• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء العاشر) ، تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده) .
                    • الموضوع : من ص 308 الى ص 385 (الأخير) .

من ص 308 الى ص 385 (الأخير)

السلطة و نهاية القدرة، و كونه تعالى على صراط مستقيم هو كون سنته في الخليقة واحدة ثابتة غير متغيرة و هو تدبير الأمور على منهاج العدل و الحكمة فهو يحق الحق و يبطل الباطل إذا تعارضا.

فالمعنى أني توكلت على الله ربي و ربكم في نجاة حجتي التي ألقيتها إليكم و هو التبرز بالبراءة من آلهتكم و أنكم و آلهتكم لا تضرونني شيئا فإنه المالك ذو السلطنة علي و عليكم و على كل دابة، و سنته العادلة ثابتة غير متغيرة فسوف ينصر دينه و يحفظني من شركم.

و لم يقل: «إن ربي و ربكم على صراط مستقيم» على وزان قوله: ﴿عَلَى اَللَّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ فإنه في مقام الدعاء لنفسه على قومه يتوقع أن يحفظه الله من شرهم، و هو يأخذه تعالى ربا بخلاف القوم فكان الأنسب أن يعده ربا لنفسه و يستمسك برابطة العبودية التي بينه و بين ربه حتى ينجح طلبته، و هذا بخلاف مقام قوله:

﴿تَوَكَّلْتُ عَلَى اَللَّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ فإنه يريد هناك بيان عموم السلطة و الإحاطة.

قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ و هذه الجملة من كلامه (عليه السلام) ناظر إلى قولهم في آخر جدالهم: ﴿إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اِعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ الدال على أنهم قاطعون على أن لا يؤمنوا به و دائمون على الجحد، و المعنى إن تتولوا و تعرضوا عن الإيمان بي و الإطاعة لأمري فقد أبلغتكم رسالة ربي و تمت عليكم الحجة و لزمتكم البلية.

قوله تعالى: ﴿وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَليَ‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ حَفِيظٌ هذا وعيد و إخبار بالتبعة التي يستتبعها إجرامهم، فإنه كان وعدهم إن يستغفروا الله و يتوبوا إليه أن يرسل السماء عليهم مدرارا و يزيد قوة إلى قوتهم، و نهاهم أن يتولوا مجرمين ففيه العذاب الشديد.

و قوله: ﴿وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ أي يجعل قوما غيركم خلفاء في الأرض مكانكم فإن الإنسان خليفة منه في الأرض كما قال تعالى﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً البقرة: - ٣٠، و قد كان (عليه السلام) بين لهم أنهم خلفاء في الأرض من بعد قوم نوح كما قال تعالى حكاية عن قوله لقومه﴿وَ اُذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ

 

 

 

 نُوحٍ وَ زَادَكُمْ فِي اَلْخَلْقِ بَصْطَةً الآية، الأعراف: - ٦٩.

و ظاهر السياق أن الجملة الخبرية معطوفة على أخرى مقدرة، و التقدير:

و سيذهب بكم ربي و يستخلف قوما غيركم على حد قوله﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ الأنعام: - ١٣٣.

و قوله: ﴿وَ لاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً ظاهر السياق أنه تتمة لما قبله أي لا تقدرون على إضراره بشي‏ء من الفوت و غيره إن أراد أن يهلككم و لا أن تعذيبكم و إهلاككم يفوت منه شيئا مما يريده فإن ربي على كل شي‏ء حفيظ لا يعزب عن علمه عازب و لا يفوت من قدرته فائت، و للمفسرين في الآية وجوه أخر بعيدة عن الصواب أعرضنا عنها.

قوله تعالى: ﴿وَ لَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ نَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ المراد بمجي‏ء الأمر نزول العذاب و بوجه أدق صدور الأمر الإلهي الذي يستتبع القضاء الفاصل بين الرسول و بين قومه كما قال تعالى﴿وَ مَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اَللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَ خَسِرَ هُنَالِكَ اَلْمُبْطِلُونَ المؤمن: - ٧٨.

و قوله: ﴿بِرَحْمَةٍ مِنَّا الظاهر أن المراد بها الرحمة الخاصة بالمؤمنين المستوجبة نصرهم في دينهم و إنجاءهم من شمول الغضب الإلهي و عذاب الاستئصال، قال تعالى‏﴿

إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْأَشْهَادُ المؤمن: - ٥١.

و قوله: ﴿وَ نَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ظاهر السياق أنه العذاب الذي شمل الكفار من القوم فيكون من قبيل عطف التفسير بالنسبة إلى ما قبله، و قيل: المراد به عذاب الآخرة و ليس بشي‏ء.

قوله تعالى: ﴿وَ تِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَ عَصَوْا رُسُلَهُ وَ اِتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ الآية و ما بعدها تلخيص بعد تلخيص لقصة عاد فأول التلخيصين قوله: ﴿وَ تِلْكَ عَادٌ إلى قوله ﴿وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ يذكر فيه أنهم جحدوا بآيات ربهم من الحكمة و الموعظة و الآية المعجزة التي أبانت لهم طريق الرشد و ميزت لهم الحق من الباطل فجحدوا بها بعد ما جاءهم من العلم.

 

 

 

 و عصوا رسل ربهم و هم هود و من قبله من الرسل فإن عصيان الواحد منهم عصيان للجميع فكلهم يدعون إلى دين واحد فهم إنما عصوا شخص هود و عصوا بعصيانه سائر رسل الله و هو ظاهر قوله في موضع آخر﴿كَذَّبَتْ عَادٌ اَلْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَ لاَ تَتَّقُونَ الشعراء: - ١٢٤. و يشعر به أيضا قوله‏ ﴿وَ اُذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَ قَدْ خَلَتِ اَلنُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ الأحقاف: - ٢١، و من الممكن أن يكون لهم رسل آخرون بعثوا إليهم فيما بين هود و نوح (عليه السلام) لم يذكروا في الكتاب العزيز لكن سياق الآيات لا يساعد على ذلك.

و اتبعوا أمر كل جبار عنيد من جبابرتهم فألهاهم ذلك عن اتباع هود و ما كان يدعو إليه، و الجبار العظيم الذي يقهر الناس بإرادته و يكرههم على ما أراد و العنيد الكثير العناد الذي لا يقبل الحق، فهذا ملخص حالهم و هو الجحد بالآيات و عصيان الرسل و طاعة الجبابرة.

ثم ذكر الله وبال أمرهم بقوله: ﴿وَ أُتْبِعُوا فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا لَعْنَةً وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أي و أتبعهم الله في هذه الدنيا لعنة و إبعادا من الرحمة، و مصداق هذا اللعن العذاب الذي عقبهم فلحق بهم، أو الآثام و السيئات التي تكتب عليهم ما دامت الدنيا فإنهم سنوا سنة الإشراك و الكفر لمن بعدهم، قال تعالى﴿وَ نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَ آثَارَهُمْ يس: - ١٢.

و قيل: المعنى لحقت بهم لعنة في هذه الدنيا فكان كل من علم بحالهم من بعدهم، و من أدرك آثارهم، و كل من بلغهم الرسل من بعدهم خبرهم يلعنونهم.

و أما اللعنة يوم القيامة فمصداقه العذاب الخالد الذي يلحق بهم يومئذ فإن يوم القيامة يوم جزاء لا غير.

و في تعقيب قوله في الآية: ﴿وَ أُتْبِعُوا بقوله: ﴿وَ أُتْبِعُوا لطف ظاهر.

قوله تعالى: ﴿أَلاَ إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ أي كفروا بربهم فهو منصوب بنزع الخافض و هذا هو التلخيص الثاني الذي أشرنا إليه لخص به

 

 

 

 التلخيص الأول فقوله: ﴿أَلاَ إِنَّ عَاداً إلخ، يحاذي به وصف حالهم المذكور في قوله: ﴿وَ تِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا إلخ، و قوله: ﴿أَلاَ بُعْداً لِعَادٍ إلخ، يحاذي به قوله: ﴿وَ أُتْبِعُوا فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا لَعْنَةً إلخ.

و يتأيد من هذه الجملة أن المراد باللعنة السابقة اللعنة الإلهية دون لعن الناس، و الأنسب به أحد الوجهين الأولين من الوجوه الثلاثة السابقة و خاصة الوجه الثاني دون الوجه الثالث.

(بحث روائي)

 في تفسير العياشي، عن أبي عمرو السعدي قال: قال علي بن أبي طالب (عليه السلام): في قوله: ﴿إِنَّ رَبِّي عَليَ‏ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني أنه على حق يجزي بالإحسان إحسانا، و بالسيئ سيئا، و يعفو عمن يشاء و يغفر، سبحانه و تعالى.

 أقول: و قد تقدم توضيحه، و قد ورد في الرواية عنهم (عليه السلام): أن عادا كانت بلادهم في البادية، و كان لهم زرع و نخيل كثيرة، و لهم أعمار طويلة و أجساد طويلة فعبدوا الأصنام، و بعث الله إليهم هودا يدعوهم إلى الإسلام و خلع الأنداد فأبوا و لم يؤمنوا بهود و آذوه فكفت عنهم السماء سبع سنين حتى قحطوا. الحديث.

 و روي إمساك السماء عنهم من طريق أهل السنة عن الضحاك أيضا قال : أمسك عن عاد القطر ثلاث سنين فقال لهم هود: ﴿اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ اَلسَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً فأبوا إلا تماديا، و قد تقدم أن الآيات لا تخلو من إشارة إليه.

و اعلم أن الروايات في قصة هود و عاد كثيرة إلا أنها تشتمل على أمور لا سبيل إلى تصحيحها من طريق الكتاب و لا إلى تأييدها بالاعتبار و لذلك طوينا ذكرها.

و ورد أيضا أخبار أخر من طرق الشيعة و أهل السنة في وصف جنة عاد التي تنسب إلى شداد الملك و هي المذكورة في قوله تعالى ﴿إِرَمَ ذَاتِ اَلْعِمَادِ اَلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي اَلْبِلاَدِ الفجر: - ٨، و سيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الفجر.

 

 

 

 (كلام في قصة هود)

١ - عاد قوم هود:

هؤلاء قوم من العرب من بشر ما قبل التاريخ كانوا يسكنون الجزيرة انقطعت أخبارهم و انمحت آثارهم لا يحفظ التاريخ من حياتهم إلا أقاصيص لا يطمئن إليها و ليس في التوراة الموجودة منهم ذكر.

و الذي يذكره القرآن الكريم من قصتهم هو أن عادا و ربما يسميهم عادا الأولى (النجم: ٥٠) و فيه إشارة إلى أن هناك عادا ثانية كانوا قوما يسكنون الأحقاف‏[1] من شبه جزيرة العرب» الأحقاف: ٢١) بعد قوم نوح (الأعراف: ٦٩).

كانت لهم أجساد طويلة (القمر: ٢٠، الحاقة: ٧) و كانوا ذوي بسطة في الخلق (الأعراف: ٦٩) أولي قوة و بطش شديد (حم السجدة: ١٥، الشعراء:

 ١٣٠) و كان لهم تقدم و رقي في المدنية و الحضارة، لهم بلاد عامرة و أراض خصبة ذات جنات و نخيل و زروع و مقام كريم (الشعراء و غيرها)، و ناهيك في رقيهم و عظيم مدنيتهم قوله تعالى في وصفهم﴿أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ اَلْعِمَادِ اَلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي اَلْبِلاَدِ الفجر: - ٨.

لم يزل القوم يتنعمون بنعمة الله حتى غيروا ما بأنفسهم فتعرقت فيهم الوثنية و بنوا بكل ريع آية يعبثون و اتخذوا مصانع لعلهم يخلدون و أطاعوا طغاتهم المستكبرين فبعث الله إليهم أخاهم هودا يدعوهم إلى الحق و يرشدهم إلى أن يعبدوا الله و يرفضوا الأوثان، و يعملوا بالعدل و الرحمة (الشعراء: ١٣٠) فبالغ في وعظهم و بث النصيحة فيهم، و أنار الطريق و أوضح السبيل، و قطع عليهم العذر فقابلوه بالآباء و الامتناع، و واجهوه بالجحد و الإنكار و لم يؤمن به إلا شرذمة منهم قليلون و أصر جمهورهم على البغي و العناد، و رموه بالسفه و الجنون، و ألحوا عليه بأن ينزل

 

 

 

 عليهم العذاب الذي كان ينذرهم و يتوعدهم به قال ﴿إِنَّمَا اَلْعِلْمُ عِنْدَ اَللَّهِ وَ أُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَ لَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ: الأحقاف: - ٢٣.

فأنزل الله عليهم العذاب و أرسل إليهم الريح العقيم ما تذر من شي‏ء أتت عليه إلا جعلته كالرميم (الذاريات: ٤٢) ريحا صرصرا في أيام نحسات سبع ليال و ثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية (الحاقة: ٧) و كانت تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر (القمر: ٢٠).

و كانوا بادئ ما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم استبشروا و قالوا: عارض ممطرنا و قد أخطئوا بل كان هو الذي استعجلوا به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شي‏ء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم (الأحقاف: ٢٥) فأهلكهم الله عن آخرهم و أنجى هودا و الذين آمنوا معه برحمة منه (هود: ٥٨).

٢ - شخصية هود المعنوية:

و أما هود (عليه السلام) فهو من قوم عاد و ثاني الأنبياء الذين انتهضوا للدفاع عن الحق و دحض الوثنية ممن ذكر الله قصته و ما قاساه من المحنة و الأذى في جنب الله سبحانه، و أثنى عليه بما أثنى على رسله الكرام و أشركه بهم في جميل الذكر عليه سلام الله.

[سورة هود (١١): الآیات ٦١ الی ٦٨ ]

﴿وَ إِليَ‏ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ اِسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ٦١ قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَ تَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَ إِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ٦٢ قَالَ يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَليَ‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اَللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا

 

 

 

تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ٦٣ وَ يَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اَللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اَللَّهِ وَ لاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ٦٤ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ٦٥ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ اَلْقَوِيُّ اَلْعَزِيزُ ٦٦ وَ أَخَذَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا اَلصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ٦٧ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِثَمُودَ ٦٨

(بيان)

تذكر الآيات الكريمة قصة صالح النبي (عليه السلام) و قومه و هم ثمود، و هو (عليه السلام) ثالث الأنبياء القائمين بدعوة التوحيد الناهضين على الوثنية. دعا ثمود إلى التوحيد و تحمل الأذى و المحنة في جنب الله حتى قضي بينه و بين قومه بهلاكهم و نجاته و نجاة من معه من المؤمنين.

قوله تعالى: ﴿وَ إِليَ‏ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ تقدم الكلام في نظيرة الآية في قصة هود.

قوله تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ اِسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا إلى آخر الآية.

قال الراغب الإنشاء إيجاد الشي‏ء و تربيته و أكثر ما يقال ذلك في الحيوان قال:

﴿هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصَارَ. انتهى، و قال: العمارة ضد الخراب يقال: عمر أرضه يعمرها عمارة قال: ﴿وَ عِمَارَةَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ يقال:

عمرته فعمر فهو معمور قال: ﴿وَ عَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا ﴿وَ اَلْبَيْتِ اَلْمَعْمُورِ و أعمرته الأرض و استعمرته إذا فوضت إليه العمارة قال: ﴿وَ اِسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا

 

 

 

انتهى، فالعمارة تحويل الأرض إلى حال تصلح بها أن ينتفع من فوائدها المترقبة منها كعمارة الدار للسكنى و المسجد للعبادة و الزرع للحرث و الحديقة لاجتناء فاكهتها و التنزه فيها و الاستعمار هو طلب العمارة بأن يطلب من الإنسان أن يجعل الأرض عامرة تصلح لأن ينتفع بما يطلب من فوائدها.

و على ما مر يكون معنى قوله: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ اِسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا و الكلام يفيد الحصر أنه تعالى هو الذي أوجد على المواد الأرضية هذه الحقيقة المسماة بالإنسان ثم كملها بالتربية شيئا فشيئا و أفطره على أن يتصرف في الأرض بتحويلها إلى حال ينتفع بها في حياته، و يرفع بها ما يتنبه له من الحاجة و النقيصة أي إنكم لا تفتقرون في وجودكم و بقائكم إلا إليه تعالى و تقدس.

فقول صالح: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ اِسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا في مقام التعليل و حجة يستدل بها على ما ألقاه إليهم من الدعوة بقوله: ﴿يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ و لذلك جي‏ء بالفصل كأنه قيل له: لم نعبده وحده؟ فقال:

لأنه هو الذي أنشأكم من الأرض و استعمركم فيها.

و ذلك لأنهم إنما كانوا يعبدون الأوثان و يتخذونها شركاء لله تعالى لأنهم كانوا يقولون على مزعمتهم إن الله سبحانه أعظم من أن يحيط به فهم و أرفع و أبعد من أن تناله عبادة أو ترتفع إليه مسألة، و لا بد للإنسان من ذلك فمن الواجب أن نعبد بعض مخلوقاته الشريفة التي فوض إليه أمر هذا العالم الأرضي و تدبير النظام الجاري فيه و نتقرب بالتضرع إليه حتى يرضى عنا فينزل علينا الخيرات، و لا يسخط علينا و نأمن بذلك الشرور، و هذا الإله الرب بالحقيقة شفيعنا عند الله لأنه إله الآلهة و رب الأرباب، و إليه يرجع الأمر كله.

فدين الوثنية مبني على انقطاع النسبة بين الله سبحانه و بين الإنسان و استقرارها بينه و بين تلك الوسائط الشريفة التي يتوجهون إليها مع استقلال هذه الوسائط في التأثير، و شفاعتها عند الله.

و لما كان الله تعالى هو الذي أنشأ الإنسان من الأرض و استعمره فيها فهو تعالى ذو نسبة إلى الإنسان قريب منه، و لا استقلال لشي‏ء من هذه الأسباب التي

 

 

 

 نظمها و أجراها في هذا العالم حتى يرجى منها خير بالإرضاء أو يترقب شر بالإسخاط.

فالله سبحانه هو الذي يجب أن يعبد فيرجى بذلك رضاه، و يتقى بذلك سخطه لمكان أنه هو الخالق للإنسان و لكل شي‏ء المدبر أمره و أمر كل شي‏ء فقوله:

﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ اِسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا مسوق لتعليل سابقه و الاحتجاج عليه من طريق إثبات النسبة بينه تعالى و بين الإنسان و نفي الاستقلال من الأسباب.

و لذلك عقبه بقوله: ﴿فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ على وجه التفريع أي فإذا كان الله تعالى هو الذي يجب عليكم أن تعبدوه و تتركوا غيره لكونه هو خالقكم المدبر لأمر حياتكم فاسألوه أن يغفر لكم معصيتكم بعبادة غيره، و ارجعوا إليه بالإيمان به و عبادته. إنه قريب مجيب.

و قد علل قوله: ﴿فَاسْتَغْفِرُوهُ إلخ، بقوله: ﴿إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ لأنه استنتج من حجته المذكورة أنه تعالى يقوم بإيجاد الإنسان و تربيته و تدبير أمر حياته، و أنه لا استقلال لشي‏ء من الأسباب العمالة في الكون بل الله تعالى هو الذي يسوق هذا إلى هنا، و يصرف ذاك عن هناك فهو تعالى الحائل بين الإنسان و بين حوائجه و جميع الأسباب العمالة فيها، القريب منه لا كما يزعمون أنه لا يدركه فهم و لا يناله عبادة و قربان، و إذا كان قريبا فهو مجيب، و إذا كان قريبا مجيبا و هو الله لا إله غيره فمن الواجب أن يستغفروه ثم يتوبوا إليه.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَ تَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا إلخ، الرجاء إنما يتعلق بالإنسان لا من جهة ذاته بل من جهة أفعاله و آثاره، و لا يرجى منها إلا الخير و النفع فكونه مرجوا هو أن يوجد ذا رشد و كمال في شخصه و بيته فيستهل منه الخير و يترقب منه النفع، و قوله: ﴿قَدْ كُنْتَ فِينَا دليل على كونه مرجوا لعامتهم و جمهورهم.

فقولهم: ﴿يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا معناه أن ثمود كانت ترجو منك أن تكون من أفرادها الصالحة تنفع بخدماتك مجتمعهم و تحمل الأمة على صراط الترقي و التعالي لما كانت تشاهد فيك من أمارات الرشد و الكمال لكنهم يئسوا منك و من رزانة رأيك اليوم بما أبدعت من القول و أقمت من الدعوة.

 

 

 

 و قولهم: ﴿أَ تَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا استفهام إنكاري بداعي المذمة و الملامة، و الاستفهام في مقام التعليل لما قبله محصله أن سبب يأسهم منك اليوم أنك تنهاهم من إقامة سنة من سنن مليتهم و تمحو أظهر مظاهر قوميتهم فإن اتخاذ الأوثان من سنن هذا المجتمع المقدسة، و استمرار إقامة السنن المقدسة من المجتمع دليل على أنهم ذوو أصل عريق ثابت، و وحدة قومية لها استقامة في الرأي و الإرادة.

و الدليل على ما ذكرنا قوله: ﴿أَ تَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا الدال على معنى العبادة المستمرة باتصال عبادة الأبناء بعبادة الآباء و لم يقل: أ تنهانا أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا؟ و الفرق بين التعبيرين من جهة المعنى واضح.

و من هنا يظهر أن تفسير بعض المفسرين كصاحب المنار و غيره قوله: ﴿أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا بقولهم: «أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا» من الخطإ.

و قوله: ﴿وَ إِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ حجة ثانية لهم في رد دعوة صالح (عليه السلام)، و حجتهم الأولى ما يتضمنه صدر الآية و محصلها أن ما تدعو إليه من رفض عبادة الأصنام بدعة منكرة تذهب بسنة ثمود المقدسة و تهدم بنيان مليتهم، و تميت ذكرهم فعلينا أن نرده، و الثانية أنك لم تأت بحجة بينة على ما تدعو إليه تورث اليقين و تميط الشك عنا فنحن في شك مريب مما تدعونا إليه و ليس لنا أن نقبل ما تندب إليه على شك منا فيه.

و الإرابة الاتهام و إساءة الظن يقال: رابني منه كذا إذا أوجب فيه الشك و أرابني كذا إرابة إذا حملك على اتهامه و سوء الظن به.

قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَليَ‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً إلى آخر الآية. المراد بالبينة الآية المعجزة و بالرحمة النبوة، و قد تقدم الكلام في نظير الآية من قصة نوح (عليه السلام) في السورة.

و قوله: ﴿فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اَللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ جواب الشرط، و حاصل المعنى:

أخبروني إن كنت مؤيدا بآية معجزة تنبئ عن صحة دعوتي و أعطاني الله الرسالة فأمرني بتبليغ رسالته فمن ينجني من الله و يدفع عني إن أطعتكم فيما تسألون و وافقتكم فيما تريدونه مني و هو ترك الدعوة.

 

 

 

 ففي الكلام جواب عن كلتا حجتيهم و اعتذار عما لاموه عليه من الدعوة المبتدعة.

و قوله: ﴿فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ تفريع على قوله السابق الذي ذكره في مقام دحض الحجتين و الاعتذار عن مخالفتهم و القيام بدعوتهم إلى خلاف سنتهم القومية فالمعنى فما تزيدونني في حرصكم على ترك الدعوة و الرجوع إليكم و اللحوق بكم غير أن تخسروني فما مخالفة الحق إلا خسارة.

و قيل: المراد أنكم ما تزيدونني في قولكم: ﴿أَ تَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا؟ غير نسبتي إياكم إلى الخسارة. و قيل: المعنى ما تزيدونني إلا بصيرة في خسارتكم و الوجه الأول أوجه.

قوله تعالى: ﴿وَ يَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اَللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اَللَّهِ وَ لاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ إضافة الناقة إلى الله إضافة تشريف كبيت الله و كتابة الله. و كانت الناقة آية معجزة له (عليه السلام) تؤيد نبوته، و قد أخرجها عن مسألتهم من صخر الجبل بإذن الله، و قال لهم: أنها تأكل في أرض الله محررة، و حذرهم أن يمسوها بسوء أي يصيبوها بضرب أو جرح أو قتل. و أخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك أخذهم عذاب قريب معجل، و هذا معنى الآية.

قوله تعالى: ﴿فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ عقر الناقة نحرها، و الدار هي المكان الذي يبنيه الإنسان فيسكن فيه و يأوي إليه هو و أهله، و المراد بها في الآية المدينة سميت دارا لأنها تجمع أهلها كما تجمع الدار أهلها، و قيل المراد بالدار الدنيا، و هو بعيد.

و المراد بتمتعهم في مدينتهم العيش و التنعم بالحياة لأن الحياة الدنيا متاع يتمتع به، أو الالتذاذ بأنواع النعم التي هيئوها فيها من مناظر ذات بهجة و الأثاث و المأكول و المشروب و الاسترسال في أهواء أنفسهم.

و قوله: ﴿ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ الإشارة إلى قوله: ﴿تَمَتَّعُوا إلخ، و ﴿وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ بيان له.

قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً إلى آخر الآية. أما قوله: ﴿فَلَمَّا

 

 

 

 جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا فقد تقدم الكلام في مثله في قصة هود.

و أما قوله: ﴿وَ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ فمعطوف على محذوف و التقدير نجيناهم من العذاب و من خزي يومئذ، و الخزي‏ العيب الذي تظهر فضيحته و يستحيي من إظهاره أو أن التقدير: نجيناهم من القوم و من خزي يومئذ على حد قوله: ﴿وَ نَجِّنِي مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ.

و قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ اَلْقَوِيُّ اَلْعَزِيزُ في موضع التعليل لمضمون صدر الآية و فيه التفات من التكلم بالغير إلى الغيبة، و قد تقدم نظيره في آخر قصة هود في قوله: ﴿أَلاَ إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ و الوجه فيه ذكر صفة الربوبية ليدل به على خروجهم من زي العبودية و كفرهم بالربوبية و كفرانهم نعم ربهم.

قوله تعالى: ﴿وَ أَخَذَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا اَلصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ يقال:

جثم جثوما إذا وقع على وجهه، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا غني بالمكان أي أقام فيه و الضمير راجع إلى الديار.

قوله تعالى: ﴿أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِثَمُودَ الجملتان تلخيص ما تقدم تفصيله من القصة فالجملة الأولى تلخيص ما انتهى إليه أمر ثمود و دعوة صالح (عليه السلام)، و الثانية تلخيص ما جازاهم الله به، و قد تقدم نظيرة الآية في آخر قصة هود.

(بحث روائي)

 في الكافي، مسندا عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَ بَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلاَلٍ وَ سُعُرٍ قال: هذا فيما كذبوا صالحا، و ما أهلك الله عز و جل قوما قط حتى يبعث قبل ذلك الرسل فيحتجوا عليهم .

فبعث الله إليهم صالحا فلم يجيبوه و عتوا عليه، و قالوا لن نؤمن لك حتى

 

 

 

تخرج إلينا من هذه الصخرة ناقة عشراء و كانت الصخرة يعظمونها و يعبدونها و يذبحون عندها في رأس كل سنة و يجتمعون عندها، فقالوا: إن كنت كما تزعم نبيا رسولا فادع لنا إلهك حتى يخرج لنا من هذه الصخرة الصماء ناقة عشراء فأخرجها الله كما طلبوا منه .

ثم أوحى الله تبارك و تعالى إليه أن يا صالح قل لهم: إن الله قد جعل لهذه الناقة لها شرب يوم و لكم شرب يوم فكانت الناقة إذا كان يومها شربت الماء ذلك اليوم فيحبسونها فلا يبقى صغير و كبير إلا شرب من لبنها يومهم ذلك فإذا كان الليل و أصبحوا غدوا إلى مائهم فشربوا منه ذلك اليوم و لم تشرب الناقة ذلك اليوم فمكثوا بذلك ما شاء الله .

ثم إنهم عتوا على الله و مشى بعضهم إلى بعض قال: اعقروا هذه الناقة و استريحوا منها لا نرضى أن يكون لنا شرب يوم و لها شرب يوم. ثم قالوا: من الذي يلي قتلها و نجعل له جعلا ما أحب؟ فجاءهم رجل أحمر أشقر أزرق ولد زنا لا يعرف له أب يقال له: قدار شقي من الأشقياء مشئوم عليهم فجعلوا له جعلا .

فلما توجهت الناقة إلى الماء الذي كانت ترده تركها حتى شربت و أقبلت راجعة فقعد لها في طريقها فضربها بالسيف ضربة فلم يعمل شيئا فضربها ضربة أخرى فقتلها و خرت على الأرض على جنبها، و هرب فصيلها حتى صعد إلى الجبل فرغا ثلاث مرات إلى السماء، و أقبل قوم صالح فلم يبق منهم أحد إلا شركه في ضربته، و اقتسموا لحمها فيما بينهم فلم يبق منهم صغير و لا كبير إلا أكل منها .

فلما رأى ذلك صالح أقبل إليهم و قال: يا قوم ما دعاكم إلى ما صنعتم؟ أ عصيتم أمر ربكم؟ فأوحى الله تبارك و تعالى إلى صالح (عليه السلام): إن قومك قد طغوا و بغوا و قتلوا ناقة بعثها الله إليهم حجة عليهم و لم يكن لهم فيها ضرر و كان لهم أعظم المنفعة فقل لهم: إني مرسل إليهم عذابي إلى ثلاثة أيام فإن هم تابوا و رجعوا قبلت توبتهم و صددت عنهم، و إن هم لم يتوبوا و لم يرجعوا بعثت إليهم عذابي في اليوم الثالث .

فأتاهم صالح و قال: يا قوم إني رسول ربكم إليكم و هو يقول لكم: إن تبتم و رجعتم و استغفرتم غفرت لكم و تبت عليكم، فلما قال لهم ذلك [قالوا ظ] كانوا

 

 

 

 أعتى ما قالوا و أخبث و قالوا: يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين .

قال: يا قوم إنكم تصبحون غدا و وجوهكم مصفرة، و اليوم الثاني وجوهكم محمرة و اليوم الثالث وجوهكم مسودة فلما أن كان أول يوم أصبحوا وجوههم مصفرة فمشى بعضهم إلى بعض و قالوا: قد جاءكم ما قال صالح فقال العتاة منهم: لا نسمع قول صالح و لا نقبل قوله و إن كان عظيما. فلما كان اليوم الثاني أصبحت وجوههم محمرة فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا: يا قوم قد جاءكم ما قال لكم صالح فقال العتاة منهم لو أهلكنا جميعا ما سمعنا قول صالح و لا تركنا آلهتنا التي كان آباؤنا يعبدونها و لم يتوبوا و لم يرجعوا فلما كان اليوم الثالث أصبحوا و وجوههم مسودة فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا: يا قوم أتاكم ما قال لكم صالح فقال العتاة منهم: قد أتانا ما قال لنا صالح .

فلما كان نصف الليل أتاهم جبرئيل فصرخ لهم صرخة خرقت تلك الصرخة أسماعهم و فلقت قلوبهم و صدعت أكبادهم و قد كانوا في تلك الثلاثة الأيام قد تحنطوا و تكفنوا و علموا أن العذاب نازل بهم فماتوا جميعا في طرفة عين: صغيرهم و كبيرهم فلم يبق لهم ناعقة و لا راعية و لا شي‏ء إلا أهلكه الله فأصبحوا في ديارهم و مضاجعهم موتى فأرسل الله إليهم مع الصيحة النار من السماء فأحرقهم أجمعين، و كانت هذه قصتهم. أقول: و اشتمال الحديث على أمور خارقة للعادة كشرب الناس جميعا من لبن الناقة و كذا تغير ألوان وجوههم يوما فيوما لا ضير فيه بعد ما كان أصل وجودها عن إعجاز، و قد نص القرآن الكريم بذلك، و بأنها كانت لها شرب يوم و لأهل المدينة كلهم شرب يوم معلوم.

و أما كون الصيحة من جبرئيل فلا ينافي كونها صاعقة سماوية نازلة عليهم إماتتهم بصوتها و أحرقتهم بنارها إذ لا مانع من نسبة حادث من الحوادث الكونية خارق للعادة أو جار عليها إلى ملك روحاني إذا كان هو في مجرى صدوره كما أن سائر الحوادث الكونية من الموت و الحياة و الرزق و غيرها منسوبة إلى الملائكة العمالة.

و قوله (عليه السلام): إنهم قد كانوا في الثلاثة الأيام قد تحنطوا و تكفنوا كأنه كناية عن تهيئهم للموت.

 

 

 

 و قد وقع في بعض الروايات في وصف الناقة أنه كانت بين جنبيها مسافة ميل و هو مما يوهن الرواية لا لاستحالة وقوعه فإن ذلك ممكن الدفع من جهة أن كينونتها كانت عن إعجاز بل لأن اعتبار النسبة بين أعضائها حينئذ يوجب بلوغ ارتفاع سنامها مما يقرب من ثلاثة أميال و لا يتصور مع ذلك أن يتمكن واحد من الناس من قتله بسيفه و لم يقع ذلك عن إعجاز من عاقر الناقة قطعا، و مع ذلك لا يخلو قوله تعالى:

﴿لَهَا شِرْبٌ وَ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ من دلالة أو إشعار على كون جثتها عظيمة جدا.

كلام في قصة صالح في فصول

١ - ثمود قوم صالح (عليه السلام):

ثمود قوم من العرب العاربة كانوا يسكنون وادي القرى بين المدينة و الشام، و هم من بشر ما قبل التاريخ لا يضبط التاريخ إلا شيئا يسيرا من أخبارهم، و لقد عفت الدهور آثارهم فلا اعتماد على ما يذكر من جزئيات قصصهم.

و الذي يقصه كتاب الله من أخبارهم أنهم كانوا أمة من العرب على ما يدل عليه اسم نبيهم و قد كان منهم (هود: ٦١) نشئوا بعد قوم عاد و لهم حضارة و مدنية يعمرون الأرض و يتخذون من سهولها قصورا و ينحتون من الجبال بيوتا آمنين الأعراف: ٧٤) و من شغلهم الفلاحة بإجراء العيون و إنشاء الجنات و النخيل و الحرث (الشعراء: ١٤٨).

كانت ثمود تعيش على سنة الشعوب و القبائل يحكم فيهم سادتهم و شيوخهم و قد كانت في المدينة التي بعث فيها صالح تسعة رهط يفسدون في الأرض و لا يصلحون (النمل: ٤٨) فطغوا في الأرض و عبدوا الأصنام و أفرطوا عتوا و ظلما.

٢ - بعثة صالح (عليه السلام):

لما نسيت ثمود ربها و أسرفوا في أمرهم أرسل الله إليهم صالحا النبي (عليه السلام) و كان من بيت الشرف و الفخار معروفا بالعقل و الكفاية (هود ٦٢ - النمل ٤٩) فدعاهم إلى توحيد الله سبحانه و أن يتركوا عبادة الأصنام و أن يسيروا في مجتمعهم بالعدل و الإحسان، و لا يعلوا في الأرض و لا يسرفوا و لا يطغوا و أنذرهم بالعذاب» هود - الشعراء - الشمس و غيرها).

 

 

 

 فقام (عليه السلام) بالدعوة إلى دين الله بالحكمة و الموعظة الحسنة و صبر على الأذى في جنب الله فلم يؤمن به إلا جماعة قليلة من ضعفائهم (الأعراف: ٧٥) و أما الطغاة المستكبرون و عامة من تبعهم فأصروا على كفرهم و استذلوا الذين آمنوا به و رموه بالسفاهة و السحر (الأعراف ٦٦ - الشعراء ١٥٣ - النمل ٤٧).

و طلبوا منه البينة على مقاله، و سألوه آية معجزة تدل على صدقه في دعوى الرسالة، و اقترحوا له أن يخرج لهم من صخر الجبل ناقة فأتاهم بناقة على ما وصفوها به، و قال لهم: إن الله يأمركم أن تشربوا من عين مائكم يوما و تكفوا عنها يوما فتشربها الناقة فلها شرب يوم و لكم شرب يوم معلوم، و أن تذروها تأكل في أرض الله كيف شاءت و لا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب (الأعراف ٧٢ - هود ٦٤ - الشعراء ١٥٦).

و كان الأمر على ذلك حينا ثم إنهم طغوا و مكروا و بعثوا أشقاهم لقتل الناقة فعقرها، و قالوا لصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. قال صالح (عليه السلام):

﴿تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (هود - ٦٥).

ثم مكرت شعوب المدينة و أرهاطها بصالح و تقاسموا بينهم لنبيتنه و أهله ثم نقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله و إنا لصادقون، و مكروا مكرا و مكر الله مكرا و هم لا يشعرون (النمل ٥٠) ﴿فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّاعِقَةُ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ : الذاريات - ٤٤ و الرجفة و الصيحة فأصبحوا في دارهم جاثمين فتولى عنهم و قال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي و نصحت لكم و لكن لا تحبون الناصحين (الأعراف ٧٩ - هود ٦٧) و أنجى الله الذين آمنوا و كانوا يتقون (حم السجدة ١٨) و نادى بعدهم المنادي الإلهي:

ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود.

٣ - شخصية صالح (عليه السلام):

 لم يرد لهذا النبي الصالح في التوراة الحاضرة ذكر. كان (عليه السلام) من قوم ثمود ثالث الأنبياء المذكورين في القرآن بالقيام بأمر الله و النهضة للتوحيد على الوثنية يذكره الله تعالى بعد نوح و هود، و يحمده و يثني عليه بما أثنى به على أنبيائه و رسله، و قد اختاره و فضله كسائرهم على العالمين (عليه السلام).

 

 

 

[سورة هود (١١): الآیات ٦٩ الی ٧٦]

﴿وَ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْريَ‏قَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ٦٩ فَلَمَّا رَأيَ‏أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِليَ‏ قَوْمِ لُوطٍ ٧٠ وَ اِمْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَ مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ٧١ قَالَتْ يَا وَيْلَتيَ‏ أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْ‏ءٌ عَجِيبٌ ٧٢ قَالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ رَحْمَتُ اَللَّهِ وَ بَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ٧٣ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ اَلرَّوْعُ وَ جَاءَتْهُ اَلْبُشْريَ‏ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ٧٤ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ٧٥ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ٧٦

(بيان)

تتضمن الآيات قصة بشرى إبراهيم (عليه السلام) بالولد، و أنها كالتوطئة لما سيذكر بعده من قصة ذهاب الملائكة إلى لوط النبي (عليه السلام) لإهلاك قومه فإن تلك القصة ذيل هذه القصة و في آخر قصة البشرى ما يتبين به وجه قصة الإهلاك و هو قوله:

﴿إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ الآية.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرى‏ إلى آخر الآية البشرى‏ هي البشارة، و العجل‏ ولد البقرة، و الحنيذ فعيل بمعنى المفعول أي المحنوذ و هو

 

 

 

 اللحم المشوي على حجارة محماة بالنار كما أن القديد هو المشوي على حجارة محماة بالشمس على ما ذكره بعض اللغويين، و ذكر بعضهم أنه المشوي الذي يقطر ماء و سمنا، و قيل: هو مطلق المشوي، و قوله تعالى في سورة الذاريات في القصة:

﴿فَرَاغَ إِليَ‏ أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ لا يخلو من تأييد ما للمعنى الثاني.

و قوله: ﴿وَ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرى‏ معطوف على قوله سابقا:

﴿وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِليَ‏ قَوْمِهِ قال في المجمع،: و إنما دخلت اللام لتأكيد الخبر و معنى قد هاهنا أن السامع لقصص الأنبياء يتوقع قصة بعد قصة، و قد للتوقع فجاءت لتؤذن أن السامع في حال توقع. انتهى.

و الرسل هم الملائكة المرسلون إلى إبراهيم للبشارة و إلى لوط لإهلاك قومه و قد اختلفت كلمات المفسرين في عددهم مع القطع بكونهم فوق الاثنين لدلالة لفظ الجمع الرسل على ذلك، و في بعض الروايات عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) أنهم كانوا أربعة من الملائكة الكرام، و سيأتي نقلها إن شاء الله في البحث الروائي.

و البشرى التي جاءت بها الرسل إبراهيم (عليه السلام) لم يذكر بلفظها في القصة، و التي ذكرت فيها منها هي البشارة لامرأته، و إنما ذكرت بشارة إبراهيم نفسه في غير هذا المورد كسورتي الحجر و الذاريات، و لم يصرح فيهما باسم من بشر به إبراهيم أ هو إسحاق أم إسماعيل (عليه السلام) أو أنهم بشروه بكليهما؟ و ظاهر سياق القصة في هذه السورة أنها البشارة بإسحاق، و سيأتي البحث المستوفى عن ذلك في آخر القصة.

و قوله: ﴿قَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ أي تسالموا هم و إبراهيم فقالوا: سلاما أي سلمنا عليك سلاما، و قال إبراهيم: سلام أي عليكم سلام.

و السلام الواقع في تحية إبراهيم (عليه السلام) نكرة و وقوعه نكرة في مقام التحية دليل على أن المراد به الجنس أو أن له وصفا محذوفا للتفخيم و مزيد التكريم و التقدير: عليكم سلام زاك طيب أو ما في معناه، و لذا ذكر بعض المفسرين: أن رفع السلام أبلغ من نصبه فقد حياهم بأحسن تحيتهم فبالغ في إكرامهم ظنا منه أنهم ضيف.

 

 

 

و قوله: ﴿فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ أي ما أبطأ في أن قدم إليهم عجلا مشويا يقطر ماء و سمنا و أسرع في ذلك.

قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأيَ‏ أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً عدم وصول أيديهم إليه كناية عن أنهم ما كانوا يمدون أيديهم إلى الطعام، و ذلك أمارة العداوة و إضمار الشر، و نكرهم و أنكرهم بمعنى واحد و إنما كان أنكرهم لإنكاره ما شاهد منهم من فعل غير معهود.

و الإيجاس‏ الخطور القلبي، قال الراغب: الوجس‏ الصوت الخفي، و التوجس‏ التسمع، و الإيجاس وجود ذلك النفس قال: و أوجس منهم خيفة، و الواجس قالوا:

هو حالة تحصل من النفس بعد الهاجس لأن الهاجس مبتدأ التفكير ثم يكون الواجس الخاطر. انتهى. فالجملة من الكناية كان لطروق الخيفة و هو النوع من الخوف و خطوره في النفس صوتا تسمع بالسمع القلبي، و المراد أنه استشعر في نفسه خوفا و لذلك أمنوه و طيبوا نفسه بقولهم: ﴿لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِليَ‏ قَوْمِ لُوطٍ.

و معنى الآية أن إبراهيم (عليه السلام) لما قدم إليهم العجل المشوي رآهم لا يأكلون منه كالممتنع من الأكل و ذلك أمارة الشر استشعر في نفسه منهم خوفا قالوا تأمينا له و تطييبا لنفسه: لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط فعلم أنهم من الملائكة الكرام المنزهين من الأكل و الشرب و ما يناظر ذلك من لوازم البدن المادية، و أنهم مرسلون لخطب جليل.

و نسبة استشعار الخوف إلى إبراهيم (عليه السلام) لا ينافي ما كان عليه من مقام النبوة الملازم للعصمة الإلهية من المعصية و الرذائل الخلقية فإن مطلق الخوف و هو تأثر النفس عن مشاهدة المكروه التي تبعثها إلى التحذر منه و المبادرة إلى دفعه ليس من الرذائل، و إنما الرذيلة هي التأثر الذي يستوجب بطلان مقاومة النفس و ظهور العي و الفزع و الذهول عن التدبير لدفع المكروه و هو المسمى بالجبن كما أن عدم التأثر عن مشاهدة المكروه مطلقا و هو المسمى تهورا ليس من الفضيلة في شي‏ء.

و ذلك أن الله سبحانه لم يخلق هذه الحالات النفسانية التي تظهر في النفوس

 

 

 

 و منها التأثر و الانفعال عند مشاهدة المكروه و الشر كالشوق و الميل و الحب و غير ذلك عند مشاهدة المحبوب و الخير عبثا باطلا فإن جلب الخير و النفع و دفع الشر و الضرر مما فطر على ذلك أنواع الموجودات على كثرتها و عليه يدور رحى الوجود في نظامه العام.

و لما كان هذا النوع المسمى بالإنسان إنما يسير في مسير بقائه بالشعور و الإرادة كان عمل الجلب و الدفع فيه مترشحا عن شعوره و إرادته، و لا يتم إلا عن تأثر نفساني يسمى في جانب الحب ميلا و شهوة و في جانب البغض و الكراهة خوفا و وجلا.

ثم لما كانت هذه الأحوال النفسانية الباطنة ربما ساقت الإنسان إلى أحد جانبي الإفراط و التفريط كان من الواجب على الإنسان أن يقوم من الدفع على ما ينبغي و هو فضيلة الشجاعة كما أن من الواجب عليه أن يبادر من الجلب إلى ما ينبغي على ما ينبغي و هو فضيلة العفة و هما حدا الاعتدال بين الإفراط و التفريط، و أما انتفاء التأثر بأن يلقي الإنسان بنفسه إلى التهلكة الصريحة في باب الدفع و هو التهور، أولا تنزع نفسه إلى شي‏ء مطلوب قط في باب الجلب و الشهوة و هو الخمول و كذا بلوغ التأثر من القوة إلى حيث ينسى الإنسان نفسه و يذهل عن واجب رأيه و تدبيره فيجزع عن كل شبح يتراءى له في باب الدفع و هو الجبن أو ينكب على كل ما تهواه نفسه و تشتهيه كالبهيمة على عليقها في باب الشهوة و هو الشره فجميع هذه من الرذائل.

و الذي آثر الله سبحانه به أنبياءه من العصمة إنما يثبت في نفوسهم فضيلة الشجاعة دون التهور، و ليست الشجاعة تقابل الخوف الذي هو مطلق التأثر عن مشاهدة المكروه، و هو الذي يدعو النفس إلى القيام بواجب الدفع، و إنما تقابل الجبن الذي هو بلوغ التأثر النفساني إلى حيث يبطل الرأي و التدبير و يستتبع العي و الانهزام.

قال تعالى﴿اَلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اَللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اَللَّهَ الأحزاب: - ٣٩، و قال مخاطبا لموسى (عليه السلام) ﴿لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْأَعْلى‏ طه:

 - ٦٨، و قال حكاية عن قول شعيب له (عليه السلام) ﴿لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ اَلْقَوْمِ

 

 

 

 اَلظَّالِمِينَ القصص: - ٢٥، و قال مخاطبا لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) ﴿وَ إِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَليَ‏ سَوَاءٍ الأنفال: - ٥٨.

و الخليل (عليه السلام) هو النبي الكريم الذي قام بالدعوة الحقة إذ لا يذكر اسم الله وحده، و نازع وثنية قومه فحاج أباه آزر و قومه و حاج الملك الجبار نمرود و كان يدعي الألوهية، و كسر أصنام القوم حتى ألقوه في النار فأنجاه الله من النار فلم يجبنه شي‏ء من تلك المهاول، و لا هزمه في جهاده في سبيل الله هازم، و مثل هذا النبي على ما له من الموقف الروحي إن خاف من شي‏ء أو وجل من أحد أو ارتاعه أمر على اختلاف تعبير الآيات فإنما يخافه خوف حزم و لا يخافه خوف جبن، و إذا خاف من شي‏ء على نفسه أو عرضه أو ماله فإنما يخاف لله لا لهوى من نفسه.

قوله تعالى: ﴿وَ اِمْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَ مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ضحكت‏ من الضحك بفتح الضاد أي حاضت، و يؤيده تفريع البشارة عليه في قوله عقيبه: ﴿فَبَشَّرْنَاهَا إلخ، و يكون ضحكها أمارة تقرب البشرى إلى القبول، و آية تهيئ نفسها للإذعان بصدقهم فيما يبشرون به، و يكون ذكر قيامها لتمثيل المقام و أنها ما كانت تخطر ببالها أنها ستحيض و هي عجوز، و إنما كانت قائمة تنظر ما يجري عليه الأمر بين بعله و بين الضيفان النازلين به و تحادثهم.

و المعنى أن إبراهيم (عليه السلام) كان يكلمهم و يكلمونه في أمر الطعام و الحال أن امرأته قائمة هناك تنظر إلى ما يجري بين الضيفان و بين إبراهيم و ما كان يخطر ببالها شي‏ء دون ذلك ففاجأها أنها حاضت فبشرته الملائكة بالولد.

و أكثر المفسرين أخذوا الكلمة من الضحك بكسر الضاد ضد البكاء ثم اختلفوا في توجيه سببه، و أقرب الوجوه هو أن يقال: إنها كانت قائمة هناك و قد ذعرت من امتناع الضيوف من الأكل و هو يهتف بالشر فلما لاحت لها أنهم ملائكة مكرمون نزلوا ببيتهم و أن لا شر في ذلك يتوجه إليهم سرت و فرحت فضحكت فبشروه بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب.

و هناك وجوه أخر ذكروها خالية عن الدليل كقولهم إنها ضحكت تعجبا من غفلة قوم لوط، و قولهم: إنها ضحكت تعجبا من امتناع الضيوف من الأكل

 

 

 

 و الحال أنها تخدمهم بنفسها، و قولهم: إنها كانت أشارت إلى إبراهيم أن يضم إليه لوطا لأن فحشاء قومه سيعقبهم العذاب و الهلاك فلما سمعت من الملائكة قولهم:

إنا أرسلنا إلى قوم لوط سرت و ضحكت لإصابتها في الرأي، و قولهم: إنها ضحكت تعجبا مما بشروها به من الولد و هي عجوز عقيم، و على هذا ففي الكلام تقديم و تأخير و التقدير: فبشرناها بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب فضحكت.

و قوله: ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَ مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ إسحاق هو ابنها من إبراهيم، و يعقوب هو ابن إسحاق (عليه السلام) فالمراد أن الملائكة بشروها بأنها ستلد إسحاق و إسحاق سيولد له يعقوب ولد بعد ولد. هذا على قراءة يعقوب بالفتح و هو منزوع الخافض و قرئ برفع يعقوب و هو بيان لتتمة البشارة، و الأولى أرجح.

و كان في هذا التعبير: ﴿وَ مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ إشارة إلى وجه تسمية يعقوب (عليه السلام) بهذا الاسم، و هو أنه كان يعقب بحسب هذه البشارة أباه إسحاق و قد ذكر فيها أنه وراءه، و يكون فيها تخطئة لما في التوراة من السبب في تسمية يعقوب به.

قال في التوراة الحاضرة: و كان إسحاق ابن أربعين سنة لما اتخذ لنفسه زوجه «رفقة» بنت بنوئيل الأرامي أخت لابان الأرامي من فدان الأرام، و صلى إسحاق إلى الرب لأجل امرأته لأنها كانت عاقرا فاستجاب له الرب فحبلت رفقة امرأته و تزاحم الولدان في بطنها فقالت: إن كان هكذا فلما ذا أنا، فمضت لتسأل الرب فقال لها الرب: في بطنك أمتان، و من أحشائك يفترق شعبان: شعب يقوى على شعب، و كبير يستعبد لصغير.

فلما كملت أيامها لتلد إذا في بطنها توأمان فخرج الأول أحمر كله كفروة شعر فدعي اسمه عيسو، و بعد ذلك خرج أخوه و يده قابضة بعقب عيسو فدعي اسمه يعقوب. انتهى موضع الحاجة و هذا من لطائف القرآن الكريم.

قوله تعالى: ﴿قَالَتْ يَا وَيْلَتيَ‏ أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْ‏ءٌ عَجِيبٌ الويل‏ القبح و كل مساءة توجب التحسر من هلكة أو مصيبة أو فجيعة، أو فضيحة و نداؤه كناية عن حضوره و حلوله يقال: يا ويلي أي حضرني و حل بي ما

 

 

 

 فيه تحسري، و يا ويلتا بزيادة التاء عند النداء مثل يا أبتا.

و العجوز الشيخة من النساء، و البعل‏ زوج المرأة و الأصل في معناه القائم بالأمر المستغني عن الغير يقال للنخل الذي يستغني بماء السماء عن سقي الأنهار و العيون بعل، و يقال للصاحب و للرب: بعل. و منه بعلبك لأنه كان فيه هيكل بعض أصنامهم.

و العجيب صفة مشبهة من العجب و هو الحال العارض للإنسان من مشاهدة ما لا يعلم سببه، و لذا يكثر في الأمور الشاذة النادرة للجهل بسببها عادة و قولها:

﴿يَا وَيْلَتيَ‏ أَ أَلِدُ إلخ، وارد مورد التعجب و التحسر فإنها لما سمعت بشارة الملائكة تمثل لها الحال بتولد ولد من عجوز عقيم و شيخ هرم بالغين في الكبر لا يعهد من مثلهما الاستيلاد فهو أمر عجيب على ما فيه من العار و الشين عند الناس فيضحكون منهما و يهزءون بهما و ذلك فضيحة.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ رَحْمَتُ اَللَّهِ وَ بَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ المجد هو الكرم و المجيد الكريم كثير النوال و قد تقدم معنى بقية مفردات الآية.

و قولهم: ﴿أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ استفهام إنكاري أنكرت الملائكة تعجبها عليها لأن التعجب إنما يكون للجهل بالسبب و استغراب الأمر، و الأمر المنسوب إلى الله سبحانه و هو الذي يفعل ما يشاء و هو على كل شي‏ء قدير لا وجه للتعجب منه.

على أنه تعالى خص بيت إبراهيم بعنايات عظيمة و مواهب عالية يتفردون بها من بين الناس فلا ضير إن ضم إلى ما مضى من نعمه النازلة عليهم نعمة أخرى مختصة بهم من بين الناس و هو ولد من زوجين شائخين لا يولد من مثلهما ولد عادة.

و لهذا الذي ذكرنا قالت الملائكة لها في إنكار ما رأوا من تعجبها أولا:

﴿أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ فأضافوا الأمر إلى الله لينقطع بذلك كل استعجاب و استغراب لأن ساحة الألوهية لا يشق شي‏ء عليها و هو الخالق لكل شي‏ء.

و ثانيا: ﴿رَحْمَتُ اَللَّهِ وَ بَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ فنبهوها بذلك أن الله أنزل رحمته و بركاته عليهم أهل البيت، و ألزمهم ذلك فليس من البعيد أن يكون من ذلك تولد مولود من والدين في غير سنهما العادي المألوف لذلك.

 

 

 

 و قوله: ﴿إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ في مقام التعليل لقوله: ﴿رَحْمَتُ اَللَّهِ وَ بَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ أي إنه تعالى مصدر كل فعل محمود و منشأ كل كرم و جود يفيض من رحمته و بركاته على من يشاء من عباده.

قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ اَلرَّوْعُ وَ جَاءَتْهُ اَلْبُشْريَ‏ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ الروع‏ الخوف و الرعب و المجادلة في الأصل الإلحاح في البحث و المساءلة للغلبة في الرأي، و المعنى أنه لما ذهب عن إبراهيم ما اعتراه من الخيفة بتبين أن النازلين به لا يريدون به سوءا و لا يضمرون له شرا. و جاءته البشرى بأن الله سيرزقه و زوجه إسحاق و من وراء إسحاق يعقوب أخذ يجادل الملائكة في قوم لوط يريد بذلك أن يصرف عنهم العذاب.

فقوله: ﴿يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ لحكاية الحال الماضية أو بتقدير فعل ماض قبله و تقديره: أخذ يجادلنا إلخ، لأن الأصل في جواب لما أن يكون فعلا ماضيا.

و يظهر من الآية أن الملائكة أخبروه أولا: بأنهم مرسلون إلى قوم لوط ثم ألقوا إليه البشارة ثم جرى بينهم الكلام في خصوص عذاب قوم لوط فأخذ إبراهيم (عليه السلام) يجادلهم ليصرف عنهم العذاب فأخبروه بأن القضاء حتم، و العذاب نازل لا مرد له.

و الذي ذكره الله من مجادلته (عليه السلام) الملائكة هو قوله في موضع آخر﴿وَ لَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْريَ‏ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ اَلْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ اَلْغَابِرِينَ العنكبوت: - ٣٢.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ الحليم‏ هو الذي لا يعاجل العقوبة و الانتقام، و الأواه‏ كثير التأوه مما يصيبه أو يشاهده من السوء، و المنيب‏ من الإنابة و هو الرجوع و المراد الرجوع في كل أمر إلى الله.

و الآية مسوقة لتعليل قوله في الآية السابقة: ﴿يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ و فيه مدح بالغ لإبراهيم (عليه السلام) و بيان أنه إنما كان يجادل فيهم لأنه كان حليما لا يعاجل نزول العذاب على الظالمين رجاء أن يأخذهم التوفيق فيصلحوا و يستقيموا، و كان

 

 

 

 كثير التأثر من ضلال الناس و حلول الهلاك بهم مراجعا إلى الله في نجاتهم. لا أنه (عليه السلام) كان يكره عذاب الظالمين و ينتصر لهم بما هم ظالمون و حاشاه عن ذلك.

قوله تعالى: ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ هذا حكاية قول الملائكة لإبراهيم (عليه السلام) و بذلك قطعوا عليه جداله فانقطع حيث علم أن الإلحاح في صرف العذاب عنهم لن يثمر ثمرا فإن القضاء حتم و العذاب واقع لا محالة. فقولهم: ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا أي انصرف عن هذا الجدال و لا تطمع في نجاتهم فإنه طمع فيما لا مطمع فيه.

و قولهم: ﴿إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ أي بلغ أمره مبلغا لا يدفع بدافع و لا يتبدل بمبدل و يؤيده قوله في الجملة التالية: ﴿وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ فإن ظاهره المستقبل و لو كان الأمر صادرا لم يتخلف القضاء عن المقضي البتة و يؤيده أيضا قوله في ما سيأتي من آيات قصة قوم لوط﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا إلخ، آية - ٨٢ من السورة.

و قولهم: ﴿وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ أي غير مدفوع عنهم بدافع فلله الحكم لا معقب لحكمه، و الجملة بيان لما أمر به جي‏ء بها تأكيدا للجملة السابقة و المقام مقام التأكيد، و لذلك جي‏ء في الجملة الأولى بضمير الشأن و قد المفيد للتحقيق، و صدرت الجملتان معا بأن، و أضافوا الأمر إلى رب إبراهيم (عليه السلام) دون أمر الله ليعينهم ذلك على انقطاعه عن الجدال.

(بحث روائي)

 في الكافي، بإسناده عن أبي يزيد الحمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله بعث أربعة أملاك في إهلاك قوم لوط: جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و كروبيل فمروا بإبراهيم فسلموا عليه و هم معتمون فلم يعرفهم، و رأى هيئة حسنة فقال:

لا يخدم هؤلاء إلا أنا بنفسي و كان صاحب ضيافة فشوى لهم عجلا سمينا حتى أنضجه فقربه إليهم فلما وضع بين أيديهم رأى أيديهم لا تصل إليه فنكرهم و أوجس منهم خيفة فلما رأى ذلك جبرئيل حسر العمامة عن وجهه فعرفه إبراهيم فقال: أنت هو؟

 

 

 

قال: نعم فمرت به امرأته فبشرها بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب فقالت:

ما قال الله عز و جل و أجابوها بما في الكتاب .

فقال لهم إبراهيم: لما ذا جئتم؟ فقالوا في إهلاك قوم لوط. قال: إن كان فيها مائة من المؤمنين أ تهلكونها؟ قال جبرئيل: لا. قال: و إن كان فيهم خمسون؟ قال: لا. قال: و إن كان فيهم ثلاثون؟ قال: لا. قال: و إن كان فيهم عشرون؟ قال: لا. قال: و إن كان فيهم عشرة؟ قال: لا. قال: و إن كان فيهم خمسة؟ قال: لا. قال: و إن كان فيهم واحد؟ قال: لا. قال: فإن فيها لوطا. قالوا:

نحن أعلم بمن فيها لننجينه و أهله إلا امرأته كانت من الغابرين ثم مضوا.

قال: و قال الحسن بن علي: لا أعلم هذا القول إلا و هو يستبقيهم و هو قول الله عز و جل: ﴿يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ الحديث و له تتمة ستوافيك في قصة لوط.

أقول: و قوله: «لا أعلم هذا القول إلا و هو يستبقيهم» يمكن استفادته من قوله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ فإنه أنسب بكون غرضه استبقاء القوم لا استبقاء نبي الله لوط. على أن قوله: ﴿يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ و قوله: ﴿إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ إنما يناسب استبقاء القوم.

 و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: جاء بعجل حنيذ مشويا نضيجا.

 و في معاني الأخبار، بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: ﴿فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ قال: حاضت.

و في الدر المنثور، أخرج إسحاق بن بشر و ابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال :لما رأى إبراهيم أنه لا تصل إلى العجل أيديهم نكرهم و خافهم، و إنما كان خوف إبراهيم أنهم كانوا في ذلك الزمان إذا هم أحدهم بامرئ سوء لم يأكل عنده يقول: إذا أكرمت بطعامه حرم على أذاه، فخاف إبراهيم أن يريدوا به سوء فاضطربت مفاصله .

و امرأته سارة قائمة تخدمهم، و كان إذا أراد أن يكرم ضيفا أقام سارة

 

 

 

ليخدمهم فضحكت سارة، و إنما ضحكت أنها قالت: يا إبراهيم و ما تخاف؟ إنهم ثلاثة نفر و أنت و أهلك و غلمانك. قال لها جبرئيل: أيتها الضاحكة أما إنك ستلدين غلاما يقال له: إسحاق و من ورائه غلام يقال له: يعقوب فأقبلت في صرة فصكت وجهها فأقبلت والهة تقول: وا ويلتاه و وضعت يدها على وجهها استحياء فذلك قوله: فصكت وجهها، و قالت: أ ألد و أنا عجوز و هذا بعلي شيخا .

قال: لما بشر إبراهيم يقول الله: فلما ذهب عن إبراهيم الروع و جاءته البشرى بإسحاق يجادلنا في قوم لوط، و كان جداله أنه قال: يا جبرئيل أين تريدون؟ و إلى من بعثتم؟ قال: إلى قوم لوط و قد أمرنا بعذابهم .

فقال إبراهيم إن فيها لوطا. قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه و أهله إلا امرأته، و كانت فيما زعموا تسمى والقة. فقال إبراهيم: إن كان فيهم مائة مؤمن أ تعذبونهم؟ قال جبرئيل: لا. قال: فإن كان فيهم تسعون مؤمنون تعذبونهم؟ قال جبرئيل: لا. قال: فإن كان فيهم ثمانون مؤمنون تعذبونهم؟ قال جبرئيل:

لا حتى انتهى في العدد إلى واحد مؤمن قال جبرئيل: لا. فلما لم يذكروا لإبراهيم أن فيها مؤمنا واحدا قال: إن فيها لوطا. قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه و أهله إلا امرأته. أقول: و في متن الحديث اضطراب ما من حيث ذكره قول إبراهيم: إن فيها لوطا أولا و ثانيا لكن المراد واضح.

 و في تفسير العياشي، عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى لما قضى عذاب قوم لوط و قدره أحب أن يعوض إبراهيم من عذاب قوم لوط بغلام عليم يسلي به مصابه بهلاك قوم لوط .

قال: فبعث الله رسلا إلى إبراهيم يبشرونه بإسماعيل. قال: فدخلوا عليه ليلا ففزع منهم و خاف أن يكونوا سراقا فلما رأته الرسل فزعا مذعورا قالوا:

سلاما. قال: سلام إنا منكم وجلون. قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم. قال أبو جعفر (عليه السلام): و الغلام العليم إسماعيل من هاجر فقال إبراهيم للرسل: أ بشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون. قالوا: بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين.

 

 

 

 قال إبراهيم للرسل: فما خطبكم بعد البشارة؟ قالوا: إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين قوم لوط إنهم كانوا قوما فاسقين لننذرهم عذاب رب العالمين، قال أبو جعفر (عليه السلام): قال إبراهيم: إن فيها لوطا. قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه و أهله إلا امرأته قدرنا أنها لمن الغابرين .

فلما عذبهم الله أرسل الله إلى إبراهيم رسلا يبشرونه بإسحاق و يعزونه بهلاك قوم لوط، و ذلك قوله: ﴿وَ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْريَ‏ قَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قوم منكرون ﴿فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ يعني زكيا مشويا نضيجا فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم و أوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط و امرأته قائمة. قال أبو جعفر (عليه السلام): إنما عنوا سارة قائمة فبشروها بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب فضحكت يعني فعجبت من قولهم. أقول: و الرواية كما ترى تجعل قصة البشارة قصتين: البشارة بإسماعيل و البشارة بإسحاق و قد ولد بعد إسماعيل بسنين. ثم تحمل آيات سورة الحجر و لم يذكر فيها تقديم العجل المشوي إلى الضيوف على البشرى بإسماعيل و لما يقع العذاب على قوم لوط حين ذاك، و تحمل آيات سورتي الذاريات و هود و قد اختلطتا في الرواية على البشرى لسارة بإسحاق و يعقوب، و أنها إنما كانت بعد هلاك قوم لوط فراجعوا إبراهيم و أخبروه بوقوع العذاب و بشروه البشارة الثانية.

أما آيات سورة الحجر فإنها في نفسها تحتمل الحمل على البشارة بإسماعيل و كذا الآيات الواقعة في سورة الذاريات تحتمل أن تقص عما بعد هلاك قوم لوط و تكون البشرى بإسحاق و يعقوب عند ذلك.

و أما آيات سورة هود فإنها صريحة في البشرى بإسحاق و يعقوب، و لكن ما في ذيلها من قوله: ﴿يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ إلى آخر الآيات تأبى أن تنطبق على ما بعد هلاك قوم لوط، و إن كان ما في صدرها من قوله: ﴿إِنَّا أُرْسِلْنَا إِليَ‏ قَوْمِ لُوطٍ لا يأبى وحدة الحمل على ما بعد الهلاك، و كذا جملة ﴿إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ لو لا ما يحفها من قيود الكلام.

و بالجملة مفاد الآيات في سورة هود هو وقوع البشرى بإسحاق قبل هلاك قوم

 

 

 

 لوط، و عند ذلك كان جدال إبراهيم (عليه السلام)، و مقتضى ذلك أن تكون ما وقع من القصة في سورة الذاريات هي الواقعة قبل هلاك القوم لا بعد الهلاك، و كذا كون ما وقع من القصة في سورة الحجر و فيه التصريح بكونه قبل هلاكهم و فيه جدال إبراهيم (عليه السلام) خاليا عن بشرى إسحاق و يعقوب لا بشرى إسماعيل.

و الحاصل أن اشتمال آيات هود على بشرى إسحاق و جدال إبراهيم (عليه السلام) الظاهر في كونها قبل هلاك قوم لوط يوجب أن يكون المذكور من البشرى في جميع السور الثلاث: هود و الحجر و الذاريات قصة واحدة هي قصة البشرى بإسحاق قبل وقوع العذاب، و هذا مما يوهن الرواية جدا.

و في الرواية شي‏ء آخر و هو أنها أخذت الضحك بمعنى العجب و أخذت قوله:

﴿فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَ مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ من التقديم و التأخير، و أن التقدير: فبشرناها بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب فضحكت» و هو خلاف الظاهر من غير نكتة ظاهرة.

 و في تفسير العياشي، أيضا عن الفضل بن أبي قرة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: أوحى الله إلى إبراهيم أنه سيلد لك فقال لسارة فقالت: أ ألد و أنا عجوز؟ فأوحى الله إليه: أنها ستلد و يعذب أولادها أربعمائة سنة بردها الكلام علي .

قال: فلما طال على بني إسرائيل العذاب ضجوا و بكوا إلى الله أربعين صباحا فأوحى الله إلى موسى و هارون أن يخلصهم من فرعون فحط عنهم سبعين و مائة سنة.

قال: و قال أبو عبد الله (عليه السلام): هكذا أنتم. لو فعلتم فرج الله عنا فأما إذا لم تكونوا فإن الأمر ينتهي إلى منتهاه. أقول: وجود الرابطة بين أحوال الإنسان و ملكاته و بين خصوصيات تركيب بدنه مما لا شك فيه فلكل من جانبي الربط استدعاء و تأثير خاص في الآخرة ثم النطفة مأخوذة من المادة البدنية حاملة لما في البدن من الخصوصيات المادية و الروحية طبعا فمن الجائز أن يرث الأخلاف بعض خصوصيات أخلاق أسلافهم المادية و الروحية.

و قد تقدم كرارا في المباحث السابقة أن بين صفات الإنسان الروحية و أعماله

 

 

 

 و بين الحوادث الخارجية خيرا و شرا رابطة تامة كما يشير إليه قوله تعالى﴿وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُريَ‏ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ اَلْأَرْضِ الأعراف: - ٩٦، و قوله﴿وَ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ الشورى: - ٣٠.

فمن الجائز أن يصدر عن فرد من أفراد الإنسان أو عن مجتمع من المجتمعات الإنسانية عمل من الأعمال صالح أو طالح أو تظهر صفة من الصفات فضيلة أو رذيلة ثم يظهر أثره الجميل أو وباله السيئ في أعقابه، و الملاك في ذلك نوع من الوراثة كما مر، و قد تقدم في ذيل قوله تعالى﴿وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ النساء: - ٩ كلام في هذا المعنى في الجزء الرابع من الكتاب.

و فيه، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) و عن عبد الرحمن عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ قال: دعاء:

أقول: و روي في الكافي، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) مثله. و فيه، عن أبي بصير عن أحدهما (عليه السلام) قال: إن إبراهيم جادل في قوم لوط و قال: إن فيها لوطا. قالوا: نحن أعلم بمن فيها فزاده إبراهيم فقال جبرئيل:

يا إبراهيم أعرض عن هذا أنه قد جاء أمر ربك و إنهم آتيهم عذاب غير مردود. و في الدر المنثور، أخرج ابن الأنباري في كتاب الوقف و الابتداء عن حسان بن أبجر قال :كنت عند ابن عباس فجاءه رجل من هذيل فقال له ابن عباس:

ما فعل فلان؟ قال: مات و ترك أربعة من الولد و ثلاثة من الوراء. فقال ابن عباس:

﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَ مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قال: ولد الولد.

(كلام في قصة البشرى)

قصة البشرى و سماها الله تعالى حديث ضيف إبراهيم (عليه السلام) وقعت في خمس من السور القرآنية كلها مكية و هي على ترتيب القرآن سورة هود و الحجر و العنكبوت و الصافات و الذاريات.

فالأولى ما في سورة هود ٦٩-٧٦ قوله تعالى: «و لقد جاءت رسلنا إبراهيم

 

 

 

 بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ. فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم و أوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط.

و امرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب. قالت يا ويلتي أ ألد و أنا عجوز و هذا بعلي شيخا إن هذا لشي‏ء عجيب. قالوا أ تعجبين من أمر الله رحمة الله و بركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد. فلما ذهب عن إبراهيم الروع و جاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط. إن إبراهيم لحليم أواه منيب. يا إبراهيم أعرض عن هذا أنه قد جاء أمر ربك و إنهم آتيهم عذاب غير مردود».

و الثانية ما في سورة الحجر: ٥١-٦٠ قوله تعالى: «و نبئهم عن ضيف إبراهيم. إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون.

قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم. قال أ بشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون. قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين. قال و من يقنط من رحمة ربه إلا الضالون. قال فما خطبكم أيها المرسلون. قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين. إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين. إلا امرأته قدرنا أنها لمن الغابرين».

و الثالثة ما في سورة العنكبوت: ٣١-٣٢ قوله تعالى: «و لما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين.

قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه و أهله إلا امرأته كانت من الغابرين».

و الرابعة ما في سورة الصافات: ٩٩-١١٣ قوله تعالى: «و قال إني ذاهب إلى ربي سيهدين. رب هب لي من الصالحين. فبشرناه بغلام حليم. فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ما ذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين. فلما أسلما و تله للجبين. و ناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين. إن هذا لهو البلاء المبين.

و فديناه بذبح عظيم. و تركنا عليه في الآخرين. سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين. إنه من عبادنا المؤمنين. و بشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين. و باركنا عليه و على إسحاق و من ذريتهما محسن و ظالم لنفسه مبين».

 

 

 

و الخامسة ما في سورة الذاريات ٢٤-٣٠ قوله تعالى: «هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين. إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين. فقربه إليهم قال أ لا تأكلون. فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف و بشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها و قالت عجوز عقيم. قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم».

و يقع البحث في قصة البشرى من وجوه:

أحدها: أنها هل هي بشرى واحدة و هي المشتملة على بشرى إبراهيم و سارة بإسحاق و يعقوب و قد وقعت قبيل هلاك قوم لوط أو أنها قصتان: إحداهما تشتمل على البشرى بإسماعيل و الأخرى تتضمن البشرى بإسحاق و يعقوب.

ربما رجح الثاني بناء على أن ما وقع من القصة في سورة الذاريات صريح في تقديم العجل المشوي، و أن إبراهيم خافهم لما امتنعوا من الأكل ثم بشروه و امرأته العجوز العقيم و هي سارة أم إسحاق قطعا، و ذيل الآيات ظاهر في كون ذلك بعد إهلاك قوم لوط حيث يقول الملائكة: ﴿إِنَّا أُرْسِلْنَا إِليَ‏ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إلى أن قالوا ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ وَ تَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ اَلْعَذَابَ اَلْأَلِيمَ الآيات و نظير ذلك ما في سورة هود و قد قال فيها الملائكة لإزالة الروع عن إبراهيم ابتداء: ﴿إِنَّا أُرْسِلْنَا إِليَ‏ قَوْمِ لُوطٍ.

و أما ما في سورة الحجر فليس يتضمن حديث تقديم العجل المشوي بل ظاهره أن إبراهيم و أهله خافوهم لدى دخولهم عليه فأسكنوا رعبه بالبشارة كما يقول تعالى:

﴿إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُوا لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ و ذيل الآيات ظاهر في كون ذلك قبل هلاك لوط.

و نظيره ما في سورة العنكبوت من القصة و هي أظهر في كون ذلك قبل الهلاك و يتضمن جدال إبراهيم في قوم لوط، و قد تقدمت في البحث الروائي السابق حديث العياشي في هذا المعنى.

لكن الحق أن الآيات في جميع السور الأربع سورة هود و الحجر و العنكبوت و الذاريات إنما تقص قصة البشارة بإسحاق و يعقوب دون إسماعيل.

 

 

 

و أما ما في ذيل آيات الذاريات من قوله: ﴿قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا الظاهر في المضي و الفراغ عن الأمر فنظيره واقع في آيات الحجر مع تسليمهم أنها تقص ما قبل الفراغ.

على أن قول الملائكة المرسلين و هم بعد في الطريق: ﴿إِنَّا أُرْسِلْنَا لا مانع منه بحسب اللغة و العرف.

و أما قوله: ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ إلى آخر الآيات فهو من كلامه تعالى و ليس من تتمة كلام الملائكة لإبراهيم كما يدل عليه سياق القصص الواردة في سورة الذاريات.

و أما ذكر الوجل في آيات الحجر في أول القصة بخلاف سورتي الذاريات و هود فالوجه فيه عدم ذكر تقديم العجل المشوي في آيات الحجر بخلافهما، على أن الارتباط التام بين أجزاء قصة مما يجوز أن يقدم بعضها على بعض حينا و يعكس الأمر حينا آخر كما أنه تعالى يذكر إنكار إبراهيم في آيات الذاريات في صدر القصة بعد سلامهم و في سورة هود في وسط القصة بعد امتناعهم من الأكل، و هذا كثير الورود في نظم القرآن.

على أن آيات هود صريحة في البشرى بإسحاق و يعقوب و هي تتضمن جدال إبراهيم في قوم لوط في سياق لا يشك معه أنه كان قبل هلاك لوط، و لازمه كون بشرى إسحاق قبله لا بعده.

على أن من المتفق عليه أن إسماعيل كان أكبر سنا من إسحاق و بين ولادتيهما سنون، و لو كانت هؤلاء الملائكة بشروا إبراهيم بإسماعيل في مسيرهم إلى هلاك قوم لوط قبيل الهلاك و بشروه بإسحاق في منصرفهم عن هلاكهم بعيدة كان الفصل بين البشريين يوما أو يومين فيكون الفصل بين البشرى بإسحاق و بين ولادته سنون من الزمان و البشرى لا تطلق إلا على الإخبار بالجميل إذا كان مشرفا على الوقوع إلا إذا كانت هناك عناية خاصة و أما الإخبار بمطلق الجميل فهو وعد و نحو ذلك.

و ثانيها أنه هل هناك بشرى بإسماعيل؟ و الحق أن ما ذكرت من البشرى في صدر آيات الصافات إنما هي بشرى بإسماعيل و هي غير ما ذكرت في ذيل الآيات من البشرى بإسحاق صريحا فإن سياق الآيات في ذيل قوله: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ

 

 

 

ثم استيناف البشارة بإسحاق في قوله أخيرا: ﴿وَ بَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ اَلصَّالِحِينَ لا يدع ريبا لمرتاب أن الغلام الحليم الذي بشر به أولا غير إسحاق الذي بشر به ثانيا، و ليس إلا إسماعيل.

و ذكر الطبري في تاريخه أن المراد بالبشارة الأولى في هذه السورة أيضا البشارة بإسحاق قياسا على ذكر من البشارة في سائر السور، و هو كما ترى. و قد تقدم كلام في هذا المعنى في قصص إبراهيم (عليه السلام) في الجزء السابع من الكتاب.

و ثالثها: البحث في القصة من جهة تطبيق ما في التوراة الحاضرة منها على ما استفيد من القرآن الكريم، و سيوافيك ذلك عند الكلام على قصة لوط (عليه السلام) في ذيل الآيات التالية.

و رابعها: البحث فيها من جهة جدال إبراهيم الملائكة و قد وقع فيها مثل قوله:

﴿يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ و قوله: ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا.

و قد تقدم أن سياق الآيات و خاصة قوله: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ لا يدل إلا على نعته بالجميل فلم يكن جداله إلا حرصا منه في نجاة عباد الله رجاء أن يهتدوا إلى صراط الإيمان.

[سورة هود (١١): الآیات ٧٧ الی ٨٣]﴿وَ لَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِي‏ءَ بِهِمْ وَ ضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ٧٧ وَ جَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَ مِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاَءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ لاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ٧٨ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ٧٩ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِليَ‏رُكْنٍ شَدِيدٍ ٨٠ قَالُوا يَا لُوطُ

 

 

 

إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اَللَّيْلِ وَ لاَ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ اِمْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ اَلصُّبْحُ أَ لَيْسَ اَلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ٨١ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَ أَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ٨٢ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَ مَا هِيَ مِنَ اَلظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ٨٣

(بيان)

الآيات تذكر عذاب قوم لوط، و هي من وجه تتمة الآيات السابقة التي قصت نزول الملائكة و دخولهم على إبراهيم (عليه السلام) و تبشيره بإسحاق فإنما كانت كالتوطئة لقصة عذاب قوم لوط.

قوله تعالى: ﴿وَ لَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِي‏ءَ بِهِمْ وَ ضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ يقال: ساءه‏ الأمر مساءة أي أوقع عليه السوء، و سي‏ء بالأمر بالبناء للمجهول أي أوقع عليه من ناحيته و بسببه.

و الذرع‏ مقايسة الأطوال مأخوذ من الذراع العضو المعروف لأنهم كانوا يقيسون بها، و يطلق على نفس المقياس أيضا، و يقال: ضاق بالأمر ذرعا و هو كناية عن انسداد طريق الحيلة و العجز عن الاهتداء إلى مخلص ينجو به الإنسان من النائبة كالذي يذرع ما لا ينطبق عليه ذرعه.

و العصيب‏ فعيل بمعنى المفعول من العصب بمعنى الشد و اليوم العصيب هو اليوم الذي شد بالبلاء شدا لا يقبل الانحلال و لا بعض أجزائه ينفك عن بعض.

و المعنى لما جاءت رسلنا لوطا و هم الملائكة النازلون بإبراهيم (عليه السلام) ساء مجيئهم لوطا، و عجز عن الاحتيال لنجاتهم من شر القوم فإنهم دخلوا عليه في صور غلمان

 

 

 

 مرد صبيحي المنظر و كان قومه ذوي حرص شديد على إتيان الفحشاء ما كان من المترقب أن يعرضوا عنهم و يتركوهم على حالهم، و لذلك لم يملك لوط نفسه دون أن قال: ﴿هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ أي شديد ملتف بعض شره ببعض.

قوله تعالى: ﴿وَ جَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَ مِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئَاتِ قال الراغب: يقال: هرع و أهرع‏ ساقه سوقا بعنف و تخويف، انتهى. و عن كتاب العين، الإهراع‏ السوق الحثيث، انتهى.

و قوله: ﴿وَ مِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئَاتِ أي و من قبل ذلك كانوا يقترفون المعاصي و يأتون بالمنكرات فكانوا مجترئين على إيقاع الفحشاء معتادين بذلك لا ينصرفون عنه بصارف، و لا يحجبهم عن ذلك استحياء أو استشناع، و لا ينزجرون بموعظة أو ملامة أو مذمة لأن العادة تسهل كل صعب و تزين كل قبيح و وقيح.

و الجملة كالمعترضة بين قوله: ﴿وَ جَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ و قوله: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاَءِ بَنَاتِي إلخ، و هي نافعة في مضمون طرفيها أما فيما قبلها فإنها توضح أن الذي كان يهرعهم و يسوقهم إلى لوط (عليه السلام) هو أنهم كانوا يعملون السيئات و صاروا بذلك معتادين على إتيان الفحشاء و لعين به فساقهم ذلك إلى المجي‏ء إليه و قصد السوء بأضيافه.

و أما فيما بعدها فإنها تفيد أنهم لرسوخ الملكة و استقرار العادة سلبوا سمع القبول و أن يزجرهم زاجر من عظة أو نصيحة، و لذلك بدأ لوط في تكليمهم بعرض بناته عليهم ثم قال لهم: ﴿فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ لاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي إلخ.

قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاَءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ إلى آخر الآية، لما رآهم تجمعوا على الشر لا يصرفهم عن ذلك مجرد القول بعظة أو أغلاظ في الكلام أراد أن يصرفهم عنه بتبديل ما يريدون من الفحشاء مما لا معصية فيه من الحلال فعرض بناته عليهم و رجحه لهم بأنهن أطهر لهم.

و إنما المراد بصيغة التفضيل أطهر مجرد الاشتمال على الطهارة من غير شوب بقذارة، و المراد هي طهارة محضا، و هو استعمال شائع، قال تعالى﴿مَا عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اَللَّهْوِ الجمعة: - ١١، و قال ﴿وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ النساء: - ١٢٨. و تفيد معنى الأخذ بالمتيقن.

 

 

 

 و تقييد قوله: ﴿هَؤُلاَءِ بَنَاتِي بقوله: ﴿هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ شاهد صدق على أنه إنما عرض لهم مسهن عن نكاح لا عن سفاح و حاشا مقام نبي الله عن ذلك، و ذلك لأن السفاح لا طهارة فيه أصلا و قد قال تعالى﴿وَ لاَ تَقْرَبُوا اَلزِّنيَ‏ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَ سَاءَ سَبِيلاً إسراء: - ٣٢، و قال﴿وَ لاَ تَقْرَبُوا اَلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ الأنعام: - ١٥١، و قد تقدم في تفسير هذه الآية أن ما تتضمنه هو من الأحكام العامة المشرعة في جميع الشرائع الإلهية النازلة على أنبيائه.

و من هنا يظهر فساد قول من يقول: إنه عرض عليهم بناته من غير تقييده بنكاح. و لست أدري ما معنى علاج فحشاء بفحشاء غيرها؟ و ما معنى قوله حينئذ:

﴿فَاتَّقُوا اَللَّهَ؟ و لو كان يريد دفع الفضيحة و العار عن نفسه فقط لاكتفى بقوله:

﴿وَ لاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي.

و ربما قيل: إن المراد بقوله: ﴿هَؤُلاَءِ بَنَاتِي الإشارة إلى نساء القوم لأن النبي أبو أمته فنساؤهم بناته كما أن رجالهم بنوه، يريد أن قصد الإناث و هو سبيل فطري خير لكم و أطهر من قصد الذكور من طريق الفحشاء.

و هو تحكم لا دليل عليه من جهة اللفظ البتة، و أما كونهم كفارا و بناته مسلمات و لا يجوز إنكاح المسلمة من الكافر فليس من المعلوم أن ذلك من شريعة إبراهيم حتى يتبعه لوط (عليه السلام) فمن الجائز أن يكون تزويج المؤمنة بالكافر جائزا في شرعه كما أنه كان جائزا في صدر الإسلام، و قد زوج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بنته من أبي العاص بن الربيع و هو كافر قبل الهجرة ثم نسخ ذلك.

على أن قولهم في جوابه: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ لا يلائم كون المراد بالبنات في كلامه إنما هي نساؤهم لا بناته من صلبه فإنهم ما كانوا مؤمنين به حتى يعترفوا بكون نسائهم بناته إلا أن يكون المراد التهكم و لا قرينة عليه.

لا يقال تعبيره (عليه السلام) بالبنات و ليس له عندئذ إلا بنتان يدل على أن مراده بناته من نساء أمته لا بنتاه غير الصادق عليه لفظ الجمع.

لأنا نقول: لا دليل على ذلك من كلامه تعالى و لا وقع ذلك في نقل يعتمد عليه، نعم وقع في التوراة الحاضرة أنه كان للوط بنتان فقط. و لا اعتماد على ما تتضمنه.

 

 

 

 و قوله: ﴿فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ لاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي بيان للمطلوب، و قوله: ﴿وَ لاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي عطف تفسيري لقوله: ﴿فَاتَّقُوا اَللَّهَ فإنه (عليه السلام) إنما كان يطلب منهم أن لا يتعرضوا لضيفه لتقوى الله لا لهوى نفسه و عصبية جاهلية منه، و لم يكن عنده فرق بين ضيفه و غيرهم فيما كان يردعهم، و قد وعظهم بالردع عن هذا الذنب الشنيع و ألح على ذلك سنين متمادية.

و إنما علق الردع على معنى الضيافة و إضافة الضيف إلى نفسه و ذكر الخزي الوارد عليه من التعرض لهم كل ذلك رجاء أن يهيج صفة الفتوة و الكرامة فيهم و لذلك عقب ذلك بالاستغاثة و الاستنصار بقوله: ﴿أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ لعله يجد فيهم ذا رشد إنساني فينتصر له و ينجيه و ضيوفه من أيدي أولئك الظالمين لكن القوم كانوا كما قال الله تعالى﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ الحجر: - ٧٢ و لم يؤثر ذلك فيهم أثرا و لم ينتهوا عن قوله بل أجابوا بما أيأسوه به من أي إلحاح في ذلك.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ هذا جواب القوم عما دعاهم إليه لوط من النكاح المباح أجابوا بنفي أن يكون لهم في بناته من حق و أنه يعلم ذلك و يعلم ما هو بغيتهم في هذا الهجوم و ما ذا يريدون.

و قد قيل في معنى نفيهم الحق: إن معناه ما لنا في بناتك من حاجة و ما ليس للإنسان فيه حاجة فكأنه لا حق له فيه ففي الكلام نوع استعارة.

و قيل: إن المراد ليس لنا في بناتك من حق لأنا لا نتزوجهن و من لم يتزوج بامرأة فلا حق له فيها فالمراد بنفي الحق نفي سببه و هو الازدواج.

و قيل: المراد بالحق هو الحظ و النصيب دون الحق الشرعي أو العرفي أي لا رغبة لنا فيهن لأنهن نساء و لا ميل لنا إليهن.

و الذي يجب الالتفات إليه أنهم لم يقولوا: ما لنا في بناتك من حق بل قالوا:

﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ فلم يجيبوا عنه بذلك بل بعلمه بذلك و بين القولين فرق فالظاهر أنهم ذكروه بما كان يعلم من السنة القومية الجارية بينهم، و هو المنع من التعرض لنساء الناس و خاصة بالقهر و الغلبة أو ترك إتيان النساء بالمرة و استباحة التعرض للغلمان و قضاء الوطر منهم، و قد كان لوط يردعهم عن سنتهم ذلك إذ يقول لهم﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ اَلنِّسَاءِ الأعراف: - ٨١

 

 

 

﴿أَ تَأْتُونَ اَلذُّكْرَانَ مِنَ اَلْعَالَمِينَ وَ تَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ شعراء - ٦٥ ﴿أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجَالَ وَ تَقْطَعُونَ اَلسَّبِيلَ وَ تَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ اَلْمُنْكَرَ العنكبوت - ٢٩، و لا شك أن السنة القومية الجارية على فعل شي‏ء يثبت حقا فيه، و الجارية على تركه ينفي الحق.

و بالجملة هم يلفتون نظره (عليه السلام) إلى ما يعلم من انتفاء حقهم عن بناته بما هن نساء بحسب السنة القومية و ما يعلم من إرادتهم في الهجوم على داره هذا و لعل هذا أحسن الوجوه، و بعده الوجه الثالث.

قوله تعالى: ﴿قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِليَ‏ رُكْنٍ شَدِيدٍ يقال:

أوى‏ إلى كذا يأوي أويا و مأوى أي انضم إليه، و آواه إليه يؤويه إيواء أي ضمه إليه. و الركن‏ هو ما يعتمد عليه البناء بعد الأساس.

الظاهر أنه لما وعظهم لوط (عليه السلام) بالأمر بتقوى الله و تهييج فتوتهم في حفظ موقعه و رعاية حرمته في عدم التعرض لضيفه بما يجلب إليه العار و الخزي، و قد قطع عذرهم بعرض بناته عليهم بالنكاح ثم استغاث بالاستنصار من أولي الرشد منهم رجاء أن يوجد فيهم رجل رشيد ينصره عليهم و يدفعهم عنه فلم يجبه أحد فيما سأل و لا انماز من بينهم ذو رشد ينصره و يدفع عنه بل أيأسوه بقولهم: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ لم يبق له إلا أن يظهر ما به من البث و الحزن في صورة التمني فتمنى أن يكون له منهم قوة يقوى به على دفع عتاتهم الظالمين - و هو الرجل الرشيد الذي كان يسأل عنه في استغاثته - أو يكون له ركن شديد و عشيرة منيعة ينضم إليهم فيدفعهم بهم.

فقوله: ﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أي ليت لي قدرة بسببكم بانضمام رجل منكم رشيد إلي يقوم بنصرتي فأدفعكم به، و قوله: ﴿أَوْ آوِي إِليَ‏ رُكْنٍ شَدِيدٍ أي أو كنت أنضم إلى ركن شديد أي عشيرة منيعة يمنعكم مني هذا ما يعطيه ظاهر السياق.

و قيل: إن معنى قوله: ﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أتمنى أن يكون لي منعة و قدرة و جماعة أتقوى بها عليكم فأدفعكم عن أضيافي. و فيه أن فيه تبديل قوله: ﴿بِكُمْ إلى قولنا: بهم عليكم. و هو كما ترى.

و قيل: إن معنى ﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً لو قويت عليكم بنفسي. و فيه أنه أبعد

 

 

 

من لفظ الآية.

و قيل: إن الخطاب في الآية للأضياف دون القوم، و معنى الآية أنه قال لأضيافه: أتمنى أن يكون لي بسببكم قوة ألقاهم بها. و فيه أن الانتقال من خطاب القوم إلى خطاب الأضياف و لا دليل من اللفظ ظاهرا يدل عليه إبهام و تعقيد من غير موجب، و كلامه تعالى أجل من ذلك.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ إلى آخر الآية عدم وصولهم إليه كناية عن عدم قدرتهم على ما يريدون، و المعنى لما بلغ الأمر هذا المبلغ قالت الملائكة مخاطبين للوط: إنا رسل ربك فأظهروا له أنهم ملائكة و عرفوه أنهم مرسلون من عند الله، و طيبوا نفسه أن القوم لن يصلوا إليه و لن يقدروا أن يصيبوا منه ما يريدون فكان ما ذكره الله تعالى في موضع آخر من كلامه﴿وَ لَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ القمر: - ٣٧، فأذهب الله بأبصار الذين تابعوا على الشر و ازدحموا على بابه فصاروا عميانا يتخبطون.

و قوله: ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اَللَّيْلِ وَ لاَ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ الإسراء و السري‏ بالضم السير بالليل فيكون قوله: ﴿بِقِطْعٍ مِنَ اَللَّيْلِ نوع توضيح له، و الباء للمصاحبة أو بمعنى في. و القطع‏ من الشي‏ء طائفة منه و بعضه، و الالتفات‏ افتعال من اللفت، قال الراغب: يقال: لفته عن كذا صرفه عنه، قال تعالى: ﴿قَالُوا أَ جِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا أي تصرفنا، و منه التفت فلان إذا عدل عن قبله بوجهه، و امرأة لفوت تلفت من زوجها إلى ولدها من غيره. انتهى.

و القول دستور من الملائكة للوط (عليه السلام) إرشادا له إلى النجاة من العذاب النازل بالقوم صبيحة ليلتهم هاتيك، و فيه معنى الاستعجال كما يشعر به قوله بعد:

﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ اَلصُّبْحُ.

و المعنى أنا مرسلون لعذاب القوم و هلاكهم فانج أنت بنفسك و أهلك و سيروا أنت و أهلك بقطع من هذا الليل و أخرجوا من ديارهم فإنهم هالكون بعذاب الله صبيحة ليلتهم هذه، و لا كثير وقت بينك و بين الصبح و لا ينظر أحدكم إلى وراء.

و ما ذكره بعضهم أن المراد بالالتفات الالتفات إلى مال أو متاع في المدينة يأخذه معه أو الالتفات بمعنى التخلف عن السري مما لا يلتفت إليه.

 

 

 

 و قوله: ﴿إِلاَّ اِمْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ ظاهر السياق أنه استثناء من قوله: ﴿بِأَهْلِكَ لا من قوله: ﴿أَحَدٌ و في قوله: ﴿إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ بيان السبب لاستثنائها، و قال تعالى في غير هذا الموضع﴿إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ اَلْغَابِرِينَ الحجر: - ٦٠.

و قوله: ﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ اَلصُّبْحُ أَ لَيْسَ اَلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ أي موعد هلاكهم الصبح و هو صدر النهار بعد طلوع الفجر حين الشروق، كما قال تعالى في موضع آخر﴿فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ الحجر: - ٧٣.

و الجملة الأولى تعليل لقوله: ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اَللَّيْلِ و فيه نوع استعجال كما تقدم، و يؤكده قوله: ﴿أَ لَيْسَ اَلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ و من الجائز أن يكون لوط (عليه السلام) يستعجلهم في عذاب القوم فيجيبوه بقولهم: ﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ اَلصُّبْحُ أَ لَيْسَ اَلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ أي إن من المقدر أن يهلكوا بالصبح و ليس موعدا بعيدا أو يكون الجملة الأولى استعجالا من الملائكة، و الثانية تسلية منهم للوط في استعجاله.

و لم يذكر في الآيات ما هي الغاية لسراهم و المحل الذي يتوجهون إليه، و قد قال تعالى في موضع آخر من كلامه﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اَللَّيْلِ وَ اِتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَ لاَ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَ اُمْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ الحجر: - ٦٥، و ظاهره أن الملائكة لم يذكروا له المقصد و أحالوا ذلك إلى ما سيأتيه من الدلالة بالوحي الإلهي.

قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَ أَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ ضمائر التأنيث الثلاث راجعة إلى أرض القوم أو القرية أو بلادهم المعلومة من السياق، و السجيل‏ على ما في المجمع، بمعنى السجين و هو النار، و قال الراغب: السجين‏ حجر و طين مختلط، و أصله فيما قيل فارسي معرب، انتهى. يشير إلى ما قيل إن أصله سنك كل، و قيل: إنه مأخوذ من السجل بمعنى الكتاب كأنها كتب فيها ما فيها من عمل الإهلاك، و قيل: مأخوذ من أسجلت بمعنى أرسلت.

و الظاهر أن الأصل في جميع هذه المعاني هو التركيب الفارسي المعرب المفيد معنى الحجر و الطين، و السجل بمعنى الكتاب أيضا منه فإنهم على ما قيل كانوا يكتبون على الحجر المعمول ثم توسع فسمي كل كتاب سجلا و إن كان من قرطاس،

 

 

 

 و الإسجال‏ بمعنى الإرسال مأخوذ من ذلك.

و النضد هو النظم و الترتيب، و التسويم‏ جعل الشي‏ء ذا علامة من السيماء بمعنى العلامة.

و المعنى: و لما جاء أمرنا بالعذاب و هو أمره تعالى الملائكة بعذابهم و هو كلمة ﴿كُنْ التي أشار إليها في قوله﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ يس: - ٨٣، جعلنا عالي أرضهم و بلادهم سافلها بتقليبها عليهم و أمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود معلمة عند ربك و في علمه ليس لها أن تخطئ هدفها الذي رميت لأجل إصابته.

و ذكر بعضهم أن القلب وقع على بلادهم و الإمطار بالسجيل عذب به الغائبون منهم. و قيل: إن القرية هي التي أمطرت حين رفعها جبرئيل ليخسفها. و قيل:

إنما أمطرت عليهم الحجارة بعد ما قلبت قريتهم تغليظا في العقوبة. و الأقوال جميعا من التحكم من غير دليل من اللفظ.

و في قوله تعالى في غير هذا الموضع﴿فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ الحجر: - ٧٣، فقد كان هناك قلب و صيحة و إمطار بالحجارة و من الممكن أن يكون ذلك بحدوث بركان من البراكين بالقرب من بلادهم و تحدث به زلزلة في أرضهم و انفجار أرضي بصيحة توجب قلب مدنهم، و يمطر البركان عليهم من قطعات الحجارة التي يثيرها و يرميها، و الله أعلم.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا هِيَ مِنَ اَلظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ قيل المراد بالظالمين ظالمو أهل مكة أو المشركون من قوم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الكلام مسوق للتهديد، و المعنى و ليست هذه الحجارة من ظالمي مكة ببعيد أو المعنى: ليست هذه القرى المخسوفة من ظالمي قومك ببعيد فإنه في طريقهم بين مكة و الشام، كما قال تعالى في موضع آخر

﴿ وَ إِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ الحجر: - ٧٦، و قال﴿وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ الصافات: - ١٣٨.

و يؤيده العدول من سياق التكلم إلى الغيبة في قوله: ﴿مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ فكأنه تعالى عدل عن مثل قولنا: مسومة عندنا إلى هذا التعبير ليتعرض لقومه (ص) بالتهديد أو بإنهاء الحديث إلى حسهم ليكون أقوى تأثيرا في الحجاج عليهم.

 

 

 

 و ربما احتمل أن المراد تهديد مطلق الظالمين و المراد أنه ليست الحجارة أي أمطارها من عند الله من معشر الظالمين و منهم قوم لوط الظالمون ببعيد، و يكون وجه الالتفات في قوله: ﴿عِنْدَ رَبِّكَ أيضا التعريض لقوم النبي الظالمين المشركين.

(بحث روائي)

 في الكافي، بإسناده عن زكريا بن محمد [عن أبيه‏] عن عمرو عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان قوم لوط من أفضل قوم خلقهم الله فطلبهم إبليس الطلب الشديد، و كان من فضلهم و خيرتهم أنهم إذا خرجوا إلى العمل خرجوا بأجمعهم و تبقى النساء خلفهم فلم يزل إبليس يعتادهم فكانوا إذا رجعوا خرب إبليس ما يعملون .

فقالوا بعضهم لبعض: تعالوا نرصد هذا الذي يخرب متاعنا فرصدوه فإذا هو غلام أحسن ما يكون من الغلمان فقالوا له: أنت الذي تخرب متاعنا مرة بعد أخرى، فاجتمع رأيهم على أن يقتلوه فبيتوه عند رجل فلما كان الليل صاح له فقال له: ما لك؟ فقال فإن: أبي ينومني على بطنه فقال له: تعال فنم على بطني .

قال: فلم يزل يدلك الرجل حتى علمه أن يفعل بنفسه فأولا علمه إبليس و الثاني علمه هو ثم انسل يفر منهم، فأصبحوا فجعل الرجل يخبر بما فعل بالغلام و يعجبهم منه و هم لا يعرفونه فوضعوا أيديهم فيه حتى اكتفى الرجال بعضهم ببعض ثم جعلوا يرصدون مارة الطريق فيفعلون بهم حتى تنكب مدينتهم الناس ثم تركوا نسائهم و أقبلوا على الغلمان .

فلما رأى أنه قد أحكم أمره في الرجال جاء إلى النساء فصير نفسه امرأة فقال لهن: إن رجالكن يفعل بعضهم ببعض؟ قلن: نعم رأينا ذلك و كل ذلك يعظهم لوط و يوصيهم و إبليس يغويهم حتى استغنى النساء بالنساء .

فلما كملت عليهم الحجة بعث الله جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل في زي غلمان عليهم أقبية فمروا بلوط و هو يحرث. قال: أين تريدون؟ ما رأيت أجمل منكم قط. فقالوا: إنا رسل سيدنا إلى رب هذه البلدة. قال: أ و لم يبلغ سيدكم ما يفعل

 

 

 

 أهل هذه القرية؟ إنهم و الله يأخذون الرجال فيفعلون بهم حتى يخرج الدم. قالوا:

أمرنا سيدنا أن نمر وسطها. قال: فلي إليكم حاجة. قالوا: و ما هي؟ قال:

تصبرون هنا إلى اختلاط الظلام .

قال: فجلسوا. قال: فبعث ابنته. قال: فجيئي لهم بخبز و جيئي لهم بماء في القرعة - و جيئي لهم بعباء يتغطون بها من البرد فلما أن ذهبت الابنة أقبل المطر و الوادي فقال لوط: الساعة تذهب بالصبيان الوادي قال: قوموا حتى نمضي، و جعل لوط يمشي في أصل الحائط، و جعل جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل يمشون وسط الطريق. قال: يا بني امشوا هاهنا فقالوا أمرنا سيدنا أن نمر في وسطها و كان لوط يستغنم الظلام .

و مر إبليس فأخذ من حجر امرأة صبيا فطرحه في البئر فتصايح أهل المدينة كلهم على باب لوط فلما أن نظروا إلى الغلمان في منزل لوط قالوا: يا لوط قد دخلت في عملنا؟ فقال: هؤلاء ضيفي فلا تفضحون في ضيفي. قالوا: هم ثلاثة خذ واحدا و أعطنا اثنين. قال: و أدخلهم الحجرة و قال: لو أن لي أهل بيت تمنعوني منكم .

قال: و تدافعوا على الباب و كسروا باب لوط و طرحوا لوطا فقال له جبرئيل: إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأخذ كفا من بطحاء فضرب بها وجوههم و قال: شاهت الوجوه فعمي أهل المدينة كلهم فقال لهم لوط: يا رسل ربي فما أمركم ربي فيهم؟ قالوا: أمرنا أن نأخذهم بالسحر. قال: فلي إليكم حاجة. قالوا:

و ما حاجتك؟ قال: تأخذوهم الساعة فإني أخاف أن يبدو لربي فيهم. فقالوا:

يا لوط إن موعدهم الصبح أ ليس الصبح بقريب لمن يريد أن يأخذ فخذ أنت بناتك و امض و دع امرأتك .

فقال أبو جعفر (عليه السلام): رحم الله لوطا لو علم من معه في الحجرة لعلم أنه منصور حيث يقول: ﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِليَ‏ رُكْنٍ شَدِيدٍ أي ركن أشد من جبرئيل معه في الحجرة؟ فقال عز و جل لمحمد (صلى الله عليه وآله و سلم): ﴿وَ مَا هِيَ مِنَ اَلظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ من ظالمي أمتك إن عملوا ما عمل قوم لوط، و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): من ألح في وطي الرجال لم يمت حتى يدعو الرجال إلى نفسه.

 

 

 

 أقول: و الرواية لا تخلو من تشويش ما في اللفظ، و قد ذكر فيها الملائكة المرسلون ثلاثة، و في بعض الروايات كالرواية المذكورة في الباب السابق عن أبي يزيد الحمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنهم كانوا أربعة بزيادة كروبيل، و في بعض الروايات من طرق أهل السنة أنهم كانوا ثلاثة و هم جبرئيل و ميكائيل و رفائيل، و الظاهر من الرواية أنها تأخذ قول لوط: ﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً إلخ خطابا منه للملائكة لا للقوم، و قد تقدمت الإشارة إليه في بيان الآيات.

و قوله (عليه السلام): رحم الله لوطا لو علم «إلخ» في معنى قول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) على ما روي عنه رحم الله لوطا إن كان ليأوي إلى ركن شديد.

و قوله (عليه السلام): فقال عز و جل لمحمد (صلى الله عليه وآله و سلم) إلخ إشارة إلى ما تقدم من احتمال كون الآية، مسوقا لتهديد قريش.

 و في تفسير القمي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله:

﴿وَ أَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ قال: ما من عبد يخرج من الدنيا يستحل عمل قوم لوط إلا رماه الله جندلة من تلك الحجارة تكون منيته فيه و لكن الخلق لا يرونه.

أقول: و روي في الكافي، بإسناده عن ميمون البان عنه (عليه السلام) مثله. و فيه: من بات مصرا على اللواط لم يمت حتى يرميه الله بحجارة تكون فيه منيته و لا يراه أحد، و في الحديثين إشعار بكون قوله: ﴿وَ مَا هِيَ مِنَ اَلظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ غير خاص بقريش، و إشعار بكون العذاب المذكور روحانيا غير مادي.

 و في الكافي، بإسناده عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول لوط:

﴿هَؤُلاَءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ قال: عرض عليهم التزويج.

 و في التهذيب عن الرضا (عليه السلام): عن إتيان الرجل المرأة من خلفها فقال: أحلتها آية من كتاب الله عز و جل: قول لوط: ﴿هَؤُلاَءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ قد علم أنهم لا يريدون الفرج.

 و في الدر المنثور، أخرج أبو الشيخ عن علي رضي الله عنه أنه خطب فقال:

عشيرة الرجل للرجل خير من الرجل لعشيرته إنه إن كف يده عنهم كف يدا واحدة، و كفوا عنه أيدي كثيرة مع مودتهم و حفاظتهم و نصرتهم حتى لربما غضب

 

 

 

الرجل للرجل و ما يعرفه إلا بحسبه - و سأتلو عليكم بذلك آيات من كتاب الله تعالى فتلا هذه الآية: ﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِليَ‏ رُكْنٍ شَدِيدٍ.

قال علي رضي الله عنه: و الركن الشديد العشيرة فلم يكن للوط عشيرة فوالذي لا إله غيره ما بعث الله نبيا بعد لوط إلا في ثروة من قومه.

 أقول: و آخر الرواية مروي من طرق أهل السنة و الشيعة.

 و في الكافي، في حديث أبي يزيد الحمار عن أبي جعفر (عليه السلام) المنقول في البحث الروائي السابق قال: فأتوا يعني الملائكة لوطا و هو في زراعة قرب القرية فسلموا عليه و هم معتمون فلما رأى هيئة حسنة عليهم ثياب بيض و عمائم بيض قال لهم:

المنزل فقالوا: نعم فتقدمهم و مشوا خلفه فندم على عرضه المنزل عليهم فقال: أي شي‏ء صنعت؟ آتي بهم قومي و أنا أعرفهم؟ فقال: إنكم لتأتون شرارا من خلق الله.

قال جبرئيل: لا نعجل عليهم حتى يشهد عليهم ثلاث مرات. فقال جبرئيل: هذه واحدة فمشى ساعة ثم التفت إليهم فقال: إنكم لتأتون شرارا من خلق الله فقال جبرئيل: هذه ثنتان. ثم مشى فلما بلغ باب المدينة التفت إليهم ثم قال: إنكم لتأتون شرارا من خلق الله. فقال جبرئيل: هذه الثالثة ثم دخل و دخلوا معه حتى دخل منزلة .

فلما رأتهم امرأته رأت هيئة حسنة فصعدت فوق السطح فصفقت فلم يسمعوا فدخنت فلما رأوا الدخان أقبلوا إلى الباب يهرعون حتى جاءوا على الباب فنزلت إليهم فقالت: عندنا قوم ما رأيت قط قوما أحسن منهم هيئة فجاءوا إلى الباب ليدخلوا .

فلما رآهم لوط قام إليهم فقال لهم: يا قوم اتقوا الله و لا تخزون في ضيفي أ ليس منكم رجل رشيد؟ ثم قال: هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فدعاهم كلهم إلى الحلال فقالوا:

ما لنا في بناتك من حق و إنك لتعلم ما نريد، فقال لهم: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد، فقال جبرئيل: لو يعلم أي قوة له .

فتكاثروه حتى دخلوا الباب فصاح بهم جبرئيل فقال: يا لوط دعهم يدخلون فلما دخلوا أهوى جبرئيل بإصبعه نحوهم فذهبت أعينهم و هو قول الله عز و جل:

﴿فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ ثم ناداه جبرئيل فقال له: إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر

 

 

 

 بأهلك بقطع من الليل. و قال له جبرئيل: إنا بعثنا في إهلاكهم فقال: يا جبرئيل عجل فقال: إن موعدهم الصبح أ ليس الصبح بقريب .

فأمره يتحمل و من معه إلا امرأته ثم اقتلعها يعني المدينة جبرئيل بجناحه من سبع أرضين ثم رفعها حتى سمع أهل السماء الدنيا نياح الكلاب و صراخ الديوك ثم قلبها و أمطر عليها و على من حول المدينة بحجارة من سجيل. أقول: و ما اشتمل عليه آخر الرواية من اقتلاعها من سبع أرضين ثم رفعها إلى حيث سمع أهل السماء الدنيا نياح كلابهم و صراخ ديوكهم أمر خارق للعادة، و هو و إن كان لا يستبعد من قدرة الله سبحانه لكنه مما لا يكفي في ثبوته أمثال هذه الرواية و هي من الآحاد.

على أن السنة الإلهية جارية على أن تقتفي في الكرامات و المعجزات الحكمة و أي حكمة في رفعهم إلى هذا الحد و لا أثر له في عذابهم و لا في تشديده؟ و قول بعض أهل الكلام: من الجائز أن يكون هذا الفعال العجيب الخارق للعادة لطفا من الله ليكون الإخبار بذلك من طريق المعصومين مقربا للمؤمنين إلى الطاعة مبعدا لهم من المعصية كلام مدخول فإن خلق الأمور العظيمة المعجبة و الحوادث الخارقة للعادة ليتأكد بها إيمان المؤمنين و يعتبر بها المعتبرون و إن كان لا يخلو من لطف إلا أنه إنما يكون لطفا فيما كان بلوغه لهم من طريق الحس أو أي طريق علمي آخر، و أما رواية واحدة أو ضعيفة و هي خالية عن الحجية لا يعبأ بها فلا معنى لإيجاد الأمور الخارقة و الحوادث العجيبة لأجل حصول اعتبار أو مخافة من طريقها، و لا وجه لتشديد عذاب قوم ليعتبر به قوم آخرون إلا في سنة الجهال من طغاة البشر و جبابرتهم.

قال صاحب المنار في تفسيره: و في خرافات المفسرين المروية عن الإسرائيليات أن جبرئيل قلعها من تخوم الأرض بجناحه و صعد بها إلى عنان السماء حتى سمع أهل السماء أصوات الكلاب و الدجاج فيها ثم قلبها قلبا مستويا فجعل عاليها سافلها.

و هذا تصور مبني على اعتقاد متصوره إن الأجرام السماوية المأهولة بالسكان مما يمكن أن يقرب منهم سكان الأرض و ما فيها من الحيوان و يبقون أحياء. و قد ثبت بالمشاهدة و الاختبار الفعلي في هذه الأيام التي يكتب هذا فيها أن الطيارات

 

 

 

 و المناطيد التي تخلق في الجو تصل إلى حيث يخف ضغط الهواء و يستحيل حياة الناس فيها، و هم يصنعون أنواعا منها يصنعون فيها من أكسجين الهواء ما يكفي استنشاقه و تنفسه للحياة في طبقات الجو العليا و يصعدون فيها.

و قد أشير في الكتاب العزيز إلى ما يكون للتصعيد في جو السماء من التأثير في ضيق الصدر من عسر التنفس بقوله تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اَللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاَمِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي اَلسَّمَاءِ.

فإن قيل: إن هذا الفعل المروي عن جبرئيل من الممكنات العقلية و كان وقوعه من خوارق العادات فلا يصح أن يجعل تصديقه موقوفا على ما عرف من سنن الكائنات.

قلت: نعم و لكن الشرط الأول لقبول الرواية في أمر جاء على غير السنن و النواميس التي أقام الله بها نظام العالم من عمران و خراب أن تكون الرواية عن وحي إلهي نقل بالتواتر عن المعصوم أو بسند صحيح متصل الإسناد لا شذوذ فيه و لا علة على الأقل، و لم يذكر في كتاب الله تعالى، و لم يرد فيه حديث مرفوع إلى نبيه ص، و لا تظهر حكمة الله فيه، و إنما روي عن بعض التابعين دون الصحابة. و لا شك أنه من الإسرائيليات.

و مما قالوه فيها: أن عدد أهلها كان أربعة آلاف ألف و بلاد فلسطين كلها لا تسع هذا العدد فأين كان هؤلاء الملايين يسكنون من تلك القرى الأربع؟ انتهى.

و الذي ذكره أن الحديث إنما روي عن التابعين دون الصحابة فإنه أن هذا المعنى مروي عن ابن عباس و عن الحذيفة بن اليمان، ففي رواية ابن عباس كما في الدر المنثور، عن إسحاق بن بشر و ابن عساكر من طريق جويبر و مقاتل عن الضحاك عنه : «فلما كان عند وجه الصبح عمد جبريل إلى قرى لوط بما فيها من رجالها و نسائها و ثمارها و طيرها فحواها و طواها ثم قلعها من تخوم الثرى ثم احتملها تحت جناحه ثم رفعها إلى السماء الدنيا فسمع سكان سماء الدنيا أصوات الكلاب و الطير و النساء و الرجال من تحت جناح جبرئيل ثم أرسلها منكوسة ثم أتبعها بالحجارة، و كانت الحجارة للرعاة و التجار و من كان خارجا عن مدائنهم‏» الحديث.

 و في رواية حذيفة بن اليمان على ما في الدر المنثور، عن عبد الرزاق و ابن جرير

 

 

 

 و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عنه : «فاستأذن جبرئيل في هلاكهم فأذن له فاحتمل الأرض التي كانوا عليها، و أهوى بها حتى سمع أهل سماء الدنيا صغاء كلابهم و أوقد تحتهم نارا ثم قلبها بهم فسمعت امرأة لوط الوجبة و هي معهم فالتفتت فأصابها العذاب، و تبعت سفارهم الحجارة» الحديث.

 و أما من التابعين فقد روي هذا المعنى عن سعيد بن جبير و مجاهد و أبي صالح و محمد بن كعب القرظي و عن السدي ما هو أغلظ من ذلك قال : «لما أصبحوا نزل جبرئيل فاقتلع الأرض من سبع أرضين فحملها حتى بلغ السماء الدنيا ثم أهوى بها جبرئيل إلى الأرض‏» الحديث.

و أما ما ذكره من أنه «يشترط في قبول الرواية أن تكون منقولة بالتواتر عن المعصوم أو بسند صحيح متصل الإسناد لا شذوذ فيه و لا علة» فمسألة أصولية، و الذي استقر عليه النظر اليوم في المسألة أن الخبر إن كان متواترا أو محفوفا بقرينة قطعية فلا ريب في حجيتها، و أما غير ذلك فلا حجية فيه إلا الأخبار الواردة في الأحكام الشرعية الفرعية إذا كان الخبر موثوق الصدور بالظن النوعي فإن لها حجية.

و ذلك أن الحجية الشرعية من الاعتبارات العقلائية فتتبع وجود أثر شرعي في المورد يقبل الجعل و الاعتبار الشرعي و القضايا التاريخية و الأمور الاعتقادية لا معنى لجعل الحجية فيها لعدم أثر شرعي و لا معنى لحكم الشارع بكون غير العلم علما و تعبيد الناس بذلك، و الموضوعات الخارجية و إن أمكن أن يتحقق فيها أثر شرعي إلا أن آثارها جزئية و الجعل الشرعي لا ينال إلا الكليات و ليطلب تفصيل القول في المسألة من علم الأصول.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): رحم الله لوطا إن كان ليأوي إلى ركن شديد. أقول: مقتضى المقام الذي كان يجاري فيه لوط قومه و يأمرهم بتقوى الله و الاجتناب عن الفجور، و ظاهر سياق الآيات الحاكية للمشاجرة بينه و بين قومه أن لوطا إنما كان يتمنى أنصارا أولي رشد من بين قومه أو من غيرهم فقوله: ﴿أَوْ آوِي إِليَ‏ رُكْنٍ شَدِيدٍ يريد به أنصارا من غير القوم من عشيرة أو أخلاء و أصدقاء في الله

 

 

 

 ينصرونه في الدفع عن أضيافه هذا و الركن الشديد معه في داره و هم جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و لذلك لبوه من غير فصل و قالوا: ﴿يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ.

و لم يكن ليغفل في حال من تلك الأحوال عن ربه و أن كل النصر من عنده حتى ينساه و يتمنى ناصرا غيره، و حاشا مقام هذا النبي الكريم عن مثل هذا الجهل المذموم و قد قال الله تعالى في حقه﴿آتَيْنَاهُ حُكْماً وَ عِلْماً إلى أن قال ﴿وَ أَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ اَلصَّالِحِينَ الأنبياء: - ٧٥.

فقول النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : «إن كان ليأوي إلى ركن شديد» معناه أن معه جبرئيل و سائر الملائكة و هو لا يعلم بذلك، و ليس معناه أن معه الله سبحانه و هو جاهل بمقام ربه.

فما في بعض الروايات الناقلة للفظة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من الإشعار بأن مراده بالركن الشديد هو الله سبحانه دون الملائكة إنما نشأ عن فهم بعض رواة الحديث كما

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): رحم الله لوطا كان يأوي إلى ركن شديد يعني الله تعالى. الحديث.

 و كما عنه من طريق آخر قال: إن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)قال: «يغفر الله للوط إن كان ليأوي إلى ركن شديد» و لعل فيه نقلا بالمعنى و أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)قال: رحم الله لوطا فغيره الراوي إلى قوله: يغفر الله للوط المشعر بكون لوط أهمل أدبا من آداب العبودية أو أذنب ذنبا بجهله مقام ربه و نسيانه ما لم يكن له أن ينساه.

(كلام في قصة لوط و قومه في فصول)

١ - قصته و قصة قومه في القرآن:

كان لوط (عليه السلام) من كلدان في أرض بابل و من السابقين الأولين ممن آمن بإبراهيم (عليه السلام) آمن به و قال﴿إِنِّي مُهَاجِرٌ إِليَ‏َرَبِّي : العنكبوت - ٢٦ فنجاه الله مع إبراهيم إلى الأرض المقدسة أرض فلسطين (الأنبياء: ٧١) فنزل في بعض بلادها (و هي مدينة سدوم على ما في التواريخ و التوراة و بعض الروايات).

 

 

 

 و كان أهل المدينة و ما والاها من المدائن و قد سماها الله في كلامه بالمؤتفكات (التوبة ٧٠) يعبدون الأصنام، و يأتون بالفاحشة: اللواط، و هم أول قوم شاع فيهم ذلك (الأعراف: ٨٠) حتى كانوا يأتون به في نواديهم من غير إنكار (العنكبوت: ٢٩) و لم يزل تشيع الفاحشة فيهم حتى عادت سنة قومية ابتلت به عامتهم و تركوا النساء و قطعوا السبيل (العنكبوت: ٢٩).

فأرسل الله لوطا إليهم (الشعراء: ١٦٢) فدعاهم إلى تقوى الله و ترك الفحشاء و الرجوع إلى طريق الفطرة و أنذرهم و خوفهم فلم يزدهم إلا عتوا و لم يكن جوابهم إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين، و هددوه بالإخراج من بلدتهم و قالوا له: لئن لم تنته لتكونن من المخرجين (الشعراء: ١٦٧) و قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون (النمل: ٥٦).

٢ - عاقبة أمرهم:

لم يزل لوط (عليه السلام) يدعوهم إلى سبيل الله و ملازمة سنة الفطرة و ترك الفحشاء و هم يصرون على عمل الخبائث حتى استقر بهم الطغيان و حقت عليهم كلمة العذاب فبعث الله رسلا من الملائكة المكرمين لإهلاكهم فنزلوا أولا على إبراهيم (عليه السلام) و أخبروه بما أمرهم الله به من إهلاك قوم لوط فجادلهم إبراهيم (عليه السلام) لعله يرد بذلك عنهم العذاب، و ذكرهم بأن فيهم لوطا فردوا عليه بأنهم أعلم بموقع لوط و أهله، و أنه قد جاء أمر الله و أن القوم آتيهم عذاب غير مردود (العنكبوت:

 ٣٢ - هود: ٧٦).

فمضوا إلى لوط في صور غلمان مرد و دخلوا عليه ضيفا فشق ذلك على لوط و ضاق بهم ذرعا لما كان يعلم من قومه أنهم سيتعرضون لهم و أنهم غير تاركيهم البتة فلم يلبث دون أن سمع القوم بذلك و أقبلوا يهرعون إليه و هم يستبشرون و هجموا على داره فخرج إليهم و بالغ في وعظهم و استثارة فتوتهم و رشدهم حتى عرض عليهم بناته و قال: ﴿يَا قَوْمِ هَؤُلاَءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ لاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ثم استغاث و قال: ﴿أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ فردوا عليه أنه ليس لهم في بناته إربة و أنهم غير تاركي أضيافه البتة حتى أيس لوط و ﴿قَالَ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِليَ‏ رُكْنٍ شَدِيدٍ: (هود: - ٨٠).

 

 

 

قالت الملائكة عند ذلك يا لوط: إنا رسل ربك طب نفسا إن القوم لن يصلوا إليك فطمسوا أعين القوم فعادوا عميانا يتخبطون و تفرقوا (القمر: ٣٧).

ثم أمروا لوطا (عليه السلام) أن يسري بأهله من ليلته بقطع من الليل و يتبع أدبارهم و لا يلتفت منهم أحد إلا امرأته فإنه مصيبها ما أصابهم، و أخبروه أنهم سيهلكون القوم مصبحين (هود: ٨١ - الحجر: ٦٦).

فأخذت الصيحة القوم مشرقين، و أرسل الله عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين، و قلب مدائنهم عليهم فجعل عاليها سافلها و أخرج من كان فيها من المؤمنين فلم يجد فيها غير بيت من المسلمين و هو بيت لوط و ترك فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم (الذاريات: ٣٧ - و غيرها).

و في اختصاص الإيمان و الإسلام بيت لوط (عليه السلام)، و شمول العذاب لمدائنهم دلالة أولا على أن القوم كانوا كفارا غير مؤمنين و ثانيا على أن الفحشاء ما كانت شائعة فيما بين الرجال منهم فحسب إذ لو كان الأمر على ذلك و النساء بريئات منها و كان لوط يدعو الناس إلى الرجوع إلى سبيل الفطرة و سنة الخلقة التي هي مواصلة الرجال و النساء لاتبعته عدة من النساء و اجتمعن حوله و آمن به طبعا، و لم يذكر من ذلك شي‏ء في كلامه سبحانه.

و في ذلك تصديق ما تقدم في الأخبار المأثورة أن الفحشاء شاعت بينهم، و اكتفى الرجال بالرجال باللواط، و النساء بالنساء بالسحق.

٣ - شخصية لوط المعنوية:

كان (عليه السلام) رسولا من الله إلى أهل المؤتفكات و هي مدينة سدوم و ما والاها من المدائن و يقال: كانت أربع مدائن: سدوم و عمورة و صوغر و صبوييم و قد أشركه في جميع المقامات الروحية التي وصف بها أنبياءه الكرام.

و مما وصفه به خاصة ما في قوله ﴿وَ لُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ نَجَّيْنَاهُ مِنَ اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ اَلْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ وَ أَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ اَلصَّالِحِينَ الأنبياء: - ٧٥.

٤ - لوط و قومه في التوراة:

ذكرت‏[2] التوراة أن لوطا كان ابن أخي

 

 أبرام إبراهيم هاران بن تارخ و كان هو و أبرام في بيت تارخ في أور الكلدانيين ثم هاجر تارخ أورا قاصدا أرض الكنعانيين فأقام بلدة حاران و معه أبرام و لوط و مات هناك.

ثم إن أبرام بأمر من الرب خرج من حاران و معه لوط و لهما مال كثير و غلمان اكتسبا ذلك في حاران فأتى أرض كنعان، و كان يرتحل أبرام ارتحالا متواليا نحو الجنوب، ثم أتى مصر، ثم صعد من هناك جنوبا نحو بيت إيل فأقام هناك.

و لوط السائر مع أبرام أيضا كان له غنم و بقر و خيام و لم يحتملهما الأرض أن يسكنا و وقعت مخاصمة بين رعاة مواشيهما فتفرقا فأحذرا من وقوع النزاع و التشاجر فاختار لوط دائرة الأردن و سكن في مدن الدائرة و نقل خيامه إلى سدوم، و كان أهل سدوم أشرارا و خطاة لدى الرب جدا، و نقل أبرام خيامه و أقام عند بلوطات ممرا التي في حبرون.

ثم وقعت حرب بين ملوك سدوم و عمورة و أدمة و صبوييم، و صوغر من جانب و أربعة من جيرانهم من جانب، انهزم فيها ملك سدوم و من معه من الملوك، و أخذ العدو جميع أملاك سدوم و عمورة و جميع أطعمتهم، و أسر لوط فيمن أسر و سبي جميع أمواله، و انتهى الخبر إلى أبرام فخرج فيمن معه من الغلمان، و كانوا يزيدون على ثلاث مائة فحاربهم و هزمهم، و أنجى لوطا و جميع أمواله من الأسر و السبي، و رده إلى مكانه الذي كان مقيما (فيه ملخص ما في التوراة من صدر قصة لوط).

قالت التوراة[3] و ظهر له لأبرام الرب عند بلوطات ممرا و هو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار. فرفع عينيه و نظر و إذا ثلاثة رجال واقفون لديه.

فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة و سجد إلى الأرض. و قال: يا سيد إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك. ليؤخذ قليل ماء و اغسلوا أرجلكم و اتكئوا تحت هذه الشجرة. فأخذ كسرة خبز فتسندون قلوبكم ثم

 

 

 

 تجتازون لأنكم قد مررتم على عبدكم. فقالوا: هكذا نفعل كما تكلمت.

فأسرع إبراهيم إلى الخيمة إلى سارة و قال: أسرعي بثلاث كيلات دقيقا سميدا اعجني و اصنعي خبز ملة، ثم ركض إبراهيم إلى البقر و أخذ عجلا رخصا و جيدا و أعطاه للغلام فأسرع ليعمله. ثم أخذ زبدا و لبنا و العجل الذي عمله و وضعها قدامهم.

و إذ كان هو واقفا لديهم تحت الشجرة أكلوا.

و قالوا له: أين سارة امرأتك، فقال: ها هي في الخيمة، فقال: إني أرجع إليك نحو زمان الحياة و يكون لسارة امرأتك ابن. و كانت سارة سامعة في باب الخيمة و هو وراءه. و كان إبراهيم و سارة شيخين متقدمين في الأيام. و قد انقطع أن يكون لسارة عادة كالنساء. فضحكت سارة في باطنها قائلة: أ بعد فنائي يكون لي تنعم و سيدي قد شاخ؟ فقال الرب لإبراهيم: لما ذا ضحكت سارة قائلة:

أ فبالحقيقة ألد و أنا قد شخت؟ هل يستحيل على الرب شي‏ء؟ في الميعاد أرجع إليك نحو زمان الحياة و يكون لسارة ابن، فأنكرت سارة قائلة: لم أضحك، لأنها خافت.

فقال: لا بل ضحكت.

ثم قام الرجال من هناك و تطلعوا نحو سدوم، و كان إبراهيم ماشيا معهم ليشيعهم. فقال الرب: هل أخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله؟ و إبراهيم يكون أمة كبيرة و قوية و يتبارك به جميع أمم الأرض. لأني عرفته لكي يوصي بنيه و بيته من بعده أن يحفظوا طريق الرب ليعملوا برا و عدلا لكي يأتي الرب لإبراهيم بما تكلم به.

فقال الرب: إن صراخ سدوم و عمورة قد كثر و خطيئتهم قد عظمت جدا.

أنزل و أرى هل فعلوا بالتمام حسب صراخها الآتي إلي و إلا فأعلم. و انصرف الرجال من هناك و ذهبوا نحو سدوم. و أما إبراهيم فكان لم يزل قائما أمام الرب.

فتقدم إبراهيم و قال: أ فتهلك البار مع الأثيم؟ عسى أن يكون خمسون بارا في المدينة. أ فتهلك المكان و لا تصفح عنه من أجل الخمسين بارا الذين فيه؟ حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر أن تميت البار مع الأثيم فيكون البار كالأثيم، حاشاك.

أ ديان كل الأرض لا يصنع عدلا؟ فقال الرب: إن وجدت في سدوم خمسين بارا في المدينة فإني أصفح عن المكان كله من أجلهم.

فأجاب إبراهيم و قال: إني قد شرعت أكلم المولى و أنا تراب و رماد ربما نقص

 

 

 

 الخمسون بارا خمسة أ تهلك كل المدينة بالخمسة؟ فقال الرب: لا أهلك إن وجدت هناك خمسة و أربعين. فعاد يكلمه أيضا و قال: عسى أن يوجد هناك أربعون، فقال:

لا أفعل من أجل الأربعين. فقال: لا يسخط المولى فأتكلم عسى أن يوجد هناك ثلاثون. فقال: لا أفعل إن وجدت هناك ثلاثين. فقال: إني قد شرعت أكلم المولى عسى أن يوجد هناك عشرون، فقال: لا أهلك من أجل العشرين.

فقال: لا يسخط المولى فأتكلم هذه المرة فقط عسى أن يوجد هناك عشرة، فقال: لا أهلك من أجل العشرة. و ذهب الرب عند ما فرغ من الكلام مع إبراهيم و رجع إبراهيم إلى مكانه.

فجاء[4] الملأ كان إلى سدوم مساء و كان لوط جالسا في باب سدوم فلما رآهما لوط قام لاستقبالهما و سجد بوجهه إلى الأرض. و قال: يا سيدي ميلا إلى بيت عبدكما و بيتا و اغسلا أرجلكما ثم تبكران و تذهبان في طريقكما، فقالا: لا بل في الساحة نبيت، فألح عليهما جدا، فمالا إليه و دخلا بيته، فصنع لهما ضيافة و خبزا فطيرا فأكلا.

و قبل ما اضطجعا أحاط بالبيت رجال المدينة رجال سدوم من الحدث إلى الشيخ كل الشعب من أقصاها فنادوا لوطا و قالوا له: أين الرجلان اللذان دخلا إليك الليلة؟ أخرجهما إلينا لنعرفهما. فخرج إليهم لوط إلى الباب و أغلق الباب وراءه. و قال:

لا تفعلوا شرا يا إخوتي. هو ذا لي ابنتان لم يعرفا رجلا أخرجهما إليكم فافعلوا بهما كما يحسن في عيونكم. و أما هذان الرجلان فلا تفعلوا بهما شيئا لأنهما قد دخلا تحت ظل سقفي.

فقالوا: ابعد إلى هناك. ثم قالوا: جاء هذا الإنسان ليتغرب و هو يحكم حكما. الآن نفعل بك شرا أكثر منهما. فألحوا على الرجل لوط جدا و تقدموا ليكسروا الباب فمد الرجلان أيديهما و أدخلا لوطا إليهما إلى البيت و أغلقا الباب و أما الرجال الذين على باب البيت فضرباهم بالعمى من الصغير إلى الكبير فعجزوا عن أن يجدوا الباب.

 

 

 

 

 و قال الرجلان للوط: من لك أيضا هاهنا أصهارك و بنوك و بناتك و كل من لك في المدينة أخرج من المكان لأننا مهلكان هذا المكان إذ قد عظم صراخهم أمام الرب فأرسلنا الرب لنهلكهم. فخرج لوط و كلم أصهاره الآخذين بناته و قال: قوموا اخرجوا من هذا المكان لأن الرب مهلك المدينة، فكان كمازح في أعين أصهاره.

و لما طلع الفجر كان الملأ كان يعجلان لوطا قائلين: قم خذ امرأتك و ابنتيك الموجودتين لئلا تهلك بإثم المدينة. و لما توانى أمسك الرجلان بيده و بيد امرأته و بيد ابنتيه لشفقة الرب عليه و أخرجاه وضعاه خارج المدينة.

و كان لما أخرجاهم إلى خارج أنه قال: اهرب لحياتك. لا تنظر إلى ورائك و لا تقف في كل الدائرة. اهرب إلى الجبل لئلا تهلك فقال لهما لوط: لا يا سيد هو ذا عبدك قد وجد نعمة في عينيك و عظمت لطفك الذي صنعت إلي باستبقاء نفسي. و أنا لا أقدر أن أهرب إلى الجبل لعل الشر يدركني فأموت. هو ذا المدينة هذه قريبة للهرب إليها. و هي صغيرة أهرب إلى هناك أ ليست هي صغيرة فتحيا نفسي. فقال له: إني قد رفعت وجهك في هذا الأمر أيضا أن لا أقلب المدينة التي تكلمت عنها. أسرع اهرب إلى هناك لأني لا أستطيع أن أفعل شيئا حتى تجي‏ء إلى هناك - لذلك دعي اسم المدينة صوغر.

و إذا أشرقت الشمس على الأرض دخل لوط إلى صوغر فأمطر الرب على سدوم و عمورة كبريتا و نارا من عند الرب من السماء. و قلب تلك المدن و كل الدائرة و جميع سكان المدن و نبات الأرض. و نظرت امرأته من ورائه فصارت عمود ملح.

و بكر إبراهيم في الغد إلى المكان الذي وقف فيه أمام الرب و تطلع نحو سدوم و عمورة و نحو كل أرض الدائرة. و نظر و إذا دخان الأرض يصعد كدخان الأتون. و حدث لما أخرب الله مدن الدائرة أن الله ذكر إبراهيم. و أرسل لوطا من وسط الانقلاب حين قلب المدن التي سكن فيها لوط.

و صعد لوط من صوغر و سكن في الجبل و ابنتاه معه لأنه خاف أن يسكن في صوغر فسكن في المغارة هو و ابنتاه. و قالت البكر للصغيرة: أبونا قد شاخ و ليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض هلم نسقي أبانا خمرا و نضطجع معه فنحيي من أبينا نسلا. فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة. و دخلت البكر و اضطجعت

 

 

 

 مع أبيها و لم يعلم باضطجاعها و لا بقيامها و حدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة إني قد اضطجعت البارحة مع أبي. نسقيه خمرا الليلة أيضا فادخلي اضطجعي معه فنحيي من أبينا نسلا. فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة أيضا. و قامت الصغيرة و اضطجعت معه. و لم يعلم باضطجاعها و لا بقيامها. فحبلت ابنتا لوط من أبيهما.

فولدت البكر ابنا و دعت اسمه موآب و هو أبو الموآبيين إلى اليوم و الصغيرة أيضا ولدت ابنا و دعت اسمه بن عمى و هو أبو بني عمون إلى اليوم. انتهى.

هذا ما قصته التوراة في لوط و قومه نقلناه على طوله ليتضح به ما تخالف القرآن الكريم من وجه القصة و من وجوه غيرها.

ففيها كون الملك المرسل للبشرى و العذاب ملكين اثنين. و قد عبر القرآن بالرسل بلفظ الجمع و أقله ثلاثة -.

و فيها أن أضياف إبراهيم أكلوا مما صنعه و قدمه إليهم، و القرآن ينفي ذلك و يقص أن إبراهيم خاف إذ رأى أن أيديهم لا تصل إليه.

و فيها: إثبات بنتين للوط، و القرآن يعبر بلفظ البنات. و فيها كيفية إخراج الملائكة لوطا و كيفية تعذيب القوم و صيرورة المرأة عمودا من ملح و غير ذلك.

و فيها نسبة التجسم صريحة إلى الله سبحانه، و ما ذكرته من قصة لوط مع بنتيه أخيرا، و القرآن ينزه ساحة الحق سبحانه عن التجسم و يبرئ أنبياءه و رسله عن ارتكاب ما لا يليق بساحة قدسهم.

[سورة هود (١١): الآیات ٨٤ الی ٩٥]

﴿وَ إِليَ‏ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَ لاَ تَنْقُصُوا اَلْمِكْيَالَ وَ اَلْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ٨٤ وَ يَا قَوْمِ أَوْفُوا اَلْمِكْيَالَ وَ اَلْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَ لاَ تَبْخَسُوا اَلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَ لاَ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ٨٥

 

 

 

﴿بَقِيَّتُ اَللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَ مَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ٨٦ قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَ صَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ اَلْحَلِيمُ اَلرَّشِيدُ ٨٧ قَالَ يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَليَ‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ رَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَ مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِليَ‏ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ اَلْإِصْلاَحَ مَا اِسْتَطَعْتُ وَ مَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ ٨٨ وَ يَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَ مَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ٨٩ وَ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ٩٠ قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَ إِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَ لَوْ لاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَ مَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ٩١ قَالَ يَا قَوْمِ أَ رَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اَللَّهِ وَ اِتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ٩٢ وَ يَا قَوْمِ اِعْمَلُوا عَليَ‏ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَ مَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَ اِرْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ٩٣ وَ لَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ أَخَذَتِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا اَلصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ٩٤ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلاَ بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ٩٥

 

 

 

 (بيان)

تذكر الآيات قصة شعيب (عليه السلام) و قومه و هم أهل مدين، و كانوا يعبدون الأصنام، و كان قد شاع التطفيف في الكيل و الوزن عندهم و اشتد الفساد فيهم فأرسل الله سبحانه شعيبا (عليه السلام) إليهم فدعاهم إلى التوحيد و توفية الميزان و المكيال بالقسط و ترك الفساد في الأرض، و بشرهم و أنذرهم و بالغ في عظتهم‏ و

 قد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال: كان شعيب خطيب الأنبياء.

فلم يجبه القوم إلا بالرد و العصيان، هددوه بالرجم و الطرد من بينهم و بالغوا في إيذائه و إيذاء شرذمة من الناس آمنوا به و صدهم عن سبيل الله و داموا على ذلك حتى سأل الله أن يقضي بينه و بينهم فأهلكهم الله تعالى.

قوله تعالى: ﴿وَ إِليَ‏ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً إلى آخر الآية عطف على ما تقدمه من قصص الأنبياء و أممهم، و مدين اسم مدينة كان يسكنها قوم شعيب ففي نسبة إرسال شعيب إلى مدين و كان مرسلا إلى أهله نوع من المجاز في الإسناد كقولنا:

جرى الميزاب، و في عد شعيب (عليه السلام) أخا لهم دلالة على أنه كان ينتسب إليهم.

و قوله: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ تقدم تفسيره في نظائره.

و قوله: ﴿وَ لاَ تَنْقُصُوا اَلْمِكْيَالَ وَ اَلْمِيزَانَ المكيال و الميزان‏ اسما آلة بمعنى ما يكال به و ما يوزن به، و لا يوصفان بالنقص و إنما يوصف بالنقص كالزيادة و المساواة المكيل و الموزون فنسبة النقص إلى المكيال و الميزان من المجاز العقلي.

و في تخصيص نقص المكيال و الميزان من بين معاصيهم بالذكر دلالة على شيوعه بينهم و إقبالهم عليه و إفراطهم فيه بحيث ظهر فساده و بان سيئ أثره فأوجب ذلك شدة اهتمام به من داعي الحق فدعاهم إلى تركه بتخصيصه بالذكر من بين المعاصي.

و قوله: ﴿إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ أي أشاهدكم في خير، و هو ما أنعم الله تعالى عليكم من المال و سعة الرزق و الرخص و الخصب فلا حاجة لكم إلى نقص المكيال و الميزان، و اختلاس اليسير من أشياء الناس طمعا في ذلك من غير سبيله المشروع و ظلما و عتوا، و على هذا فقوله: ﴿إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ تعليل لقوله: ﴿وَ لاَ تَنْقُصُوا اَلْمِكْيَالَ وَ اَلْمِيزَانَ.

 

 

 

و يمكن تعميم الخير بأن يراد به أنكم مشمولون لعناية الله معنيون بنعمه آتاكم عقلا و رشدا و رزقكم رزقا فلا مسوغ لأن تعبدوا الآلهة من دونه و تشركوا به غيره، و أن تفسدوا في الأرض بنقص المكيال و الميزان، و على هذا يكون تعليلا لما تقدمه من الجملتين أعني قوله: ﴿اُعْبُدُوا اَللَّهَ إلخ، و قوله: ﴿وَ لاَ تَنْقُصُوا إلخ، كما أن قوله: ﴿وَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ كذلك.

فمحصل قوله: ﴿إِنِّي أَرَاكُمْ إلى آخر الآية أن هناك رادعين يجب أن يردعاكم عن معصية الله: أحدهما: أنكم في خير و لا حاجة لكم إلى بخس أموال الناس من غير سبيل حلها. و ثانيهما: أن وراء مخالفة أمر الله يوما محيطا يخاف عذابه.

و ليس من البعيد أن يراد بقوله: ﴿إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ إني أراكم برؤية خير أي أنظر إليكم نظر الناصح المشفق الذي لا يصاحب نظره إلا الخير و لا يريد بكم غير السعادة، و على هذا يكون قوله: ﴿وَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ كعطف التفسير بالنسبة إليه.

و قوله: ﴿وَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ يشير به إلى يوم القيامة أو يوم نزول عذاب الاستئصال و معنى كون اليوم و هو يوم القضاء بالعذاب محيطا أنه لا مخرج منه و لا مفر و لا ملاذ من دون الله فلا يدفع فيه ناصر و لا معين، و لا ينفع فيه توبة و لا شفاعة، و يئول معنى الإحاطة إلى كون العذاب قطعيا لا مناص منه و معنى الآية أن للكفر و الفسوق عذابا غير مردود أخاف أن يصيبكم ذلك.

قوله تعالى: ﴿وَ يَا قَوْمِ أَوْفُوا اَلْمِكْيَالَ وَ اَلْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَ لاَ تَبْخَسُوا اَلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ إلخ، الإيفاء إعطاء الحق بتمامه و البخس‏ النقص كرر القول في المكيال و الميزان بالأخذ بالتفصيل بعد الإجمال مبالغة في الاهتمام بأمر لا غنى لمجتمعهم عنه، و ذلك أنه دعاهم أولا إلى الصلاح بالنهي عن نقص المكيال و الميزان، و عاد ثانيا فأمر بإيفاء المكيال و الميزان و نهى عن بخس الناس أشياءهم إشارة إلى أن مجرد التحرز عن نقص المكيال و الميزان لا يكفي في إعطاء هذا الأمر حقه و إنما نهى عنه أولا لتكون معرفة إجمالية هي كالمقدمة لمعرفة التكليف تفصيلا بل يجب أن يوفي الكائل و الوازن مكياله و ميزانه و يعطياهما حقهما و لا يبخسا و لا ينقصا الأشياء المنسوبة إلى الناس بالمعاملة حتى يعلما أنهما أديا إلى الناس أشياءهم و ردا إليهم مالهم على ما هو عليه.

 

 

 

 و قوله: ﴿وَ لاَ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ قال الراغب: العيث و العثي‏ يتقاربان نحو جذب و جبذ إلا أن العيث أكثر ما يقال في الفساد الذي يدرك حسا و العثي فيما يدرك حكما يقال: عثي يعثى عثيا، و على هذا ﴿وَ لاَ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ و عثا يعثو عثوا. انتهى.

و على هذا فقوله: ﴿مُفْسِدِينَ حال من ضمير ﴿لاَ تَعْثَوْا لإفادة التأكيد نظير ما يفيده قولنا: لا تفسدوا إفسادا.

و الجملة أعني قوله: ﴿وَ لاَ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ نهي مستأنف عن الفساد في الأرض من قتل أو جرح أو أي ظلم مالي أو جاهي أو عرضي لكن لا يبعد أن يستفاد من السياق كون الجملة عطفا تفسيريا للنهي السابق فيكون نهيا تأكيديا عن التطفيف و نقص المكيال و الميزان لأنه من الفساد في الأرض.

بيان ذلك: أن الاجتماع المدني الدائر بين أفراد النوع الإنساني مبني على المبادلة حقيقة فما من مواصلة و مرابطة بين فردين من أفراد النوع إلا و فيه إعطاء و أخذ فلا يزال المجتمعون يتعاونون في شئون حياتهم يفيد فيه الواحد غيره ليستفيد منه ما يماثله أو يزيد عليه و يدفع إليه نفعا ليجذب منه إلى نفسه نفعا و هو المعاملة و المبادلة.

و من أظهر مصاديق هذه المبادلة المعاملات المالية و خاصة في الأمتعة التي لها حجم أو وزن مما يكتال أو يوزن فإن ذلك من أقدم ما تنبه الإنسان لوجوب إجراء سنة المبادلة فيه.

فالمعاملات المالية و خاصة البيع و الشري من أركان حياة الإنسان الاجتماعية يقدر الواحد منهم ما يحتاج إليه في حياته الضرورية بالكيل أو الوزن، و ما يجب عليه أن يبذله في حذائه من الثمن ثم يسير في حياته بانيا لها على هذا التقدير و التدبير.

فإذا خانه معامله و نقص المكيال و الميزان من حيث لا يشعر هو فقد أفسد تدبيره و أبطل تقديره، و اختل بذلك نظام معيشته من الجهتين معا من جهة ما يقتنيه من لوازم الحياة بالاشتراء و من جهة ما يبذله من الثمن الزائد الذي يتعب نفسه في تحصيله بالاكتساب فيسلب إصابة النظر و حسن التدبير في حياته و يتخبط في مسيرها خبط العشواء و هو الفساد.

و إذا شاع ذلك في مجتمع فقد شاع الفساد فيما بينهم و لم يلبثوا دون أن يسلبوا

 

 

 

 الوثوق و الاطمئنان و اعتماد بعضهم على بعض و يرتحل بذلك الأمن العام من بينهم و هو النكبة الشاملة التي تحيط بالصالح و الطالح و المطفف و الذي يوفي المكيال و الميزان على حد سواء، و عاد بذلك اجتماعهم اجتماعا على المكر و إفساد الحياة لا اجتماعا على التعاون لسعادتها، قال تعالى﴿وَ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسْطَاسِ اَلْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً إسراء: - ٣٥.

قوله تعالى: ﴿بَقِيَّتُ اَللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَ مَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ البقية بمعنى الباقي و المراد به الربح الحاصل للبائع و هو الذي يبقى له بعد تمام المعاملة فيضعه في سبيل حوائجه، و ذلك أن المبادلة و إن لم يوضع بالقصد الأول على أساس الاسترباح، و إنما كان الواحد منهم يقتني شيئا من متاع الحياة، فإذا كان يزيد على ما يحتاج إليه بدل الزائد المستغنى عنه من متاع آخر يحتاج إليه و لا يملكه ثم أخذت نفس التجارة و تبديل الأمتعة من الأثمان حرفة يكتسب بها المال و يقتني بها الثروة فأخذ الواحد منهم متاعا من نوع واحد أو أنواع شتى و عرضه على أرباب الحاجة للمبادلة، و أضاف إلى رأس ماله فيه شيئا من الربح بإزاء عمله في الجمع و العرض و رضي بذلك الناس المشترون لما فيه من تسهيل أمر المبادلة عليهم فللتاجر في تجارته ربح مشروع يرتضيه المجتمع بحسب فطرتهم يقوم معيشته و يحول إليه ثروة يقتنيها و يقيم بها صلب حياته.

فالمراد أن الربح الذي هو بقية إلهية هداكم الله إليه من طريق فطرتكم هو خير لكم من المال الذي تقتنونه من طريق التطفيف و نقص المكيال و الميزان إن كنتم مؤمنين فإن المؤمن إنما ينتفع من المال بالمشروع الذي ساقه الله إليه من طريق حله، و أما غير ذلك مما لا يرتضيه الله و لا يرتضيه الناس بحسب فطرتهم فلا خير له فيه و لا حاجة له إليه.

و قيل: إن الاشتراط بالإيمان في قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ للدلالة على اشتراط الإيمان للعلم بذلك لا لأصله و المعنى إن كنتم مؤمنين علمتم صحة قولي: إن بقية الله خير لكم.

و قيل معنى الآية ثواب طاعة الله بكون البقية بمعنى ثواب الطاعة الباقي - خير لكم إن كنتم مؤمنين. و قيل غير ذلك.

 

 

 

 و قوله: ﴿وَ مَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أي و ما يرجع إلى قدرتي شي‏ء مما عندكم من نفس أو عمل أو طاعة أو رزق و نعمة فإنما أنا رسول ليس عليه إلا البلاغ، لكم أن تختاروا ما فيه رشدكم و خيركم أو تسقطوا في مهبط الهلكة من غير أن أقدر على جلب خير إليكم أو دفع شر منكم فهو كقوله تعالى﴿فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَ مَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ الأنعام: - ١٠٤.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَ صَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا إلى آخر الآية، رد منهم لحجة شعيب عليه، و هو من ألطف التركيب، و مغزى مرادهم أنا في حرية فيما نختاره لأنفسنا من دين أو نتصرف به في أموالنا من وجوه التصرف و لست تملكنا حتى تأمرنا بكل ما أحببت أو تنهانا عن كل ما كرهت فإن ساءك شي‏ء مما تشاهد منا بما تصلي و تتقرب إلى ربك و أردت أن تأمر و تنهى فلا تتعد نفسك لأنك لا تملك إلا إياها.

و قد أدوا مرادهم هذا في صورة بديعة مشوبة بالتهكم و اللوم معا و مسبوكة في قالب الاستفهام الإنكاري و هو أن الذي تريده منا من ترك عبادة الأصنام، و ترك ما شئنا من التصرف في أموالنا هو الذي بعثتك إليه صلاتك و شوهته في عينك فأمرتك به لما أنها ملكتك لكنك أردت منا ما أرادته منك صلاتك و لست تملكنا أنت و لا صلاتك لأننا أحرار في شعورنا و إرادتنا لنا أن نختار أي دين شئنا و نتصرف في أموالنا أي تصرف أردنا من غير حجر و لا منع و لم ننتحل إلا ديننا الذي هو دين آبائنا و لم نتصرف إلا في أموالنا و لا حجر على ذي مال في ماله.

فما معنى أن تأمرك إياك صلاتك بشي‏ء و نكون نحن الممتثلون لما أمرتك به؟ و بعبارة أخرى ما معنى أن تأمرك صلاتك بفعلنا القائم بنا دونك؟ فهل هذا إلا سفها من الرأي؟ و إنك لأنت الحليم الرشيد و الحليم لا يعجل في زجر من يراه مسيئا و انتقام من يراه مجرما حتى ينجلي له وجه الصواب، و الرشيد لا يقدم على أمر فيه غي و ضلال فكيف أقدمت على مثل هذا الأمر السفهي الذي لا صورة له إلا الجهالة و الغي؟ و قد ظهر بهذا البيان أولا: أنهم إنما نسبوا الأمر إلى الصلاة لما فيها من البعث و الدعوة إلى معارضة القوم في عبادتهم الأصنام و نقصهم المكيال و الميزان،

 

 

 

و هذا هو السر في تعبيرهم عن ذلك بقولهم: ﴿أَ صَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ إلخ، دون أن يقولوا: أ صلاتك تنهاك أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ مع أن التعبير عن المنع بالنهي عن الفعل أقرب إلى الطبع من التعبير بالأمر بالترك و لذلك عبر عنه شعيب بالنهي في جوابه عن قولهم إذ قال: ﴿وَ مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِليَ‏ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ و لم يقل إلى ما آمركم بتركه. و المراد على أي حال منعه إياهم عن عبادة الأصنام و التطفيف فافهم ذلك فإنه من لطائف هذه الآية التي ملئت لطافة و حسنا.

و ثانيا: أنهم إنما قالوا: ﴿أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا دون أن يقولوا: أن نترك آلهتنا أو أن نترك الأوثان ليشيروا بذلك إلى الحجة في ذلك و هي أن هذه الأصنام دام على عبادتها آباؤنا فهي سنة قومية لنا، و لا ضير في الجري على سنة قومية ورثها الخلف من السلف، و نشأ عليها الجيل بعد الجيل فإنا نعبد آلهتنا و ندوم على ديننا و هو دين آبائنا و نحفظ رسما مليا عن الضيعة.

و ثالثا: أنهم إنما قالوا: ﴿أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا فذكروا الأموال مضافة إلى أنفسهم ليكون في ذلك إيماء إلى الحجة فإن الشي‏ء إذا صار مالا لأحد لم يشك ذو ريب في أن له أن يتصرف فيه و ليس لغيره ممن يعترف بماليته له أن يعارضه في ذلك، و للمرء أن يسير في مسير الحياة و يتدبر في أمر المعيشة بما يستطيعه من الحذق و الاحتيال، و يهديه إليه الذكاء و الكياسة.

و رابعا: أن قولهم: ﴿أَ صَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ إلى قوله ﴿إِنَّكَ لَأَنْتَ اَلْحَلِيمُ اَلرَّشِيدُ مبني على التهكم و الاستهزاء إلا أن التهكم في تعليقهم أمر الصلاة شعيبا على تركهم ما يعبد آباؤهم، و كذا في نسبة الأمر إلى الصلاة لا غير، و أما نسبة الحلم و الرشد إليه فليس فيها تهكم و استهزاء، و لذلك أكد قوله: ﴿إِنَّكَ لَأَنْتَ اَلْحَلِيمُ اَلرَّشِيدُ بإن و اللام و إتيان الخبر جملة اسمية ليكون أقوى في إثبات الحلم و الرشد له فيصير أبلغ في ملامته و الإنكار عليه، و أن الذي لا شك في حلمه و رشده قبيح عليه أن يقدم على مثل هذا الأمر السفهي، و ينتهض على سلب حرية الناس و استقلالهم في الشعور و الإرادة.

و ظهر بذلك أن ما ذكره كثير منهم أنهم وصفوه بالحلم و الرشد على سبيل الاستهزاء يعنون به أنه موصوف بضدهما و هو الجهالة و الغي. ليس بصواب.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَليَ‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ رَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً إلى آخر الآية، المراد بكونه على بينة من ربه كونه على آية بينة و هي آية النبوة و المعجزة الدالة على صدق النبي في دعوى النبوة، و المراد بكونه رزق من الله رزقا حسنا أن الله آتاه من لدنه وحي النبوة المشتمل على أصول المعارف و الشرائع، و قد مر توضيح نظير هاتين الكلمتين فيما تقدم.

و المعنى: أخبروني إن كنت رسولا من الله إليكم و خصني بوحي المعارف و الشرائع و أيدني بآية بينة يدل على صدق دعواي فهل أنا سفيه في رأيي؟ و هل ما أدعوكم إليه دعوة سفهية؟ و هل في ذلك تحكم مني عليكم أو سلب مني لحريتكم؟ فإنما هو الله المالك لكل شي‏ء و لستم بأحرار بالنسبة إليه بل أنتم عباده يأمركم بما شاء، و له الحكم و إليه ترجعون.

و قوله: ﴿وَ مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِليَ‏ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ تعدية المخالفة بإلى لتضمينه معنى ما يتعدى بها كالميل و نحوه؟ و التقدير: أخالفكم مائلا إلى ما أنهاكم عنه أو أميل إلى ما أنهاكم عنه مخالفا لكم.

و الجملة جواب عن ما اتهموه به أنه يريد أن يسلب عنهم الحرية في أعمالهم و يستعبدهم و يتحكم عليهم، و محصله أنه لو كان مريدا ذلك لخالفهم فيما ينهاهم عنه، و هو لا يريد مخالفتهم فلا يريد ما اتهموه به و إنما يريد الإصلاح ما استطاع.

توضيحه: أن الصنع الإلهي و إن أنشأ الإنسان مختارا في فعله حرا في عمله له أن يميل في مظان العمل إلى كل من جانبي الفعل و الترك فله بحسب هذه النشأة حرية تامة بالقياس إلى بني نوعه الذين هم أمثاله و أشباهه في الخلقة لهم ما له و عليهم ما عليه فليس لأحد أن يتحكم على آخر عن هوى من نفسه.

إلا أنه أفطره على الاجتماع فلا تتم له الحياة إلا في مجتمع من أفراد النوع يتعاون فيه الجميع على رفع حوائج الجميع ثم يختص كل منهم بما له من نصيب بمقدار ما له من الزنة الاجتماعية، و من البديهي أن الاجتماع لا يقوم على ساق إلا بسنن و قوانين تجري فيها، و حكومة يتولاها بعضهم تحفظ النظم و تجري القوانين كل ذلك على حسب ما يدعو إليه مصالح المجتمع.

فلا مناص من أن يفدي المجتمعون بعض حريتهم قبال القانون و السنة الجارية

 

 

 

 بالحرمان من الانطلاق و الاسترسال ليسعدوا لذلك بنيل بعض مشتهياتهم و إحياء البعض الباقي من حريتهم.

فالإنسان الاجتماعي لا حرية له قبال المسائل الحيوية التي تدعو إليه مصالح المجتمع و منافعه، و الذي يتحكمه الحكومة في ذلك من الأمر و النهي ليس من الاستعباد و الاستكبار في شي‏ء إذ إنها إنما يتحكم فيما لا حرية للإنسان الاجتماعي فيه، و كذا الواحد من الناس المجتمعين إذا رأى من أعمال إخوانه المجتمعين ما يضر بحال المجتمع أو لا ينفع لإبطاله ركنا من أركان المصالح الأساسية فيها فبعثه ذلك إلى وعظهم بما يرشدهم إلى اتباع سبيل الرشد فأمرهم بما يجب عليهم العمل به و نهاهم عن اقتراف ما يجب عليهم الانتهاء عنه لم يكن هذا الواحد متحكما عن هوى النفس مستعبدا للأحرار المجتمعين من بني نوعه فإنه لا حرية لهم قبال المصالح العالية و الأحكام اللازمة المراعاة في مجتمعهم، و ليس ما يلقيه إليهم من الأمر و النهي في هذا الباب أمرا أو نهيا له في الحقيقة بل كان أمرا و نهيا ناشئين عن دعوة المصالح المذكورة قائمين بالمجتمع من حيث هو مجتمع بشخصيته الوسيعة، و إنما الواحد الذي يلقي إليهم الأمر و النهي بمنزلة لسان ناطق لا يزيد على ذلك.

و أمارة ذلك أن يأتمر هو نفسه بما يأمر به و ينتهي هو نفسه عما ينهى عنه من غير أن يخالف قوله فعله و نظره عمله، إذ الإنسان مطبوع على التحفظ على منافعه و رعاية مصالحه فلو كان فيما يدعو إليه غيره من العمل خير و هو مشترك بينهما لم يخالفه بشخصه، و لم يترك لنفسه ما يستحسنه لغيره، و لذلك قال (عليه السلام) فيما ألقاه إليهم من الجواب: ﴿وَ مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِليَ‏ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ و قال أيضا كما حكاه الله تتميما للفائدة و دفعا لأي تهمة تتوجه إليه﴿وَ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَليَ‏ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ الشعراء: - ١٨٠.

فهو (عليه السلام) يشير بقوله: ﴿وَ مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلخ، إلى أن الذي ينهاهم عنه من الأمور التي فيها صلاح مجتمعهم الذي هو أحد أفراده، و يجب على الجميع مراعاتها و ملازمتها، و ليس اقتراحا استعباديا عن هوى من نفسه، و لذلك عقبه بقوله: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ اَلْإِصْلاَحَ مَا اِسْتَطَعْتُ.

و ملخص المقام أنهم لما سمعوا من شعيب (عليه السلام) الدعوة إلى ترك عبادة الأصنام

 

 

 

 و التطفيف ردوه بأن ذلك اقتراح منه مخالف لما هم عليه من الحرية الإنسانية التي تسوغ لهم أن يعبدوا من شاءوا و يفعلوا في أموالهم ما شاءوا.

فرد عليهم شعيب (عليه السلام) بأن الذي يدعوهم إليه ليس من قبل نفسه حتى ينافي مسألتهم ذلك حريتهم و يبطل به استقلالهم في الشعور و الإرادة بل هو رسول من ربهم إليهم و له على ذلك آية بينة، و الذي أتاهم به من عند الله الذي يملكهم و يملك كل شي‏ء و هم عباده لا حرية لهم قباله، و لا خيرة لهم فيما يريده منهم.

على أن الذي ألقاه إليهم من الأمور التي فيها صلاح مجتمعهم و سعادة أنفسهم في الدنيا و الآخرة، و أمارة ذلك أنه لا يريد أن يخالفهم إلى ما ينهاهم عنه بل هو مثلهم في العمل به، و إنما يريد الإصلاح ما استطاع، و لا يريد منهم على ذلك أجرا إن أجره إلا على رب العالمين.

و قوله: ﴿وَ مَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ في مقام الاستثناء من الاستطاعة فإنه (عليه السلام) لما ذكر لهم أنه يريد إصلاح مجتمعهم بالعلم النافع و العمل الصالح على مقدار ما له من الاستطاعة و في ضوئها أثبت لنفسه استطاعة و قدرة و ليست للعبد باستقلاله و حيال نفسه استطاعة دون الله سبحانه أتم ما في كلامه من النقص و القصور بقوله: ﴿وَ مَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ أي إن الذي يترشح من إرادتي باستطاعة مني من تدبير أمور مجتمعكم و توفيق الأسباب بعضها ببعض الناتجة لسعادته إنما هو بالله سبحانه لا غنى عنه و لا مخرج من إحاطته و لا استقلال في أمر دونه فهو الذي أعطاني ما هو عندي من الاستطاعة، و هو الذي يوفق الأسباب من طريق استطاعتي فاستطاعتي منه و توفيقي به.

بين (عليه السلام) هذه الحقيقة، و اعترف بأن توفيقه بالله، و ذلك من فروع كونه تعالى هو الفاطر لكل نفس و الحافظ عليها و القائم على كل نفس بما كسبت كما قال‏﴿

اَلْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ الفاطر: - ١، و قال﴿وَ رَبُّكَ عَليَ‏كُلِّ شَيْ‏ءٍ حَفِيظٌ السبأ: - ٢١، و قال﴿أَ فَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَليَ‏كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ الرعد: - ٣٣، و قال﴿إِنَّ اَللَّهَ يُمْسِكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ الفاطر: - ٤١ و محصله أنه تعالى هو الذي أبدع الأشياء و أعمالها و الروابط التي بينها و أظهرها بالوجود،

 

 

 

 و هو الذي قبض على كل شي‏ء فأمسكه و أمسك آثاره و الروابط التي بينها أن تزول و تغيب وراء ستر البطلان.

و لازم ذلك أنه تعالى وكيل كل شي‏ء في تدبير أموره فهي منسوبة إليه تعالى في تحققها و تحقق الروابط التي بينها لما أنه محيط بها قاهر عليها و لها مع ذلك نسبة إلى ذلك الشي‏ء بإذنه تعالى.

و من الواجب للعبد العالم بمقام ربه العارف بهذه الحقيقة أن يمثلها بإنشاء التوكل على ربه و الإنابة و الرجوع إليه، و لذلك لما ذكر شعيب (عليه السلام) أن توفيقه بالله عقبه بإنشاء التوكل و الإنابة فقال: ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ.

(كلام في معنى حرية الإنسان في عمله)

الإنسان بحسب الخلقة موجود ذو شعور و إرادة له أن يختار لنفسه ما يشاء من الفعل و بعبارة أخرى له في كل فعل يقف عليه أن يختار جانب الفعل و له أن يختار جانب الترك فكل فعل من الأفعال الممكنة الإتيان إذا عرض عليه كان هو بحسب الطبع واقفا بالنسبة إليه على نقطة يلتقي فيها طريقان: الفعل و الترك فهو مضطر في التلبس و الاتصاف بأصل الاختيار لكنه مختار في الأفعال المنتسبة إليه الصادرة عنه باختياره أي إنه مطلق العنان بالنسبة إلى الفعل و الترك بحسب الفطرة غير مقيد بشي‏ء من الجانبين و لا مغلول، و هو المراد بحرية الإنسان تكوينا.

و لازم هذه الحرية التكوينية حرية أخرى تشريعية يتقلد بها في حياته الاجتماعية و هو أن له أن يختار لنفسه ما شاء من طرق الحياة و يعمل بما شاء من العمل، و ليس لأحد من بني نوعه أن يستعلي عليه فيستعبده و يتملك إرادته و عمله فيحمل بهوى نفسه عليه ما يكرهه فإن أفراد النوع أمثال لكل منهم ما لغيره من الطبيعة الحرة، قال تعالى﴿وَ لاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اَللَّهِ آل عمران: - ٦٤ و قال﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ ةإلى أن قال ﴿ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اَللَّهِ آل عمران: - ٧٩.

 

 

 

هذا ما للإنسان بالقياس إلى أمثاله من بني نوعه، و إما بالقياس إلى العلل و الأسباب الكونية التي أوجدت الطبيعة الإنسانية فلا حرية له قبالها فإنها تملكه و تحيط به من جميع الجهات و تقلبه ظهرا لبطن، و هي التي بإنشائها و نفوذ أمرها فعلت بالإنسان ما فعلت فأظهرته على ما هو عليه من البنيان و الخواص من غير أن يكون له الخيرة من أمره فيقبل ما يحبه و يرد ما يكرهه بل كان كما أريد لا كما أراد حتى إن أعمال الإنسان الاختيارية و هي ميدان الحرية الإنسانية إنما تطيع الإنسان فيما أذنت فيه هذه العلل و الأسباب فليس كل ما أحبه الإنسان و أراده بواقع و لا هو في كل ما اختاره لنفسه بموفق له، و هو ظاهر.

و هذه العلل و الأسباب هي التي جهزت الإنسان بجهازات تذكره حوائجه و نواقص وجوده، و تبعثه إلى أعمال فيها سعادته و ارتفاع نواقصه و حوائجه كالغاذية مثلا التي تذكره الجوع و العطش و تهديه إلى الخبز و الماء لتحصيل الشبع و الري و هكذا سائر الجهازات التي في وجوده.

ثم إن هذه العلل و الأسباب أوجبت إيجابا تشريعيا على الإنسان الفرد أمورا ذات مصالح واقعية لا يسعه إنكارها و لا الاستنكاف بالاستغناء عنها كالأكل و الشرب و الإيواء و الاتقاء من الحر و البرد و الدفاع تجاه كل ما يضاد منافع وجوده.

ثم أفطرته بالحياة الاجتماعية فأذعن بوجوب تأسيس المجتمع المنزلي و المدني و السير في مسير التعاون و التعامل، و يضطره ذلك إلى الحرمان عن موهبة الحرية من جهتين:

إحداهما أن الاجتماع لا يتم من الفرد إلا بإعطائه الأفراد المتعاونين له حقوقا متقابلة محترمة عنده ليعطوه بإزائها حقوقا يحترمونها و ذلك بأن يعمل للناس كما يعملون له، و ينفعهم بمقدار ما ينتفع بهم، و يحرم عن الانطلاق و الاسترسال في العمل على حسب ما يحرمهم فليس له أن يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد بل هو حر فيما لا يزاحم حرية الآخرين، و هذا حرمان عن بعض الحرية للحصول على بعضها.

و ثانيتهما: أن المجتمع لا يقوم له صلب دون أن يجري فيه سنن و قوانين يتسلمها الأفراد المجتمعون أو أكثرهم تضمن تلك السنن و القوانين منافعهم العامة بحسب

 

 

 

 ما للاجتماع من الحياة الراقية أو المنحطة الردية، و يستحفظ بها مصالحهم العالية الاجتماعية.

و من المعلوم أن احترام السنن و القوانين يسلب الحرية عن المجتمعين في مواردها فالذي يستن سنة أو يقنن قانونا سواء كان هو عامة المجتمعين أو المندوبين منهم أو السلطان أو كان هو الله و رسوله على حسب اختلاف السنن و القوانين يحرم الناس بعض حريتهم ليحفظ به البعض الآخر منها، قال الله تعالى﴿وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَ يَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ القصص: - ٦٨، و قال تعالى﴿وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً الأحزاب: - ٣٦.

فتلخص أن الإنسان إنما هو حر بالقياس إلى أبناء نوعه فيما يقترحونه لهوى من أنفسهم، و أما بالنسبة إلى ما تقتضيه مصالحه الملزمة و خاصة المصالح الاجتماعية العامة على ما تهديه إليها و إلى مقتضياتها العلل و الأسباب فلا حرية له البتة، و لا أن الدعوة إلى سنة أو أي عمل يوافق المصالح الإنسانية من ناحية القانون أو من بيده إجراؤه أو الناصح المتبرع الذي يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر متمسكا بحجة بينة، من التحكم الباطل و سلب الحرية المشروعة في شي‏ء.

ثم إن العلل و الأسباب المذكورة و ما تهدي إليه من المصالح مصاديق لإرادة الله سبحانه أو إذنه على ما يهدي إليه و يبينه تعليم التوحيد في الإسلام فهو سبحانه المالك على الإطلاق، و ليس لغيره إلا المملوكية من كل جهة، و لا للإنسان إلا العبودية محضا فمالكيته المطلقة تسلب أي حرية متوهمة للإنسان بالنسبة إلى ربه كما أنها هي تعطيه الحرية بالقياس إلى سائر بني نوعه كما قال تعالى﴿أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اَللَّهَ وَ لاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اَللَّهِ آل عمران: - ٦٤.

فهو سبحانه الحاكم على الإطلاق و المطاع من غير قيد و شرط كما قال: ﴿إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ و قد أعطى حق الأمر و النهي و الطاعة لرسله و لأولي الأمر و للمؤمنين من الأمة الإسلامية فلا حرية لأحد قبال كلمة الحق التي يأتون به و يدعون إليه، قال تعالى﴿أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ النساء: - ٥٩، و قال

 

 

 

 تعالى﴿وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ التوبة: - ٧١.

قوله تعالى: ﴿وَ يَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ الجرم‏ بالفتح فالسكون على ما ذكره الراغب قطع الثمرة عن الشجر و قد أستعير لكل اكتساب مكروه، و الشقاق‏ المخالفة و المعاداة. و المعنى: احذروا أن يكتسب لكم مخالفتي و معاداتي بسبب ما أدعوكم إليه أصابه مصيبة مثل مصيبة قوم نوح و هي الغرق أو قوم هود و هي الريح العقيم أو قوم صالح و هي الصيحة و الرجفة.

و قوله: ﴿وَ مَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ أي لا فصل كثيرا بين زمانهم و زمانكم و قد كانت الفاصلة الزمانية بين القومين أقل من ثلاثة قرون، و قد كان لوط معاصرا لإبراهيم (عليه السلام) و شعيب معاصرا لموسى (عليه السلام).

و قيل: المراد به نفي البعد المكاني، و الإشارة إلى أن بلادهم الخربة قريبة منكم لقرب مدين من سدوم و هو بالأرض المقدسة، فالمعنى: و ما مكان قوم لوط منكم ببعيد تشاهدون مدائنهم المخسوفة و آثارهم الباقية الظاهرة. و السياق لا يساعد عليه و التقدير خلاف الأصل لا يصار إليه إلا بدليل.

قوله تعالى: ﴿وَ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ قد تقدم الكلام في معنى قوله: ﴿وَ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ أي استغفروا الله من ذنوبكم و ارجعوا إليه بالإيمان به و برسوله إن الله ذو رحمة و مودة يرحم المستغفرين التائبين و يحبهم.

و قد قال أولا: ﴿اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ فأضاف الرب إليهم ثم قال في مقام تعليله: ﴿إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ و لعل الوجه فيه أنه ذكر في مرحلة الأمر بالاستغفار و التوبة من الله سبحانه صفة ربوبيته لأنها الصفة التي ترتبط بها العبادة و منها الاستغفار و التوبة، و أضاف ربوبيته إليهم بقوله: ﴿رَبَّكُمْ لتأكيد الارتباط و للإشعار بأنه هو ربهم لا ما يتخذونها من الأرباب من دون الله.

و كان من حق الكلام أن يقول في تعليله: إن ربكم رحيم ودود لكنه لما كان مع كونه تعليلا ثناء على الله سبحانه، و قد أثبت سابقا أنه رب القوم إضافة ثانيا

 

 

 

 إلى نفسه ليفيد الكلام بمجموعه معنى أن ربكم و ربي رحيم ودود.

على أن في هذه الإضافة معنى المعرفة و الخبرة فتفيد تأييدا لصحة القول فإنه في معنى أنه تعالى رحيم ودود و كيف لا؟ و هو ربي أعرفه بهذين الوصفين.

و الودود من أسماء الله تعالى، و هو فعول من الود بمعنى الحب إلا أن المستفاد من موارد استعماله أنه نوع خاص من المحبة و هو الحب الذي له آثار و تبعات ظاهرة كالألفة و المراودة و الإحسان، قال تعالى﴿وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً الروم: - ٢١.

و الله سبحانه يحب عباده و يظهر آثار حبه بإفاضة نعمه عليهم ﴿وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اَللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إبراهيم: - ٣٤ فهو تعالى ودود لهم.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَ إِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً إلى آخر الآية، الفقه‏ أبلغ من الفهم و أقوى، و رهط الرجل عشيرته و قومه، و قيل:

إنه من الثلاثة إلى السبعة أو العشرة و على هذا ففي قولهم: رهطك، إشارة إلى قلتهم و هوان أمرهم، و الرجم‏ هو الرمي بالحجارة.

لما حاجهم شعيب (عليه السلام) و أعياهم بحجته لم يجدوا سبيلا دون أن يقطعوا عليه كلامه من غير طريق الحجة فذكروا له:

أولا: أن كثيرا مما يقوله غير مفهوم لهم فيذهب كلامه لغي لا أثر له، و هذا كناية عن أنه يتكلم بما لا فائدة فيه.

ثم عقبوه بقولهم: ﴿وَ إِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً أي لا نفهم ما تقول و لست قويا فينا حتى تضطرنا قوتك على الاجتهاد في فهم كلامك و الاهتمام بأخذه، و السمع و القبول له فإنا لا نراك فينا إلا ضعيفا لا يعبأ بأمره و لا يلتفت إلى قوله.

ثم هددوه بقولهم: ﴿وَ لَوْ لاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ أي و لو لا هذا النفر القليل الذين هم عشيرتك لرجمناك لكنا نراعي جانبهم فيك، و في تقليل العشيرة إيماء إلى أنهم لو أرادوا قتله يوما قتلوه من غير أن يبالوا بعشيرته، و إنما كفهم عن قتله نوع احترام و تكريم منهم لعشيرته.

ثم عقبوه بقولهم: ﴿وَ مَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ تأكيدا لقولهم: ﴿لَوْ لاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ أي لست بقوي منيع جانبا علينا حتى يمنعنا ذلك من قتلك بشر القتل،

 

 

 

 و إنما يمنعنا رعاية جانب رهطك. فمحصل قولهم إهانة شعيب و أنهم لا يعبئون به و لا بما قال، و إنما يراعون في ترك التعرض له جانب رهطه.

قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَ رَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اَللَّهِ وَ اِتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا الظهري‏ نسبة إلى الظهر بفتح الظاء المعجمة و إنما غير بالنسب و هو الشي‏ء الذي وراء الظهر فيترك نسيا منسيا يقال: اتخذه وراءه ظهريا أي نسيه و لم يذكره و لم يعتن به.

و هذا نقض من شعيب لقولهم: ﴿وَ لَوْ لاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ أي كيف تعززون رهطي و تحترمون جانبهم، و لا تعززون الله سبحانه و لا تحترمون جانبه و إني أنا الذي أدعوكم إليه من جانبه؟ فهل رهطي أعز عليكم من الله؟ و قد جعلتموه نسيا منسيا و ليس لكم ذلك و ما كان لكم أن تفعلوه إن ربي بما تعملون محيط بما له من الإحاطة بكل شي‏ء وجودا و علما و قدرة. و في الآية طعن في رأيهم بالسفه كما طعنوا في الآية السابقة في رأيه بالهوان.

قوله تعالى: ﴿وَ يَا قَوْمِ اِعْمَلُوا عَليَ‏ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ إلى آخر الآية. قال في المجمع:، المكانة الحال التي يتمكن بها صاحبها من عمل. انتهى و هو في الأصل. كما قيل من مكن مكانة كضخم ضخامة إذا قوي على العمل كل القوة و يقال تمكن من كذا أي أحاط به قوة.

و هذا تهديد من شعيب لهم أشد التهديد فإنه يشعر بأنه على وثوق مما يقول لا يأخذه قلق و لا اضطراب من كفرهم به و تمردهم عن دعوته فليعملوا على ما لهم من القوة و التمكن فلهم عملهم و له عمله فسوف يفاجئهم عذاب مخز يعلمون عند ذلك من هو الذي يأخذه العذاب. هم أو هو؟ و يعلمون من هو كاذب؟ فليرتقبوا و هو معهم رقيب لا يفارقهم.

قوله تعالى: ﴿وَ لَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً إلى قوله ﴿جَاثِمِينَ تقدم ما يتضح به معنى الآية.

قوله تعالى: ﴿كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلاَ بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ غني‏ في المكان إذا أقام فيه. و قوله: ﴿أَلاَ بُعْداً لِمَدْيَنَ إلخ. فيه لعنهم كما لعنت ثمود، و قد تقدم بعض الكلام فيه في القصص السابقة.

 

 

 

 (بحث روائي)

 في تفسير القمي، قال :قال: بعث الله شعيبا إلى مدين و هي قرية على طريق الشام فلم يؤمنوا به. و في تفسير العياشي، عن أحمد بن محمد بن عيسى عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: ﴿إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ قال: كان سعرهم رخيصا. و فيه، عن محمد بن الفضيل عن الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن انتظار الفرج فقال:

أ و ليس تعلم أن انتظار الفرج من الفرج؟ ثم قال: إن الله تبارك و تعالى يقول:

﴿وَ اِرْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ.

أقول: قوله: ليس تعلم بمعنى لا تعلم و هي لغة مولدة.

 و في المعاني، بإسناده عن عبد الله بن الفضل الهاشمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت: فقوله عز و جل: ﴿وَ مَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ و قوله عز و جل: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اَللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا اَلَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ؟ فقال: إذا فعل العبد ما أمر الله عز و جل به من الطاعة كان فعله وفقا لأمر الله عز و جل و سمي العبد موفقا، و إذا أراد العبد أن يدخل في شي‏ء من معاصي الله فحال الله تبارك و تعالى بينه و بين تلك المعصية فتركها كان تركه لها بتوفيق الله تعالى، و متى خلى بينه و بين المعصية فلم يحل بينه و بينها حتى يتركها فقد خذله و لم ينصره و لم يوفقه. أقول: محصل بيانه (عليه السلام) أن توفيقه تعالى و خذلانه من صفاته الفعلية فالتوفيق هو نظمه الأسباب بحيث تؤدي العبد إلى العمل الصالح أو عدم إيجاده بعض الأسباب التي يستعان بها على المعصية. و الخذلان خلاف ذلك. و على ذلك فمتعلق التوفيق الأسباب لأنه إيجاد التوافق بينها و هي المتصفة بها، و أما توصيف العبد به فمن قبيل الوصف بحال المتعلق.

 و في الدر المنثور، أخرج أبو نعيم في الحلية عن علي قال: قلت: يا رسول الله أوصني. قال: قل: ربي الله ثم استقم. قلت: ربي الله و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب. قال: ليهنئك العلم أبا الحسن لقد شربت العلم شربا و نهلته نهلا.

 أقول: و قد تقدمت الإشارة إلى نبذة من معنى الجملة.

 و فيه، أخرج الواحدي و ابن عساكر عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله

 

 

 

 (صلى الله عليه وآله و سلم) : بكى شعيب (عليه السلام) من حب الله حتى عمي فرد الله عليه بصره، و أوحى الله إليه: يا شعيب ما هذا البكاء؟ أ شوقا إلى الجنة أم خوفا من النار؟ فقال: لا و لكن اعتقدت حبك بقلبي، فإذا نظرت إليك فما أبالي ما الذي تصنع بي؟ فأوحى الله إليه: يا شعيب إن يكن ذلك حقا فهنيئا لك لقائي، يا شعيب لذلك أخدمتك موسى بن عمران كليمي. أقول: المراد بالنظر إليه تعالى هو النظر القلبي دون النظر الحسي المستلزم للجسمية، تعالى عن ذلك، و قد تقدم توضيحه في تفسير قوله تعالى﴿وَ لَمَّا جَاءَ مُوسيَ‏َلِمِيقَاتِنَا الأعراف: - ١٤٣ في الجزء الثامن من الكتاب.

 و فيه، أخرج أبو الشيخ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه خطب فتلا هذه الآية في شعيب: ﴿وَ إِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً قال: كان مكفوفا فنسبوه إلى الضعف. ﴿وَ لَوْ لاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ قال علي: فوالله الذي لا إله غيره ما هابوا جلال ربهم ما هابوا إلا العشيرة.

 (كلام في قصة شعيب و قومه في القرآن في فصول)

١ - قصته عليه السلام

هو (عليه السلام) ثالث الرسل من العرب الذين ذكرت أسماؤهم في القرآن و هم هود و صالح و شعيب و محمد (عليه السلام) ذكر الله تعالى طرفا من قصصه في سور الأعراف و هود و الشعراء و القصص و العنكبوت.

كان (عليه السلام) من أهل مدين مدينة في طريق الشام من الجزيرة و كان معاصرا لموسى (عليه السلام)، و قد زوجه إحدى ابنتيه على أن يأجره ثماني حجج و إن أتم عشرا فمن عنده (القصص: ٢٧) فخدمه موسى عشر سنين ثم ودعه و سار بأهله إلى مصر.

و كان قومه من أهل مدين يعبدون الأصنام و كانوا قوما منعمين بالأمن و الرفاهية و الخصب و رخص الأسعار فشاع الفساد بينهم و التطفيف بنقص المكيال و الميزان (هود: ٨٤ و غيرها) فأرسل الله إليهم شعيبا و أمره أن ينهاهم عن عبادة الأصنام و عن الفساد في الأرض و نقص المكيال و الميزان فدعاهم إلى ما أمر به و وعظهم بالإنذار و التبشير و ذكرهم ما أصاب قوم نوح و قوم هود و قوم صالح و قوم لوط.

 

 

 

و بالغ (عليه السلام) في الاحتجاج عليهم و عظتهم فلم يزدهم إلا طغيانا و كفرا و فسوقا (الأعراف و هود و غيرهما من السور) و لم يؤمنوا به إلا عدة قليلة منهم فأخذوا في إيذائهم و السخرية بهم و تهديدهم عن اتباع شعيب (عليه السلام)، و كانوا يقعدون بكل صراط يوعدون و يصدون عن سبيل الله من آمن به و يبغونها عوجا (الأعراف: ٨٦).

و أخذوا يرمونه (عليه السلام) بأنه مسحور و أنه كاذب (الشعراء: ١٨٥، ١٨٦) و أخافوه بالرجم، و هددوه و الذين آمنوا به بالإخراج من قريتهم أو ليعودن في ملتهم (الأعراف: ٨٨) و لم يزالوا به حتى أيأسوه من إيمانهم فتركهم و أنفسهم (هود: ٩٣) و دعا الله بالفتح قال: ربنا افتح بيننا و بين قومنا بالحق و أنت خير الفاتحين.

فأرسل الله إليهم عذاب يوم الظلة (الشعراء: ١٨٩) و قد كانوا يستهزءون به أن أسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين و أخذتهم الصيحة (هود:

 ٩٤) و الرجفة (الأعراف: ٩١ - العنكبوت: ٣٧) فأصبحوا في ديارهم جاثمين و نجى شعيبا و من معه من المؤمنين (هود: ٩٤) ﴿فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسيَ‏عَليَ‏ قَوْمٍ كَافِرِينَ: الأعراف: - ٩٣.

 ٢ - شخصيته المعنوية

 كان (عليه السلام) من زمرة الرسل المكرمين و قد أشركه الله تعالى فيما أثناهم به من الثناء الجميل في كتابه، و قد حكى عنه فيما كلم به قومه و خاصة في سور الأعراف و هود و الشعراء شيئا كثيرا من حقائق المعارف و العلوم الإلهية و الأدب البارع مع ربه و مع الناس.

و قد سمى نفسه الرسول الأمين (الشعراء: ١٧٨) و مصلحا (هود: ٨٨) و أنه من الصالحين (الشعراء: ٢٧) فحكى الله ذلك عنه حكاية إمضاء، و قد خدمه الكليم موسى بن عمران (عليه السلام) زهاء عشر سنين سلام الله عليه.

٣ - ذكره في التوراة

 لم تقص التوراة قصته مع قومه و إنما أشارت إليه في ضمن ما ذكرت قصة قتل موسى القبطي و فراره من مصر إلى مديان (القصة) فسمته «رعوئيل كاهن مديان».[5]

 

[سورة هود (١١): الآیات ٩٦ الی ٩٩]

﴿وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسيَ‏بِآيَاتِنَا وَ سُلْطَانٍ مُبِينٍ ٩٦ إِليَ‏ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَ مَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ٩٧ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ اَلنَّارَ وَ بِئْسَ اَلْوِرْدُ اَلْمَوْرُودُ ٩٨ وَ أُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ بِئْسَ اَلرِّفْدُ اَلْمَرْفُودُ ٩٩

(بيان)

إشارة إلى قصة موسى الكليم (عليه السلام)، و هو أكثر الأنبياء ذكرا في القرآن ذكر باسمه في مائة و نيف و ثلاثين موضعا منه في بضع و ثلاثين سورة و قد اعتنى بتفصيل قصته أكثر من غيره غير أنه تعالى أجمل القول فيها في هذه السورة فاكتفى بالإشارة الإجمالية إليها.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسيَ‏ بِآيَاتِنَا وَ سُلْطَانٍ مُبِينٍ الباء في قوله ﴿بِآيَاتِنَا للمصاحبة أي و لقد أرسلنا موسى مصحوبا لآياتنا و ذلك أن الذين بعثهم الله من الأنبياء و الرسل و أيدهم بالآيات المعجزة طائفتان منهم من أوتي الآية المعجزة على حسب ما اقترحه قومه كصالح (عليه السلام) المؤيد بآية الناقة، و طائفة أيدوا بآية من الآيات في بدء بعثتهم كموسى و عيسى و محمد (عليه السلام)، كما قال تعالى خطابا لموسى (عليه السلام) ﴿ اِذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآيَاتِي طه: - ٤٢، و قال في عيسى (عليه السلام) ﴿وَ رَسُولاً إِليَ‏ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ الخ:، آل عمران: - ٤٩، و قال في محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) ﴿هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ الصف: - ٩، و الهدى القرآن بدليل قوله‏ ﴿ ذَلِكَ اَلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ البقرة: - ٢، و قال تعالى﴿وَ اِتَّبَعُوا اَلنُّورَ اَلَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ الأعراف: - ١٥٧.

 

 

 

 فموسى (عليه السلام) مرسل مع آيات و سلطان مبين، و ظاهر أن المراد بهذه الآيات الأمور الخارقة التي كانت تجري على يده، و يدل على ذلك سياق قصصه (عليه السلام) في القرآن الكريم.

و أما السلطان و هو البرهان و الحجة القاطعة التي يتسلط على العقول و الأفهام فيعم الآية المعجزة و الحجة العقلية، و على تقدير كونه بهذا المعنى يكون عطفه على الآيات من قبيل عطف العام على الخاص.

و ليس من البعيد أن يكون المراد بإرساله بسلطان مبين أن الله سبحانه سلطه على الأوضاع الجارية بينه و بين آل فرعون ذاك الجبار الطاغي الذي ما ابتلي بمثله أحد من الرسل غير موسى (عليه السلام) لكن الله تعالى أظهر موسى عليه حتى أغرقه و جنوده و نجى بني إسرائيل بيده، و يشعر بهذا المعنى قوله ﴿قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغيَ‏قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَ أَرى‏َ طه: - ٤٦، و قوله لموسى (عليه السلام) ﴿ لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْأَعْلى‏ طه: - ٦٨.

و في هذه الآية و نظائرها دلالة واضحة على أن رسالة موسى (عليه السلام) ما كانت تختص بقومه من بني إسرائيل بل كانت تعمهم و غيرهم.

قوله تعالى: ﴿إِليَ‏ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَ مَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ نسبة رسالته إلى فرعون و ملئه و الملأ هم أشراف القوم و عظماؤهم الذين يملئون القلوب هيبة دون جميع قومه لعلها للإشارة إلى أن عامتهم لم يكونوا إلا أتباعا لا رأي لهم إلا ما رآه لهم عظماؤهم.

و قوله: ﴿فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ إلخ، الظاهر أن المراد بالأمر ما هو الأعم من القول و الفعل كما حكى الله عن فرعون في قوله﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَريَ‏ وَ مَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ اَلرَّشَادِ المؤمن: - ٢٩، فينطبق على السنة و الطريقة التي كان يتخذها و يأمر بها. و كان الآية محاذاة لقول فرعون هذا فكذبه الله تعالى بقوله: ﴿وَ مَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ.

و الرشيد فعيل من الرشد خلاف الغي أي و ما أمر فرعون بذي رشد حتى يهدي إلى الحق بل كان ذا غي و جهالة، و قيل: الرشيد بمعنى المرشد.

 

 

 

 و في الجملة أعني قوله: ﴿وَ مَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ وضع الظاهر موضع المضمر و الأصل «أمره» و لعل الفائدة فيه ما يفيده اسم فرعون من الدليل على عدم رشد الأمر و لا يستفاد ذلك من الضمير البتة.

قوله تعالى: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ اَلنَّارَ وَ بِئْسَ اَلْوِرْدُ اَلْمَوْرُودُ أي يقدم فرعون قومه فإنهم اتبعوا أمره فكان إماما لهم من أئمة الضلال، قال تعالى‏﴿وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى اَلنَّارِ القصص: - ٤١.

و قوله: ﴿فَأَوْرَدَهُمُ اَلنَّارَ تفريع على سابقه أي يقدمهم فيوردهم النار، و التعبير بلفظ الماضي لتحقق الوقوع، و ربما قيل: تفريع على قوله: ﴿فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ أي اتبعوه فأوردهم الاتباع النار، و قد استدل لتأييد هذا المعنى بقوله‏ ﴿

وَ حَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ اَلْعَذَابِ اَلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ اَلْعَذَابِ المؤمن: - ٤٦ حيث تدل الآيات على تعذيبهم من حين الموت قبل يوم القيامة هذا، و لا يخفى أن الآيات ظاهرة في خلاف ما استدل بها عليه لتعبيرها في العذاب قبل يوم القيامة بالعرض غدوا و عشيا، و في يوم القيامة بالدخول في أشد العذاب الذي سجل فيها أنه النار.

و قوله: ﴿وَ بِئْسَ اَلْوِرْدُ اَلْمَوْرُودُ الورد هو الماء الذي يرده العطاش من الحيوان و الإنسان للشرب، قال الراغب في المفردات،: الورود أصله قصد الماء ثم يستعمل في غيره يقال: وردت الماء أرد ورودا فأنا وارد و الماء مورود. و قد أوردت الإبل الماء قال: ﴿وَ لَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ و الورد الماء المرشح للورود. انتهى.

و على هذا ففي الكلام استعارة لطيفة بتشبيه الغاية التي يقصدها الإنسان في الحياة لمساعيه المبذولة بالماء الذي يقصده العطشان فعذب السعادة التي يقصدها الإنسان بأعماله ورد يرده، و سعادة الإنسان الأخيرة هي رضوان الله و الجنة لكنهم لما غووا باتباع أمر فرعون و أخطئوا سبيل السعادة الحقيقية تبدلت غايتهم إلى النار فكانت النار هو الورد الذي يردونه، و بئس الورد المورود لأن الورد، هو الذي يخمد لهيب الصدر و يروي الحشا العطشان و هو عذب الماء و نعم المنهل السائغ و أما إذا تبدل إلى عذاب النار فبئس الورد المورود.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ أُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ بِئْسَ اَلرِّفْدُ اَلْمَرْفُودُ أي هم اتبعوا أمر فرعون فأتبعتهم لعنة من الله في هذه الدنيا و إبعاد من رحمته و طرد من ساحة قربه، و مصداق اللعن الذي أتبعوه هو الغرق، أو أنه الحكم منه تعالى بإبعادهم من الرحمة المكتوب في صحائف أعمالهم الذي من آثاره الغرق و عذاب الآخرة.

و قوله: ﴿وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ بِئْسَ اَلرِّفْدُ اَلْمَرْفُودُ الرفد هو العطية و الأصل في معناه العون، و سميت العطية رفدا و مرفودا لأنه عون للآخذ على حوائجه و المعنى و بئس الرفد رفدهم يوم القيامة و هو النار التي يسجرون فيها، و الآية نظيرة قوله في موضع آخر﴿: وَ أَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا لَعْنَةً وَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ اَلْمَقْبُوحِينَ القصص: - ٤٢.

و ربما أخذ: ﴿يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ ظرفا فالآية متعلقا بقوله: ﴿أُتْبِعُوا أو بقوله:

﴿لَعْنَةً نظير قوله: ﴿فِي هَذِهِ، و المعنى: و أتبعهم الله في الدنيا و الآخرة لعنة أو فأتبعهم الله لعنة الدنيا و الآخرة ثم استؤنف فقيل: بئس الرفد المرفود اللعن الذي أتبعوه أو الإتباع باللعن.

تم و الحمد الله.

 

 

 

فهرس ما في هذا الجزء من أمهات المطالب

 

[1]  الأحقاف جمع حقف و الرمل المعوج، و الأحقاف المذكور في الكتاب العزيز واد بين عمان و أرض مهرة و قيل من عمان إلى حضرموت و هي و مال مشرفة على البحر بالشحر و قال الضحاك: الأحقاف جبل بالشام (المراصد).

[2]  الصحاح الحادي عشر و الثاني عشر من سفر التكوين.

[3]  الإصحاح الثامن عشر من سفر التكوين.

[4]  الإصحاح التاسع عشر من سفر التكوين.

[5]  الإصحاح الثاني من سفر الخروج من التوراة.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=2080
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 05 / 14
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 03