• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء التاسع) ، تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده) .
                    • الموضوع : من ص 1001 الى ص 1100 .

من ص 1001 الى ص 1100

و الأمم أنفسهم يظلمون بالاستمتاع من نصيب الدنيا و الخوض في آيات الله و تكذيب رسله.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلى آخر الآية. ثم وصف الله سبحانه حال المؤمنين عامة محاذاة لما وصف به المنافقين فقال: ﴿وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ليدل بذلك على أنهم مع كثرتهم و تفرقهم من حيث العدد و من الذكورة و الأنوثة ذوو كينونة واحدة متفقة لا تشعب فيها و لذلك يتولى بعضهم أمر بعض و يدبره.

و لذلك كان يأمر بعضهم بعضا بالمعروف و ينهى بعضهم بعضا عن المنكر فلولاية بعض المجتمع على بعض ولاية سارية في جميع الأبعاض دخل في تصديهم الأمر بالمعروفة و النهي عن المنكر فيما بينهم أنفسهم.

ثم وصفهم بقوله: ﴿وَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاَةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ و هما الركنان الوثيقان في الشريعة فالصلاة ركن العبادات التي هن الرابطة بين الله و بين خلقه، و الزكاة في المعاملات التي هي رابطة بين الناس أنفسهم.

ثم وصفهم بقوله: ﴿وَ يُطِيعُونَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ فجمع في إطاعة الله جميع الأحكام الشرعية الإلهية و جمع في إطاعة رسوله جميع الأحكام الولائية التي يصدرها رسوله في إدارة أمور الأمة و إصلاح شئونهم كفرامينه في الغزوات، و أحكامه في القضايا و إجراء الحدود و غير ذلك.

على أن إطاعة شرائع الله النازلة من السماء من جهة أخرى منطوية في إطاعة الرسول فإن الرسول هو الصادع بالحق القائم بالدعوة إلى أصول الدين و فروعه.

و قوله: ﴿أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اَللَّهُ إخبار عما في القضاء الإلهي من شمول الرحمة الإلهية لهؤلاء القوم الموصوفين بما ذكر، و كان في هذه الجملة محاذاة لما سرد في المنافقين من قوله تعالى: ﴿نَسُوا اَللَّهَ فَنَسِيَهُمْ و الظاهر أيضا أن قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ تعليل لما ذكر من الرحمة فلا مانع من رحمته لعزته، و لا اختلال أو وهنا و جزافا في حكمته.

قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اَللَّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ إلى آخر الآية، العدن‏ مصدر بمعنى الإقامة و الاستقرار يقال: عدن بالمكان أي أقام فيه و استقر و منه المعدن للأرض التي تستقر فيه الجواهر و الفلزات المعدنية، و على هذا فمعنى جنات عدن جنات إقامة و استقرار و خلود.

 

 

 

 

 

 

 و قوله: ﴿وَ رِضْوَانٌ مِنَ اَللَّهِ أَكْبَرُ أي رضى الله سبحانه عنهم أكبر من ذلك كله على ما يفيده السياق و قد نكر ﴿رِضْوَانٌ إيماء إلى أنه لا يقدر بقدر و لا يحيط به وهم بشر أو لأن رضوانا ما منه و لو كان يسيرا أكبر من ذلك كله لا لأن ذلك كله مما يتفرع على رضاه تعالى و يترشح منه و إن كان كذلك في نفسه بل لأن حقيقة العبودية التي يندب إليها كتاب الله هي عبوديته تعالى حبا له: لا طمعا في جنة، أو خوفا من نار، و أعظم السعادة و الفوز عند المحب أن يستجلب رضى محبوبه دون أن يسعى لإرضاء نفسه.

و كأنه للإشارة إلى ذلك ختم الآية بقوله: ﴿ذَلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ و تكون في الجملة دلالة على معنى الحصر أي إن هذا الرضوان هو حقيقة كل فوز عظيم حتى الفوز العظيم بالجنة الخالدة إذ لو لا شي‏ء من حقيقة الرضى الإلهي في نعيم الجنة كان نقمة لا نعمة.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ جَاهِدِ اَلْكُفَّارَ وَ اَلْمُنَافِقِينَ وَ اُغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ جهاد القوم و مجاهدتهم بذل غاية الجهد في مقاومتهم و هو يكون باللسان و باليد حتى ينتهي إلى القتال، و شاع استعماله في الكتاب في القتال و إن كان ربما استعمل في غيره كما في قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا الآية.

و استعماله في قتال الكفار على رسله لكونهم متجاهرين بالخلاف و الشقاق، و أما المنافقون فهم الذين لا يتظاهرون بكفر و لا يتجاهرون بخلاف، و إنما يبطنون الكفر و يقلبون الأمور كيدا و مكرا و لا معنى للجهاد معهم بمعنى قتالهم و محاربتهم؟ و لذلك ربما يسبق إلى الذهن أن المراد بجهادهم مطلق ما تقتضيه المصلحة من بذل غاية الجهد في مقاومتهم فإن اقتضت المصلحة هجروا و لم يخالطوا و لم يعاشروا، و إن اقتضت وعظوا باللسان، و إن اقتضت أخرجوا و شردوا إلى غير الأرض أو قتلوا إذا أخذ عليهم الردة، أو غير ذلك.

و ربما شهد لهذا المعنى أعني كون المراد بالجهاد في الآية مطلق بذل الجهد تعقيب قوله: ﴿جَاهِدِ اَلْكُفَّارَ وَ اَلْمُنَافِقِينَ بقوله: ﴿وَ اُغْلُظْ عَلَيْهِمْ أي شدد عليهم و عاملهم بالخشونة.

و أما قوله: ﴿وَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ فهو عطف على ما قبله من الأمر، و لعل الذي هون الأمر في عطف الإخبار على الإنشاء هو كون الجملة السابقة في معنى قولنا: «إن هؤلاء الكفار و المنافقين مستوجبون للجهاد». و الله أعلم.

قوله تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَ لَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ اَلْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ

 

 

 

 

 

 

 وَ هَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا الآية. سياق الآية يشعر بأنهم أتوا بعمل سيئ و شفعوه بقول تفوهوا به عند ذلك، و أن النبي صلى الله عليه وآله و سلم عاتبهم على قولهم مؤاخذا لهم فحلفوا بالله ما قالوا كما تقدم في قوله: ﴿وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ إلى آخر الآية إنهم كانوا يعتذرون بذلك عن عملهم أنه كان خوضا و لعبا لا غير ذلك.

و الله سبحانه يكذبهم في الأمرين جميعا: أما في إنكارهم القول فبقوله: ﴿وَ لَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ اَلْكُفْرِ و فسره ثانيا بقوله: ﴿وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ للدلالة على جد القول فيتفرع عليه الكفر بعد الإسلام.

و لعله قال هاهنا: ﴿وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ و قد قيل سابقا: ﴿قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ لأن القول السابق للنبي صلى الله عليه وآله و سلم الجاري على ظاهر حالهم و هو الإيمان الذي كانوا يدعونه و يتظاهرون به، و القول الثاني لله العالم بالغيب و الشهادة فيشهد بأنهم لم يكونوا مؤمنين و لم يتعدوا الشهادتين بلسانهم فهم كانوا مسلمين لا مؤمنين، و قد كفروا بقولهم و خرجوا عن الإسلام إلى الكفر، و في هذا إيماء إلى أن قولهم كان كلمة فيه الرد على الشهادتين أو إحداهما.

أو لأن القول الأول في قبال عملهم الذي أرادوا إيقاع الشر بالنبي صلى الله عليه وآله و سلم ، و العمل الخالي من القول و هو لم يصب الغرض لا يضر بالإسلام الذي هو نصيب اللفظ و الشهادة، و إنما يضر بالإيمان الذي هو نصيب الاعتقاد، و القول الثاني في قبال قولهم الذي تفوهوا به، و هو ينافي الإسلام الذي يكتسب باللفظ دون الإيمان الذي هو نوع من الاعتقاد القلبي.

و أما في إنكارهم العمل السيئ الذي أتوا به و تأويلهم إياه إلى الخوض و اللعب فبقوله: ﴿وَ هَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا.

ثم قال في مقام ذمهم و تعييرهم: ﴿وَ مَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ أي بسبب أن أغناهم الله و رسوله، أي كان سبب نقمتهم هذه أن الله أغناهم من فضله بما رزقهم من الغنائم و بسط عليهم الأمن و الرفاهية فمكنهم من توليد الثروة و إنماء المال من كل جهة، و كذا رسوله حيث هداهم إلى عيشة صالحة تفتح عليهم أبواب بركات السماء و الأرض، و قسم بينهم الغنائم و بسط عليهم العدل.

فهو من قبيل وضع الشي‏ء موضع ضده: وضع فيه الإغناء و هو بحسب الطبع

 

 

 

 

 

 

 سبب للرضى و الشكر موضع سبب النقمة و السخطة كالظلم و الغضب و إن شئت قلت: وضع فيه الإحسان موضع الإساءة، ففيه نوع من التهكم المشوب بالذم نظير ما في قوله تعالى: ﴿وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ الواقعة: ٨٢ أي تجعلون رزقكم سببا للتكذيب بآيات الله و هو سبب بحسب الطبع لشكر النعمة و الرضا بالموهبة على ما قيل: إن المعنى: و تجعلون بدل شكر رزقكم أنكم تكذبون.

و الضمير في قوله: ﴿مِنْ فَضْلِهِ راجع إلى الله سبحانه، قال في المجمع،: و إنما لم يقل: من فضلهما لأنه لا يجمع بين اسم الله و اسم غيره في الكناية تعظيما لله، و لذلك قال النبي صلى الله عليه وآله و سلم لمن سمعه يقول: «من أطاع الله و رسوله فقد اهتدى و من عصاهما فقد غوى»: بئس خطيب القوم أنت فقال: كيف أقول يا رسول الله؟ قال: قل: و من يعص الله و رسوله، و هكذا القول في قوله سبحانه: ﴿وَ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ و قيل: إنما لم يقل من فضلهما لأن فضل الله منه و فضل رسوله من فضله، انتهى كلامه.

و هناك وراء التعظيم أمر آخر قدمنا القول فيه في تفسير قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اَللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ المائدة: ٧٣ في الجزء السادس من الكتاب، و هو أن وحدته تعالى ليست من سنخ الوحدة العددية حتى يصح بذلك تأليفها مع وحدة غيره و استنتاج عدد من الأعداد منه.

ثم بين الله سبحانه لهؤلاء المنافقين أن لهم مع هذه الذنوب المهلكة و صريح كفرهم بالله و همهم بما لم ينالوا أن يرجعوا إلى ربهم، و بين عاقبة أمر هذه التوبة و عاقبة التولي و الإعراض عنها فقال: ﴿فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ لأدائه إلى المغفرة و الجنة ﴿وَ إِنْ يَتَوَلَّوْا و يعرضوا عن التوبة ﴿يُعَذِّبْهُمُ اَللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي اَلدُّنْيَا بالسياسة و النكال أو بإغراء النبي صلى الله عليه وآله و سلم عليهم أو بالمكر و الاستدراج، و لو لم يكن من عذابهم إلا أنهم مخالفون بنفاقهم نظام الأسباب المبني على الصدق و الإيمان فتقادمهم سلسلة الأسباب و تحطمهم و تفضحهم لكان فيه كفاية، و قد قال الله: ﴿وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِينَ التوبة: ٢٤ ﴿وَ اَلْآخِرَةِ بعذاب النار.

و قوله تعالى: ﴿وَ مَا لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاَ نَصِيرٍ معناه أن هؤلاء لا ولي لهم في الأرض يتولى أمرهم و يصرف العذاب عنهم، و لا نصير ينصرهم و يمدهم بما يدفعون به العذاب الموعود عن أنفسهم لأن سائر المنافقين أيضا منهم و كلمة الفساد يجمعهم

 

 

 

 

 

 

 و أصلهم الفاسد منقطع عن سائر الأسباب الكونية فلا ولي لهم يتولى أمرهم و لا ناصر لهم ينصرهم و لعل هذه الجملة من الآية إشارة إلى ما أومأنا إليه في معنى عذاب الدنيا.

بحث روائي

 في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿يَحْذَرُ اَلْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ الآية، قيل: نزلت في اثني عشر رجلا وقفوا على العقبة ليفتكوا برسول الله صلى الله عليه وآله و سلم عند رجوعه من تبوك فأخبر جبرئيل رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم بذلك، و أمره أن يرسل إليهم و يضرب وجوه رواحلهم .

و عمار كان يقود دابة رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم و حذيفة يسوقها فقال لحذيفة: اضرب وجوه رواحلهم، فضربها حتى نحاهم فلما نزل قال لحذيفة: من عرفت من القوم؟ قال: لم أعرف منهم أحدا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : إنه فلان و فلان حتى عدهم كلهم فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟ فقال: أكره أن تقول العرب: لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم: عن ابن كيسان.

 و روي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام: مثله إلا أنه قال: ائتمروا بينهم ليقتلوه و قال بعضهم لبعض: إن فطن نقول: إنما كنا نخوض و نلعب، و إن لم يفطن نقتله.

و قيل: إن جماعة من المنافقين قالوا في غزوة تبوك: يظن هذا الرجل أن يفتح قصور الشام و حصونها هيهات هيهات، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وآله و سلم على ذلك فقال: احبسوا على الركب، فدعاهم فقال لهم: قلتم كذا و كذا. فقالوا: يا نبي الله إنما كنا نخوض و نلعب و حلفوا على ذلك فنزلت الآية: ﴿وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إلخ، عن الحسن و قتادة.

و قيل: كان ذلك عند منصرفه من غزوة تبوك إلى المدينة و كان بين يديه أربعة نفر أو ثلاثة يستهزءون و يضحكون، و أحدهم يضحك و لا يتكلم فنزل جبرئيل و أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم بذلك فدعا عمار بن ياسر و قال: إن هؤلاء يستهزءون بي و بالقرآن أخبرني جبرئيل بذلك، و لئن سألتهم ليقولن: كنا نتحدث بحديث الركب فأتبعهم عمار و قال: مم تضحكون؟ قالوا: نتحدث بحديث الركب فقال عمار: صدق الله و رسوله احترقتم أحرقكم الله، فأقبلوا إلى النبي صلى الله عليه وآله و سلم يعتذرون فأنزل الله تعالى الآيات. عن الكلبي و علي بن إبراهيم و أبي حمزة.

 

 

 

 

 

 

و قيل: إن رجلا قال في غزوة تبوك: ما رأيت أكذب لسانا و لا أجبن عند اللقاء من هؤلاء يعني رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم و أصحابه، فقال له عوف بن مالك: كذبت و لكنك منافق، و أراد أن يخبر رسول الله بذلك فجاء و قد سبقه الوحي فجاء الرجل معتذرا، و قال: إنما كنا نخوض و نلعب ففيه نزلت الآية، عن ابن عمر و زيد بن أسلم و محمد بن كعب.

و قيل: إن رجلا من المنافقين قال: يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا و كذا و ما يدريه ما الغيب؟ فنزلت الآية، عن مجاهد.

و قيل: نزلت في عبد الله بن أبي و رهطه، عن الضحاك.

 و في المجمع، أيضا: في قوله تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا الآية، اختلف في من نزلت فيه هذه الآية فقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم كان جالسا في ظل شجرة فقال: إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعيني الشيطان، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق فدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فقال: علام تشتمني أنت و أصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله: ما قالوا فأنزل الله هذه الآية: عن ابن عباس.

 و قيل: خرج المنافقون مع رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم إلى تبوك فكانوا إذا خلا بعضهم ببعض سبوا رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم و أصحابه و طعنوا في الدين فنقل ذلك حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فقال لهم: ما هذا الذي بلغني عنكم فحلفوا بالله: ما قالوا شيئا من ذلك.

عن الضحاك.

و قيل: نزلت في جلاس بن سويد بن الصامت، و ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم خطب ذات يوم بتبوك و ذكر المنافقين فسماهم رجسا و عابهم، فقال الجلاس: و الله لئن كان محمد صلى الله عليه وآله و سلمادقا فيما يقول فنحن شر من الحمير فسمعه عامر بن قيس فقال: أجل و الله إن محمدا لصادق و أنتم شر من الحمير، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قال الجلاس، فقال الجلاس: كذب يا رسول الله.

فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم أن يحلفا عند المنبر فقام الجلاس عند المنبر فحلف بالله ما قال ثم قام عامر فحلف بالله: لقد قال، ثم قال: اللهم أنزل على نبيك الصادق منا الصدق، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم و المؤمنون: آمين، فنزل جبرئيل عليه السلام قبل أن يتفرقا بهذه الآية حتى بلغ: ﴿فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ.

 

 

 

 

 

 

فقام الجلاس فقال: يا رسول الله أسمع الله قد عرض علي التوبة صدق عامر بن قيس فيما قال لك لقد قلته و أنا أستغفر الله و أتوب إليه، فقبل رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم ذلك منه. عن الكلبي و محمد بن إسحاق و مجاهد.

و قيل: نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول حين قال: ﴿لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى اَلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ اَلْأَعَزُّ مِنْهَا اَلْأَذَلَّ عن قتادة.

و قيل: نزلت في أهل العقبة فإنهم ائتمروا في أن يغتالوا رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم في عقبة عند مرجعهم من تبوك، و أرادوا أن يقطعوا أنساع راحلته ثم ينخسوا به فأطلعه الله على ذلك، و كان من جملة معجزاته لأنه لا يمكن معرفة مثل ذلك إلا بوحي من الله تعالى.

فسار رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم في العقبة، و عمار و حذيفة معه، أحدهما يقود ناقته و الآخر يسوقها و أمر الناس كلهم بسلوك بطن الوادي، و كان الذين هموا بقتله اثني عشر رجلا أو خمسة عشر رجلا على الخلاف فيه عرفهم رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم و سماهم واحدا واحدا، عن الزجاج و الواقدي و الكلبي، و القصة مشروحة في كتاب الواقدي.

و قال الباقر عليه السلام: كانت ثمانية منهم من قريش و أربعة من العرب.

أقول: و الذي ذكره رحمه الله مما جمعه و اختاره من الروايات مروية في كتب التفسير بالمأثور و جوامع الحديث من كتب الفريقين و هناك روايات أخرى تركها و أحرى بها أن تترك فتركنا أكثرها كما ترك.

و أما الذي أورده من الروايات فشي‏ء منها لا ينطبق على الآيات غير حديث العقبة الذي أورده تارة في تفسير الآية الأولى: ﴿يَحْذَرُ اَلْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ الآية، و تارة في تفسير الآية: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا الآية.

و أما سائر الروايات الواردة فإنما هي روايات تتضمن من متفرقات القصص و الوقائع ما لو صحت و ثبتت كانت من قصص المنافقين من غير أن ترتبط بهذه الآيات و هي كما عرفت في البيان السابق إحدى عشرة آية متصل بعضها ببعض مسرودة لغرض واحد، و هو الإشارة إلى قصة من قصص المنافقين هموا فيها باغتيال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم ، و تكلموا عند ذلك بكلمة الكفر فحال الله سبحانه بينهم و بين أن ينالوا ما هموا به فسألهم رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم عن أمرهم و ما تفوهوا به فأولوا فعلهم و أنكروا قولهم و حلفوا على ذلك فكذبهم الله تعالى فيه.

 

 

 

 

 

 

 فهذا إجمال ما يلوح من خلال الآيات، و لا ينطبق من بين الروايات إلا على الروايات المشتملة على قصة العقبة في الجملة دون سائرها.

و لا مسوغ للاستناد إليها في تفسير الآيات إلا على مسلك القوم من تحكيم الروايات بحسب مضمونها على الآيات سواء ساعدت على ذلك ألفاظ الآيات أو لم تساعد على ما فيها أعني الروايات من الاختلاف الفاحش الذي يوجب سوء الظن بها كما يظهر لمن راجعها.

على أن في الروايات مغمزا آخر و هو ظهورها في تقطع الآيات و تشتت بعضها و انفصاله عن بعض بنزول كل لسبب آخر و تعقيبه غرضا آخر، و قد عرفت أن الآيات ذات سياق واحد متصل ليس من شأنه إلا أن يعقب غرضا واحدا.

 و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و ابن المنذر و أبو الشيخ عن الكلبي: أن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم لما أقبل من غزوة تبوك و بين يديه ثلاثة رهط استهزءوا بالله و رسوله و بالقرآن قال: كان رجل منهم لم يمالئهم في الحديث يسير مجانبا لهم يقال له: يزيد بن وديعة فنزلت: ﴿إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً فسمى طائفة و هو واحد. أقول: و هذا هو منشأ قول بعضهم: إن الطائفة تطلق على الواحد كما تطلق على الكثير مع أن الآية جارية مجرى الكناية دون التسمية و نظير ذلك كثير في الآيات القرآنية كما تقدمت الإشارة إليه.

 و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال :نزلت هذه الآية في رهط من المنافقين من بني عمرو بن عوف فيهم وديعة بن ثابت، و رجل من أشجع حليف لهم يقال له: مخشي بن حمير[1] كانوا يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم و هو منطلق إلى تبوك فقال بعضهم لبعض: أ تحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم و الله لكأنا بكم غدا تقادون في الحبال .

قال مخشي بن حمير لوددت أني أقاضي على أن يضرب كل رجل منكم مائة على أن ينجو من أن ينزل فينا قرآن فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم لعمار بن ياسر: أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا فإن هم أنكروا و كتموا فقل: بلى قد قلتم كذا و كذا فأدركهم فقال لهم فجاءوا يعتذرون فأنزل الله:

 

 

 

 

 

 

﴿لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ الآية فكان الذي عفا الله عنه مخشي بن حمير فتسمى عبد الرحمن، و سأل الله أن يقتل شهيدا لا يعلم بمقتله فقتل باليمامة لا يعلم مقتله و لا من قتله و لا يرى له أثر و لا عين. أقول: و قصة مخشي بن حمير وردت في عدة روايات غير أنها على تقدير صحتها لا تستلزم نزول الآيات فيها على ما بينها و بين مضامين الآيات من البون البعيد.

و ليس من الواجب علينا إذا عثرنا على شي‏ء من القصص الواقعة في زمن النبي صلى الله عليه وآله و سلم أي قصة كانت أن نلجم بها آية من آيات القرآن الكريم ثم نعود فنفسر الآية بالقصة و نحكمها عليها.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن ابن عباس قال :ما أشبه الليلة بالبارحة: ﴿كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً إلى قوله ﴿وَ خُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا هؤلاء بنو إسرائيل أشبهناهم، و الذي نفسي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل رجل جحر ضب لدخلتموه: أقول: و رواه في المجمع، أيضا عنه.

 و في المجمع، عن تفسير الثعلبي عن أبي هريرة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله و سلم قال: لتأخذن كما أخذت الأمم من قبلكم ذراعا بذراع و شبرا بشبر و باعا بباع حتى لو أن أحدا من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله كما صنعت فارس و الروم و أهل الكتاب؟ قال: فهل الناس إلا هم؟

 و فيه، أيضا عن تفسير الثعلبي عن حذيفة قال: المنافقون الذين فيكم اليوم شر من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم. قلنا: و كيف؟ قال: أولئك كانوا يخفون نفاقهم و هؤلاء أعلنوه.

 و في العيون، بإسناده عن القاسم بن مسلم عن أخيه عبد العزيز بن مسلم قال:

 سألت الرضا عليه السلام عن قول الله عز و جل: ﴿نَسُوا اَللَّهَ فَنَسِيَهُمْ فقال: إن الله تبارك و تعالى لا ينسى و لا يسهو، و إنما ينسى و يسهو المخلوق المحدث أ لا تسمعه عز و جل يقول: ﴿وَ مَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾، و إنما يجازي من نسيه و نسي لقاء يومه أن ينسيهم أنفسهم كما قال عز و جل: ﴿وَ لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اَللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ

 

 

 

 

 

 

 أُولَئِكَ هُمُ اَلْفَاسِقُونَ [و] قوله عز و جل ﴿فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا أي نتركهم كما تركوا الاستعداد للقاء يومهم هذا.

 و في تفسير العياشي، عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام: ﴿نَسُوا اَللَّهَ قال: تركوا طاعة الله ﴿فَنَسِيَهُمْ قال: فتركهم.

و فيه، عن أبي معمر السعداني قال: قال علي عليه السلام: في قوله: ﴿نَسُوا اَللَّهَ فَنَسِيَهُمْ فإنما يعني أنهم نسوا الله في دار الدنيا فلم يعملوا له بالطاعة و لم يؤمنوا به و برسوله فنسيهم في الآخرة أي لم يجعل لهم في ثوابه نصيبا فصاروا منسيين من الخير: أقول: و رواه الصدوق في المعاني، بإسناده عن أبي معمر عنه عليه السلام.

 و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام: في حديث قلت: ﴿وَ اَلْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قال: أولئك قوم لوط ائتفكت عليهم أي انقلبت و صارت عاليها سافلها.

 و في التهذيب، بإسناده عن صفوان بن مهران قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام تأتيني المرأة المسلمة قد عرفتني بعملي و أعرفها بإسلامها ليس لها محرم فأحملها، قال: فاحملها فإن المؤمن محرم للمؤمنة. ثم تلا هذه الآية: ﴿وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ: أقول: و رواه العياشي في تفسيره عن صفوان الجمال عنه عليه السلام. و في تفسير العياشي، عن ثوير عن علي بن الحسين عليه السلام قال: إذا صار أهل الجنة في الجنة و دخل ولي الله إلى جناته و مساكنه، و اتكأ، كل مؤمن على أريكته حفته خدامه، و تهدلت عليه الأثمار، و تفجرت حوله العيون، و جرت من تحته الأنهار، و بسطت له الزرابي، و وضعت له النمارق، و أتته الخدام بما شاءت هواه من قبل أن يسألهم ذلك قال: و تخرج عليه الحور العين من الجنان فيمكثون بذلك ما شاء الله.

ثم إن الجبار يشرف عليهم فيقول لهم: أوليائي و أهل طاعتي و سكان جنتي في جواري الأهل أنبئكم بخير مما أنتم فيه؟ فيقولون: ربنا و أي شي‏ء خير مما نحن فيه: فيما اشتهت أنفسنا و لذت أعيننا من النعم في جوار الكريم؟.

قال: فيعود عليهم القول فيقولون ربنا نعم فأتنا بخير مما نحن فيه فيقول تبارك و تعالى لهم: رضاي عنكم و محبتي لكم خير و أعظم مما أنتم فيه قال: فيقولون: نعم يا ربنا رضاك عنا و محبتك لنا خير و أطيب لأنفسنا .

 

 

 

 

 

 

 ثم قرأ علي بن الحسين عليه السلام هذه الآية: ﴿وَعَدَ اَللَّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَ مَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوَانٌ مِنَ اَللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ. و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله: هل تشتهون شيئا فأزيدكم؟ قالوا: يا ربنا و هل بقي شي‏ء؟ إلا قد أنلتناه؟ فيقول: نعم رضائي فلا أسخط عليكم أبدا. أقول: و هذا المعنى وارد في روايات كثيرة من طرق الفريقين.

 و في جامع الجوامع، عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله و سلم: عدن دار الله التي لم ترها عين و لم تخطر على قلب بشر لا يسكنها غير ثلاثة: النبيون و الصديقون و الشهداء يقول الله: طوبى لمن دخلك.

 أقول: و لا ينافي خصوص سكنة الجنة في الرواية عمومهم في الآية لدلالة قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ اَلصِّدِّيقُونَ وَ اَلشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ الحديد: ١٩ على أن الله سبحانه سيلحق عامة المؤمنين بالصديقين و الشهداء.

و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ جَاهِدِ اَلْكُفَّارَ وَ اَلْمُنَافِقِينَ الآية: قال حدثني أبي عن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: جاهد الكفار و المنافقين بإلزام الفرائض.

 و في الدر المنثور، أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال :لما نزلت: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ جَاهِدِ اَلْكُفَّارَ وَ اَلْمُنَافِقِينَ أمر رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم أن يجاهد بيده فإن لم يستطع فبقلبه فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فليلقه بوجه مكفهر. أقول: و في الرواية تشويش من حيث ترتب أجزائها فالجهاد بالقلب بعد الجميع و قد تخلل بينها.

[سورة التوبة ٩: الآیات ٧٥ الی ٨٠]

﴿وَ مِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اَللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَ تَوَلَّوْا وَ هُمْ

 

 

 

 

 

 

﴿مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى‏ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اَللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَ نَجْوَاهُمْ وَ أَنَّ اَللَّهَ عَلاَّمُ اَلْغُيُوبِ ٧٨ اَلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اَلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ فِي اَلصَّدَقَاتِ وَ اَلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اَللَّهُ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ٧٩ اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اَللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِينَ ٨٠

بيان

تذكر الآيات طائفة أخرى من المنافقين تخلفوا عن حكم الصدقات فامتنعوا عن إيتاء الزكاة، و قد كانوا فقراء فعاهدوا الله إن أغناهم و آتاهم من فضله ليصدقن و ليكونن من الصالحين فلما آتاهم مالا بخلوا به و امتنعوا.

و تذكر آخرين من المنافقين يعيبون أهل السعة من المؤمنين بإيتاء الصدقات و كذلك يلمزون أهل العسرة منهم و يسخرون منهم و الله سبحانه يسمي هؤلاء جميعا منافقين، و يقضي فيهم بعدم المغفرة البتة.

قوله تعالى: ﴿وَ مِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اَللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلصَّالِحِينَ إلى آخر الآيتين. الإيتاء الإعطاء، و قد كثر إطلاق الإيتاء من الفضل على إعطاء المال، و من القرائن عليه في الآية قوله ﴿لَنَصَّدَّقَنَّ أي لنتصدقن مما آتانا من المال و كذلك ما في الآية التالية من ذكر البخل به.

و السياق يفيد أن الكلام متعرض لأمر واقع، و الروايات تدل على أن الآيات نزلت في ثعلبة في قصة سيأتي نقلها في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى، و معنى الآيتين ظاهر.

 

 

 

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى‏ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ الآية. الأعقاب‏ الإيراث قال في المجمع،: و أعقبه و أورثه و أداه نظائر و قد يكون أعقبه بمعنى جازاه. انتهى و هو مأخوذ من العقب، و معناه الإتيان بشي‏ء عقيب شي‏ء. و الضمير في قوله: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ راجع إلى البخل أو إلى فعلهم الذي منه البخل، و على هذا فالمراد بقوله: ﴿يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ يوم لقاء البخل أي جزاء البخل بنحو من العناية.

و يمكن أن يرجع الضمير إليه تعالى و المراد بيوم يلقونه يوم يلقون الله و هو يوم القيامة على ما هو المعروف من كلامه تعالى من تسمية يوم القيامة بيوم لقاء الله أو يوم الموت كما هو الظاهر من قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اَللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ لَآتٍ: العنكبوت: ٥.

و هذا الثاني هو الظاهر على الثاني لأن الأنسب عند الذهن أن يقال: فهم على نفاقهم إلى أن يموتوا. دون أن يقال: فهم على نفاقهم إلى أن يبعثوا إذ لا تغير لحالهم فيما بعد الموت على أي حال.

و قوله: ﴿بِمَا أَخْلَفُوا اَللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ الباء في الموضعين منه للسببية أي إن هذا البخل أورثهم نفاقا بما كان فيه من الخلف في الوعد و الاستمرار على الكذب الموجبين لمخالفة باطنهم لظاهرهم و هو النفاق.

و معنى الآية: فأورثهم البخل و الامتناع عن إيتاء الصدقات نفاقا في قلوبهم يدوم لهم ذلك و لا يفارقهم إلى يوم موتهم و إنما صار هذا البخل و الامتناع سببا لذلك لما فيه من خلف الوعد لله و الملازمة و الاستمرار على الكذب.

أو المعنى: جازاهم الله نفاقا في قلوبهم إلى يوم لقائه و هو يوم الموت لأنهم أخلفوه ما وعدوه و كانوا يكذبون.

و في الآية دلالة أولا: على أن خلف الوعد و كذب الحديث من أسباب النفاق و أماراته.

و ثانيا: أن من النفاق ما يعرض الإنسان بعد الإيمان كما أن من الكفر ما هو كذلك و هو الردة، و قد قال الله سبحانه: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَسَاؤُا اَلسُّواى‏ أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ وَ كَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُنَ الروم: ١٠ فذكر أن الإساءة ربما أدى بالإنسان إلى تكذيب آيات الله، و التكذيب ربما كان ظاهرا و باطنا معا و هو الكفر، أو باطنا فحسب و هو النفاق.

 

 

 

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَ نَجْوَاهُمْ الآية النجوى الكلام الخفي و الاستفهام للتوبيخ و التأنيب.

قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اَلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ فِي اَلصَّدَقَاتِ وَ اَلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ الآية التطوع‏ الإتيان بما لا تكرهه النفس و لا تحسبه شاقا و لذلك يستعمل غالبا في المندوبات لما في الواجبات من شائبة التحميل على النفس بعدم الرضى بالترك.

و مقابلة المطوعين من المؤمنين في الصدقات بالذين لا يجدون إلا جهدهم قرينة على أن المراد بالمطوعين فيها الذين يؤتون الزكاة على السعة و الجدة كأنهم لسعتهم و كثرة مالهم يؤتونها على طوع و رغبة من غير أن يشق ذلك عليهم بخلاف الذين لا يجدون إلا جهدهم أي مبلغ جهدهم و طاقتهم أو ما يشق عليهم القنوع بذلك.

و قوله: ﴿اَلَّذِينَ يَلْمِزُونَ الآية كلام مستأنف أو هو وصف للذين ذكروا بقوله: ﴿وَ مِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اَللَّهَ الآية كما قالوا. و المعنى: الذين يعيبون الذين يتطوعون بالصدقات من المؤمنين الموسرين و الذين لا يجدون من المال إلا جهد أنفسهم من الفقراء المعسرين فيعيبون المتصدقين موسرهم و معسرهم و غنيهم و فقيرهم و يسخرون منهم سخر الله منهم و لهم عذاب أليم، و فيه جواب لاستهزائهم و إيعاد بعذاب شديد.

قوله تعالى: ﴿اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اَللَّهُ لَهُمْ الترديد بين الأمر و النهي كناية عن تساوي الفعل و الترك أي لغوية الفعل كما مر نظيره في قوله: ﴿أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ التوبة: ٥٣.

فالمعنى أن هؤلاء المنافقين لا تنالهم مغفرة من الله و يستوي فيهم طلب المغفرة و عدمها لأن طلبها لهم لغو لا أثر له.

و قوله: ﴿إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اَللَّهُ لَهُمْ تأكيدا لما ذكر قبله من لغوية الاستغفار لهم، وبيان أن طبيعة المغفرة لا تنالهم البتة سواء سألت المغفرة في حقهم أو لم تسأل، و سواء كان الاستغفار مرة أو مرات قليلا أو كثيرا.

فذكر السبعين كناية عن الكثرة من غير أن يكون هناك خصوصية للعدد حتى يكون الواحد و الاثنان من الاستغفار حتى يبلغ السبعين غير مؤثر في حقهم فإذا جاوز السبعين أثر أثره، و لذلك علله بقوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ أي إن

 

 

 

 

 

 

 المانع من شمول المغفرة هو كفرهم بالله و رسوله، و لا يختلف هذا المانع بعدم الاستغفار.

و لا وجوده واحدا أو كثيرا فهم على كفرهم.

و من هنا يظهر أن قوله: ﴿وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِينَ متمم لسابقه و الكلام مسوق سوق الاستدلال القياسي و التقدير: أنهم كافرون بالله و رسوله فهم فاسقون خارجون عن عبودية الله، و الله لا يهدي القوم الفاسقين، لكن المغفرة هداية إلى سعادة القرب و الجنة فلا تشملهم المغفرة و لا تنالهم البتة.

و استعمال السبعين في الكثرة المجردة عن الخصوصية كاستعمال المائة و الألف فيها كثير في اللغة.

بحث روائي

 في المجمع،: قيل: نزلت في ثعلبة بن حاطب، و كان من الأنصار فقال للنبي صلى الله عليه وآله و سلم : ادع الله أن يرزقني مالا فقال: يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه أ ما لك في رسول الله أسوة حسنة؟ و الذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهبا و فضة لسارت .

ثم أتاه بعد ذلك فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا و الذي بعثك بالحق، لئن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه، فقال ص: اللهم ارزق ثعلبة مالا فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزل واديا من أوديتها ثم كثرت نموا حتى تباعد من المدينة فاشتغل بذلك عن الجمعة و الجماعة، و بعث رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم إليه المصدق ليأخذ الصدقة فأبى و بخل و قال: ما هذه إلا أخت الجزية فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة، و أنزل الله الآيات:. عن أبي أمامة الباهلي و روي ذلك مرفوعا. و قيل: إن ثعلبة أتى مجلسا من الأنصار فأشهدهم فقال: لئن آتاني الله من فضله تصدقت منه و آتيت كل ذي حق حقه و وصلت منه القرابة فابتلاه الله فمات ابن عم له فورثه مالا فلم يف بما قال فنزلت. عن ابن عباس و سعيد بن جبير و قتادة.

و قيل: نزلت في ثعلبة بن حاطب و معتب بن قشير و هما من بني عمرو بن عوف

 

 

 

 

 

 

 قالا: لئن رزقنا الله مالا لنصدقن فلما رزقهما الله المال بخلا به. عن الحسن و مجاهد.

أقول: ما ذكروه من الروايات لا يدفع بعضها البعض فمن الجائز أن يكون ثعلبة عاهد النبي صلى الله عليه وآله و سلم بذلك ثم أشهد عليه جماعة من الأنصار، و أن يكون معه في ذلك غيره فتتأيد الروايات بعضها ببعض.

و تتأيد أيضا بما روي عن الضحاك أن الآيات نزلت في رجال من المنافقين: نبتل بن الحارث، و جد بن قيس، و ثعلبة بن حاطب، و معتب بن قشير.

و أما ما رواه في المجمع، عن الكلبي :أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة كان له مال بالشام فأبطأ عنه و جهد لذلك جهدا شديدا فحلف لئن آتاه الله ذلك المال ليصدقن فأتاه الله تعالى ذلك فلم يفعل؛ فهو بعيد الانطباق على الآيات لأن إيصال المال إلى صاحبه لا يسمى إيتاء من الفضل، و إنما هو الإعطاء و الرزق.

و في تفسير القمي، قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام: في الآية قال: هو ثعلبة بن حاطب بن عمرو بن عوف كان محتاجا فعاهد الله فلما آتاه بخل به.

 و في الدر المنثور، أخرج البخاري و مسلم و الترمذي و النسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله و سلم قال: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب و إذا وعد أخلف و إذا اؤتمن خان.

 أقول: و هو مروي بغير واحد من الطرق عن أئمة أهل البيت عليه السلام، و قد تقدم بعضها.

 و فيه :في قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اَلْمُطَّوِّعِينَ الآية :أخرج البخاري و مسلم و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و أبو نعيم في المعرفة عن ابن مسعود قال :لما نزلت آية الصدقة كنا نتحامل على ظهورنا فجاء رجل فتصدق بشي‏ء كثير فقالوا: مراء، و جاء أبو عقيل بنصف صاع فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا فنزلت: ﴿اَلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اَلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ فِي اَلصَّدَقَاتِ وَ اَلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ الآية.

 أقول: و الروايات في سبب نزول الآية كثيرة و أمثلها ما أوردناه، و في قريب من معناه روايات أخرى، و ظاهرها أن الآية مستقلة عما قبلها مستأنفة في نفسها.

 

 

 

 

 

 

 و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن عروة: أن عبد الله بن أبي قال لأصحابه: لو لا أنكم تنفقون على محمد و أصحابه لانفضوا من حوله، و هو القائل: ليخرجن الأعز منها الأذل فأنزل الله عز و جل: ﴿اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اَللَّهُ لَهُمْ قال النبي صلى الله عليه وآله و سلم : لأزيدن على السبعين فأنزل الله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اَللَّهُ لَهُمْ.

 و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير و ابن المنذر عن مجاهد قال: لما نزلت: ﴿إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اَللَّهُ لَهُمْ قال النبي صلى الله عليه وآله و سلم : سأزيد على سبعين فأنزل الله في السورة التي يذكر فيها المنافقون ﴿فَلَنْ يَغْفِرَ اَللَّهُ لَهُمْ. و فيه، أخرج ابن جرير عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم قال: لما نزلت هذه الآية أسمع ربي قد رخص لي فيهم فوالله لأستغفرن أكثر من سبعين مرة لعل الله أن يغفر لهم فقال الله من شدة غضبه عليهم: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اَللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِينَ﴾. أقول: مما لا ريب فيه أن هذه الآيات مما نزلت في أواخر عهد النبي عليه السلام و قد سبقتها في النزول السور المكية عامة و أكثر السور و الآيات المدنية قطعا، و مما لا ريب فيه لمن يتدبر كتاب الله أنه لا رجاء في نجاة الكفار و المنافقين و هم أشد منهم إذا ماتوا على كفرهم و نفاقهم، و لا مطمع في شمول المغفرة الإلهية لهم فهناك آيات كثيرة مكية و مدنية صريحة قاطعة في ذلك.

و النبي صلى الله عليه وآله و سلم أجل من أن يخفى عليه ما أنزله الله إليه أو أن لا يثق بما وعدهم الله من العذاب المخلد وعدا حتميا فيطمع في نقض القضاء المحتوم بالإصرار عليه تعالى و الإلحاح في طلب الغفران لهم.

أو أن يخفى عليه أن الترديد في الآية لبيان اللغوية و أن لا خصوصية لعدد السبعين حتى يطمع في مغفرتهم لو زاد على السبعين.

و ليت شعري ما ذا يزيد قوله تعالى في سورة المنافقون: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اَللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِينَ على قوله تعالى في هذه الآية ﴿اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ

 

 

 

 

 

 

 اَللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِينَ و قد علل الله سبحانه نفي المغفرة نفيا مؤبدا فيهما بأنهم فاسقون و الله لا يهدي القوم الفاسقين.

فقد تلخص أن هذه الروايات و ما في معناها موضوعة يجب طرحها.

 و في الدر المنثور، أخرج أحمد و البخاري و الترمذي و النسائي و ابن أبي حاتم و النحاس و ابن حبان و ابن مردويه و أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال: سمعت عمر يقول: لما توفي عبد الله بن أبي دعي رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم للصلاة عليه فقام عليه فلما وقف قلت: أ على عدو الله عبد الله بن أبي القائل كذا و كذا و القائل كذا و كذا؟ أعدد أيامه و رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم يتبسم حتى إذا أكثرت قال: يا عمر أخر عني إني قد خيرت قد قيل لي: ﴿اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فلو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت عليها .

ثم صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم و مشى معه حتى قام على قبره حتى فرغ منه فعجبت لي و لجرأتي على رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم و الله و رسوله أعلم فوالله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان: ﴿وَ لاَ تُصَلِّ عَلى‏ أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَ لاَ تَقُمْ عَلى‏َ قَبْرِهِ فما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم على منافق بعده حتى قبضه الله عز و جل. أقول: قوله ص في الرواية: «فلو أعلم أني إن زدت على السبعين» إلخ صريح في أنه كان آئسا من شمول المغفرة له، و هو يشهد بأن المراد من قوله: «إني قد خيرت قد قيل لي ﴿اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إن الله قد ردد الأمر و لم ينهه عن الاستغفار لا أنه خيره بين الاستغفار و عدمه تخييرا حقيقيا حتى ينتج تأثير الاستغفار في حصول المغفرة أو رجاء ذلك.

و من ذلك يعلم أن استغفاره ص لعبد الله و صلاته عليه و قيامه على قبره إن ثبت شي‏ء من ذلك لم يكن شي‏ء من ذلك لطلب المغفرة و الدعاء له جدا كما سيأتي في رواية القمي، و في الروايات كلام سيأتي.

 و فيه، عن ابن أبي حاتم عن الشعبي أن عمر بن الخطاب قال: لقد أصبت في الإسلام هفوة ما أصبت مثلها قط أراد رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم أن يصلي على عبد الله بن أبي فأخذت بثوبه فقلت: و الله ما أمرك الله بهذا لقد قال الله: ﴿اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اَللَّهُ لَهُمْ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم :

 

 

 

 

 

 

 قد خيرني ربي فقال: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم فقعد رسول الله على شفير القبر فجعل الناس يقولون لابنه: يا حباب افعل كذا يا حباب افعل كذا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : الحباب اسم شيطان أنت عبد الله. و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ الآية أنها نزلت لما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم المدينة و مرض عبد الله بن أبي و كان ابنه عبد الله بن عبد الله مؤمنا فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم و أبوه يجود بنفسه فقال: يا رسول الله بأبي أنت و أمي إنك إن لم تأت أبي كان ذلك عارا علينا فدخل إليه رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم و المنافقون عنده فقال ابنه عبد الله بن عبد الله استغفر له فاستغفر له .

فقال عمر: أ لم ينهك الله يا رسول الله أن تصلي على أحد أو تستغفر له؟ فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فأعاد عليه فقال له: ويلك إني قد خيرت فاخترت إن الله يقول: ﴿اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اَللَّهُ لَهُمْ.

فلما مات عبد الله جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فقال: بأبي أنت و أمي يا رسول الله إن رأيت أن تحضر جنازته فحضر رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فقام على قبره فقال له عمر: يا رسول الله أ لم ينهك الله أن تصلي على أحد منهم مات أبدا و أن تقيم على قبره؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : ويلك و هل تدري ما قلت؟ إنما قلت: اللهم احش قبره نارا و جوفه نارا و أصله النار فبدا من رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم ما لم يكن يحب.

 أقول: و في الروايات تتمة كلام سيوافيك في ذيل الآيات التالية.

[سورة التوبة ٩: الآیات ٨١ الی ٩٦ ]

﴿فَرِحَ اَلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اَللَّهِ وَ كَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ قَالُوا لاَ تَنْفِرُوا فِي اَلْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ٨١ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَ لْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ٨٢ فَإِنْ رَجَعَكَ اَللَّهُ إِلى‏ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ

 

 

 

 

 

 

فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ اَلْخَالِفِينَ ٨٣ وَ لاَ تُصَلِّ عَلى‏ أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَ لاَ تَقُمْ عَلى‏ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ مَاتُوا وَ هُمْ فَاسِقُونَ ٨٤ وَ لاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي اَلدُّنْيَا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كَافِرُونَ ٨٥ وَ إِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَ جَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اِسْتَأْذَنَكَ أُولُوا اَلطَّوْلِ مِنْهُمْ وَ قَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ اَلْقَاعِدِينَ ٨٦ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ اَلْخَوَالِفِ وَ طُبِعَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ٨٧ لَكِنِ اَلرَّسُولُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ أُولَئِكَ لَهُمُ اَلْخَيْرَاتُ وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ ٨٨ أَعَدَّ اَللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ ٨٩ وَ جَاءَ اَلْمُعَذِّرُونَ مِنَ اَلْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَ قَعَدَ اَلَّذِينَ كَذَبُوا اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ سَيُصِيبُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ٩٠ لَيْسَ عَلَى اَلضُّعَفَاءِ وَ لاَ عَلَى اَلْمَرْضى‏ وَ لاَ عَلَى اَلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ مَا عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَ اَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٩١ وَ لاَ عَلَى اَلَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ اَلدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ٩٢ إِنَّمَا 

 

 

 

 

 

 

اَلسَّبِيلُ عَلَى اَلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَ هُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ اَلْخَوَالِفِ وَ طَبَعَ اَللَّهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٩٣ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لاَ تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اَللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَ سَيَرَى اَللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى‏ عَالِمِ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ٩٤ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا اِنْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ٩٥ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اَللَّهَ لاَ يَرْضى‏ عَنِ اَلْقَوْمِ اَلْفَاسِقِينَ ٩٦ 

بيان

الآيات تقبل الاتصال بالآيات التي قبلها و هي تعقب غرضا يعقبه ما تقدمها.

قوله تعالى: ﴿فَرِحَ اَلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اَللَّهِ الآية الفرح و السرور خلاف الغم و هما حالتان نفسيتان وجدانيتان ملذة و مؤلمة، و المخلفون‏ اسم مفعول من قولهم خلفه إذا تركه بعده و المقعد كالقعود مصدر قعد يقعد و هو كناية عن عدم الخروج إلى الجهاد. و الخلاف‏ كالمخالفة مصدر خالف يخالف، و ربما جاء بمعنى بعد كما قيل و لعل منه قوله: ﴿وَ إِذاً لاَ يَلْبَثُونَ خِلاَفَكَ إِلاَّ قَلِيلاً و كان قياس الكلام أن يقال: ﴿خِلاَفَكَ لأن الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وآله و سلم و إنما قيل: ﴿خِلاَفَ رَسُولِ اَللَّهِ للدلالة على أنهم إنما يفرحون على مخالفة الله العظيم فما على الرسول إلا البلاغ.

و المعنى فرح المنافقون الذين تركتهم بعدك بعدم خروجهم معك خلافا لك

 

 

 

 

 

 

 أو بعدك و كرهوا أن يجاهدوا بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله.

و قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا لاَ تَنْفِرُوا فِي اَلْحَرِّ خاطبوا بذلك غيرهم ليخذلوا النبي صلى الله عليه وآله و سلم و يبطلوا مسعاه في تنفير الناس إلى الغزوة، و لذلك أمره الله تعالى أن يجيب عن قولهم ذلك بقوله: ﴿قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا أي إن الفرار عن الحر بالقعود إن أنجاكم منه لم ينجكم مما هو أشد منه و هو نار جهنم التي هي أشد حرا فإن الفرار عن هذا الهين يوقعكم في ذاك الشديد. ثم أفاد بقوله: ﴿لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ المصدر بلو التمني اليأس من فقههم و فهمهم.

قوله تعالى: ﴿فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَ لْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ تفريع على تخلفهم عن الجهاد بالأموال و الأنفس و فرحهم بالقعود عن هذه الفريضة الإلهية الفطرية التي لا سعادة للإنسان في حياته دونها.

و قوله: ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ و الباء للمقابلة أو السببية دليل على أن المراد بالضحك القليل هو الذي في الدنيا فرحا بالتخلف و القعود و نحو ذلك، و بالبكاء الكثير ما كان في الآخرة في نار جهنم التي هي أشد حرا فإن الذي فرع عليه الضحك و البكاء هو ما في الآية السابقة، و هو فرحهم بالتخلف و خروجهم من حر الهواء إلى حر نار جهنم.

فالمعنى: فمن الواجب بالنظر إلى ما عملوه و اكتسبوه أن يضحكوا و يفرحوا قليلا في الدنيا و أن يبكوا و يحزنوا كثيرا في الآخرة فالأمر بالضحك و البكاء للدلالة على إيجاب السبب و هو ما كسبوه من الأعمال لذلك.

و أما حمل الأمر في قوله: ﴿فَلْيَضْحَكُوا و قوله: ﴿وَ لْيَبْكُوا على الأمر المولوي لينتج تكليفا من التكاليف الشرعية فلا يناسبه قوله: ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ.

و يمكن أن يكون المراد الأمر بالضحك القليل و البكاء الكثير معا ما هو في الدنيا جزاء لسابق أعمالهم فإنها هدتهم إلى راحة وهمية في أيام قلائل و هي أيام قعودهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم ثم إلى هوان و ذلة عند الله و رسوله و المؤمنين ما داموا أحياء في الدنيا ثم إلى شديد حر النار في الآخرة بعد موتهم.

قوله تعالى: ﴿فَإِنْ رَجَعَكَ اَللَّهُ إِلى‏ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ إلى آخر

 

 

 

 

 

 

الآية المراد بالقعود أول مرة التخلف عن الخروج في أول مرة كان عليهم أن يخرجوا فيها فلم يخرجوا، و لعلها غزوة تبوك كما يهدي إليه السياق.

و المراد بالخالفين المتخلفون بحسب الطبع كالنساء و الصبيان و المرضى و الزمنى و قيل: المتخلفون من غير عذر، و قيل: الخالفون هم أهل الفساد، و الباقي واضح.

و في قوله: ﴿فَإِنْ رَجَعَكَ اَللَّهُ إِلى‏ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ الآية دلالة على أن هذه الآية و ما في سياقها المتصل من الآيات السابقة و اللاحقة نزلت و رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم في سفره و لما يرجع إلى المدينة، و هو سفره إلى تبوك.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تُصَلِّ عَلى‏ أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَ لاَ تَقُمْ عَلى‏َ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ مَاتُوا وَ هُمْ فَاسِقُونَ نهي عن الصلاة لمن مات من المنافقين و القيام على قبره و قد علل النهي بأنهم كفروا و فسقوا و ماتوا على فسقهم، و قد علل لغوية الاستغفار لهم في قوله تعالى: السابق: ﴿اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ آية ٨٠ من السورة، و كذا في قوله ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اَللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِينَ المنافقون: ٦ بالكفر و الفسق أيضا.

و يتحصل من الجميع أن من فقد الإيمان بالله باستيلاء الكفر على قلبه و إحاطته به فلا سبيل له إلى النجاة يهتدي به، و أن الآيات الثلاث جميعا تكشف عن لغوية الاستغفار للمنافقين و الصلاة على موتاهم و القيام على قبورهم للدعاء لهم.

و في الآية إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وآله و سلم كان يصلي على موتى المسلمين و يقوم على قبورهم للدعاء.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَ أَوْلاَدُهُمْ الآية تقدم بعض ما يتعلق بالآية من الكلام في الآية ٥٥ من السورة.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَ جَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ إلى آخر الآيتين. الطول‏ القدرة و النعمة، و الخوالف هم الخالفون و الكلام فيه كالكلام فيه، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿لَكِنِ اَلرَّسُولُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ لما ذم المنافقين في الآيتين السابقتين بالرضا بالقعود مع الخوالف و الطبع على قلوبهم

 

 

 

 

 

 

 استدرك بالنبي صلى الله عليه وآله و سلم و الذين آمنوا معه و المراد بهم المؤمنون حقا الذين خلصت قلوبهم من رين النفاق بدليل المقابلة مع المنافقين - ليمدحهم بالجهاد بأموالهم و أنفسهم أي إنهم لم يرضوا بالقعود و لم يطبع على قلوبهم بل نالوا سعادة الحياة و النور الإلهي الذي يهتدون به في مشيهم كما قال تعالى: ﴿أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ الأنعام: ١٢٢.

و لذلك عقب الكلام بقوله: ﴿وَ أُولَئِكَ لَهُمُ اَلْخَيْرَاتُ وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ فلهم جميع الخيرات على ما يقتضيه الجمع المحلى باللام من الحياة الطيبة و نور الهدى و الشهادة و سائر ما يتقرب به إلى الله سبحانه، و هم المفلحون الفائزون بالسعادة.

قوله تعالى: ﴿أَعَدَّ اَللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي الآية الإعداد هو التهيئة و قد عبر بالإعداد دون الوعد لأن الأمور بخواتيمها و عواقبها فلو كان وعدا و هو وعد لجميع من آمن معه لكان قضاء حتميا واجب الوفاء سواء بقي الموعودون على صفاء إيمانهم و صلاح أعمالهم أو غيروا و الله لا يخلف الميعاد.

و الأصول القرآنية لا تساعد على ذلك، و لا الفطرة السليمة ترضى أن ينسب إلى الله سبحانه أن يطبع بطابع المغفرة و الجنة الحتمية على أحد لعمل عمله من الصالحات ثم يخلي بينه و بين ما شاء و أراد.

و لذلك نجده سبحانه إذا وعد وعدا علقه على عنوان من العناوين العامة كالإيمان و العمل الصالح يدور معه الوعد الجميل من غير أن يخص به أشخاصا بأعيانهم فيفيد التناقض بالجمع بين التكليف و التأمين كما قال تعالى: ﴿وَعَدَ اَللَّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ الآية - ٧٢ من السورة، و قال تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللَّهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى اَلْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ إلى أن قال ﴿وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً الفتح: ٢٩.

قوله تعالى: ﴿وَ جَاءَ اَلْمُعَذِّرُونَ مِنَ اَلْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ الآية. الظاهر أن المراد بالمعذرين هم أهل العذر كالذي لا يجد نفقة و لا سلاحا بدليل قوله: ﴿وَ قَعَدَ اَلَّذِينَ كَذَبُوا الآية، و السياق يدل على أن في الكلام قياسا لإحدى الطائفتين إلى الأخرى ليظهر به لؤم المنافقين و خستهم و فساد قلوبهم و شقاء نفوسهم، حيث إن فريضة الجهاد الدينية و النصرة لله و رسوله هيج لذلك المعذرين من الأعراب و جاءوا

 

 

 

 

 

 

 إلى النبي صلى الله عليه وآله و سلم يستأذنونه، و لم يؤثر في هؤلاء الكاذبين شيئا.

قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى اَلضُّعَفَاءِ وَ لاَ عَلَى اَلْمَرْضى‏ وَ لاَ عَلَى اَلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ المراد بالضعفاء بدلالة سياق الآية: الذين لا قوة لهم على الجهاد بحسب الطبع كالزمنى كما أن المرضى لا قوة لهم عليه بحسب عارض مزاجي، و الذين لا يجدون ما ينفقون لا قوة لهم عليه من جهة فقد المال و نحوه.

فهؤلاء مرفوع عنهم الحرج و المشقة أي الحكم بالوجوب الذي لو وضع كان حكما حرجيا، و كذا ما يستتبعه الحكم من الذم و العقاب على تقرير المخالفة.

و قد قيد الله تعالى رفع الحرج عنهم بقوله: ﴿إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ و هو ناظر إلى الذم و العقاب على المخالفة و القعود فإنما يرفع الذم و العقاب عن هؤلاء المعذورين إذا نصحوا لله و رسوله، و أخلصوا من الغش و الخيانة و لم يجروا في قعودهم على ما يجري عليه المنافقون المتخلفون من تقليب الأمور و إفساد القلوب في مجتمع المؤمنين، و إلا فيجري عليهم ما يجري على المنافقين من الذم و العقاب.

و قوله: ﴿مَا عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ في مقام التعليل لنفي الحرج عن الطوائف المذكورين بشرط أن ينصحوا لله و رسوله أي لأنهم يكونون حينئذ محسنين و ما على المحسنين من سبيل فلا سبيل يتسلط عليهم يؤتون منه فيصابون بما يكرهونه.

ففي السبيل كناية عن كونهم في مأمن مما يصيبهم من مكروه كأنهم في حصن حصين لا طريق إلى داخله يسلكه الشر إليهم فيصيبهم، و الجملة عامة بحسب المعنى و إن كان مورد التطبيق خاصا.

قوله تعالى: ﴿وَ لاَ عَلَى اَلَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ الآية قال في المجمع،: الحمل‏ إعطاء المركوب من فرس أو بعير أو غير ذلك تقول: حمله يحمله حملا إذا أعطاه ما يحمل عليه قال:

أ لا فتى عنده خفان يحملني *** عليهما إنني شيخ على سفر

 قال: و الفيض‏ الجري عن امتلاء من قولهم: فاض الإناء بما فيه، و الحزن‏ ألم في القلب لفوت أمر مأخوذ من حزن الأرض و هي الأرض الغليظة المسلك. انتهى.

و قوله: ﴿وَ لاَ عَلَى اَلَّذِينَ الآية. موصول صلته قوله: ﴿تَوَلَّوْا الآية، و قوله: ﴿إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ كالشرك و الجزاء و المجموع ظرف لقوله: ﴿تَوَلَّوْا و حزنا

 

 

 

 

 

 

 مفعول له، و ﴿أَلاَّ يَجِدُوا منصوب بنزع الخافض.

و المعنى: و لا حرج على الفقراء الذين إذا ما أتوك لتعطيهم مركوبا يركبونه و تصلح سائر ما يحتاجون إليه من السلاح و غيره قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا و الحال أن أعينهم تمتلئ و تسكب دموعا للحزن من أن لا يجدوا أو لأن لا يجدوا ما ينفقونه في سبيل الله للجهاد مع أعدائه.

و عطف هذا الصنف على ما تقدمه من عطف الخاص على العام عناية بهم لأنهم في أعلى درجة من النصح و إحسانهم ظاهر.

قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا اَلسَّبِيلُ عَلَى اَلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَ هُمْ أَغْنِيَاءُ الآية، القصر للإفراد و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ﴿يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ إلى آخر الآية. خطاب الجمع للنبي صلى الله عليه وآله و سلم و المؤمنين جميعا، و قوله: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ أي لن نصدقكم على ما تعتذرون به بناء على تعدية الإيمان باللام كالباء أو لن نصدق تصديقا ينفعكم بناء على كون اللام للنفع و الجملة تعليل لقوله: ﴿لاَ تَعْتَذِرُوا كما أن قوله: ﴿قَدْ نَبَّأَنَا اَللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ تعليل لهذه الجملة.

و المعنى يعتذر المنافقون إليكم عند رجوعكم من الغزوة إليهم قل يا محمد لهم: لا تعتذروا إلينا لأنا لن نصدقكم فيما تعتذرون به لأن الله قد أخبرنا ببعض أخباركم مما يظهر به نفاقكم و كذبكم فيما تعتذرون به، و سيظهر عملكم ظهور شهود لله و رسوله ثم تردون إلى الله الذي يعلم الغيب و الشهادة يوم القيامة فيخبركم بحقائق أعمالكم.

و في قوله: ﴿وَ سَيَرَى اَللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ إلخ في إيضاحه كلام سيمر بك عن قريب.

قوله تعالى: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا اِنْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ الآية أي لتعرضوا عنهم فلا تتعرضوا لهم بالعتاب و التقريع و ما يتعقب ذلك فأعرضوا عنهم لا تصديقا لهم فيما يحلفون له من الأعذار بل لأنهم رجس ينبغي أن لا يقترب منهم و مأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون.

قوله تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اَللَّهَ لاَ يَرْضى‏ عَنِ اَلْقَوْمِ اَلْفَاسِقِينَ أي هذا الحلف منهم كما كان للتوسل إلى صرفكم عنهم ليأمنوا

 

 

 

 

 

 

 الذم و التقريع كذلك هو للتوسل إلى رضاكم عنهم أما الإعراض فافعلوه لأنهم رجس لا ينبغي لنزاهة الإيمان و طهارته أن تتعرض لرجس النفاق و الكذب و قذارة الكفر و الفسق، و أما الرضى فاعلموا أنكم إن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عنهم لفسقهم و الله لا يرضى عن القوم الفاسقين.

فالمراد أنكم إن رضيتم عنهم فقد رضيتم عمن لم يرض الله عنه أي رضيتم بخلاف رضى الله، و لا ينبغي لمؤمن أن يرضى عما يسخط ربه فهو أبلغ كناية عن النهي عن الرضا عن المنافقين.

بحث روائي

 في الدر المنثور: في قوله تعالى: ﴿فَرِحَ اَلْمُخَلَّفُونَ الآية: أخرج ابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه عليه السلام قال: كانت غزوة تبوك آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم، و هي غزوة الحر ﴿قَالُوا لاَ تَنْفِرُوا فِي اَلْحَرِّ و هي غزوة العسرة. و فيه، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم أمر الناس أن ينبعثوا معه و ذلك في الصيف فقال رجال.

يا رسول الله إن الحر شديد و لا نستطيع الخروج فلا تنفروا في الحر فقال الله ﴿قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فأمره بالخروج. أقول: ظاهر الآية أنهم إنما قالوه ليخذلوا الناس عن الخروج، و ظاهر الحديث أنهم إنما قالوه إشارة فلا يتطابقان.

 و فيه، أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي و غيره قالوا :خرج رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم في حر شديد إلى تبوك فقال رجل من بني سلمة: لا تنفروا في الحر فأنزل الله: ﴿قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا الآية. أقول: تقدمت أخبار في قوله تعالى: ﴿وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ اِئْذَنْ لِي وَ لاَ تَفْتِنِّي الآية أن القائل لقوله: ﴿لاَ تَنْفِرُوا فِي اَلْحَرِّ هو جد بن قيس.

 و في الدر المنثور، أيضا: في قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تُصَلِّ عَلى‏ أَحَدٍ مِنْهُمْ الآية: أخرج البخاري و مسلم و ابن أبي حاتم و ابن المنذر و أبو الشيخ و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل

 

 

 

 

 

 

عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أبي بن سلول أتى ابنه عبد الله رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم يسأله أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم .

فقام عمر بن الخطاب فأخذ ثوبه فقال: يا رسول الله أ تصلي عليه و قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين؟ فقال: إن ربي خيرني و قال: ﴿اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اَللَّهُ لَهُمْ، و سأزيد على السبعين فقال: إنه منافق فصلى عليه فأنزل الله تعالى: ﴿وَ لاَ تُصَلِّ عَلى‏ أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَ لاَ تَقُمْ عَلى‏ قَبْرِهِ فترك الصلاة عليهم.

 أقول: و في هذا المعنى روايات أخرى رواها أصحاب الجوامع و رواة الحديث عن عمر بن الخطاب و جابر و قتادة، و في بعضها أنه كفنه في قميصه و نفث في جلده و نزل في قبره.

 و فيه، أخرج أحمد و البخاري و الترمذي و النسائي و ابن أبي حاتم و النحاس و ابن حبان و ابن مردويه و أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال: سمعت عمر يقول: لما توفي عبد الله بن أبي دعي رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم للصلاة عليه فقام عليه فلما وقف قلت: أ تصلي على عدو الله عبد الله بن أبي القائل كذا و كذا و القائل كذا و كذا أعدد أيامه و رسول الله يتبسم حتى إذا أكثرت قال: يا عمر أخر عني إني قد خيرت قد قيل لي. ﴿اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً، فلو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت عليها ثم صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم و مشى معه حتى قام على قبره حتى فرغ منه .

فعجبت لي و لجرأتي على رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم ، و الله و رسوله أعلم فوالله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان: ﴿وَ لاَ تُصَلِّ عَلى‏َ أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَ لاَ تَقُمْ عَلى‏َ قَبْرِهِ فما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم على منافق بعده حتى قبضه الله عز و جل. و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي أن عمر بن الخطاب قال: لقد أصبت في الإسلام هفوة ما أصبت مثلها قط أراد رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم أن يصلي على عبد الله بن أبي فأخذت بثوبه فقلت: و الله ما أمرك الله بهذا. لقد قال الله: ﴿اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اَللَّهُ لَهُمْ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : قد خيرني ربي فقال ﴿اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ.

فقعد رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم على شفير القبر فجعل الناس يقولون لابنه، يا حباب افعل

 

 

 

 

 

 

 كذا يا حباب افعل كذا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : الحباب اسم شيطان أنت عبد الله. و فيه، أخرج الطبراني و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن ابن عباس :أن ابن عبد الله بن أبي قال له أبوه، اطلب لي ثوبا من ثياب النبي صلى الله عليه وآله و سلم فكفني فيه و مره أن يصلي علي قال: فأتاه فقال: يا رسول الله قد عرفت شرف عبد الله و هو يطلب إليك ثوبا من ثيابك نكفنه فيه و تصلي عليه .

فقال عمر: يا رسول الله قد عرفت عبد الله و نفاقه أ تصلي عليه و قد نهاك الله أن تصلي عليه؟ فقال: و أين؟ فقال: ﴿اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اَللَّهُ لَهُمْ قال: فإني سأزيد على سبعين فأنزل الله: ﴿وَ لاَ تُصَلِّ عَلى‏َ أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَ لاَ تَقُمْ عَلى‏َ قَبْرِهِ الآية قال: فأرسل إلى عمر فأخبره بذلك و أنزل الله ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ.

 أقول: و قد ورد استغفار النبي صلى الله عليه وآله و سلم لعبد الله بن أبي و صلاته عليه في بعض المراسيل من روايات الشيعة أيضا أوردها العياشي و القمي في تفسيريهما، و قد تقدم خبر القمي.

و هذه الروايات على ما فيها من بعض التناقض و التدافع و اشتمالها على التعارض فيما بينها يدفعها الآيات الكريمة دفعا بينا لا مرية فيه: أما أولا فلظهور قوله تعالى: ﴿اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اَللَّهُ لَهُمْ ظهورا بينا في أن المراد بالآية بيان لغوية الاستغفار للمنافقين دون التخيير، و أن العدد جي‏ء به لمبالغة الكثرة لا لخصوصية في السبعين بحيث ترجى المغفرة مع الزائد على السبعين.

و النبي صلى الله عليه وآله و سلم أجل من أن يجهل هذه الدلالة فيحمل الآية على التخيير ثم يقول سأزيد على سبعين ثم يذكره غيره بمعنى الآية فيصر على جهله حتى ينهاه الله عن الصلاة و غيرها بآية أخرى ينزلها عليه.

على أن جميع هذه الآيات المتعرضة للاستغفار للمنافقين و الصلاة عليهم كقوله: ﴿اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ و قوله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ و قوله: ﴿وَ لاَ تُصَلِّ عَلى‏ أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً تعلل النهي و اللغوية بكفرهم و فسقهم، حتى قوله تعالى في النهي عن الاستغفار للمشركين: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَ اَلَّذِينَ

 

 

 

 

 

 

 آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبى‏َ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ اَلْجَحِيمِ آية: - ١١٣ من السورة ينهى عن الاستغفار معللا ذلك بالكفر و خلود النار، و كيف يتصور مع ذلك جواز الاستغفار لهم و الصلاة عليهم؟.

و ثانيا: أن سياق الآيات التي منها قوله: ﴿وَ لاَ تُصَلِّ عَلى‏ أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً الآية صريح في أن هذه الآية إنما نزلت و النبي صلى الله عليه وآله و سلم في سفره إلى تبوك و لما يرجع إلى المدينة، و ذاك في سنة ثمان، و قد وقع موت عبد الله بن أبي بالمدينة سنة تسع من الهجرة كل ذلك مسلم من طريق النقل.

فما معنى قوله في هذه الروايات: أن النبي صلى الله عليه وآله و سلم صلى على عبد الله و قام على قبره ثم أنزل الله عليه: ﴿وَ لاَ تُصَلِّ عَلى‏َ أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً الآية؟.

و أعجب منه ما وقع في بعض الروايات السابقة أن عمر قال للنبي صلى الله عليه وآله و سلم : أ تصلي عليه و قد نهاك عن الصلاة للمنافقين فقال: إن ربي خيرني ثم أنزل الله: ﴿وَ لاَ تُصَلِّ عَلى‏َ أَحَدٍ مِنْهُمْ الآية.

و أعجب منه ما في الرواية الأخيرة من نزول قوله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ الآية، و الآية من سورة المنافقون و قد نزلت بعد غزاة بني المصطلق و كانت في سنة خمس و عبد الله بن أبي حي عندئذ و قد حكي في السورة قوله: ﴿لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى اَلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ اَلْأَعَزُّ مِنْهَا اَلْأَذَلَّ.

و قد اشتمل بعض هذه الروايات و تعلق به بعض من انتصر لها على أن النبي صلى الله عليه وآله و سلم إنما استغفر و صلى على عبد الله ليستميل قلوب رجال منافقين من الخزرج إلى الإسلام، و كيف يستقيم ذلك؟ و كيف يصح أن يخالف النبي صلى الله عليه وآله و سلم النص الصريح من الآيات استمالة لقلوب المنافقين و مداهنة معهم؟ و قد هدده الله على ذلك بأبلغ التهديد في مثل قوله: ﴿إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ اَلْحَيَاةِ وَ ضِعْفَ اَلْمَمَاتِ الآية: إسراء: ٧٥. فالوجه أن هذه الروايات موضوعة يجب طرحها بمخالفة الكتاب.

 و في الدر المنثور،: في قوله: ﴿رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ اَلْخَوَالِفِ الآية: أخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص: أن علي بن أبي طالب خرج مع النبي صلى الله عليه وآله و سلم حتى جاء ثنية الوداع يريد تبوك، و علي يبكي و يقول: تخلفني مع الخوالف؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: أ لا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة.

 

 

 

 

 

 

 أقول: و الرواية مروية بطرق كثيرة من طرق الفريقين.

 و في تفسير العياشي عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام: في قوله: ﴿رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ اَلْخَوَالِفِ قال: مع النساء.

و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق في المصنف و ابن أبي شيبة و أحمد و البخاري و أبو الشيخ و ابن مردويه عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم لما قفل من غزوة تبوك فأشرف على المدينة قال: لقد تركتم بالمدينة رجالا ما سرتم في مسير و لا أنفقتم من نفقة و لا قطعتم واديا إلا كانوا معكم فيه. قالوا: يا رسول الله و كيف يكونون معنا و هم بالمدينة؟ قال: حبسهم العذر.

 و في المجمع، :في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى اَلضُّعَفَاءِ وَ لاَ عَلَى اَلْمَرْضى‏َ الآيتين قيل: إن الآية الأولى نزلت في عبد الله بن زائدة و هو ابن أم مكتوم و كان ضرير البصر جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فقال: يا نبي الله إني شيخ ضرير خفيف الحال نحيف الجسم و ليس لي قائد فهل لي رخصة في التخلف عن الجهاد؟ فسكت النبي صلى الله عليه وآله و سلم فأنزل الله الآية. عن الضحاك، و قيل: نزلت في عائذ بن عمرو و أصحابه. عن قتادة .

و الآية الثانية نزلت في البكاءين و هم سبعة نفر: منهم عبد الرحمن بن كعب و علبة بن زيد و عمرو بن ثعلبة بن غنمة و هؤلاء من بني النجار، و سالم بن عمير و هرمي بن عبد الله و عبد الله بن عمرو بن عوف [أو] و عبد الله بن مغفل من مزينة جاءوا إلى رسول الله فقالوا يا رسول الله احملنا فإنه ليس لنا ما نخرج عليه فقال.

لا أجد ما أحملكم عليه عن أبي حمزة الثمالي .

و قيل: نزلت في سبعة من قبائل شتى أتوا النبي صلى الله عليه وآله و سلم فقالوا له: احملنا على الخفاف و النعال. عن محمد بن كعب و ابن إسحاق .

و قيل: كانوا جماعة من مزينة. عن مجاهد، و قيل: كانوا سبعة من فقراء الأنصار فلما بكوا حمل عثمان منهم رجلين، و العباس بن عبد المطلب رجلين، و يامين بن كعب النضري ثلاثة عن الواقدي قال: و كان الناس بتبوك - مع رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم ثلاثين ألفا منهم عشرة آلاف فارس. أقول: و الروايات في أسماء البكاءين مختلفة اختلافا شديدا.

 و في تفسير القمي، قال :قال: و إنما سأل هؤلاء البكاءون نعلا يلبسونها.

 

 

 

 

 

 

 و في المعاني، بإسناده عن ثعلبة عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام: في قول الله عز و جل: ﴿عَالِمِ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ فقال: الغيب ما لم يكن و الشهادة ما قد كان.

 أقول: و هو من باب إراءة بعض المصاديق و اللفظ أعم.

 و في تفسير القمي، قال: و لما قدم النبي صلى الله عليه وآله و سلم من تبوك كان أصحابه المؤمنون يتعرضون المنافقين و يؤذونهم فأنزل الله: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا اِنْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ إلى آخر الآيتين. -و في المجمع :قيل: نزلت الآيات في جد بن قيس و متعب بن قشير و أصحابهما من المنافقين - و كانوا ثمانين رجلا، و لما قدم النبي صلى الله عليه وآله و سلم المدينة راجعا عن تبوك قال: لا تجالسوهم و لا تكلموهم :عن ابن عباس.

 [سورة التوبة ٩: الآیات ٩٧ الی ١٠٦]

﴿اَلْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفَاقاً وَ أَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلى‏ رَسُولِهِ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَ مِنَ اَلْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَ يَتَرَبَّصُ بِكُمُ اَلدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ اَلسَّوْءِ وَ اَللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ٩٨ وَ مِنَ اَلْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اَللَّهِ وَ صَلَوَاتِ اَلرَّسُولِ أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اَللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٩٩ وَ اَلسَّابِقُونَ اَلْأَوَّلُونَ مِنَ اَلْمُهَاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصَارِ وَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا اَلْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ ١٠٠ وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ اَلْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ اَلْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى اَلنِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ

 

 

 

 

 

 

﴿إِلى‏ عَذَابٍ عَظِيمٍ وَ آخَرُونَ اِعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اَللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ١٠٢ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِهَا وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَ اَللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ١٠٣ أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَ يَأْخُذُ اَلصَّدَقَاتِ وَ أَنَّ اَللَّهَ هُوَ اَلتَّوَّابُ اَلرَّحِيمُ ١٠٤ وَ قُلِ اِعْمَلُوا فَسَيَرَى اَللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ إِلى‏ عَالِمِ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ١٠٥ وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اَللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ١٠٦

بيان

الكلام جار على الغرض السابق يبين به حال الأعراب في كفرهم و نفاقهم و إيمانهم و في خلال الآيات آية الصدقة.

قوله تعالى: ﴿اَلْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفَاقاً وَ أَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلى‏ رَسُولِهِ الآية، قال الراغب في المفردات،: العرب ولد إسماعيل، و الأعراب جمعه في الأصل، و صار ذلك اسما لسكان البادية: ﴿قَالَتِ اَلْأَعْرَابُ آمَنَّا و ﴿اَلْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفَاقاً﴾. ﴿وَ مِنَ اَلْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ﴾، و قيل في جمع الأعراب: أعاريب، قال الشاعر:

أعاريب ذوو فخر بإفك *** و ألسنة لطاف في المقال‏

و الأعرابي في التعارف صار اسما للمنسوب إلى سكان البادية، و العربي المفصح و الإعراب البيان، انتهى موضع الحاجة. يبين تعالى حال سكان البادية و أنهم أشد كفرا و نفاقا لأنهم لبعدهم عن المدنية و الحضارة، و حرمانهم من بركات الإنسانية من العلم و الأدب أقسى و أجفى، فهم أجدر و أحرى أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله من

 

 

 

 

 

 

 المعارف الأصلية و الأحكام الشرعية من فرائض و سنن و حلال و حرام.

قوله تعالى: ﴿وَ مِنَ اَلْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَ يَتَرَبَّصُ بِكُمُ اَلدَّوَائِرَ الآية، قال في المجمع:، المغرم‏ الغرم و هو نزول نائبة بالمال من غير خيانة، و أصله لزوم الأمر، و منه قوله: إن عذابها كان غراما، و حب غرام أي لازم و الغريم‏ يقال لكل واحد من المتداينين للزوم أحدهما الآخر و غرمته كذا أي ألزمته إياه في ماله، انتهى.

و الدائرة الحادثة و تغلب في الحوادث السوء كأن الحوادث السوء تدور بين الناس فتنزل كل يوم بقوم فتربص الدوائر بالمؤمنين انتظار نزول الحوادث السوء عليهم للتخلص من سلطتهم و الرجوع إلى رسوم الشرك و الضلال.

و قوله: ﴿يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً أي يفرض الإنفاق غرما أو المال الذي ينفقه مغرما على أن يكون ما مصدرية أو موصولة و المراد الإنفاق في الجهاد أو أي سبيل من سبل الخير على ما قيل، و يمكن أن يكون المراد الإنفاق في خصوص الصدقات ليكون الكلام كالتوطئة لما سيجي‏ء بعد عدة آيات من حكم أخذ الصدقة من أموالهم، و يؤيده ما في الآية التالية من قوله: ﴿وَ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اَللَّهِ وَ صَلَوَاتِ اَلرَّسُولِ فإنه كالتوطئة لقوله في آية الصدقة: ﴿وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ.

فمعنى الآية: و من سكان البادية من يفرض الإنفاق في سبيل الخير أو في خصوص الصدقات غرما و خسارة و ينتظر نزول الحوادث السيئة بكم، عليهم دائرة السوء قضاء منه تعالى أو دعاء عليهم و الله سميع للأقوال عليم بالقلوب.

قوله تعالى: ﴿وَ مِنَ اَلْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اَللَّهِ وَ صَلَوَاتِ اَلرَّسُولِ إلخ، الظاهر أن قوله: ﴿صَلَوَاتِ اَلرَّسُولِ عطف على قوله: ﴿مَا يُنْفِقُ و أن الضمير في قوله: ﴿أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ عائد إلى ما ينفق و صلوات الرسول.

و معنى الآية: و من الأعراب من يؤمن بالله فيوحده من غير شرك و يؤمن باليوم الآخر فيصدق الحساب و الجزاء و يتخذ إنفاق المال لله و ما يتبعه من صلوات الرسول و دعواته بالخير و البركة، كل ذلك قربات عند الله و تقربات منه إليه إلا أن هذا الإنفاق و صلوات الرسول قربة لهم، و الله يعدهم بأنه سيدخلهم في رحمته لأنه غفور للذنوب رحيم بالمؤمنين به و المطيعين له.

 

 

[1]   و قد مر في ص ٣٢٣ نقلا عن المصدر نفسه جحش بن حمير و هو مصحف ب.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=2074
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 05 / 13
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 03