بحث روائي
في المجمع، :في قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى﴾ إلخ قال: كان القتلى من المشركين يوم بدر سبعين قتل منهم علي بن أبي طالب عليه السلام سبعة و عشرين[1]، و كان الأسرى أيضا سبعين، و لم يؤسر أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله و سلم فجمعوا الأسارى، و قرنوهم في الحبال، و ساقوهم على أقدامهم، و قتل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم تسعة رجال منهم سعد بن خيثمة و كان من النقباء من الأوس .
قال: و عن محمد بن إسحاق قال: استشهد من المسلمين يوم بدر أحد عشر رجلا: أربعة من قريش، و سبعة من الأنصار، و قيل: ثمانية، و قتل من المشركين بضعة و أربعون رجلا[2].
قال: و عن ابن عباس قال :لما أمسى رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم يوم بدر و الناس محبوسون بالوثاق بات ساهرا أول الليلة فقال له أصحابه: ما لك لا تنام؟ فقال عليه السلام: سمعت أنين عمي العباس في وثاقه، فأطلقوه فسكت فنام رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم .
قال: و روى عبيدة السلماني عن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: أنه قال لأصحابه يوم بدر في الأسارى: إن شئتم قتلتموهم، و إن شئتم فاديتموهم و استشهد منكم بعدتهم، و كانت الأسارى سبعين فقالوا: بل نأخذ الفداء فنستمتع به و نتقوى به على عدونا، و ليستشهد منا بعدتهم قال عبيدة طلبوا الخيرتين كلتيهما[3] فقتل منهم يوم أحد سبعون.
و في كتاب علي بن إبراهيم، :لما قتل رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم النضر بن الحارث و عقبة بن أبي معيط خافت الأنصار أن يقتل الأسارى فقالوا: يا رسول الله قتلنا سبعين و هم قومك و أسرتك أ تجد أصلهم فخذ يا رسول الله منهم الفداء، و قد كانوا أخذوا ما وجدوه من الغنائم في عسكر قريش فلما طلبوا إليه و سألوه نزلت الآية: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى﴾ الآيات فأطلق لهم ذلك.
و كان أكثر الفداء أربعة آلاف درهم و أقله ألف درهم فبعثت قريش بالفداء أولا فأولا فبعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم من فداء زوجها أبي العاص بن الربيع، و بعثت قلائد لها كانت خديجة جهزتها بها، و كان أبو العاص ابن أخت خديجة، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم تلك القلائد قال: رحم الله خديجة هذه قلائد هي جهزتها بها فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم بشرط أن يبعث إليه زينب، و لا يمنعها من اللحوق به فعاهده على ذلك و وفى له.
قال: و روي: أن النبي صلى الله عليه وآله و سلم كره أخذ الفداء حتى رأى سعد بن معاذ كراهية ذلك في وجهه فقال: يا رسول الله هذا أول حرب لقينا فئة المشركين و الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال، و قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله كذبوك و أخرجوك فقدمهم و اضرب أعناقهم، و مكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، و مكني من فلان أضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر، و قال أبو بكر: أهلك و قومك استأن بهم و استبقهم و خذ منهم فدية فيكون لنا قوة على الكفار قال ابن زيد فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : لو نزل عذاب من السماء ما نجا منكم أحد غير عمر و سعد بن معاذ.
و قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: كان الفداء يوم بدر كل رجل من المشركين بأربعين أوقية، و الأوقية أربعون مثقالا إلا العباس فإن فداءه كان مائة أوقية، و كان أخذ منه حين أسر عشرون أوقية ذهبا فقال النبي صلى الله عليه وآله و سلم: ذلك غنيمة ففاد نفسك و ابني أخيك نوفلا و عقيلا فقال: ليس معي شيء. فقال: أين الذهب الذي سلمته إلى أم الفضل و قلت: إن حدث بي حدث فهو لك و للفضل و عبد الله و قثم. فقال: من أخبرك بهذا؟ قال: الله تعالى فقال: أشهد أنك رسول الله و الله ما اطلع على هذا أحد إلا الله تعالى. أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق الفريقين تركنا إيرادها إيثارا للاختصار.
و في قرب الإسناد، للحميري عن عبد الله بن ميمون عن جعفر عن أبيه عليه السلام قال: أوتي النبي صلى الله عليه وآله و سلم بمال دراهم فقال النبي صلى الله عليه وآله و سلم للعباس: يا عباس ابسط رداء و خذ من هذا المال طرفا فبسط رداء و أخذ منه طائفة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : يا عباس هذا من الذي قال الله تبارك و تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ اَلْأَسْرىَ إِنْ يَعْلَمِ اَللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ﴾ قال: نزلت في العباس و نوفل و عقيل
و قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم نهى يوم بدر أن يقتل أحد من بني هاشم و أبو البختري فأسروا فأرسل عليا فقال: انظر من هاهنا من بني هاشم؟ قال: فمر على عقيل بن أبي طالب فحاد عنه قال فقال له: يا بن أم علي أما و الله لقد رأيت مكاني .
قال: فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فقال: هذا أبو الفضل في يد فلان، و هذا عقيل في يد فلان، و هذا نوفل في يد فلان يعني نوفل بن الحارث فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم حتى انتهى إلى عقيل فقال: يا أبا يزيد قتل أبو جهل! فقال: إذا لا تنازعوا في تهامة. قال: إن كنتم أثخنتم القوم و إلا فاركبوا أكتافهم .
قال: فجيء بالعباس فقيل له: أفد نفسك و أفد ابن [ابني] أخيك فقال: يا محمد تتركني أسأل قريشا في كفي فقال ص له: أعط مما خلفت عند أم الفضل و قلت لها إن أصابني شيء في وجهي فأنفقيه على ولدك و نفسك. قال: يا ابن أخي من أخبرك بهذا؟ قال: أتاني به جبرئيل. فقال: و محلوفة ما علم بهذا إلا أنا و هي أشهد أنك رسول الله. قال: فرجع الأسارى كلهم مشركين إلا العباس و عقيل و نوفل بن الحارث» و فيهم نزلت هذه الآية: ﴿قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ اَلْأَسْرى﴾. الآية.
أقول: و روي في الدر المنثور، هذه المعاني بطرق مختلفة عن الصحابة و روي نزول الآية في العباس و ابني أخيه عن ابن سعد و ابن عساكر عن ابن عباس، و روي مقدار الفدية التي فدي بها عن كل رجل من الأسارى، و قصة فدية العباس عنه و عن ابني أخيه الطبرسي في مجمع البيان، عن الباقر عليه السلام كما في الحديث.
[سورة الأنفال ٨: الآیات ٧٢ الی ٧٥]
﴿إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هَاجَرُوا وَ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ اَلَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَ إِنِ اِسْتَنْصَرُوكُمْ فِي اَلدِّينِ فَعَلَيْكُمُ اَلنَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَ اَللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ٧٢ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي اَلْأَرْضِ وَ فَسَادٌ كَبِيرٌ ٧٣ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هَاجَرُوا وَ جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ اَلَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ٧٤ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَ هَاجَرُوا وَ جَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَ أُولُوا اَلْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىَ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اَللَّهِ إِنَّ اَللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ٧٥﴾
بيان
الآيات تختم السورة، و يرجع معناها نوع رجوع إلى ما افتتحت به السورة و فيها إيجاب الموالاة بين المؤمنين إلا إذا اختلفوا بالمهاجرة و عدمها و قطع موالاة الكافرين.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هَاجَرُوا وَ جَاهَدُوا﴾ إلى قوله: ﴿أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ المراد بالذين آمنوا و هاجروا: الطائفة الأولى من المهاجرين قبل نزول السورة بدليل ما سيذكر من المهاجرين في آخر الآيات، و المراد بالذين آووا و نصروا: هم الأنصار الذين آووا النبي صلى الله عليه وآله و سلم و المؤمنين المهاجرين و نصروا الله و رسوله، و كان ينحصر المسلمون يومئذ في هاتين الطائفتين إلا قليل ممن آمن بمكة و لم يهاجر.
و قد جعل الله بينهم ولاية بقوله: ﴿أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ و الولاية أعم من ولاية الميراث و ولاية النصرة و ولاية الأمن، فمن آمن منهم كافرا كان نافذا عند الجميع؛ فالبعض من الجميع ولي البعض من الجميع كالمهاجر هو ولي كل مهاجر و أنصاري، و الأنصاري ولي كل أنصاري و مهاجر، كل ذلك بدليل إطلاق الولاية في الآية.
فلا شاهد على صرف الآية إلى ولاية الإرث بالمواخاة التي كان النبي صلى الله عليه وآله و سلم جعلها في بدء الهجرة بين المهاجرين و الأنصار و كانوا يتوارثون بها زمانا حتى نسخت.
قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهَاجِرُوا﴾ إلى آخر الآية، معناه واضح و قد نفيت
فيها الولاية بين المؤمنين المهاجرين و الأنصار و بين المؤمنين غير المهاجرين إلا ولاية النصرة إذا استنصروهم بشرط أن يكون الاستنصار على قوم ليس بينهم و بين المؤمنين ميثاق.
قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ أي إن ولايتهم بينهم لا تتعداهم إلى المؤمنين فليس للمؤمنين أن يتولوهم، و ذلك أن قوله هاهنا في الكفار: ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ كقوله في المؤمنين: ﴿أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ إنشاء و تشريع في صورة الإخبار، و جعل الولاية بين الكفار أنفسهم لا يحتمل بحسب الاعتبار إلا ما ذكرناه من نفي تعديه عنهم إلى المؤمنين.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي اَلْأَرْضِ وَ فَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ إشارة إلى مصلحة جعل الولاية على النحو الذي جعلت، فإن الولاية مما لا غنى عنها في مجتمع من المجتمعات البشرية سيما المجتمع الإسلامي الذي أسس على اتباع الحق و بسط العدل الإلهي كما أن تولي الكفار و هم أعداء هذا المجتمع يوجب الاختلاط بينهم فيسري فيه عقائدهم و أخلاقهم، و تفسد سيرة الإسلام المبنية على الحق بسيرهم المبنية على اتباع الهوى و عبادة الشيطان، و قد صدق جريان الحوادث في هذه الآونة ما أشارت إليه هذه الآية.
قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هَاجَرُوا﴾ إلى آخر الآية إثبات لحق الإيمان على من اتصف بآثاره اتصافا حقا، و وعد لهم بالمغفرة و الرزق الكريم.
قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَ هَاجَرُوا وَ جَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ﴾ خطاب للمهاجرين الأولين و الأنصار و إلحاق من آمن و هاجر و جاهد معهم بهم فيشاركونهم في الولاية.
قوله تعالى: ﴿وَ أُولُوا اَلْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىَ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اَللَّهِ﴾ إلى آخر الآية. جعل للولاية بين أولي الأرحام و القرابات، و هي ولاية الإرث فإن سائر أقسام الولاية لا ينحصر فيما بينهم.
و الآية تنسخ ولاية الإرث بالمواخاة التي أجراها النبي صلى الله عليه وآله و سلم بين المسلمين في أول الهجرة، و تثبت الإرث بالقرابة سواء كان هناك ذو سهم أو لم يكن أو كان عصبة أو لم يكن فالآية مطلقة كما هو ظاهر.
بحث روائي
في المجمع، عن الباقر عليه السلام: أنهم كانوا يتوارثون بالمواخاة.
أقول: و لا دلالة فيه على أن الآية نزلت في ولاية الإخوة.
في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: الخال و الخالة يرثان إذا لم يكن معهما أحد إن الله يقول: ﴿وَ أُولُوا اَلْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اَللَّهِ﴾.: أقول: و رواه العياشي عن أبي بصير عنه مرسلا.
و في تفسير العياشي، عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: في قول الله: ﴿وَ أُولُوا اَلْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اَللَّهِ﴾ إن بعضهم أولى بالميراث من بعض لأن أقربهم إليه أولى به. ثم قال أبو جعفر عليه السلام، إنهم أولى بالميت، و أقربهم إليه أمه و أخوه و أخته لأمه و أبيه أ ليس الأم أقرب إلى الميت من إخوانه و أخواته؟
و فيه، عن ابن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما اختلف علي بن أبي طالب عليه السلام و عثمان بن عفان في الرجل يموت و ليس له عصبة يرثونه و له ذوو قرابة لا يرثونه: ليس له بينهم مفروض، فقال علي عليه السلام ميراثه لذوي قرابته لأن الله تعالى يقول: ﴿وَ أُولُوا اَلْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اَللَّهِ﴾ و قال عثمان أجعل ميراثه في بيت مال المسلمين و لا يرثه أحد من قرابته. أقول: و الروايات في نفي القول بالعصبة و الاستناد في ذلك إلى الآية كثيرة من أئمة أهل البيت عليه السلام.
و في الدر المنثور، أخرج الطيالسي و الطبراني و أبو الشيخ و ابن مردويه عن ابن عباس قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم بين أصحابه و ورث بعضهم من بعض حتى نزلت هذه الآية ﴿وَ أُولُوا اَلْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اَللَّهِ﴾ فتركوا ذلك و توارثوا بالنسب. و في المعاني، بإسناده فيه رفع عن موسى بن جعفر عليه السلام: فيما جرى بينه و بين هارون و فيه: قال هارون: فلم ادعيتم أنكم ورثتم رسول الله و العم يحجب ابن العم، و قبض رسول الله و قد توفي أبو طالب قبله و العباس عمه حي إلى أن قال فقلت: إن
النبي لم يورث من لم يهاجر و لا أثبت له ولاية حتى يهاجر فقال: ما حجتك فيه؟ قلت: قول الله تبارك و تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ و إن عمي العباس لم يهاجر فقال: إني سائلك يا موسى هل أفتيت بذلك أحدا من أعدائنا أم أخبرت أحدا من الفقهاء في هذه المسألة بشيء؟ فقلت: اللهم لا و ما سألني عنها إلا أمير المؤمنين: الحديث.
أقول: و رواه المفيد في الإختصاص.
٩ سورة التوبة مدنية و هي مائة و تسع و عشرون آية ١٢٩
[سورة التوبة ٩: الآیات ١ الی ١٦]
﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اَللَّهِ وَ أَنَّ اَللَّهَ مُخْزِي اَلْكَافِرِينَ ٢ وَ أَذَانٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلنَّاسِ يَوْمَ اَلْحَجِّ اَلْأَكْبَرِ أَنَّ اَللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اَللَّهِ وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ٣ إِلاَّ اَلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ ٤ فَإِذَا اِنْسَلَخَ اَلْأَشْهُرُ اَلْحُرُمُ فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ اُحْصُرُوهُمْ وَ اُقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتَوُا اَلزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٥ وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ اِسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اَللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ
مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ ٦ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اَللَّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ فَمَا اِسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ ٧ كَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَ لاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَ تَأْبى قُلُوبُهُمْ وَ أَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ٨ اِشْتَرَوْا بِآيَاتِ اَللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ٩ لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَ لاَ ذِمَّةً وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُعْتَدُونَ ١٠ فَإِنْ تَابُوا وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتَوُا اَلزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ نُفَصِّلُ اَلْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ١١ وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ اَلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ١٢ أَ لاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَ هَمُّوا بِإِخْرَاجِ اَلرَّسُولِ وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ١٣ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اَللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ١٤ وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَ يَتُوبُ اَللَّهُ عَلى مَنْ يَشَاءُ وَ اَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ١٥ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَ لَمَّا يَعْلَمِ اَللَّهُ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَ لاَ رَسُولِهِ وَ لاَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَ اَللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ١٦﴾
بيان
الآيات مفتتح قبيل من الآيات سموها سورة التوبة أو سورة البراءة، و قد اختلفوا في كونها سورة مستقلة أو جزء من سورة الأنفال، و اختلاف المفسرين في ذلك ينتهي إلى اختلاف الصحابة ثم التابعين فيه، و قد اختلف في ذلك الحديث عن أئمة أهل البيت عليه السلام غير أن الأرجح بحسب الصناعة ما يدل من حديثهم على أنها ملحقة بسورة الأنفال.
و البحث عن معاني آياتها و ما اشتملت عليه من المضامين لا يهدي إلى غرض واحد متعين على حد سائر السور المشتملة على أغراض مشخصة تؤمها أوائلها و تنعطف إليها أواخرها، فأولها آيات تؤذن بالبراءة و فيها آيات القتال مع المشركين، و القتال مع أهل الكتاب، و شطر عظيم منها يتكلم في أمر المنافقين، و آيات في الاستنهاض على القتال و ما يتعرض لحال المخلفين، و آيات ولاية الكفار، و آيات الزكاة و غير ذلك، و معظمها ما يرجع إلى قتال الكفار و ما يرجع إلى المنافقين.
و على أي حال لا يترتب من جهة التفسير على هذا البحث فائدة مهمة و إن أمكن ذلك من جهة البحث الفقهي الخارج عن غرضنا.
قوله تعالى: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ﴾ قال الراغب: أصل البرء و البراء و التبري : التفصي مما يكره مجاورته، و لذلك قيل: برأت من المرض و برئت من فلان و تبرأت، و أبرأته من كذا و برأته، و رجل بريء و قوم براء و بريئون قال تعالى: براءة من الله و رسوله. انتهى.
و الآية بالنسبة إلى الآيات التالية كالعنوان المصدر به الكلام المشير إلى خلاصة القول على نهج سائر السور المفصلة التي تشير الآية و الآيتان من أولها على إجمال الغرض المسرود لأجلبيانه آياتها.
و الخطاب في الآية للمؤمنين أو للنبي صلى الله عليه وآله و سلم و لهم على ما يدل عليه قوله: ﴿عَاهَدْتُمْ﴾ و قد أخذ الله تعالى و منه الخطاب و رسوله صلى الله عليه وآله و سلم و هو الواسطة، و المشركون و هم الذين أريدت البراءة منهم، و وجه الخطاب ليبلغ إليهم جميعا في الغيبة، و هذه الطريقة في الأحكام و الفرامين المراد إيصالها إلى الناس نوع تعظيم لصاحب الحكم و الأمر.
و الآية تتضمن إنشاء الحكم و القضاء بالبراءة من هؤلاء المشركين و ليس بتشريع محض بدليل تشريكه النبي صلى الله عليه وآله و سلم في البراءة فإن دأب القرآن أن ينسب الحكم التشريعي المحض إلى الله سبحانه وحده، و قد قال تعالى: ﴿وَ لاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً﴾ الكهف: - ٢٦ و لا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وآله و سلم إلا الحكم بالمعنى الذي في الولاية و السياسة و قطع الخصومة.
فالمراد بالآية القضاء برفع الأمان عن الذين عاهدوهم من المشركين و ليس رفعا جزافيا و إبطالا للعهد من غير سبب يبيح ذلك فإن الله تعالى سيذكر بعد عدة آيات أنهم لا وثوق بعهدهم الذي عاهدوه و قد فسق أكثرهم و لم يراعوا حرمة العهد و نقضوا ميثاقهم، و قد أباح تعالى عند ذلك إبطال العهد بالمقابلة نقضا بنقض حيث قال: ﴿وَ إِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلىَ سَوَاءٍ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يُحِبُّ اَلْخَائِنِينَ﴾ الأنفال: - ٥٨ فأباح إبطال العهد عند مخافة الخيانة و لم يرض مع ذلك إلا بإبلاغ النقض إليهم لئلا يؤخذوا على الغفلة فيكون ذلك من الخيانة المحظورة.
و لو كان إبطالا لعهدهم من غير سبب مبيح لذلك من قبل المشركين لم يفرق بين من دام على عهده منهم و بين من لم يدم عليه، و قد قال تعالى مستثنيا: ﴿إِلاَّ اَلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلىَ مُدَّتِهِمْ إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ﴾.
و لم يرض تعالى بنقض عهد هؤلاء المعاهدين الناقضين لعهدهم دون أن ضرب لهم أجلا ليفكروا في أمرهم و يرتئوا رأيهم و لا يكونوا مأخوذين بالمباغتة و المفاجأة.
فمحصل الآية الحكم ببطلان العهد و رفع الأمان عن جماعة من المشركين كانوا قد عاهدوا المسلمين ثم نقضه أكثرهم و لم يبق إلى من بقي منهم وثوق تطمئن به النفس إلى عهدهم و تعتمد على يمينهم و تأمن شرهم و أنواع مكرهم.
قوله تعالى: ﴿فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اَللَّهِ وَ أَنَّ اَللَّهَ مُخْزِي اَلْكَافِرِينَ﴾ السياحة هي السير في الأرض و الجري و لذلك يقال للماء الدائم الجرية في ساحة: السائح.
و أمرهم بالسياحة أربعة أشهر كناية عن جعلهم في مأمن في هذه البرهة من الزمان و تركهم بحيث لا يتعرض لهم بشر حتى يختاروا ما يرونه أنفع بحالهم من البقاء أو
الفناء مع ما في قوله: ﴿وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اَللَّهِ وَ أَنَّ اَللَّهَ مُخْزِي اَلْكَافِرِينَ﴾ من إعلامهم أن الأصلح بحالهم رفض الشرك، و الإقبال إلى دين التوحيد، و موعظتهم أن لا يهلكوا أنفسهم بالاستكبار و التعرض للخزي الإلهي.
و قد وجه في الآية الخطاب إليهم بالالتفات من الغيبة إلى الخطاب لما في توجيه الخطاب القاطع و الإرادة الجازمة إلى الخصم من الدلالة على بسط الاستيلاء و الظهور عليه و استذلاله و استحقار ما عنده من قوة و شدة.
و قد اختلفت أقوال المفسرين في المراد بقوله: ﴿أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ و الذي يدل عليه السياق و يؤيده اعتبار إصدار الحكم و ضرب الأجل ليكونوا في فسحة لاختيار ما وجدوه من الحياة أو الموت أنفع بحالهم: أن تبتدأ الأربعة الأشهر من يوم الحج الأكبر الذي يذكره الله تعالى في الآية التالية فإن يوم الحج الأكبر هو يوم الإبلاغ و الإيذان و الأنسب بضرب الأجل الذي فيه نوع من التوسعة للمحكوم عليهم و إتمام الحجة، أن تبتدأ من حين الاعلام و الإيذان.
و قد اتفقت كلمة أهل النقل أن الآيات نزلت سنة تسع من الهجرة فإذا فرض أن يوم الحج الأكبر هو يوم النحر العاشر من ذي الحجة كانت الأربعة الأشهر هي عشرون من ذي الحجة و المحرم و صفر و ربيع الأول و عشرة أيام من ربيع الآخر.
و عند قوم أن الأربعة الأشهر تبتدأ من يوم العشرين من ذي القعدة و هو يوم الحج الأكبر عندهم فالأربعة الأشهر هي عشرة أيام من ذي القعدة و ذو الحجة و المحرم و صفر و عشرون من ربيع الأول، و سيأتي ما فيه.
و ذكر آخرون: أن الآيات نزلت أول شوال سنة تسع من الهجرة فتكون الأربعة الأشهر هي شوال و ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم فتنقضي بانقضاء الأشهر الحرم، و قد حدأهم إلى ذلك القول بأن المراد بقوله تعالى فيما سيأتي: ﴿فَإِذَا اِنْسَلَخَ اَلْأَشْهُرُ اَلْحُرُمُ فَاقْتُلُوا﴾ الأشهر الحرم المعروفة: ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم فيوافي انسلاخ الأشهر الحرم انقضاء الأربعة الأشهر، و هذا قول بعيد عن الصواب لا يساعد عليه السياق و قرينة المقام كما عرفت.
قوله تعالى: ﴿وَ أَذَانٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلنَّاسِ يَوْمَ اَلْحَجِّ اَلْأَكْبَرِ أَنَّ اَللَّهَ بَرِيءٌ
مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ﴾ الأذان هو الاعلام، و ليست الآية تكرارا لقوله تعالى السابق ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ﴾ فإن الجملتين و إن رجعتا إلى معنى واحد و هو البراءة من المشركين إلا أن الآية الأولى إعلام البراءة و إبلاغه إلى المشركين بدليل قوله في ذيل الآية: ﴿إِلَى اَلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ﴾ بخلاف الآية الثانية فإن وجه الخطاب فيه إلى الناس ليعلموا براءة الله و رسوله من المشركين، و يستعدوا و يتهيئوا لإنفاذ أمر الله فيهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم بدليل قوله: ﴿إِلَى اَلنَّاسِ﴾ و قوله تفريعا: ﴿فَإِذَا اِنْسَلَخَ اَلْأَشْهُرُ اَلْحُرُمُ فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ إلى آخر الآية.
و قد اختلفوا في تعيين المراد بيوم الحج الأكبر على أقوال: منها: أنه يوم النحر من سنة التسع من الهجرة لأنه كان يوما اجتمع فيه المسلمون و المشركون و لم يحج بعد ذلك العام مشرك، و هو المؤيد بالأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت عليه السلام و الأنسب بأذان البراءة، و الاعتبار يساعد عليه لأنه كان أكبر يوم اجتمع فيه المسلمون و المشركون من أهل الحج عامة بمنى و قد ورد من طرق أهل السنة روايات في هذا المعنى غير أن مدلول جلها أن الحج الأكبر اسم يوم النحر فيتكرر على هذا كل سنة و لم يثبت من طريق النقل تسمية على هذا النحو.
و منها: أنه يوم عرفة لأن فيه الوقوف، و الحج الأصغر هو الذي ليس فيه وقوف و هو العمرة، و هو استحسان لا دليل عليه، و لا سبيل إلى تشخيص صحته.
و منها: أنه اليوم الثاني ليوم النحر لأن الإمام يخطب فيه و سقم هذا الوجه ظاهر.
و منها: أنه جميع أيام الحج كما يقال: يوم الجمل، و يوم صفين، و يوم بغاث، و يراد به الحين و الزمان، و هذا القول لا يقابل سائر الأقوال كل المقابلة فإنه إنما يبين أن المراد باليوم جميع أيام الحج، و أما وجه تسمية هذا الحج بالحج الأكبر فيمكن أن يوجه ببعض ما في الأقوال السابقة كما في القول الأول.
و كيف كان فالاعتبار لا يساعد على هذا القول لأن وجود يوم بين أيام الحج يجتمع فيه عامة أهل الحج يتمكن فيه من أذان براءة كل التمكن كيوم النحر يصرف قوله: ﴿يَوْمَ اَلْحَجِّ اَلْأَكْبَرِ﴾ إلى نفسه، و يمنع شموله لسائر أيام الحج التي لا يجتمع فيها الناس ذاك الاجتماع.
ثم التفت سبحانه إلى المشركين ثانيا و ذكرهم أنهم غير معجزين لله ليكونوا على بصيرة من أمرهم كما ذكرهم بذلك في الآية السابقة بقوله: ﴿وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اَللَّهِ وَ أَنَّ اَللَّهَ مُخْزِي اَلْكَافِرِينَ﴾ غير أنه زاد عليه في هذه الآية قوله: ﴿فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ ليكون تصريحا بما لوح إليه في الآية السابقة فإن التذكير بأنهم غير معجزي الله إنما كان بمنزلة العظة و بذل النصح لهم لئلا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة باختيار البقاء على الشرك و التولي عن الدخول في دين التوحيد ففي الترديد تهديد و نصيحة و عظة.
ثم التفت سبحانه إلى رسوله فخاطبه أن يبشر الذين كفروا بعذاب أليم فقال: ﴿وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ و الوجه في الالتفات الذي في قوله: ﴿فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ إلخ ما تقدم في قوله: ﴿فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ﴾ إلخ، و في الالتفات الذي في قوله: ﴿وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إلخ إنه رسالة لا تتم إلا من جهة مخاطبة النبي صلى الله عليه وآله و سلم.
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ اَلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً﴾ إلخ، استثناء من عموم البراءة من المشركين، و المستثنون هم المشركون الذين لهم عهد لم ينقضوه لا مستقيما و لا غير مستقيم فمن الواجب الوفاء بميثاقهم و إتمام عهدهم إلى مدتهم.
و قد ظهر بذلك أن المراد من إضافة قوله: ﴿وَ لَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً﴾ إلى قوله: ﴿لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً﴾ استيفاء قسمي النقض و هما النقض المستقيم كقتلهم بعض المسلمين، و النقض غير المستقيم نظير مظاهرتهم بعض أعداء المسلمين عليهم كإمداد مشركي مكة بني بكر على خزاعة بالسلاح، و كانت بنو بكر في عهد قريش و خزاعة في عهد النبي صلى الله عليه وآله و سلم فحاربوا فأعانت قريش بني بكر على خزاعة و نقضت بذلك عهد حديبية الذي عقدوه بينهم و بين النبي صلى الله عليه وآله و سلم، و كان ذلك من أسباب فتح مكة سنة ثمان.
و قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ﴾ في مقام التعليل لوجوب الوفاء بالعهد ما لم ينقضه المعاهد المشرك، و ذلك يجعل احترام العهد و حفظ الميثاق أحد مصاديق التقوى المطلق الذي لا يزال يأمر به القرآن و قد صرح به في نظائر هذا المورد كقوله تعالى: ﴿وَ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلىَ أَلاَّ تَعْدِلُوا اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوىَ﴾ المائدة: - ٨ و قوله: ﴿وَ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَ تَعَاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوىَ وَ لاَ تَعَاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوَانِ وَ اِتَّقُوا اَللَّهَ﴾ المائدة: - ٢.
و بذلك يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالمتقين الذين يتقون نقض العهد من غير سبب، و ذلك أن التقوى بمعنى الورع عن محارم الله عامة كالحقيقة الثانية في القرآن فيحتاج إرادة خلافه إلى قرينة صارفة.
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا اِنْسَلَخَ اَلْأَشْهُرُ اَلْحُرُمُ فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ اُحْصُرُوهُمْ وَ اُقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ أصل الانسلاخ من سلخ الشاة و هو نزع جلدها عنها، و انسلاخ الشهر نوع كناية عن خروجه، و الحصر هو المنع من الخروج عن محيط، و المرصد اسم مكان من الرصد بمعنى الاستعداد للرقوب.
قال الراغب: الرصد الاستعداد للترقب يقال: رصد له و ترصد و أرصدته له، قال عز و جل: ﴿وَ إِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ﴾، و قوله عز و جل: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ تنبيها أنه لا ملجأ و لا مهرب، و الرصد يقال للراصد الواحد و الجماعة الراصدين و للمرصود واحدا كان أو جمعا، و قوله تعالى: ﴿يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً﴾ يحتمل كل ذلك، و المرصد موضع الرصد. انتهى.
و المراد بالأشهر الحرم هي الأربعة الأشهر: أشهر السياحة التي ذكرها الله سبحانه في قوله: ﴿فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ و جعلها أجلا مضروبا للمشركين لا يتعرض فيها لحالهم و أما الأشهر الحرم المعروفة أعني ذا القعدة و ذا الحجة و المحرم فإنها لا تنطبق على أذان براءة الواقع في يوم النحر عاشر ذي الحجة بوجه كما تقدمت الإشارة إليه.
و على هذا فاللام في الأشهر الحرم للعهد الذكري أي إذا انسلخ هذه الأشهر التي ذكرناها و حرمناها للمشركين لا يتعرض لحالهم فيها فاقتلوا المشركين إلخ.
و يظهر بذلك أن لا وجه لحمل قوله: ﴿فَإِذَا اِنْسَلَخَ اَلْأَشْهُرُ اَلْحُرُمُ﴾ على انسلاخ ذي القعدة و ذي الحجة و المحرم بأن يكون انسلاخ الأربعة الأشهر بانسلاخ الأشهر الثلاثة منطبقا عليه أو يكون انسلاخ الأشهر الحرم مأخوذا على نحو الإشارة إلى انقضاء الأربعة الأشهر و إن لم ينطبق الأشهر على الأشهر فإن ذلك كله مما لا سبيل إليه بحسب السياق و إن كان لفظ الأشهر الحرم في نفسه ظاهرا في شهور رجب و ذي القعدة و ذي الحجة و المحرم.
و قوله: ﴿فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ محقق للبراءة منهم و رفع الاحترام
عن نفوسهم بإهدار الدماء فلا مانع من أي نازلة نزلت بهم، و في قوله: ﴿حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ تعميم للحكم فلا مانع حاجب عن وجوب قتلهم حيثما وجدوا في حل أو حرم بل و لو ظفر بهم في الشهر الحرام بناء على تعميم ﴿حَيْثُ﴾ للزمان و المكان كليهما فيجب على المسلمين كائنين من كانوا إذا ظفروا بهم أن يقتلوهم، كان ذلك في الحل أو الحرم في الشهر الحرام أو غيره.
و إنما أمر بقتلهم حيث وجدوا للتوسل بذلك إلى إيرادهم مورد الفناء و الانقراض، و تطييب الأرض منهم، و إنجاء الناس من مخالطتهم و معاشرتهم بعد ما سمح و أبيح لهم ذلك في قوله: ﴿فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾.
و لازم ذلك أن يكون كل من قوله: ﴿فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ و قوله: ﴿وَ خُذُوهُمْ﴾ و قوله: ﴿وَ اُحْصُرُوهُمْ﴾ و قوله: ﴿وَ اُقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾بيانا لنوع من الوسيلة إلى إفناء جمعهم و إنفاد عددهم، ليتفصى المجتمع من شرهم.
فإن ظفر بهم و أمكن قتلهم قتلوا، و إن لم يمكن ذلك قبض عليهم و أخذوا، و إن لم يمكن أخذهم حصروا و حبسوا في كهفهم و منعوا من الخروج إلى الناس و مخالطتهم و إن لم يعلم محلهم قعد لهم في كل مرصد ليظفر بهم فيقتلوا أو يؤخذوا.
و لعل هذا المعنى هو مراد من قال: إن المراد: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم أو خذوهم و احصروهم على وجه التخيير في اعتبار الأصلح من الأمرين، و إن كان لا يخلو عن تكلف من جهة اعتبار الأخذ و الحصر و القعود في كل مرصد أمرا واحدا في قبال القتل، و كيف كان فالسياق إنما يلائم ما قدمناه من المعنى.
و أما قول من قال: إن في قوله: ﴿فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ﴾، تقديما و تأخيرا، و التقدير: فخذوا المشركين حيث وجدتموهم و اقتلوهم فهو من التصرف في معنى الآية من غير دليل مجوز، و الآية و خاصة ذيلها يدفع ذلك سياقا.
و معنى الآية: فإذا انسلخ الأشهر الحرم و انقضى الأربعة الأشهر التي أمهلناهم بها بقولنا: ﴿فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ فأفنوا المشركين بأي وسيلة ممكنة رأيتموها أقرب و أوصل إلى إفناء جمعهم و إمحاء رسمهم من قتلهم أينما وجدتموهم من حل أو حرم
و متى ما ظفرتم بهم في شهر حرام أو غيره و من أخذهم أو حصرهم أو القعود لهم في كل مرصد حتى يفنوا عن آخرهم.
قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتَوُا اَلزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ اشتراط في معنى الغاية للحكم السابق، و المراد بالتوبة معناها اللغوي و هو الرجوع أي إن رجعوا من الشرك إلى التوحيد بالإيمان و نصبوا لذلك حجة من أعمالهم و هي الصلاة و الزكاة و التزموا أحكام دينكم الراجعة إلى الخالق جميعا فخلوا سبيلهم.
و تخلية السبيل كناية عن عدم التعرض لسالكيه و إن عادت مبتذلة بكثرة التداول كان سبيلهم مسدودة مشغولة بتعرض المتعرضين فإذا خلي عنها كان ذلك ملازما أو منطبقا على عدم التعرض لهم.
و قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ تعليل لقوله: ﴿فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾ إما من جهة الأمر الذي يدل عليه بصورته أو من جهة المأمور به الذي يدل عليه بمادته أعني تخلية سبيلهم.
و المعنى على الأول: و إنما أمر الله بتخلية سبيلهم لأنه غفور رحيم يغفر لمن تاب إليه و يرحمه.
و على الثاني: خلوا سبيلهم لأن تخليتكم سبيلهم من المغفرة و الرحمة، و هما من صفات الله العليا فتتصفون بذلك بصفة ربكم و أظهر الوجهين هو الأول.
قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ اِسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اَللَّهِ﴾ إلى آخر الآية، الآية تتضمن حكم الإجارة لمن استجار من المشركين لأن يسمع كلام الله، و هي بما تشتمل عليه من الحكم و إن كانت معترضة أو كالمعترضة بين ما يدل على البراءة و رفع الأمان عن المشركين إلا أنها بمنزلة دفع الدخل الواجب الذي لا يجوز إهماله فإن أساس هذه الدعوة الحقة و ما يصاحبها من الوعد و الوعيد و التبشير و الإنذار، و ما يترتب عليه من عقد العقود و إبرام العهود أو النقض و البراءة و أحكام القتال كل ذلك إنما هو لصرف الناس عن سبيل الغي و الضلال إلى صراط الرشد و الهدى، و إنجائهم من شقاء الشرك إلى سعادة التوحيد.
و لازم ذلك الاعتناء التام بكل طريق يرجى فيه الوصول إلى هداية ضال و الفوز بإحياء حق و إن كان يسيرا قليلا فإن الحق حق و إن كان يسيرا، و المشرك غير المعاهد
و إن أبرأ الله منه الذمة و أهدر دمه و رفع الحرمة عن كل ما يعود إليه من مال و عرض لكنه تعالى إنما فعل به ذلك ليحيي حق و يبطل باطل فإذا رجي منه الخير منع ذلك من أي قصد سيئ يقصد به حتى يحصل اليأس من هدايته و إنجائه.
فإذا استجار المشرك لينظر فيما تندب إليه الدعوة الحقة و يتبعها إن اتضحت له كان من الواجب إجارته حتى يسمع كلام الله و يرتفع عنه غشاوة الجهل و تتم عليه الحجة فإذا تمادى بعد ذلك في ضلاله و أصر في استكباره صار ممن ارتفع عنه الأمان و برئت منه الذمة و وجب تطييب الأرض من قذارة وجوده بأية وسيلة أمكنت و أي طريق كان أقرب و أسهل و هذا هو الذي يفيده قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ اِسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اَللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ الآية بما يكتنف به من الآيات.
فمعنى الآية: إن طلب منك بعض هؤلاء المشركين الذين رفع عنهم الأمان أن تأمنه في جوارك ليحضر عندك و يكلمك فيما تدعو إليه من الحق الذي يتضمنه كلام الله فأجره حتى يسمع كلام الله و يرتفع عنه غشاوة الجهل ثم أبلغه مأمنه حتى يملك منك أمنا تاما كاملا، و إنما شرع الله هذا الحكم و بذل لهم هذا الأمن التام لأنهم قوم جاهلون و لا بأس على جاهل إذا رجي منه الخير بقبول الحق لو وضح له.
و هذا غاية ما يمكن مراعاته من أصول الفضيلة و حفظ الكرامة و نشر الرحمة و الرأفة و شرافة الإنسانية اعتبره القرآن الكريم، و ندب إليه الدين القويم.
و قد بان بما قدمناه أولا: أن الآية مخصصة لعموم قوله في الآية السابقة: ﴿فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾. و ثانيا: أن قوله: ﴿حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اَللَّهِ﴾ غاية للاستجارة و الإجارة فيتغيا به الحكم، فالاستئمان إنما كان لسمع كلام الله و استفسار ما عند الرسول من مواد الرسالة فيتقدر الأمان الذي يعطاه المستجير المستأمن بقدره فإذا سمع من كلام الله ما يتبين به الرشد من الغي و يتميز به الهدى من الضلال انتهت مدة الاستجارة و حان أن يرد المستجير إلى مأمنه و المكان الخاص به الذي هو في أمن فيه، لا يهدده فيه سيوف المسلمين ليرجع إلى حاله الذي فارقه، و يختار لنفسه ما يشاء على حرية من المشية و الإرادة.
و ثالثا: أن المراد بكلام الله مطلق آيات القرآن الكريم، نعم يتقيد بما ينفع المستجير من الآيات التي توضح له أصول المعارف الإلهية و معالم الدين و الجواب عما يختلج في صدره من الشبهات كل ذلك بدلالة المقام و السياق.
و بذلك يظهر فساد ما قيل: إن المراد بكلام الله آيات التوحيد من القرآن، و كذا ما قيل: إن المراد به سورة براءة أو خصوص ما بلغوه في الموسم من آيات صدر السورة فإن ذلك كله تخصيص من غير مخصص.
و رابعا: أن المراد بسمع كلام الله الوقوف على أصول الدين و معالمه و إن أمكن أن يقال: إن لاستماع نفس كلام الله فيما إذا كان المستجير عربيا يفهم الكلام الإلهي دخلا في ذلك أما إذا كان غير عربي و لا يفهم الكلام العربي فالمستفاد من السياق أن الغاية في حقه مجرد تفقه أصول الدين و معالمه.
و خامسا: أن الآية محكمة غير منسوخة و لا قابلة له لأن من الضروري البين من مذاق الدين، و ظواهر الكتاب و السنة أن لا مؤاخذة قبل تمام الحجة، و لا تشديد أي تشديد كان إلا بعد البيان فالجاهل السالك في سبيل الفحص أو المستعلم للحق المستفهم للحقيقة لا يرد خائبا و لا يؤخذ غافلا فعلى الإسلام و المسلمين أن يعطوا كل الأمان لمن استأمنهم ليستحضر معارف الدين و يستعلم أصول الدعوة حتى يتبعها إن لاحت له فيها لوائح الصدق، و هذا أصل لا يقبل بطلانا و لا تغييرا ما دام الإسلام إسلاما فالآية محكمة غير قابلة للنسخ إلى يوم القيامة.
و من هنا يظهر فساد قول من قال: إن قوله: ﴿وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ اِسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اَللَّهِ﴾ الآية منسوخة بالآية الآتية: ﴿وَ قَاتِلُوا اَلْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾ الآية.
و سادسا: أن الآية إنما توجب إجارة المستجير إذا استجار لأمر ديني يرجى فيه خير الدين، و أما مطلق الاستجارة لا لغرض ديني و لا نفع عائد إليه فلا دلالة لها عليه أصلا بل الآيات السابقة الآمرة بالتشديد عليهم في محلها.
و سابعا: أن قوله في تتميم الأمر بالإجارة: ﴿ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾ مع تمام قوله: ﴿فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ﴾ بدونه في الدلالة على المقصد يدل على كمال العناية بفتح باب
الهداية على وجوه الناس، و التحفظ على حرية الناس في حياتهم و أعمالهم الحيوية، و الإغماض في طريقه عن كل حكم حتمي و عزيمة قاطعة ليهلك من هلك عن بينة و يحيا من حي عن بينة، و لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
و ثامنا: أن الآية كما قيل تدل على أن الاعتقاد بأصل الدين يجب أن يكون عن علم يقيني لا يداخله شك و لا يمازجه ريب و لا يكفي فيه غيره و لو كان الظن الراجح، و قد ذم الله تعالى اتباع الظن، و ندب إلى اتباع العلم في آيات كثيرة كقوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ إسراء: ٣٦ و قوله: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ إِنَّ اَلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ اَلْحَقِّ شَيْئاً﴾ النجم: ٢٨ و قوله: ﴿مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ الزخرف: ٢٠.
و لو كفى في أصل الدين الاعتقاد التقليدي لم يستقم الحكم بإجارة من استجار لتفهم أصول الدين و معارفه لجواز أن يكلف بالتقليد و الكف عن البحث عن أنه حق أو باطل هذا.
و لكن المقدار الواجب في ذلك أن يكون عن علم قطعي سواء كان حاصلا عن الاستدلال بطرق فنية أو بغير ذلك من الوجوه المفيدة للعلم و لو على سبيل الاتفاق، و هذا غير القول بأن الاستدلال على أصول المعارف لا يصح إلا من طريق العقل فإن صحة الاستدلال أمر، و جواز الاعتماد على العلم بأي طريق حصل أمر آخر.
قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اَللَّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ﴾ الآية، تبيين و توضيح لما مر إجمالا من الحكم بنقض عهد المشركين ممن لا وثوق بوفائه بعهده، و قتلهم إلى أن يؤمنوا بالله و يخضعوا لدين التوحيد، و استثناء من لم ينقض العهد و بقي على الميثاق حتى ينقضي مدة عهدهم.
فالآية و ما يتلوها إلى تمام ست آيات تبين ذلك و توضح الحكم و استثناء ما استثني منه و الغاية و المغيا جميعا.
فقوله: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اَللَّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ﴾ استفهام في مقام الإنكار، و قد بادرت الآية إلى استثناء الذين عاهدوهم من المشركين عند المسجد الحرام لكونهم لم ينقضوا عهدا و لم يساهلوا فيما واثقوا به بدليل قوله تعالى: ﴿فَمَا اِسْتَقَامُوا
لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾ و ذلك أن الاستقامة لمن استقام و السلم لمن يسالم من لوازم التقوى الديني، و لذلك علل قوله ذلك بقوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ﴾ كما جاء مثله بعينه في الآية السابقة: ﴿فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلىَ مُدَّتِهِمْ إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ﴾.
قوله تعالى: ﴿كَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَ لاَ ذِمَّةً﴾ إلى آخر الآية، قال الراغب في المفردات:، الإل كل حالة ظاهرة من عهد حلف، و قرابة تئل: تلمع فلا يمكن إنكاره، قال تعالى: ﴿لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَ لاَ ذِمَّةً﴾، و آل الفرس: أسرع، حقيقته لمع، و ذلك استعارة في باب الإسراع نحو برق و طار. انتهى.
و قال أيضا: الذمام بكسر الذال ما يذم الرجل على إضاعته من عهد ، و كذلك الذمة و المذمة، و قيل: لي مذمة فلا تهتكها، و أذهب مذمتهم بشيء: أي أعطهم شيئا لما لهم من الذمام. انتهى. و هو ظاهر في أن الذمة مأخوذة من الذم بالمعنى الذي يقابل المدح.
و لعل إلقاء المقابلة في الآية بين الإل و الذمة للدلالة على أنهم لا يحفظون في المؤمنين شيئا من المواثيق التي يجب رقوبها و حفظها سواء كانت مبنية على أصول واقعية تكوينية كالقرابة التي توجب بوجه على القريب رعاية حال قريبه، أو على الجعل و الاصطلاح كالعهود و المواثيق المعقودة بحلف و نحوه.
و قد كررت لفظة «كيف» للتأكيد و لرفع الإبهام في البيان الناشئ من تخلل قوله: ﴿إِلاَّ اَلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ﴾ الآية بطولها بين قوله: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ الآية و قوله: ﴿وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ﴾ الآية.
فمعنى الآية: كيف يكون للمشركين عهد عند الله و عند رسوله و الحال أنهم إن يظهروا عليكم و يغلبوكم على الأمر لا يحفظوا و لا يراعوا فيكم قرابة و لا عهدا من العهود يرضونكم بالكلام المدلس و القول المزوق، و يأبى ذلك قلوبهم، و أكثرهم فاسقون.
و من هنا ظهر أن قوله: ﴿يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ من المجاز العقلي نسب فيه الإرضاء إلى الأفواه و هو في الحقيقة منسوب إلى القول و الكلام الخارج من الأفواه المكون فيها.
و قوله: ﴿يُرْضُونَكُمْ﴾ الآية تعليل لإنكار وجود العهد للمشركين و لذلك
جيء به بالفصل، و التقدير: كيف يكون لهم عهد و هم يرضونكم بأفواههم و تأبى قلوبهم و أكثرهم فاسقون.
و أما قوله: ﴿وَ أَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾ ففيهبيان أن أكثرهم ناقضون للعهد و الميثاق بالفعل من غير أن ينتظروا ظهورهم جميعا عليكم فالآية توضح حال آحادهم و جميعهم بأن أكثرهم فاسقون بنقض العهد من غير أن يرقبوا في مؤمن إلا و لا ذمة، و لو أنهم ظهروا عليكم جميعا لم يرقبوا فيكم الإل و الذمة.
قوله تعالى: ﴿اِشْتَرَوْا بِآيَاتِ اَللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ إلى آخر الآيتين،بيان و تفسير لقوله في الآية السابقة: ﴿وَ أَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ﴾ و كان قوله: ﴿اِشْتَرَوْا بِآيَاتِ اَللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ إلى آخر الآية توطئة و تمهيد لقوله في الآية الثانية: ﴿لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَ لاَ ذِمَّةً﴾.
و بذلك يظهر أن الأقرب أن المراد بالفسق الخروج عن العهد و الذمة دون الفسق بمعنى الخروج عن زي عبودية الله سبحانه و إن كان الأمر كذلك.
و قوله: ﴿وَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُعْتَدُونَ﴾ كالتفسير لجميع ما مر من أحوالهم الروحية و أعمالهم الجسمية، و تفيد الجملة مع ذلك جوابا عن سؤال مقدر أو ما يجري مجراه و المعنى: إذا كان هذا حالهم و هذه أفعالهم فلا تحسبوا أن لو نقضتم عهدهم اعتديتم عليهم فأولئك هم المعتدون عليكم لما أضمروه من العداوة و البغضاء و لما أظهره أكثرهم في مقام العمل من الصد عن سبيل الله، و عدم رعاية قرابة و لا عهد في المؤمنين.
قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ﴾ إلى آخر الآيتين، الآيتانبيان تفصيلي لقوله فيما تقدم: ﴿فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اَللَّهِ﴾.
و المراد بالتوبة بدلالة السياق الرجوع إلى الإيمان بالله و آياته، و لذلك لم يقتصر على التوبة فقط بل عطف عليها إقامة الصلاة التي هي أظهر مظاهر عبادة الله، و إيتاء الزكاة الذي هو أقوى أركان المجتمع الديني، و قد أشير بهما إلى نوع الوظائف الدينية التي بإتيانها يتم الإيمان بآيات الله بعد الإيمان بالله عز اسمه فهذا معنى قوله: ﴿تَابُوا وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ وَ آتَوُا اَلزَّكَاةَ﴾.
و أما قوله: ﴿فَإِخْوَانُكُمْ فِي اَلدِّينِ﴾ فالمراد بهبيان التساوي بينهم و بين سائر المؤمنين
في الحقوق التي يعتبرها الإسلام في المجتمع الإسلامي: لهم ما للمسلمين و عليهم ما على المسلمين.
و قد عبر في الآية عن ذلك بالأخوة في الدين، و قال في موضع آخر: ﴿إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ:﴾ الحجرات: - ١٠ اعتبارا بما بينهم من التساوي في الحقوق الدينية فإن الأخوين شقيقان اشتقا من مادة واحدة و هما لذلك متساويان في الشئون الراجعة إلى ذلك في مجتمع المنزل عند والدهما الذي هو رب البيت، و في مجتمع القرابة عند الأقرباء و العشيرة.
و إذ كان لهذا المعنى المسمى بلسان الدين أخوة أحكام و آثار شرعية اعتنى بها قانون الإسلام فهو اعتبار حقيقة لنوع من الأخوة بين أفراد المجتمع الإسلامي لها آثار مترتبة كما أن الأخوة الطبيعية فيما اعتبرها الإسلام لها آثار مترتبة عقلائية و دينية و ليست تسمية ذلك أخوة مجرد استعارة لفظية عن عناية مجازية،- و فيما نقل عن النبي صلى الله عليه وآله و سلم: قوله: «المؤمنون إخوة يسعى بذمتهم أدناهم، و هم يد واحدة على من سواهم».
و قوله: ﴿وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ اَلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ﴾ الآية يدل السياق أنهم غير المشركين الذين أمر الله سبحانه في الآية السابقة بنقض عهدهم و ذكر أنهم هم المعتدون لا يرقبون في مؤمن إلا و لا ذمة فإنهم ناكثون للأيمان ناقضون للعهد، فلا يستقيم فيهم الاشتراط الذي ذكره الله سبحانه بقوله: ﴿وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ﴾ الآية.
فهؤلاء قوم آخرون لهم مع ولي الأمر من المسلمين عهود و أيمان ينكثون أيمانهم من بعد عهدهم، أي ينقضون عهودهم من بعد عقدها فأمر الله سبحانه بقتالهم و ألغى أيمانهم و سماهم أئمة الكفر لأنهم السابقون في الكفر بآيات الله يتبعهم غيرهم ممن يليهم، يقاتلون جميعا لعلهم ينتهون عن نكث الأيمان و نقض العهود.
قوله تعالى: ﴿أَ لاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَ هَمُّوا بِإِخْرَاجِ اَلرَّسُولِ﴾ الآية و ما بعدها إلى تمام أربع آيات تحريض للمؤمنين و تهييج لهم على قتال المشركين ببيان ما أجرموا به في جنب الله و خانوا به الحق و الحقيقة، و عد خطاياهم و طغياناتهم من نكث الأيمان و الهم بإخراج الرسول و البدء بالقتال أول مرة.
ثم بتعريف المؤمنين أن لازم إيمانهم بالله الذي يملك كل خير و شر و نفع و ضر
أن لا يخشوا إلا إياه إن كانوا مؤمنين به ففي ذلك تقوية لقلوبهم و تشجيعهم عليهم، و ينتهي إلىبيان أنهم ممتحنون من عند الله بإخلاص الإيمان له و القطع من المشركين حتى يؤجروا بما يؤجر به المؤمن المتحقق في إيمانه.
قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اَللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾ إلى آخر الآيتين. أعاد الأمر بالقتال لأنه صار من جهة ما تقدم من التحريض و التحضيض أوقع في القبول فإن الأمر الأول كان ابتدائيا غير مسبوق بتمهيد و توطئة بخلاف الأمر الثاني الوارد بعد اشتداد الاستعداد و كمال التهيؤ من المأمورين.
على أن ما اتبع به الأمر من قوله: ﴿يُعَذِّبْهُمُ اَللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ﴾ يؤكد الأمر و يغري المأمورين على امتثاله و إجرائه على المشركين فإن تذكرهم إن قتل المشركين عذاب إلهي لهم بأيدي المؤمنين، و إن المؤمنين أياد مجرية لله سبحانه و إن في ذلك خزيا للمشركين و نصرة من الله للمؤمنين عليهم و شفاء لصدور قوم مؤمنين و إذهابا لغيظ قلوبهم، يجرئهم للعمل و ينشطهم و يصفي إرادتهم.
و قوله: ﴿وَ يَتُوبُ اَللَّهُ عَلىَ مَنْ يَشَاءُ﴾ الآية بمنزلة الاستثناء لئلا يجري حكم القتال على إطلاقه.
قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَ لَمَّا يَعْلَمِ اَللَّهُ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾ إلى آخر الآية بمنزلة تعليل آخر لوجوب قتالهم لينتج تحريضهم على القتال و فيهبيان حقيقة الأمر، و محصله أن الدار دار الامتحان و الابتلاء فإن نفوس الآدميين تقبل الخير و الشر و السعادة و الشقاوة فهي في أول كينونتها ساذجة مبهمة، و مراتب القرب و الزلفى إنما تبذل بإزاء الإيمان الخالص بالله و آياته، و لا يظهر صفاء الإيمان إلا بالامتحان الذي يورد المؤمن مقام العمل، ليميز الله بذلك الطيب من الخبيث، و الصافي الإيمان ممن ليس عنده إلا مجرد الدعوى أو المزعمة.
فمن الواجب أن يمتحن هؤلاء المدعون أنهم باعوا أنفسهم و أموالهم لله بأن لهم الجنة، و يبتلوا بمثل القتال الذي يميز به الصادق من الكاذب و يفصل الذي قطع روابط المحبة و الصلة من أعداء الله سبحانه ممن في قلبه بقايا من ولايتهم و مودتهم حتى يحيا هؤلاء و يهلك أولئك.
فعلى المؤمنين أن يمتثلوا أمر القتال بل يتسارعوا إليه و يتسابقوا فيه ليظهروا بذلك صفاء جوهرهم و حقيقة إيمانهم و يحتجوا به على ربهم يوم لا نجاح فيه إلا بحجة الحق.
فقوله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا﴾ أي بل أ ظننتم أن تتركوا على ما أنتم عليه من الحال و لما تظهر حقيقة صدقكم في دعوى الإيمان بالله و بآياته.
و قوله: ﴿وَ لَمَّا يَعْلَمِ اَللَّهُ﴾ الآية أي و لما يظهر في الخارج جهادكم و عدم اتخاذكم من دون الله و لا رسوله و لا المؤمنين وليجة فإن تحقق الأشياء علم منه تعالى بها و قد مر نظير الكلام مع بسط ما في تفسير قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اَللَّهُ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾ الآية: آل عمران: - ١٤٢ في الجزء الرابع من الكتاب. و من الدليل على هذا الذي ذكرنا في معنى العلم قوله في ذيل الآية: ﴿وَ اَللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾. و الوليجة على ما في مفردات الراغب، كل ما يتخذه الإنسان معتمدا عليه و ليس من أهله.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ﴾: حدثني أبي عن محمد بن الفضل عن ابن أبي عمير عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: نزلت هذه الآية بعد ما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم من غزوة تبوك في سنة تسع من الهجرة. قال :و كان رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم لما فتح مكة لم يمنع المشركين الحج في تلك السنة، و كان سنة من العرب في الحج أنه من دخل مكة و طاف البيت في ثيابه لم يحل له إمساكها، و كانوا يتصدقون بها و لا يلبسونها بعد الطواف فكان من وافى مكة يستعير ثوبا و يطوف فيه ثم يرده، و من لم يجده عارية و لا كرى و لم يكن له إلا ثوب واحد طاف بالبيت عريانا .
فجاءت امرأة من العرب وسيمة جميلة فطلبت ثوبا عارية أو كرى فلم تجده فقالوا لها: إن طفت في ثيابك احتجت أن تتصدقي بها فقالت: كيف أتصدق و ليس لي غيرها؟ فطافت بالبيت عريانة و أشرف لها الناس فوضعت إحدى يديها على قبلها و الأخرى على دبرها و قالت شعرا:
اليوم يبدو بعضه أو كله *** فما بدا منه فلا أحله
فلما فرغت من الطواف خطبها جماعة فقالت: إن لي زوجا .
و كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم قبل نزول سورة براءة أن لا يقاتل إلا من قاتله و لا يحارب إلا من حاربه و أراده، و قد كان أنزل عليه [في] ذلك ﴿فَإِنِ اِعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اَللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً﴾ فكان رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم لا يقاتل أحدا قد تنحى عنه و اعتزله حتى نزلت عليه سورة براءة و أمره بقتل المشركين من اعتزله و من لم يعتزله إلا الذين قد عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم يوم فتح مكة إلى مدة: منهم صفوان بن أمية و سهيل بن عمرو فقال الله عز و جل: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ ثم يقتلون حيثما وجدوا بعد. هذه أشهر السياحة: عشرين من ذي الحجة و المحرم و صفر و شهر ربيع الأول و عشرا من ربيع الآخر .
فلما نزلت الآيات من سورة براءة دفعها رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم إلى أبي بكر و أمره أن يخرج إلى مكة و يقرأها على الناس بمنى يوم النحر فلما خرج أبو بكر نزل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فقال: يا محمد لا يؤدي عنك إلا رجل منك .
فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم أمير المؤمنين عليه السلام في طلب أبي بكر فلحقه بالروحاء و أخذ منه الآيات فرجع أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فقال: يا رسول الله، أنزل الله في شيئا؟ فقال: لا إن الله أمرني أن لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني.
و في تفسير العياشي، عن حرير عن أبي عبد الله عليه السلام: أن رسول الله بعث أبا بكر مع براءة إلى الموسم ليقرأها على الناس فنزل جبرئيل فقال: لا يبلغ عنك إلا علي فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم عليا و أمر أن يركب ناقته العضباء، و أمره أن يلحق أبا بكر فيأخذ منه براءة و يقرأها على الناس بمكة فقال أبو بكر: أ سخط؟ فقال: لا إلا أنه أنزل عليه أنه لا يبلغ إلا رجل منك .
فلما قدم على مكة و كان يوم النحر بعد الظهر و هو يوم الحج الأكبر قام ثم قال: إني رسول رسول الله إليكم فقرأها عليهم: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ عشرين من ذي الحجة و المحرم و صفر و شهر ربيع الأول و عشرا من شهر ربيع الآخر، و قال: لا يطوف بالبيت عريان و لا عريانة
و لا مشرك بعد هذا العام، و من كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فمدته إلى هذه الأربعة أشهر.
أقول: المراد تعيين المدة للعهود التي لا مدة لها بقرينة ما سيأتي من الرواية، و أما العهود التي لها مدة فاعتبارها إلى مدتها مدلول لنفس الآيات الكريمة.
و في تفسيري العياشي، و المجمع، عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: خطب علي عليه السلام بالناس و اخترط سيفه و قال: لا يطوفن بالبيت عريان، و لا يحجن بالبيت مشرك، و من كانت له مدة فهو إلى مدته، و من لم يكن له مدة فمدته أربعة أشهر، و كان خطب يوم النحر، و كانت عشرون من ذي الحجة و المحرم و صفر و شهر ربيع الأول و عشر من شهر ربيع الآخر، و قال: يوم النحر يوم الحج الأكبر.
أقول: و الروايات من طرق أئمة أهل البيت عليه السلام في هذه المعاني فوق حد الإحصاء.
و في الدر المنثور، أخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند و أبو الشيخ و ابن مردويه عن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي صلى الله عليه وآله و سلم دعا أبا بكر رضي الله عنه ليقرأها على أهل مكة ثم دعاني فقال: لي أدرك أبا بكر فحيثما لقيته فخذ الكتاب منه .
و رجع أبو بكر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله نزل في شيء؟ قال: لا و لكن جبرئيل جاءني فقال: لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم بعث أبا بكر رضي الله عنه ببراءة إلى أهل مكة ثم بعث عليا رضي الله عنه على أثره فأخذها منه فكأن أبا بكر وجد في نفسه فقال النبي صلى الله عليه وآله و سلم: يا أبا بكر إنه لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن أبي رافع رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم أبا بكر رضي الله عنه ببراءة إلى الموسم فأتى جبرئيل عليه السلام فقال: إنه لا يؤديها إلا أنت أو رجل منك فبعث عليا رضي الله عنه على أثره حتى لحقه بين مكة و المدينة فأخذها فقرأها على الناس في الموسم.
و فيه، أخرج ابن حبان و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم أبا بكر رضي الله عنه يؤدي عنه براءة فلما أرسله بعث إلى علي رضي الله عنه فقال: يا علي لا يؤدي عني إلا أنا أو أنت، فحمله على ناقته العضباء فسار حتى لحق بأبي بكر رضي الله عنه فأخذ منه براءة.
فأتى أبو بكر النبي صلى الله عليه وآله و سلم و قد دخله من ذلك مخافة أن يكون قد أنزلت فيه شيء فلما أتاه قال: ما لي يا رسول الله؟ قال: خير أنت أخي و صاحبي في الغار و أنت معي على الحوض غير أنه لا يبلغ عني إلا رجل مني. أقول: و هناك روايات أخرى في معنى ما تقدم، و قد نقل في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب أنه رواه الطبرسي، و البلاذري، و الترمذي، و الواقدي، و الشعبي، و السدي، و الثعلبي، و الواحدي، و القرطبي، و القشيري، و السمعاني، و أحمد بن حنبل، و ابن بطة، و محمد بن إسحاق، و أبو يعلى الموصلي، و الأعمش، و سماك بن حرب في كتبهم عن عروة بن الزبير، و أبي هريرة، و أنس، و أبي رافع، و زيد بن نفيع، و ابن عمر، و ابن عباس، و اللفظ له: أنه لما نزل: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ﴾ إلى تسع آيات أنفذ النبي صلى الله عليه وآله و سلم أبا بكر إلى مكة لأدائها فنزل جبرئيل و قال: إنه لا يؤديها إلا أنت أو رجل منك فقال النبي صلى الله عليه وآله و سلم لأمير المؤمنين: اركب ناقتي العضباء و الحق أبا بكر و خذ براءة من يده .
قال: و لما رجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وآله و سلم جزع و قال: يا رسول الله إنك أهلتني لأمر طالت الأعناق فيه فلما توجهت إليه رددتني منه؟ فقال ص: الأمين هبط إلي عن الله تعالى: أنه لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك؛ و علي مني و لا يؤدي عني إلا علي.
و فيما نقلناه من الروايات و ما تركناه منها و هو أكثر و فيما سيجيء في هذا الباب نكتتان أصليتان.
إحداهما: أن بعث النبي صلى الله عليه وآله و سلم عليا ببراءة و عزله أبا بكر إنما كان بأمر من ربه بنزول جبرئيل: «أنه لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» و لم يقيد الحكم في شيء من الروايات ببراءة أو نقض العهد فلم يرد في شيء منها: لا يؤدي براءة أو لا ينقض العهد إلا أنت أو رجل منك فلا دليل على تقييده ببراءة على ما وقع في كثير
من التفاسير؛ و يؤيد الإطلاق ما سيأتي.
و ثانيتهما: أن عليا عليه السلام كما كان ينادي ببراءة، كذلك كان ينادي بحكم آخر و هو أن من كان له مدة فهو إلى مدته و من لم يكن له مدة فمدته أربعة أشهر: و هذا أيضا مما يدل عليه آيات براءة.
و بحكم آخر و هو أنه لا يطوفن بالبيت عريان، و هو أيضا حكم إلهي مدلول عليه بقوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ الأعراف: ٣١ و قد ورد في بعض الروايات ذكر الآية مع الحكم كما سيجيء.
و حكم آخر أنه لا يطوف أو لا يحج البيت مشرك بعد هذا العام و هو مدلول قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ التوبة: ٢٨.
و هناك أمر خامس ذكر في بعض روايات الباب أنه عليه السلام كان ينادي به و هو أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن و هذا و إن لم يذكر في سائر الروايات، و الاعتبار لا يساعد على ذلك لنزول آيات كثيرة مكية و مدنية في ذلك و خفاء الأمر في ذلك على المشركين إلى سنة تسع من الهجرة كالمحال عادة لكن ذلك أيضا مدلول للآيات الكريمة[4]، و على أي حال لم تكن رسالة علي عليه السلام مقصورا على تأدية آيات براءة بل لها و لتبليغ ثلاثة أو أربعة أحكام قرآنية أخرى، و الجميع مشمول لما أنزل به جبرئيل عن الله سبحانه على رسوله صلى الله عليه وآله و سلم: أنه لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك، إذ لا دليل على تقييد الكلام على إطلاقه أصلا.
و في الدر المنثور، أخرج الترمذي و حسنه و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم بعث أبا بكر رضي الله عنه و أمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات ثم أتبعه عليا رضي الله عنه و أمره أن ينادي بها - فانطلقا فحجا فقام علي رضي الله عنه في أيام التشريق فنادى: أن الله بريء من المشركين و رسوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر و لا يحجن بعد العام مشرك،
و لا يطوفن بالبيت عريان، و لا يدخل الجنة إلا مؤمن فكان علي رضي الله عنه ينادي بها. أقول: و الخبر قريب المضمون مما استفدناه من الروايات.
و فيه، أخرج عبد الرزاق و ابن المنذر و ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن المسيب عن أبي هريرة :أن أبا بكر رضي الله عنه أمره أن يؤذن ببراءة في حجة أبي بكر.
قال أبو هريرة: ثم أتبعنا النبي صلى الله عليه وآله و سلم عليا رضي الله عنه أمره أن يؤذن ببراءة و أبو بكر رضي الله عنه على الموسم كما هو أو قال: على هيئته .
أقول: و قد ورد في عدة من طرق أهل السنة: أن النبي استعمل أبا بكر على الحج عامه ذلك فكان هو أمير الحاج و علي ينادي ببراءة و قد روت الشيعة أنه ص استعمل للإمارة عليا كما أنه حمله تأدية آيات براءة و قد ذكر ذلك الطبرسي في مجمع البيان و رواه العياشي عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام، و ربما تأيد ذلك بما ورد أن عليا كان يقضي في سفره ذلك و أن النبي صلى الله عليه وآله و سلم دعا له في ذلك، إذ من المعلوم أن مجرد الرسالة بتأدية براءة لا تتضمن الحكم بالقضاء بين الناس، و أوفق ما يكون ذلك في تلك الأيام بالإمارة، و الرواية ما سيأتي: في تفسير العياشي، عن الحسن عن علي ع: أن النبي صلى الله عليه وآله و سلم حين بعثه ببراءة قال: يا نبي الله إني لست بلسن و لا بخطيب قال ص: يأبى الله ما بي إلا أن أذهب بها أو تذهب أنت قال: فإن كان لا بد فسأذهب أنا قال: فانطلق فإن الله يثبت لسانك و يهدي قلبك ثم وضع يده على فمه فقال: انطلق و اقرأها على الناس، و قال ص: الناس سيتقاضون إليك فإذا أتاك الخصمان فلا تقض لواحد حتى تسمع الآخر فإنه أجدر أن تعلم الحق.
أقول: و هذا المعنى مروي من طرق أهل السنة
كما في الدر المنثور، عن أبي الشيخ عن علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم إلى اليمن ببراءة فقلت: يا رسول الله تبعثني و أنا غلام حديث السن و أسأل عن القضاء و لا أدري ما أجيب؟ قال: ما بد من أن تذهب بها أو أذهب بها. قلت: إن كان لا بد أنا أذهب، قال: انطلق فإن الله يثبت لسانك و يهدي قلبك، ثم قال: انطلق و اقرأها على الناس.
إلا أن اشتمال الرواية على لفظ اليمن يسيء الظن بها إذ من البين من لفظ آيات براءة أنها مقرة على أهل مكة يوم الحج الأكبر بمكة و أين ذلك من اليمن و أهلها
و كان لفظ الرواية كان: «إلى مكة» فوضع موضعه «إلى اليمن» تصحيحا لما اشتملت عليه من حديث القضاء.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و النسائي و ابن المنذر و ابن مردويه عن أبي هريرة قال :كنت مع علي رضي الله عنه حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم، بعث عليا بأربع: لا يطوف بالبيت عريان، و لا يجتمع المسلمون و المشركون بعد عامهم، و من كان بينه و بين رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم عهد فهو إلى عهده، و إن الله و رسوله بريء من المشركين. أقول: و هذا المعنى مروي عن أبي هريرة بعدة طرق بألفاظ مختلفة لا تخلو من شيء في متنها على ما سيجيء و أمتن الروايات متنا هذه التي أوردناها.
و فيه، أخرج أحمد و النسائي و ابن المنذر و ابن مردويه عن أبي هريرة قال :كنت مع علي حين بعثه رسول الله إلى أهل مكة ببراءة فكنا ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، و لا يطوف بالبيت عريان، و من كان بينه و بين رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم عهد فإن أمره أو أجله إلى أربعة أشهر فإذا مضت الأربعة أشهر فإن الله بريء من المشركين و رسوله و لا يحج هذا البيت بعد العام مشرك.
أقول: و في متن الرواية اضطراب بين، أما أولا: فلاشتمالها على النداء بأنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، و قد سبق أنه نزلت في معناه آيات كثيرة مكية و مدنية منذ سنين و قد سمعها الحضري و البدوي و المشرك و المؤمن فأي حاجة متصورة إلى إبلاغها أهل الجمع.
و أما ثانيا: فلأن النداء الثاني أعني قوله: و من كان بينه و بين رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم عهد إلخ، لا ينطبق لا على مضامين الآيات و لا على مضامين الروايات المتظافرة السابقة، على أنه قد جعل فيه البراءة بعد مضي أربعة أشهر.
و أما ثالثا: فلما سنذكره ذيلا.
و فيه، أخرج البخاري و مسلم و ابن المنذر و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال :بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى أن لا يحج بعد هذا العام مشرك، و لا يطوف بالبيت عريان ثم أردف النبي صلى الله عليه وآله و سلم بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه فأمره أن يؤذن ببراءة فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر ببراءة، و أن لا يحج بعد العام مشرك و لا يطوف بالبيت عريان.
و في تفسير المنار، عن الترمذي عن ابن عباس :أن النبي صلى الله عليه وآله و سلم بعث أبا بكر إلى أن قال فقام علي أيام التشريق فنادى: ذمة الله و ذمة رسوله بريئة من كل مشرك فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، و لا يحجن بعد العام مشرك، و لا يطوفن بالبيت عريان و لا يدخل الجنة إلا كل مؤمن فكان علي ينادي بها فإذا بح قام أبو هريرة فنادى بها.
و فيه، أيضا عن أحمد و النسائي من طريق محرز بن أبي هريرة عن أبيه قال :كنت مع علي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم إلى مكة ببراءة فكنا ننادي أن لا يدخل الجنة إلا كل نفس مسلمة، و لا يطوف بالبيت عريان، و من كان بينه و بين رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم عهد فعهده إلى مدته، و لا يحج بعد العام مشرك فكنت أنادي حتى صحل صوتي.
أقول: قد عرفت أن الذي وقع في الروايات على كثرتها في قصة بعث علي و عزل أبي بكر من كلمة الوحي الذي نزل به جبرئيل على النبي صلى الله عليه وآله و سلم هو قوله: «لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» و كذا ما ذكره النبي صلى الله عليه وآله و سلم حين أجاب أبا بكر لما سأله عن سبب عزله، إنما هو متن ما أوحى إليه الله سبحانه، أو قوله و هو في معناه : «لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني».
و كيفما كان فهو كلام مطلق يشمل تأدية براءة و كل حكم إلهي احتاج النبي صلى الله عليه وآله و سلم إلى أن يؤديه عنه مؤد غيره، و لا دليل لا من متون الروايات و لا غيرها يدل على اختصاص ذلك ببراءة، و قد اتضح أن المنع عن طواف البيت عريانا و المنع عن حج المشركين بعد ذلك العام و كذا تأجيل من له عهد إلى مدة أو من غير مدة كل ذلك أحكام إلهية نزل بها القرآن فما معنى إرجاع أمرها إلى أبي بكر أو نداء أبي هريرة بها وحده أو ندائه ببراءة و سائر الأحكام المذكورة في الجمع إذا بح علي عليه السلام حتى يصحل صوته من كثرة النداء؟ و لو جاز لأبي هريرة أن يقوم بها و الحال هذه فلم لم يجز لأبي بكر ذلك؟.
نعم أبدع بعض المفسرين كابن كثير و أترابه هنا وجها وجهوا به ما تتضمنه هذه الروايات انتصارا لها و هو أن قوله: «لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني» مخصوص بتأدية براءة فقط من غير أن يشمل سائر الأحكام التي كان ينادي بها علي عليه السلام، و أن تعيينه ص عليا بتبليغ آيات براءة أهل الجمع إنما هو لما كان من عادة العرب أن لا ينقض العهد إلا عاقده أو رجل من أهل بيته و مراعاة هذه العادة الجارية هي
التي دعت النبي صلى الله عليه وآله و سلم أن يأخذ براءة و فيها نقض ما للمشركين من عهد من أبي بكر و يسلمها إلى علي ليستحفظ بذلك السنة العربية فيؤديها عنه بعض أهل بيته.
قالوا: و هذا معنى قوله ص لما سأله أبو بكر قائلا: يا رسول الله هل نزل في شيء؟ قال: «لا و لكن لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني» و معناه أني إنما عزلتك و نصبت عليا لذلك لئلا أنقض هذه السنة العربية الجارية.
و لذلك لم ينفصل أبو بكر من شأنه فقد كان قلده إمارة الحاج و كان لأبي بكر مؤذنون يؤذنون بهذه الأحكام كأبي هريرة و غيره من الرجال الذين لم يذكر أسماؤهم في الروايات، و كان على أحد من عنده لهذا الشأن، و لذا ورد في بعضها: أنه خطب بمنى و لما فرغ من خطبته التفت إلى علي و قال: قم يا علي و أد رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم.
و هذا ما ذكروه و وجهوا به الروايات.
و الباحث الناقد إذا راجع هذه الآيات و الروايات ثم تأمل ما جرت من المشاجرات الكلامية بين الفريقين: أهل السنة و الشيعة في باب الأفضلية لم يرتب في أنهم خلطوا بين البحث التفسيري الذي شأنه تحصيل مداليل الآيات القرآنية، و البحث الروائي الذي شأنه نقد معاني الأحاديث و تمييز غثها من سمينها، و بين البحث الكلامي الناظر في أن أبا بكر أفضل من علي أو عليا أفضل من أبي بكر؟ و في أن إمارة الحاج أفضل أو الرسالة في تبليغ آيات براءة؟ و لمن كان إمارة الحج إذ ذاك لأبي بكر أو لعلي؟ أما البحث الكلامي فلسنا نشتغل به في هذا المقام فهو خارج عن غرضنا، و أما البحث الروائي أو التفسيري فيما يرتبط به الآيات إلى أسباب نزولها مما يتعلق بمعاني الآيات فالذي ينبغي أن يقال بالنظر إليه أنهم أخطئوا في هذا التوجيه.
فليت شعري من أين تسلموا أن هذه الجملة التي نزل بها جبرئيل: «أنه لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» مقيدة بنقض العهد لا يدل على أزيد من ذلك، و لا دليل عليه من نقل أو عقل فالجملة ظاهرة أتم ظهور في أن ما كان على رسول الله ص أن يؤديه لا يجوز أن يؤديه إلا هو أو رجل منه؛ سواء كان نقض عهد من جانب الله كما في مورد براءة أو حكما آخر إلهيا على رسول الله ص أن يؤديه و يبلغه.
و هذا غير ما كان من أقسام الرسالة منه ص مما ليس عليه أن يؤديه بنفسه
الشريفة كالكتب التي أرسل بها إلى الملوك و الأمم و الأقوام في الدعوة إلى الإسلام و كذا سائر الرسالات التي كان يبعث بها رجالا من المؤمنين إلى الناس في أمور يرجع إلى دينهم و الإمارات و الولايات و نحو ذلك.
ففرق جلي بين هذه الأمور و بين براءة و نظائرها فإن ما تتضمنه آيات براءة و أمثال النهي عن الطواف عريانا، و النهي عن حج المشركين بعد العام أحكام إلهية ابتدائية لم تبلغ بعد و لم تؤد إلى من يجب أن تبلغه، و هم المشركون بمكة و الحجاج منهم، و لا رسالة من الله في ذلك إلا لرسوله، و أما سائر الموارد التي كان يكتفي النبي صلى الله عليه وآله و سلم ببعث الرسل للتبليغ فقد كانت مما فرغ ص فيها من أصل التبليغ و التأدية، بتبليغه من وسعه تبليغه ممن حضر كالدعوة إلى الإسلام و سائر شرائع الدين و كان يقول: «ليبلغ الشاهد منكم الغائب» ثم إذا مست الحاجة إلى تبليغه بعض من لا وثوق عادة ببلوغ الحكم إليه أو لا أثر لمجرد البلوغ إلا أن يعتني لشأنه بكتاب أو رسول أو توسل عند ذلك إلى رسالة أو كتاب كما في دعوة الملوك.
و ليتأمل الباحث المنصف قوله «لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» فقد قيل: «لا يؤدي عنك إلا أنت» و لم يقل: «لا يؤدي إلا أنت أو رجل منك» حتى يفيد اشتراك الرسالة، و لم يقل: «لا يؤدي منك إلا رجل منك» حتى يشمل سائر الرسالات التي كان ص يقلدها كل من كان من صالحي المؤمنين فإنما مفاد قوله: «لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» أن الأمور الرسالية التي يجب عليك نفسك أن تقوم بها لا يقوم بها غيرك عوضا منك إلا رجل منك أي لا يخلفك فيما عليك كالتأدية الابتدائية إلا رجل منك.
ثم ليت شعري ما الذي دعاهم إلى أن أهملوا كلمة الوحي التي هي قول الله نزل به جبرئيل على النبي صلى الله عليه وآله و سلم : «لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» و ذكروا مكانها أنه «كانت السنة الجارية عند العرب أن لا ينقض العهد إلا عاقده أو رجل من أهل بيته» تلك السنة العربية التي لا خبر عنها في أيامهم و مغازيهم و لا أثر إلا ما ذكره ابن كثير و نسبه إلى العلماء عند البحث عن آيات براءة!.
ثم لو كانت سنة عربية جاهلية على هذا النعت فما وزنها في الإسلام و ما هي قيمتها عند النبي صلى الله عليه وآله و سلم و قد كان ينسخ كل يوم سنة جاهلية و ينقض كل حين عادة قومية، و لم تكن من جملة الأخلاق الكريمة أو السنن و العادات النافعة بل سليقة قبائلية تشبه
[1] و لم يأسر أحدا على ما في الروايات.
[2] و هؤلاء هم الذين ضبط علماء الآثار أسماءهم غير من لم يضبط اسمه.
[3] لكن قوله تعالى في عتابهم «تريدون عرض الدنيا» يخطئ عبيدة في قوله.
[4] و أما على ما في بعضها بدلا من ذلك: «لا يدخل الكعبة أو البيت إلا مؤمن» فالحكم المستفاد منه نظير الحكم بأنه لا يطوفن بالبيت مشرك حكم ابتدائي.
|