• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء العاشر) ، تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده) .
                    • الموضوع : من ص 155 الى ص 231 .

من ص 155 الى ص 231

كروية الشكل على ما يفيده قوله تعالى﴿يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً الأعراف - ٥٤.

و السماء الأولى هي التي تزينه مصابيح النجوم و الكواكب فهي الطبقة التي تتضمنها أو هي فوقها و تتزين بها كالسقف يتزين بالقناديل و المشاكي و أما ما فوق السماء الدنيا فلم يرد في كلامه شي‏ء من صفتها غير ما في قوله تعالى ﴿سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً الملك: - ٣، و قوله﴿أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اَللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَ جَعَلَ اَلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ اَلشَّمْسَ سِرَاجاً نوح: - ١٦ حيث يدل على مطابقة بعضها بعضا.

و قد ذكر الله سبحانه في صفة خلقها أنها كانت رتقاء ففتقها و متفرقة متلاشية فجمعها و ركمها و أنها كانت دخانا فصيرها سماوات، قال تعالى﴿أَ وَ لَمْ يَرَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَ جَعَلْنَا مِنَ اَلْمَاءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ أَ فَلاَ يُؤْمِنُونَالأنبياء: - ٣٠: و قال ﴿ثُمَّ اِسْتَويَ‏ إِلَى اَلسَّمَاءِ وَ هِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَ أَوْحيَ‏ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا حم السجدة - ١٢ فأفاد أن خلق السماوات إنما تم في يومين، و اليوم مقدار معتد به من الزمان و ليس من الواجب أن يطابق اليوم في كل ظرف و وعاء يوم أرضنا الحاصل من دورة واحدة من حركتها الوضعية كما أن اليوم الواحد في القمر الذي لهذه الأرض يعدل تسعة و عشرين يوما و نصفا تقريبا من أيام الأرض و استعمال اليوم في البرهة من الزمان شائع في الكلام.

فقد خلق الله سبحانه السماوات السبع في برهتين من الزمان كما قال في الأرض‏﴿خَلَقَ اَلْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ إلى أن قال ﴿وَ قَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ حم السجدة: - ١٠ فأنبأ عن خلقها في يومين و هما عهدان و طوران و جعل الأقوات في أربعة أيام و هي الفصول الأربعة.

فالمتحصل من الآيات أولا: أن خلق السماوات و الأرض على ما هي عليه اليوم من الصفة و الشكل لم يكن عن عدم بحت بل هي مسبوقة الوجود بمادة متشابهة

 

 

 

 مركومة مجتمعة ففصل بعض أجزائها عن بعض فجعلت أرضا في برهتين من الزمان و قد كانت السماء دخانا ففصلت و قضيت سبع سماوات في برهتين من الزمان.

و ثانيا: أن ما نراه من الأشياء الحية إنما جعلت من الماء فمادة الماء هي مادة الحياة.

و بما قدمنا يظهر معنى الآية التي نحن فيها فقوله: ﴿هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ المراد بخلقها جمع أجزائها و فصلها و فتقها من سائر ما يختلط بها من المادة المتشابهة المركومة، و قد تم أصل الخلق و الرتق في السماوات في يومين و في الأرض أيضا في يومين و يبقى من الستة الأيام يومان لغير ذلك.

و أما قوله: ﴿وَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْمَاءِ فهو حال و المعنى و كان عرشه يوم خلقهن على الماء و كون العرش على الماء يومئذ كناية عن أن ملكه تعالى كان مستقرا يومئذ على هذا الماء الذي هو مادة الحياة فعرش الملك مظهر ملكه، و استقراره على محل هو استقرار ملكه عليه كما أن استواءه على العرش احتواءه على الملك و أخذه في تدبيره.

و قول بعضهم: إن المراد بالعرش البناء أخذا من قوله تعالى﴿مِمَّا يَعْرِشُونَ النحل: - ٦٨ أي يبنون كلام بعيد عن الفهم.

قوله تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً اللام للغاية و

البلاء

 الامتحان و الاختبار، و قوله: ﴿أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً بيان للاختبار و الامتحان في صورة الاستفهام و المراد أنه تعالى خلق السماوات و الأرض على ما خلق لغاية امتحانكم و تمييز المحسنين منكم من المسيئين.

و من المعلوم أن البلاء و الامتحان أمر مقصود لغيره و هو تمييز الجيد من الردي و الحسن من السيئ، و كذلك الحسنة و السيئة إنما يراد تمييزهما لأجل ما يترتب عليهما من الجزاء، و كذلك الجزاء إنما يراد لأجل ما فيه من إنجاز الوعد الحق و لذلك نجده تعالى يذكر كل واحد من هذه الأمور المترتبة غاية للخلقة فقال في كون الابتلاء غاية للخلقة﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى اَلْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً الكهف: - ٧، و قال في معنى التمييز و التمحيص﴿لِيَمِيزَ اَللَّهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ الأنفال: - ٣٧، ـ

 

 

 

و قال في خصوص الجزاء﴿وَ خَلَقَ اَللَّهُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ لِتُجْزيَ‏كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَ هُمْ لاَ يُظْلَمُونَ الجاثية: - ٢٢ و قال في كون الإعادة لإنجاز الوعد﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ الأنبياء: - ١٠٤ إلى غير ذلك من الآيات، و قال في كون العبادة غرضا في خلق الثقلين﴿وَ مَا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ الذاريات: - ٥٦.

و عد العمل الصالح أو الإنسان المحسن غاية للخلقة لا ينافي اشتمال الخلقة على غايات أخرى بعد ما كان الإنسان أحد تلك الغايات حقيقة لأن الوحدة و الاتصال الحاكم على العالم يصحح كون كل واحد من أنواع الموجودات غاية للخلقة بما أنه محصول الارتباط و نتيجة الازدواج العام بين أجزائه فمن الجائز أن يخاطب كل نوع من أنواع الخليقة أنه المطلوب المقصود من خلق السماوات و الأرض بما أنها تؤدي إليه.

على أن الإنسان أكمل و أتقن المخلوقات الجسمانية من السماوات و الأرض و ما فيهما صنعا و لئن نمى في جانب العلم و العمل نماء حسنا كان أفضل ذاتا مما سواه و أرفع مقاما و أعلى درجة من غيره و إن كان بعض الخليقة كالسماء أشد منه خلقا كما ذكره الله تعالى و من المعلوم أن كمال الصنع هو المقصود منه إذا اشتمل على ناقص و لذا كنا نعد مراحل وجود الإنسان المختلفة من المنوية و الجنينية و الطفولية و غيرها مقدمة لوجود الإنسان السوي الكامل و هكذا.

و بهذا البيان يظهر أن أفضل أفراد الإنسان إن كان فيهم من هو أفضل مطلقا غاية لخلق السماوات و الأرض، و لفظ الآية أيضا لا يخلو عن إشارة أو دلالة على ذلك فإن قوله: ﴿أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً يفيد أن القصد إلى تمييز من هو أحسن عملا من غيره سواء كان ذلك الغير محسنا أو مسيئا فمن كان عمله أحسن من سائر الأفراد سواء كانوا محسنين و أعمالهم دون عمله أو مسيئين كان تمييزه منهم هو الغرض المقصود من الخلقة، و بذلك يستصح‏ ما ورد في الحديث القدسي من خطابه تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله و سلم):

«لولاك لما خلقت الأفلاك‏» فإنه (ص) أفضل الخلق.

و في المجمع،: قال الجبائي: و في الآية دلالة على أنه كان قبل خلق السماوات

 

 

 

 و الأرض و الملائكة لأن خلق العرش على الماء لا وجه لحسنه إلا أن يكون فيه لطف لمكلف يمكنه الاستدلال به فلا بد حينئذ من حي مكلف، و قال علي بن عيسى:

لا يمتنع أن يكون في الإخبار بذلك مصلحة للمكلفين فلا يجب ما قاله الجبائي و هو الذي اختاره المرتضى قدس الله روحه. انتهى.

أقول: و ما ذكراه مبني على ما ذهب إليه المعتزلة: أن أفعال الله سبحانه معللة بالأغراض و تابعة للمصالح و جهات الحسن و لو كان ذلك بأن يخلق خلقا ليخبر بذلك المكلفين فيعتبروا به و يؤمنوا له فيتم بذلك مصلحة من مصالحهم، و قد تقدم في أبحاثنا السابقة أن الله سبحانه لا يحكم عليه و لا يؤثر فيه غيره سواء كان ذلك الغير مصلحة أو أي شي‏ء آخر مفروض و أن غيره أي شي‏ء فرض مخلوق له مدبر بأمره إن كان أمرا ذا واقعية و وجود إن الحكم إلا لله و الله خالق كل شي‏ء.

فجهات الحسن و المصلحة و هي التي تحكم علينا و تبعثنا نحو أفعالنا أمور خارجة عن أفعالنا مؤثرة فينا من جهة كوننا فاعلين نروم بها إلى سعادة الحياة، و أما هو سبحانه فإنه أجل من ذلك. و ذلك أن جهات الحسن و المصلحة هذه إنما هي قوانين عامة مأخوذة من نظام الكون و الروابط الدائرة بين أجزاء الخلقة، و من الضروري أن الكون و ما فيه من النظام الجاري فعله سبحانه، و من الممتنع جدا أن يتقدم المفهوم المنتزع على ما انتزع منه من الفعل ثم يتخطاه و لا يقنع حتى يتقدم على فاعله الموجد له.

و أما ما في الآية من تعليل خلق السماوات و الأرض بقوله: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً و نظائره الكثيرة في القرآن فإنما هو و أمثاله من قبيل التعليل بالفوائد المترتبة و المصالح المتفرعة و قد أخبر تعالى أن فعله لا يخلو من الحسن إذ قال﴿اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ الم السجدة: - ٧، فهو سبحانه هو الخير لا شر فيه و هو الحسن لا قبح عنده و ما كان كذلك لم يصدر عنه شر و لا قبيح البتة.

و ليس مقتضى ما تقدم أن يكون معنى الحسن هو ما صدر عنه تعالى أو الذي أمر به و إن استقبحه العقل، و معنى القبيح هو ما لا يصدر عنه أو الذي نهى عنه

 

 

 

 و إن استحسنه العقل و استصوبه فإن ذلك يأباه أمثال قوله تعالى﴿قُلْ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ الأعراف: - ٢٨.

قوله تعالى: ﴿وَ لَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ اَلْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ لما كان قوله: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ إلخ، يشير إلى المعاد أشار إلى ما كان يواجه به الكفار ذكره (ص) للمعاد برميه بأنه سحر من القول.

فظاهر الآية أنهم كما كانوا يسمون لفظ القرآن الكريم بما فيه من الفصاحة و بلاغة النظم سحرا، كذلك كانوا يسمون ما يخبر به القرآن أو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من حقائق المعارف التي لا يصدقه أحلامهم كالبعث بعد الموت سحرا، و على هذا فهو من مبالغتهم في الافتراء على كتاب الله و التعنت و العناد مع الحق الصريح حيث تعدوا عن رمي اللفظ لفصاحته و بلاغته بالسحر إلى رمي المعنى لصحته و استقامته بالسحر.

و من الممكن أن يكون المراد بالسحر المغالطة و التمويه بإظهار الباطل في صورة الحق على نحو إطلاق الملزوم و إرادة اللازم لكن لا يلائمه ظاهر قوله تعالى في نظير المورد﴿قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ المؤمنون: - ٨٩.

قوله تعالى: ﴿وَ لَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ اَلْعَذَابَ إِليَ‏ أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ إلى آخر الآية. اللام في صدر الآية للقسم و لذلك أكد الجواب أعني قوله: ﴿لَيَقُولُنَّ باللام و النون و المعنى: و أقسم لئن أخرنا عن هؤلاء الكفار ما يستحقونه من العذاب قالوا مستهزءين: ما الذي يحبس هذا العذاب الموعود عنا و لما ذا لا ينزل علينا و لا يحل بنا.

و في هذا إشارة أو دلالة على أنهم سمعوا من كلامه تعالى أو من كلام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ما يوعدهم بعذاب لا محيص منه و إن الله أخر ذلك تأخيرا رحمة لهم فاستهزءوا به و سخروا منه بقولهم: ﴿مَا يَحْبِسُهُ و يؤيده قوله تعالى عقيب ذلك: ﴿أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ إلخ.

 

 

 

 و بهذا يتأيد أن السورة سورة هود نزلت بعد سورة يونس لمكان قوله تعالى فيها: ﴿وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إلى آخر الآيات.

و قوله: ﴿إِليَ‏ أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ

الأمة

الحين و الوقت كما في قوله تعالى﴿وَ قَالَ اَلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَ اِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ يوسف: - ٤٥ أي بعد حين و وقت.

و ربما أمكن أن يراد بالأمة الجماعة فقد وعد الله سبحانه أن يؤيد هذا الدين بقوم صالحين لا يؤثرون على دينه شيئا و يمكن عند ذلك للمؤمنين دينهم الذي ارتضى لهم قال﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اَللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى اَلْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ لاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ المائدة: - ٥٤، و قال‏

﴿وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اَلَّذِي اِرْتَضيَ‏ لَهُمْ إلى أن قال ﴿يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً النور: - ٥٥، و هذا وجه لا بأس به.

و قيل: إن المراد بالأمة الجماعة و هم قوم يأتي الله بهم بعد هؤلاء فيصرون على الكفر فيعذبهم بعذاب الاستئصال كما فعل بقوم نوح، أو هم قوم يأتون بعد هؤلاء فيصرون على معصية الله فتقوم عليهم القيامة.

و الوجهان سخيفان لبنائهما على كون المعذبين غير هؤلاء المستهزءين من الكفار و ظاهر قوله تعالى: ﴿أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ إلخ، إن المعذبين هم المستهزءون بقولهم: ﴿مَا يَحْبِسُهُ.

و قوله: ﴿أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَ حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ بمنزلة الجواب عن قولهم: ﴿مَا يَحْبِسُهُ الواقع موقع الاستهزاء فإنه في معنى الرد على ما أوعدوا به من العذاب، و محصله أن هذا العذاب الذي يهددنا لو كان حقا لم يكن لحبسه سبب فإنا كافرون غير عادلين عن الكفر و لا تاركين له فتأخر نزول العذاب من غير موجب لتأخره بل مع الموجب لتعجيله كاشف عن كونه من قبيل الوعد الكاذب.

 

 

 

 فأجاب الله عن ذلك بأنه سيأتيهم و لا يصرفه يومئذ عنهم صارف و يحيق بهم هذا العذاب الذي كانوا به يستهزءون.

و بما تقدم يظهر أن هذا العذاب الذي يهددون به عذاب دنيوي سيحيق بهم و ينزل عليهم دون عذاب الآخرة، و على هذا فهذه الآية و التي قبلها يذكر كل منهما شيئا من ما تهوس به الكفار بجهالتهم فالآية السابقة تذكر أنهم إذا ذكر لهم البعث و أنذروا بعذاب يوم القيامة قالوا: إن هذا إلا سحر مبين، و هذه الآية تذكر أن الله إذا أخر عنهم العذاب إلى أمة و أخبروا بذلك قالوا مستهزءين: ما يحبسه.

قوله تعالى: ﴿وَ لَئِنْ أَذَقْنَا اَلْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ قال في المجمع،:

الذوق‏

تناول الشي‏ء بالفم لإدراك الطعم، و سمى الله سبحانه إحلال اللذات بالإنسان إذاقة لسرعة زوالها تشبيها بما يذاق ثم يزول كما قيل: أحلام نوم أو كظل زائل و

النزع

‏ قلع الشي‏ء عن مكانه، و

 اليئوس‏

 فعول من يئس صيغة مبالغة و اليأس القطع بأن الشي‏ء المتوقع لا يكون و نقيضه الرجاء. انتهى.

و قد وضعت الرحمة في الآية مكان النعمة للإشعار بأن النعم التي يؤتيها الله الإنسان عنوانها الرحمة و هي رفع حاجة الإنسان فيما يحتاج إليه من غير استحقاق و إيجاب و المعنى: أنا إن آتينا الإنسان شيئا من النعم التي يتنعم بها ثم نزعناها يئس منها و اشتد يأسه حتى كأنه لا يرى عودها إليه ثانيا ممكنا و كفر بنعمتنا كأنه يرى تلك النعمة من حقه الثابت علينا و يرانا غير مالكين لها فالإنسان مطبوع على اليأس عما أخذ منه و الكفران، و قد أخذ في الآية لفظ الإنسان و هو لفظ دال على نوعه للدلالة على أن الذي يذكر من صفته من طبع نوعه.

قوله تعالى: ﴿وَ لَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ اَلسَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ قال في المجمع،:

النعماء

 إنعام يظهر أثره على صاحبه و

الضراء

 مضرة يظهر الحال بها لأنهما أخرجتا مخرج الأحوال الظاهرة مثل حمراء و عيناء مع ما فيهما من المبالغة، و

الفرح و السرور

من النظائر و هو انفتاح القلب بما يلتذ به و ضده الغم إلى أن قال: و

الفخور

 الذي يكثر فخره و هو التطاول بتعديد المناقب و هي

 

 

 

صفة ذم إذا أطلقت لما فيها من التكبر على من لا يجوز أن يتكبر عليه. انتهى.

و المراد بالسيئات بقرينة المقام المصائب و البلايا التي يسوء الإنسان نزولها عليه، و المعنى: و لئن أصبناه بالنعمة بعد الضراء ليقولن ذهب الشدائد عني، و هو كناية عن الاعتقاد بأن هاتيك الشدائد و النوازل لا تعود بعد زوالها و لا تنزل بعد ارتفاعها ثانيا.

و قوله: ﴿إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ بمنزلة التعليل لقوله: ﴿ذَهَبَ اَلسَّيِّئَاتُ عَنِّي فإنه يفرح و لا يزال على ذلك لما ذاقه من النعماء بعد الضراء، و لو كان يرى أن ما عنده من النعماء جائز الزوال لا وثوق على بقائه و لا اعتماد على دوامه، و أن الأمر ليس إليه بل إلى غيره و من الجائز أن يعود إليه ما تركه من السيئات لم يكن فرحا بذلك فإنه لا فرح في أمر مستعار غير ذي قرار.

و إنه ليفخر بما أوتي من النعماء على غيره، و لا فخر إلا بكرامة أو منقبة يملكها الإنسان فهو يرى ما عنده من النعمة أمرا بيده زمامه ليس لغيره أن يسلبه و ينزعه منه و يعيد إليه ما ذهب عنه من السيئات و لذلك يفخر و يكثر من الفخر.

قوله تعالى: ﴿إِلاَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ ذكر سبحانه ما الإنسان مطبوع عليه عند الشدة و البلاء من اليأس و الكفر و عند الرخاء و النعماء من الفرح و الفخر، و مغزى الكلام أنه مخلوق كليل البصر قصير النظر إنما يرى ما يجده في حاله الحاضرة، و يذهل عما دون ذلك فإن زالت عنه نعمة لم ير لها عودة و أنها كانت من عند الله سبحانه، و له تعالى أن يعيدها إليه إن شاء حتى يصبر على بلائه و يتعلق قلبه به بالرجاء و المسألة، و إن عادت إليه نعمة بعد زوالها رأى أنه يملكها ففرح و فخر و لم ير لله تعالى صنعا في ذلك حتى يشكره عليها و يكف عن الفرح و عن التطاول على غيره بالفخر.

استثنى سبحانه طائفة من الإنسان و وصفهم بقوله: ﴿اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ ثم وعدهم وعدا حسنا بقوله: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ و ذلك أن التخلص من هذا الطبع المذموم إنما يتمشى من الصابرين الذين يصبرون عند

 

 

 

 الضراء فلا يحملهم الجزع على اليأس و الكفر، و يعملون الصالحات من الشكر بثنائه تعالى على ما كشف الضراء و أعقب بالنعماء و صرف نعمه في ما يرضيه و يريح خلقه فلا يحملهم الاستغناء على الفرح و الفخر.

و هؤلاء هم المتخلصون الناجون يغفر لهم ربهم بإمحاء آثار ذلك الطبع المذموم و وضع الخصال المحمودة موضعه و لهم عند ربهم مغفرة و أجر كبير.

و في الآية دلالة على أن الصبر مع العمل الصالح لا ينفك عن الإيمان فإنها تعد هؤلاء الصابرين مغفرة و أجرا كبيرا، و المغفرة لا تنال المشركين، قال تعالى﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ النساء: - ١١٦.

و قد ورد الوعد بعين ما ذكر في هذه الآية أعني المغفرة و الأجر الكبير للمؤمنين في قوله تعالى﴿وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ فاطر: - ٧، و قوله تعالى﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ الملك: - ١٢.

و اتصال الآيات الثلاث بما قبلها ظاهر فإن الكلام كان في الآيات السابقة مسوقا في كفر الكافرين و رميهم الوعد بالبعث بالسحر و مقابلتهم الإيعاد بنزول العذاب بالاستهزاء، فذكر سبحانه أنهم على حالهم الطبعي لا يرون لما عندهم من نعمة الله زوالا بنزول العذاب و لا لما بهم من رث الحال تبدلا إلى العيش الهني‏ء و المتاع الحسن الذي وعدهم الله به في صدر السورة.

قوله تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحيَ‏ إِلَيْكَ وَ ضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ إلى آخر الآية، لما كانت رسالة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)بما أيدت به من القرآن الكريم و الآيات البينات و الحجج و البراهين مما لا يسع لذي عقل إنكارها و لا لإنسان صحيح المشاعر ردها و الكفر بها كان ما حكى من كفر الكافرين و إنكار المشركين أمرا مستبعدا بحسب الطبع، و إذا كان وقوع أمر على صفة من الصفات مستبعدا أخذ الإنسان في تقرير ذلك الأمر من غير مجرى الاستبعاد طلبا للمخرج من نسبة الوقوع إلى ما يستبعده الطبع.

 

 

 

 و لما كان المقام في الآية الكريمة هذا المقام و كان ما حكاه الله سبحانه من كفر المنكرين و إنكار المشركين لما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إليهم من الحق الصريح و ما أنزل إليه من كلام الله تعالى مع ما يتلوه من البينات و الحجج مما لا ينبغي أن يذعن به لبعده طبعا بين تعالى لذلك وجها بعد وجه على سبيل الترجي فقال: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحيَ‏ إِلَيْكَ إلخ ‏﴿ أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرَاهُ إلخ.

فكأنه قيل: من المستبعد أن تهديهم إلى الحق الواضح و يسمعوا منك كلامي ثم لا يستجيبوا دعوتك و يكفروا بالحق بعد وضوحه فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك و غير داعيهم إليه و لذلك جبهوك بالإنكار أم يقولون إن القرآن ليس من كلام الله بل هو افتراء افتريته على الله و لذلك لم يؤمنوا به. فإن كنت تركت بعض الوحي خوفا من اقتراحهم عليك الآيات فإنما أنت نذير و ليس لك إلا ما شاء الله، و أن يقولوا افتراه فقل لهم يأتوا بعشر سور مثله مفتريات «إلخ».

و مما تقدم يظهر أن إيراد الكلام مورد الترجي و الاحتمال لرعاية ما يقتضيه المقام من طبع الاستبعاد فالمقام مقام الاستبعاد و مقتضاه ذكر كل سبب محتمل التأثير في الحادثة المستبعدة، اعتبر ذلك في ملك ينتهي إليه تمرد بعض ضعفاء رعيته فيبعث بعض عماله إلى دعوتهم إلى السمع و الطاعة و يكتب في ذلك كتابا يأمره أن يقرأه عليهم و يلومهم على تمردهم و استكبارهم على ما بهم من الضعف و الذلة و لمولاهم من القوة و السطوة و العزة ثم يبلغ الملك أنهم ردوا على رسوله ما بلغهم من قبله، و يكتب إليه كتابا ثانيا يأمره بقراءته عليهم و إذا فيه: لعلك لم تقرأ كتابي عليهم مخافة أن يقترحوا عليك بما لا تقدر عليه أو أنهم زعموا أن الكتاب ليس من قبلي و إنما افتريته علي افتراء فإن كان الأول فإنك رسول ليس عليك إلا البلاغ و إن كان الثاني فإن الكتاب بخطي كتبته بيدي و ختمت عليه بخاتمي و لا يقدر أحد غيري أن يقلدني في ذلك.

و التأمل في هذا المثال يعطي أن المقام فيما يتضمنه الكتاب الثاني من الخطاب مقام الاستبعاد و أن القصد من ذكر الاحتمالين ترك الإبلاغ و زعم الافتراء ليس هو توبيخ الرسول جدا أو احتمال زعمهم الكذب و الفرية جدا، و إنما ذكر الوجهان

 

 

 

 لداعي أن يكونا كالمقدمة لذكر ما يزول به الشبهتان و هو أن الرسول ليس له من الأمر شي‏ء حتى يقترح، عليه بما يقترح و أن الكتاب للملك ليس فيه ريب و لا شك.

و من هنا يظهر أن قوله تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحيَ‏ إِلَيْكَ وَ ضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ إلخ، ليس يفيد الترجي الجدي و لا مسوقا لتوبيخ النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لا مرادا به تسليته و تطييب نفسه إثر ما كان يناله من الحزن و الأسى بكفرهم و جحودهم لما أتى به من الحق الصريح بل الكلام مسوق ليتوصل به إلى ذكر قوله: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَ اَللَّهُ عَليَ‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَكِيلٌ.

فما ذكره بعض المفسرين أن الكلام مسرود لنهي النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن الحزن و ضيق الصدر بما كانوا يواجهونه به من الكفر و الجحود، و النهي نهي تسلية و تطييب للنفس نظير ما في قوله ﴿وَ لاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ النحل: - ١٢٧، و قوله﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلسَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ الشعراء: - ٤ كلام ليس في محله.

و يظهر أيضا أن قوله: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ إلخ، و قوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرَاهُ إلخ، كشقي الترديد و يتصلان معا بما قبلهما من وجه واحد كما ذكرناه.

و قوله: ﴿تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحيَ‏َإِلَيْكَ إنما ذكر البعض لأن الآيات السابقة متضمنة لتبليغ الوحي في الجملة أي لعلك تركت بعض ما أوحينا إليك من القرآن فما تلوته عليهم فلم ينكشف لهم الحق كل الانكشاف حتى لا يجبهوك بما جبهوك به من الرد و الجحود، و ذلك أن القرآن بعضه يوضح بعضا و شطر منه يقرب شطرا منه من القبول كآيات الاحتجاج توضح الآيات المشتملة على الدعاوي، و آيات الثواب و العقاب تقرب الحق من القبول بالتطميع و التخويف، و آيات القصص و العبر تستميل النفوس و تلين القلوب.

و قوله: ﴿وَ ضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا إلخ، قال في المجمع،

ضائق و ضيق‏

 بمعنى واحد إلا أن ضائق هاهنا أحسن لوجهين: أحدهما: أنه عارض و الآخر أنه أشكل بقوله تارك انتهى.

 

 

 

 و الظاهر أن ضمير ﴿بِهِ راجع إلى قوله: ﴿بَعْضَ مَا يُوحى‏ و إن ذكر بعضهم أن الضمير راجع إلى قولهم: ﴿لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ إلخ، أو إلى اقتراحهم و هذا أوفق بكون قوله ﴿أَنْ يَقُولُوا إلخ، بدلا من الضمير في ﴿بِهِ و ما ذكرناه أوفق بكونه مفعولا له لقوله: ﴿تَارِكٌ و التقدير: لعلك تارك ذلك مخافة أن يقولوا: لو لا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك.

و قوله: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ جواب عن اقتراحهم بقولهم: ﴿لَوْ لاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ، و قد تكرر في مواضع من كلامه تعالى ذكر ما اقترحوه اقتصر في بعضها على ذكر مجي‏ء الملك و زيد في بعضها عليه غيره كاقتراح الإتيان بالله سبحانه ليشهد على الرسالة و أن يكون له جنة يأكل منها و أن ينزل من السماء كتابا يقرءونه. و قد أجاب الله سبحانه عنها جميعا بمثل ما أجاب به هاهنا و هو أن رسوله ليس له إلا الرسالة فليس بيده و هو بشر رسول أن يجيبهم إلى ما اقترحوا به عليه إلا أن يشاء الله في ذلك شيئا و يأذن في إتيان آية كما قال﴿وَ مَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اَللَّهِ المؤمن: - ٧٨.

ثم عقب قوله: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ بقوله: ﴿وَ اَللَّهُ عَليَ‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَكِيلٌ لتتميم الجواب عن اقتراحهم على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالمعجزات و محصله: أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بشر مثلهم و لم يؤمر إلا بالإنذار و هو الرسالة بإعلام الخطر، و القيام بالأمور كلها و تدبيرها سواء كانت جارية على العادة أو خارقة لها إنما هو إلى الله سبحانه فلا وجه لتعلقهم بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيما ليس إليه.

و ذلك أن الله سبحانه هو الموجد للأشياء كلها و فاطرها و هو القائم على كل شي‏ء فيما يجري عليه من النظام فما من شي‏ء إلا و هو تعالى المبدأ في أمره و شأنه و المنتهى سواء الأمور الجارية على العادة و الخارقة لها فهو تعالى الذي يسلم إليه أمره و يدبر شأنه فهو تعالى الوكيل عليه فإن الوكيل هو الذي يسلم إليه الأمر و ينفذ فيه منه الحكم فهو تعالى على كل شي‏ء وكيل.

 

 

 

 و بذلك يظهر أن قوله: ﴿وَ اَللَّهُ عَليَ‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَكِيلٌ بمعونة من قوله: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ يفيد قصر القلب فإنهم سألوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أمرا ليس إليه و إنما هو إلى الله تعالى.

قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ قد تقدم من الكلام ما يصح به أخذ ﴿أَمْ متصلة لكون قوله: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ إلخ، في معنى الاستفهام، و التقدير: أ فأنت تارك بعض ما يوحى إليك خوفا من اقتراحهم المعجزة أم يقولون إنك افتريته علينا فإن من المستبعد أن يقرأ عليهم كلامي ثم لا يؤمنوا به و قيل: إن أم مقطعة و المعنى: بل يقولون افتراه.

و قوله: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ في الكلام تحد ظاهر و الضمير راجع إلى القرآن أو إلى السورة بما أنها قرآن و الفاء في ﴿فَأْتُوا تفيد تفريع الأمر على قوله: ﴿اِفْتَرَاهُ و في الكلام حذف و إيصال رعاية للإيجاز، و التقدير: قل لهم:

إن كان هذا القرآن مما افتريته على الله كان من عندي و كان من الجائز أن يأتي بمثله غيري فإن كنتم صادقين في دعواكم و مجدين غير هازلين فأتوا بعشر سور مثله مفتريات و استعينوا في ذلك بدعوة كل من تستطيعون من دون الله من أوثانكم الذين تزعمون أنهم آلهة تتسرعون إليهم في الحاجات و غيرهم من سائر الخلق حتى يتم لكم جميع الأسباب و الوسائل و لا يبقى أحد ممن يطمع في تأثير إعانته و يرجى نفعه في ذلك فلو كان من عندي لا من عند الله جاز أن تأتوا حينئذ بمثله.

و قد بان بهذا البيان أن التحدي بالقرآن في الآية الكريمة ليس من حيث نظمه و بلاغته فحسب فإنه تعالى يأمرهم بالاستمداد من كل من استطاعوا دعوته من دون الله سواء في ذلك آلهتهم و غير آلهتهم و فيهم من لا يعرف الكلام العربي أو جزالة نظمه و صفة بلاغته فالتحدي عام لكل ما يتضمنه القرآن الكريم من معارف حقيقية و الحجج و البراهين الساطعة و المواعظ الحسنة و الأخلاق الكريمة و الشرائع الإلهية و الأخبار الغيبية و الفصاحة و البلاغة نظير ما في قوله تعالى﴿قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَليَ‏ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا اَلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً

 

 

 

إسراء: - ٨٨، و قد تقدمت الإشارة إلى ذلك في الكلام على إعجاز القرآن في الجزء الأول من الكتاب.

و بذلك يظهر فساد ما قيل إن جهة إعجاز القرآن إنما هي البلاغة و الفصاحة في هذا النظم المخصوص لأنه لو كان جهة الإعجاز غير ذلك لما قنع في المعارضة بالافتراء و الاختلاق لأن البلاغة ثلاث طبقات فأعلى طبقاتها معجز و أدناها و أوسطها ممكن فالتحدي في الآية إنما وقع في الطبقة العليا منها، و لو كان وجه الإعجاز الصرفة لكان الركيك من الكلام أبلغ في باب الإعجاز.

و المثل المذكور في الآية لا يجوز أن يكون المراد به مثله في الجنس لأن مثله في الجنس يكون حكايته فلا يقع بها التحدي، و إنما يرجع في ذلك إلى ما هو متعارف بين العرب في تحدي بعضهم بعضا كما اشتهر من مناقضات امرئ القيس و علقمة و عمر بن كلثوم و الحارث بن حلزة و جرير و الفرزدق و غيرهم. انتهى.

فإن فيه أولا: أن لو كانت جهة الإعجاز في القرآن هي بلاغته فحسب و هي أمر لا يعرفه غير العرب لم يكن لتشريك غيرهم في التحدي معنى، و لم يرجع قوله:

﴿وَ اُدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ على ما فيه من العموم و كذا قوله: ﴿لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ الآية إلى معنى محصل و لكان من الواجب أن يقال: لئن اجتمعت العرب» و ادعوا من استطعتم من آلهتكم و من أهل لغتكم.

و ثانيا: أنه لو كانت جهة الإعجاز هي البلاغة فقط لم يصح الاحتجاج بمثل قوله﴿وَ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلاَفاً كَثِيراً النساء: - ٨٢، الظاهر في نفي مطلق الاختلاف فإن أكثر الاختلافات و هي التي يرجع إلى المعاني لا تضر بلاغة اللفظ.

و ثالثا: أنه تعالى يتحدى بمثل قوله﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ الطور: - ٣٤، و بقوله في سورة يونس﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ آية - ٣٨، و قد استفدنا فيما تقدم أن سورة يونس قبل سورة هود في ترتيب النزول ـ

 

 

 

و يؤيده الأثر، ثم بقوله في هذه السورة: ﴿فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَ اُدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ و لو كان جهة الإعجاز هي البلاغة خاصة لكانت هذه التحديات خارجة عن النظم الطبيعي إذ لا يصح أن يكلف البلغاء من العرب المنكرين لكون القرآن من عند الله بإتيان مثل سورة منه ثم بعده بإتيان عشر سور مفتريات بل مقتضى الطبع أن يتحدى بتكليفهم بإتيان مثل القرآن أجمع فإن عجزوا فبإتيان عشر سور مثله مفتريات فإن عجزوا فبإتيان سورة مثله.

و قد ذكر بعضهم في التفصي عن هذا الإشكال أن الترتيب بين السور و نزول بعضها قبل بعض لا يستلزم الترتيب بين آيات السور فكم من آية مكية موضوعة في سورة مدنية و بالعكس فمن الجائز حينئذ أن تكون آيات التحدي بتمام القرآن نازلة قبل غيرها مطلقا ثم تكون آية التحدي بعشر سور مفتريات نازلة بعدها، و آية التحدي بسورة واحدة نازلة بعد الجميع.

و فيه: أنه إنما ينفع لو صح نزول الآيات على ما صوره و إلا فالإشكال على حاله و الحق أن القرآن معجز في جميع صفاته المختصة به من بلاغة و فصاحة و ما فيه من المعارف الحقيقية و الأخلاق الكريمة و الشرائع الإلهية و القصص و العبر و الإخبار بالمغيبات و ما له من السلطان على القلوب و الجمال الحاكم في النفوس.

و أما الوجه في التحدي بعشر سور مع ما في سورة يونس من التحدي بواحدة فقد قال في المجمع،: فإن قيل: لم ذكر التحدي مرة بعشر سور و مرة بسورة و مرة بحديث مثله؟ فالجواب: أن التحدي إنما يقع بما يظهر فيه الإعجاز من منظوم الكلام فيجوز أن يتحدى مرة بالأقل و مرة بالأكثر. انتهى.

أقول: و هو يصلح وجها لأصل التحدي بالواحد و الكثير و أما التحدي بالعشر بعد الواحدة و لا سيما على ما يراه من كون إعجازه بالبلاغة فحسب فلا.

و ذكر بعضهم في توجيه ذلك أن القرآن الكريم معجز في جميع ما يتضمنه من المعارف و الأخلاق و الأحكام و القصص و غيرها و ينعت به من الفصاحة و البلاغة

 

 

 

 و انتفاء الاختلاف، و إنما يظهر صحة المعارضة و الإتيان بالمثل عند إتيان عدة من السور يظهر به ارتفاع الاختلاف و خاصة من بين القصص المودعة فيها مع سائر الجهات كالفصاحة و البلاغة و المعارف و غيرها.

و إنما يتم ذلك بإتيان أمثال السور الطويلة التي تشتمل على جميع الشئون المذكورة و تتضمن المعرفة و القصة و الحجة و غير ذلك كسورتي الأعراف و الأنعام.

و التي نزلت من السور الطويلة القرآنية مما يشتمل على جميع الفنون المذكورة قبل سورة هود على ما ورد في الرواية هي سورة الأعراف و سورة يونس و سورة مريم و سورة طه و سورة الشعراء و سورة النمل و سورة القصص و سورة القمر و سورة ص فهذه تسع من السور عاشرتها سورة هود، و هذا الوجه هو في التحدي بأمرهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، انتهى بتلخيص منا و قد أطنب في كلامه.

أقول: فيه أولا: أن لا تعويل على الأثر الذي عول عليه في ترتيب نزول السور فإنما هو من الآحاد التي لا تخلو عن ضعف و لا ينبغي بناء البحث التفسيري على أمثالها.

و ثانيا: أن ظاهر قوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ أن رميهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بالافتراء على الله سبحانه قول تقولوه بالنسبة إلى جميع السور القرآنية طويلتها و قصيرتها من غير أن يخصوا به سورة دون سورة فمن الواجب أن يجابوا بما يحسم مادة الشبهة بالنسبة إلى كل سورة قرآنية، و التحدي بما يفي بذلك، و عجزهم عن إتيان عشر سور مفتريات طويلة تجمع الفنون القرآنية لا يثبت به كون الجميع حتى السور القصار كسورتي الكوثر و العصر من عند الله اللهم إلا ببيان آخر يضم إليه و اللفظ خال من ذلك.

و ثالثا: أن قوله: ﴿بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ إن كان ما فيه من الضمير راجعا إلى القرآن كما هو ظاهر كلام هذا القائل أفاد التحدي بإتيان عشر سور مفتريات مثله مطلقا سواء في ذلك الطوال و القصار فتخصيص التحدي بعشر سور طويلة جامعة

 

 

 

 تقييد للفظ الآية من غير مقيد و هو تحكم و أشد منه تحكما القول بأن المراد بالمثل مثل السور العشر التي عدها.

و إن كان الضمير راجعا إلى سورة هود كان مستبشعا من القول و كيف يستقيم أن يقال لمن يقول: إن سورة الكوثر و المعوذتين من الافتراء على الله: ائت بعشر سور مفتريات مثل سورة هود و يقتصر على ذلك؟ اللهم إلا أن يهذروا بأن سورة هود وحدها من الافتراء على الله تعالى فيتحدى عندئذ بأن يأتوا بمثلها، و لم نسمع أحدا منهم تفوه بذلك.

و يمكن أن يقال في وجه الاختلاف الذي يلوح من آيات التحدي كقوله‏﴿

فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ يونس: - ٣٨ الظاهر في التحدي بسورة واحدة و قوله: ﴿فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ الظاهر في التحدي بعدد خاص فوق الواحد و قوله﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ الطور: - ٣٤ الظاهر في التحدي بحديث يماثل القرآن و إن كان دون السورة أن كل واحدة من الآيات تؤم غرضا خاصا في التحدي.

بيان ذلك: أن جهات القرآن و شئونه التي تتقوم به حقيقته و هو كتاب إلهي مضافا إلى ما في لفظه من الفصاحة و في نظمه من البلاغة إنما ترجع إلى معانيه و مقاصده لست أعني من المعنى ما يقصده علماء البلاغة في قولهم: إن البلاغة من صفات المعنى و الألفاظ مطروحة في الطريق يعنون به المفاهيم من جهة ترتبها الطبعي في الذهن فإن الذي يعنون به من المعنى موجود في الكذب الصريح من الكلام و في الهزل و في الفحش و الهجو و الفرية إذا جرت على أسلوب البلاغة و توجد في الكلام الموروث من البلغاء نظما و نثرا شي‏ء كثير من هذه الأمور.

بل المراد من معنى القرآن و مقصده ما يصفه تعالى بأنه كتاب حكيم، و نور مبين، و قرآن عظيم، و فرقان، و هاد يهدي إلى الحق و إلى طريق مستقيم، و قول فصل و ليس بالهزل، و كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، و ذكر و أنه يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، و أنه شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا خسارا، و أنه تبيان لكل شي‏ء و لا يمسه إلا المطهرون.

 

 

 

 فمن البين أن هذه كلها صفات لمعنى القرآن. و ليست صفات لما يقصده علماء البلاغة بالمعنى البليغ الذي ربما يشتمل عليه الباطل من الكلام الذي يسميه القرآن الكريم لغوا من القول و إثما و ينهى الإنسان عن تعاطيه و التفوه به و إن كان بليغا بل المعنى المتصف بهذه الصفات هو شي‏ء من المقاصد الإلهية التي تجري على الحق الذي لا يخالطه باطل، و تقع في صراط الهداية، و يكون الكلام المشتمل على معنى هذا نعته و غرض هذا شأنه هو الذي تتعلق العناية الإلهية بتنزيله و جعله رحمة للمؤمنين و ذكرا للعالمين.

و هذا هو الذي يصح أن يتحدى به بمثل قوله: ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ فإنا لا نسمي الكلام حديثا إلا إذا اشتمل على غرض هام يتحدث به فينقل من ضمير إلى ضمير، و كذا قوله: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ فإن الله لا يسمي جماعة من آيات كتابه و إن كانت ذات عدد سورة إلا إذا اشتملت على غرض إلهي تتميز بها من غيرها.

و لو لا ذلك لم يتم التحدي بالآيات القرآنية و كان للخصم أن يختار من مفردات الآيات عددا ذا كثرة كقوله تعالى: ﴿وَ اَلضُّحى‏ ﴿وَ اَلْعَصْرِ ﴿وَ اَلطُّورِ ﴿فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ﴿مُدْهَامَّتَانِ ﴿اَلْحَاقَّةُ مَا اَلْحَاقَّةُ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا اَلْحَاقَّةُ ﴿اَلرَّحْمَنُ ﴿مَلِكِ اَلنَّاسِ إِلَهِ اَلنَّاسِ ﴿وَ خَسَفَ اَلْقَمَرُ ﴿كَلاَّ وَ اَلْقَمَرِ ﴿سَنَدْعُ اَلزَّبَانِيَةَ إلى غير ذلك من مفردات الآيات ثم يقابل كلا منها بما يناظرها من الكلام العربي من غير أن يضمن ارتباط بعضها ببعض و اشتمالها على غرض يجمعها و يخرجها في صورة الوحدة.

فالذي كلف به الخصم في هذه التحديات هو أن يأتي بكلام يماثل القرآن مضافا إلى بلاغة لفظه في بيان بعض المقاصد الإلهية المشتملة على أغراض منعوته بالنعوت التي ذكرها الله سبحانه.

و الكلام الإلهي مع ما تحدى به في آيات التحدي يختلف بحسب ما يظهر من خاصته فمجموع القرآن الكريم يختص بأنه كتاب فيه ما يحتاج إليه نوع الإنسان إلى يوم القيامة من معارف أصلية و أخلاق كريمة و أحكام فرعية، و السورة من القرآن تختص ببيان جامع لغرض من الأغراض الإلهية المتعلقة بالهدى و دين الحق على بلاغتها

 

 

 

 الخارقة و هذه خاصة غير الخاصة التي يختص بها مجموع القرآن الكريم، و العدة من السور كالعشر و العشرين منها تختص بخاصة أخرى و هي بيان فنون من المقاصد و الأغراض و التنوع فيها فإنها أبعد من احتمال الاتفاق فإن الخصم إذا عجز عن الإتيان بسورة واحدة كان من الممكن أن يختلج في باله أن عجزه عن الإتيان بها إنما يدل على عجز الناس عن الإتيان بمثلها لا على كونها نازلة من عند الله موحاة بعلمه فمن الجائز أن يكون كسائر الصفات و الأعمال الإنسانية التي من الممكن في كل منها أن يتفرد به فرد من بين أفراد النوع اتفاقا لتصادق أسباب موجبة لذلك كفرد من الإنسان موصوف بأنه أطول الأفراد أو أكبرهم جثة أو أشجعهم أو أسخاهم أو أجبنهم أو أبخلهم.

و هذا الاحتمال و إن كان مدفوعا عن السورة الواحدة من القرآن أيضا التي يقصدها الخصم بالمعارضة فإنها كلام بليغ مشتمل على معان حقة ذات صفات كريمة خالية عن مادة الكذب، و ما هذا شأنه لا يقع عن مجرد الاتفاق و الصدفة من غير أن يكون مقصودا في نفسه ذا غرض يتعلق به الإرادة.

إلا أنه أعني ما مر من احتمال الاتفاق و الصدفة عن السور المتعددة أبعد لأن إتيان السورة بعد السورة و بيان الغرض بعد الغرض و الكشف عن خبي‏ء بعد خبي‏ء لا يدع مجالا لاحتمال الاتفاق و الصدفة و هو ظاهر.

إذا تبين ما ذكرناه ظهر أن من الجائز أن يكون التحدي بمثل قوله﴿قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَليَ‏ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا اَلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً إسراء: - ٨٨ واردا مورد التحدي بجميع القرآن لما جمع فيه من الأغراض الإلهية و يختص بأنه جامع لعامة ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة، و قوله: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ لما فيها من الخاصة الظاهرة و هي أن فيها بيان غرض تام جامع من أغراض الهدى الإلهي بيانا فصلا من غير هزل، و قوله: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ تحديا بعشر من السور القرآنية لما في ذلك من التفنن في البيان و التنوع في الأغراض من جهة الكثرة، و العشرة من ألفاظ الكثرة كالمائة و الألف

 

 

 

 قال تعالى﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ البقرة: - ٩٦.

فالمراد بعشر سور و الله أعلم السور الكثيرة الحائزة لبعض مراتب الكثرة المعروفة بين الناس فكأنه قيل: فأتوا بعده من سورها و لتكن عشرا ليظهر به أن تنوع الأغراض القرآنية في بيانه المعجز ليس إلا من قبل الله.

و أما قوله: ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ فكأنه تحد بما يعم التحديات الثلاثة السابقة فإن الحديث يعم السورة و العشر سور و القرآن كله فهو تحد بمطلق الخاصة القرآنية و هو ظاهر.

بقي هنا أمران أحدهما أنه: لم يقع في شي‏ء من آيات التحدي المذكورة توصيف ما يأتي به الخصم بالافتراء إلا في هذه الآية إذ قيل فيها: ﴿فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ بخلاف قوله: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ فلم يقل فيه: «فأتوا بسورة مثله مفتراة» و كذا في سائر آيات التحدي.

و لعل الوجه في ذلك أن نوع العناية في الآية المبحوث عنها غير نوع العناية في سائر آيات التحدي فإن العناية في سائر الآيات متعلقة بأنهم لا يقدرون على الإتيان بمثل القرآن أو بمثل السورة لما أنه قرآن مشتمل على جهات لا تتعلق بها قدرة الإنسان و لا يظهر عليها غيره تعالى و قد أطلق القول فيها إطلاقا.

و أما هذه الآية فلما عقبت بقوله: ﴿فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اَللَّهِ دل ذلك على أن التحدي فيها إنما هو بكون القرآن متضمنا لما يختص علمه بالله تعالى و لا سبيل لغيره إليه، و هذا أمر لا يقبل الافتراء بذاته فكأنه قيل: إن هذا القرآن لا يقبل بذاته افتراء فإنه متضمن لأمور من العلم الإلهي الذي لا سبيل لغيره تعالى إليه، و إن ارتبتم في ذلك فأتوا بعشر سور مثله مفتريات تدعون أنها افتراء، و استعينوا بمن استطعتم من دون الله فإن لم تقدروا عليه فاعلموا أنه من العلم المخصوص به تعالى. فافهم ذلك.

و ثانيهما: معنى التحدي بالمثل حيث قيل: ﴿بِمِثْلِ هَذَا اَلْقُرْآنِ ﴿بِحَدِيثٍ

 

 

 

 مِثْلِهِ ﴿بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴿بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ و الوجه الظاهر فيه أن الكلام لما كان آية معجزة فلو أتى إنسان بما يماثله لكفى في إبطال كونه آية معجزة و لم يحتج إلى الإتيان بما يترجح عليه في صفاته و يفضل عليه في خواصه.

و ربما يورد عليه أن عدم قدرة غيره (ص) على ذلك لا يدل على كونه معجزة غير مستندة إليه لأن صفات الكمال التي توجد في النوع الإنساني كالبلاغة و الكتابة و الشجاعة و السخاء و غيرها لها مراتب متفاوتة مختلفة يفضل بعضها على بعض، و إذا كان كذلك كان من المراتب ما هو فوق الجميع و هو غاية ما يمكن أن ترتقي إليه النفس الإنسانية البتة.

فكل صفة من صفات الكمال يوجد بين الأفراد الموصوفين بها من هو حامل للدرجة العليا و الغاية القصوى منها بحيث لا يعدله غيره و لا يعارضه أحد ممن سواه فبالضرورة بين أفراد الإنسان عامة من هو أبلغهم أو أكتبهم أو أشجعهم أو أسخاهم كما أن بينهم من هو أطولهم قامة و أكبرهم جثة، و لم لا يجوز أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)أفصح الناس جميعا و أبلغهم و القرآن من كلامه الذي لا يسع لأحد أن يعارضه فيه لوقوفه موقفا ليس لغيره فيه موضع قدم فلا؟ يكون عندئذ عجز غيره عن الإتيان دليلا على كونه كلاما إلهيا غير بشري لجواز كونه كلاما بشريا مختصا به (ص) مضنونا عن غيره. هذا.

و يدفعه أن الصفات الإنسانية التي يقع فيها التفاضل و إن كانت على ما ذكر لكنها أياما كانت فهي مما تسمح بها الطبيعة الإنسانية بما أودع الله فيها من الاستعداد من غير أن تنشأ عن اتفاق و من غير سبب يمكن الفرد الموصوف من الاتصاف بها.

و إذا كان كذلك و فرض فرد من الإنسان اختص بصفة فاضلة لا يعدله غيره و لا يفوقه سواه كان لغيره أن يسلك ما مهده من السبيل و يتعود بالتمرن و التدرب و الارتياض بما يأتيه من الأعمال التي تصدر عما عنده من صفة الكمال فيأتي بما يماثل بعض ما يختص به من الكمال و يقلده في نبذة من أعماله و إن لم يقدر على أن يزاحمه في الجميع و يماثله في الكل، و يبقى للفرد النابغ المذكور مقام الأصالة و السبقة و التقدم

 

 

 

في ذلك فالحاتم مثلا و إن كان هو المتفرد غير المعارض في سخائه و جوده من غير أن يسع غيره أن يتقدم عليه و يسبقه لكن من الممكن أن يرتاض مرتاض في سبيله فيتمرن و يتدرب فيه فيأتي بشي‏ء من نوع سخائه و جوده و إن لم يقدر على مزاحمته في الجميع و في أصل مقامه، و الكمالات الإنسانية التي هي منابع للأعمال سبيلها جميعا هذا السبيل، و يتمكن الإنسان بالتمرن و التدرب على سلوك سبيل السابقين المبدعين فيها و الإتيان بشي‏ء من أعمالهم و إن لم يسع مزاحمتهم في أصل موقفهم.

فلو كان القرآن من كلام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)على فرض أنه أبلغ إنسان و أفصحه كان من الجائز أن يهتم غيره فيتمرن على سلوك ما أبدعه في كلامه من النظم البديع فيقدر على تقليده في شي‏ء من الكلام و إتيان شي‏ء من القول بسورة مثله و إن لم يقدر على تقليد القرآن كله و الإتيان بجميعه.

و لم يقل فيما تحدى به: فليأتوا بحديث أبلغ منه أو أحسن أو بسورة هي أبلغ أو أحسن حتى يقال: إن القرآن أبلغ كلام بشري أو أحسنه ليس هناك ما هو أبلغ أو أحسن منه حتى يأتي به آت فلا يدل عدم القدرة على الإتيان بذلك على كونه كلاما لغير البشر، بل إنما قال: ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ﴿قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ و هكذا و في وسع البشر الإتيان بمثل كلام غيره من البشر و إن فرض كون ذلك الغير ذا موقف من الكلام لا يعارضه غيره على ما بيناه فالشبهة مندفعة بقوله تعالى ﴿مِثْلِهِ.

قوله تعالى: ﴿فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اَللَّهِ وَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ إجابة الدعوة و استجابتها بمعنى.

و الظاهر من السياق أن الخطاب في الآية للمشركين، و أنه من تمام كلام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم)الذي أمر بقوله تعالى: ﴿قُلْ إن يلقيه إليهم، و على هذا فضمير الجمع في قوله: ﴿فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا راجع إلى الآلهة و كل من استعانوا به المدلول عليهم بقوله: ﴿وَ اُدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ.

و المعنى: فإن لم يستجب لكم معاشر المشركين هؤلاء الذين دعوتموهم من

 

 

 

 آلهتكم و من بلغاء أهل لسانكم العارفين بأساليب الكلام و علماء أهل الكتاب الذين عندهم الكتب السماوية و أخبار الأنبياء و الأمم و الكهنة المستمدين من إلقاء شياطين الجن، و جهابذة العلم و الفهم من سائر الناس المتعمقين في المعارف الإنسانية بأطرافها فاعلموا أنما أنزل هذا القرآن بعلم الله و لم يختلق عن علمي أنا و لا غيري ممن تزعمون أنه يعلمني و يملي علي، و اعلموا أيضا أن ما أدعوكم إليه من التوحيد حق فإنه لو كان هناك إله من دون الله لنصركم على ما دعوتموه إليه فهل أنتم أيها المشركون مسلمون لله تعالى منقادون لأمره؟.

فقوله تعالى: ﴿فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ في معنى قولنا: فإن لم تقدروا على المعارضة بعد الاستعانة و الاستمداد بمن استطعتم أن تدعوهم من دون الله، و ذلك أن الأسباب التي توجب قدرتهم على المعارضة هي ما عندهم من قدرة البيان و قريحة البلاغة و هم يرون أن ذلك من مواهب آلهتهم من دون الله و كذا ما عند آلهتهم مما لم يهبوهم بعد، و لهم أن يؤيدوهم به إن شاءوا على زعمهم، و أيضا ما عند غير آلهتهم من المدد، و إذا لم يستجبهم الذين يدعونهم في معارضة القرآن فقد ارتفع جميع الأسباب الموجبة لقدرتهم و ارتفعت بذلك قدرتهم فعدم إجابته الشركاء على معارضة القرآن ملازم لعدم قدرتهم عليها حتى بما عند أنفسهم من القدرة ففي الكلام كناية.

و قوله: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اَللَّهِ الظاهر أن المراد بعلم الله هو العلم المختص به و هو الغيب الذي لا سبيل لغيره تعالى إليه إلا بإذنه كما قال تعالى‏﴿

لَكِنِ اَللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ النساء: - ١٦٦، و قال﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ يوسف: - ١٠٢، و قال﴿عَالِمُ اَلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَليَ‏ غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ اِرْتَضيَ‏َمِنْ رَسُولٍ الجن: - ٢٧، و قال﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ الواقعة: - ٨٠.

فالمعنى: فإن لم تقدروا على معارضته بأي سبب ممد تعلقتم به من دون الله فتيقنوا أنه لم ينزل إلا عن سبب غيبي و أنه من أنباء الغيب الذي يختص به تعالى فهو الذي أنزله علي و كلمني به و أراد تفهيمي و تفهيمكم بما فيه من المعارف الحقة و ذخائر الهداية.

 

 

 

 و ذكر بعضهم أن المراد به أنه إنما أنزل على علم من الله بنزوله و شهادة منه له، و ذكر آخرون أن المراد أنه إنما أنزل بعلم من الله أنه لا يقبل المعارضة أو بعلم من الله بنظمه و ترتيبه و لا يعلم غيره ذلك و هذه معان واهية بعيدة عن الفهم.

و الجملة أعني قوله: ﴿أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اَللَّهِ إحدى النتيجتين المأخوذتين من عدم استجابة شركائهم لهم. و النتيجة الأخرى قوله: ﴿وَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ و لزوم هذه النتيجة من وجهين: أحدهما: أنهم إذا دعوا آلهتهم لما يهمهم من الأمور فلم يجيبوهم كشف ذلك عن أنهم ليسوا بآلهة فليس الإله إلا من يجيب المضطر إذا دعاه و خاصة إذا دعاه لما فيه نفع الإله المدعو فإن القرآن الذي أتى به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يقطع دابرهم و يميت ذكرهم و يصرف الناس عن التوجه إليهم فإذا لم يجيبوا أولياءهم إذا دعوهم لمعارضة كتاب هذا شأنه كان ذلك من أوضح الدليل على نفي ألوهيتهم.

و ثانيهما: أنه إذا صح أن القرآن حق نازل من عند الله صادق فيما يخبر به، و مما يخبر به أنه ليس مع الله إله آخر علم بذلك أنه لا إله إلا الله سبحانه.

و قوله: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي لما علمتم و اتضح لكم من جهة عدم استجابة شركائكم من دون الله و عجزكم عن المعارضة فهل أنتم مسلمون لما وقع عليه علمكم هذا من توحيد الله سبحانه و كون هذا القرآن كتابا نازلا بعلمه؟ و هو أمر بالإسلام في صورة الاستفهام هذا كله ما يقتضيه ظاهر الآية.

و قيل: إن الخطاب في قوله: ﴿فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إلخ، للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) خوطب بلفظ الجمع تعظيما له و تفخيما لشأنه و ضمير الجمع الغائب راجع إلى المشركين أي فإن لم يستجب المشركون لما دعوتهم أيها النبي إليه من المعارضة فاعلم أنه منزل بعلم الله و أن الله واحد فهل أنت مسلم لأمره.

و فيه أنه قد صح أن التعظيم بلفظ الجمع و الكثرة يختص في الكلام العربي بالمتكلم و أما الخطاب و الغيبة فلا تعظيم فيها بلفظ الجمع.

 

 

 

 مضافا إلى أن استناد الوحي الإلهي و التكليم الرباني إليه تعالى استناد ضروري لا يقبل الشك حتى يستعان عليه بالدليل فما يتلقاه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) دلالته على كونه كلاما من الله دلالة ضرورية غير محتاجة إلى حجة حتى يحتج عليه بعدم إجابة المشركين إلى معارضة القرآن و عجزهم عنها بخلاف كلام المخلوقين من الإنسان و الجن و الملك و أي هاتف آخر فإنه يحتاج في حصول العلم باستناده إلى متكلمه إلى دليل خارجي من حسن أو عقل، و قد تقدمت إشارة إلى ذلك في قصة زكريا من سورة آل عمران، و سيجي‏ء البحث المستوفى عن ذلك فيما يناسبه من المورد إن شاء الله تعالى.

على أن خطاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بمثل قوله: ﴿وَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، و قوله:

﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ لا يخلو عن بشاعة. على أن نفس الاستدلال أيضا غير تام كما سنبين.

و قيل: إن الخطاب في الآية للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين جميعا أو للمؤمنين خاصة لأن المؤمنين يشاركونه (ص) في الدعوة الدينية و التحدي بالقرآن الذي هو كتاب ربهم المنزل عليهم و المعنى: فإن لم يستجب المشركون لكم في المعارضة فاعلموا أن القرآن منزل بعلم الله و أن لا إله إلا هو فهل تسلمون أنتم لله؟.

و لما تفطن بعضهم أن لا معنى لدعوة المؤمنين و هم مؤمنون بالله وحده و بكتابه إلى العلم بأنه كتاب نازل من عند الله و بأنه تعالى واحد لا شريك له أصلحه بأن المراد فاثبتوا على علمكم أنه إنما أنزل بعلم الله و ازدادوا به إيمانا و يقينا و أنه لا إله إلا هو و لا يستحق العبادة سواه فهل أنتم ثابتون على إسلامكم و الإخلاص فيه؟.

و فيه أنه تقييد للآية من غير مقيد و الحجة غير تامة و ذلك أن المشركين لو كانوا وقفوا موقف المعارضة بما عندهم من البضاعة و استعانوا عليها بدعوة آلهتهم و سائر من يطمعون فيه من الجن و الإنس ثم عجزوا كان ذلك دليلا واضحا يدلهم على أن القرآن فوق كلام البشر و تمت بذلك الحجة عليهم، و أما عدم استجابة الكفار للمعارضة فليس يدل على كونه من عند الله لأنهم لم يأتمروا بما أمروا به بقوله:

﴿فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ إما لعلمهم بأنه كلام الله الحق و إنما كان قولهم:

 

 

 

﴿اِفْتَرَاهُ قولا ناشئا عن العناد و اللجاج لا عن إذعان به أو شك فيه، أو لأنهم كانوا آيسين من استجابة شركائهم للدعوة على المعارضة، أو لأنهم كانوا هازلين في قولهم ذلك يهذرون هذرا.

و بالجملة عدم استجابة المشركين للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو للمؤمنين أو لهم جميعا لا يدل بنفسه على كون القرآن نازلا من عند الله إلا إذا كان عدم الاستجابة المذكورة بعد تحقق دعوتهم شركاءهم إلى المعارضة و عدم استجابتهم لهم، و لم يتحقق من المشركين دعوة على هذه الصفة، و مجرد عدم استجابة المشركين أنفسهم لا ينفع شيئا، و لا يبقى إلا أن يقال: إن معنى الآية: فإن دعا المشركون من استطاعوا من دون الله فلم يستجيبوا لهم و لم يستجب المشركون لكم أيها النبي و معاشر المؤمنين فاعلموا أنما أنزل بعلم الله إلخ، و هذا هو الذي أومأنا إليه آنفا أنه تقييد للآية من غير مقيد.

على أن فيه أمرا للمؤمنين أن يهتدوا في إيمانهم و يقينهم بأمر فرضي غير واقع و كلامه تعالى يجل عن ذلك، و لو أريدت الدلالة على أنهم غير قادرين على ذلك و إن دعوا شركاءهم إلى المعارضة كان من حق الكلام أن يقال: فإن لم يستجيبوا لكم و لن يستجيبوا فاعلموا إلخ، كما قيل كذلك في نظيره قال تعالى﴿وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَليَ‏ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا اَلنَّارَ اَلَّتِي وَقُودُهَا اَلنَّاسُ وَ اَلْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ البقرة: - ٢٤.

قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا وَ زِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَ هُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ

التوفية

 إيصال الحق إلى صاحبه و إعطاؤه له بكماله، و

البخس‏

 نقص الأجر.

و في الآية تهديد لهؤلاء الذين لا يخضعون للحق لما جاءهم و لا يسلمون له إيثارا للحياة الدنيا و نسيانا للآخرة، و بيان لشي‏ء من سنة الأسباب القاضية عليهم باليأس من نعيم الحياة الآخرة.

و ذلك أن العمل كيفما كان فإنما يسمح للإنسان بالغاية التي أرادها به و عمله

 

 

 

 لأجلها، فإن كانت غاية دنيوية تصلح شئون الحياة الدنيا من مال و جمال و حسن حال ساقه العمل إن أعانته سائر الأسباب العاملة إلى ما يرجوه بالعمل و أما الغايات الأخروية فلا خبر عنها لأنها لم تقصد حتى تقع، و مجرد صلاحية العمل لأن يقع في طريق الآخرة و ينفع في الفوز بنعيمها كالبر و الإحسان و حسن الخلق لا يوجب الثواب و ارتفاع الدرجات ما لم يقصد به وجه الله و دار ثوابه.

و لذلك عقبه بقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ اَلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ إِلاَّ اَلنَّارُ وَ حَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَ بَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فأخبر أنهم إذا وردوا الحياة الآخرة وقعوا في دار حقيقتها أنها نار تأكل جميع أعمالهم في الحياة كما تأكل النار الحطب و تبير و تهلك كل ما تطيب به نفوسهم من محاسن الوجود، و تحبط جميع ما صنعوا فيها و تبطل ما أسلفوا من الأعمال في الدنيا، و لذلك سماها سبحانه في موضع آخر بدار البوار أي الهلاك فقال تعالى﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اَللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ اَلْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا إبراهيم: - ٢٩، و بذلك يظهر أن كلا من قوله: ﴿وَ حَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا و قوله: ﴿وَ بَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يفسر قوله: ﴿أُولَئِكَ اَلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ إِلاَّ اَلنَّارُ نوعا ما من التفسير.

و بما تقدم يظهر أولا: أن المراد من توفية أعمالهم إليهم توفية نتائجها و إيصال الآثار التي لها بحسب نظام الأسباب و المسببات لا ما يقصده الفاعل بفعله و يرجوه بمسعاه فإن الذي يناله الفاعل في هذه النشأة بفعله هو نتيجة الفعل التي يعينه سائر الأسباب العاملة عليها لا ما يؤمه الفاعل كيفما كان فما كل ما يتمنى المرء يدركه.

و قد عبر تعالى عن هذه الحقيقة في موضع آخر بقوله﴿وَ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَ مَا لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ الشورى: - ٢٠، فقال تعالى: ﴿نُؤْتِهِ مِنْهَا و لم يقل: نؤته إياها، و قال في موضع آخر﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً إسراء: - ١٨ فذكر ما يريده الإنسان من الدنيا و يناله منها و زاد بيانا أنه ليس كل من يريد أمرا يناله و لا كل ما يراد ينال بل الأمر إلى الله سبحانه يعطي ما يشاء و يمنع ما يشاء و يقدم من يريد و يؤخر من يريد على ما تجري عليه سنة الأسباب.

 

 

 

و ثانيا: أن الآيتين أعني قوله: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا وَ زِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ إلى آخر الآيتين تبينان حقيقة من الحقائق الإلهية.

(بحث روائي)

 في الكافي،: في قوله تعالى: ﴿أَلاَ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ الآية: بإسناده عن ابن محبوب عن جميل بن صالح عن سدير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أخبرني جابر بن عبد الله أن المشركين كانوا إذا مروا برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حول البيت طأطأ أحدهم رأسه و ظهره هكذا و غطى رأسه بثوب لا يراه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأنزل الله: ﴿أَلاَ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ الآية.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن أبي رزين قال :كان أحدهم يحني ظهره و يستغشي بثوبه. و في المجمع، روي عن علي بن الحسين و أبي جعفر و جعفر بن محمد (عليه السلام):

يثنوني على يفعوعل.

 و في تفسير العياشي، عن محمد بن الفضيل عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) رجل من أهل البادية فقال: يا رسول الله إن لي بنين و بنات و إخوة و أخوات و بني بنين و بني بنات و بني إخوة و بني أخوات و المعيشة علينا خفيفة فإن رأيت يا رسول الله أن تدعو الله أن يوسع علينا .

قال: و بكى فرق له المسلمون فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اَللَّهِ رِزْقُهَا وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَ مُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ من كفل بهذه الأفواه المضمونة على الله رزقها صب الله عليه الرزق صبا كالماء المنهمر إن قليل فقليلا و إن كثير فكثيرا. قال: ثم دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أمن له المسلمون .

قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): فحدثني من رأى الرجل في زمن عمر فسأله عن

 

 

 

 حاله فقال: من أحسن من خوله حلالا و أكثرهم مالا. و في الدر المنثور، أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إذا كان أجل أحدكم بأرض أتيحت له إليها حاجة حتى إذا بلغ أقصى أثره منها فيقبض فتقول الأرض يوم القيامة: هذا ما استودعتني. أقول: و الرواية غير ظاهرة في تفسير الآية.

 و في الكافي، بإسناده عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في حجة الوداع: ألا إن الروح الأمين نفث في روعي أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله و أجملوا في الطلب، و لا يحملنكم استبطاء شي‏ء من الرزق أن تطلبوه بشي‏ء من معصية الله فإن الله تعالى قسم الأرزاق بين خلقه حلالا و لم يقسمها حراما فمن اتقى الله و صبر أتاه رزقه من حله، و من هتك حجاب ستر الله عز و جل و أخذه من غير حله قص به من رزقه الحلال و حوسب عليه.

 أقول: الرواية من المشهورات رواها العامة و الخاصة بطرق كثيرة.

 و في تفسير العياشي، عن أبي الهذيل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله قسم الأرزاق بين عباده و أفضل فضلا كبيرا لم يقسمه بين أحد قال الله: ﴿وَ سْئَلُوا اَللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ

أقول: و الرواية مروية عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و قد تقدمت بعض ما في هذا المعنى من الأخبار في ذيل قوله تعالى﴿وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ سورة آل عمران آية - ٢٧، و قوله تعالى﴿وَ سْئَلُوا اَللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ سورة النساء: آية - ٣٢.

 و في الكافي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) كثيرا ما يقول: اعلموا علما يقينا أن الله جل و عز لم يجعل للعبد و إن اشتد جهده، و عظمت حيلته و كثرت مكايده أن يسبق ما سمي له في الذكر الحكيم. أيها الناس إنه لن يزداد امرؤ نقيرا بحذقه، و لن ينقص امرؤ نقيرا لحمقه فالعالم بهذا العامل به أعظم الناس راحة في منفعته و العالم بهذا التارك له أعظم الناس شغلا في مضرته، و رب

 

 

 

 منعم عليه مستدرج بالإحسان إليه و رب مغرور في الناس مصنوع له -.

فاتق الله أيها الساعي عن سعيك، و قصر من عجلتك، و انتبه من سنة غفلتك و تفكر فيما جاء عن الله عز و جل على لسان نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) . الحديث.

 و في الكافي، بإسناده عن ابن أبي عمير عن عبد الله بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن محمد بن المنكدر كان يقول: ما كنت أظن أن علي بن الحسين يدع خلقا أفضل منه حتى رأيت ابنه محمد بن علي فأردت أن أعظه فوعظني - فقال له أصحابه:

بأي شي‏ء وعظك؟ فقال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيني أبو جعفر محمد بن علي و كان رجلا بادنا ثقيلا و هو متكئ على غلامين أسودين أو موليين فقلت في نفسي: سبحان الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على مثل هذه الحالة في طلب الدنيا أما إني لأعظنه .

فدنوت منه و سلمت عليه فرد علي بنهر و هو ينصاب عرقا فقلت: أصلحك الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحالة في طلب الدنيا أ رأيت لو جاء أجلك و أنت على هذه الحال؟ فقال: لو جاءني الموت و أنا على هذه الحال جاءني و أنا في طاعة من طاعة الله عز و جل أكف بها نفسي و عيالي عنك و عن الناس، و إنما كنت أخاف أن جاءني الموت و أنا على معصية من معاصي الله. فقلت: صدقت يرحمك الله أردت أن أعظك فوعظتني.

 و فيه، بإسناده عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: استقبلت أبا عبد الله في بعض طرق المدينة في يوم صائف شديد الحر فقلت: جعلت فداك حالك عند الله عز و جل و قرابتك من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أنت تجهد نفسك في مثل هذا اليوم؟ فقال: يا عبد الأعلى خرجت في طلب الرزق لأستغني به عن مثلك.

 أقول: و لا منافاة بين القضاء بالرزق و بين الأمر بطلبه. و هو ظاهر.

 و في الدر المنثور، أخرج الطيالسي و أحمد و الترمذي و حسنه و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و أبو الشيخ في العظمة و ابن مردويه و البيهقي في الأسماء و الصفات عن أبي رزين قال: قلت: يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: كان في عماء ما تحته هواء و ما فوقه هواء، و خلق عرشه على الماء.

 

 

 

 أقول: العماء الغيم الذي يمنع نفوذ البصر فيه، و «ما» في قوله: «ما تحته هواء و ما فوقه هواء» موصولة و المراد بالهواء هو الخالي من كل شي‏ء كما في قوله تعالى:

﴿وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ أو أنها نافية و المراد بالهواء معناه المعروف، و المراد به أنه كان عماء لا يحيط به الهواء على خلاف سائر العماءات.

و الرواية من أخبار التجسم و لذا وجه بأن قوله: في عماء إلخ كناية عن غيب الذات الذي تكل عنه الأبصار و تتحير فيه الألباب.

 و فيه، أخرج أحمد و البخاري و الترمذي و النسائي و أبو الشيخ في العظمة و ابن مردويه و البيهقي في الأسماء و الصفات عن عمران بن حصين قال: قال أهل اليمن:

يا رسول الله أخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان؟ قال: كان الله قبل كل شي‏ء، و كان عرشه على الماء، و كتب في اللوح المحفوظ ذكر كل شي‏ء، و خلق السماوات و الأرض. فنادى مناد: ذهبت ناقتك يا بن الحصين فانطلقت فإذا هي يقطع دونها السراب فوالله لوددت أني تركتها.

 أقول: و روى عدة من رجال الحديث هذه الرواية عن بريدة: و قال بريدة في آخرها: «ثم أتاني آت فقال: هذه ناقتك قد ذهبت فخرجت و السراب ينقطع دونها فلوددت أني كنت تركتها» و هذا مما يوهن الحديثين.

 و فيه،: في قوله تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً: أخرج داود بن المحبر في كتاب العقل و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الحاكم في التاريخ و ابن مردويه عن ابن عمر قال: تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) هذه الآية: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً فقلت: ما معنى ذلك يا رسول الله؟ قال: ليبلوكم أيكم أحسن عقلا. ثم قال: و أحسنكم عقلا أورعكم عن محارم الله و أعلمكم‏[1] بطاعة الله.

و في الكافي، مسندا عن سفيان بن عيينة عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً قال: قال: ليس يعني أكثركم عملا و لكن أصوبكم عملا، و إنما الإصابة خشية الله و النية الصادقة.

 

 

 

 

 ثم قال: الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، و العمل الخالص:

الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عز و جل و النية أفضل من العمل ألا إن النية هي العمل ثم تلا قوله عز و جل: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَليَ‏ شَاكِلَتِهِ يعني على نيته.

 أقول: قوله ألا إن النية هي العمل يعني ليس للعمل أثر إلا لما معه من النية.

 و في تفسير النعماني، بإسناده عن إسحاق بن عبد العزيز عن أبي عبد الله (عليه السلام):

 في قوله: ﴿لَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ اَلْعَذَابَ إِليَ‏ أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ قال: العذاب خروج القائم (عليه السلام) و الأمة المعدودة أهل بدر و أصحابه:

أقول: و روى هذا المعنى الكليني في الكافي، و القمي و العياشي في تفسيريهما عن علي و الباقر و الصادق (عليه السلام).

 و في المجمع، قيل: إن الأمة المعدودة هم أصحاب المهدي ثلاثمائة و بضعة عشر رجلا كعدة أهل بدر يجتمعون في ساعة واحدة كما يجتمع قزع الخريف قال: و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).

 و في تفسير القمي،: في قوله: ﴿إِلاَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ قال :قال:

صبروا في الشدة و عملوا الصالحات في الرخاء. و في الدر المنثور،: في قوله: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا: أخرج البيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : إذا كان يوم القيامة صارت أمتي ثلاث فرق: فرقة يعبدون الله خالصا، و فرقة يعبدون الله رياء، و فرقة يعبدون الله يصيبون به دنيا فيقول للذي كان يعبد الله للدنيا: بعزتي و جلالي ما أردت بعبادتي؟ فيقول: الدنيا فيقول: لا جرم لا ينفعك ما جمعت و لا ترجع إليه انطلقوا به إلى النار، و يقول للذي يعبد الله رياء: بعزتي و جلالي ما أردت بعبادتي؟ قال: الرياء فيقول: إنما كانت عبادتك التي كنت ترائي بها لا يصعد إلي منها شي‏ء و لا ينفعك اليوم انطلقوا به إلى النار .

و يقول للذي كان يعبد الله خالصا: بعزتي و جلالي ما أردت بعبادتي؟ فيقول:

بعزتك و جلالك لأنت أعلم به مني كنت أعبدك لوجهك و لدارك قال: صدق عبدي

 

 

 

 انطلقوا به إلى الجنة.

[سورة هود (١١): الآیات ١٧ الی ٢٤]

﴿أَ فَمَنْ كَانَ عَليَ‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسيَ‏ إِمَاماً وَ رَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ اَلْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ١٧ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَريَ‏ عَلَى اَللَّهِ كَذِباً أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَليَ‏ رَبِّهِمْ وَ يَقُولُ اَلْأَشْهَادُ هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ كَذَبُوا عَليَ‏ رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى اَلظَّالِمِينَ ١٨ اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ١٩ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ اَلْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ اَلسَّمْعَ وَ مَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ٢٠ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ٢١ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ هُمُ اَلْأَخْسَرُونَ ٢٢ إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ وَ أَخْبَتُوا إِليَ‏ رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ٢٣ مَثَلُ اَلْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْميَ‏ وَ اَلْأَصَمِّ وَ اَلْبَصِيرِ وَ اَلسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَ فَلاَ تَذَكَّرُونَ ٢٤

 

 

 

 (بيان)

ظاهر الآيات أنها واقعة موقع التطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تقوية إيمانه بكتاب الله و تأكيد ما عنده من البصيرة في أمره فالكلام جار على ما كان عليه من خطابه (ص) فقد كان وجه الكلام إليه حتى انتهى إلى ما اتهموه به من الافتراء على الله سبحانه فأمره أن يتحدى عليهم بإتيان عشر سور مثله مفتريات ثم أمره أن يطيب نفسا و يثبت على ما عنده من العلم بأنه منزل من عند الله فإنما هو على الحق و ليس بمفتر فلا يستوحش من إعراض الأكثرين و لا يرتاب.

قوله تعالى: ﴿أَ فَمَنْ كَانَ عَليَ‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسيَ‏ إِمَاماً وَ رَحْمَةً الجملة تفريع على ما مضى من الكلام الذي هو في محل الاحتجاج على كون القرآن كتابا منزلا من عند الله سبحانه، و ﴿فَمَنْ مبتدأ خبره محذوف و التقدير: كغيره، أو ما يؤدي معناه، و الدليل عليه قوله تلوا: ﴿أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ اَلْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ.

و الاستفهام إنكاري و المعنى: ليس من كان كذا و كذا كغيره ممن ليس كذلك و أنت على هذه الصفات فلا تك في مرية من القرآن.

و قوله: ﴿عَليَ‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ

البينة

صفة مشبهة معناها الظاهرة الواضحة غير أن الأمور الظاهرة الواضحة ربما أوضحت ما ينضم إليها و يتعلق بها كالنور الذي هو بين ظاهر و يظهر به غيره، و لذلك كثر استعمال البينة فيما يتبين به غيره كالحجة و الآية، و يقال للشاهد على دعوى المدعي بينة.

و قد سمى الله تعالى الحجة بينة كما في قوله﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ الأنفال: - ٤٢ و سمى آيته بينة كما في قوله﴿قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اَللَّهِ لَكُمْ آيَةً الأعراف: - ٧٣ و سمى البصيرة الخاصة الإلهية التي أوتيها الأنبياء بينة كما في قوله حكاية عن نوح (عليه السلام)﴿يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَليَ‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ هود: - ٢٨ أو مطلق البصيرة الإلهية كما هو ظاهر قوله تعالى‏﴿

 

 

 

أَ فَمَنْ كَانَ عَليَ‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَ اِتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ سورة محمد: - ١٤ و قد قال تعالى في معناه ﴿أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا الأنعام: - ١٢٢.

و الظاهر أن المراد بالبينة في المقام هو هذا المعنى الأخير العام بقرينة قوله بعد:

﴿أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ و إن كان المراد به بحسب المورد هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فإن الكلام مسوق ليتفرع عليه قوله: ﴿فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ.

فالمراد بها البصيرة الإلهية التي أوتيها النبي (عليه السلام) لا نفس القرآن النازل عليه فإنه لا يحسن ظاهرا أن يتفرع عليه قوله: ﴿فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ و هو ظاهر و لا ينافيه كون القرآن في نفسه بينة من الله من جهة كونه آية منه تعالى كما في قوله‏﴿قُلْ إِنِّي عَليَ‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ الأنعام: - ٥٧ فإن المقام غير المقام.

و بما مر يظهر أن قول من يقول: إن المراد بمن كان إلخ، النبي خاصة إرادة استعمالية ليس في محله و إنما هو مراد بحسب انطباق المورد. و كذا قول من قال:

إن المراد به المؤمنون من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فلا دليل على التخصيص.

و يظهر أيضا فساد القول بأن المراد بالبينة هو القرآن، و كذا القول بأنها حجة العقل و أضيفت إلى الرب تعالى لأنه ينصب الأدلة العقلية و النقلية. و وجه فساده أنه لا دليل على التخصيص و لا تقاس البينة القائمة للنبي (عليه السلام) من ناحيته تعالى بالتعريف الإلهي القائم لنا من ناحية العقول.

و قوله تعالى: ﴿وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ المراد بالشهادة تأدية الشهادة التي تفيد صحة الأمر المشهود له دون تحملها فإن المقام مقام تثبيت حقية القرآن و هو إنما يناسب الشهادة بمعنى التأدية لا بمعنى التحمل.

و الظاهر أن المراد بهذا الشاهد بعض ما أيقن بحقية القرآن و كان على بصيرة إلهية من أمره فآمن به عن بصيرته و شهد بأنه حق منزل من عند الله تعالى كما يشهد بالتوحيد و الرسالة فإن شهادة الموقن البصير على أمر تدفع عن الإنسان مرية الاستيحاش و ريب التفرد فإن الإنسان إذا أذعن بأمر و تفرد فيه ربما أوحشه التفرد فيه إذا لم يؤيده أحد في القول به أما إذا قال به غيره من الناس و أيد نظره في ذلك زالت

 

 

 

 عنه الوحشة و قوي قلبه و ارتبط جأشه و قد احتج تعالى بما يماثل هذا المعنى في قوله‏﴿

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ وَ كَفَرْتُمْ بِهِ وَ شَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَليَ‏ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَ اِسْتَكْبَرْتُمْ الأحقاف: - ١٠.

و على هذا فقوله: ﴿يَتْلُوهُ من التلو لا من التلاوة، و الضمير فيه راجع إلى ﴿فَمَنْ أو إلى ﴿بَيِّنَةٍ باعتبار أنه نور أو دليل، و مآل الوجهين واحد فإن الشاهد الذي يلي صاحب البينة يلي بينته كما يلي نفسه و الضمير في قوله: ﴿مِنْهُ راجع إلى ﴿فَمَنْ دون قوله: ﴿رَبِّهِ و عدم رجوعه إلى البينة ظاهر و محصل المعنى:

من كان على بصيرة إلهية من أمر و لحق به من هو من نفسه فشهد على صحة أمره و استقامته.

و على هذا الوجه ينطبق ما ورد في روايات الفريقين أن المراد بالشاهد علي (عليه السلام) إن أريد به أنه المراد بحسب انطباق المورد لا بمعنى الإرادة الاستعمالية.

و للقوم في معنى الجملة أقوال شتى فقيل: إن «يتلو» من التلاوة كما قيل:

إنه من التلو، و قيل: إن الضمير في ﴿يَتْلُوهُ راجع إلى ﴿بَيِّنَةٍ كما قيل: إنه راجع إلى ﴿فَمَنْ.

و قيل: المراد بالشاهد القرآن: و قيل: جبرائيل يتلو القرآن على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لعله مأخوذ من قوله تعالى﴿لَكِنِ اَللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ اَلْمَلاَئِكَةُ يَشْهَدُونَ النساء: - ١٦٦، و قيل: الشاهد ملك يسدد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و يحفظه القرآن، و لعله لنوع من الاستناد إلى الآية المذكورة.

و قيل: الشاهد هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد قال تعالى﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً الأحزاب: ٤٥، و قيل: شاهد منه لسانه أي يتلو القرآن بلسانه.

و قيل: الشاهد علي بن أبي طالب (عليه السلام)، و قد وردت به عدة روايات من طرق الشيعة و أهل السنة.

و التأمل في سياق الآية و ظاهر جملها يكفي مئونة إبطال هذه الوجوه غير ما قدمناه من معنى الآية فلا نطيل الكلام بالبحث عنها و المناقشة فيها.

 

 

 

 و قوله تعالى: ﴿وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسيَ‏ إِمَاماً وَ رَحْمَةً الضمير راجع إلى الموصول أو إلى البينة على حد ما ذكرناه في ضمير ﴿يَتْلُوهُ و الجملة حال بعد حال أي أ فمن كان على بصيرة إلهية ينكشف له بها أن القرآن حق منزل من عند الله و الحال أن معه شاهدا منه يشهد بذلك عن بصيرة و الحال أن هذا الذي هو على بينة سبقه كتاب موسى إماما و رحمة أو قبل بينته التي منها القرآن أو هي القرآن المشتمل على المعارف و الشرائع الهادية إلى الحق كتاب موسى إماما فليس هو أو ما عنده من البينة ببدع من الأمر غير مسبوق بمثل و نظير بل هناك طريق مسلوك من قبل يهدي إليه كتاب موسى.

و من هنا يظهر وجه توصيف كتاب موسى و هو التوراة بالإمام و الرحمة فإنه مشتمل على معارف حقة و شريعة إلهية يؤتم به في ذلك و يتنعم بنعمته، و قد ذكره الله بهذا الوصف في موضع آخر من كلامه فقال ﴿قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ وَ كَفَرْتُمْ بِهِ وَ شَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَليَ‏ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَ اِسْتَكْبَرْتُمْ إلى أن قال ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسيَ‏ إِمَاماً وَ رَحْمَةً وَ هَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا وَ بُشْريَ‏ لِلْمُحْسِنِينَ الأحقاف: - ١٢.

و الآيات كما ترى أقرب الآيات مضمونا من الآية المبحوث عنها تذكر أولا: أن القرآن بينة إلهية أو أمر قامت عليه بينة إلهية ثم تذكر شهادة الشاهد من بني إسرائيل عليه و تأيده بها ثم تذكر أنه مسبوق فيما يتضمنه من المعارف و الشرائع بكتاب موسى الذي كان إماما و رحمة يأتم به الناس و يهتدون، و طريقا مسلوكا مجربا، و القرآن كتاب مثله مصدق له منزل من عند الله لإنذار الظالمين و تبشير المحسنين.

و من هنا يظهر أيضا: أن قوله: ﴿إِمَاماً وَ رَحْمَةً حال من كتاب موسى لا من قوله: ﴿شَاهِدٌ مِنْهُ على ما ذكره بعضهم.

قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ اَلْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ المشار إليهم بقوله: ﴿أُولَئِكَ بناء على ما تقدم من معنى صدر الآية هم الذين كانوا

 

 

 

 على بينة من ربهم المدلول عليهم بقوله: ﴿أَ فَمَنْ كَانَ إلخ، و أما إرجاع الإشارة إلى المؤمنين لدلالة السياق عليهم فبعيد عن الفهم.

و كذا الضمير في قوله: ﴿رَبِّهِ راجع إلى القرآن من جهة أنه بينة منه تعالى أو أمر قامت عليه البينة، و أما إرجاعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فلا يلائم ما قررناه من معنى الآية فإن في صدر الآية بيان حال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بنحو العموم حتى يتفرع عليه قوله: ﴿فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ كأنه قيل: إنك على بينة كذا و معك شاهد و قبلك كتاب موسى، و من كان على هذه الصفة يؤمن بما أوتي من كتاب الله، و لا يصح أن يقال: و من كان على هذه الصفة يؤمن بك، و الكلام في الضمير في ﴿وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ كالكلام في ضمير ﴿يُؤْمِنُونَ بِهِ.

و أمر الآية فيما يحتمله مفردات ألفاظها و ضمائرها عجيب فضرب بعضها في بعض يرقى إلى ألوف من المحتملات بعضها صحيح و بعضها خلافه.

قوله تعالى: ﴿فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ

 المرية

كجلسة النوع من الشك، و الجملة تفريع على صدر الآية، و المعنى أن من كان على بينة من ربه في أمر و قد شهد عليه شاهد منه و قبله إمام و رحمة ككتاب موسى ليس كغيره من الناس الغافلين المغفلين فهو يؤمن بما عنده من أمر الله و لا يوحشه إعراض أكثر الناس عما عنده، و أنت كذلك فإنك على بينة من ربك و يتلوك شاهد و من قبلك كتاب موسى إماما و رحمة و إذا كان كذلك فلا تك في مرية من أمر ما أنزل إليك من القرآن إنه محض الحق من جانب الله و لكن أكثر الناس لا يؤمنون.

و قوله: ﴿إِنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ تعليل للنهي و قد أكد بإن و لام الجنس للدلالة على توافر الأسباب النافية للمرية و هي قيام البينة و شهادة الشاهد و تقدم كتاب موسى إماما و رحمة.

قوله تعالى: ﴿وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَريَ‏عَلَى اَللَّهِ كَذِباً إلى آخر الآية، من الممكن أن يكون ذيلا للسياق السابق من حيث كان تطييبا لنفس النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيئول المعنى إلى أنك إذ كنت على بينة من ربك لست بظالم فحاشاك أن تكون مفتريا على الله

 

 

 

 الكذب لأن المفتري على الله كذبا من أظلم الظالمين، و لهم من وبال كذبهم كذا و كذا.

و كيف كان فالمراد بافتراء الكذب على الله سبحانه توصيفه تعالى بما ليس فيه أو نسبة شي‏ء إليه بغير الحق أو بغير علم، و الافتراء من أظهر أفراد الظلم و الإثم، و يعظم الظلم بعظم متعلقه حتى إذا انتهى إلى ساحة العظمة و الكبرياء كان من أعظم الظلم.

و الكلام واقع موقع قلب الدعوى عليهم إذ كانوا يقولون للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : إنه افترى على الله كذبا بنسبة القرآن إليه فقلب القول عليهم أنهم هم الذين افتروا على الله كذبا إذا أثبتوا له شركاء بغير علم و هو الله لا إله إلا هو، و إذ صدوا عن سبيل الله و معناه نفي كونه سبيلا لله و هو افتراء، و إذ طلبوا سبيلا أخرى فاستنوا بها في حياتهم و كان ذلك تغييرا لسبيل الله التي تهدي إليها الفطرة و النبوة، و إذ كفروا بالآخرة فنفوها و ذلك إثبات مبدإ من غير معاد و نسبة اللغو و فعل الباطل إليه تعالى و هو افتراء عليه.

و بالجملة انتحالهم بغير دين الله و نحلته، و أخذهم بالعقائد الباطلة في المبدإ و المعاد و استنانهم بغير سنة الله في حياتهم الدنيوية الاجتماعية و الذي من الله إنما هو الحق و لا سنة عند الله إلا دين الحق افتراء على الله، و سيشهد عليهم الأشهاد بذلك يوم يعرضون على ربهم.

و قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَليَ‏ رَبِّهِمْ

العرض

‏ إظهار الشي‏ء ليرى و يوقف عليه، و لما كان ارتفاع الحجب بينهم و بين ربهم يوم القيامة بظهور آياته و وضوح الحق الصريح من غير شاغل يشغل عنه حضورا اضطراريا منهم لفصل القضاء سماه عرضا لهم على ربهم كما سمي بوجه آخر بروزا منهم لله فقال﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لاَ يَخْفيَ‏ عَلَى اَللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ‏ءٌ المؤمن: - ١٦، و قال﴿وَ بَرَزُوا لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ إبراهيم: - ٤٨ فقال: ﴿أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَليَ‏رَبِّهِمْ أي يأتي بهم الملائكة الموكلون بهم فيوقف ونهم موقفا ليس بينهم و بين ربهم حاجب حائل لفصل القضاء.

و قوله: ﴿وَ يَقُولُ اَلْأَشْهَادُ هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ كَذَبُوا عَليَ‏ رَبِّهِمْ

الأشهاد

 جمع شهيد كأشراف جمع شريف و قيل: جمع شاهد كأصحاب جمع صاحب، و يؤيد الأول قوله تعالى﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ النساء: - ٤١ و قوله﴿وَ جَاءَتْ

 

 

 

 كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَ شَهِيدٌ ق: - ٢١.

و قول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم شهادة منهم عليهم بالافتراء على الله أي سجل عليهم بأنهم المفترون من جهة شهادة الأشهاد عليهم بذلك في موقف لا يذكر فيه إلا الحق و لا مناص فيه عن الاعتراف و القبول كما قال تعالى﴿لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمَنُ وَ قَالَ صَوَاباً النبأ: - ٣٨ و قال تعالى﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ مَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً آل عمران: - ٣٠.

قوله تعالى: ﴿أَلاَ لَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى اَلظَّالِمِينَ اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ إلخ، تتمة قول الأشهاد، و الدليل عليه قوله تعالى﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى اَلظَّالِمِينَ اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ الأعراف: - ٤٥.

و هذا القول منهم المحكي في كلامه تعالى تثبيت منهم للبعد و اللعن على الظالمين و تسجيل للعذاب، و ليس اللعن و الرحمة يوم القيامة كاللعن و الرحمة في الدنيا كما في قوله تعالى﴿أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اَللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اَللاَّعِنُونَ البقرة: - ١٥٩ و ذلك أن الدنيا دار عمل و يوم القيامة يوم جزاء فما فيه من لعنة أو رحمة هو إيصال ما ادخر لهم إليهم فلعن اللاعن أحدا يوم القيامة طرده من رحمة الله الخاصة بالمؤمنين و تسجيل عذاب البعد عليه.

ثم فسر سبحانه الظالمين بقوله حكاية عنهم: ﴿اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ فهم الذين لا يذعنون بيوم الحساب حتى يعملوا له و إنما يعملون للدنيا و يسلكون من طريق الحياة ما يتمتعون به للدنيا المادية فحسب، و هو السنة الاجتماعية غير المعتنية بما يريده الله من عباده من دين الحق و ملة الفطرة فهؤلاء سواء اعتقدوا بصانع و عملوا بسنة محرفة منحرفة عن دين الفطرة و هو الإسلام أم لم يعتقدوا به ممن يقول: إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت و نحيا و ما يهلكنا إلا الدهر، ظالمون مفترون على الله الكذب، و قد تقدم بعض الكلام المتعلق بهذه المعاني في سورة الأعراف آية ٤٤-٤٥.

و قد بان مما تقدم من البحث في الآيتين أولا: أن الدين‏ في عرف القرآن هو

 

 

 

السنة الاجتماعية الدائرة في المجتمع.

و ثانيا: أن السنن الاجتماعية إما دين حق فطري و هو الإسلام أو دين محرف عن الدين الحق و سبيل الله عوجا.

قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ إلى آخر الآية. الإشارة إلى المفترين على الله الموصوفين بما مر في الآيتين السابقتين.

و المقام يدل على أن المراد من كونهم غير معجزين في الأرض أنهم لم يكونوا معجزين لله سبحانه في حياتهم الأرضية حيث خرجوا عن زي العبودية فأخذوا يفترون على الله الكذب و يصدون عن سبيله و يبغونها عوجا فكل ذلك لا لأن قدرتهم المستعارة فاقت قدرة الله سبحانه و مشيتهم سبقت مشيته، و لا لأنهم خرجوا من ولاية الله فدخلوا في ولاية غيره و هم الذين اتخذوهم أولياء من أصنامهم و كذا سائر الأسباب التي ركنوا إليها، و ذلك قوله: ﴿وَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ.

و بالجملة لا قدرتهم غلبت قدرة الله سبحانه و لا شركاؤهم الذين يسمونهم أولياء لأنفسهم أولياء لهم بالحقيقة يدبرون أمرهم و يحملونهم على ما يأتون به من البغي و الظلم بل الله سبحانه هو وليهم و هو المدبر لأمرهم يجازيهم على سوء نياتهم و أعمالهم بما يجرهم إلى سوء العذاب و يستدرجهم من حيث لا يشعرون كما قال تعالى﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اَللَّهُ قُلُوبَهُمْ الصف: - ٥، و قال﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ البقرة: - ٢٦.

و قوله: ﴿يُضَاعَفُ لَهُمُ اَلْعَذَابُ ذلك لأنهم فسقوا ثم لجوا عليه أو لأنهم عصوا الله بأنفسهم و حملوا غيرهم على معصية الله فيضاعف لهم العذاب كما ضاعفوا المعصية قال تعالى﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَ مِنْ أَوْزَارِ اَلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ النحل: - ٢٥ و قال﴿وَ نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَ آثَارَهُمْ يس: - ١٢.

و قوله: ﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ اَلسَّمْعَ وَ مَا كَانُوا يُبْصِرُونَ في مقام التعليل و لذا جي‏ء بالفصل يقول تعالى إنهم لم يكفروا و لم يعصوا لظهور إرادتهم على إرادة

 

 

 

 الله و لا لأن لهم أولياء من دون الله يستظهرون بهم على الله بل لأنهم ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا ما يأتيهم من الإنذار و التبشير من ناحيته أو يذكر لهم من البعث و الزجر من قبله و ما كانوا يبصرون آياته حتى يؤمنوا بها كما وصفهم في قوله‏﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَ لَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ الأعراف: - ١٧٩، و في قوله﴿وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ الأنعام: - ١١٠، و قوله﴿خَتَمَ اَللَّهُ عَليَ‏ قُلُوبِهِمْ وَ عَليَ‏ سَمْعِهِمْ وَ عَليَ‏ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ البقرة: - ٧، و آيات أخرى كثيرة تدل على أنه تعالى سلبهم عقولهم و أعينهم و آذانهم غير أنه تعالى يحكي عنهم مثل قولهم‏﴿وَ قَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ اَلسَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْالملك: - ١١، و اعترافهم بأن عدم سمعهم و عقلهم كان ذنبا منهم مع أن ذلك مستند إلى سلبه تعالى منهم ذلك يدل على أنهم أنفسهم توسلوا إلى سلب هذه النعم بالذنوب كما يدل عليه ما تقدم من قوله تعالى﴿وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ البقرة: - ٢٦ و غيره.

و ذكروا في معنى قوله: ﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ اَلسَّمْعَ وَ مَا كَانُوا يُبْصِرُونَ وجوها أخرى:

منها: أن قوله: ﴿مَا كَانُوا «إلخ»، في محل النصب بنزع الخافض و هو متعلق بقوله: ﴿يُضَاعَفُ «إلخ»، و الأصل: بما كانوا يستطيعون السمع و بما كانوا يبصرون، و المعنى يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع فلا يسمعون و بما كانوا يستطيعون الإبصار فلا يبصرون.

و منها: أنه عنى بقوله: ﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ إلخ، نفي السمع و البصر عن آلهتهم و أوثانهم، و تقدير الكلام أولئك الكفار و آلهتهم لم يكونوا معجزين في الأرض، و قال مخبرا عن الآلهة: ﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ اَلسَّمْعَ وَ مَا كَانُوا يُبْصِرُونَ.

و منها: أن لفظة ما في ﴿مَا كَانُوا ليست للنفي بل تجري مجرى قولهم:

لأواصلنك ما لاح نجم، و المعنى أنهم معذبون ما داموا أحياء.

و منها: أن نفي السمع و البصر بمعنى نفي الفائدة فإنهم لاستثقالهم استماع آيات الله و النظر فيها و كراهيتهم لذلك أجروا مجرى من لا يستطيع السمع و لا يبصر

 

 

 

 فالكلام على الكناية.

و أعدل الوجوه آخرها و هي جميعا سخيفة ظاهرة السخافة و الوجه ما قدمناه.

قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ أما خسرانهم فإن الإنسان لا يملك بالحقيقة و ذلك بتمليك من الله تعالى إلا نفسه و إذا اشترى لنفسه ما فيه هلاكها و ضيعتها بالكفر و المعصية فقد خسر في هذه المعاملة التي أقدم عليها نفسه فخسران النفس كناية عن الهلاك، و أما ضلال ما كانوا يفترون فإنه كان كذبا و افتراء ليس له وجود في الخارج من أوهامهم و مزاعمهم التي زينتها لهم الأهواء و الهوسات الدنيوية و بانطواء بساط الحياة الدنيا يزول و ينمحي تلك الأوهام و يضل ما لاح و استقر فيها من الكذب و الافتراء و يومئذ يعلمون أن الله هو الحق المبين، و يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون.

قوله تعالى: ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ هُمُ اَلْأَخْسَرُونَ عن الفراء: أن «لا جرم‏» في الأصل بمعنى لا بد و لا محالة ثم كثرت فحولت إلى معنى القسم و صارت بمعنى «حقا» و لهذا تجاب باللام نحو لا جرم لأفعلن كذا. انتهى، و قد ذكروا أن «جرم‏» بفتحتين بمعنى القطع فلعلها كانت في الأصل تستعمل في نتائج الكلام كلفظة «لا محالة» و تفيد أنه لا يقطع هذا القول قاطع أن كذا كذا كما يتصور نظير المعنى في «لا محالة» فمعنى الآية على هذا: حقا إنهم في الآخرة هم الأخسرون.

و وجه كونهم في الآخرة هم الأخسرين أن فرض أنهم أخسر بالنسبة إلى غيرهم من أهل المعاصي هو أنهم خسروا أنفسهم بإهلاكها و إضاعتها بالكفر و العناد فلا مطمع في نجاتهم من النار في الآخرة كما لا مطمع في أن يفوزوا في الدنيا و يسعدوا بالإيمان ما داموا على العناد، قال تعالى﴿اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ الأنعام: - ١٢. و قال تعالى في هؤلاء المختوم على سمعهم و أبصارهم و قلوبهم﴿وَ جَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ وَ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ يس: - ١٠. و قال أيضا في سبب عدم إمكان إيمانهم‏﴿

أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَ أَضَلَّهُ اَللَّهُ عَليَ‏ عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَليَ‏َسَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَليَ‏ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اَللَّهِ الجاثية: - ٢٣.

 

 

 

 و إن فرض أنهم أخسر بالنسبة إلى الدنيا فذلك لكونهم بكفرهم و صدهم عن سبيل الله حرموا سعادة الحياة التي يمهدها لهم الدين الحق فخسروا في الدنيا كما خسروا في الآخرة لكنهم في الآخرة أخسر لكونها دائمة مخلدة و أما الدنيا فليست إلا قليلا، قال تعالى﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ الأحقاف: - ٣٥.

على أن الأعمال تشتد و تتضاعف في الآخرة بنتائجها كما قال تعالى﴿وَ مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْميَ‏ فَهُوَ فِي اَلْآخِرَةِ أَعْميَ‏ وَ أَضَلُّ سَبِيلاً إسراء: - ٧٢، و أحسن الوجهين أولهما لأن ظاهر الآية حصر الأخسرين فيهم دون إثبات أخسريتهم في الآخرة قبال الدنيا.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ وَ أَخْبَتُوا إِليَ‏ رَبِّهِمْ إلى آخر الآية، قال الراغب في المفردات،: الخبت‏ المطمئن من الأرض و أخبت الرجل قصد الخبت أو نزله نحو أسهل و أنجد ثم استعمل الإخبات في استعمال اللين و التواضع قال الله تعالى: ﴿وَ أَخْبَتُوا إِليَ‏ رَبِّهِمْ، و قال: ﴿وَ بَشِّرِ اَلْمُخْبِتِينَ أي المتواضعين نحو لا يستكبرون عن عبادته، و قوله: ﴿فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ أي تلين و تخشع. انتهى.

فالمراد بإخباتهم إلى الله اطمئنانهم إليه بحيث لا يتزلزل ما في قلوبهم من الإيمان به فلا يزيغون و لا يرتابون كالأرض المطمئنة التي تحفظ ما استقر فيها فلا وجه لما قيل إن الأصل، أخبتوا لربهم فإن ما في معنى الاطمئنان يتعدى بإلى دون اللام.

و تقييده تعالى الإيمان و العمل الصالح بالإخبات إليه يدل على أن المراد بهم طائفة خاصة من المؤمنين و هم المطمئنون منهم إلى الله ممن هم على بصيرة من ربهم، و هو الذي أشرنا إليه في صدر الآيات عند قوله: ﴿أَ فَمَنْ كَانَ عَليَ‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ إلخ أن الآيات تقيس ما بين فريقين خاصين من الناس و هم أهل البصيرة الإلهية و من عميت عين بصيرته.

و من هنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين أن هذه الآيات السبع يعني

 

 

 

قوله: ﴿أَ فَمَنْ كَانَ عَليَ‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ إلى قوله ﴿ أَ فَلاَ تَذَكَّرُونَ بيان لحال الفريقين و هم الذين يكفرون بالقرآن و الذين يؤمنون به.

قوله تعالى: ﴿مَثَلُ اَلْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْميَ‏ وَ اَلْأَصَمِّ وَ اَلْبَصِيرِ وَ اَلسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَ فَلاَ تَذَكَّرُونَ المثل‏ هو الوصف، و غلب في المثل السائر و هو بيان معنى من المعاني الخفية على المستمع بأمر محسوس أو كالمحسوس يأنس به ذهنه و يتلقاه فهمه لينتقل به إلى المعنى المعقول المقصود بيانه، و المراد بالفريقين من بين حالهما في الآيات السابقة، و الباقي واضح.

(بحث روائي)

 في الكافي، بإسناده عن أحمد بن عمر الخلال قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: ﴿أَ فَمَنْ كَانَ عَليَ‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ فقال: أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الشاهد من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و رسول الله على بينة من ربه.

 و في أمالي الشيخ، بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده علي بن الحسين عن الحسن (عليه السلام): في خطبة طويلة خطبها بمحضر معاوية منها فأدت الأمور و أفضت الدهور إلى أن بعث الله محمدا ص للنبوة و اختاره للرسالة، و أنزل عليه كتابه ثم أمره بالدعاء إلى الله عز و جل فكان أبي أول من استجاب لله عز و جل و لرسله و أول من آمن و صدق الله و رسوله، و قد قال الله عز و جل في كتابه المنزل على نبيه المرسل: ﴿أَ فَمَنْ كَانَ عَليَ‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ فرسول الله ص الذي على بينة من ربه، و أبي الذي يتلوه و هو شاهد منه. الخطبة.

أقول: و كلامه (عليه السلام) أحسن شاهد على ما قدمناه في معنى الآية أن إرادته (عليه السلام) بالشاهد من باب الانطباق.

 و في بصائر الدرجات، بإسناده عن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لو كسرت لي الوسادة فقعدت عليها لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم و أهل

 

 

 

 الإنجيل بإنجيلهم و أهل الفرقان بفرقانهم بقضاء يصعد إلى الله يزهر، و الله ما نزلت آية في كتاب الله في ليل أو نهار إلا و قد علمت فيمن أنزلت، و لا أحد ممن مر على رأسه المواسي إلا و قد أنزلت آية فيه من كتاب الله تسوقه إلى الجنة أو النار .

فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين ما الآية التي نزلت فيك؟ قال: أ ما سمعت الله يقول: ﴿أَ فَمَنْ كَانَ عَليَ‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ فرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على بينة من ربه و أنا الشاهد له و منه:

أقول: و روى هذا المعنى المفيد في الأمالي، مسندا و في كشف الغمة، مرسلا عن عباد بن عبد الله الأسدي عنه (عليه السلام)، و العياشي في تفسيره مرسلا عن جابر عن عبد الله بن يحيى عنه (عليه السلام) و كذا ابن شهرآشوب عن الطبري بإسناده عن جابر بن عبد الله عنه (عليه السلام) و كذا عن الأصبغ و عن زين العابدين و الباقر و الصادق (عليه السلام) عنه (عليه السلام). و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه و أبو نعيم في المعرفة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ما من رجل من قريش إلا نزل فيه طائفة من القرآن فقال له رجل: ما نزل فيك؟ قال: أ ما تقرأ سورة هود ﴿أَ فَمَنْ كَانَ عَليَ‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على بينة من ربه، و أنا شاهد منه:

أقول: و في تفسير البرهان، عن تفسير الثعلبي بإسناده عن الشعبي يرفعه إلى علي (عليه السلام) مثله و فيه عن ابن المغازلي يرفعه إلى عباد بن عبد الله عن علي (عليه السلام) مثله.

و كذا عن كنوز الرموز للرسعني مثله. و فيه، أخرج ابن مردويه من وجه آخر عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : ﴿أَ فَمَنْ كَانَ عَليَ‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ أنا ﴿وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ قال: علي:

أقول: و في تفسير البرهان، عن ابن المغازلي في تفسير الآية عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مثله. و في تفسير البرهان، عن ابن المغازلي بإسناده عن علي بن حابس قال :دخلت أنا و أبو مريم على عبد الله بن عطاء قال أبو مريم: حدث علينا الحديث الذي حدثتني به عن أبي جعفر قال: كنت عند أبي جعفر جالسا إذ مر علينا ابن عبد الله بن سلام

 

 

 

قلت: جعلت فداك هذا ابن الذي عنده علم الكتاب، قال: لا و لكنه صاحبكم علي بن أبي طالب الذي نزلت فيه آيات من كتاب الله تعالى: ﴿مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتَابِ ﴿أَ فَمَنْ كَانَ عَليَ‏َبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا.

 و فيه، عن ابن شهرآشوب عن الحافظ أبي نعيم بثلاثة طرق عن ابن عباس قال: قال سمعت عليا يقول: قول الله تعالى: ﴿أَ فَمَنْ كَانَ عَليَ‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على بينة و أنا الشاهد.

 و فيه، أيضا عن موفق بن أحمد قال :قوله تعالى: ﴿أَ فَمَنْ كَانَ عَليَ‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ قال ابن عباس: هو علي يشهد للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو منه. أقول:

 و رواه عن الثعلبي في تفسيره يرفعه إلى ابن عباس ": ﴿أَ فَمَنْ كَانَ عَليَ‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ علي خاصة.

 أقول: قال صاحب المنار، في تفسير الآية عند ذكر معاني الشاهد: و منها:

أنه علي رضي الله عنه ترويه الشيعة و يفسرونه بالإمامة، و روي: أنه كرم الله وجهه سئل عنه فأنكره و فسره بأنه لسانه (ص)، و قابلهم خصومهم بمثلها فقالوا:

أنه أبو بكر، و هما من التفسير بالهوى. انتهى أما قوله: «إن الشيعة ترويه» فقد عرفت أن رواته من أهل السنة أكثر من الشيعة، و أما قوله: «إنه مثل تفسيره بأبي بكر من التفسير بالهوى» فيكفيك في ذلك ما تقدم في معنى الآية فراجع.

 و في الكافي، بإسناده عن زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له:

إن عندنا رجلا يقال له: كليب فلا يجي‏ء عنكم شي‏ء إلا قال: أنا أسلم فسميناه كليب تسليم قال: فترحم عليه ثم قال: أ تدرون ما التسليم؟ فسكتنا فقال: هو و الله الإخبات قول الله عز و جل: ﴿اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ وَ أَخْبَتُوا إِليَ‏ رَبِّهِمْ أقول: و روى مثله العياشي في تفسيره و الكشي و كذا صاحب البصائر عن أبي أسامة زيد الشحام عنه (عليه السلام).

 

 

 

[سورة هود (١١): الآیات ٢٥ الی ٣٥ ]

﴿وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِليَ‏ قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ٢٥ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ٢٦ فَقَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا وَ مَا نَرَاكَ اِتَّبَعَكَ إِلاَّ اَلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ اَلرَّأْيِ وَ مَا نَريَ‏َلَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ٢٧ قَالَ يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَليَ‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوهَا وَ أَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ٢٨ وَ يَا قَوْمِ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اَللَّهِ وَ مَا أَنَا بِطَارِدِ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاَقُوا رَبِّهِمْ وَ لَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ ٢٩ وَ يَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اَللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَ فَلاَ تَذَكَّرُونَ ٣٠ وَ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اَللَّهِ وَ لاَ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ وَ لاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَ لاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اَللَّهُ خَيْراً اَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ اَلظَّالِمِينَ ٣١ قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ ٣٢ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اَللَّهُ إِنْ شَاءَ وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ٣٣ وَ لاَ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ

 

 

 

إِنْ كَانَ اَللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٣٤ أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرَاهُ قُلْ إِنِ اِفْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَ أَنَا بَرِي‏ءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ٣٥

(بيان)

شروع في قصص الأنبياء (عليه السلام) و قد بدأ بنوح و عقبه بجماعة ممن بعده كهود و صالح و إبراهيم و لوط و شعيب و موسى (عليه السلام). و قد قسم قصة نوح إلى فصول أولها احتجاجه (عليه السلام) على قومه في التوحيد فهو (عليه السلام) أول الأنبياء الناهضين للتوحيد على الوثنية على ما ذكره الله تعالى في كتابه، و أكثر ما قص من احتجاجه (عليه السلام) مع قومه من المجادلة بالتي هي أحسن و بعضه من الموعظة و قليل منه من الحكمة و هو الذي يناسب تفكر البشر الأولي و الإنسان القديم الساذج و خاصة تفكرهم الاجتماعي الذي لا ظهور فيه إلا للمركوم من أفكار الأفراد المتوسطين في الفهم.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِليَ‏ قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ القراءة المعروفة ﴿إِنِّي بكسر الهمزة على تقدير القول و قرئ أني بفتح الهمزة بنزع الخافض و التقدير بأني لكم نذير مبين، و الجملة أعني قوله: ﴿إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ على أي حال بيان إجمالي لما أرسل به فإن جميع ما بلغه قومه عن ربه و أرسل به إليهم إنذار مبين فهو نذير مبين.

فكما أنه لو قال: ما سألقيه إليكم من القول إنذار مبين كان بيانا لجميع ما أرسل به إليهم بأوجز كلمة كذا قوله: ﴿إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ بيان لذلك بالإجمال غير أنه يزيد على سابقه ببيان سمة نفسه و هي أنه رسول من الله إليهم لينذرهم بعذاب الله، و ليس له من الأمر شي‏ء أزيد من أنه واسطة يحمل الرسالة.

قوله تعالى: ﴿أَنْ لاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ. بيان ثان لما أرسل به أو بيان لقوله: ﴿إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ و مآل الوجهين واحد، و أن

 

 

 

 على أي حال مفسرة، و المعنى أن محصل رسالته النهي عن عبادة غير الله تعالى من طريق الإنذار و التخويف.

و ذكر بعض المفسرين أن الجملة أعني قوله: ﴿أَنْ لاَ تَعْبُدُوا إلخ، بدل من قوله: ﴿إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أو مفعول لقوله مبين. و لعل السياق يؤيد ما قدمناه.

و الظاهر أن المراد بعذاب يوم أليم عذاب الاستئصال دون عذاب يوم القيامة أو الأعم من العذابين يدل على ذلك قولهم له فيما سيحكيه الله تعالى عنهم: ﴿يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اَللَّهُ إِنْ شَاءَ الآية، فإنه ظاهر في عذاب الاستئصال.

فهو (عليه السلام) كان يدعوهم إلى رفض عبادة الأوثان و يخوفهم من يوم ينزل عليهم من الله عذاب أليم أي مؤلم و نسبة الإيلام إلى اليوم دون العذاب في قوله:

﴿عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ من قبيل وصف الظرف بصفة المظروف.

و بما تقدم يندفع ما ربما قيل: إن تعذيب المشركين مقطوع لا محتمل فما الوجه في خوفه (عليه السلام) من تعذيبهم المقطوع؟ و الخوف إنما يستقيم في محتمل الوقوع لا مقطوعه.

و بالجملة كان (عليه السلام) يدعوهم إلى توحيد الله سبحانه بتخويفهم من العذاب، و إنما كان يخوفهم لأنهم كانوا يعبدون الأوثان خوفا من سخطهم فقابلهم نوح (عليه السلام) بأن الله سبحانه هو الذي خلقهم و دبر شئون حياتهم و أمور معاشهم بخلق السماوات و الأرض و إشراق الشمس و القمر و إنزال الأمطار و إنبات الأرض و إنشاء الجنات و شق الأنهار على ما يحكيه تعالى عنه (عليه السلام) في سورة نوح.

و إذ كان كذلك كان الله سبحانه هو ربهم لا رب سواه فليخافوا عذابه و ليعبدوه وحده.

و هذه الحجة في الحقيقة حجة برهانية مبنية على اليقين لكنهم إنما كانوا يتلقونها حجة جدلية مبنية على الظن لأنهم لسذاجة أفهامهم كانوا يتوقعون سخط الرب و عذابه على المخالفة لأنهم يرونه وليا لأمرهم مصلحا لشأنهم فيقيسون أمره بأمر الأولياء من

 

 

 

 الإنسان الحاكمين في من دونهم من أفراد المجتمع الذين يجب الخضوع لمقامهم و التسليم لإرادتهم و لو استكبر عن الخضوع لهم و التسليم لإرادتهم من دونهم سخطوا عليهم و عاقبوهم بما أجرموا و تمردوا.

و على هذا القياس يجب إرضاء الرب أو الأرباب الذين يرجع إليهم أمر الكون و ولاية النظام الجاري فيه فيجب إرضاؤه و إخماد نار غضبه بالخضوع له و التقرب إليه بتقديم القرابين و التضحية و سائر أنحاء العبادة فهكذا كانوا يعتقدون و هو مبني على الظن.

لكن مسألة نزول العذاب على الاستنكاف عن عبادة الله تعالى و الاستكبار عن التسليم و الخضوع لساحة الربوبية مسألة حقيقية يقينية فإن من النواميس الكلية الجارية في الكون لزوم خضوع الضعيف للقوي و المتأثر المقهور للمؤثر القاهر فما قولك في الله الواحد القهار الذي إليه مصير الأمور.

و قد أبدع الله سبحانه أجزاء الكون و ربط بعضها ببعض ثم أجرى الحوادث على نظام الأسباب و على ذلك يجري كل شي‏ء في نظام وجوده فلو انحرف عما يخطه له سائر الأسباب من الخط أدى ذلك إلى اختلال نظامها و كان ذلك منازعة منه لها و عند ذلك ينتهض سائر الأسباب الكونية من أجزاء الوجود لتعديل أمره و إرجاعه إلى خط يلائمها تدفع بذلك الشر عن نفسها فإن استقام هذا الجزء المنحرف عن خطه المخطوط له فهو و إلا حطمتها حاطمات الأسباب و نازلات النوائب و البلايا، و هذا أيضا من النواميس الكلية.

و الإنسان الذي هو أحد أجزاء الكون له في حياته خط خطه له الصنع و الإيجاد فإن سلكه هداه إلى سعادته و وافق بذلك سائر أجزاء الكون و فتحت له أبواب السماء ببركاتها و سمحت له الأرض بكنوز خيراتها، و هذا هو الإسلام الذي هو الدين عند الله تعالى المدعو إليه بدعوة نوح و من بعده من الأنبياء و الرسل (عليه السلام).

و إن تخطاه و انحرف عنه فقد نازع أسباب الكون و أجزاء الوجود في نظامها الجاري و زاحمها في شئون حياتها فليتوقع مر البلاء و لينتظر العذاب و العناء فإن استقام في أمره و خضع لإرادة الله سبحانه و هي ما تحطمه من الأسباب العامة فمن

 

 

 

 المرجو أن تتجدد له النعمة بعد النقمة و إلا فهو الهلاك و الفناء و إن الله لغني عن العالمين، و قد تقدم هذا البحث في بعض أجزاء الكتاب السابقة.

قوله تعالى: ﴿فَقَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا إلى آخر الآية، الفاء في صدر الآية لتفريع جوابهم عن قول نوح (عليه السلام)، و فيه إشارة إلى أنهم بادروه بالرد و الإنكار من دون أن يفكروا في أنفسهم فيختاروا ما هو أصلح لهم.

و المجيبون هم الملأ من قومه و الأشراف و الكبراء الذين كفروا به و لم يتعرضوا في جوابهم لما ألقى إليهم من حجة التوحيد بل إنما اشتغلوا بنفي رسالته و الاستكبار عن طاعته فإن قوله: ﴿إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ إلى آخر الآيتين، كان مشتملا على دعوى الرسالة و ملوحا إلى وجوب الاتباع و قد صرح به فيما حكي عنه في موضع آخر، قال تعالى﴿قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اُعْبُدُوا اَللَّهَ وَ اِتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ نوح: - ٣.

و محصل ما نقله الله تعالى من جوابهم هو أنه لا دليل على لزوم اتباعك بل الدليل على خلافه فهو في الحقيقة حجتان منظومتان على طريق الإضراب و الترقي و لذلك أخر قولهم: ﴿بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ.

و الحجة الأولى التي مدلولها عدم الدليل على وجوب اتباعه مبينة بطرق ثلاث هي قوله: ﴿مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً إلخ، و قوله: ﴿وَ مَا نَرَاكَ اِتَّبَعَكَ إلخ، و قوله:

﴿وَ مَا نَريَ‏ لَكُمْ عَلَيْنَا. إلخ.

و الحجة بجميع أجزائها مبنية على إنكار ما وراء الحس كما سنبين و لذلك كرروا فيه قولهم: ما نراك و نرى.

فقوله: ﴿مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا أول جوابهم عما يدعيه نوح (عليه السلام) من الرسالة، و قد تمسكوا فيه بالمماثلة كما هو دأب سائر الأمم مع أنبيائهم على ما حكاه الله تعالى في كتابه و تقريره: أنك مثلنا في البشرية و لو كنت رسولا إلينا من عند الله لم تكن كذلك و لا نشاهد منك إلا أنك بشر مثلنا، و إذ كنت بشرا مثلنا لم يكن هناك موجب لاتباعك.

 

 

 

 ففي الكلام تكذيب لرسالته (عليه السلام) بأنه ليس إلا بشرا مثلهم ثم استنتاج من ذلك أنه لا دليل على لزوم اتباعه، و الدليل على ما ذكرنا قول نوح (عليه السلام) فيما سيحكيه الله تعالى من كلامه: ﴿يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَليَ‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي إلخ.

و قد اشتبه الأمر على بعض المفسرين فقرر قولهم: ﴿مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا بأنهم ساووه بأنفسهم في الزنة الاجتماعية و استنتجوا منها أنه لا وجه لاتباعهم له، قال في تفسير الآية: أجابوه بأربع حجج داحضة. إحداها: أنه بشر مثلهم فساووه بأنفسهم في الجملة، و هذا يدل على أنه (عليه السلام) كان من طبقتهم أو ما يقرب منها في بيته و في شخصه و هكذا كان كل رسول من وسط قومه، و وجه الجواب أن المساواة تنافي دعوى تفوق أحد المتساويين على الآخر بجعل أحدهما تابعا طائعا و الآخر متبوعا مطاعا لأنه ترجيح بغير مرجح. انتهى.

و لو كان المعنى ما ذكره لكان من حق الكلام أن يقال: أنت مثلنا أو نراك مثلنا دون أن يقال: ما نراك إلا بشرا مثلنا فيذكر أنه بشر و لا حاجة إلى الإشارة إلى بشريته، و لكان معنى الكلام عائدا إلى المراد من قولهم بعد: و ما نرى لكم علينا من فضل، و كان فضلا من الكلام.

و من العجب استفادته من الكلام مساواته (عليه السلام) لهم في البيت و الشخصية ثم قوله: «و هكذا كان كل رسول من وسط قومه» و في الرسل مثل إبراهيم و سليمان و أيوب (عليه السلام).

و قوله: ﴿وَ مَا نَرَاكَ اِتَّبَعَكَ إِلاَّ اَلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ اَلرَّأْيِ قال في المفردات،: الرذل بفتح الراء و الرذال بكسرها المرغوب عنه لرداءته قال تعالى: ﴿وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِليَ‏ أَرْذَلِ اَلْعُمُرِ و قال: ﴿إِلاَّ اَلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ اَلرَّأْيِ و قال: ﴿قَالُوا أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اِتَّبَعَكَ اَلْأَرْذَلُونَ جمع الأرذل.

و قال في المجمع،:الرذل‏ الخسيس الحقير من كل شي‏ء و الجمع أرذل ثم يجمع على أراذل كقولك: كلب و أكلب و أكالب، و يجوز أن يكون جمع الأرذل فيكون مثل أكابر جمع أكبر.

و قال: و الرأي‏ الرؤية من قوله: ﴿يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ اَلْعَيْنِ أي رؤية العين

 

 

 

 و الرأي أيضا ما يراه الإنسان في الأمر و جمعه آراء. انتهى.

و قال في المفردات،: و قوله: ﴿بَادِيَ اَلرَّأْيِ أي ما يبدأ من الرأي و هو الرأي الفطير، و قرئ: بادي‏ بغير همزة أي الذي يظهر من الرأي و لم يترو فيه. انتهى.

و قوله: ﴿بَادِيَ اَلرَّأْيِ يحتمل أن يكون قيدا لقوله: ﴿هُمْ أَرَاذِلُنَا أي كونهم أراذل و سفلة فينا معلوم في ظاهر الرأي و النظر أو في أول نظرة.

و يحتمل كونه قيدا لقوله: ﴿اِتَّبَعَكَ أي اتبعوك في ظاهر الرأي أو في أوله من غير تعمق و تفكر و لو تفكروا قليلا و قلبوا أمرك ظهرا لبطن ما اتبعوك، و هذا الاحتمال لا يستغني عن تكرار الفعل ثانيا و التقدير: اتبعوك بادي الأمر و إلا اختل المعنى لو لم يتكرر و قيل: ما نراك اتبعك في بادي الرأي إلا الذين هم أراذلنا.

و بالجملة معنى الآية: أنا نشاهد أن متبعيك هم الأراذل و الأخساء من القوم و لو اتبعناك ساويناهم و دخلنا في زمرتهم و هذا ينافي شرافتنا و يحط قدرنا في المجتمع، و في الكلام إيماء إلى بطلان رسالته (عليه السلام) بدلالة الالتزام فإن من معتقدات العامة أن القول لو كان حقا نافعا لتبعه الشرفاء و العظماء و أولوا القوة و الطول فلو استنكفوا عنه أو اتبعه الأخساء و الضعفاء كالعبيد و المساكين و الفقراء ممن لا حظ له من مال أو جاه و لا مكانة له عند العامة فلا خير فيه.

و قوله: ﴿وَ مَا نَريَ‏ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ المراد نفي مطلق الفضل من متاع دنيوي يختصون بالتنعم به أو شي‏ء من الأمور الغيبية كعلم الغيب أو التأيد بقوة ملكوتية و ذلك لكون النكرة فضل واقعة في سياق النفي فتفيد العموم.

و قد أشركوا أتباع نوح (عليه السلام) و المؤمنين به منهم في دعوته إذ قالوا: ﴿وَ مَا نَريَ‏ لَكُمْ عَلَيْنَا و لم يقولوا: «و لا نرى لك» لأنهم كانوا يحثونهم و يرغبونهم في اتباع ما اتبعوه من الطريقة.

و المعنى أن دعوتكم إيانا و عندنا ما نتمتع به من مزايا الحياة الدنيا كالمال و البنين و العلم و القوة إنما يستقيم و يؤثر أثره لو كان لكم شي‏ء من الفضل تفضلون به علينا من زينة الحياة الدنيا أو علم من الغيب أو قوة من الملكوت حتى يوجب

 

 

 

 ذلك خضوعا منا لكم و لا نرى شيئا من ذلك عندكم فأي موجب يوجب علينا اتباعكم؟.

و إنما عممنا الفضل في كلامه للفضل من حيث الجهات المادية و غيره كعلم الغيب و القوة الملكوتية خلافا لأكثر المفسرين حيث فسروا الفضل بالفضل المادي كالمال و الكثرة و غيرهما، لما يستفاد من كلامهم من العموم لوقوع النكرة في سياق النفي.

مضافا إلى أن ما يحاذي قولهم هذا من جواب نوح (عليه السلام) يدل على ذلك و هو قوله: ﴿وَ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اَللَّهِ وَ لاَ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ وَ لاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ إلخ على ما سيأتي.

و قوله تعالى: ﴿بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ إضراب في الاحتجاج كما تقدمت الإشارة إليه فمحصله أنا لا نرى معكم أمرا يوجب اتباعنا لكم بل هناك أمر يوجب عدم الاتباع و هو أنا نظنكم كاذبين.

و معناه على ما يعطيه السياق و الله أعلم أنه لما لم يكن عندكم ما يشاهد معه صحة دعوتكم و أنكم تلحون علينا بالسمع و الطاعة و أنتم صفر الأيدي من مزايا الحياة من مال و جاه و هذه الحال تستدعي الظن بأنكم كاذبون في دعواكم تريدون بها نيل ما بأيدينا من أماني الحياة بهذه الوسيلة و بالجملة هذه أمارة توجب عادة الظن بأنها أكذوبة يتوسل بها إلى اقتناء الأموال و القبض على ثروة الناس و الاستعلاء عليهم بالحكم و الرئاسة، و هذا كما حكى الله سبحانه عنهم في مثل القصة إذ قال﴿فَقَالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ المؤمنون: - ٢٤. و بهذا يظهر وجه تعليقهم الكذب بالظن دون الجزم، و أن المراد بالكذب الكذب المخبري دون الخبري.

قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَليَ‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي إلى آخر الآية بيان لما أجاب به نوح (عليه السلام) عن حجتهم إلى تمام أربع آيات، و التعمية الإخفاء فمعنى عميت عليكم بالبناء للمفعول أخفيت عليكم من ناحية جهلكم و كراهتكم للحق. و قرئ عميت بالتخفيف و البناء للفاعل أي خفيت عليكم تلك الرحمة.

لما كانت حجتهم مبنية على الحس و نفي ما وراءه و قد استنتجوا منها أولا

 

 

 

عدم الدليل على وجوب طاعته و اتباعه ثم أضربوا عنه بالترقي إلى استنتاج الدليل على عدم الوجوب بل على وجوب العدم أجابهم (عليه السلام) بإثبات ما حاولوا نفيه من رسالته و ما يتبعه، و نفي ما حاولوا إثباته باتهامه و اتهام أتباعه بالكذب غير أنه استعطفهم بخطاب يا قوم بالإضافة إلى ضمير التكلم مرة بعد مرة ليجلبهم إليه فيقع نصحه موقع القبول منهم.

و قد أبدع الآيات الكريمة في تقرير حجته (عليه السلام) في جوابهم فقطعت حجتهم فصلا فصلا و أجابت عن كل فصل بوجهيه أعني من جهة إنتاجه أن لا دليل على اتباعه (عليه السلام) و أن الدليل على خلافه و ذلك قوله: ﴿يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَليَ‏ بَيِّنَةٍ إلخ، و قوله: ﴿وَ مَا أَنَا بِطَارِدِ اَلَّذِينَ آمَنُوا إلخ، و قوله: ﴿وَ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اَللَّهِ إلخ، ثم أخذت من كل حجة سابقة شيئا يجري مجرى التلخيص فإضافته إلى الحجة اللاحقة بادئة به فامتزجت الحجة بالحجة على ما لكل منها من الاستقلال و التمام.

فتمت الحجج ثلاثا كل واحدة منها مبدوءة بالخطاب و هي قوله: ﴿يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَليَ‏ بَيِّنَةٍ إلخ، و قوله: ﴿وَ يَا قَوْمِ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إلخ، و قوله:

﴿وَ يَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اَللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ إلخ، فتدبر فيها.

فقوله: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَليَ‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي جواب عن قولهم:

﴿مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا يريدون به أنه ليس معه إلا البشرية التي يماثلهم فيها و يماثلونه فبأي شي‏ء يدعي وجوب اتباعهم له؟ بل هو كاذب يريد بما يدعيه من الرسالة أن يصطادهم فيقتنص بذلك أموالهم و يترأس عليهم.

و إذ كان هذا القول منهم متضمنا لنفي رسالته و سندهم في ذلك أنه بشر لا أثر ظاهر معه يدل على الرسالة و الاتصال بالغيب كان من الواجب تنبيههم على ما يظهر به صدقه في دعوى الرسالة و هو الآية المعجزة الدالة على صدق الرسول في دعوى الرسالة فإن الرسالة نوع من الاتصال بالغيب خارق للعادة الجارية لا طريق إلى العلم بتحققه إلا بوقوع أمر غيبي آخر خارق للعادة يوقن به كون الرسول صادقا في دعواه الرسالة، و لذلك أشار (عليه السلام) بقوله: ﴿يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَليَ‏ بَيِّنَةٍ مِنْ

 

 

 

 رَبِّي إلى أن معه بينة من الله و آية معجزة تدل على صدقه في دعواه.

و من هنا يظهر أن المراد بالبينة الآية المعجزة التي تدل على ثبوت الرسالة لأن ذلك هو الذي يعطيه السياق فلا يعبأ بما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالبينة في الآية العلم الضروري الذي يعلم به النبي أنه نبي و ذلك لكونه معنى أجنبيا عن السياق.

و قوله: ﴿وَ آتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ الظاهر أنه (عليه السلام) يشير به إلى ما آتاه الله تعالى من الكتاب و العلم، و قد تكرر في القرآن الكريم تسمية الكتاب و كذا تسمية العلم بالله و آياته رحمة قال تعالى﴿وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسيَ‏ إِمَاماً وَ رَحْمَةً هود: - ١٧، و قال﴿وَ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً النحل: - ٨٩، و قال﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا الكهف: - ٦٥، و قال﴿رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَ هَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً آل عمران: - ٨.

و أما قوله: ﴿فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ فالظاهر أن ضميره راجع إلى الرحمة، و المراد أن ما عندي من العلم و المعرفة أخفاها عليكم جهلكم و كراهتكم للحق بعد ما ذكرتكم به و بثثته فيكم.

و قوله: ﴿أَ نُلْزِمُكُمُوهَا وَ أَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ الإلزام‏ جعل الشي‏ء مع الشي‏ء بحيث لا يفارقه و لا ينفك منه، و المراد بإلزامهم الرحمة و هم لها كارهون إجبارهم على الإيمان بالله و آياته و التلبس بما يستدعيه المعارف الإلهية من النور و البصيرة.

و معنى الآية و الله أعلم أخبروني إن كانت عندي آية معجزة تصدق رسالتي مع كوني بشرا مثلكم و كانت عندي ما تحتاج إليه الرسالة من كتاب و علم يهديكم الحق لكن لم يلبث دون أن أخفاه عليكم عنادكم و استكباركم أ يجب علينا عندئذ أن نجبركم عليها؟ أي عندي جميع ما يحتاج إليه رسول من الله في رسالته و قد أوقفتكم عليه لكنكم لا تؤمنون به طغيانا و استكبارا و ليس علي أن أجبركم عليها، إذ لا إجبار في دين الله سبحانه.

ففي الكلام تعريض لهم أنه قد تمت عليهم الحجة و بانت لهم الحقيقة فلم يؤمنوا

 

 

 

لكنهم مع ذلك يريدون أمرا يؤمنون لأجله و ليس إلا الإجبار و الإلزام على كراهية، فهم في قولهم: لا نراك إلا بشرا مثلنا، لا يريدون إلا الإجبار، و لا إجبار في دين الله.

و الآية، من جملة الآيات النافية للإكراه في الدين تدل على أن ذلك من الأحكام الدينية المشرعة في أقدم الشرائع و هي شريعة نوح (عليه السلام) و هو باق على اعتباره حتى اليوم من غير نسخ.

و قد ظهر مما تقدم أن الآية، أعني قوله: ﴿يَا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ إلخ، جواب عن قولهم: ﴿مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا و يظهر بذلك فساد قول بعضهم:

إنه جواب عن قولهم: ﴿بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ و قول آخرين: إنه جواب عن قولهم:

﴿مَا نَرَاكَ اِتَّبَعَكَ إِلاَّ اَلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ اَلرَّأْيِ و قول طائفة أخرى أنه جواب عن قولهم: ﴿وَ مَا نَريَ‏َلَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ و لا نطيل الكلام بالتعرض لتوضيحها و ردها.

قوله تعالى: ﴿وَ يَا قَوْمِ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اَللَّهِ يريد به الجواب عما اتهموه به من الكذب و لازمه أن تكون دعوته طريقا إلى جلب أموالهم و أخذ ما في أيديهم طمعا فيه فإنه إذا لم يسألهم شيئا من أموالهم لم يكن لهم أن يتهموه بذلك.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَنَا بِطَارِدِ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاَقُوا رَبِّهِمْ وَ لَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ جواب عن قولهم: ﴿وَ مَا نَرَاكَ اِتَّبَعَكَ إِلاَّ اَلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ اَلرَّأْيِ و قد بدل لفظة الأراذل و هي لفظة إرزاء و تحقير من قوله: الذين آمنوا تعظيما لأمر إيمانهم و إشارة إلى ارتباطهم بربهم.

نفى في جوابه أن يكون يطردهم و علل ذلك بقوله: ﴿إِنَّهُمْ مُلاَقُوا رَبِّهِمْ إيذانا بأن لهم يوما يرجعون فيه إلى الله فيحاسبهم على أعمالهم فيجازيهم على ما عملوه من خير أو شر فحسابهم على ربهم و ليس لغيره من الأمر شي‏ء، فليس على نوح (عليه السلام) أن يحاسبهم فيجازيهم بشي‏ء لكن القوم لجهالتهم يتوقعون على الفقراء و المساكين و الضعفاء أن يطردوا من مجتمع الخير و يسلبوا النعمة و الشرافة و الكرامة.

فظهر أن المراد بقوله: ﴿إِنَّهُمْ مُلاَقُوا رَبِّهِمْ الإيمان إلى محاسبة الله سبحانه

 

 

 

 إياهم يوم يرجعون فيه إليه فيلاقونه كما وقع في نظير هذا المعنى في قوله تعالى‏﴿وَ لاَ تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَ اَلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ وَ مَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ اَلظَّالِمِينَ الأنعام: - ٥٧.

و أما قول من قال: إن معنى قوله: ﴿إِنَّهُمْ مُلاَقُوا رَبِّهِمْ إنه لا يطردهم لأنهم ملاقوا ربهم فيجازي من ظلمهم و طردهم، أو أنهم ملاقوا ثواب ربهم فكيف يكونون أراذل و كيف يجوز طردهم و هم لا يستحقون ذلك، فبعيد عن الفهم. على أن أول المعنيين يجعل الآية التالية أعني قوله: ﴿وَ يَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اَللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ الآية زائدة مستغنى عنها كما هو ظاهر.

و ظهر أيضا أن المراد بقوله: ﴿وَ لَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ جهلهم بأمر المعاد و أن الحساب و الجزاء إلى الله لا إلى غيره، و أما ما ذكره بعضهم أن المراد به الجهالة المضادة للعقل و الحلم أي تسفهون عليهم أو المراد أنكم تجهلون أن حقيقة الامتياز بين إنسان و إنسان باتباع الحق و عمل البر و التحلي بالفضائل لا بالمال و الجاه كما تظنون فهو معنى بعيد عن السياق.

قوله تعالى: ﴿وَ يَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اَللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَ فَلاَ تَذَكَّرُونَ النصر مضمن معنى المنع أو الإنجاء و نحوهما و المعنى من يمنعني أو من ينجيني من عذاب الله إن طردتهم أ فلا تتذكرون أنه ظلم، و الله سبحانه ينتصر للمظلوم من الظالم و ينتقم منه، و العقل جازم بأن الله سبحانه لا يساوي بين الظالم و المظلوم، و لا يدع الظالم يظلم دون أن يجازيه على ظلمه بما يسوؤه و يشفي به غليل صدر المظلوم و الله عزيز ذو انتقام.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اَللَّهِ وَ لاَ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ وَ لاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ جواب عن قولهم: ﴿وَ مَا نَريَ‏ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ يرد عليهم قولهم بأني لست أدعي شيئا من الفضل الذي تتوقعون مني أن أدعيه بما أني أدعي الرسالة فإنكم تزعمون أن على الرسول أن يملك خزائن الرحمة الإلهية فيستقل بإغناء الفقير و شفاء العليل و إحياء الموتى و التصرف في السماء و الأرض و سائر أجزاء الكون بما شاء و كيف شاء.

 

 

 

 و أن يملك علم الغيب فيحصل على كل خير محجوب عن العيون مستور عن الأبصار فيجلبه إلى نفسه، و يدفع كل شر مستقبل كامن عن نفسه و بالجملة يستكثر من الخيرات و يصان من المكاره.

و أن يرتفع عن درجة البشرية إلى مقام الملكية أي يكون ملكا منزها من ألواث الطبيعة و مبرى من حوائج البشرية و نقائصها فلا يأكل و لا يشرب و لا ينكح و لا يقع في تعب اكتساب الرزق و اقتناء لوازم الحياة و أمتعتها.

فهذه هي جهات الفضل التي تزعمون أن الرسول يجب أن يؤتاها و يمتلكها فيستقل بها، و قد أخطأتم فليس للرسول إلا الرسالة و إني لست أدعي شيئا من ذلك فلا أقول لكم عندي خزائن الله و لا أعلم الغيب و لا أقول إني ملك، و بالجملة لست أدعي شيئا من الفضل الذي تتوقعونه حتى تكذبوني بفقده، و إنما أقول إني على بينة من ربي تصدق رسالتي و آتاني رحمة من عنده.

و المراد بقوله: ﴿خَزَائِنُ اَللَّهِ جميع الذخائر و الكنوز الغيبية التي ترزق المخلوقات منها ما يحتاجون إليه في وجودهم و بقائهم و يستعينون به على تتميم نقائصهم و تكميلها.

فهاتيك هي التي تزعم العامة أن الأنبياء و الأولياء يؤتون مفاتيحها و يمتلكون بها من القدرة ما يفعلون بها ما يشاءون و يحكمون ما يريدون كما اقترح على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد حكاه الله تعالى إذ يقول﴿وَ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ اَلْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ اَلْأَنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ اَلسَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ اَلْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقيَ‏ فِي اَلسَّمَاءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً إسراء: - ٩٣.

و إنما قال: ﴿وَ لاَ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ و لم يقل: و لا أقول إني أعلم الغيب لأن هذا النوع من العلم لما كان مما يضن به و لا يسمح بإظهاره لم يكن قول القائل: لا أقول

 

 

 

 إني أعلم الغيب نافيا لوجوده عند القائل بل يحتاج إلى أن يقال: لا أعلم الغيب ليفيد النفي بخلاف قوله: ﴿لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اَللَّهِ و قوله: ﴿وَ لاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ، و لم يكرر قوله: ﴿لَكُمْ لحصول الكفاية بالواحدة.

و قد أمر الله سبحانه نبيه محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يخاطب قومه بما خاطب به نوح (عليه السلام) قومه ثم ذيله بما يظهر به المراد إذ قال﴿قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اَللَّهِ وَ لاَ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ وَ لاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحيَ‏ إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلْأَعْميَ‏ وَ اَلْبَصِيرُ أَ فَلاَ تَتَفَكَّرُونَ الأنعام: - ٥٠.

انظر إلى قوله: ﴿لاَ أَقُولُ لَكُمْ إلخ، ثم إلى قوله: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحيَ‏ إِلَيَّ ثم إلى قوله: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلْأَعْميَ‏وَ اَلْبَصِيرُ إلخ، فهو ينفي أولا الفضل الذي يتوقعه عامة الناس من نبيهم ثم يثبت للرسول الرسالة فحسب ثم يبادر إلى إثبات الفضل من جهة أخرى غير الجهة التي يتوقعها الناس و هو أنه بصير بإبصار الله تعالى و أن غيره بالنسبة إليه كالأعمى بالنسبة إلى البصير و هذا هو الموجب لاتباعهم له كما يتبع الأعمى البصير، و هو المجوز له أن يدعوهم إلى اتباعه.

(كلام في قدرة الأنبياء و الأولياء فلسفي قرآني)

الناس في جهل بمقام ربهم و غفلة عن معنى إحاطته و هيمنته فهم مع ما تهديهم الفطرة الإنسانية إلى وجوده و أحديته يسوقهم الابتلاء بعالم المادة و الطبيعة و التوغل في الأحكام و القوانين الطبيعية ثم السنن و النواميس الاجتماعية و الأنس بالكثرة و البينونة إلى قياس العالم الربوبي بما ألفوا من عالم المادة فالله سبحانه عندهم مع خلقه كجبار من جبابرة البشر مع عبيده و رعيته.

فهناك فرد من الإنسان نسميه مثلا ملكا أو جبارا دونه وزراء و أمراء و الجنديون و الجلاوزة يجرون ما يأمر به أو ينهى أنه و له عطايا و مواهب لمن شاء و إرادة و كراهة و أخذ و رد و قبض و إطلاق و رحمة و سخط و قضاء و نسخ إلى غير ذلك.

 

 

 

و كل من الملك و خدمه و أياديه العمالة و رعاياه و ما يدور بأيديهم من النعم و أمتعة الحياة أمر موجود محدود مستقل الوجود منفصلة عن غيره إنما يرتبط بعضهم ببعض بأحكام و قوانين و سنن اصطلاحية لا موطن لها سوى ذهن الذاهن و اعتقاد المعتقد.

و قد طبقوا العالم الربوبي أعني ما يخبر به النبوة من مقام الرب تعالى و صفاته و أفعاله و ملائكته و كتبه و رسله على هذا النظام فهو تعالى يريد و يكره و يعطي و يمنع و يدبر نظام الخلقة كما يفعل ذلك الواحد منا المسمى ملكا، و هو محدود الوجود منعزل الكون و كل من ملائكته و سائر خليقته مستقل الوجود يملك ما عنده من الوجود و النعم الموهوبة دون الله سبحانه، و قد كان تعالى في أزل الزمان وحده لا شي‏ء معه من خلقه ثم أبدع في جانب الأبد الخلق فكانوا معه.

فقد أثبتوا كما ترى موجودا محدودا منطبق الوجود على الزمان غير أن وجوده الزماني دائمي، و له قدرة على كل شي‏ء، و علم بكل شي‏ء، و إرادة لا تنكسر و قضاء لا ترد، يستقل بما عنده من الصفات و الأعمال كما يستقل الواحد منا فيملك ما عنده من الحياة و العلم و القدرة و غير ذلك فحياته حياة له و ليست لله، و علمه علمه لا علم الله، و قدرته قدرته لا قدرة الله و هكذا، و إنما يقال لوجودنا أو حياتنا أو علمنا أو قدرتنا أنها لله كما يقال لما عند الرعية من النعمة أنها للملك بمعنى أنها كانت عنده فأخرجها من عنده و وضعها عندنا نتصرف فيها فجميع ذلك كما ترى يقوم على أساس المحدودية و الانعزال.

لكن البراهين اليقينية تقضي بفساد ذلك كله فإنها تحكم بسريان الفقر و الحاجة إلى الموجودات الممكنة في ذواتها و آثار ذواتها و إذا كانت الحاجة إليه تعالى في مقام الذات استحال الاستقلال عنه و الانعزال منه على الإطلاق إذ لو فرض استقلال لشي‏ء منه تعالى في وجوده أو شي‏ء من آثار وجوده بأي وجه فرض في حدوث أو بقاء استغنى عنه من تلك الجهة و هو محال.

فكل ممكن غير مستقل في شي‏ء من ذاته و آثار ذاته، و الله سبحانه هو الذي يستقل في ذاته و هو الغني الذي لا يفتقر في شي‏ء و لا يفقد شيئا من الوجود و كمال

 

 

 

 الوجود كالحياة و القدرة و العلم فلا حد له يتحدد به. و قد تقدم بعض التوضيح لهذه المسألة في ذيل تفسير قوله تعالى﴿لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اَللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ المائدة: - ٧٣.

و على ما تقدم كان ما للممكن من الوجود أو الحياة أو القدرة أو العلم متعلق الوجود به تعالى غير مستقل منه بوجه، و لا فرق في ذلك بين القليل و الكثير ما كانت خصيصة عدم الاستقلال محفوظة فيه فلا مانع من فرض ممكن له علم بكل شي‏ء أو قدرة على كل شي‏ء أو حياة دائمة ما دام غير مستقل الوجود عن الله سبحانه و لا منعزل الكون منه كما لا مانع من تحقق الممكن مع وجود موقت ذي أمد أو علم أو قدرة متعلقين ببعض الأشياء دون بعض. نعم فرض الاستقلال يبطل الحاجة الإمكانية و لا فرق فيه بين الكثير و القليل كما عرفت، هذا من جهة العقل.

و أما من جهة النقل فالكتاب الإلهي و إن كان ناطقا باختصاص بعض الصفات و الأفعال به تعالى كالعلم بالمغيبات و الإحياء و الإماتة و الخلق كما في قوله﴿وَ عِنْدَهُ مَفَاتِحُ اَلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ الأنعام: - ٥٩، و قوله﴿وَ أَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَ أَحْيَاالنجم: - ٤٤: و قوله ﴿اَللَّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا الزمر: - ٤٢، و قوله‏ ﴿ اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ الزمر: - ٦٢، إلى غير ذلك من الآيات لكنها جميعا مفسرة بآيات أخر كقوله﴿عَالِمُ اَلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَليَ‏ غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ اِرْتَضيَ‏ مِنْ رَسُولٍالجن: - ٢٧، و قوله﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ الم السجدة: - ١١، و قوله عن عيسى (عليه السلام) ﴿ وَ أُحْيِ اَلْمَوْتيَ‏ بِإِذْنِ اَللَّهِ آل عمران: - ٤٩، و قوله﴿وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي المائدة: - ١١٠ إلى غير ذلك من الآيات.

و انضمام الآيات إلى الآيات لا يدع شكا في أن المراد بالآيات النافية اختصاص هذه الأمور به تعالى بنحو الأصالة و الاستقلال و المراد بالآيات المثبتة إمكان تحققها في غيره تعالى بنحو التبعية و عدم الاستقلال.

فمن أثبت شيئا من العلم المكنون أو القدرة الغيبية أعني العلم من غير طريق الفكر و القدرة من غير مجراها العادي الطبيعي لغيره تعالى من أنبيائه و أوليائه

 

 

 

 كما وقع كثيرا في الأخبار و الآثار و نفى معه الأصالة و الاستقلال بأن يكون العلم و القدرة مثلا له تعالى و إنما ظهر ما ظهر منه بالتوسيط و وقع ما وقع منه بإفاضته وجوده فلا حجر عليه.

و من أثبت شيئا من ذلك على نحو الأصالة و الاستقلال طبق ما يثبته الفهم العامي و إن أسنده إلى الله سبحانه و فيض رحمته لم يخل من غلو و كان مشمولا لمثل قوله﴿لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لاَ تَقُولُوا عَلَى اَللَّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ النساء: - ١٧١.

(بيان)

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اَللَّهُ خَيْراً اَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ اَلظَّالِمِينَ قال في المفردات،: زريت‏ عليه عبته و أزريت به قصرت به و كذلك ازدريت به و أصله افتعلت قال: تزدري أعينكم أي تستقلهم تقديره تزدريهم أعينهم أي تستقلهم و تستهين بهم. انتهى.

و هذا الفصل من كلامه (عليه السلام) إشارة إلى ما كان يعتقده الملأ الذين كفروا من قومه و بنوا عليه سنة الأشرافية و طريقة السيادة، و هو أن أفراد الإنسان تنقسم إلى قسمين الأقوياء و الضعفاء، أما الأقوياء فهم أولوا الطول و أرباب القدرة المعتضدون بالمال و العدة، و أما الضعفاء فهم الباقون. و الأقوياء هم السادة في المجتمع الإنساني لهم النعمة و الكرامة، و لأجلهم انعقاد المجتمع، و غيرهم من الضعفاء مخلوقون لأجلهم مقصودون لهم أضاحي منافعهم كالرعية بالنسبة إلى كرسي الحكومة المستبدة، و العبيد بالنسبة إلى الموالي، و الخدم و العملة بالنسبة إلى المخدومين و النساء بالنسبة إلى الرجال، و بالأخرة كل ضعيف بالنسبة إلى القوي المستعلي عليه.

و بالجملة كان معتقدهم أن الضعيف في المجتمع إنسان منحط أو حيوان في صورة إنسان إنما يرد داخل المجتمع و يشاركهم في الحياة ليستفيد الشريف من عمله و ينتفع من كد يمينه لحياته من غير عكس بل هو محروم من الكرامة مطرود عن حظيرة الشرافة آيس من الرحمة و العناية.

فهذا هو الذي كانوا يرونه و كان هو المعتمد عليه في مجتمعهم، و قد رد نوح (عليه السلام) ذلك إليهم بقوله: ﴿وَ لاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اَللَّهُ خَيْراً.

 

 

 

ثم بين خطأهم في معتقدهم بقوله: ﴿اَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ أي إن أعينكم إنما تزدريهم و تستحقرهم و تستهين أمرهم لما تحس ظاهر ضعفهم و هوانهم، و ليس هو الملاك في إحراز الخير و نيل الكرامة بل الملاك في ذلك و خاصة الكرامات و المثوبات الإلهية أمر النفس و تحليها بحلي الفضيلة و المنقبة المعنوية، و لا طريق لي و لا لكم إلى العلم ببواطن النفوس و خبايا القلوب إلا لله سبحانه فليس لي و لا لكم أن نحكم بحرمانهم من الخير و السعادة.

ثم بين بقوله: ﴿إِنِّي إِذاً لَمِنَ اَلظَّالِمِينَ السبب في تحاشيه عن هذا القول و معناه أنه قول بغير علم، و تحريم الخير على من يمكن أن يستحقه جزافا من غير دليل ظلم لا ينبغي أن يرومه الإنسان فيدخل بذلك في زمرة الظالمين.

و هذا المعنى هو الذي يشير تعالى إليه فيما يحكيه من كلام أهل الأعراف يوم القيامة خطابا لهؤلاء الطاغين إذ يقول﴿وَ نَاديَ‏ أَصْحَابُ اَلْأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنيَ‏عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَ مَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَ هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اَللَّهُ بِرَحْمَةٍ الأعراف: - ٤٩.

و في الكلام أعني قول نوح (عليه السلام): ﴿وَ لاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ إلخ، تعريض لهم أنهم كما كانوا يحرمون على ضعفاء المجتمع المزايا الحيوية الاجتماعية كذلك كانوا يحرمون عليهم الكرامة الدينية و يقولون: إنهم لا يسعدون بدين و إنما يسعد به أشراف المجتمع و أقوياؤهم، و فيه أيضا تعريض بأنهم ظالمون.

و إنما عقب نوح (عليه السلام) قوله: ﴿وَ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اَللَّهِ وَ لاَ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ وَ لاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ و هو ينفي فيه جهات الامتياز التي كانوا يتوقعونها في الرسول عن نفسه، بقوله: ﴿وَ لاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اَللَّهُ خَيْراً إلخ، مع أنه راجع إلى الضعفاء الذين آمنوا به من قومه لأن الملأ ألحقوهم به في قولهم:

﴿وَ مَا نَريَ‏ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ.

و توضيحه أن معنى قولهم هذا أن اتباعنا لك و لمن آمن بك من هؤلاء الأراذل إنما يستقيم لفضل يتم لكم علينا و لا نرى لكم علينا من فضل أما أنت فليس معك ما يختص به الرسول من قدرة ملكوتية أو علم بالغيب أو أن تكون

 

 

 

 ملكا منزها من ألواث المادة و الطبيعة، و أما المؤمنون بك فإنما هم أراذلنا الآيسون من كرامة الإنسانية المحرومون من الرحمة و العناية.

فأجاب عنهم نوح بما معناه: أما أنا فلا أدعي شيئا مما تتوقعون من رسالتي فليست للرسول إلا الرسالة و أما هؤلاء الضعفاء الذين لهم هوان عندكم فمن الجائز أن يعلم الله من نفوسهم خيرا فيؤتيهم خيرا و فضلا فهو أعلم بأنفسهم، و ملاك الكرامة الدينية و الرحمة الإلهية زكاء النفس و سلامة القلب دون الظاهر الذي تزدريه أعينكم فلست أقول: لن يؤتيهم الله خيرا، فإنه ظلم يدخلني في زمرة الظالمين.

قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصَّادِقِينَ كلام ألقوه إلى نوح (عليه السلام) بعد ما عجزوا عن دحض حجته و إبطال ما دعا إليه من الحق، و هو مسوق سوق التعجيز و المراد بقولهم: ﴿بِمَا تَعِدُنَا﴾ ما أنذرهم به في أول دعوته من عذاب يوم أليم.

و قد أورد الله سبحانه قولهم هذا فصلا من غير تفريع لأنهم إنما قالوه بعد ما لبث فيهم أمدا بعيدا يدعوهم إلى التوحيد و يخاصمهم و يحاجهم بفنون الخصام و الحجاج حتى قطع جميع معاذيرهم و أنار الحق لهم كما يدل عليه قوله تعالى فيما يحكي عنه (عليه السلام) في دعائه﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهَاراً إلى أن قال ﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً نوح: - ٩ و في سورة العنكبوت﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً العنكبوت: - ١٤.

فهذا الذي أورده الله من حجاجه قومه و جوابهم في شكل محاورة واحدة إنما وقع في مآت من السنين، و هو كثير النظير في القرآن الكريم و لا بدع فيه فإن الذي يقتص ذلك هو الله سبحانه المحيط بالدهر و بكل ما فيه و الذي يسمعها بالوحي هو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قد أوتي من سعة النظر ما يجتمع عنده أشتات الأمم و أطراف الزمان.

و المعنى و الله أعلم يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا حتى سئمنا و مللنا و ما نحن لك بمؤمنين فأتنا بما تعدنا من العذاب، و هم لا يعترفون بالعجز عن خصامه و جداله بل يؤيسونه من أنفسهم في الحجاج و يطلبون منه أن يشتغل بما يشتغل

 

 

 

 الداعي الآيس من السمع و الطاعة و هو الشر الذي يهددهم به و يذكره وراء نصحه.

قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اَللَّهُ إِنْ شَاءَ وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ لما كان قولهم: ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إلخ، طلبا منه أن يأتيهم بالعذاب و ليس ذلك إليه فإنما هو رسول، أجاب عن اقتراحهم هذا أيضا في سياق قصر القلب أن الإتيان بالعذاب ليس إلي بل إنما هو إلى الله فهو الذي يملك أمركم فيأتيكم بالعذاب الذي وعدتكموه بأمره فهو ربكم و إليه مرجع أمركم كله، و لا يرجع إلي من أمر التدبير شي‏ء حتى أن وعدي إياكم بالعذاب و اقتراحكم علي بطلبه لا يؤثر في ساحة كبريائه شيئا فإن يشأ يأتكم به و أن لم يشأ فلا.

و من هنا يظهر أن قوله (عليه السلام): ﴿إِنْ شَاءَ من ألطف القيود في هذا المقام أفيد به حق التنزيه و هو أن الله سبحانه لا يحكم فيه شي‏ء و لا يقهره قاهر يفعل ما يشاء و لا يفعل ما يشاء غيره نظير ما سيأتي في آخر السورة من الاستثناء في قوله‏﴿ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ اَلسَّمَاوَاتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ هود: - ١٠٨.

و قوله: ﴿وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ تنزيه آخر لله سبحانه و هو مع ذلك جواب عن الأمر التعجيزي الذي ألقوه إليه (عليه السلام) فإن ظاهره أنهم لا يعبئون بما هددهم به من العذاب كأنهم معجزون لا يقدر عليهم.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اَللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ إلخ، قال في المفردات،: النصح‏ تجري فعل أو قول فيه صلاح صاحبه قال و هو من قولهم نصحت له الود أي أخلصته و ناصح العسل خالصة أو من قولهم: نصحت الجلد خطته و الناصح الخياط و النصاح الخيط.

و قال أيضا: الغي‏ جهل من اعتقاد فاسد، و ذلك أن الجهل قد يكون من الإنسان غير معتقد اعتقادا لا صالحا و لا فاسدا، و قد يكون من اعتقاد شي‏ء فاسد، و هذا النحو الثاني يقال له غي قال تعالى: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَ مَا غَوى‏، و قال:

﴿وَ إِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي اَلغَيِّ. انتهى.

و على هذا فالفرق بين الإغواء و الإضلال أن الإضلال‏ إخراج من الطريق مع

 

 

 

 بقاء المقصد في ذكر الضال، و الإغواء إخراجه منه مع زواله عن ذكره لاشتغاله بغيره جهلا.

و الإرادة و المشية كالمترادفتين، و هي من الله سبحانه تسبيب الأسباب المؤدية لوجود شي‏ء بالضرورة فكون الشي‏ء مرادا له تعالى أنه تمم أسباب وجوده و أكملها فهو كائن لا محالة، و أما أصل السببية الجارية فهي مرادة بنفسها و لذا قيل: خلق الله الأشياء بالمشية و المشية بنفسها.

و بالجملة قوله: ﴿وَ لاَ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إلخ، كأحد شقي الترديد و الشق الآخر قوله: ﴿وَ مَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ كأنه (عليه السلام) يقول: أمركم إلى الله إن شاء أن يعذبكم أتاكم بالعذاب و لا يدفع عذابه و لا يقهر مشيته شي‏ء فلا أنتم معجزوه، و لا نصحي ينفعكم إن أردت أن أنصح لكم بعد ما أراد الله أن يغويكم لتكفروا به فيحق عليكم كلمة العذاب، و قيد نصحه بالشرط لأنهم لم يكونوا يسلمون له أنه ينصحهم.

و الإغواء كالإضلال و إن لم يجز نسبته إليه تعالى إذا كان إغواء ابتدائيا لكنه جائز إذا كان بعنوان المجازاة كان يعصي الإنسان و يستوجب به الغواية فيمنعه الله أسباب التوفيق و يخليه و نفسه فيغوي و يضل عن سبيل الحق قال تعالى﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفَاسِقِينَ البقرة: - ٢٦.

و في الكلام إشارة إلى أن نزول عذاب الاستئصال عليهم مسبوق بالإغواء الإلهي كما يلوح إليه قوله تعالى﴿وَ إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا اَلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً إسراء: - ١٦، و قال﴿وَ قَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُمْ وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ حم السجدة: - ٢٥.

و قوله: ﴿هُوَ رَبُّكُمْ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ تعليل لقوله: ﴿وَ لاَ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إلخ، أو لقوله: ﴿إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اَللَّهُ إِنْ شَاءَ إلى قوله ﴿يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ جميعا و محصله أن أمر تدبير العباد إلى الرب الذي إليه يرجع الأمور، و الله سبحانه هو ربكم و إليه ترجعون فليس لي أن آتيكم بعذاب موعود، و ليس لكم أن تعجزوه إن شاء أن يأتيكم بالعذاب فأتاكم به لاستئصالكم و ليس لنصحي أن ينفعكم إن أراد هو أن يغويكم ليعذبكم.

 

 

 

و قد ذكروا في قوله: ﴿إِنْ كَانَ اَللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ وجوها من التأويل:

منها: أن المعنى يعاقبكم على كفركم، و قد سمى الله تعالى العذاب غيا في قوله﴿فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا مريم: - ٥٩.

و منها: أن المراد إن كان الله يريد عقوبة إغوائكم الخلق و إضلالكم إياهم و من عادة العرب أن يسمي العقوبة باسم الشي‏ء المعاقب عليه، و من هذا الباب قوله:

﴿اَللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ أي يعاقبهم على استهزائهم و قوله﴿وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اَللَّهُ آل عمران: - ٥٤ أي عذبهم على مكرهم إلى غير ذلك.

و منها: أن الإغواء بمعنى الإهلاك فالمعنى يريد أن يهلككم فهو من قولهم:

غوي الفصيل إذا فسد من كثرة شرب اللبن.

و منها: أن قوم نوح كانوا يعتقدون أن الله تعالى يضل عباده عن الدين، و أن ما هم عليه بإرادة الله، و لو لا ذلك لغيره و أجبرهم على خلافه فقال لهم نوح على وجه التعجب لقولهم و الإنكار لذلك أن نصحي لا ينفعكم إن كان القول كما تقولون.

و أنت بالتأمل فيما قدمناه تعرف أن الكلام في غنى من هذه التأويلات.

قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرَاهُ قُلْ إِنِ اِفْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَ أَنَا بَرِي‏ءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ أصل الجرم على ما ذكره الراغب في مفرداته - قطع الثمرة من الشجرة و أجرم أي صار ذا جرم، و أستعير لكل اكتساب مكروه فالجرم‏ بضم الجيم و فتحها بمعنى الاكتساب المكروه و هو المعصية.

و الآية، واقعة موقع الاعتراض، و النكتة فيه أن دعوة نوح و احتجاجاته على وثنية قومه و خاصة ما أورده الله تعالى في هذه السورة من احتجاجه أشبه شي‏ء بدعوة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، و احتجاجه على وثنية أمته.

و إن شئت زيادة تصديق في ذلك فارجع إلى سورة الأنعام و هي في الحقيقة سورة الاحتجاج و قابل ما حكاه الله تعالى عن نوح في هذه السورة ما أمر الله به النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في تلك السورة بقوله: ﴿قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اَللَّهِ وَ لاَ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ وَ لاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إلى أن قال ﴿ وَ لاَ تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ

 

 

 

 وَ اَلْعَشِيِّ إلى أن قال ﴿ قُلْ لاَ أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَ مَا أَنَا مِنَ اَلْمُهْتَدِينَ قُلْ إِنِّي عَليَ‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ.

و لك أن تطبق سائر ما ذكر من حججه ع في سورة نوح و الأعراف على ما ذكر من الحجج في سورة الأنعام و في هذه السورة فتشاهد صدق ما ادعيناه.

و لهذه المشابهة و المناسبة ناسب أن يعطف بعد ذكر حجج نوح (عليه السلام) في إنذاره قومه بأمر من الله سبحانه على ما اتهموا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و رموه بالافتراء على الله، و هو لا ينذرهم و لا يلقي إليهم من الحجج إلا كما أنذر به نوح (عليه السلام) و ألقاه من الحجج إلى قومه، و هذا كما ينذر رسول الملك قومه و المتمردين المستنكفين عن الطاعة و يلقي إليهم النصح و يتم عليهم الحجة فيرمونه بأنه مفتر على الملك و لا طاعة و لا وظيفة فيرجع إليهم بالنصح ثانيا، و يذكر لهم قصة رسول ناصح آخر من الملك إلى قوم آخرين نصح لهم بمثل ما نصح هو لهم فلم يتبصروا به فهلكوا فحيثما يذكر لهم حججه و مواعظه يبعثه الوجد و الأسف إلى أن يتذكر رميهم إياه بالافتراء فيأسف لذلك قائلا: إنكم ترمونني بالافتراء و لم أذكر لكم إلا ما بثه هذا الرسول في قومه من كلمة الحكمة و النصيحة لا جرم إن افتريته فعلي إجرامي و لا تقبلوا قولي غير أني بري‏ء من عملكم.

و قد عاد سبحانه إلى الأمر بمثل هذه المباراة ثانيا في آخر السورة بعد إيراد قصص عدة من الرسل حيث قال﴿وَ كُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ اَلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ إلى أن قال ﴿وَ قُلْ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اِعْمَلُوا عَليَ‏ مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَ اِنْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ هود: - ١٢٢.

و ذكر بعض المفسرين أن الآية، من تمام القصة و الخطاب فيها لنوح، و المعنى أم يقول قوم نوح افتراه نوح قل يا نوح إن افتريته فعلي إجرامي و أنا بري‏ء مما تجرمون، و على هذا فالكلام مشتمل على نوع التفات من الغيبة إلى الخطاب و هذا بعيد عن سياق الكلام غايته.

و في قوله: ﴿وَ أَنَا بَرِي‏ءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ إثبات إجرام مستمر لهم و قد أرسل إرسال المسلمات كما في قوله: ﴿فَعَلَيَّ إِجْرَامِي من إثبات الجرم و ذلك أن الذي

 

 

 

 ذكر من حجج نوح إن كان من الافتراء كان كذبا من حيث إن نوحا (عليه السلام) لم يحتج بهذه الحجج و هي حقة، لكنها من حيث إنها حجج عقلية قاطعة لا تقبل الكذب و هي تثبت لهؤلاء الكفار إجراما مستمرا في رفض ما يهديهم إليه من الإيمان و العمل الصالح فهم في خروجهم عن مقتضى هذه الحجج مجرمون قطعا، و النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) مجرم لا قطعا بل على تقدير أن يكون مفتريا و ليس بمفتر.

(بحث روائي)

 في تفسير العياشي، عن ابن أبي نصر البزنطي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: قال الله في نوح (عليه السلام) ﴿وَ لاَ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اَللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ قال: الأمر إلى الله يهدي و يضل.

 أقول: قد مر بيانه و في تفسير البرهان :في قوله تعالى: «أم يقولون افتراه» الآية :الشيباني في نهج البيان عن مقاتل قال :إن كفار مكة قالوا: إن محمدا افترى القرآن. قال:

و روي مثل ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).

[سورة هود (١١): الآیات ٣٦ الی ٤٩ ]

﴿وَ أُوحِيَ إِليَ‏ نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ٣٦ وَ اِصْنَعِ اَلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَ وَحْيِنَا وَ لاَ تُخَاطِبْنِي فِي اَلَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ٣٧ وَ يَصْنَعُ اَلْفُلْكَ وَ كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ٣٨ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ٣٩ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَ فَارَ اَلتَّنُّورُ قُلْنَا

 

 

 

اِحْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ اَلْقَوْلُ وَ مَنْ آمَنَ وَ مَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ٤٠ وَ قَالَ اِرْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اَللَّهِ مَجْرَاهَا وَ مُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ٤١ وَ هِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَ نَاديَ‏ نُوحٌ اِبْنَهُ وَ كَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ اِرْكَبْ مَعَنَا وَ لاَ تَكُنْ مَعَ اَلْكَافِرِينَ ٤٢ قَالَ سَآوِي إِليَ‏ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ اَلْمَاءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ اَلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اَللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَ حَالَ بَيْنَهُمَا اَلْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ اَلْمُغْرَقِينَ ٤٣ وَ قِيلَ يَا أَرْضُ اِبْلَعِي مَاءَكِ وَ يَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ اَلْمَاءُ وَ قُضِيَ اَلْأَمْرُ وَ اِسْتَوَتْ عَلَى اَلْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ ٤٤ وَ نَاديَ‏ نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ اِبْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ اَلْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ اَلْحَاكِمِينَ ٤٥ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ اَلْجَاهِلِينَ ٤٦ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ إِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ ٤٧ قِيلَ يَا نُوحُ اِهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِنَّا وَ بَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَ عَليَ‏ أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ٤٨ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَ لاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ اَلْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ٤٩

 

 

 

(بيان)

تتمة قصة نوح (عليه السلام) و هي تشتمل على فصول كإخباره (عليه السلام) بنزول العذاب على قومه، و أمره بصنع الفلك، و كيفية نزول العذاب و هو الطوفان، و قصة ابنه الغريق، و قصة نجاته و نجاة من معه لكنها جميعا ترجع من وجه إلى فصل واحد و هو فصل القضاء بينه (عليه السلام) و بين قومه.

قوله تعالى: ﴿وَ أُوحِيَ إِليَ‏ نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ الابتئاس‏ من البؤس و هو حزن مع استكانة.

و قوله: ﴿لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ إيئاس و إقناط له (عليه السلام) من إيمان الكفار من قومه بعد ذلك، و لذلك فرع عليه قوله: ﴿فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ لأن الداعي إلى أمر إنما يبتئس و يغتم من مخالفة المدعوين و تمردهم ما دام يرجو منهم الإيمان و الاستجابة لدعوته، و أما إذا يئس من إجابتهم فلا يهتم بهم و لا يتعب نفسه في دعوتهم إلى السمع و الطاعة و الإلحاح عليهم بالإقبال إليه و لو دعاهم بعدئذ فإنما يدعوهم لغرض آخر كإتمام الحجة و إبراز المعذرة.

و على هذا ففي قوله: ﴿فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تسلية من الله لنوح (عليه السلام) و تطيب لنفسه الشريفة من جهة ما في الكلام من الإشارة إلى حلول حين فصل القضاء بينه و بين قومه، و صيانة لنفسه من الوجد و الغم لما كان يشاهد من فعلهم به و بالمؤمنين به من قومهم من إيذائهم إياهم في دهر طويل (مما يقرب من ألف سنة) لبث فيه بينهم.

و يظهر من كلام بعضهم أنه استفاد من قوله: ﴿لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ أن من كفر منهم فليس يؤمن بعد هذا الحين أبدا كما أن الذين آمنوا به ثابتون على إيمانهم دائمون عليه و فيه أن العناية في الكلام إنما تعلقت ببيان عدم إيمان الكفار بعد ذلك فحسب و أما إيمان المؤمنين فلم يعن به إلا بمجرد التحقق سابقا و لا دلالة في الاستثناء على أزيد من ذلك، و أما ثباتهم و دوامهم على الإيمان فلا دليل عليه.

 

 

 

و يستفاد من الآية أولا: أن الكفار لا يعذبون ما كان الإيمان مرجوا منهم فإذا ثبتت فيهم ملكة الكفر و رجس الشرك حق عليهم كلمة العذاب.

و ثانيا: أن ما حكاه الله سبحانه من دعاء نوح بقوله﴿وَ قَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَ لاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً نوح: - ٢٧ كان واقعا بين قوله: ﴿أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ إلخ، و بين قوله: ﴿وَ اِصْنَعِ اَلْفُلْكَ إلى قوله ﴿ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ.

و ذلك لأنه كما ذكر بعضهم لا سبيل إلى العلم بعدم إيمان الكفار في المستقبل من طريق العقل و إنما طريقه السمع بالوحي فهو (عليه السلام) علم أولا من وحيه تعالى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن أن أحدا منهم لا يؤمن بعد ذلك و لا في نسلهم من سيؤمن بالله ثم دعا عليهم بالعذاب و ذكر في دعائه ما أوحي إليه فلما استجاب الله دعوته و أراد إهلاكهم أمره (عليه السلام) باتخاذ السفينة و أخبره أنهم مغرقون.

قوله تعالى: ﴿وَ اِصْنَعِ اَلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَ وَحْيِنَا وَ لاَ تُخَاطِبْنِي فِي اَلَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ الفلك‏ هي السفينة مفردها و جمعها واحد و الأعين‏ جمع قلة للعين و إنما جمع للدلالة على كثرة المراقبة و شدتها فإن الجملة كناية عن المراقبة في الصنع.

و ذكر الأعين قرينة على أن المراد بالوحي ليس هو هذا الوحي أعني قوله:

﴿وَ اِصْنَعِ اَلْفُلْكَ إلخ، حتى يكون وحيا للحكم بل وحي في مقام العمل و هو تسديد و هداية عملية بتأييده بروح القدس الذي يشير إليه أن افعل كذا و افعل كذا كما ذكره تعالى في الأئمة من آل إبراهيم ع بقوله﴿وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْرَاتِ وَ إِقَامَ اَلصَّلاَةِ وَ إِيتَاءَ اَلزَّكَاةِ وَ كَانُوا لَنَا عَابِدِينَ الأنبياء: - ٧٣، و قد تقدمت الإشارة إليه في المباحث السابقة و سيجي‏ء إن شاء الله في تفسير الآية.

و قوله: ﴿وَ لاَ تُخَاطِبْنِي فِي اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أي لا تسألني في أمرهم شيئا تدفع به الشر و العذاب و تشفع لهم لتصرف عنهم السوء لأن القضاء فصل و الحكم حتم و بذلك يظهر أن قوله: ﴿إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ في محل التعليل لقوله: ﴿وَ لاَ تُخَاطِبْنِي إلخ، أو لمجموع قوله: ﴿وَ اِصْنَعِ اَلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَ وَحْيِنَا وَ لاَ تُخَاطِبْنِي فِي اَلَّذِينَ ظَلَمُوا و يظهر أيضا أن قوله: ﴿وَ لاَ تُخَاطِبْنِي إلخ، كناية عن الشفاعة.

 

 

 

و المعنى: و اصنع السفينة تحت مراقبتنا الكاملة و تعليمنا إياك و لا تسألني صرف العذاب عن هؤلاء الذين ظلموا فإنهم مقضي عليهم الغرق قضاء حتم لا مرد له.

قوله تعالى: ﴿وَ يَصْنَعُ اَلْفُلْكَ وَ كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ قال في المجمع،: السخرية إظهار خلاف الإبطان على وجه يفهم منه استضعاف العقل، و منه التسخير لتذليل يكون استضعافا بالقهر، و الفرق بين السخرية و اللعب أن في السخرية خديعة و استنقاصا و لا تكون إلا في الحيوان و قد يكون اللعب بجماد، انتهى.

و قال الراغب في المفردات،: سخرت منه و استسخرته للهزء منه قال تعالى:

﴿إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴿بَلْ عَجِبْتَ وَ يَسْخَرُونَ و قيل: رجل سخر بالضم فالفتح لمن سخر و سخرة بالضم فالسكون لمن يسخر منه، و السخرية بالضم و السخرية بالكسر لفعل الساخر، انتهى.

و قوله: ﴿وَ يَصْنَعُ اَلْفُلْكَ حكاية الحال الماضية يمثل بها ما يجري على نوح (عليه السلام) من إيذاء قومه و قيام طائفة منهم بعد طائفة على إهانته و الاستهزاء به في عمل السفينة و صبره عليه في جنب الدعوة الإلهية و إقامة الحجة عليهم من غير أن يفشل و ينثني.

و قوله: ﴿كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ حال من فاعل يصنع و الملأ هاهنا الجماعة الذين يعبأ بهم، و في الكلام دلالة على أنهم كانوا يأتونه و هو يصنع الفلك جماعة بعد جماعة بالمرور عليه ساخرين، و أنه (عليه السلام) كان يصنعها في مرأى منهم و ممر عام.

و قوله: ﴿قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ في موضع الجواب لسؤال مقدر كان قائلا قال: فما ذا قال نوح (عليه السلام)؟ فقيل: ﴿قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ و لذا فصل الكلام من غير عطف.

و لم يقل (عليه السلام): إن تسخروا مني فإني أسخر منكم ليدفع به عن نفسه و عن عصابة المؤمنين به و كأنه كان يستمد من أهله و اتباعه في ذلك و كانوا يشاركونه في

 

 

 

 عمل السفينة و كانت السخرية تتناولهم جميعا فظاهر الكلام أن الملأ كانوا يواجهون نوحا و من معه في عمل السفينة بسخرية نوح و رميه (عليه السلام) بالخبل و الجنون فيشمل هزؤهم نوحا و من معه و إن كانوا لم يذكروا في هزئهم إلا نوحا فقط.

على أن الطبع و العادة يقضيان أن يكونوا يسخرون من أتباعه أيضا كما كانوا يسخرون منه فهم أهل مجتمع واحد تربط المعاشرة بعضهم ببعض و إن كانت سخريتهم من أتباعه سخرية منه في الحقيقة لأنه هو الأصل الذي تقوم به الدعوة، و لذا قيل:

﴿سَخِرُوا مِنْهُ و لم يقل: سخروا منه و من المؤمنين.

و السخرية و إن كانت قبيحة و من الجهل إذا كانت ابتدائية لكنها جائزة إذا كانت مجازاة و بعنوان المقابلة و خاصة إذا كانت تترتب عليها فائدة عقلائية كإنفاذ العزيمة و إتمام الحجة قال تعالى﴿فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اَللَّهُ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌالتوبة: - ٧٩، و يدل على اعتبار المجازاة و المقابلة بالمثل في الآية قوله: ﴿كَمَا تَسْخَرُونَ.

قوله تعالى: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ السياق يقضي أن يكون قوله: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ تفريعا على الجملة الشرطية السابقة ﴿إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ و تكون الجملة المتفرعة هو متن السخرية التي أتى بها نوح (عليه السلام) و يكون قوله: ﴿مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ إلخ، متعلقا بتعلمون على أنه معلوم العلم.

و المعنى: أن تسخروا منا فإنا نسخر منكم فنقول لكم: سوف تعلمون من يأتيه العذاب؟ نحن أو أنتم؟ و هذه سخرية بقول حق.

و قوله: ﴿مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ المراد به عذاب الاستئصال في الدنيا و هو الغرق الذي أخزاهم و أذلهم، و المراد بقوله: ﴿وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ أي ينزل عليه عذاب ثابت لازم لا يفارق، هو عذاب النار في الآخرة، و الدليل على ما ذكرنا من كون العذاب الأول هو الذي في الدنيا و الثاني هو عذاب الآخرة هو المقابلة و تكرر العذاب منكرا في اللفظ و توصيف الأول بالإخزاء و الثاني بالإقامة.

 

 

 

[1]  أعملكم ظ.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=2078
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 05 / 14
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 03