانه فدعوتهم إلى التوحيد معناها أن هؤلاء الآلهة في معزل من الشفاعة و العبادة بأمر من الله سبحانه و هو إله الآلهة و لا دليل على ذلك كاعترافهم به فلينزلوا و ليعترفوا و يصدقوا النبوة.
قوله تعالى: ﴿مَا نُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ مَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ﴾ جواب عما اقترحوا على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يأتيهم بالملائكة حتى يصدقوه، و محصل الجواب أن السنة الإلهية جارية على ستر ملائكته عنهم تحت أستار الغيب فلو أنزلهم و أظهرهم لهم عن اقتراحهم ذلك كان ذلك آية سماوية خارقة للعادة نازلة عن اقتراحهم، و من شأن الآية المعجزة النازلة عن اقتراح الناس أن يعقبها عذاب الاستئصال و الهلاك القطعي
إن لم يؤمنوا بها، و هؤلاء الكفار المعاندون ليسوا بمؤمنين فهو الهلاك.
و بالجملة لو أنزل الله الملائكة و الحال هذا الحال هم يقترحون آية فاصلة تظهر الحق و تميط الباطل لأنزلهم بالحق الفاصل المميز و ما كانوا إذا منظرين بل يهلكون و يقطع دابرهم، هذا محصل ما ذكره بعضهم.
و قيل: المراد بالحق في الآية الموت و المعنى ما نزل الملائكة على الناس إلا مصاحبا للحق الذي هو الموت و ما كانوا إذا منظرين، و كأنه مأخوذ من قوله تعالى:
﴿يَوْمَ يَرَوْنَ اَلْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرىَ يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ﴾ الآية.
و قيل: المراد بالحق الرسالة أي ما نزل الملائكة إلا بالوحي و الرسالة و كأنه مأخوذ من نحو قوله: ﴿قَدْ جَاءَكُمُ اَلرَّسُولُ بِالْحَقِّ﴾: النساء: ١٧٠ «و قوله ﴿فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ﴾: الأنعام: ٥.
فهذه وجوه مذكورة في تفسير الآية و دونها وجوه مذكورة في مختلف التفاسير و هي جميعا لا تخلو من شيء و هو أن شيئا منها لا ينطبق على الحصر الموجود في قوله:
﴿مَا نُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ﴾ فنزول الملائكة لا يختص بعذاب الاستئصال فقط و لا بالموت فقط، و لا بالوحي و الرسالة فقط، و توجيه الآية بما يختص بأحد المعاني الثلاث المذكورة للحق يحتاج إلى تقييدها بقيود كثيرة يدفعها إطلاق الآية كما هو ظاهر لمن راجع الوجوه المقررة آنفا.
و يمكن أن يقرر معنى الآية باستمداد من التدبر في آيات أخر أن ظرف الحياة المادية أعني هذه النشأة الدنيوية ظرف يختلط فيه الحق و الباطل من غير أن يتمحض الحق في الظهور بجميع خواصه و آثاره كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اَللَّهُ اَلْحَقَّ وَ اَلْبَاطِلَ﴾: الرعد: ١٧، و قد تقدم تفصيل القول في ذلك فما يظهر فيه شيء من الحق إلا و هو يحتمل شيئا من اللبس و الشك كما يصدقه استقراء الموارد التي صادفناها مدى أعمارنا، و من الشاهد عليه قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾: الأنعام: ٩ و الظرف ظرف الامتحان و الاختيار و لا اختيار إلا مع إمكان التباس الحق بالباطل و اختلاط الخير و الشر بنحو حتى يقف الإنسان على ملتقى الطريقين و منشعب النجدين فيستدل على الخير و الشر بآثارهما و أماراتهما ثم يختار
ما يستحقه من السعادة و الشقاوة.
و أما عالم الملائكة و ظرف وجودهم فإنما هو عالم الحق غير مشوب بشيء من الباطل كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿لاَ يَعْصُونَ اَللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾: التحريم: ٦ و قوله: ﴿بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾: الأنبياء: ٢٧.
فمقتضى الآيات و ما في معناها أنهم في أنفسهم مخلوقات شريفة و وجودات طاهرة نورانية منزهة عن النقص و الشين لا تحتمل الشر و الشقاء و ليس عندها إمكان الفساد و المعصية و التقصير فلا يحكم فيها هذا النظام المادي المبني على أساس الإمكان و الاختيار و جواز الصلاح و الفساد و الطاعة و المعصية و السعادة و الشقاء جميعا، و سيوافيك البحث المستوفى فيه فيما يناسبه من المورد إن شاء الله.
و سيأتي أيضا أن الإنسان لا طريق له إلى هذا الظرف الحق ما دام متوغلا في هذا العالم المادي متورطا في ورطات الشهوات و الأهواء كأهل الكفر و الفسوق إلا ببطلان عالمهم و خروجهم إلى العالم الحق و ظهوره عليهم و انكشاف الغطاء عنهم كما يشير إليه قوله: ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾ ق - ٢٢ و هذا هو العالم الذي يسمى بالنسبة إلى الإنسان آخرة.
فتبين أن ظهور عالم الملائكة للناس المتوغلين في عالم المادة متوقف على تبدل الظرف و الانتقال من الدنيا إلى الآخرة و هو الموت اللهم إلا في المصطفين من عباد الله و أوليائه المطهرين من أقذار الذنوب الملازمين لساحة قربه لهم أهلية مشاهدة الغيب و هم في عالم الشهادة كالأنبياء (عليه السلام).
و لعل ما قدمناه هو المراد بقوله: ﴿مَا نُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ مَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ﴾، فإنهم إنما اقترحوا نزول الملائكة ليشاهدوهم في صورهم الأصلية حتى يصدقوا و هذا الحال لا تتمهد لهم إلا بالموت كما قال تعالى: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا اَلْمَلاَئِكَةُ ﴾ إلى أن قال ﴿يَوْمَ يَرَوْنَ اَلْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرىَ يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً وَ قَدِمْنَا إِلىَ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً﴾: الفرقان: ٢٣.
و قد اجتمع المعنيان في قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ اَلْأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنْظَرُونَ وَ لَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾: الأنعام: ٩ يقول تعالى: لو أنزلنا عليه الملائكة آية خارقة للعادة مصدقة للنبوة كان لازمه القضاء عليهم و هلاكهم و لو قلدنا الملك النبوة و الرسالة كان لازمه أن نصوره في صورة رجل من الإنسان، و أن نوقفه موقفا يحتمل اللبس فإن الرسالة إحدى وسائل الامتحان و الابتلاء الإلهي و لا امتحان إلا بما يحتمل السعادة و الشقاء و الفوز و الخيبة و يجوز معه النجاة و الهلاك و لو توصل إلى الرسالة بما يضطر العقول إلى الإيمان و يلجئ النفوس إلى القبول و اليقين لبطل ذلك كله.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ صدر الآية مسوق سوق الحصر، و ظاهر السياق أن الحصر ناظر إلى ما ذكر من ردهم القرآن بأنه من أهذار الجنون و أنه (ص) مجنون لا عبرة بما صنع و لا حجر و من اقتراحهم أن يأتيهم بالملائكة ليصدقوه في دعوته و أن القرآن كتاب سماوي حق.
و المعنى على هذا و الله أعلم أن هذا الذكر لم تأت به أنت من عندك حتى يعجزوك و يبطلوه بعنادهم و شدة بطشهم و تتكلف لحفظه ثم لا تقدر، و ليس نازلا من عند الملائكة حتى يفتقر إلى نزولهم و تصديقهم إياه بل نحن أنزلنا هذا الذكر إنزالا تدريجيا و إنا له لحافظون بما له من صفة الذكر بما لنا من العناية الكاملة به.
فهو ذكر حي خالد مصون من أن يموت و ينسى من أصله، مصون من الزيادة عليه بما يبطل به كونه ذكرا مصون من النقص كذلك، مصون من التغيير في صورته و سياقه بحيث يتغير به صفة كونه ذكرا لله مبينا لحقائق معارفه.
فالآية تدل على كون كتاب الله محفوظا من التحريف بجميع أقسامه من جهة كونه ذكرا لله سبحانه فهو ذكر حي خالد.
و نظير الآية في الدلالة على كون الكتاب العزيز محفوظا بحفظ الله مصونا من التحريف و التصرف بأي وجه كان من جهة كونه ذكرا له سبحانه قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَ يَأْتِيهِ اَلْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ
خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾: حم السجدة: ٤٢.
و قد ظهر بما تقدم أن اللام في الذكر للعهد الذكري و أن المراد بالوصف لحافظون هو الاستقبال كما هو الظاهر من اسم الفاعل فيندفع به ما ربما يورد على الآية أنها لو دلت على نفي التحريف من القرآن لأنه ذكر لدلت على نفيه من التوراة و الإنجيل أيضا لأن كلا منهما ذكر مع أن كلامه تعالى صريح في وقوع التحريف فيهما.
و ذلك أن الآية بقرينة السياق إنما تدل على حفظ الذكر الذي هو القرآن بعد إنزاله إلى الأبد، و لا دلالة فيها على علية الذكر للحفظ الإلهي و دوران الحكم مداره.
و سنستوفي البحث عما يرجع إلى هذا الشأن إن شاء الله تعالى.
(بحث روائي)
في تفسير القمي، بإسناده عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن أذينة عن رفاعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد من عند الله: لا يدخل الجنة إلا مسلم فيومئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين. ثم قال: «ذرهم يأكلوا و يتمتعوا و يلههم الأمل» أي شغلهم فسوف يعلمون».
أقول: و روى العياشي، عن عبد الله بن عطاء المكي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): في تفسير الآية مثله. و في الدر المنثور، أخرج الطبراني في الأوسط و ابن مردويه بسند صحيح عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن ناسا من أمتي يعذبون بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا ثم يعيرهم أهل الشرك فيقولون: ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم فلا يبقى موحد إلا أخرجه الله تعالى من النار. ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ﴿رُبَمَا يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ﴾. أقول: و هذا المعنى مروي بطرق أخرى عن أبي موسى الأشعري و أبي سعيد الخدري و أنس بن مالك عنه (ص).
و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و ابن شاهين في السنة عن علي بن أبي طالب قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إن أصحاب الكبائر من موحدي الأمم كلها الذين ماتوا على كبائرهم غير نادمين و لا تائبين من دخل منهم جهنم لا تزرق أعينهم، و لا تسود وجوههم، و لا يقرنون بالشياطين و لا يغلون بالسلاسل، و لا يجرعون الحميم، و لا يلبسون القطران حرم الله أجسادهم على الخلود من أجل التوحيد، و صورهم على النار من أجل السجود .
فمنهم من تأخذه النار إلى قدميه، و منهم من تأخذه النار إلى عقبيه، و منهم من تأخذه النار إلى فخذيه، و منهم من تأخذه النار إلى حجزته، و منهم من تأخذه النار إلى عنقه على قدر ذنوبهم و أعمالهم، و منهم من يمكث فيها شهرا ثم يخرج منها، و منهم من يمكث فيها سنة ثم يخرج منها، و أطولهم فيها مكثا بقدر الدنيا منذ يوم خلقت إلى أن تفنى.
فإذا أراد الله أن يخرجهم منها قالت اليهود و النصارى و من في النار من أهل الأديان و الأوثان لمن في النار من أهل التوحيد: آمنتم بالله و كتبه و رسله فنحن و أنتم اليوم في النار سواء فيغضب الله لهم غضبا لم يغضبه لشيء فيما مضى - فيخرجهم إلى عين بين الجنة و الصراط فينبتون فيها نبات الطراثيث في حميل السيل ثم يدخلون الجنة مكتوب في جباههم: هؤلاء الجهنميون عتقاء الرحمن فيمكثون في الجنة ما شاء الله أن يمكثوا .
ثم يسألون الله تعالى أن يمحو ذلك الاسم عنهم فيبعث الله ملكا فيمحوه ثم يبعث الله ملائكة معهم مسامير من نار فيطبقونها على من بقي فيها يسمرونها بتلك المسامير فينساهم الله على عرشه، و يشتغل عنهم أهل الجنة بنعيمهم و لذاتهم، و ذلك قوله: ﴿رُبَمَا يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ﴾. أقول: الطرثوث نبت و حميل السيل غثاؤه، و قد روي من طرق الشيعة ما يقرب من الحديث مضمونا.
و فيه، أخرج أحمد و ابن مردويه عن أبي سعيد: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) غرس عودا بين يديه و آخر إلى جنبه و آخر بعده. قال: أ تدرون ما هذا؟ قالوا: الله و رسوله أعلم، قال: فإن هذا الإنسان و هذا أجله و هذا أمله فيتعاطى الأمل فيختلجه الأجل دون ذلك:
أقول: و روي ما يقرب من معناه بطرق عن أنس عنه (ص). و في المجمع، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: إن أخوف ما أخاف عليكم اثنان:
اتباع الهوى، و طول الأمل، فإن اتباع الهوى يصد عن الحق، و طول الأمل ينسي الآخرة.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿مَا نُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ مَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ﴾ قال: قال (عليه السلام): لو أنزلنا بالملائكة لم ينظروا و هلكوا.
كلام في أن القرآن مصون عن التحريف في فصول:
الفصل ١ الاستدلال على نفي التحريف بالقرآن
من ضروريات التاريخ أن النبي العربي محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم) جاء قبل أربعة عشر قرنا تقريبا و ادعى النبوة و انتهض للدعوة و آمن به أمة من العرب و غيرهم، و أنه جاء بكتاب يسميه القرآن و ينسبه إلى ربه متضمن لجمل المعارف و كليات الشريعة التي كان يدعو إليها، و كان يتحدى به و يعده آية لنبوته، و أن القرآن الموجود اليوم بأيدينا هو القرآن الذي جاء به و قرأه على الناس المعاصرين له في الجملة بمعنى أنه لم يضع من أصله بأن يفقد كله ثم يوضع كتاب آخر يشابهه في نظمه أو لا يشابهه و ينسب إليه و يشتهر بين الناس بأنه القرآن النازل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .
فهذه أمور لا يرتاب في شيء منها إلا مصاب في فهمه و لا احتمل بعض ذلك أحد من الباحثين في مسألة التحريف من المخالفين و المؤالفين.
و إنما احتمل بعض من قال به من المخالف أو المؤالف زيادة شيء يسير كالجملة أو الآية[1] أو النقص أو التغيير في جملة أو آية في كلماتها أو إعرابها، و أما جل الكتاب الإلهي فهو على ما هو في عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لم يضع و لم يفقد.
ثم إنا نجد القرآن يتحدى بأوصاف ترجع إلى عامة آياته و نجد ما بأيدينا من القرآن أعني ما بين الدفتين واجدا لما وصف به من أوصاف تحدى بها من غير أن يتغير في شيء منها أو يفوته و يفقد.
فنجده يتحدى بالبلاغة و الفصاحة و نجد ما بأيدينا مشتملا على ذلك النظم العجيب البديع لا يعدله و لا يشابهه شيء من كلام البلغاء و الفصحاء المحفوظ منهم و المروي عنهم من شعر أو نثر أو خطبة أو رسالة أو محاورة أو غير ذلك و هذا النظم موجود في جميع الآيات سواء كتابا متشابها مثاني تقشعر منه الجلود و القلوب.
و نجده يتحدى بقوله: ﴿أَ فَلاَ يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ وَ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلاَفاً كَثِيراً﴾: النساء: ٨٢ بعدم وجود اختلاف فيه و نجد ما بأيدينا من القرآن يفي بذلك أحسن الوفاء و أوفاه فما من إبهام أو خلل يتراءى في آية إلا و يرفعه آية أخرى، و ما من خلاف أو مناقضة يتوهم بادئ الرأي من شطر إلا و هناك ما يدفعه و يفسره.
و نجده يتحدى بغير ذلك مما لا يختص فهمه بأهل اللغة العربية كما في قوله: ﴿قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلىَ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا اَلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾: إسراء: ٨٨ و قوله: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَ مَا هُوَ بِالْهَزْلِ﴾: الطارق: ١٤ ثم نجد ما بأيدينا من القرآن يستوفي البيان في صريح الحق الذي لا مرية فيه، و يهدي إلى آخر ما يهتدي إليه العقل من أصول المعارف الحقيقية و كليات الشرائع الفطرية و تفاصيل الفضائل الخلقية من غير أن نعثر فيها على شيء من النقيصة و الخلل أو نحصل على شيء من التناقض و الزلل بل نجد جميع المعارف على سعتها و كثرتها حية بحياة واحدة مدبرة بروح واحد هو مبدأ جميع المعارف القرآنية و الأصل الذي إليه ينتهي الجميع و يرجع و هو التوحيد فإليه ينتهي الجميع بالتحليل و هو يعود إلى كل منها بالتركيب.
و نجده يغوص في أخبار الماضين من الأنبياء و أممهم و نجد ما عندنا من كلام الله يورد قصصهم و يفصل القول فيها على ما يليق بطهارة الدين و يناسب نزاهة ساحة النبوة و خلوصها للعبودية و الطاعة و كلما طبقنا قصة من القصص القرآنية على ما يماثلها مما ورد في العهدين انجلى ذلك أحسن الانجلاء.
و نجده يورد آيات في الملاحم و يخبر عن الحوادث الآتية في آيات كثيرة بالتصريح
أو بالتلويح ثم نجدها فيما هو بأيدينا من القرآن على تلك الشريطة صادقة مصدقة.
و نجده يصف نفسه بأوصاف زاكية جميلة كما يصف نفسه بأنه نور و أنه هاد يهدي إلى صراط مستقيم و إلى الملة التي هي أقوم و نجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئا من ذلك و لا يهمل من أمر الهداية و الدلالة و لا دقيقة.
و من أجمع الأوصاف التي يذكرها القرآن لنفسه أنه ذكر لله فإنه يذكر به تعالى بما أنه آية دالة عليه حية خالدة و بما أنه يصفه بأسمائه الحسنى و صفاته العليا، و يصف سنته في الصنع و الإيجاد، و يصف ملائكته و كتبه و رسله، و يصف شرائعه و أحكامه، و يصف ما ينتهي إليه أمر الخلقة و هو المعاد و رجوع الكل إليه سبحانه، و تفاصيل ما يئول إليه أمر الناس من السعادة و الشقاء، و الجنة و النار.
ففي جميع ذلك ذكر الله، و هو الذي يرومه القرآن بإطلاق القول بأنه ذكر و نجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئا من معنى الذكر.
و لكون الذكر من أجمع الصفات في الدلالة على شئون القرآن عبر عنه بالذكر في الآيات التي أخبر فيها عن حفظه القرآن عن البطلان و التغيير و التحريف كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَ فَمَنْ يُلْقىَ فِي اَلنَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَ يَأْتِيهِ اَلْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾: حم السجدة: ٤٢ فذكر تعالى أن القرآن من حيث هو ذكر لا يغلبه باطل و لا يدخل فيه حالا و لا في مستقبل الزمان لا بإبطال و لا بنسخ و لا بتغيير أو تحريف يوجب زوال ذكريته عنه.
و كقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾: الحجر: ٩ أطلق الذكر و أطلق الحفظ فالقرآن محفوظ بحفظ الله عن كل زيادة و نقيصة و تغيير في اللفظ أو في الترتيب يزيله عن الذكرية و يبطل كونه ذكرا لله سبحانه بوجه.
و من سخيف القول إرجاع ضمير ﴿لَهُ﴾ إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فإنه مدفوع بالسياق و إنما كان المشركون يستهزءون بالنبي لأجل القرآن الذي كان يدعي نزوله عليه كما يشير إليه بقوله سابقا: ﴿وَ قَالُوا يَا أَيُّهَا اَلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ و قد
مر تفسير الآية.
فقد تبين مما فصلناه أن القرآن الذي أنزله الله على نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) و وصفه بأنه ذكر محفوظ على ما أنزل مصون بصيانة إلهية عن الزيادة و النقيصة و التغيير كما وعد الله نبيه فيه.
و خلاصة الحجة أن القرآن أنزله الله على نبيه و وصفه في آيات كثيرة بأوصاف خاصة لو كان تغير في شيء من هذه الأوصاف بزيادة أو نقيصة أو تغيير في لفظ أو ترتيب مؤثر فقد آثار تلك الصفة قطعا لكنا نجد القرآن الذي بأيدينا واجدا لآثار تلك الصفات المعدودة على أتم ما يمكن و أحسن ما يكون فلم يقع فيه تحريف يسلبه شيئا من صفاته فالذي بأيدينا منه هو القرآن المنزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بعينه فلو فرض سقوط شيء منه أو تغير في إعراب أو حرف أو ترتيب وجب أن يكون في أمر لا يؤثر في شيء من أوصافه كالإعجاز و ارتفاع الاختلاف و الهداية و النورية و الذكرية و الهيمنة على سائر الكتب السماوية إلى غير ذلك، و ذلك كآية مكررة ساقطة أو اختلاف في نقطة أو إعراب و نحوها.
الفصل ٢ الاستدلال عليه بالحديث
و يدل على عدم وقوع التحريف الأخبار الكثيرة المروية عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من طرق الفريقين الآمرة بالرجوع إلى القرآن عند الفتن و في حل عقد المشكلات.
و كذا حديث الثقلين المتواتر من طرق الفريقين: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا» الحديث فلا معنى للأمر بالتمسك بكتاب محرف و نفي الضلال أبدا ممن تمسك به.
و كذا الأخبار الكثيرة الواردة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أئمة أهل البيت (عليه السلام) الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب، و ما ذكره بعضهم أن ذلك في الأخبار الفقهية و من الجائز أن نلتزم بعدم وقوع التحريف في خصوص آيات الأحكام و لا ينفع ذلك سائر الآيات مدفوع بأن أخبار العرض مطلقة فتخصيصها بذلك تخصيص من غير مخصص.
على أن لسان أخبار العرض كالصريح أو هو صريح في أن الأمر بالعرض إنما هو
لتمييز الصدق من الكذب و الحق من الباطل و من المعلوم أن الدس و الوضع غير مقصورين في أخبار الفقه بل الدواعي إلى الدس و الوضع في المعارف الاعتقادية و قصص الأنبياء و الأمم الماضين و أوصاف المبدإ و المعاد أكثر و أوفر و يؤيد ذلك ما بأيدينا من الإسرائيليات و ما يحذو حذوها مما أمر الجعل فيها أوضح و أبين.
و كذا الأخبار التي تتضمن تمسك أئمة أهل البيت (عليه السلام) بمختلف الآيات القرآنية في كل باب على ما يوافق القرآن الموجود عندنا حتى في الموارد التي فيها آحاد من الروايات بالتحريف، و هذا أحسن شاهد على أن المراد في كثير من روايات التحريف من قولهم (عليه السلام) كذا نزل هو التفسير بحسب التنزيل في مقابل البطن و التأويل.
و كذا الروايات الواردة عن أمير المؤمنين و سائر الأئمة من ذريته (عليه السلام) في أن ما بأيدي الناس قرآن نازل من عند الله سبحانه و إن كان غير ما ألفه علي (عليه السلام) من المصحف و لم يشركوه (عليه السلام) في التأليف في زمن أبي بكر و لا في زمن عثمان و من هذا الباب- قولهم (عليه السلام) لشيعتهم: اقرءوا كما قرأ الناس». و مقتضى هذه الروايات أن لو كان القرآن الدائر بين الناس مخالفا لما ألفه علي (عليه السلام) في شيء فإنما يخالفه في ترتيب السور أو في ترتيب بعض الآيات التي لا يؤثر اختلال ترتيبها في مدلولها شيئا و لا في الأوصاف التي وصف الله سبحانه بها القرآن النازل من عنده ما يختل به آثارها.
فمجموع هذه الروايات على اختلاف أصنافها يدل دلالة قاطعة على أن الذي بأيدينا من القرآن هو القرآن النازل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من غير أن يفقد شيئا من أوصافه الكريمة و آثارها و بركاتها.
الفصل ٣ كلام مثبتي التحريف و جوابه
ذهب جماعة من محدثي الشيعة و الحشوية و جماعة من محدثي أهل السنة إلى وقوع التحريف بمعنى النقص و التغيير في اللفظ أو الترتيب دون الزيادة فلم يذهب إليها أحد من المسلمين كما قيل.
و احتجوا على نفي الزيادة بالإجماع و على وقوع النقص و التغيير بوجوه كثيرة.
أحدها: الأخبار الكثيرة المروية من طرق الشيعة و أهل السنة الدالة على سقوط بعض السور و الآيات و كذا الجمل و أجزاء الجمل و الكلمات و الحروف في الجمع الأول الذي ألف فيه القرآن في زمن أبي بكر و كذا في الجمع الثاني الذي كان في زمن عثمان و كذا التغيير و هذه روايات كثيرة روتها الشيعة في جوامعها المعتبرة و غيرها، و قد ادعى بعضهم أنها تبلغ ألفي حديث، و روتها أهل السنة في صحاحهم كصحيحي البخاري و مسلم و سنن أبي داود و السنائي و أحمد و سائر الجوامع و كتب التفاسير و غيرها و قد ذكر الآلوسي في تفسيره أنها فوق حد الإحصاء.
و هذا غير ما يخالف فيه مصحف عبد الله بن مسعود المصحف المعروف مما ينيف على ستين موضعا، و ما يخالف فيه مصحف أبي بن كعب المصحف العثماني و هو في بضع و ثلاثين موضعا، و ما يختلف فيه المصاحف العثمانية التي اكتتبها و أرسلها إلى الآفاق و هي خمسة أو سبعة أرسلها إلى مكة و إلى الشام و إلى البصرة و إلى الكوفة و إلى اليمن و إلى البحرين و حبس واحدا بالمدينة و الاختلاف الذي فيما بينها يبلغ خمسة و أربعين حرفا، و قيل: بضع و خمسين حرفا.[2]
و غير الاختلاف في الترتيب بين المصاحف العثمانية و الجمع الأول في زمن أبي بكر فقد كانت سورة الأنفال في التأليف الأول في المثاني و سورة براءة في المئين و هما في الجمع الثاني موضوعتان في الطوال على ما ستجيء روايته.
و غير الاختلاف في ترتيب السور الموجود بين مصحفي عبد الله بن مسعود و أبي ابن كعب على ما وردت به الرواية و بين المصاحف العثمانية و غير الاختلافات القرائية الشاذة التي رويت عن الصحابة و التابعين فربما بلغ عدد المجموع الألف أو زاد عليه.
الوجه الثاني: أن العقل يحكم بأنه إذا كان القرآن متفرقا متشتتا منتشرا عند الناس و تصدى لجمعه غير المعصوم يمتنع عادة أن يكون جمعه كاملا موافقا للواقع.
الوجه الثالث: ما روته العامة و الخاصة: أن عليا (عليه السلام) اعتزل الناس بعد رحلة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لم يرتد إلا للصلاة حتى جمع القرآن ثم حمله إلى الناس و أعلمهم أنه القرآن
الذي أنزله الله على نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد جمعه فردوه و استغنوا عنه بما جمعه لهم زيد بن ثابت و لو لم يكن بعض ما فيه مخالفا لبعض ما في مصحف زيد لم يكن لحملة إليهم و إعلامهم و دعوتهم إليه وجه، و قد كان (عليه السلام) أعلم الناس بكتاب الله بعد نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد أرجع الناس إليه في حديث الثقلين المتواتر
و قال في الحديث المتفق عليه: علي مع الحق و الحق مع علي.
الوجه الرابع: ما ورد من الروايات أنه يقع في هذه الأمة ما وقع في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل و القذة، بالقذة و قد حرفت بنو إسرائيل كتاب نبيهم على ما يصرح به القرآن الكريم و الروايات المأثورة، فلا بد أن يقع نظيره في هذه الأمة فيحرفوا كتاب ربهم و هو القرآن الكريم.
ففي صحيح البخاري، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر و ذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموه قلنا:
يا رسول الله بآبائنا و أمهاتنا اليهود و النصارى؟ قال: فمن؟:
و الرواية مستفيضة مروية في جوامع الحديث عن عدة من الصحابة كأبي سعيد الخدري كما مر و أبي هريرة و عبد الله بن عمر، و ابن عباس و حذيفة و عبد الله بن مسعود و سهل بن سعد و عمر بن عوف و عمرو بن العاص و شداد بن أوس و المستورد بن شداد في ألفاظ متقاربة. و هي مروية مستفيضة من طرق الشيعة عن عدة من أئمة أهل البيت (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)
كما في تفسير القمي، عنه (ص): لتركبن سبيل من كان قبلكم حذو النعل بالنعل و القذة بالقذة لا تخطئون طريقهم و لا تخطئ شبر بشبر و ذراع بذراع و باع بباع حتى أن لو كان من قبلكم دخل جحر ضب لدخلتموه قالوا: اليهود و النصارى تعني يا رسول الله؟ قال: فمن أعني؟ لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة فيكون أول ما تنقضون من دينكم الأمانة و آخره الصلاة.
و الجواب عن استدلالهم بإجماع الأمة على نفي تحريف القرآن بالزيادة بأنها حجة مدخولة لكونها دورية.
بيان ذلك: أن الإجماع ليس في نفسه حجة عقلية يقينية بل هو عند القائلين
باعتباره حجة شرعية لو أفاد شيئا من الاعتقاد فإنما يفيد الظن سواء في ذلك محصله و منقوله على خلاف ما يزعمه كثير منهم أن الإجماع المحصل مفيد للقطع و ذلك أن الذي يفيده الإجماع من الاعتقاد لا يزيد على مجموع الاعتقادات التي تفيدها آحاد الأقوال و الواحد من الأقوال المتوافقة لا يفيد إلا الظن بإصابة الواقع، و انضمام القول الثاني الذي يوافقه إليه إنما يفيد قوة الظن دون القطع لأن القطع اعتقاد خاص بسيط مغاير للظن و ليس بالمركب من عدة ظنون.
و هكذا كلما انضم قول إلى قول و تراكمت الأقوال المتوافقة زاد الظن قوة و تراكمت الظنون و اقتربت من القطع من غير أن تنقلب إليه كما تقدم، هذا في المحصل من الإجماع و هو الذي نحصله بتتبع جميع الأقوال و الحصول على كل قول قول، و أما المنقول منه الذي ينقله الواحد و الاثنان من أهل العلم و البحث فالأمر فيه أوضح فهو كآحاد الروايات لا يفيد إلا الظن إن أفاد شيئا من الاعتقاد.
فالإجماع حجة ظنية شرعية دليل اعتبارها عند أهل السنة مثلا قوله (ص): «لا تجتمع أمتي على خطإ أو ضلال» و عند الشيعة دخول قول المعصوم في أقوال المجمعين أو كشف أقوالهم عن قوله بوجه.
فحجية الإجماع بالجملة متوقفة على صحة النبوة و ذلك ظاهر، و صحة النبوة اليوم متوقفة على سلامة القرآن من التحريف المستوجب لزوال صفات القرآن الكريمة عنه كالهداية و فصل القول و خاصة الإعجاز فإنه لا دليل حيا خالدا على خصوص نبوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) غير القرآن الكريم بكونه آية معجزة، و مع احتمال التحريف بزيادة أو نقيصة أو أي تغيير آخر لا وثوق بشيء من آياته و محتوياته أنه كلام الله محضا و بذلك تسقط الحجة و تفسد الآية، و مع سقوط كتاب الله عن الحجية يسقط الإجماع عن الحجية.
و لا ينفع في المقام ما قدمناه في أول الكلام أن وجود القرآن المنزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيما بأيدينا من القرآن في الجملة من ضروريات التاريخ.
و ذلك لأن مجرد اشتمال ما بأيدينا منه على القرآن الواقعي لا يدفع احتمال زيادة أو نقيصة أو أي تغيير آخر في كل آية أو جملة أريد التمسك بها لإثبات مطلوب.
و الجواب عن الوجه الأول الذي أقيم لوقوع التحريف بالنقص و التغيير و هو الذي تمسك فيه بالأخبار:
أما أولا فبأن التمسك بالأخبار بما أنها حجة شرعية يشتمل من الدور على ما يشتمل عليه التمسك بالإجماع بنظير البيان الذي تقدم آنفا.
فلا يبقى للمستدل بها إلا أن يتمسك بها بما أنها أسناد و مصادر تاريخية و ليس فيها حديث متواتر و لا محفوف بقرائن قطعية تضطر العقل إلى قبوله بل هي آحاد متفرقة متشتتة مختلفة منها صحاح و منها ضعاف في أسنادها و منها قاصرة في دلالتها فما أشذ منها ما هو صحيح في سنده تام في دلالته.
و هذا النوع على شذوذه و ندرته غير مأمون فيه الوضع و الدس فإن انسراب الإسرائيليات و ما يلحق بها من الموضوعات و المدسوسات بين رواياتنا لا سبيل إلى إنكاره و لا حجية في خبر لا يؤمن فيه الدس و الوضع.
و مع الغض عن ذلك فهي تذكر من الآيات و السور ما لا يشبه النظم القرآني بوجه، و مع الغض عن جميع ذلك فإنها مخالفة للكتاب مردودة:
أما ما ذكرنا أن أكثرها ضعيفة الأسناد فيعلم ذلك بالرجوع إلى أسانيدها فهي مراسيل أو مقطوعة الأسناد أو ضعيفتها، و السالم منها من هذه العلل أقل قليل.
و أما ما ذكرنا أن منها ما هو قاصر في دلالتها فإن كثيرا مما وقع فيها من الآيات المحكية من قبيل التفسير و ذكر معنى الآيات لا من حكاية متن الآية المحرفة و ذلك كما
في روضة الكافي، عن أبي الحسن الأول: في قول الله: ﴿أُولَئِكَ اَلَّذِينَ يَعْلَمُ اَللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ فقد سبقت عليهم كلمة الشقاء و سبق لهم العذاب ﴿وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً﴾.
و ما في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا﴾ قال:
إن تلووا الأمر و تعرضوا عما أمرتم به ﴿فَإِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ إلى غير ذلك من روايات التفسير المعدودة من أخبار التحريف.
و يلحق بهذا الباب ما لا يحصى من الروايات المشيرة إلى سبب النزول المعدودة من أخبار التحريف كالروايات التي تذكر هذه الآية هكذا: ﴿يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا
أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ في علي و الآية نازلة في حقه (عليه السلام)، و ما روي :أن وفد بني تميم كانوا إذا قدموا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) وقفوا على باب الحجرة و نادوه أن اخرج إلينا فذكرت الآية فيها هكذا: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ اَلْحُجُرَاتِ ﴾ بنو تميم ﴿أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ فظن أن في الآية سقطا.
و يلحق بهذا الباب أيضا ما لا يحصى من الأخبار الواردة في جري القرآن و انطباقه كما ورد في قوله: ﴿وَ سَيَعْلَمُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ آل محمد حقهم و ما ورد من قوله: ﴿وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ﴾ في ولاية علي و الأئمة من بعده ﴿فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ و هي كثيرة جدا.
و يلحق بها أيضا ما أتبع فيه القراءة بشيء من الذكر و الدعاء فتوهم أنه من سقط القرآن كما
في الكافي، عن عبد العزيز بن المهتدي قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن التوحيد فقال: كل من قرأ ﴿قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ﴾ و آمن بها فقد عرف التوحيد، قال: [قلت] كيف نقرؤها؟ قال: كما يقرؤها الناس و زاد فيه كذلك الله ربي كذلك الله ربي.
و من قبيل قصور الدلالة ما نجد في كثير من الآيات المعدودة من المحرفة اختلاف الروايات في لفظ الآية كالتي وردت في قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللَّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ ففي بعضها أن الآية هكذا: «و لقد نصركم الله ببدر و أنتم ضعفاء» و في بعضها: «و لقد نصركم الله ببدر و أنتم قليل.
و هذا الاختلاف ربما كان قرينة على أن المراد هو التفسير بالمعنى كما في الآية المذكورة و يؤيده
ما ورد في بعضها من قوله (عليه السلام): لا يجوز وصفهم بأنهم أذلة و فيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) . و ربما لم يكن إلا من التعارض و التنافي بين الروايات القاضي بسقوطها كآية الرجم على ما ورد في روايات الخاصة و العامة و هي في بعضها : «إذا زنى الشيخ و الشيخة فارجموهما البتة فإنهما قضيا الشهوة. و في بعضها. «الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة فإنهما قضيا الشهوة، و في بعضها «بما قضيا من اللذة» و في بعضها آخرها:
«نكالا من الله و الله عليم حكيم» و في بعضها: ﴿نَكَالاً مِنَ اَللَّهِ وَ اَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
و كآية الكرسي على التنزيل التي وردت فيها روايات فهي في بعضها هكذا:
﴿اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لاَ نَوْمٌ لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ ﴾و ما بينهما و ما تحت الثرى عالم الغيب و الشهادة فلا يظهر على غيبه أحدا ﴿مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ ﴾ إلى قوله ﴿وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْعَظِيمُ﴾ و الحمد لله رب العالمين.
و في بعضها إلى قوله ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ و الحمد لله رب العالمين، و في بعضها هكذا: ﴿لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ﴾ و ما بينهما و ما تحت الثرى عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم» إلخ. و في بعضها: «عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم بديع السماوات و الأرض ذو الجلال و الإكرام رب العرش العظيم» و في بعضها: عالم الغيب و الشهادة العزيز الحكيم».
و ما ذكره بعض المحدثين أن اختلاف هذه الروايات في الآيات المنقولة غير ضائر لاتفاقها في أصل التحريف. مردود بأن ذلك لا يصلح ضعف الدلالة و دفع بعضها لبعض.
و أما ما ذكرنا من شيوع الدس و الوضع في الروايات فلا يرتاب فيه من راجع الروايات المنقولة في الصنع و الإيجاد و قصص الأنبياء و الأمم و الأخبار الواردة في تفاسير الآيات و الحوادث الواقعة في صدر الإسلام و أعظم ما يهم أمره لأعداء الدين و لا يألون جهدا في إطفاء نوره و إخماد ناره و إعفاء أثره هو القرآن الكريم الذي هو الكهف المنيع و الركن الشديد الذي يأوي إليه و يتحصن به المعارف الدينية و السند الحي الخالد لمنشور النبوة و مواد الدعوة لعلمهم بأنه لو بطلت حجة القرآن لفسد بذلك أمر النبوة و اختل نظام الدين و لم يستقر من بنيته حجر على حجر.
و العجب من هؤلاء المحتجين بروايات منسوبة إلى الصحابة أو إلى أئمة أهل البيت (عليه السلام) على تحريف كتاب الله سبحانه و إبطال حجيته، و ببطلان حجة القرآن تذهب النبوة سدى و المعارف الدينية لغا لا أثر لها، و ما ذا يغني قولنا: إن رجلا في تاريخ كذا ادعى النبوة و أتى بالقرآن معجزة أما هو فقد مات و أما قرآنه فقد حرف، و لم يبق بأيدينا مما يؤيد أمره إلا أن المؤمنين به أجمعوا على صدقه في دعواه و أن القرآن الذي جاء به كان معجزا دالا على نبوته، و الإجماع حجة لأن النبي المذكور اعتبر حجيته أو لأنه يكشف مثلا عن قول أئمة أهل بيته.
و بالجملة احتمال الدس و هو قريب جدا مؤيد بالشواهد و القرائن يدفع
حجية هذه الروايات و يفسد اعتبارها فلا يبقى معه لها لا حجية شرعية و لا حجية عقلائية حتى ما كان منها صحيح الأسناد فإن صحة السند و عدالة رجال الطريق إنما يدفع تعمدهم الكذب دون دس غيرهم في أصولهم و جوامعهم ما لم يرووه.
و أما ما ذكرناه أن روايات التحريف تذكر آيات و سورا لا يشبه نظمها النظم القرآني بوجه فهو ظاهر لمن راجعها فإنه يعثر فيها بشيء كثير من ذلك كسورتي الخلع و الحفد اللتين رويتا بعدة من طرق أهل السنة فسورة الخلع هي: بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك و نستغفرك، و نثني عليك و لا نكفرك، و نخلع و نترك من يفجرك» و سورة الحفد هي: «بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد و لك نصلي و نسجد و إليك نسعى و نحفد، نرجو رحمتك و نخشى نقمتك إن عذابك بالكافرين ملحق».
و كذا ما أورده بعض الروايات من سورة الولاية و غيرها أقاويل مختلقة رام واضعها أن يقلد النظم القرآني فخرج الكلام عن الأسلوب العربي المألوف و لم يبلغ النظم الإلهي المعجز فعاد يستبشعه الطبع و ينكره الذوق و لك أن تراجعها حتى تشاهد صدق ما ادعيناه و تقضي أن أكثر المعتنين بهذه السور و الآيات المختلقة المجعولة إنما دعاهم إلى ذلك التعبد الشديد بالروايات و الإهمال في عرضها على الكتاب، و لو لا ذلك لكفتهم للحكم بأنها ليست بكلام إلهي نظرة.
و أما ما ذكرنا أن روايات التحريف على تقدير صحة أسنادها مخالفة للكتاب فليس المراد به مجرد مخالفتها لظاهر قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ و قوله: ﴿وَ إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَ يَأْتِيهِ اَلْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ﴾ الآيتان حتى تكون مخالفة ظنية لكون ظهور الألفاظ من الأدلة الظنية بل المراد مخالفتها للدلالة القطعية من مجموع القرآن الذي بأيدينا حسب ما قررناه في الحجة الأولى التي أقمناها لنفي التحريف.
كيف لا؟ و القرآن الذي بأيدينا متشابه الأجزاء في نظمه البديع المعجز كاف في رفع الاختلافات المتراءاة بين آياته و أبعاضه غير ناقص و لا قاصر في إعطاء معارفه الحقيقية و علومه الإلهية الكلية و الجزئية المرتبطة بعضها ببعض المترتبة فروعها على أصولها المنعطفة أطرافها على أوساطها إلى غير ذلك من خواص النظم القرآني الذي
وصفه الله بها.
و الجواب عن الوجه الثاني أن دعوى الامتناع العادي مجازفة بينة نعم يجوز العقل عدم موافقة التأليف في نفسه للواقع إلا أن تقوم قرائن تدل على ذلك و هي قائمة كما قدمنا، و أما أن يحكم العقل بوجوب مخالفتها للواقع كما هو مقتضى الامتناع العادي فلا.
و الجواب عن الوجه الثالث أن جمعه (عليه السلام) القرآن و حمله إليهم و عرضه عليهم لا يدل على مخالفة ما جمعه لما جمعوه في شيء من الحقائق الدينية الأصلية أو الفرعية إلا أن يكون في شيء من ترتيب السور أو الآيات من السور التي نزلت نجوما بحيث لا يرجع إلى مخالفة في بعض الحقائق الدينية.
و لو كان كذلك لعارضهم بالاحتجاج و دافع فيه و لم يقنع بمجرد إعراضهم عما جمعه و استغنائهم عنه كما روي عنه (عليه السلام) في موارد شتى و لم ينقل عنه (عليه السلام) فيما روي من احتجاجاته أنه قرأ في أمر ولايته و لا غيرها آية أو سورة تدل على ذلك، و جبههم على إسقاطها أو تحريفها.
و هل كان ذلك حفظا لوحدة المسلمين و تحرزا عن شق العصا فإنما كان يتصور ذلك بعد استقرار الأمر و اجتماع الناس على ما جمع لهم لا حين الجمع و قبل أن يقع في الأيدي و يسير في البلاد.
و ليت شعري هل يسعنا أن ندعي أن ذاك الجم الغفير من الآيات التي يرون سقوطها و ربما ادعوا أنها تبلغ الألوف كانت جميعا في الولاية أو كانت خفية مستورة عن عامة المسلمين لا يعرفها إلا النزر القليل منهم مع توفر دواعيهم و كثرة رغباتهم على أخذ القرآن كلما نزل و تعلمه و بلوغ اجتهاد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في تبليغه و إرساله إلى الآفاق و تعليمه و بيانه، و قد نص على ذلك القرآن قال تعالى: ﴿وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ﴾: الجمعة: ٢ و قال: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾: النحل: ٤٤ فكيف ضاع؟ و أين ذهب؟ ما يشير إليه بعض المراسيل أنه سقط في آية من أول سورة النساء بين قوله:
﴿وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي اَلْيَتَامىَ﴾ و قوله: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّسَاءِ﴾ أكثر من ثلث القرآن أي أكثر من ألفي آية، و ما ورد من طرق أهل السنة أن سورة
براءة كانت مبسملة تعدل سورة البقرة، و أن الأحزاب كانت أعظم من البقرة و قد سقطت منه مائتا آية إلى غير ذلك!.
أو أن هذه الآيات و قد دلت هذه الروايات على بلوغها في الكثرة - كانت منسوخة التلاوة كما ذكره جمع من المفسرين من أهل السنة حفظا لما ورد في بعض رواياتهم أن من القرآن ما أنساه الله و نسخ تلاوته.
فما معنى إنساء الآية و نسخ تلاوتها؟ أ كان ذلك لنسخ العمل بها فما هي هذه الآيات المنسوخة الواقعة في القرآن كآية الصدقة و آية نكاح الزانية و الزاني و آية العدة و غيرها؟ و هم مع ذلك يقسمون منسوخ التلاوة إلى منسوخ التلاوة و العمل معا و منسوخ التلاوة دون العمل كآية الرجم.
أم كان ذلك لكونها غير واجدة لبعض صفات كلام الله حتى أبطلها الله بإمحاء ذكرها و إذهاب أثرها فلم يكن من الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، و لا منزها من الاختلاف، و لا قولا فصلا و لا هاديا إلى الحق و إلى طريق مستقيم، و لا معجزا يتحدى به و لا، و لا، فما معنى الآيات الكثيرة التي تصف القرآن بأنه في لوح محفوظ، و أنه كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، و أنه قول فصل، و أنه هدى، و أنه نور، و أنه فرقان بين الحق و الباطل، و أنه آية معجزة، و أنه، و أنه؟.
فهل يسعنا أن نقول: إن هذه الآيات على كثرتها و إباء سياقها عن التقييد مقيدة بالبعض فبعض الكتاب فقط و هو غير المنسي و منسوخ التلاوة لا يأتيه الباطل و قول فصل و هدى و نور و فرقان و معجزة خالدة؟.
و هل جعل الكلام منسوخ التلاوة و نسيا منسيا غير إبطاله و إماتته؟ و هل صيرورة القول النافع بحيث لا ينفع للأبد و لا يصلح شأنا مما فسد غير إلغائه و طرحه و إهماله؟ و كيف يجامع ذلك كون القرآن ذكرا؟.
فالحق أن روايات التحريف المروية من طرق الفريقين و كذا الروايات المروية في نسخ تلاوة بعض الآيات القرآنية مخالفة للكتاب مخالفة قطعية.
و الجواب عن الوجه الرابع: أن أصل الأخبار القاضية بمماثلة الحوادث الواقعة في
هذه الأمة لما وقع في بني إسرائيل مما لا ريب فيه، و هي متظافرة أو متواترة، لكن هذه الروايات لا تدل على المماثلة من جميع الجهات، و هو ظاهر بل الضرورة تدفعه.
فالمراد بالمماثلة هي المماثلة في الجملة من حيث النتائج و الآثار، و حينئذ فمن الجائز أن تكون مماثلة هذه الأمة لبني إسرائيل في مسألة تحريف الكتاب إنما هي في حدوث الاختلاف و التفرق بين الأمة بانشعابها إلى مذاهب شتى يكفر بعضهم بعضا و افتراقها إلى ثلاث و سبعين فرقة كما افترقت النصارى إلى اثنتين و سبعين و اليهود إلى واحدة و سبعين و قد ورد هذا المعنى في كثير من هذه الروايات حتى ادعى بعضهم كونها متواترة.
و من المعلوم أن الجميع مستندون فيما اختاروه إلى كتاب الله، و ليس ذلك إلا من جهة تحريف الكلم عن مواضعه، و تفسير القرآن الكريم بالرأي، و الاعتماد على الأخبار الواردة في تفسير الآيات من غير العرض على الكتاب و تمييز الصحيح منها من السقيم.
و بالجملة أصل الروايات الدالة على المماثلة بين الأمتين لا يدل على شيء من التحريف الذي يدعونه نعم وقع في بعضها ذكر التحريف بالتغيير و الإسقاط، و هذه الطائفة على ما بها من السقم مخالفة للكتاب كما تقدم.
الفصل ٤ الجمع الأول للمصحف
في تاريخ اليعقوبي: قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: يا خليفة رسول الله إن حملة القرآن قد قتل أكثرهم يوم اليمامة فلو جمعت القرآن فإني أخاف عليه أن يذهب حملته، فقال له أبو بكر: أفعل ما لم يفعله رسول الله؟ فلم يزل به عمر حتى جمعه و كتبه في صحف، و كان مفرقا في الجريد و غيرها.
و أجلس خمسة و عشرين رجلا من قريش و خمسين رجلا من الأنصار فقال:
اكتبوا القرآن و اعرضوا على سعيد بن العاص فإنه رجل فصيح.
و روى بعضهم :أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان جمعه لما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أتى به يحمله على جمل فقال: هذا القرآن قد جمعته. قال: و كان قد جزأه سبعة أجزاء ثم ذكر الأجزاء. و في تاريخ أبي الفداء: و قتل في قتال مسيلمة جماعة من القراء من المهاجرين
و الأنصار، و لما رأى أبو بكر كثرة من قتل أمر بجمع القرآن من أفواه الرجال و جريد النخل و الجلود، و ترك ذلك المكتوب عند حفصة بنت عمر زوج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، انتهى.
و الأصل فيما ذكراه الروايات فقد أخرج البخاري في صحيحة عن زيد بن ثابت قال: أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده فقال أبو بكر إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر بقراء القرآن و إني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن، و إني أرى أن تأمر بجمع القرآن، فقلت لعمر: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ؟ قال عمر: هذا و الله خير فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك و رأيت الذي رأى عمر.
قال زيد: قال أبو بكر: إنك شاب عاقل لا نتهمك و قد كنت تكتب الوحي لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فتتبع القرآن فاجمعه فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ؟ قال: هو و الله خير.
فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر و عمر فتتبعت القرآن أجمعه من العسف و اللخاف و صدور الرجال، و وجدت آخر سورة التوبة مع خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ﴾ حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله تعالى ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر.
و عن ابن أبي داود من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال ":قدم عمر فقال: من كان تلقى من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) شيئا من القرآن فليأت به و كانوا يكتبون ذلك في الصحف و الألواح و العسب، و كان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شهيدان. و عنه أيضا من طريق هشام بن عروة عن أبيه و في الطريق انقطاع : أن أبا بكر قال لعمر و لزيد: اقعدوا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه. و في الإتقان عن ابن أشتة في المصاحف، عن الليث بن سعد قال :أول من جمع القرآن أبو بكر و كتبه زيد، و كان الناس يأتون زيد بن ثابت فكان لا يكتب آية إلا
بشاهدي عدل، و إن آخر سورة براءة لم يوجد إلا مع أبي خزيمة بن ثابت فقال:
اكتبوها فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) جعل شهادته بشهادة رجلين فكتب و إن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها لأنه كان وحده. و عن ابن أبي داود في المصاحف، من طريق محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال :أتاني الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر سورة براءة فقال: أشهد أني سمعتهما من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و وعيتهما، فقال عمر: و أنا أشهد لقد سمعتهما ثم قال: لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة فانظروا آخر سورة من القرآن فألحقوها في آخرها. و عنه أيضا من طريق أبي العالية عن أبي بن كعب :أنهم جمعوا القرآن فلما انتهوا إلى الآية التي في سورة براءة ﴿ثُمَّ اِنْصَرَفُوا صَرَفَ اَللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ﴾ ظنوا أن هذا آخر ما أنزل فقال أبي: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أقرأني بعد هذا آيتين ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ﴾ إلى آخر السورة. و في الإتقان، عن الدير عاقولي في فوائده حدثنا إبراهيم بن يسار حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عبيد عن زيد بن ثابت قال: قال :قبض النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لم يكن القرآن جمع في شيء. و في مستدرك الحاكم، بإسناده عن زيد بن ثابت قال :كنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) نؤلف القرآن من الرقاع، الحديث.
أقول: و لعل المراد ضم بعض الآيات النازلة نجوما إلى بعض السور أو إلحاق بعض السور إلى بعضها مما يتماثل صنفا كالطوال و المئين و المفصلات، فقد ورد لها ذكر في الأحاديث النبوية، و إلا فتأليف القرآن و جمعه مصحفا واحدا إنما كان بعد ما قبض النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بلا إشكال، و على مثل هذا ينبغي أن يحمل ما يأتي.
في صحيح النسائي، عن ابن عمر قال: جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة فبلغ النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: اقرأه في شهر. و في الإتقان، عن ابن أبي داود بسند حسن عن محمد بن كعب القرظي قال :جمع القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) خمسة من الأنصار: معاذ بن جبل و عبادة بن الصامت
و أبي بن كعب و أبو الدرداء و أبو أيوب الأنصاري. و فيه، عن البيهقي في المدخل عن ابن سيرين قال :جمع القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أربعة لا يختلف فيهم معاذ بن جبل و أبي بن كعب و أبو زيد و اختلفوا في رجلين من ثلاثة: أبي الدرداء و عثمان» و قيل: عثمان و تميم الداري. و فيه، عنه و عن ابن أبي داود عن الشعبي قال :جمع القرآن في عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) سبعة:
أبي و زيد و معاذ و أبو الدرداء و سعيد بن عبيد و أبو زيد و مجمع بن حارثة، و قد أخذه إلا سورتين أو ثلاث. و فيه، أيضا عن ابن أشتة في كتاب المصاحف من طريق كهمس عن ابن بريدة قال : أول من جمع القرآن في مصحف سالم مولى أبي حذيفة أقسم لا يرتدي برداء حتى يجمعه فجمعه. الحديث.
أقول: أقصى ما تدل عليه هذه الروايات مجرد جمعهم ما نزلت من السور و الآيات، و أما العناية بترتيب السور و الآيات كما هو اليوم أو بترتيب آخر فلا. هذا هو الجمع الأول في عهد أبي بكر.
الفصل ٥ الجمع الثاني للقرآن
و قد جمع القرآن ثانيا في عهد عثمان لما اختلفت المصاحف و كثرت القراءات.
قال اليعقوبي في تاريخه: و جمع عثمان القرآن و ألفه و صير الطوال مع الطوال و القصار مع القصار من السور، و كتب في جمع المصاحف من الآفاق حتى جمعت ثم سلقها بالماء الحار و الخل، و قيل: أحرقها فلم يبق مصحف حتى فعل به ذلك خلا مصحف ابن مسعود.
و كان ابن مسعود بالكوفة فامتنع أن يدفع مصحفه إلى عبد الله بن عامر و كتب [إليه] عثمان أن أشخصه إن لم يكن هذا الدين خبالا و هذه الأمة فسادا فدخل المسجد و عثمان يخطب فقال عثمان: إنه قد قدمت عليكم دابة سوء فكلم ابن مسعود بكلام غليظ فأمر به عثمان فجر برجله حتى كسر له ضلعان فتكلمت عائشة و قالت قولا كثيرا.
و بعث بها إلى الأمصار و بعث بمصحف إلى الكوفة و مصحف إلى البصرة و مصحف إلى المدينة و مصحف إلى مكة و مصحف إلى مصر و مصحف إلى الشام و مصحف إلى البحرين و مصحف إلى اليمن و مصحف إلى الجزيرة.
و أمر الناس أن يقرءوا على نسخة واحدة، و كان سبب ذلك أنه بلغه أن الناس يقولون: قرآن آل فلان فأراد أن يكون نسخته واحدة، و قيل: إن ابن مسعود كان كتب بذلك إليه فلما بلغه أنه كان يحرق المصاحف قال: لم أرد هذا، و قيل: كتب إليه بذلك حذيفة بن اليمان. انتهى موضع الحاجة.
و في الإتقان، روى البخاري عن أنس :أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان و كان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية و آذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال لعثمان: أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود و النصارى فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت و عبد الله بن الزبير و سعيد بن العاص و عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف .
و قال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم و زيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة و أرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا و أمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق .
قال زيد: آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقرأ بها فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري: ﴿مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اَللَّهَ عَلَيْهِ﴾ فألحقناها في سورتها في المصحف.
و فيه، أخرج ابن أشتة من طريق أيوب عن أبي قلابة قال: حدثني رجل من بني عامر يقال له: أنس بن مالك قال :اختلفوا في القرآن على عهد عثمان حتى اقتتل الغلمان و المعلمون فبلغ ذلك عثمان بن عفان فقال: عندي تكذبون به و تلحنون فيه فمن نأى عني كان أشد تكذيبا و أكثر لحنا يا أصحاب محمد اجتمعوا و اكتبوا للناس إماما .
فاجتمعوا فكانوا إذا اختلفوا و تدارءوا في آية قالوا: هذه أقرأها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)
فلانا فيرسل إليه و هو على رأس ثلاث من المدينة فيقال له: كيف أقرأك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) آية كذا و كذا؟ فيقول كذا و كذا فيكتبونها و قد تركوا لذلك مكانا. و فيه، عن ابن أبي داود من طريق ابن سيرين عن كثير بن أفلح قال :لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلا من قريش و الأنصار فبعثوا إلى الربعة التي في بيت عمر فجيء بها و كان عثمان يتعاهدهم فكانوا إذا تدارءوا في شيء أخروه .
قال محمد: فظننت أنما كانوا يؤخرونه لينظروا أحدثهم عهدا بالعرضة الأخيرة فيكتبونه على قوله. و فيه، أخرج ابن أبي داود بسند صحيح عن سويد بن غفلة قال: قال علي: لا تقولوا في عثمان إلا خيرا فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملإ منا قال ما تقولون في هذه القراء؟ فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خير من قراءتك و هذا يكاد يكون كفرا قلنا: فما ترى؟ [قال: أرى] أن يجمع الناس على مصحف واحد فلا يكون فرقة و لا اختلاف. قلنا: فنعم ما رأيت. و في الدر المنثور، أخرج ابن الضريس عن علباء بن أحمر أن عثمان بن عفان :لما أراد أن يكتب المصاحب أرادوا أن يلقوا الواو التي في براءة: ﴿وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ﴾ قال أبي: لتلحقنها أو لأضعن سيفي على عاتقي فألحقوها. و في الإتقان، عن أحمد و أبي داود و الترمذي و النسائي و ابن حبان و الحاكم عن ابن عباس قال :قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال و هي من المثاني و إلى براءة و هي من المئين فقربتم بينهما و لم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم و وضعتموهما في السبع الطوال .
فقال عثمان: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) تنزل عليه السورة ذات العدد فكان إذا أنزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب، فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا و كذا، و كانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، و كانت براءة من آخر القرآن نزولا و كانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها فقبض رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و لم يبين لنا أنها منها .
فمن أجل ذلك قرنت بينهما، و لم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم
و وضعتها في السبع الطوال. أقول: السبع الطوال -على ما يظهر من هذه الرواية و روي أيضا عن أبي جبير هي البقرة و آل عمران و النساء و المائدة و الأنعام و الأعراف و يونس، و قد كانت موضوعة في الجمع الأول على هذا الترتيب ثم غير عثمان هذا الترتيب فأخذ الأنفال و هي من المثاني و براءة و هي من المئين قبل المثاني فوضعهما بين الأعراف و يونس مقدما الأنفال على براءة.
الفصل ٦ حول روايات الجمعين
الروايات الموضوعة في الفصلين السابقين هي أشهر الروايات الواردة في باب جمع القرآن و تأليفه بين صحيحة و سقيمة، و هي تدل على أن الجمع الأول كان جمعا لشتات السور المكتوبة في العسب و اللخاف و الأكتاف و الجلود و الرقاع و إلحاق الآيات النازلة متفرقة إلى سور تناسبها.
و إن الجمع الثاني و هو الجمع العثماني كان رد المصاحف المنتشرة عن الجمع الأول بعد عروض تعارض النسخ و اختلاف القراءات عليها إلى مصحف واحد مجمع عليه عدا ما كان من قول زيد إنه ألحق قوله: ﴿مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اَللَّهَ عَلَيْهِ﴾ الآية، في سورة الأحزاب في المصحف فقد كانت المصاحف تتلى خمس عشرة سنة و ليست فيها الآية.
و قد روى البخاري عن ابن الزبير قال :قلت لعثمان ﴿وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْوَاجاً﴾ قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها؟ قال: يا ابن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه. و الذي يعطيه النظر الحر في أمر هذه الروايات و دلالتها و هي عمدة ما في هذا الباب أنها آحاد غير متواترة لكنها محفوفة بقرائن قطعية فقد كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يبلغ الناس ما نزل إليه من ربه من غير أن يكتم منه شيئا، و كان يعلمهم و يبين لهم ما نزل إليهم من ربهم على ما نص عليه القرآن، و لم يزل جماعة منهم يعلمون و يتعلمون القرآن تعلم تلاوة و بيان و هم القراء الذين قتل جم غفير منهم في غزوة اليمامة.
و كان الناس على رغبة شديدة في أخذ القرآن و تعاطيه و لم يترك هذا الشأن و لا ارتفع القرآن من بينهم و لا يوما أو بعض يوم حتى جمع القرآن في مصحف واحد ثم أجمع عليه فلم يبتل القرآن بما ابتليت به التوراة و الإنجيل و كتب سائر الأنبياء.
أضف إلى ذلك روايات لا تحصى كثرة وردت من طرق الشيعة و أهل السنة في قراءاته (ص) كثيرا من السور القرآنية في الفرائض اليومية و غيرها بمسمع من ملإ الناس، و قد سمي في هذه الروايات جم غفير من السور القرآنية مكيتها و مدنيتها.
أضف إلى ذلك ما تقدم في رواية عثمان بن أبي العاص: في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسَانِ﴾ الآية: النحل: ٩٠ من قوله (ص) إن جبريل أتاني بهذه الآية و أمرني أن أضعها في موضعها من السورة، و نظير الرواية في الدلالة ما دل على قراءته (ص) لبعض السور النازلة نجوما كآل عمران و النساء و غيرها فيدل على أنه (ص) كان يأمر كتاب الوحي بإلحاق بعض الآيات في موضعها.
و أعظم الشواهد القاطعة ما تقدم في أول هذه الأبحاث أن القرآن الموجود بأيدينا واجد لما وصفه الله تعالى من الأوصاف الكريمة.
و بالجملة الذي تدل عليه هذه الروايات هي:
أولا: أن الموجود فيما بين الدفتين من القرآن هو كلام الله تعالى فلم يزد فيه شيء و لم يتغير منه شيء و أما النقص فإنها لا تفي بنفيه نفيا قطعيا كما روي بعدة طرق أن عمر كان يذكر كثيرا آية الرجم و لم تكتب عنه و أما حملهم الرواية و سائر ما ورد في التحريف و قد ذكر الآلوسي في تفسيره أنها فوق حد الإحصاء على منسوخ التلاوة فقد عرفت فساده و تحققت أن إثبات منسوخ التلاوة أشنع من إثبات أصل التحريف.
على أن من كان له مصحف غير ما جمعه زيد أولا بأمر من أبي بكر و ثانيا بأمر من عثمان كعلي (عليه السلام) و أبي بن كعب و عبد الله بن مسعود لم ينكر شيئا مما حواه المصحف الدائر غير ما نقل عن ابن مسعود أنه لم يكتب في مصحفه المعوذتين و كان يقول: إنهما عوذتان نزل بهما جبرئيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ليعوذ بهما الحسنين (عليه السلام)، و قد رده سائر الصحابة و تواترت النصوص من أئمة أهل البيت (عليه السلام) على أنهما سورتان من القرآن.
و بالجملة الروايات السابقة كما ترى آحاد محفوفة بالقرائن القطعية نافية للتحريف بالزيادة و التغيير قطعا دون النقص إلا ظنا، و دعوى بعضهم التواتر من حيث الجهات الثلاث لا مستند لها.
و التعويل في ذلك على ما قدمناه من الحجة في أول هذه الأبحاث أن القرآن الذي بأيدينا واجد للصفات الكريمة التي وصف الله سبحانه بها القرآن الواقعي الذي أنزله على رسوله ص ككونه قولا فصلا و رافعا للاختلاف و ذكرا و هاديا و نورا و مبينا للمعارف الحقيقية و الشرائع الفطرية و آية معجزة إلى غير ذلك من صفاته الكريمة.
و من الحري أن نعول على هذا الوجه فإن حجة القرآن على كونه كلام الله المنزل على رسوله (صلى الله عليه وآله و سلم) هي نفسه المتصفة بهاتيك الصفات الكريمة من غير أن يتوقف في ذلك على أمر آخر وراء نفسه كائنا ما كان فحجته معه أينما تحقق و بيد من كان و من أي طريق وصل.
و بعبارة أخرى لا يتوقف القرآن النازل من عند الله إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في كونه متصفا بصفاته الكريمة على ثبوت استناده إليه (ص) بنقل متواتر أو متظافر و إن كان واجدا لذلك بل الأمر بالعكس فاتصافه بصفاته الكريمة هو الحجة على الاستناد فليس كالكتب و الرسائل المنسوبة إلى المصنفين و الكتاب، و الأقاويل المأثورة عن العلماء و أصحاب الأنظار المتوقفة صحة استنادها إلى نقل قطعي و بلوغ متواتر أو مستفيض مثلا بل نفس ذاته هي الحجة على ثبوته.
و ثانيا: أن ترتيب السور إنما هو من الصحابة في الجمع الأول و الثاني و من الدليل عليه ما تقدم في الروايات من وضع عثمان الأنفال و براءة بين الأعراف و يونس و قد كانتا في الجمع الأول متأخرتين.
و من الدليل عليه ما ورد من مغايرة ترتيب مصاحف سائر الصحابة للجمع الأول و الثاني كليهما كما روي أن مصحف علي (عليه السلام) كان مرتبا على ترتيب النزول فكان أوله اقرأ ثم المدثر ثم نون ثم المزمل ثم تبت ثم التكوير و هكذا إلى آخر المكي و المدني نقله في الإتقان عن ابن فارس، و في تاريخ اليعقوبي ترتيب آخر لمصحفه (عليه السلام).
و نقل عن ابن أشتة في المصاحف بإسناده عن أبي جعفر الكوفي ترتيب مصحف أبي و هو يغاير المصحف الدائر مغايرة شديدة، و كذا عنه فيه بإسناده عن جرير بن عبد الحميد ترتيب مصحف عبد الله بن مسعود آخذا من الطوال ثم المئين ثم المثاني ثم المفصل و هو أيضا مغاير للمصحف الدائر.
و قد ذهب كثير منهم إلى أن ترتيب السور توقيفي و أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) هو الذي أمر بهذا الترتيب بإشارة من جبريل بأمر من الله سبحانه حتى أفرط بعضهم فادعى ثبوت ذلك بالتواتر و ليت شعري أين هذا التواتر و قد تقدمت عمدة روايات الباب و لا أثر فيها من هذا المعنى، و سيأتي استدلال بعضهم على ذلك بما ورد من نزول القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا جملة ثم منها على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) تدريجا.
و ثالثا: أن وقوع بعض الآيات القرآنية التي نزلت متفرقة موقعها الذي هي فيه الآن لم يخل عن مداخلة من الصحابة بالاجتهاد كما هو ظاهر روايات الجمع الأول و قد تقدمت.
و أما رواية عثمان بن أبي العاص عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): «أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من السورة ﴿إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسَانِ﴾ الآية فلا تدل على أزيد من فعله (ص) في بعض الآيات في الجملة لا بالجملة، و على تقدير التسليم لا دلالة لما بأيدينا من الروايات المتقدمة على مطابقة ترتيب الصحابة ترتيبه (ص)، و مجرد حسن الظن بهم لا يسمح للروايات بدلالة تدل بها على ذلك و إنما يفيد أنهم ما كانوا ليعمدوا إلى مخالفة ترتيبه (ص) فيما علموه لا فيما جهلوه. و في روايات الجمع الأول المتقدمة أوضح الشواهد على أنهم ما كانوا على علم بمواضع جميع الآيات و لا بنفسها.
و يدل على ذلك الروايات المستفيضة التي وردت من طرق الشيعة و أهل السنة أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين إنما كانوا يعلمون تمام السورة بنزول البسملة كما رواه أبو داود و الحاكم و البيهقي و البزار من طريق سعيد بن جبير على ما في الإتقان، عن ابن عباس قال :كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لا يعرف فضل السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم زاد البزار: فإذا نزلت عرف أن السورة قد ختمت و استقبلت أو ابتدأت سورة أخرى. و أيضا عن الحاكم من وجه آخر عن سعيد عن ابن عباس قال :كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم فإذا نزلت علموا أن السورة
قد انقضت، إسناده على شرط الشيخين.
و أيضا عنه من وجه آخر عن سعيد عن ابن عباس :أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إذا جاءه جبريل فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم علم أنها سورة، إسناده صحيح.
أقول: و روي ما يقرب من ذلك في عدة روايات أخر و روي ذلك من طرق الشيعة عن الباقر (عليه السلام).
و الروايات كما ترى صريحة في دلالتها على أن الآيات كانت مرتبة عند النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بحسب ترتيب النزول فكانت المكيات في السورة المكية و المدنيات في سورة مدنية اللهم إلا أن يفرض سورة نزل بعضها بمكة و بعضها بالمدينة، و لا يتحقق هذا الفرض إلا في سورة واحدة.
و لازم ذلك أن يكون ما نشاهده من اختلاف مواضع الآيات مستندا إلى اجتهاد من الصحابة.
توضيح ذلك أن هناك ما لا يحصى من روايات أسباب النزول يدل على كون آيات كثيرة في السور المدنية نازلة بمكة و بالعكس و على كون آيات من القرآن نازلة مثلا في أواخر عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هي واقعة في سور نازلة في أوائل الهجرة و قد نزلت بين الوقتين سور أخرى كثيرة، و ذلك كسورة البقرة التي نزلت في السنة الأولى من الهجرة و فيها آيات الربا و قد وردت الروايات على أنها من آخر ما نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) حتى ورد عن عمر أنه قال: مات رسول الله و لم يبين لنا آيات الربا، و فيها قوله تعالى: ﴿وَ اِتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اَللَّهِ﴾ الآية: البقرة: ٢٨١، و قد ورد أنها آخر ما نزل من القرآن على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).
فهذه الآيات النازلة مفرقة الموضوعة في سور لا تجانسها في المكية و المدنية موضوعة في غير موضعها بحسب ترتيب النزول و ليس إلا عن اجتهاد من الصحابة.
و يؤيد ذلك ما في الإتقان، عن ابن حجر :و قد ورد عن علي أنه جمع القرآن على ترتيب النزول عقب موت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أخرجه ابن أبي داود و هو من مسلمات مداليل روايات الشيعة.
هذا ما يدل عليه ظاهر روايات الباب المتقدمة لكن الجمهور أصروا على أن
ترتيب الآيات توقيفي فآيات المصحف الدائر اليوم و هو المصحف العثماني مرتبة على ما رتبها عليه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بإشارة من جبريل، و أولوا ظاهر الروايات بأن جمع الصحابة لم يكن جمع ترتيب و إنما كان جمعا لما كانوا يعلمونه و يحفظونه عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من السور و آياتها المرتبة، بين دفتين و في مكان واحد.
و أنت خبير بأن كيفية الجمع الأول الذي تدل عليها الروايات تدفع هذه الدعوى دفعا صريحا.
و ربما استدل عليه بما ادعاه بعضهم من الإجماع على ذلك فقد نقل السيوطي في الإتقان عن الزركشي دعوى الإجماع عليه و عن أبي جعفر بن الزبير نفي الخلاف فيه بين المسلمين، و هو إجماع منقول لا يعتمد عليه بعد وجود الخلاف في أصل التحريف و دلالة ما تقدم من الروايات على خلافه.
و ربما استدل عليه بالتواتر و يوجد ذلك في كلام كثير منهم ادعوا تواتر الترتيب الموجود عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو عجيب و قد نقل في الإتقان، بعد نقله ما رواه البخاري و غيره بعدة طرق عن أنس أنه قال ":مات النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لم يجمع القرآن غير أربعة.
أبو الدرداء و معاذ بن جبل و زيد بن ثابت و أبو زيد، و في رواية" : «أبي بن كعب» بدل أبي الدرداء عن المازري أنه قال :و قد تمسك بقول أنس هذا جماعة من الملاحدة و لا متمسك لهم فيه فإنا لا نسلم حمله على ظاهره سلمنا و لكن من أين لهم أن الواقع في نفس الأمر كذلك؟ سلمناه لكن لا يلزم من كون كل من الجم الغفير لم يحفظه كله أن لا يكون حفظ مجموعة الجم الغفير و ليس من شرط التواتر أن يحفظ كل فرد جميعه بل إذا حفظ الكل الكل و لو على التوزيع كفى، انتهى.
أما دعواه أن ظاهر كلام أنس غير مراد فهو مما لا يصغي إليه في الأبحاث اللفظية المبنية على ظاهر اللفظ إلا بقرينة من نفس كلام المتكلم أو ما ينوب منابه أما مجرد الدعوى و الاستناد إلى قول آخرين فلا.
على أنه لو حمل كلام أنس على خلاف ظاهره كان من الواجب أن يحمل على أن هؤلاء الأربعة إنما جمعوا في عهد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) معظم القرآن و أكثر سورة و آياته لا على
أنهم و غيرهم من الصحابة جمعوا جميع القرآن على ما في المصحف العثماني و حفظوا ترتيب سوره و آياته و ضبطوا موضع كل واحدة واحدة منها عن آخرها فهذا زيد بن ثابت نفسه و هو أحد الأربعة المذكورين في حديث أنس و المتصدي للجمع الأول و الثاني كليهما يصرح في رواياته أنه لم يحفظ جميع الآيات.
و نظيره ما في الإتقان، عن ابن أشتة في المصاحف بسند صحيح عن محمد بن سيرين قال" :مات أبو بكر و لم يجمع القرآن و قتل عمر و لم يجمع القرآن. و أما قوله: سلمناه و لكن من أين لهم أن الواقع في نفس الأمر كذلك فمقلوب على نفسه فمن أين لهذا القائل أن الواقع في نفس الأمر كما يدعيه و قد عرفت الشواهد على خلاف ما يدعيه؟.
و أما قوله: إنه يكفي في تحقق التواتر أن يحفظ الكل كل القرآن على سبيل التوزيع فمغالطة واضحة لأنه إنما يفيد كون مجموع القرآن من حيث المجموع منقولا بالتواتر و أما كون كل واحدة واحدة من الآيات القرآنية محفوظة من حيث محلها و موضعها بالتواتر فلا و هو ظاهر.
و نقل في الإتقان، عن البغوي أنه قال في شرح السنة ":الصحابة جمعوا بين الدفتين القرآن الذي أنزله الله على رسوله من غير أن زادوا أو نقصوا منه شيئا خوف ذهاب بعضه بذهاب حفظته فكتبوه كما سمعوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من غير أن قدموا شيئا أو أخروه أو وضعوا له ترتيبا لم يأخذوه من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم).
و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يلقن أصحابه و يعلمهم ما نزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل إياه على ذلك و إعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية تكتب عقب آية كذا في سورة كذا .
فثبت أن سعي الصحابة كان في جمعه في موضع واحد - لا في ترتيبه فإن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب أنزله الله جملة إلى السماء الدنيا ثم كان ينزله مفرقا عند الحاجة و ترتيب النزول غير ترتيب التلاوة انتهى.
و نقل عن ابن الحصار أنه قال" :ترتيب السور و وضع الآيات مواضعها -إنما كان بالوحي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: ضعوا آية كذا في موضع كذا، و قد حصل اليقين
من النقل المتواتر بهذا الترتيب من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و إنما أجمع الصحابة على وضعه هكذا في المصحف انتهى: و نقل أيضا ما يقرب من ذلك عن جماعة غيرهم كالبيهقي و الطيبي و ابن حجر. أما قولهم: إن الصحابة إنما كتبوا المصحف على الترتيب الذي أخذوه عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من غير أن يخالفوه في شيء فمما لا يدل عليه شيء من الروايات المتقدمة، و إنما المسلم من دلالتها أنهم إنما أثبتوا ما قامت عليه البينة من متن الآيات و لا إشارة في ذلك إلى كيفية ترتيب الآيات النازلة مفرقة و هو ظاهر نعم في رواية ابن عباس المتقدمة عن عثمان ما يشير إلى ذلك غير أن الذي فيه أنه كان (ص) يأمر بعض كتاب الوحي بذلك و هو غير إعلامه جميع الصحابة ذلك على أن الرواية معارضة بروايات الجمع الأول و أخبار نزول بسم الله و غيرها.
و أما قولهم: إن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لقن الصحابة هذا الترتيب الموجود في مصاحفنا بتوقيف من جبريل و وحي سماوي فكأنه إشارة إلى حديث عثمان بن أبي العاص المتقدم في آية ﴿إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسَانِ﴾ و قد عرفت مما تقدم أنه حديث واحد في خصوص موضع آية واحدة، و أين ذلك من مواضع جميع الآيات المفرقة.
و أما قولهم: إن القرآن مكتوب على هذا الترتيب في اللوح المحفوظ أنزله الله إلى السماء الدنيا ثم أنزله الله مفرقا عند الحاجة إلخ، فإشارة إلى ما روي مستفيضا من طرق الشيعة و أهل السنة من نزول القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثم نزوله منها نجوما إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لكن الروايات ليس فيها أدنى دلالة على كون القرآن مكتوبا في اللوح المحفوظ منظما في السماء الدنيا على الترتيب الموجود في المصحف الذي عندنا و هو ظاهر.
على أنه سيأتي إن شاء الله الكلام في معنى كتابة القرآن في اللوح المحفوظ و نزوله إلى السماء الدنيا في ذيل ما يناسب ذلك من الآيات كأول سورتي الزخرف و الدخان و سورة القدر.
و أما قولهم: إنه قد حصل اليقين بالنقل المتواتر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بهذا الترتيب الموجود في المصاحف فقد عرفت أنه دعوى خالية عن الدليل و أن هذا التواتر
لا خبر عنه بالنسبة إلى كل آية آية كيف و قد تكاثرت الروايات أن ابن مسعود لم يكتب في مصحفه المعوذتين و كان يقول إنهما ليستا من القرآن و إنما نزل بهما جبريل تعويذا للحسنين، و كان يحكهما عن المصاحف، و لم ينقل عنه أنه رجع عن قوله فكيف خفي عليه هذا التواتر طول حياته بعد الجمع الأول.
الفصل ٧ الكلام حول روايات الإنساء
يتعلق بالبحث السابق البحث في روايات الإنساء و قد مرت إشارة إجمالية إليها و هي عدة روايات وردت من طرق أهل السنة في نسخ القرآن و إنسائه حملوا عليها ما ورد من روايات التحريف سقوطا و تغييرا.
فمنها ما في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم و الحاكم في الكنى و ابن عدي و ابن عساكر عن ابن عباس قال ":كان مما ينزل على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) الوحي بالليل و ينساه بالنهار فأنزل الله:
﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾. و فيه، عن أبي داود في ناسخه و البيهقي في الدلائل عن أبي أمامة" :أن رهطا من الأنصار من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أخبروه أن رجلا قام من جوف الليل يريد أن يفتتح سورة كان قد وعاها فلم يقدر منها على شيء إلا بسم الله الرحمن الرحيم و وقع ذلك لناس من أصحابه فأصبحوا فسألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عن السورة فسكت ساعة لم يرجع إليهم شيئا ثم قال: نسخت البارحة فنسخت من صدورهم و من كل شيء كانت فيه. أقول: و القصة مروية بعدة طرق في ألفاظ متقاربة مضمونا.
و فيه، عن عبد الرزاق و سعيد بن منصور و أبي داود في ناسخه و ابنه في المصاحف و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه عن سعد بن أبي وقاص ": أنه قرأ: «ما ننسخ من آية أو ننسأها» فقيل له: إن سعيد بن المسيب يقرأ ﴿نُنْسِهَا﴾ فقال سعد: إن القرآن لم ينزل على المسيب و لا آل المسيب قال الله: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسىَ﴾ ﴿وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾. أقول: يريد بالتمسك بالآيتين أن الله رفع النسيان عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيتعين أن يقرأ «ننسأها» من النسيء بمعنى الترك و التأخير فيكون المراد بقوله: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ﴾ إزالة الآية عن العمل دون التلاوة كآية صدقة النجوى، و بقوله: «أو ننسأها» ترك الآية و رفعها من عندهم بالمرة و إزالتها عن العمل و التلاوة كما روي تفسيرها بذلك عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و غيرهم.
و فيه، أخرج ابن الأنباري عن أبي ظبيان قال" :قال لنا ابن عباس: أي القراءتين تعدون أول؟ قلنا: قراءة عبد الله و قراءتنا هي الأخيرة. فقال: رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يعرض عليه جبريل القرآن كل سنة مرة في شهر رمضان و أنه عرضه عليه في آخر سنة مرتين فشهد منه عبد الله ما نسخ ما بدل. أقول: و هذا المعنى مروي بطرق أخرى عن ابن عباس و عبد الله بن مسعود نفسه و غيرهما من الصحابة و التابعين و هناك روايات أخر في الإنساء.
و محصل ما استفيد منها أن النسخ قد يكون في الحكم كالآيات المنسوخة المثبتة في المصحف، و قد يكون في التلاوة مع نسخ حكمها أو من غير نسخ حكمها و قد تقدم في تفسير قوله: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾: البقرة: ١٠٦ و سيأتي في قوله: ﴿وَ إِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ﴾: النحل: ١٠١ أن الآيتين أجنبيتان عن الإنساء بمعنى نسخ التلاوة، و تقدم أيضا في الفصول السابقة أن هذه الروايات مخالفة لصريح الكتاب فالوجه عطفها على روايات التحريف و طرح القبيلين جميعا.
[سورة الحجر (١٥): الآیات ١٠ الی ١٥]
﴿وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ اَلْأَوَّلِينَ ١٠وَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ١١كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ اَلْمُجْرِمِينَ ١٢لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ قَدْ خَلَتْ سُنَّةُ اَلْأَوَّلِينَ ١٣وَ لَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ اَلسَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ١٤لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ١٥﴾
(بيان)
لما ذكر استهزاءهم بكتابه و نبيه و ما اقترحوا عليه من الإتيان بالملائكة آية للرسالة عقبه بثلاث طوائف من الآيات و هي المصدرة بقوله: ﴿وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ﴾ إلخ و قوله: ﴿وَ لَقَدْ جَعَلْنَا فِي اَلسَّمَاءِ بُرُوجاً﴾ إلخ و قوله: ﴿وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ﴾ إلخ.
فبين في أوليها أن هذا الاستهزاء دأب و سنة جارية للمجرمين و ليسوا بمؤمنين و لو جاءتهم آية آية، و في الثانية أن هناك آيات سماوية و أرضية كافية لمن وفق للإيمان و في الثالثة أن الاختلاف بالإيمان و الكفر في نوع الإنسان و ضلال أهل الضلال مما تعين لهم يوم أبدع الله خلق الإنسان، فخلق آدم و جرى هنالك ما جرى من أمر الملائكة بالسجود و إباء إبليس عن ذلك.
قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ اَلْأَوَّلِينَ﴾ إلى آخر الآيتين. الشيع جمع شيعة و هي الفرقة المتفقة على سنة أو مذهب يتبعونه قال تعالى: ﴿مِنَ اَلَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾: الروم: ٣٢.
و قوله: ﴿وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا﴾ أي رسلا و قد حذف للاستغناء عنه فإن العناية بأصل تحقق الإرسال من قبل من غير نظر إلى من أرسل بل بيان أن البشر الأولين كالآخرين جرت عادتهم على أن لا يحترموا الرسالة الإلهية و يستهزءوا بمن أتى بها و يمضوا على إجرامهم لتكون في ذلك تعزية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فلا يضيق صدره بما قابلوه به من الإنكار و الاستهزاء كما سيعود إليه في آخر السورة بقوله: ﴿وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾ الخ:
الآية - ٩٧ من السورة.
و المعنى: طب نفسا فنحن نزلنا الذكر عليك و نحن نحفظه و لا يضيقن صدرك بما يقولون فهو دأب المجرمين من الأمم الإنسانية أقسم لقد أرسلنا من قبلك في فرق الأولين و شيعهم و حالهم هذه الحال ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون.
قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ اَلْمُجْرِمِينَ﴾ إلى آخر الآيتين. السلوك.
النفاذ و الإنفاذ يقال: سلك الطريق أي نفذ فيه و سلك الخيط في الإبرة أي أنفذه فيها
و أدخله و ذكروا أن سلك و أسلك بمعنى.
و الضميران في ﴿نَسْلُكُهُ﴾ و ﴿بِهِ﴾ للذكر المتقدم ذكره و هو القرآن الكريم و المعنى أن حال رسالتك و دعوتك بالذكر المنزل إليك تشبه حال الرسالة من قبلك فكما أرسلنا من قبلك فقابلوها بالرد و الاستهزاء كذلك ندخل هذا الذكر و ننفذه في قلوب هؤلاء المجرمين، و نبأ به: أنهم لا يؤمنون بالذكر و قد مضت طريقة الأولين و سنتهم في أنهم يستهزءون بالحق و لا يتبعونه فالآيتان قريبتا المعنى من قوله: ﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ﴾.
و ربما قيل: إن الضميرين للشرك أو الاستهزاء المفهوم من الآيات السابقة و الباء في ﴿بِهِ﴾ للسببية، و المعنى كذلك ننفذ الشرك أو الاستهزاء في قلوب المجرمين لا يؤمنون بسبب الشرك أو الاستهزاء إلخ.
و هو معنى بعيد، و المتبادر إلى الذهن من لفظة ﴿لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ أن الباء للتعدية دون السببية.
و ربما قيل: إن الضمير الأول للاستهزاء المفهوم من سابق الكلام و الثاني للذكر المذكور سابقا، و المعنى مثل ما سلكنا الاستهزاء في قلوب شيع الأولين نسلك الاستهزاء و ننفذه في قلوب هؤلاء المجرمين لا يؤمنون بالذكر «إلخ».
و لا بأس به و إن كان يستلزم التفرقة بين الضميرين المتواليين لكن إباء قوله:
﴿لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ أن يرجع ضميره إلى الاستهزاء يكفي قرينة لذلك.
و كذا لا يرد على الوجهين ما أورد أن رجوع ضمير ﴿نَسْلُكُهُ﴾ إلى الاستهزاء يوجب كون المشركين ملجئين إلى الشرك مجبرين عليه.
وجه عدم الورود: أنه تعالى علق السلوك على المجرمين فيكون مفاده أنهم كانوا متلبسين بالأجرام قبل فعل السلوك بهم ثم فعل بهم ذلك فينطبق على الإضلال الإلهي مجازاة و لا مانع منه، و إنما الممنوع هو الإضلال الابتدائي و لا دليل عليه في الآية بل الدليل على خلافه، و الآية من قبيل قوله تعالى: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ﴾: البقرة: ٢٦. و قد تقدم تفصيل القول فيه.
و قد ظهر مما تقدم أن المراد بسنة الأولين السنة التي سنها الأولون لا السنة التي
سنها الله في الأولين فالسنة سنتهم دون سنة الله فيهم كما ذكره بعض المفسرين فهو الأنسب لمقام ذمهم و تعزيته (ص) بذكر ردهم و استهزائهم لرسلهم.
قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ اَلسَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا﴾ إلخ، العروج في السماء الصعود إليها و التسكير الغشاوة.
و المراد بفتح باب من السماء عليهم إيجاد طريق يتيسر لهم به الدخول في العالم العلوي الذي هو مأوى الملائكة و ليس كما يظن سقفا جرمانيا له باب ذو مصراعين يفتح و يغلق، و قد قال تعالى: ﴿فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ اَلسَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ﴾: القمر: ١١.
و قد اختار سبحانه من بين الخوارق التي يظن أنها ترفع عنهم الشبهة و تزيل عن نفوسهم الريب فتح باب من السماء و عروجهم فيه لأنه كان يعظم في أعينهم أكثر من غيره، و لذلك لما اقترحوا عليه أمورا من الخوارق العظيمة ذكروا الرقي في السماء في آخر تلك الخوارق المذكورة على سبيل الترقي كما حكاه الله عنهم بقوله: ﴿وَ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ اَلْأَرْضِ يَنْبُوعاً ﴾ إلى أن قال ﴿أَوْ تَرْقىَ فِي اَلسَّمَاءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ﴾: إسراء: ٩٣ فالرقي في السماء و التصرف في أمورها كتنزيل كتاب مقرو منها أي نفوذ البشر في العالم العلوي و تمكنه فيه و منه أعجب الخوارق عندهم.
على أن السماء مأوى الملائكة الكرام و محل صدور الأحكام و الأوامر الإلهية و فيها ألواح التقادير و منها مجاري الأمور و منبع الوحي و إليها صعود كتب الأعمال، فعروج الإنسان فيها يوجب اطلاعه على مجاري الأمور و أسباب الخوارق و حقائق الوحي و النبوة و الدعوة و السعادة و الشقاوة و بالجملة يوجب إشرافه على كل حقيقة، و خاصة إذا كان عروجا مستمرا لا مرة و دفعة كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ﴾ حيث عبر بقوله: ﴿فَظَلُّوا﴾ و لم يقل: فعرجوا فيه.
فالفتح و العروج بهذا النعت يطلعهم على أصول هذه الدعوة الحقة و أعراقها لكنهم لما في قلوبهم من الفساد و في نفوسهم من قذارة الريبة و الشبهة المستحكمة يخطئون أبصارهم فيما يشاهدون بل يتهمون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه سحرهم فهم مسحورون من قبله.
فالمعنى: و لو فتحنا عليهم بابا من السماء و يسرنا لهم الدخول في عالمها فداموا
يعرجون فيه عروجا بعد عروج حتى يتكرر لهم مشاهدة ما فيه من أسرار الغيب و ملكوت الأشياء لقالوا إنما غشيت أبصارنا فشاهدت أمورا لا حقيقة لها بل نحن قوم مسحورون.
[سورة الحجر (١٥): الآیات ١٦ الی ٢٥]
﴿وَ لَقَدْ جَعَلْنَا فِي اَلسَّمَاءِ بُرُوجاً وَ زَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ١٦وَ حَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ١٧إِلاَّ مَنِ اِسْتَرَقَ اَلسَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ١٨وَ اَلْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَ أَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ١٩وَ جَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ٢٠وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ٢١وَ أَرْسَلْنَا اَلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَ مَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ٢٢وَ إِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ نَحْنُ اَلْوَارِثُونَ ٢٣وَ لَقَدْ عَلِمْنَا اَلْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا اَلْمُسْتَأْخِرِينَ ٢٤وَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ٢٥﴾
(بيان)
لما ذكر سبحانه إعراضهم عن آية القرآن المعجزة و اقتراحهم آية أخرى و هي الإتيان بالملائكة و أجاب عنه أنه ممتنع و ملازم لفنائهم عدل إلى عد عدة من آيات السماء و الأرض الدالة على التوحيد ليعتبروا بها إن كانوا يعقلون و تتم الحجة بها على المجرمين، و قد ضمن سبحانه فيها طرفا عاليا من المعارف الحقيقية و الأسرار الإلهية.
قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ جَعَلْنَا فِي اَلسَّمَاءِ بُرُوجاً وَ زَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ﴾ إلى آخر الآيات
الثلاث البروج جمع برج و هو القصر سميت بها منازل الشمس و القمر من السماء بحسب الحس تشبيها لها بالقصور التي ينزلها الملوك.
و الضمير في قوله: ﴿وَ زَيَّنَّاهَا﴾ للسماء كما في قوله: ﴿وَ حَفِظْنَاهَا﴾ و تزيينها للناظرين هو ما نشاهده في جوها من البهجة و الجمال الذي يوله الألباب بنجومها الزاهرة و كواكبها اللامعة على اختلاف أقدارها و تنوع لمعاتها و قد كرر سبحانه ذكر هذا التزيين الكاشف عن مزيد عنايته به كقوله: ﴿وَ زَيَّنَّا اَلسَّمَاءَ اَلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَ حِفْظاً﴾: حم السجدة: ١٢ و قوله: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا اَلسَّمَاءَ اَلدُّنْيَا بِزِينَةٍ اَلْكَوَاكِبِ وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لاَ يَسَّمَّعُونَ إِلَى اَلْمَلَإِ اَلْأَعْلى وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً وَ لَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ اَلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾: الصافات: ١٠.
و استراق السمع أخذ الخبر المسموع في خفية كمن يصغي خفية إلى حديث قوم يسرونه فيما بينهم، و استراق السمع من الشياطين هو محاولتهم أن يطلعوا على بعض ما يحدث به الملائكة فيما بينهم كما يدل عليه ما تقدم آنفا من آيات سورة الصافات.
و الشهاب هو الشعلة الخارجة من النار و يطلق على ما يشاهد في الجو من أجرام مضيئة كان الواحد منها كوكب ينقض دفعه من جانب إلى آخر فيسير سيرا سريعا ثم لا يلبث دون أن ينطفئ.
فظاهر معنى الآيات ﴿وَ لَقَدْ جَعَلْنَا فِي اَلسَّمَاءِ ﴾و هي جهة العلو بروجا و قصورا هي منازل الشمس و القمر ﴿وَ زَيَّنَّاهَا﴾ أي السماء للناظرين بزينة النجوم و الكواكب ﴿وَ حَفِظْنَاهَا﴾ أي السماء من كل شيطان رجيم أن ينفذ فيها فيطلع على ما تحتويه من الملكوت إلا من استرق السمع من الشياطين بالاقتراب منه ليسمع ما يحدث به الملائكة من أحاديث الغيب المتعلقة بمستقبل الحوادث و غيرها فإنه يتبعه شهاب مبين.
و سنتكلم إن شاء الله في الشهب و معنى رمي الشياطين فيما سيأتي من تفسير سورة الصافات.
قوله تعالى: ﴿وَ اَلْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَ أَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ﴾ مد الأرض بسطها طولا و عرضا و بذلك صلحت للزرع و السكنى و لو أغشيت حبالا شاهقة مضرسة لفقدت كمال حياة الحيوان عليها.
و الرواسي صفة محذوفة الموصوف و التقدير و ألقينا فيها جبالا رواسي و هو جمع راسية بمعنى الثابتة إشارة إلى ما وقع في غير هذا الموضع أنها تمنع الأرض من الميدان كما قال: ﴿وَ أَلْقىَ فِي اَلْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾: النحل: ١٥.
و الموزون من الوزن و هو تقدير الأجسام من جهة ثقلها ثم عمم لكل تقدير لكل ما يمكن أن يتقدر بوجه كتقدير الطول بالشبر و الذراع و نحو ذلك و تقدير الحجم و تقدير الحرارة و النور و القدرة و غيرها، و في كلامه تعالى: ﴿وَ نَضَعُ اَلْمَوَازِينَ اَلْقِسْطَ لِيَوْمِ اَلْقِيَامَةِ﴾: الأنبياء: ٤٧ و هو توزين الأعمال و لا يتصف بثقل و خفة من نوع ما للأجسام الأرضية منهما.
و ربما يكنى به عن كون الشيء بحيث لا يزيد و لا ينقص عما يقتضيه الطبع أو الحكمة كما يقال: كلامه موزون و قامته موزونة و أفعاله موزونة أي مستحسنة متناسبة الأجزاء لا تزيد و لا تنقص مما يقتضيه الطبع أو الحكمة.
و بالنظر إلى اختلاف اعتباراته المذكورة ذكر بعضهم أن المراد به إخراج كل ما يوزن من المعدنيات كالذهب و الفضة و سائر الفلزات، و قال بعضهم: إنه إنبات النباتات على ما لكل نوع منها من النظام البديع الموزون، و قيل: إنه خلق كل أمر مقدر معلوم.
و الذي يجب التنبه له التعبير بقوله: ﴿مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ﴾ دون أن يقال:
من كل نبات موزون فهو يشمل غير النبات مما يظهر و ينمو في الأرض كما أنه يشمل النبات لمكان قوله: ﴿وَ أَنْبَتْنَا﴾ دون أن يقال: أخرجنا أو خلقنا و قد جيء بمن و ظاهرها التبعيض فالمراد و الله أعلم إنبات كل أمر موزون ذي ثقل مادي يمكن أن يزيد و ينقص من الأجسام النباتية و الأرضية، و لا مانع على هذا من أخذ الموزون بكل من معنييه الحقيقي و الكنائي.
و المعنى: و الأرض بسطناها و طرحنا فيها جبالا ثابتة لتسكنها من الميد و أنبتنا فيها من كل شيء موزون - ثقيل واقع تحت الجاذبة أو متناسب - مقدارا تقتضيه الحكمة.
قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ﴾ المعايش جمع
معيشة و هي ما به يعيش الحيوان و يديم حياته من المأكول و المشروب و غيرهما و يأتي مصدرا كالعيش و المعاش.
و قوله: ﴿وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ﴾ معطوف على الضمير المجرور في ﴿لَكُمْ﴾ على ما ذهب إليه من النحاة الكوفيون و يونس و الأخفش من جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، و أما على قول غيرهم فربما يعطف على معايش و التقدير و جعلنا لكم من لستم له برازقين كالعبيد و الحيوان الأهلي، و ربما جعل ﴿مَنْ﴾ مبتدأ محذوف الخبر و التقدير: و من لستم له برازقين جعلنا له فيها معايش و هذا كله تكلف ظاهر.
و كيف كان، المراد بمن العبيد و الدواب على ما قيل أتي بلفظة من و هي لأولي العقل تغليبا هذا، و ليس من البعيد أن يكون المراد به كل ما عدا الإنسان من الحيوان و النبات و غيرهما فإنها تسأل الرزق كما يسأله العقلاء و من دأبه سبحانه في كلامه أن يطلق الألفاظ المختصة بالعقلاء على غيرهم إذا أضيف إليها شيء من الآثار المختصة بهم كقوله تعالى في الأصنام: ﴿فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾: الأنبياء: ٦٣ و قوله: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي﴾: الشعراء: ٧٧ إلى غير ذلك من الآيات المتعرضة لحال الأصنام التي كانوا يعبدونها و لا يستقيم للمعبود إلا أن يكون عاقلا، و كذا قوله: ﴿فَقَالَ لَهَا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾: حم السجدة: ١١ و غير ذلك.
و المعنى: و جعلنا لكم معشر البشر في الأرض أشياء تعيشون بها مما تدام به الحياة و لغيركم من أرباب الحياة مثل ذلك.
قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ الخزائن جمع خزانة و هي مكان خزن المال و حفظه و ادخاره، و القدر بفتحتين أو فتح فسكون مبلغ الشيء و كميته المتعينة.
و لما كانت الآية واقعة في سياق الكلام في الرزق الذي يعيش به الإنسان و الحيوان كان المراد بالشيء الموصوف في الآية النبات و ما يتبعه من الحبوب و الثمرات فالمراد بخزانته التي عند الله و هو ينزل بقدر معلوم المطر النازل من السماء الذي ينبت به النبات فيأتي بالحبوب و الأثمار و يعيش بذلك الإنسان و الحيوان هذا ملخص ما ذكره جمع
من المفسرين.
و لا يخفى عليك ما فيه من التكلف فتخصيص ما في قوله: ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ﴾ من العموم و حصره في النبات من تخصيص الأكثر من غير شك و المورد لا يخصص و أردى منه تسمية المطر خزائن النبات و ليس إلا سببا من أسبابه و جزء من أجزاء كثيرة يتكون النبات بتركبها الخاص، على أن المطر إنما تتكون حينما ينزل فكيف يسمى خزانة و ليس بموجود و لا أن الذي هو خزانته موجود فيه.
و ذكر بعض المفسرين أن المراد بكون خزائن كل شيء عند الله سبحانه شمول قدرته المطلقة له.
فله تعالى من كل نوع من أنواع الأشياء كالإنسان و الفرس و النخلة و غير ذلك من الأعيان و صفاتها و آثارها و أفعالها مقدورات في التقدير غير متناهية عددا لا يخرج منها دائما من التقدير و الفرض إلى التحقق و الفعلية إلا قدر معلوم و عدد معين محدود.
و على هذا فالمراد من كل شيء نوعه لا شخصه كالإنسان مثلا لا كزيد و عمرو، و المراد من القدر المعلوم الكمية المعينة من الأفراد و المراد من وجود خزائنه و وجوده في خزائنه وجوده بحسب التقدير لا بحسب التحقق فيرجع إلى نوع من التشبيه و المجاز.
و أنت خبير بأن فيه تخصيصا للشيء من غير مخصص، و فيه قصر للقدر في العدد من غير دليل، و القدر في اللغة قريب المعنى من الحد و هو المفهوم من سياق قوله تعالى: ﴿قَدْ جَعَلَ اَللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾: الطلاق: ٣ و قوله: ﴿وَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾: الرعد: ٨ و قوله: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾: القمر: ٤٩ و قوله:
﴿وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً﴾: الفرقان: ٢ إلى غير ذلك.
و فيه إرجاع الكلام إلى معنى مجازي استعاري من غير موجب مع ما فيه من ورود الخزائن بصيغة الجمع من غير نكتة ظاهرة.
و ذكر بعض معاصري المفسرين وجها آخر و هو أن المراد بالخزائن العناصر المختلفة التي تتألف منها الأرزاق و غيرها و قد أعد الله منها في عالمنا المشهود كمية عظيمة لا تنفد بعروض التركيب و الأسباب الكلية التي تعمل في تركب المركبات كالضوء و الحرارة و الرياح الدائمة المنظمة و غيرها التي تتكون منها الأشياء مما يحتاج إليه الإنسان
في إدامة حياته و غيره.
فكل من هذه الأشياء مدخرة بأجزائها و القوى الفعالة فيها في تلك الخزائن غير القابلة للنفاد من جهة عظمة مقداره و من جهة ما يعود إليه من الأجزاء الجديدة بانحلال تركيب المركبات بموت أو فساد و رجوعها إلى عناصرها الأولية كالنبات يفسد و الحيوان يموت فيعود عناصرها بانحلال التركيب إلى مقارها و يتسع بذلك المكان لكينونة نبات و حيوان آخر يخلفان سلفهما.
فالضوء و خاصة ضوء الشمس الذي يعمل الليل و النهار و الفصول الأربعة و يربي النبات و الحيوان و سائر المركبات و يسوقها إلى غاياتها و مقاصدها من خزائن الله تعالى و الرياح التي تلقح النبات و تسوق السحب و تنقل الأهوية من مكان إلى مكان و تدفع فاسد الهواء و تجري السفن خزانة أخرى، و الماء النازل من السماء الذي تحتاج إليه المركبات ذوات الحياة في كينونتها و بقائها خزانة أخرى، و كذلك العناصر البسيطة التي تتركب منها المركبات كل منها خزانة تنزل من مجموعها أو من عدة منها الأشياء المركبة، و لا ينزل قط إلا عدد معلوم من كل نوع من غير أن تنفد به الخزائن.
و على هذا فمراد الآية بالشيء هو نوعه لا شخصه كما تقدم في الوجه الأول و المراد بخزائنه مجموع ما في الكون من أصوله و عناصره و أسبابه العامة المادية و مجموع الشيء موجود في مجموع خزائنه لا في كل واحد منها و المراد بنزوله بقدر معلوم كينونة عدد محدود منه في كل حين من غير أن يستوفي عدد جميع ما في خزائنه.
و هذا وجه حسن في نفسه تؤيده الأبحاث العلمية عن كينونة هذه الحوادث و تصدقه آيات كثيرة متفرقة في الكتاب العزيز كقوله في الآية التالية: ﴿وَ أَرْسَلْنَا اَلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ﴾ و قوله: ﴿وَ جَعَلْنَا مِنَ اَلْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾: الأنبياء: ٣٠ و قوله: ﴿وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ دَائِبَيْنِ﴾: إبراهيم: ٣٣ و قوله: ﴿وَ اَلسَّحَابِ اَلْمُسَخَّرِ بَيْنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ﴾: البقرة: ١٦٤ إلى غير ذلك من الآيات.
لكن الآية و هي من آيات القدر كما يعطيه سياقها تأبى الحمل عليه كما تأبى عنه أخواتها و كيف يحمل عليه قوله: ﴿وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً﴾؟: الفرقان: ٢ و قوله: ﴿اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ اَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدىَ﴾: الأعلى: ٣ و قوله: ﴿وَ كُلُّ شَيْءٍ
عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾: الرعد: ٨ و قوله: ﴿إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ اَلْغَابِرِينَ﴾: النمل: ٥٧ و قوله: ﴿مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ﴾: عبس: ١٩ و قوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ اَلْقَدْرِ﴾ إلى آخر السورة إلى غير ذلك من الآيات.
على أنه يرد عليه بعض ما أورد على الوجهين السابقين كتخصيص عموم ﴿شَيْءٍ﴾ من غير مخصص و غير ذلك.
و الذي يعطيه التدبر في الآية و ما يناظرها من الآيات الكريمة أنها من غرر كلامه تعالى تبين ما هو أدق مسلكا و أبعد غورا مما فسروها به و هو ظهور الأشياء بالقدر و الأصل الذي لها قبل إحاطته بها و اشتماله عليها.
و ذلك أن ظاهر قوله: ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ﴾ على ما به من العموم بسبب وقوعه في سياق النفي مع تأكيده بمن، كل ما يصدق عليه أنه شيء من دون أن يخرج منه إلا ما يخرجه نفس السياق و هو ما تدل عليه لفظة «نا» و «عند» و «خزائن» و ما عدا ذلك مما يرى و لا يرى مشمول للعام.
فشخص زيد مثلا و هو فرد إنساني من الشيء و نوع من الإنسان أيضا الموجود في الخارج بأفراده من الشيء و الآية تثبت لذلك خزائن عند الله سبحانه فلننظر ما معنى كون زيد مثلا له خزائن عند الله؟.
و الذي يسهل الأمر فيه أنه تعالى يعد هذا الشيء المذكور نازلا من عنده و النزول يستدعي علوا و سفلا و رفعة و خفضة و سماء و أرضا مثلا و لم ينزل زيد المخلوق مثلا من مكان عال إلى آخر سافل بشهادة العيان فليس المراد بإنزاله إلا خلقه لكنه ذو صفة يصدق عليه النزول بسببها، و نظير الآية قوله تعالى: ﴿وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾: الزمر: ٦ و قوله: ﴿وَ أَنْزَلْنَا اَلْحَدِيدَ﴾: الحديد: ٢٥.
ثم قوله: ﴿وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ يقرن النزول و هو الخلقة بالقدر قرنا لازما غير جائز الانفكاك لمكان الحصر، و الباء إما للسببية أو الآلة أو المصاحبة و المآل واحد فكينونة زيد و ظهوره بالوجود إنما هو بماله من القدر المعلوم فوجوده محدود لا محالة، كيف؟ و هو تعالى يقول: ﴿إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾: حم السجدة: ٥٤ و لو لم يكن محدودا لم يكن محاطا له تعالى فمن المحال أن يحاط بما لا حد له و لا نهاية.
و هذا القدر هو الذي بسببه يتعين الشيء و يتميز من غيره ففي زيد مثلا شيء به يتميز من عمرو و غيره من أفراد الإنسان و يتميز من الفرس و البقر و الأرض و السماء و يجوز لنا به أن نقول ليس هو بعمرو و لا بالفرس و البقر و الأرض و السماء و لو لا هذا الحد لكان هو هي و ارتفع التميز.
و كذلك ما عنده من القوى و الآثار و الأعمال محدودة مقدرة فليس إبصاره مثلا إبصارا مطلقا في كل حال و في كل زمان و في كل مكان و لكل شيء و بكل عضو مثلا بل إبصار في حال و زمان و مكان خاص و لشيء خاص و بعضو خاص و على شرائط خاصة، و لو كان إبصارا مطلقا لأحاط بكل إبصار خاص و كان الجميع له و نظيره الكلام في سائر ما يعود إليه من خصائص وجوده و توابعه فافهم ذلك.
و من هنا يظهر أن القدر خصوصية وجود الشيء و كيفية خلقته كما يستفاد أيضا من قوله تعالى: ﴿اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ اَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدىَ﴾: الأعلى: ٣ و قوله:
﴿اَلَّذِي أَعْطىَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىَ﴾ طه - ٢٥ فإن الآية الأولى رتبت الهداية و هي الدلالة على مقاصد الوجود على خلق الشيء و تسويته و تقديره، و الآية الثانية رتبتها على إعطائه ما يختص به من الخلق، و لازم ذلك على ما يعطيه سياق الآيتين كون قدر الشيء خصوصية خلقه غير الخارجة عنه.
ثم إنه تعالى وصف قدر كل شيء بأنه معلوم إذ قال: ﴿وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ و يفيد بحسب سياق الكلام أن هذا القدر معلوم له حينما يتنزل الشيء و لما يتم نزوله و يظهر وجوده فهو معلوم القدر معينة قبل إيجاده، و إليه يئول معنى قوله:
﴿وَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾: الرعد: ٨ فإن ظاهر الآية أن كل شيء بما له من المقدار حاضر عنده معلوم له فقوله هناك: ﴿عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ في معنا قوله هاهنا ﴿بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ و نظير ذلك قوله في موضع آخر: ﴿قَدْ جَعَلَ اَللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾: الطلاق: ٣ أي قدرا لا يتجاوزه معينا غير مبهم معلوما غير مجهول و بالجملة للقدر تقدم على الشيء بحسب العلم و المشية و إن كان مقارنا له غير منفك عنه في وجوده.
ثم إنه تعالى أثبت بقوله: ﴿عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ﴾ إلخ، للشيء عنده قبل نزوله إلى هذه النشأة و استقراره فيها خزائن، و جعل القدر متأخرا عنها ملازما
لنزوله فالشيء و هو في هذه الخزائن غير مقدر بقدر و لا محدود بحد و هو مع ذلك هو.
و قد جمع في تعريف هذه الخزائن بين كونها فوق القدر الذي يلحق الشيء و بين كونها خزائن فوق الواحدة و الاثنتين، و من المعلوم أن العدد لا يلحق إلا الشيء المحدود و أن هذه الخزائن لو لم تكن محدودة متميزة بعضها من بعض كانت واحدة البتة.
و من هنا يتبين أن هذه الخزائن بعضها فوق بعض و كل ما هو عال منها غير محدود بحد ما هو دان غير مقدر بقدره و مجموعها غير محدود بالحد الذي يلحق الشيء و هو في هذه النشأة، و لا يبعد أن يكون التعبير بالتنزيل الدال على نوع من التدريج في قوله: ﴿وَ مَا نُنَزِّلُهُ﴾ إشارة إلى كونه يطوي في نزوله مرحلة بعد مرحلة و كلما ورد مرحلة طرأه من القدر أمر جديد لم يكن قبل حتى إذا وقع في الأخيرة أحاط به القدر من كل جانب قال تعالى: ﴿هَلْ أَتىَ عَلَى اَلْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ اَلدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً﴾: الدهر: ١ فقد كان الإنسان و لكنه لم يكن شيئا مذكورا.
و هذه الخزائن جميعا فوق عالمنا المشهود لأنه تعالى وصفها بأنها عنده و قد أخبرنا بقوله: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ مَا عِنْدَ اَللَّهِ بَاقٍ﴾ أن ما عنده ثابت لا يزول و لا يتغير عما هو عليه فهذه الخزائن كائنة ما كانت أمور ثابتة غير زائلة و لا متغيرة، و الأشياء في هذه النشأة المادية المحسوسة متغيرة فانية لا ثابتة و لا باقية فهذه الخزائن الإلهية فوق عالمنا المشهود.
هذا ما يعطيه التدبر في الآية الكريمة و هو و إن كان لا يخلو من دقة و غموض يعضل على بادئ الفهم لكنك لو أمعنت في التدبر و بذلت في ذلك بعض جهدك استنار لك و وجدته من واضحات كلامه إن شاء الله تعالى و على من لم يتيسر له قبوله أن يعتمد الوجه الثالث المتقدم فهو أحسن الوجوه الثلاثة المتقدمة و الله ولي الهداية و سنرجع إلى بحث القدر في كلام مستقل يختص به إن شاء الله في موضع يناسبه.
قوله تعالى: ﴿وَ أَرْسَلْنَا اَلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَ مَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾ اللواقح جمع لاقحة من اللقح بالفتح فالسكون يقال لقح النخل لقحا أي وضع اللقاح بفتح اللام و هو طلع الذكور من النخل على الإناث لتحمل بالتمر،
و قد ثبت بالأبحاث الحديثة في علم النبات أن حكم الزوجية جار في عامة النبات و أن فيه ذكورية و أنوثية و أن الرياح في مهبها تحمل الذرات من نطفة الذكور فتلقح بها الإناث، و هو قوله تعالى: ﴿وَ أَرْسَلْنَا اَلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾.
و قوله: ﴿فَأَنْزَلْنَا مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ﴾ إشارة إلى المطر النازل من السحاب و قد تسلم الأبحاث العلمية الحديثة أن الماء الموجود في الكرة الأرضية من الأمطار النازلة عليها من السماء على خلاف ما كانت تعتقده القدماء أنه كرة ناقصة محيطة بكرة الأرض إحاطة ناقصة و هو عنصر من العناصر الأربعة.
و هذه الآية التي تثبت بشطرها الأول: ﴿وَ أَرْسَلْنَا اَلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾ مسألة الزوجية و اللقاح في النبات، و بشطرها الثاني: ﴿فَأَنْزَلْنَا مِنَ اَلسَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ﴾ أن المياه الموجودة المدخرة في الأرض تنتهي إلى الأمطار، و قوله تعالى السابق:
﴿وَ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ﴾ الظاهر في أن للوزن دخلا خاصا في الإنبات و الإنماء من نقود العلم التي سبق إليها القرآن الكريم الأبحاث العلمية و هي تتلو المعجزة أو هي هي.
قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ نَحْنُ اَلْوَارِثُونَ﴾ الكلام مسوق للحصر يريد بيان رجوع كل التدبير إليه، و قد كان ما عده من النعم كالسماء ببروجها و الأرض برواسيها، و إنبات كل شيء موزون و جعل المعايش و إرسال اللواقح و إنزال الماء من السماء إنما يتم نظاما مبنيا على الحكمة و العلم إذا انضم إليه الحياة و الموت و الحشر، و كان مما ربما يظن أن بعض الحياة و الموت ليس إليه تعالى و لذا أكد الكلام و أتى بالحصر دفعا لذلك.
ثم جاء بقوله: ﴿وَ نَحْنُ اَلْوَارِثُونَ﴾ أي الباقون بعد إماتتكم المتصرفون فيما خولناكموه من أمتعة الحياة كأنه تعالى يقول إلينا تدبير أمركم و نحن محيطون بكم نحييكم بعد ما لم تكونوا فنحن قبلكم، و نميتكم و نرثكم فنحن بعدكم.
قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ عَلِمْنَا اَلْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا اَلْمُسْتَأْخِرِينَ﴾ لما كانت الآيات السابقة التي تعد النعم الإلهية و تصف التدبير مسوقة لبيان وحدانيته تعالى في ربوبيته، و كان لا ينفع الخلق و النظم من غير انضمام علمه تعالى و خاصة بمن يحييه و يميته
عقبها بهذه الآية الدالة على علمه بمن استقدم منهم بالوجود و من استأخر أي المتقدمين من الناس و المتأخرين على ما يفيده السياق.
و قيل: المراد بالمستقدمين المستقدمون في الخير، و قيل: المستقدمون في صفوف الحرب، و قيل: المستقدمون إلى الصف الأول في صلاة الجماعة و المستأخرون خلافهم، و هي أقوال ردية.
قوله تعالى: ﴿وَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ الكلام مسوق للحصر أي هو يحشرهم لا غير فهو الرب.
و أورد عليه أنه في مثل ذلك من الحصر يكون الفعل مسلم الثبوت و النزاع إنما هو في الفاعل، و هاهنا ليس كذلك فإن الخصم لا يسلم الحشر من أصله هذا.
و قد ذهب على هذا المعترض أن الآية حولت الخطاب السابق للناس عنهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) التفاتا فقيل: ﴿وَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ﴾ و لم يقل إن ربكم هو يحشركم، و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مسلم للحشر.
و بذلك يظهر نكتة الالتفات في الآية في مورده تعالى من التكلم مع الغير إلى الغيبة، و في مورد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من الغيبة إلى الخطاب و في مورد الناس بالعكس.
و قد ختمت الآية بقوله: ﴿إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ لأن الحشر يتوقف على الحكمة المقتضية لحساب الأعمال و مجازاة المحسن بإحسانه و المسيء بإساءته، و على العلم حتى لا يغادر منهم أحد.
(بحث روائي)
في تفسير القمي، ":في قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ جَعَلْنَا فِي اَلسَّمَاءِ بُرُوجاً﴾ قال: قال:
منازل الشمس و القمر. و فيه،" :في قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَنِ اِسْتَرَقَ اَلسَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ﴾ قال: قال:
لم يزل الشياطين تصعد إلى السماء و تجس حتى ولد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم). و في المعاني، عن البرقي عن أبيه عن جده عن البزنطي عن أبان عن أبي عبد الله
(عليه السلام) قال: كان إبليس يخترق السماوات السبع فلما ولد عيسى (عليه السلام) حجب عن ثلاث سماوات و كان يخترق أربع سماوات فلما ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حجب عن السبع كلها و رميت الشياطين بالنجوم. الحديث.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال جرير بن عبد الله: حدثني يا رسول الله عن السماء الدنيا و الأرض السفلى، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): أما السماء الدنيا فإن الله خلقها من دخان ثم رفعها و جعل فيها سراجا و قمرا منيرا و زينها بمصابيح النجوم و جعلها رجوما للشياطين و حفظها من كل شيطان رجيم. أقول: و سيأتي إن شاء الله ما يتبين به معنى هذه الأحاديث.
و في تفسير القمي، ":في قوله: ﴿وَ جَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ﴾ قال: لكل ضرب من الحيوان قدرنا شيئا مقدرا.
و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: ﴿وَ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ﴾ فإن الله أنبت في الجبال الذهب و الفضة و الجوهر و الصفر و النحاس و الحديد و الرصاص و الكحل و الزرنيخ و أشباه ذلك لا تباع إلا وزنا.
أقول: ينبغي أن يحمل على بيان بعض المصاديق على ما في متنه و سنده من الوهن.
و في روضة الواعظين، لابن الفارسي روي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده (عليه السلام) أنه قال: في العرش تمثال جميع ما خلق الله في البر و البحر. قال: و هذا تأويل قوله: ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ﴾ الحديث.
و في المعاني، بإسناده عن مقاتل بن سليمان قال: قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): لما صعد موسى (عليه السلام) الطور فنادى ربه عز و جل قال: رب أرني خزائنك. قال: يا موسى إنما خزائني إذا أردت شيئا أن أقول له: كن فيكون.
و في الدر المنثور، أخرج البزار و ابن مردويه في العظمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): خزائن الله الكلام فإذا أراد شيئا قال له: كن فكان. أقول: و الروايات الثلاث الأخيرة تؤيد ما قدمناه في تقرير معنى الآية، و المراد بقول كن كلمة الإيجاد الذي هو وجود الأشياء. و هو مما يؤيد عموم الشيء في الآية، و كذا كان يفهمه الصحابة و أهل عصر النزول كما يؤيده ما رواه في الدر المنثور، عن ابن أبي
حاتم عن معاوية أنه قال" :أ لستم تعلمون أن كتاب الله حق؟ قالوا: بلى. قال:
فاقرءوا هذه الآية ﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ أ لستم تؤمنون بهذا و تعلمون أنه حق؟ قالوا: بلى. قال: فكيف تلومونني بعد هذا؟ فقام الأحنف و قال: يا معاوية و الله ما نلومك على ما في خزائن الله و لكن إنما نلومك على ما أنزله الله من خزائنه فجعلته أنت في خزائنك و أغلقت عليه بابك فسكت معاوية. و فيه، أخرج ابن مردويه و الحاكم عن مروان بن الحكم قال ":كان أناس يستأخرون في الصفوف من أجل النساء فأنزل الله ﴿وَ لَقَدْ عَلِمْنَا اَلْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ﴾ الآية. أقول: و روي فيه، أيضا عن عدة عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال" :كانت امرأة تصلي خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حسناء من أحسن الناس فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها - و يستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر فإذا ركع نظر من تحت إبطيه فأنزل الله: ﴿وَ لَقَدْ عَلِمْنَا اَلْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا اَلْمُسْتَأْخِرِينَ﴾. و الآية لا تنطبق على ما في هاتين الروايتين لا من جهة اللفظ و لا من جهة السياق الذي وقعت هي فيه. و هو ظاهر.
و فيه، أخرج ابن أبي حاتم من طريق معتمر بن سليمان عن شعيب بن عبد الملك عن مقاتل بن سليمان ":في قوله: ﴿وَ لَقَدْ عَلِمْنَا اَلْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ﴾ الآية قال: بلغنا أنه في القتال. قال معتمر فحدثت أبي فقال: لقد نزلت هذه الآية قبل أن يفرض القتال. أقول: يعني أنها مكية.
و في تفسير العياشي، عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ﴿وَ لَقَدْ عَلِمْنَا اَلْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا اَلْمُسْتَأْخِرِينَ﴾ قال: هم المؤمنون من هذه الأمة.
و في تفسير البرهان، عن الشيباني في نهج البيان، عن الصادق جعفر بن محمد: أن المستقدمين أصحاب الحسنات، و المستأخرين أصحاب السيئات.
[سورة الحجر (١٥): الآیات ٢٦ الی ٤٨ ]
﴿وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ٢٦﴾
﴿وَ اَلْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ اَلسَّمُومِ ٢٧وَ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ٢٨فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ٢٩فَسَجَدَ اَلْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ٣٠إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ اَلسَّاجِدِينَ ٣١قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ اَلسَّاجِدِينَ ٣٢قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ٣٣قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ٣٤وَ إِنَّ عَلَيْكَ اَللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ اَلدِّينِ ٣٥قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ٣٦قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ ٣٧إِلىَ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ ٣٨قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ٣٩إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ ٤٠قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ٤١إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغَاوِينَ ٤٢وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ٤٣لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ٤٤إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ ٤٥اُدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ ٤٦وَ نَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ٤٧لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَ مَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ٤٨﴾
(بيان)
هذه هي الطائفة الثالثة من الآيات الموردة إثر ما ذكر في مفتتح السورة من استهزاء الكفار بالكتاب و بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و اقتراحهم عليه آية أخرى غير القرآن، و قد ذكر الله سبحانه في هذه الطائفة بدء خلقة الإنسان و الجان و أمره الملائكة و إبليس أن يسجدوا له و سجودهم و إباء إبليس و هو من الجن و رجمه و إغواءه بني آدم، و ما قضى الله سبحانه عند ذلك من سعادة المتقين و شقاء الغاوين.
قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ قال الراغب في المفردات: أصل الصلصال تردد الصوت من الشيء اليابس و منه قيل: صل المسمار و سمي الطين الجاف صلصالا، قال تعالى: ﴿مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ﴾ ﴿مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ و الصلصلة بقية ماء سميت بذلك لحكاية صوت تحركه في المزادة و قيل:
الصلصال المنتن من الطين من قولهم: صل اللحم.
و قال: و الحمأة و الحمأ طين أسود منتن، و قال: و قوله: ﴿مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ قيل:
متغير و قوله: لم يتسنه معناه لم يتغير و الهاء للاستراحة. انتهى.
و قوله: ﴿وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ﴾ إلخ المراد به بدء خلقة الإنسان بدليل قوله:
﴿وَ بَدَأَ خَلْقَ اَلْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾: الم السجدة: ٨ فهو إخبار عن خلقة النوع و ظهوره في الأرض فإن خلق أول من خلق منهم و منه خلق الباقي خلق الجميع.
قال في مجمع البيان: و أصل آدم كان من تراب و ذلك قوله: ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ ثم جعل التراب طينا و ذلك قوله: ﴿وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ ثم ترك ذلك الطين حتى تغير و استرخى و ذلك قوله: ﴿مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ ثم ترك حتى جف و ذلك قوله: ﴿مِنْ صَلْصَالٍ﴾ فهذه الأقوال لا تناقض فيها إذ هي إخبار عن حالاته المختلفة. انتهى.
قوله تعالى: ﴿وَ اَلْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ اَلسَّمُومِ﴾ قال الراغب: السموم الريح الحارة تؤثر تأثير السم. انتهى. و أصل الجن الستر و هو معنى سار في جميع ما اشتق منه كالجن و المجنة و الجنة و الجنين و الجنان بالفتح و جن عليه الليل و غير ذلك.
و الجن طائفة من الموجودات مستورة بالطبع عن حواسنا ذات شعور و إرادة تكرر في القرآن الكريم ذكرهم و نسب إليهم أعمال عجيبة و حركات سريعة كما في قصص سليمان (عليه السلام) و هم مكلفون و يعيشون و يموتون و يحشرون تدل على ذلك كله آيات كثيرة متفرقة في كلامه تعالى.
و أما الجان فهل هو الجن بعينه أو هو أبو الجن كما أن آدم (عليه السلام) أبو البشر كما عن ابن عباس أو هو إبليس نفسه كما عن الحسن أو الجان نسل إبليس من الجن أو هو نوع من الجن كما ذكره الراغب؟ أقوال مختلفة لا دليل على أكثرها.
و الذي يهدي إليه التدبر في كلامه تعالى أنه قابل في هاتين الآيتين الإنسان بالجان فجعلهما نوعين اثنين لا يخلوان عن نوع من الارتباط في خلقتهما، و نظير ذلك قوله:
﴿خَلَقَ اَلْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَ خَلَقَ اَلْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ﴾: الرحمن: ١٥.
و لا يخلو سياق ما نحن فيه من الآيات من دلالة على أن إبليس كان جانا و إلا لغا قوله: ﴿وَ اَلْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ﴾ إلخ، و قد قال تعالى في موضع آخر من كلامه في إبليس: ﴿كَانَ مِنَ اَلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾: الكهف: ٥٠ فأفاد أن هذا الجان المذكور هو الجن نفسه أو هو نوع من أنواع الجن ثم ترك سبحانه في سائر كلامه ذكر الجان من أصله و لم يذكر إلا الجن حتى في موارد يعم الكلام فيها إبليس و قبيله كقوله تعالى: ﴿شَيَاطِينَ اَلْإِنْسِ وَ اَلْجِنِّ﴾: الأنعام: ١١٢ و قوله: ﴿وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ﴾: حم السجدة: ٢٥ و قوله: ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ اَلثَّقَلاَنِ ﴾- إلى أن قال - ﴿يَا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ إِنِ اِسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ فَانْفُذُوا﴾: الرحمن: ٣٣.
و ظاهر هذه الآيات من جهة المقابلة الواقعة فيها بين الإنسان و الجان تارة و بين الإنس و الجن أخرى أن الجن و الجان واحد و إن اختلف التعبير.
و ظاهر المقابلة بين قوله: ﴿وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسَانَ﴾ إلخ، و قوله: ﴿وَ اَلْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ﴾ إلخ أن خلق الجان من نار السموم المراد به الخلق الابتدائي و بدء ظهور النوع كخلق الإنسان من صلصال، و هل كان استمرار الخلقة في أفراد الجان المستتبع لبقاء النوع على سنة الخلق الأول من نار السموم بخلاف الإنسان حيث بدئ
خلقه من تراب ثم استمر بالنطفة كلامه سبحانه خال عن بيانه ظاهرا غير ما في بعض كلامه من نسبة الذرية إلى إبليس كما قال: ﴿أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي﴾: الكهف: ٥٠ و نسبة الموت إليهم كما في قوله: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ﴾: حم السجدة: ٢٥ و المألوف من نوع فيه ذرية و موت هو التناسل و الكلام بعد في هذا التناسل هل هو بسفاد كسفاد نوع من الحيوان أو بغير ذلك؟.
و قوله: ﴿خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ﴾ مقطوع الإضافة أي من قبل خلق الإنسان و القرينة هي المقابلة بين الخلقين.
و عد مبدإ خلق الجان في الآية هو نار السموم لا ينافي ما في سورة الرحمن من عده مارجا من نار أي لهيبا مختلطا بدخان فإن الآيتين تلخصان أن مبدأ خلقه ريح سموم اشتعلت فكانت مارج نار.
فمعنى الآيتين: أقسم لقد بدأنا خلق النوع الإنسان من طين قد جف بعد أن كان سائلا متغيرا منتنا و نوع الجان بدأنا خلقه من ريح حارة حادة اشتعلت فصارت نارا.
قوله تعالى: ﴿وَ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً﴾ إلى آخر الآية، قال في المفردات: البشرة ظاهر الجلد و الأدمة باطنه كذا قال عامة الأدباء - إلى أن قال - و عبر عن الإنسان بالبشر اعتبارا بظهور جلده من الشعر بخلاف الحيوانات التي عليها الصوف أو الشعر أو الوبر، و استوى في لفظ البشر الواحد و الجمع و ثنى فقال تعالى:
﴿أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ﴾ و خص في القرآن في كل موضع اعتبر من الإنسان جثته و ظاهره بلفظ البشر نحو: ﴿وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ مِنَ اَلْمَاءِ بَشَراً﴾ انتهى موضع الحاجة.
و قوله: ﴿وَ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً﴾ بإضمار فعل و التقدير:
و اذكر إذ قال ربك، و في الكلام التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة و كان العناية فيه مثل العناية التي مرت في قوله: ﴿وَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ﴾ فإن هذه الآيات أيضا تكشف عن نبإ ينتهي إلى الحشر و السعادة و الشقاوة الخالدتين.
على أن التكلم مع الغير في السابق ﴿وَ لَقَدْ خَلَقْنَا﴾ ﴿خَلَقْنَاهُ﴾ من قبيل تكلم العظماء عنهم و عن خدمهم و أعوانهم تعظيما أي بأخذه تعالى ملائكته الكرام معه في
الأمر و هذه العناية مما لا يستقيم في مثل المقام الذي يخاطب فيه الملائكة في إخبارهم بإرادته خلق آدم (عليه السلام) و أمرهم بالسجود له إذا سواه و نفخ فيه من روحه فافهم ذلك و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ التسوية جعل الشيء مستويا قيما على أمره بحيث يكون كل جزء منه على ما ينبغي أن يكون عليه فتسوية الإنسان أن يكون كل عضو من أعضائه في موضع الذي ينبغي أن يكون فيه و على الحال التي ينبغي أن يكون عليها.
و لا يبعد أن يستفاد من قوله: ﴿إِنِّي خَالِقٌ﴾ ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ﴾ أن خلق بدن الإنسان الأول كان على سبيل التدريج الزماني فكان أولا الخلق و هو جمع الأجزاء ثم التسوية و هو تنظيم الأجزاء و وضع كل جزء في موضعه الذي يليق به و على الحال التي تليق به ثم النفخ و لا ينافيه ما في قوله تعالى: ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾: آل عمران: ٥٩ فإن قوله: ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ﴾ إلخ ناظر إلى كينونة الروح و هو النفس الإنسانية دون البدن كما عبر عنه في موضع آخر بعد بيان خلق البدن بالتدريج بقوله: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ﴾: المؤمنون: ١٤.
و قوله: ﴿وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ النفخ إدخال الهواء في داخل الأجسام بفم أو غيره و يكنى به عن إلقاء أثر أو أمر غير محسوس في شيء، و يعني به في الآية إيجاده تعالى الروح الإنساني بما له من الرابطة و التعلق بالبدن، و ليس بداخل فيه دخول الهواء في الجسم المنفوخ فيه كما يشير إليه قوله سبحانه: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا اَلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا اَلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ﴾: المؤمنون: ١٤ و قوله تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾: الم السجدة: ١١.
فالآية الأولى - كما ترى - تبين أن الروح الإنساني هو البدن منشأ خلقا آخر و البدن على حاله من غير أن يزاد فيه شيء، و الآية الثانية تبين أن الروح عند الموت مأخوذ من البدن و البدن على حاله من غير أن ينقص منه شيء.
فالروح أمر موجود في نفسه له نوع اتحاد بالبدن بتعلقه به و له استقلال عن البدن إذا انقطع تعلقه به و فارقه و قد تقدم بعض ما يتعلق من الكلام بهذا المقام في
تفسير قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ أَمْوَاتٌ﴾: البقرة: ١٥٤ في الجزء الأول من الكتاب.
و نرجو أن نستوفي هذا البحث في ذيل قوله: ﴿قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾: الآية ٨٥ من سورة إسراء إن شاء الله.
و إضافة الروح إليه تعالى في قوله: ﴿مِنْ رُوحِي﴾ للتكرمة و التشريف من الإضافة اللامية المفيدة للملك، و قوله: ﴿فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ أي اسجدوا، و لا يبعد أن يفهم منه أن خروا على الأرض ساجدين له فيفيد التأكيد في الخضوع من الملائكة لهذا المخلوق الجديد كما قيل.
و معنى الآية فإذا عدلت تركيبه و أتممت صنع بدنه و أوجدت الروح الكريم المنسوب إلي الذي أربط بينه و بين بدنه فقعوا و خروا على الأرض ساجدين له.
قوله تعالى: ﴿فَسَجَدَ اَلْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبىَ أَنْ يَكُونَ مَعَ اَلسَّاجِدِينَ﴾ لفظة أجمعون تأكيد بعد تأكيد لتشديده، و المراد أن الملائكة سجدوا له بحيث لم يبق منهم أحد و قد استثنى من ذلك إبليس و لم يكن منهم لقوله تعالى: ﴿كَانَ مِنَ اَلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾: الكهف: ٥٠ و أما قول من قال: إن طائفة من الملائكة كانوا يسمون الجن و كان إبليس منهم أو إن الجن بمعنى الستر فيعم الملائكة و غيرهم فمما لا يصغي إليه، و قد تقدم في تفسير سورة الأعراف كلام في معنى شمول الأمر بالسجود لإبليس مع عدم كونه من الملائكة و معنى الآيتين ظاهر.
قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ اَلسَّاجِدِينَ﴾ ﴿مَا لَكَ﴾ مبتدأ و خبر أي ما الذي هو كائن لك؟ و قوله: ﴿أَلاَّ تَكُونَ﴾ من قبيل نزع الخافض و التقدير في أن لا تكون مع الساجدين و هم الملائكة، و محصل المعنى:
ما بالك لم تسجد؟.
قوله تعالى: ﴿قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ في التعبير بقوله: ﴿لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ﴾ دون أن يقول: لا أسجد أو لست أسجد دلالة على أن الإباء عن السجدة مقتضى ذاته و كان هو المترقب منه لو اطلع على جوهره فتفيد الآية بالكناية ما يفيده قوله في موضع آخر: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَ خَلَقْتَهُ
[1] كقول بعض من غير المنتحلين بالإسلام إن قوله تعالى: «إنك ميت و إنهم ميتون» من وضع أبي بكر وضعه حين سمع عمر و هو شاهر سيفه يهدد بالقتل من قال: إن النبي مات فقرأها على عمر فصرفه.
[2] ذكره ابن طاووس في سعد السعود.
|