• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء الثامن) ، تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده) .
                    • الموضوع : من ص 241 الى ص 320 .

من ص 241 الى ص 320

بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ اِبْنَ أُمَّ إِنَّ اَلْقَوْمَ اِسْتَضْعَفُونِي وَ كَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ اَلْأَعْدَاءَ وَ لاَ تَجْعَلْنِي مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ ١٥٠ قَالَ رَبِّ اِغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي وَ أَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ اَلرَّاحِمِينَ ١٥١ إِنَّ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا اَلْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ ذِلَّةٌ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُفْتَرِينَ ١٥٢ وَ اَلَّذِينَ عَمِلُوا اَلسَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَ آمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ١٥٣ وَ لَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى اَلْغَضَبُ أَخَذَ اَلْأَلْوَاحَ وَ فِي نُسْخَتِهَا هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ١٥٤

بيان‏

شروع في بعض قصص بني إسرائيل بعد تخلصهم من إسارة آل فرعون مما يناسب غرض القصص المسرودة سابقا و هو أن الدعوة الدينية ما توجهت إلى أمة إلا كان الكفر إليها أسبق، و الناقضون لعهد الله فيهم أكثر فخص الله المؤمنين منهم بمزيد كرامته، و عذب الكافرين بشديد عذابه.

و قد ذكر في الآيات مجاوزة بني إسرائيل البحر و مسألتهم بعد المجاوزة موسى (عليه السلام) أن يجعل لهم صنما يعبدونه، و فيها عبادتهم للعجل بعد ما ذهب موسى لميقات ربه و في ضمنها حديث نزول التوراة عليه.

قوله تعالى: ﴿وَ جَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ اَلْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى‏َ قَوْمٍ الآية، العكوف‏ الإقبال على الشي‏ء و ملازمته على سبيل التعظيم. ذكره الراغب في المفردات، و قولهم:

﴿اِجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ أي كما لهم آلهة مجعولة.

كان بنو إسرائيل على شريعة جدهم إبراهيم (عليه السلام)، و قد خلا فيهم من الأنبياء

 

 

 إسحاق و يعقوب و يوسف، و هم على دين التوحيد الذي لا يعبد فيه إلا الله سبحانه وحده لا شريك له المتعالي عن أن يكون جسما أو جسمانيا يعرض له شكل أو قدر غير أن بني إسرائيل كما يستفاد من قصصهم كانوا قوما ماديين حسيين يجرون في حياتهم على أصالة الحس و لا يعتنون بما وراء الحس إلا اعتناء تشريفيا من غير أصالة و لا حقيقة، و قد مكثوا تحت إسارة القبط سنين متطاولة، و هم يعبدون الأوثان فتأثرت من ذلك أرواحهم و إن كانت العصبية القومية تحفظ لهم دين آبائهم بوجه.

و لذلك كان جلهم لا يتصورون من الله سبحانه إلا أنه جسم من الأجسام بل جوهر ألوهي يشاكل الإنسان كما هو الظاهر المستفاد من التوراة الدائرة اليوم، و كلما كان موسى يقرب الحق من أذهانهم حولوه إلى إشكال و تماثيل يتوهمون له تعالى، لهذه العلة لما شاهدوا في مسيرهم قوما يعكفون على أصنام لهم استحسنوا مثل ذلك لأنفسهم فسألوا موسى (عليه السلام) أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة يعكفون عليها.

فلم يجد موسى (عليه السلام) بدا من أن يتنزل في بيان توحيد الله سبحانه إلى ما يقارب أفهامهم على قصورها فلا مهم أولا على جهلهم بمقام ربهم مع وضوح أن طريق الوثنية طريق باطل هالك ثم عرف لهم ربهم بالصفة، و أنه لا يقبل صنما و لا يحد بمثال كما سيجي‏ء.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَؤُلاَءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَ بَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ المتبر من التبار و هو الهلاك، و المراد بقوله: ﴿مَا هُمْ فِيهِ سبيلهم الذي يسلكونه و هو عبادة الأصنام و المراد بقوله: ﴿مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أعمالهم العبادية، و المعنى أن هؤلاء الوثنية طريقتهم هالكة و أعمالهم باطلة فلا يحق أن يميل إليه إنسان عاقل لأن الغرض من عبادة الله سبحانه أن يهتدي به الإنسان إلى سعادة دائمة و خير باق.

قوله تعالى: ﴿قَالَ أَ غَيْرَ اَللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَ هُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى اَلْعَالَمِينَ ﴿أَبْغِيكُمْ أي أطلب لكم و ألتمس، يعرف ربهم و يصفه لهم، و قوله: ﴿أَ غَيْرَ اَللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً فيه تأسيس أن كل إله أبغيه لكم بجعل أو صنع فإنما هو غير الله سبحانه، و الذي يجب عليكم أن تعبدوا الله ربكم بصفة الربوبية التي هي تفضيله إياكم على العالمين.

فكأنهم قالوا: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة فقال: كيف ألتمس لكم ربا مصنوعا و هو غير الله ربكم، و إذا كان غيره فعبادته متبرة باطلة؟ فقالوا: فكيف نعبده و لا نراه

 

 

و لا سبيل لنا إلى ما لا نشاهده؟ كما يقوله عبدة الأصنام. فقال: اعبدوه بما تعرفونه من صفته فإنه فضلكم على سائر الأمم بآياته الباهرة و دينه الحق و إنجائكم من فرعون و عمله، فالآية كما ترى ألطف بيان و أوجز برهان يجلي عن الحق الصريح للأذهان الضعيفة التعقل.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ اَلْعَذَابِ إلى آخر الآية.

سامه‏

 العذاب يسومه أي حمله ذلك على طريق الإذلال، و

التقتيل‏

الإكثار في القتل و

الاستحياء

 الاستبقاء للخدمة و قد تقدم، و الظاهر أن قوله: ﴿وَ فِي ذَلِكُمْ إشارة إلى ما ذكر من سوء تعذيب آل فرعون لهم.

و الآية خطاب امتناني للموجودين من أخلافهم حين النزول يمتن الله فيها عليهم بما من به على آبائهم في زمن فرعون كما قيل، و الأنسب بالسياق أن يكون خطابا لأصحاب موسى بعينهم مسوقا سوق التعجب إذا نسوا عظيم نعمة الله عليهم إذ أنجاهم من تلك البلية العظيمة، و نظيره في الغيبة قوله تعالى فيما سيأتي: ﴿أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَ لاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً.

قوله تعالى: ﴿وَ وَاعَدْنَا مُوسى‏َ ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً إلى آخر الآية. الميقات‏ قريب المعنى من الوقت، قال في المجمع،: الفرق بين الميقات و الوقت أن

 الميقات

ما قدر ليعمل فيه عمل من الأعمال، و الوقت وقت الشي‏ء و قدره، و لذلك قيل: مواقيت الحج و هي المواضع التي قدرت للإحرام فيها (انتهى).

و قد ذكر الله سبحانه المواعدة و أخذ أصلها ثلاثين ليلة ثم أتمها بعشر ليال أخر ثم ذكر الفذلكة و هي أربعون، و أما الذي ذكره في موضع آخر إذ قال: ﴿وَ إِذْ وَاعَدْنَا مُوسى‏َ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً: البقرة: ٥١ فهو المجموع المتحصل من المواعدتين أعني أن آية البقرة تدل على أن مجموع الأربعين كان عن مواعدة، و آية الأعراف على أن ما في آية البقرة مجموع المواعدتين.

و بالجملة يعود المعنى إلى أنه تعالى وعده ثلاثين ليلة للتقريب و التكليم ثم وعده عشرا آخر لإتمام ذلك فتم ميقات ربه أربعين ليلة، و لعله ذكر الليالي دون الأيام مع أن موسى مكث في الطور الأربعين بأيامها و لياليها، و المتعارف في ذكر المواقيت

 

 

 و الأزمنة ذكر الأيام دون الليالي لأن الميقات كان للتقرب إلى الله سبحانه و مناجاته و ذكره، و ذلك أخص بالليل و أنسب لما فيه من اجتماع الحواس عن التفرق و زيادة تهيؤ النفس للأنس و قد كان من بركات هذا الميقات نزول التوراة.

و هذا كما يشير إلى مثله قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلْمُزَّمِّلُ قُمِ اَللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً - إلى أن قال - ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً إِنَّ نَاشِئَةَ اَللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلاً إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً: المزمل: ٧، و قوله تعالى: ﴿وَ قَالَ مُوسى‏َ لِأَخِيهِ هَارُونَ اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي إنما قاله حين ما كان يفارقهم للميقات، و الدليل على ذلك قوله: ﴿اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي فإن الاستخلاف لا يكون إلا في غيبة. و إنما عبر بلفظ ﴿قَوْمِي دون بني إسرائيل لتجري القصة على سياق سائر القصص المذكورة في هذه السورة فقد حكي فيها عن لفظ نوح و هود و صالح و غيرهم: يا قوم يا قوم، و على ذلك أجريت هذه القصة فعبر فيها عن بني إسرائيل في بضعة مواضع بلفظ القوم، و قد عبر عنهم في سورة طه ببني إسرائيل.

و أما قوله لأخيه ثانيا: ﴿وَ أَصْلِحْ وَ لاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ اَلْمُفْسِدِينَ فهو أمر له بالإصلاح و أن لا يتبع سبيل أهل الفساد، و هارون نبي مرسل معصوم لا تصدر عنه المعصية، و لا يتأتى منه اتباع أهل الفساد في دينهم، و موسى (عليه السلام) أعلم بحال أخيه فليس مراده نهيه عن الكفر و المعصية بل أن لا يتبع في إدارة أمور قومه ما يشير إليه و يستصوبه المفسدون من القوم أيام خلافته ما دام موسى غائبا.

و من الدليل عليه قوله: ﴿وَ أَصْلِحْ فإنه يدل على أن المراد بقوله: ﴿وَ لاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ اَلْمُفْسِدِينَ أن يصلح أمرهم و لا يسير فيهم سيرة هي سبيل المفسدين الذي يستحسنونه و يشيرون إليه بذلك.

و من هنا يتأيد أنه كان في قومه يومئذ جمع من المفسدين يفسدون و يقلبون عليه الأمور و يتربصون به الدوائر فنهى موسى أخاه أن يتبع سبيلهم فيشوشوا عليه الأمر و يكيدوا و يمكروا به فيتفرق جمع بني إسرائيل و يتشتت شملهم بعد تلك المحن و الأذايا التي كابدها في إحياء كلمة الاتحاد بينهم.

قوله تعالى: ﴿وَ لَمَّا جَاءَ مُوسى‏َ لِمِيقَاتِنَا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَ لَكِنِ اُنْظُرْ إِلَى اَلْجَبَلِ فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي الآية

التجلي‏

مطاوعة

 

 

 التجلية من الجلاء بمعنى الظهور، و

 الدك‏

 هو أشد الدق، و جعله دكا أي مدكوكا و

 الخرور

 هو السقوط، و

الصعقة

 هي الموت أو الغشية بجمود الحواس و بطلان إدراكها، و

الإفاقة

 الرجوع إلى حال سلامة العقل و الحواس يقال: أفاق من غشيته أي رجع إلى حال استقامة الشعور و الإدراك.

و معنى الآية على ما يستفاد من ظاهر نظمها أنه ﴿لَمَّا جَاءَ مُوسى‏َ لِمِيقَاتِنَا الذي وقتناه له ﴿وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ بكلامه ﴿قَالَ أي موسى ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ أي أرني نفسك أنظر إليك أي مكني من النظر إليك حتى أنظر إليك و أراك فإن الرؤية فرع النظر، و النظر فرع التمكين من الرؤية و التمكن منها، ﴿قَالَ الله تعالى لموسى ﴿لَنْ تَرَانِي أبدا ﴿وَ لَكِنِ اُنْظُرْ إِلَى اَلْجَبَلِ و كان جبلا بحياله مشهودا له أشير إليه بلام العهد الحضوري ﴿وَ لَكِنِ اُنْظُرْ إِلَى اَلْجَبَلِ فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي أي لن تطيق رؤيتي فانظر إلى الجبل فإني أظهر له فإن استقر مكانه و أطاق رؤيتي فاعلم أنك تطيق النظر إلي و رؤيتي ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى و ظهر ﴿رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ بتجليه ﴿دَكًّا مدكوكا متلاشيا في الجو أو سائحا ﴿وَ خَرَّ مُوسى‏َ صَعِقاً ميتا أو مغشيا عليه من هول ما رأى ﴿فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ رجعت إليك مما اقترحته عليك ﴿وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ بأنك لا ترى. هذا ظاهر ألفاظ الآية.

و الذي يعطيه التدبر فيها أن حديث الرؤية و النظر الذي وقع في الآية إذا عرضناه على الفهم العامي المتعارف حمله على رؤية العين و نظر الأبصار، و لا نشك و لن نشك أن الرؤية و الإبصار يحتاج إلى عمل طبيعي في جهاز الأبصار يهيئ للباصر صورة مماثلة لصورة الجسم المبصر في شكله و لونه.

و بالجملة هذا الذي نسميه الإبصار الطبيعي يحتاج إلى مادة جسمية في المبصر و الباصر جميعا، و هذا لا شك فيه.

و التعليم القرآني يعطي إعطاء ضروريا أن الله تعالى لا يماثله شي‏ء بوجه من الوجوه البتة فليس بجسم و لا جسماني، و لا يحيط به مكان و لا زمان، و لا تحويه جهة و لا توجد صورة مماثلة أو مشابهة له بوجه من الوجوه في خارج و لا ذهن البتة.

و ما هذا شأنه لا يتعلق به الإبصار بالمعنى الذي نجده من أنفسنا البتة، و لا تنطبق

 

 

 عليه صورة ذهنية لا في الدنيا و لا في الآخرة ضرورة، و لا أن موسى ذاك النبي العظيم أحد الخمسة أولي العزم و سادة الأنبياء (عليه السلام) ممن يليق بمقامه الرفيع و موقفه الخطير أن يجهل ذلك، و لا أن يمني نفسه بأن الله سبحانه أن يقوي بصر الإنسان على أن يراه و يشاهده سبحانه منزها عن وصمة الحركة و الزمان، و الجهة و المكان، و ألواث المادة الجسمية و أعراضها فإنه قول أشبه بغير الجد منه بالجد فما محصل القول: أن من الجائز في قدرة الله أن يقوي سببا ماديا أن يعلق عمله الطبيعي المادي - مع حفظ حقيقة السبب و هوية أثره بأمر هو خارج عن المادة و آثارها متعال عن القدر و النهاية؟ فهذا الإبصار الذي عندنا و هو خاصة مادية من المستحيل أن يتعلق بما لا أثر عنده من المادة الجسمية و خواصها فإن كان موسى يسأل الرؤية فإنما سأل غير هذه الرؤية البصرية، و بالملازمة ما ينفيه الله سبحانه في جوابه فإنما ينفي غير هذه الرؤية البصرية فأما هي فبديهية الانتفاء لم يتعلق بها سؤال و لا جواب، و قد أطلق الله الرؤية و ما يقرب منها معنى في موارد من كلامه و أثبتها كقوله تعالى ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلى‏َ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ: القيامة: ٢٣، و قوله: ﴿مَا كَذَبَ اَلْفُؤَادُ مَا رَأى‏َ: النجم: ١١، و قوله: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اَللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اَللَّهِ لَآتٍ: العنكبوت : ٥، و قوله: ﴿أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى‏َ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطٌ: حم السجدة: ٥٤، و قوله: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَ لاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً: الكهف: ١١٠، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المثبتة للرؤية و ما في معناه قبال الآيات النافية لها كما في هذه الآية: ﴿قَالَ لَنْ تَرَانِي، و قوله: ﴿لاَ تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصَارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ اَلْأَبْصَارَ: الأنعام: ١٠٣ و غير ذلك.

فهل المراد بالرؤية حصول العلم الضروري سمي بها لمبالغة في الظهور و نحوها كما قيل.

لا ريب أن الآيات تثبت علما ما ضروريا لكن الشأن في تشخيص حقيقة هذا العلم الضروري فإنا لا نسمي كل علم ضروري رؤية و ما في معناه من اللقاء و نحوه كما نعلم بوجود إبراهيم الخليل و إسكندر و كسرى فيما مضى و لم نرهم، و نعلم علما ضروريا بوجود لندن و شيكاغو و مسكو و لم نرها، و لا نسميه رؤية و إن بالغنا، فأنت تقول:

 

 

 أعلم بوجود إبراهيم (عليه السلام) و إسكندر و كسرى كأني رأيتهم، و لا تقول رأيتهم أو أراهم، و تقول: أعلم بوجود لندن و شيكاغو و مسكو، و لا تقول: رأيتها أو أراها.

و أوضح من ذلك علمنا الضروري بالبديهيات الأولية التي هي لكليتها غير مادية و لا محسوسة مثل قولنا: «الواحد نصف الاثنين» و «الأربعة زوج» و «الإضافة قائمة بطرفين» فإنها علوم ضرورية يصح إطلاق العلم عليها و لا يصح إطلاق الرؤية البتة.

و نظير ذلك جميع التصديقات العقلية الفكرية، و كذا المعاني الوهمية و بالجملة ما نسميها بالعلوم الحصولية لا نسميها رؤية و إن أطلقنا عليها العلم فنقول علمناها و لا نقول:

رأيناها إلا بمعنى القضاء و الحكم لا بمعنى المشاهدة و الوجدان.

لكن بين معلوماتنا ما لا نتوقف في إطلاق الرؤية عليه و استعمالها فيه، نقول:

أرى أني أنا و أراني أريد كذا و أكره كذا، و أحب كذا و أبغض كذا و أرجو كذا و أتمنى كذا أي أجد ذاتي و أشاهدها بنفسها من غير أن أحتجب عنها بحاجب، و أجد و أشاهد إرادتي الباطنة التي ليست بمحسوسة و لا فكرية، و أجد في باطن ذاتي كراهة و حبا و بغضا و رجاء و تمنيا و هكذا.

و هذا غير قول القائل: رأيتك تحب كذا و تبغض كذا و غير ذلك فإن معنى كلامه أبصرتك في هيئة استدللت بها على أن فيك حبا و بغضا و نحو ذلك، و أما حكاية الإنسان عن نفسه أنه يراه يريد و يكره و يحب و يبغض فإنه يريد به أنه يجد هذه الأمور بنفسها و واقعيتها لا أنه يستدل عليها فيقضي بوجودها من طريق الاستدلال بل يجدها من نفسه من غير حاجب يحجبها و لا توسل بوسيلة تدل عليها البتة.

و تسمية هذا القسم من العلم الذي يجد فيه الإنسان نفس المعلوم بواقعيته الخارجية رؤية مطردة، و هي علم الإنسان بذاته و قواه الباطنة و أوصاف ذاته و أحواله الداخلية و ليس فيها مداخلة جهة أو مكان أو زمان أو حالة جسمانية أخرى غيرها فافهم ذلك و أجد التدبر فيه.

و الله سبحانه فيما أثبت من الرؤية يذكر معها خصوصيات و يضم إليها ضمائم يدلنا ذلك على أن المراد بالرؤية هذا القسم من العلم الذي نسميه فيما عندنا أيضا رؤية كما في قوله: ﴿أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى‏َ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ

 

 

 إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطٌ الآية. حيث أثبت أولا أنه على كل شي‏ء حاضر أو مشهود لا يختص بجهة دون جهة و بمكان دون مكان و بشي‏ء دون شي‏ء بل شهيد على كل شي‏ء محيط بكل شي‏ء فلو وجده شي‏ء لوجده على ظاهر كل شي‏ء و باطنه و على نفس وجدانه و على نفسه، و على هذه السمة لقاؤه لو كان هناك لقاء لا على نحو اللقاء الحسي الذي لا يتأتى البتة إلا بمواجهة جسمانية و تعين جهة و مكان و زمان، و بهذا يشعر ما في قوله:

﴿مَا كَذَبَ اَلْفُؤَادُ مَا رَأى‏َ من نسبة الرؤية إلى الفؤاد الذي لا شبهة في كون المراد به هو النفس الإنسانية الشاعرة دون اللحم الصنوبري المعلق على يسار الصدر داخلا.

و نظير ذلك قوله تعالى: ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلى‏َ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ: المطففين: ١٥، دل على أن الذي يجبهم عنه تعالى رين المعاصي و الذنوب التي اكتسبوها فحال بين قلوبهم أي أنفسهم و بين ربهم فحجبهم عن تشريف المشاهدة، و لو رأوه لرأوه بقلوبهم أي أنفسهم لا بأبصارهم و أحداقهم.

و قد أثبت الله سبحانه في موارد من كلامه قسما آخر من الرؤية وراء رؤية الجارحة كقوله تعالى: ﴿كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اَلْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ اَلْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اَلْيَقِينِ» : التكاثر: ٧، و قوله: ﴿وَ كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ: الأنعام: ٧٥، و قد تقدم تفسير الآية في الجزء السابع من الكتاب، و بينا هناك أن الملكوت هو باطن الأشياء لا ظاهرها المحسوس.

فبهذه الوجوه يظهر أنه تعالى يثبت في كلامه قسما من الرؤية و المشاهدة وراء الرؤية البصرية الحسية، و هي نوع شعور في الإنسان يشعر بالشي‏ء بنفسه من غير استعمال آلة حسية أو فكرية، و أن للإنسان شعورا بربه غير ما يعتقد بوجوده من طريق الفكر و استخدام الدليل بل يجده وجدانا من غير أن يحجبه عنه حاجب، و لا يجره إلى الغفلة عنه إلا اشتغاله بنفسه و بمعاصيه التي اكتسبها، و هي مع ذلك غفلة عن أمر موجود مشهود لا زوال علم بالكلية و من أصله فليس في كلامه تعالى ما يشعر بذلك البتة بل عبر عن هذا الجهل بالغفلة و هي زوال العلم بالعلم لا زوال أصل العلم.

فهذا ما بينه كلامه سبحانه، و يؤيده العقل بساطع براهينه، و كذا ما ورد من الأخبار عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) على ما سننقلها و نبحث عنها في البحث الروائي

 

 

الآتي إن شاء الله تعالى.

و الذي ينجلي من كلامه تعالى أن هذا العلم المسمى بالرؤية و اللقاء يتم للصالحين من عباد الله يوم القيامة كما يدل عليه ظاهر قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلى‏َ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ: القيامة: ٢٣، فهناك موطن التشرف بهذا التشريف، و أما في هذه الدنيا و الإنسان مشتغل ببدنه، و منغمر في غمرات حوائجه الطبيعية، و هو سألك لطريق اللقاء و العلم الضروري بآيات ربه، كادح إلى ربه كدحا ليلاقيه فهو بعد في طريق هذا العلم لن يتم له حق يلاقي ربه، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلى‏َ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ: الإنشقاق: ٦، و في معناه آيات كثيرة أخرى تدل على أنه تعالى إليه المرجع و المصير و المنتهى، و إليه يرجعون و إليه يقلبون.

فهذا هو العلم الضروري الخاص الذي أثبته الله تعالى لنفسه و سماه رؤية و لقاء، و لا يهمنا البحث عن أنها على نحو الحقيقة أو المجاز فإن القرائن كما عرفت قائمة على إرادة ذلك فإن كانت حقيقة كانت قرائن معينة، و إن كانت مجازا كانت صارفة، و القرآن الكريم أول كاشف عن هذه الحقيقة على هذا الوجه البديع، فالكتب السماوية السابقة على ما بأيدينا ساكتة عن إثبات هذا النوع من العلم بالله و تخلو عنه الأبحاث المأثورة عن الفلاسفة الباحثين عن هذه المسائل فإن العلم الحضوري عندهم كان منحصرا في علم الشي‏ء بنفسه حتى كشف عنه في الإسلام فللقرآن المنة في تنقيح المعارف الإلهية.

و لنرجع إلى الآية المبحوث عنها:

فقوله: ﴿وَ لَمَّا جَاءَ مُوسى‏َ لِمِيقَاتِنَا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ سؤال منه (عليه السلام) للرؤية بمعنى العلم الضروري على ما تقدم من معناه فإن الله سبحانه لما خصه بما حباه من العلم به من جهة النظر في آياته ثم زاد على ذلك أن اصطفاه برسالاته و بتكليمه و هو العلم بالله من جهة السمع رجا (عليه السلام) أن يزيده بالعلم من جهة الرؤية و هو كمال العلم الضروري بالله، و الله خير مرجو و مأمول.

فهذا هو المسئول دون الرؤية بمعنى الإبصار بالتحديق الذي يجل موسى (عليه السلام) ذاك النبي الكريم أن يجهل بامتناعه عليه تعالى و تقدس.

 

 

 و قوله. ﴿قَالَ لَنْ تَرَانِي نفي مؤبد للرؤية، و إذ أثبت الله سبحانه الرؤية بمعنى العلم الضروري في الآخرة كان تأبيد النفي راجعا إلى تحقق ذلك في الدنيا ما دام للإنسان اشتغال بتدبير بدنه، و علاج ما نزل به من أنواع الحوائج الضرورية، و الانقطاع إليه تعالى بتمام معنى الكلمة لا يتم إلا بقطع الرابطة عن كل شي‏ء حتى البدن و توابعه و هو الموت.

فيئول المعنى إلى أنك لن تقدر على رؤيتي و العلم الضروري بي في الدنيا حتى تلاقيني فتعلم بي علما اضطراريا تريده، و التعبير في قوله: ﴿لَنْ تَرَانِي بـ ﴿لَنْ الظاهر في تأبيد النفي لا ينافي ثبوت هذا العلم الضروري في الآخرة فالانتفاء في الدنيا يقبل التأبيد أيضا كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ اَلْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ اَلْجِبَالَ طُولاً: إسراء : ٣٧، و قوله: ﴿إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً: الكهف: ٦٧.

و لو سلم أنه ظاهر في تأبيد النفي للدنيا و الآخرة جميعا فإنه لا يأبى التقييد كقوله تعالى: ﴿وَ لَنْ تَرْضى‏َ عَنْكَ اَلْيَهُودُ وَ لاَ اَلنَّصَارى‏َ حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ: البقرة: ١٢٠، فلم لا يجوز أن تكون أمثال قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلى‏َ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ مقيدة لهذه الآية مبينة لمعنى التأبيد المستفاد منها.

و الذي ذكرناه من رجوع نفي الرؤية في قوله: ﴿لَنْ تَرَانِي إلى نفي الطاقة و الاستطاعة يؤيده قوله بعده: ﴿وَ لَكِنِ اُنْظُرْ إِلَى اَلْجَبَلِ فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فإن فيه تنظير إراءة نفسه لموسى (عليه السلام) بتجليه للجبل، و المراد أن ظهوري و تجليي للجبل مثل ظهوري لك فإن استقر الجبل مكانه أي بقي على ما هو عليه و هو جبل عظيم في الخلقة قوي في الطاقة فإنك أيضا يرجى أن تطيق تجلي ربك و ظهوره.

فقوله: ﴿وَ لَكِنِ اُنْظُرْ إِلَى اَلْجَبَلِ فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ليس باستدلال على استحالة التجلي كيف و قد تجلى له؟ بل إشهاد و تعريف لعدم استطاعته و إطاقته للتجلي و عدم استقراره مكانه أي بطلان وجوده لو وقع التجلي كما بطل الجبل بالدك.

و قد دل عليه قوله: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى‏َ صَعِقاً و بصيرورة الجبل دكا أي مدكوكا متحولا إلى ذرأت ترابية صغار بطلت هويته و ذهبت جبليته و قضى أجله.

 

 

 و قوله: ﴿وَ خَرَّ مُوسى‏َ صَعِقاً ظاهر السياق أن الذي أصعقه هو هول ما رأى و شاهد غير أنه يجب أن يتذكر أنه هو الذي ألقي عصاه فإذا هي ثعبان مبين تلقف الألوف من الثعابين و الحيات، و فلق البحر فأغرق الألوف ثم الألوف من آل فرعون في لحظة و رفع الجبل فوق رءوس بني إسرائيل كأنه ظلة، و أتى بآيات هائلة أخرى و هي أهول من اندكاك جبل، و أعظم، و لم يصعقه شي‏ء من ذلك و لم يدهشه.

و اندكاك الجبل أهون من ذلك، و هو بحسب الظاهر في أمن من أن يصيبه في ذلك خطر فإن الله إنما دكه ليشهده كيفية الأمر!.

فهذا كله يشهد أن الذي أصعقه إنما هو ما تمثل له من معنى ما سأله و عظمة القهر الإلهي الذي أشرف أن يشاهده و لم يشاهده هو و إنما شاهده الجبل فآل أمره إلى ذاك الاندكاك العجيب الذي لم يستقر معه مكانه و لا طرفة عين، و يشهد بذلك أيضا توبته (عليه السلام) بعد الإفاقة كما سيأتي.

و قوله: ﴿فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ توبة و رجوع منه (عليه السلام) بعد الإفاقة إذ تبين له أن الذي سأله وقع في غير موقعه فأخذته العناية الإلهية بتعريفه ذلك و تعليمه عيانا بإشهاده دك الجبل بالتجلي أنه غير ممكن.

فبدأ بتنزيهه تعالى و تقديسه عما كان يرى من إمكان ذلك ثم عقبه بالتوبة عما أقدم عليه و هو يطمع في أن يتوب عليه، و ليس من الواجب في التوبة أن تكون دائما عن معصية و جرم بل هو الرجوع إليه تعالى لشائبة بعد كيف كان كما تقدم البحث فيه في الجزء الرابع من الكتاب.

ثم عقب (عليه السلام) ذلك بالإقرار و الشهادة بقوله: ﴿وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ أي أول المؤمنين من قومي بأنك لا ترى. هذا ما يدل عليه المقام، و إن كان من المحتمل أن يكون المراد و أنا أول المؤمنين من بين قومي بما آتيتني و هديتني إليه آمنت بك قبل أن يؤمنوا فحقيق بي أن أتوب إليك إذا علق بي تقصير أو قصور. لكنه معنى بعيد.

قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا مُوسى‏َ إِنِّي اِصْطَفَيْتُكَ عَلَى اَلنَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَ بِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَ كُنْ مِنَ اَلشَّاكِرِينَ المراد بالاصطفاء الاختيار على وجه التصفية، و لذلك عدي إلى الناس بعلى، و المراد بالرسالات هو ما حمل من الأوامر و النواهي الإلهية من

 

 

 المعارف و الحكم و الشرائع ليبلغه الناس سواء كان التحميل بواسطة ملك أو بتكليم بلا واسطة ملك فهي غير الكلام و إن حملت بكلام فإن الكلام أمر، و المعاني التي يتلقاها السامع منه أمر آخر.

و المراد بالكلام هو ما شافه به الله سبحانه من غير واسطة ملك و بعبارة أخرى هو ما يكشف به عن مكنون الغيب، و أما أن يكون من نوع الكلام الدائر بيننا معاشر الإنسان فلا فإن الكلام عندنا هو أنا نصطلح و نتعهد فيما بيننا على تخصيص صوت مخصوص من الأصوات لمعنى من المعاني لينتقل ذهن السامع إلى ذلك المعنى ثم نتوسل عند إرادة تفهيمه إلى إيجاد تموج خاص في الهواء يبتدي منا و ينتهي إلى السامع لننقل به ما في ضميرنا إلى ضمير السامع المخاطب و التكلم بهذا الوجه يستلزم التجسم في المتكلم و الله سبحانه منزه عنه، و مجرد إيجاد الصوت و تمويج الهواء بإيجاد أسباب الصوت في مكان لا يدل على كون المعاني التي ينتقل إليها الذهن مقصودة لله سبحانه ما لم تكشف الإرادة بأمر آخر وراء نفس الصوت كما أن من أوجد منا بدق أو ضرب أو نحوهما صوتا يدل على معنى لم نحكم بإرادته ذلك ما لم يكشف من حاله أو مقاله قبلا أنه قاصد لمعنى ما يوجده من الأصوات.

و ما كلم به الله سبحانه موسى (عليه السلام) مما حكاه القرآن الشريف خال عن سؤال الدليل على كونه كلامه، و على كونه تعالى مريدا لمعناه فلم يسأل موسى ربه حين سمع النداء من جانب الطور الأيمن من الشجرة: هل هذا منك يا رب؟ و هل أنت مريد معناه؟ بل أيقن بذلك إيقانا، و نظير الكلام جار في سائر أقسام الوحي غير الكلام.

و هذا يكشف كشفا قطعيا عن ارتباط خاص من السامع بإرادة مصدر الكلام و الوحي يوجب الانتقال إلى المعنى المقصود و إلا فمجرد صدور صوت له معنى مفهوم في اللغة منه تعالى لا يستلزم صحة الانتساب إليه تعالى و لا كونه كلامه كيف؟ و جميع الألفاظ الصادرة من المتكلمين بما أنها أصوات تنتهي إليه تعالى و ليست كلاما له تعالى بل المتكلم بها غيره، و كثيرا ما يحدث من تصادم الأجسام المختلفة أصوات ذوات معان في اللغة و لا نعده كلاما له تعالى.

و بالجملة تكليمه تعالى هو إيجاده اتصالا و ارتباطا خاصا بين مخاطبه و بين الغيب

 

 

ينتقل به بمشاهدة بعض مخلوقاته إلى معنى مراد، و لا نمنع مقارنة ذلك بأصوات يوجدها الله تعالى في خارج أو سمع أو غير ذلك، و قد تقدم بعض الكلام في الكلام فيما تقدم.

و سيأتي منه تتمة في تفسير سورة الشورى إن شاء الله تعالى.

و كيف كان فقوله تعالى: ﴿قَالَ يَا مُوسى‏َ إِنِّي اِصْطَفَيْتُكَ الآية. وارد في مورد الامتنان و موعظة لموسى (عليه السلام) أن يكتفي بما اصطفاه الله به من رسالاته و كلامه و يشكره و لا يستزيد.

قوله تعالى: ﴿وَ كَتَبْنَا لَهُ فِي اَلْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ الآية.

 اللوح

‏ صحيفة معدة للكتابة فيه لأنه يلوح و يظهر بما فيه من الخط و أصله من لاح البرق إذا لمع.

و قوله: ﴿مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ من فيه للتبعيض كما يؤيده السياق اللاحق، و قوله:

﴿مَوْعِظَةً الظاهر أنه بيان لكل شي‏ء، و يعطف عليه قوله: ﴿وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ و تنكير قوله: ﴿تَفْصِيلاً لإفادة الإبهام و التبعيض، و يئول المعنى إلى مثل قولنا:

و كتبنا لموسى في الألواح و هي التوراة النازلة مختارات من كل شي‏ء و نعني بذلك أنا كتبنا له موعظة و تفصيلا ما و تشريحا ما لكل شي‏ء حسب ما يحتاج إليها قومه في الاعتقاد و العمل.

ففي الكلام دلالة على أن التوراة لم تستكمل جميع ما تمس به حاجة البشر من المعارف و الشرائع، و هو كذلك كما يدل عليه أيضا قوله تعالى بعد ذكر التوراة و الإنجيل ﴿وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتَابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ: المائدة:

 ٤٨، و قد تقدم تفسيره.

و قوله: ﴿فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا عطف تفريع على قوله:

﴿وَ كَتَبْنَا لَهُ فِي اَلْأَلْوَاحِ الآية لأنه مشعر بمعنى القول، و التقدير: و قلنا إنا كتبنا لك في الألواح من كل شي‏ء فخذها بقوة.

و الأخذ بالقوة كناية عن الأخذ بالجد و الحزم فإن من يجد و يحزم في أمر يستعمل ما عنده من القوة فيه حذرا أن يفوته فالأخذ بالقوة لازم الأخذ بالجد و الحزم كنى به عنه.

و قوله: ﴿وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا الظاهر أن الضمير في ﴿بِأَحْسَنِهَا

 

 

راجع إلى الأشياء المدلول عليها بقوله قبلا: ﴿مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ من المواعظ و تفاصيل الآداب و الشرائع و الأخذ بالأحسن كناية عن ملازمة الحسن في الأمور و اتباعه و اختياره فإن من يهم بأمر الحسن في الأمور إذا وجد سيئا و حسنا اختار الحسن الجميل، و إذا وجد حسنا و أحسن منه اضطره حب الجمال إلى اختيار الأحسن و تقديمه على الحسن فالأخذ بأحسن الأمور لازم حب الجمال و ملازمة الحسن فكنى به عنه، و المعنى: و أمر قومك يجتنبوا السيئات و يلازموا ما تهدي إليه التوراة من الحسنات، و نظير الآية في التكنية قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ اَلَّذِينَ هَدَاهُمُ اَللَّهُ وَ أُولَئِكَ هُمْ أُولُوا اَلْأَلْبَابِ: الزمر: ١٨.

و قوله: ﴿سَأُرِيكُمْ دَارَ اَلْفَاسِقِينَ ظاهر السياق أن المراد بهؤلاء الفاسقين هم الذين يفسقون بعدم ائتمار قوله: ﴿وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا﴾ على ما تقدم من معناه من ملازمة طريق الإحسان في الأمور و اتباع الحق و الرشد فإن من فسق عن الطريق صرفه الله عن الصراط المستقيم إلى تتبع السيئات و الميل عن الرشد إلى الغي كما يفصله في الآية التالية فكانت عاقبة أمره خسرانا و آل أمره إلى الهلاك.

و على هذا فما في الآية التالية: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الآية تفسير أو كالتفسير لقوله: ﴿سَأُرِيكُمْ دَارَ اَلْفَاسِقِينَ و قيل المراد بدار الفاسقين جهنم، و في الكلام تهديد و تحذير، و قيل المراد بها منازل فرعون و قومه بمصر، و قيل: منازل عاد و ثمود، و قيل المراد دار العمالقة و غيرهم بالشام و أن الله سيدخلهم فيها فيرونها، و قيل: المراد سيجيئكم قوم فساق تكون الدولة لهم عليكم.

قوله تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ اَلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا الآية تقييد التكبر في الأرض بغير الحق مع أن التكبر فيها لا يكون إلا بغير الحق كتقييد البغي في الأرض بغير الحق للتوضيح لا للاحتراز و يراد به الدلالة على وجه الذم في العمل و أن التكبر كالبغي مذموم لكونه بغير الحق.

و أما ما قيل: إن القيد احترازي للدلالة على أن المراد هو التكبر المذموم دون التكبر الممدوح كالتكبر على أعداء الله و التكبر على المتكبر و هو تكبر بالحق ففيه أن المذكور في الآية ليس مطلق التكبر بل التكبر في الأرض، و هو الاستعلاء على

 

 

 عباد الله و استذلالهم و التغلب عليهم، و هذا لا يكون إلا بغير الحق.

و قوله: ﴿وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا عطف على قوله: ﴿يَتَكَبَّرُونَ و بيان لأحد أوصافهم و هو الإصرار على الكفر و التكذيب.

و كذا قوله: ﴿وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ اَلرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً الآية و تكرار الجملتين المثبتة و المنفية بجميع خصوصياتهما للدلالة على اعتنائهم الشديد و مراقبتهم الدقيقة على مخالفة سبيل الرشد و اتباع سبيل الغي بحيث لا يعذرون بخطإ و لا يحتمل في حقهم جهل أو اشتباه.

و قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إلى آخر الآية تعليل لما تحقق فيهم من رذائل الصفات أي إنما جروا على ما جروا بسبب تكذيبهم لآياتنا و غفلتهم عنها، و من المحتمل أن يكون تعليلا لقوله تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ لِقَاءِ اَلْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ معنى الآية ظاهر و يتحصل منها:

أولا: أن الجزاء هو نفس العمل و قد تقدم توضيحه كرارا في أبحاثنا السابقة.

و ثانيا: أن الحبط من الجزاء فإن الجزاء بالعمل و إذا كان العمل حابطا فإحباطه هو الجزاء، و الحبط إنما يتعلق بالأعمال التي فيها جهة حسن فتكون نتيجة إحباط الحسنات ممن له حسنات و سيئات أن يجزى بسيئاته جزاء سيئا و يجزى بحسناته بإحباطها فيتمحض له الجزاء السيئ.

و يمكن أن تنزل الآية على معنى آخر و هو أن يكون المراد بالجزاء، الجزاء الحسن و قوله: ﴿هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ كناية عن أنهم لا يثابون بشي‏ء إذ لا عمل من الأعمال الصالحة عندهم لمكان الحبط قال تعالى: ﴿وَ قَدِمْنَا إِلى‏َ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً: الفرقان: ٢٣، و الدليل على كون المراد بالجزاء هو الثواب أن هذا الجزاء هو جزاء الأعمال المذكورة في الآية قبلا، و المراد بها بقرينة ذكر الحبط هي الأعمال الصالحة.

و من هنا يظهر فساد ما استدل به بعضهم بالآية على أن تارك الواجب من غير أن يشتغل بضده لا عقاب له لأنه لم يعمل عملا حتى يعاقب عليه و قد قال تعالى: ﴿هَلْ يُجْزَوْنَ

 

 

 إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.

وجه الفساد أن المراد بالجزاء في الآية الثواب و المعنى أنهم لا ثواب لهم في الآخرة لأنهم لم يأتوا بحسنة و لم يعملوا عملا يثابون عليها.

على أن ثبوت العقاب على مجرد ترك الأوامر الإلهية مع الغض عما يشتغل به من الأعمال المضادة كالضروري من كلامه تعالى قال الله عز و جل: ﴿وَ مَنْ يَعْصِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ: الجن: ٢٣، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: ﴿وَ اِتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى‏َ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ إلى آخر الآية،

الحلي‏

 على فعول جمع حلي كالثدي جمع ثدي، و هو ما يتحلى و يتزين به من ذهب أو فضة أو نحوهما، و

العجل

‏ ولد البقرة، و

الخوار

 صوت البقرة خاصة، و في قوله تعالى: ﴿جَسَداً لَهُ خُوَارٌ و هو بيان للعجل دلالة على أنه كان غير ذي حياة و إنما وجدوا عنده خوارا كخوار البقر.

و الآية و ما بعده تذكر قصة عبادة بني إسرائيل العجل بعد ما ذهب موسى إلى ميقات ربه و استبطئوا رجوعه إليهم، فكادهم السامري و أخذ من حليهم فصاغ لهم عجلا من ذهب له خوار كخوار العجل و ذكر لهم أنه إلههم و إله موسى فسجدوا له و اتخذوه إلها، و قد فصل الله سبحانه القصة في سورة طه تفصيلا، و الذي ذكره في هذه الآيات من هذه السورة لا يستغني عما هناك، و هو يؤيد نزول سورة طه قبل سورة الأعراف.

و كيف كان فقوله: ﴿وَ اِتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى‏َ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً معناه اتخذ قوم موسى من بعد ذهابه لميقات ربه قبل أن يرجع فإنه سيذكر رجوعه إليهم غضبان عجلا فعبدوه، و كان هذا العجل الذي اتخذوه ﴿جَسَداً لَهُ خُوَارٌ ثم ذمهم الله سبحانه بأنهم لم يعبئوا بما هو ظاهر جلي بين عند العقل في أول نظرته أنه لو كان هو الله سبحانه لكلمهم و لهداهم السبيل فقال تعالى: ﴿أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَ لاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً.

و إنما ذكر من صفاته المنافية للألوهية عدم تكليمه إياهم و عدم هدايته لهم و سكت عن سائر ما فيه كالجسمية و كونه مصنوعا و محدودا ذا مكان و زمان و شكل

 

 

 إلى غير ذلك مع أن الجميع ينافي الألوهية لأن هاتين الصفتين أعني التكليم و الهداية من أوضح ما تستلزمه الألوهية من الصفات عند من يتخذ شيئا إلها إذ من الواجب أن يعبده بما يرتضيه و يسلك إليه من طريق يوصل إليه، و لا يعلم ذلك إلا من قبل الإله بوجه فهو الذي يجب أن يهديه إلى طريق عبادته بنوع من التكليم و التفهيم، و قد رأوا أنه لا يكلمهم و لا يهديهم سبيلا.

على أنهم عهدوا من موسى أن الله سبحانه يكلمه و يهديه، و يكلمهم و يهديهم بواسطته، و قد قالوا حين أخرج السامري لهم العجل: ﴿هَذَا إِلَهُكُمْ وَ إِلَهُ مُوسى‏َ: طه: ٨٨، فلو كان العجل هو الذي أومأ إليه السامري لكلمهم و هداهم سبيلا.

و بالجملة فقد كان من الواضح البين عند عقولهم لو عقلوا أنه ليس هو، و لذلك أردفه بقوله: ﴿اِتَّخَذُوهُ وَ كَانُوا ظَالِمِينَ كأنه قيل: فلم اتخذوه و أمره بذاك الوضوح، فقيل:

﴿اِتَّخَذُوهُ وَ كَانُوا ظَالِمِينَ.

قوله تعالى: ﴿وَ لَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَ رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا إلى آخر الآية.

قال في المجمع،: معنى ﴿سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وقع البلاء في أيديهم أي وجدوه وجدان من يده فيه يقال ذلك للنادم عند ما يجده مما كان خفي عليه، و يقال: سقط في يده، و أسقط في يده و بغير ألف أفصح، و قيل: معناه صار الذي يضر به ملقى في يده انتهى.

و قد ذكر في مطولات التفاسير وجوه كثيرة توجه بها هذه الجملة، جلها أو كلها لا تخلو من تعسف، و أقرب الوجوه ما نقلناه عن المجمع، منقولا عن بعضهم فإن ظاهر سياق الآية أن المراد بقوله: ﴿وَ لَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَ رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا إنهم لما التفتوا إلى ما فعلوه و أجالوا النظر فيه دقيقا ثانيا و رأوا عند ذلك أنهم قد ضلوا قالوا: كذا و كذا فالجملة تفيد معنى التنبه لما ذهلوا عنه و التبصر بما أغفلوه كأنهم عملوا شيئا فقدموه إلى ما عملوا له فرده إليهم و رمى به نحوهم فتناولوه بأيديهم فسقط فيها فرأوا من قريب أنهم ضلوا فيما زعموا، و أهملوا فيه أمرا ما كان لهم أن يهملوه، و فات منهم ما فسد بفوته ما عملوه، و على أي حال تجري الجملة مجرى المثل السائر.

و الآية أعني قوله ﴿وَ لَمَّا سُقِطَ بحسب المعنى مترتب على الآيات التالية فإنهم ـ

 

 

إنما تبينوا ضلالهم بعد رجوع موسى إليهم كما تفصل ذلك سورة طه لكنه سبحانه كأنه قدم الآية لأنها مشتملة على حديث ندامتهم على ما صنعوا و تحسرهم مما فات منهم، و قد أظهروا ذلك بقولهم: ﴿لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَ يَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ و الأحرى بالندامة و الحسرة أن يذكرا مع ما تعلقنا به من غير فصل طويل، و لذا لما ذكر اتخاذهم العجل في الآية الأولى وصله بندامتهم و حسرتهم في الآية الثانية.

و لأن ذيل حديث رجوع موسى في الآية التالية مشغول بدعائه لنفسه و أخيه ففصل بينه و بين هذا الذي هو صورة دعاء.

قوله تعالى: ﴿وَ لَمَّا رَجَعَ مُوسى‏َ إِلى‏َ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً إلى آخر الآية

 الأسف‏

 بكسر السين صفة مشبهة من

الأسف‏

و هو شدة الغضب و الحزن و

الخلافة

القيام بالأمر بعد غيره، و

 العجلة

طلب الشي‏ء و تحريه قبل أوانه على ما ذكره الراغب يقال: عجلت أمرا كذا أي طلبته قبل أوانه الذي له بحسب الطبع فمعنى الآية: و لما رجع موسى إلى قومه و هو في حال غضب و أسف لما أخبره الله تعالى لدى الرجوع بأن قومه ضلوا بعبادة العجل بعده فوبخهم و ذمهم بما صنعوا و قال: بئسما خلفتموني من بعدي أ عجلتم أمر ربكم و طلبتموه قبل بلوغ أجله، و هو أمر من بيده خيركم و صلاحكم و لا يجري أمرا إلا على ما يقتضيه حكمته البالغة، و لا يؤثر فيه عجلة غيره و لا طلبه و لا رضاه إلا بما شاء، و الظاهر أن المراد بأمر ربهم أمره الذي لأجله واعد موسى لميقاته، و هو نزول التوراة.

و ربما قيل: إن معنى ﴿أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ: أ عجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر من ربكم: و قيل: المعنى استعجلتم وعد الله و ثوابه على عبادته فلما لم تنالوه عدلتم إلى عبادة غيره؟ و قيل: المعنى أ عجلتم عما أمركم به ربكم و هو انتظار رجوع موسى حافظين لعهده فبنيتم على أن الميقات قد بلغ آخره و لم يرجع إليكم فغيرتم هذا، و ما قدمناه من الوجه أنسب بالسياق.

و بالجملة اشتد غضب موسى (عليه السلام) لما شاهد قومه و وبخهم و ذمهم بقوله: ﴿بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ و هو استفهام إنكاري - ﴿وَ أَلْقَى اَلْأَلْوَاحَ و هي ألواح التوراة ﴿وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ قابضا على شعره ﴿يَجُرُّهُ إِلَيْهِ و قد قال له - فيما

 

 

 حكى الله في سورة طه: ﴿يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي[1]؟.

﴿قَالَ هارون يا ﴿اِبْنَ أُمَّ و إنما خاطبه بذكر أمهما دون أن يقول: يا أخي أو يا ابن أبي للترقيق و تهييج الرحمة ﴿إِنَّ اَلْقَوْمَ اِسْتَضْعَفُونِي وَ كَادُوا يَقْتُلُونَنِي لما خالفتهم في أمر العجل و منعتهم عن عبادته ﴿فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ اَلْأَعْدَاءَ وَ لاَ تَجْعَلْنِي مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ بحسباني كأحدهم في مخالفتك، و كان مما قال له على ما حكاه الله في سورة طه - ﴿إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي[2].

و ظاهر سياق الآية و كذا ما في سورة طه من آيات القصة أن موسى غضب على هارون كما غضب على بني إسرائيل غير أنه غضب عليه حسبانا منه أنه لم يبذل الجهد في مقاومة بني إسرائيل لما زعم أن الصلاح في ذلك مع أنه وصاه عند المفارقة وصية مطلقة بقوله: ﴿وَ أَصْلِحْ وَ لاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ اَلْمُفْسِدِينَ و هذا المقدار من الاختلاف في السليقة و المشية بين نبيين معصومين لا دليل على منعه، و إنما العصمة فيما يرجع إلى حكم الله سبحانه دون ما يرجع إلى السلائق و طرق الحياة على اختلافها.

و كذا ما فعله موسى بأخيه من أخذ رأسه يجره إليه كأنه مقدمة لضربه حسبانا منه إن استقل بالرأي زاعما المصلحة في ذلك و ترك أمر موسى فما وقع منه إنما هو تأديب في أمر إرشادي لا عقاب في أمر مولوي و إن كان الحق في ذلك مع هارون، و لذلك لما قص عليه القصص عذره في ذلك، و دعا لنفسه و لأخيه بقوله ﴿رَبِّ اِغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي إلخ.

و قد وجه قوله: ﴿وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ بوجوه أخر:

الأول: أن موسى إنما فعل ذلك مستعظما لفعلهم مفكرا فيما كان منهم كما يفعل الإنسان ذلك بنفسه عند الوجد و شدة الغضب فيقبض على لحيته و يعض على شفته فأجرى موسى أخاه هارون مجرى نفسه فصنع به ما يصنع الإنسان بنفسه عند الغضب و الأسف.

الثاني: أنه أراد أن يظهر ما اعتراه من الغضب على قومه لإكباره منهم ما صاروا

 

 

 إليه من الكفر و الارتداد فصدر ذلك منه لإعلامهم عظم الحال عنده لينزجروا عن مثله في مستقبل الأحوال.

الثالث: أنه إنما جره إلى نفسه ليناجيه و يستفسر حال القوم منه، و لذلك لما ذكر هارون ما ذكر، قبله منه و دعا له.

الرابع: أنه لما رأى أن بهارون مثل ما به من الغضب و الأسف أخذ برأسه متوجعا له مسكنا لما به من القلق فكره هارون أن يظن الجهال أنه استخفاف و إهانة فأظهر براءة نفسه و دعا له أخوه و جل هذه الوجوه أو كلها لا تلائم سياق الآيات.

و قوله في صدر الآية ﴿وَ لَمَّا رَجَعَ مُوسى‏َ إِلى‏َ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً يدل على أنه كان عالما بأمر ارتداد قومه من قبل، و هو كذلك فإن الله سبحانه - كما حكى في سورة طه - قال له و هو في الميقات: ﴿فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ اَلسَّامِرِيُّ[3].

و إنما ظهر حكم غضبه عند ما شاهد قومه فاشتد عليهم و ألقى الألواح و أخذ برأس أخيه يجره إليه كل ذلك فعله بعد ما رجع إليهم لا حينما أخبره بذلك ربه، و إخبار الله سبحانه أصدق من الحس لأن الحس يصدق و يكذب، و الله سبحانه لا يقول إلا الحق.

و ذلك لأن للعلم حكما و للمشاهدة حكما آخر، و الغضب هيجان القوة الدافعة للدفع أو الانتقام، و لا يتحقق مورد للدفع و الانتقام بمجرد تحقق العلم لكن الحس و المشاهدة تصاحب وجود المغضوب عليه عند العصيان فيتأتى منه الدفع و الانتقام بالقول و الفعل، و لا يؤثر العلم قبل المشاهدة إلا حزنا و غما و نظير ذلك بالمقابلة أنك لو بشرت بقدوم من تحبه و تتوق نفسك إلى لقائه فلك عند تحقق البشرى حال و هو الفرح، و عند لقاء الحبيب حال آخر و حكم جديد، و كذا إذا شاهدت أمرا عجيبا و أنت وحدك كان حكمه التعجب، و إذا شاهدته و معك غيرك تعجبت و ضحكت، و له نظائر أخر.

قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ اِغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي وَ أَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ الآية دعاء منه (عليه السلام) و قد تقدم في الكلام على المغفرة في آخر الجزء السادس من الكتاب أن المغفرة أعم موردا من المعصية.

 

 

 

 قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا اَلْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ الآية. تنكير الغضب و كذا الذلة للإشعار بعظمتهما و قد أبهم الله سبحانه ما سينالهم من غضبه و ذلة الحياة فلم يبين ما هما فمن المحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى ما جرى عليهم بعد ذلك من تحريق العجل المعبود و نسفه في اليم و طرد السامري و قتل جمع منهم، أو أن يكون المراد به ما ضرب الله على قومهم من الذلة و المسكنة و القتل و الإبادة و الإسارة، و يمكن أن يكون المراد بالغضب هو عذاب الآخرة فيجمع لهم بذلك هوان الآخرة و ذلة الدنيا.

و كيف كان فذيل الآية: ﴿وَ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُفْتَرِينَ بظاهره يدل على أن ذلك أعني نيل غضب الرب سبحانه و ذلة الحياة الدنيا سنة جارية إلهية في المفترين على الله و هذا الذي يدل عليه الآية يهدي إليه الأبحاث العقلية أيضا كما مر مرارا.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ عَمِلُوا اَلسَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَ آمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ضمير ﴿مِنْ بَعْدِهَا الأول راجع إلى السيئات، و الثاني إلى التوبة، و معنى الآية ظاهر.

و الآية و إن كانت في نفسها عامة لكنها بالنظر إلى المورد بمنزلة الاستثناء من الذين اتخذوا العجل المذكورين في الآية السابقة فالتوبة إذا تحققت بحقيقة معناها في أية سيئة كانت لم يمنع من قبولها مانع كما تقدم في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللَّهِ الآية: النساء: ١٧.

و هذه الآية و التي قبلها معترضتان في القصة، و وجه الخطاب فيهما إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الدليل على ذلك قوله في الآية الأولى: ﴿وَ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُفْتَرِينَ و في الآية الثانية ﴿إِنَّ رَبَّكَ الآية و ظاهر السياق أن الكلام فيهما جار على حكاية الحال الماضية بدليل قوله: ﴿سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ.

قوله تعالى: ﴿وَ لَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى اَلْغَضَبُ أَخَذَ اَلْأَلْوَاحَ الآية،

 الرهبة

 هي خوف مع تحرز: و الباقي ظاهر.

 

 

بحث روائي

 في الدر المنثور،: أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن أبي واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قبل حنين فمررنا بسدرة فقلت: يا رسول الله اجعل لنا هذه ذات أنواط كما كان للكفار ذات أنواط، و كان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة و يعكفون حولها. فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم):

الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ﴿اِجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ إنكم تركبون سنن الذين قبلكم.

أقول: و رواها أيضا بطرق أخرى عن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جده أن رجلا قال للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ذلك، و فيها: أنها كانت شجرة سدرة عظيمة كان يناط بها السلاح فسميت ذات أنواط و كانت تعبد من دون الله. و في تفسير البرهان،: في قوله تعالى: ﴿وَ جَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ اَلْبَحْرَ الآية: عن محمد بن شهرآشوب : أن رأس الجالوت قال لعلي (عليه السلام): لم تلبثوا بعد نبيكم إلا ثلاثين سنة حتى ضرب بعضكم وجه بعض بالسيف! فقال علي (عليه السلام): و أنتم لم تجف أقدامكم من ماء البحر حتى قلتم: ﴿اِجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ.

 و في تفسير العياشي، عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : إن موسى لما خرج وافدا إلى ربه واعدهم ثلاثين يوما فلما زاد الله على الثلاثين عشرا قال قومه:

أخلفنا موسى فصنعوا ما صنعوا. و في الدر المنثور: أخرج البزاز و ابن أبي حاتم و أبو نعيم في الحلية و البيهقي في الأسماء و الصفات عن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : لما كلم الله موسى يوم الطور كلمه بغير الكلام الذي كلمه يوم ناداه فقال له موسى: يا رب أ هذا كلامك الذي كلمتني به؟ قال: يا موسى إنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان و لي قوة الألسن كلها و أقوى من ذلك.

فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا: يا موسى صف لنا كلام الرحمن فقال:

لا تستطيعونه أ لم تروا إلى أصوات الصواعق الذي يقبل في أحلى حلاوة سمعتموه؟ فذاك

 

 

 قريب منه و ليس به. أقول: أما ذيل الرواية فهو تمثيل للتقريب و ليس به بأس، و أما صدره ففيه خفاء و لعل المراد بقوة عشرة آلاف لسان ما في العشرة آلاف من قوة التفهيم لو تأيد بعضها ببعض فإن ألسن الناس مختلفة في قوة التفهيم فالمراد أن ذلك يعادل من حيث إعطاء التفهيم و الكشف عن المراد عشرة آلاف لسان لو جمع بعضها مع بعض.

و على هذا يكون المراد بالمغايرة في قوله: «كلمه بغير الكلام الذي كلمه يوم ناداه» التفاوت من حيث كيفية التفهيم.

 و في المعاني، بإسناده عن هشام قال: كنت عند الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) إذ دخل عليه معاوية بن وهب و عبد الملك بن أعين فقال له معاوية بن وهب: يا ابن رسول الله ما تقول في الخبر المروي: أن رسول (صلى الله عليه وآله و سلم) رأى ربه؟ على أي صورة رآه؟ و في الخبر الذي رواه أن المؤمنين يرون ربهم في الجنة؟ على أي صورة يرونه؟ فتبسم ثم قال:

يا معاوية ما أقبح بالرجل يأتي عليه سبعون سنة و ثمانون سنة يعيش في ملك الله و يأكل من نعمه ثم لا يعرف الله حق معرفته. ثم قال: يا معاوية إن محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم) لم ير الرب تبارك و تعالى بمشاهدة العيان، و إن الرؤية على وجهين: رؤية القلب و رؤية البصر فمن عنى برؤية القلب فهو مصيب، و من عنى برؤية البصر فقد كذب و كفر بالله و آياته لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): من شبه الله بخلقه فقد كفر.

 و لقد حدثني أبي عن أبيه عن الحسين بن علي (عليه السلام) قال : سئل أمير المؤمنين (عليه السلام) فقيل له: يا أخا رسول الله هل رأيت ربك؟ فقال: لم أعبد ربا لم أره لم تره العيون بمشاهدة العيان و لكن تراه القلوب بحقائق الإيمان.

و إذا كان المؤمن يرى ربه بمشاهدة البصر فإن كل من جاز عليه البصر و الرؤية فهو مخلوق، و لا بد للمخلوق من خالق فقد جعلته إذا محدثا مخلوقا، و من شبهه بخلقه فقد اتخذ مع الله شريكا.

ويلهم أ لم يسمعوا لقول الله تعالى: ﴿لاَ تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصَارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ اَلْأَبْصَارَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ و قوله لموسى: ﴿لَنْ تَرَانِي وَ لَكِنِ اُنْظُرْ إِلَى اَلْجَبَلِ فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى‏َ صَعِقاً و إنما طلع من نوره

 

 

 على الجبل كضوء يخرج من سم الخياط فدكدكت الأرض، و صعقت الجبال، ﴿وَ خَرَّ مُوسى‏َ صَعِقاً أي ميتا ﴿فَلَمَّا أَفَاقَ و رد عليه روحه ﴿قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ من قول من زعم أنك ترى و رجعت إلى معرفتي بك: أن الأبصار لا تدركك ﴿وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ بأنك ترى و لا ترى و أنت بالمنظر الأعلى (الحديث).

 و في التوحيد، بإسناده عن علي (عليه السلام) في حديث : و سأل موسى و جرى على لسانه من حمد الله عز و جل: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ فكانت مسألته تلك أمرا عظيما، و سأل أمرا جسيما فعوتب فقال الله عز و جل: ﴿لَنْ تَرَانِي في الدنيا حتى تموت و تراني في الآخرة، و لكن إن أردت أن تراني فـ ﴿اُنْظُرْ إِلَى اَلْجَبَلِ فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فأبدى الله بعض آياته و تجلى ربنا للجبل فتقطع الجبل فصار رميما ﴿وَ خَرَّ مُوسى‏َ صَعِقاً ثم أحياه الله و بعثه فقال: ﴿سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ يعني أول من آمن بك منهم بأنه لا يراك.

 أقول: الروايتان كما ترى تؤيدان ما تقدم في البيان السابق، و يتحصل منهما:

أولا: أن السؤال إنما كان عن رؤية القلب دون رؤية البصر المستحيل عليه تعالى بأي وجه تصور، و حاشا مقام الكليم (عليه السلام) أن يجهل من ساحة ربه المنزهة ما هو من البداهة على مكان و هو يسمي القوم الذين اختارهم للميقات سفهاء إذ سألوا الرؤية إذ يقول لربه: ﴿أَ تُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ اَلسُّفَهَاءُ مِنَّا: الأعراف: ١٥٥، فكيف يقدم هو نفسه على ما سماه سفهاء؟.

و قد كان النزاع و المشاجرة في الصدر الأول و خاصة في زمان الصادقين إلى زمان الرضا (عليه السلام) في المسألة بالغا أوج شدته ينكرها المعتزلة مطلقا و يثبتها الأشاعرة في الآخرة و هناك طائفة أخرى تثبتها في الدنيا و الآخرة جميعا، و الفريقان جميعا يستدلان بالآية و لم تزل المنازعة قائمة على ساقها لم تنقطع ظاهرا إلا بسيوف آل أيوب التي أبادت المعتزلة و ألحقت طالعهم بغاربهم.

و جملة احتجاج المعتزلة، أنهم كانوا يستدلون بقوله في الآية: ﴿لَنْ تَرَانِي و بسائر ما ينفي الرؤية البصرية من طريق العقل و النقل، و يأولون ما يدل على جوازها من الآيات و الروايات، و جملة احتجاج الأشاعرة أنهم كانوا يستدلون بالتنظير الواقع في

 

 

 الآية بقوله: ﴿وَ لَكِنِ اُنْظُرْ إِلَى اَلْجَبَلِ فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي الآية و بما في غيرها من الآيات و بعض الروايات من جوازها في الآخرة، و يأولون ما عدا ذلك على ما هو شأن الأبحاث الكلامية عندهم و ربما استدل لذلك بأنه لا دليل على وجوب انحصار الرؤية البصرية في الجسمانيات فمن الجائز أن يتعلق بغير الأمور المادية. و بأن الإبصار يتعلق بالجوهر و العرض، و لا جامع بينهما إلا الموجود المطلق فكل موجود يمكن أن يتعلق به الإبصار و إن لم يكن جسما أو جسمانيا.

و قد اتضح بطلان هاتين الحجتين و ما يسانخهما من الحجج و الأقاويل في هذه الأزمنة اتضاحا كاد يلحق بالبديهيات.

و على أي حال لا يهمنا إيراد ما أوردوه من الجانبين من نقض و إبرام فمن أراد الوقوف عليها أمكنه أن يراجع الكتب الكلامية و مطولات تفاسير الفريقين.

و الذي تحصل من سابق بحثنا - أولا - أن الرؤية البصرية سواء كانت على هذه الصفة التي هي عليها اليوم أو تحولت إلى أي صفة أخرى هي معها مادية طبيعية متعلقة بقدر و شكل و لون و ضوء تعملها أداة مادية طبيعية فإنها مستحيلة التعلق بالله سبحانه في الدنيا و الآخرة، و عليه يدل البرهان و ما ورد من الآيات و الروايات في نفي الرؤية.

نعم هناك علم ضروري خاص يتعلق به تعالى غير العلم الضروري الحاصل بالاستدلال تسمى رؤية، و إياه تعني الآيات و الروايات الظاهرة في إثبات الرؤية لما فيها من القرائن الكثيرة الصريحة في ذلك، و موطن هذه المعرفة الآخرة.

و ثانيا أن قوله تعالى: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ الآية أجنبية أصلا عن الرؤية البصرية الحسية إثباتا و نفيا و سؤالا و جوابا، و إنما يدور الكلام فيها مدار الرؤية بالمعنى الآخر الذي هو رؤية القلب بحسب ما اصطلح عليه في الروايات.

 و قد روى الصدوق في العيون،: فيما سأله المأمون عن الرضا (عليه السلام) أنه أجاب عن سؤال الرؤية في الآية، أن موسى إنما سأل ذلك عن لسان قومه لا لنفسه فإنهم لما قالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة ثم أحياهم الله سألوا موسى أن يسأله لنفسه فرد عليهم بالاستحالة فأصروا عليه فقال: ﴿رَبِّ أَرِنِي أي على ما يقترحه على قومي.

 

 

 و الرواية كما أشرنا إليه في أخبار جنة آدم ضعيفة السند على أنها لا توافق الأصول المسلمة في أخبار أئمة أهل البيت (عليه السلام) فإن أخبارهم و خاصة خطب علي و الرضا (عليه السلام) مملوءة من حديث التجلي و الرؤية القلبية فلا موجب له (عليه السلام) أن يلتزم كون الرؤية المذكورة في الآية سؤالا و جوابا هي الرؤية البصرية ثم الجواب بطريق جدلي لا ينطبق كثير انطباق على الآية لكونه خلاف ظاهرها البتة، و خلاف ظاهر حال موسى فإنهم لو اقترحوا عليه ذلك لرد عليهم كما رد عليهم بقوله: ﴿إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ حين قالوا: ﴿يَا مُوسَى «اِجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾.

و ثانيا: يتحصل من الروايتين أن موسى (عليه السلام) ما أجيب إلى الرؤية بالمعنى المذكور في الدنيا، و إنما أجيب إليها في الآخرة، و الظاهر أنه يستفاد ذلك من قوله تعالى:

﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى‏َ صَعِقاً فإن الاستدراك في قوله: ﴿وَ لَكِنِ اُنْظُرْ إِلَى اَلْجَبَلِ فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي إن الذي فرض في الجبل هو بعينه مثل ما فرض في موسى فهو لا يطيق الظهور و الإرادة كما أن ذاك لا يطيقه، و قد وقع التجلي للجبل فدك به و صعق و لو وقع لموسى أيضا لدك به و صعق فالتجلي في نفسه ممكن لكنه بالنسبة إلى المتجلى له يوجب اندكاكه و صعقته، و هذا يشعر أن التجلي لا مانع منه في نفسه مع الصعقة و الموت، و قد استفاضت الروايات من طرق أئمة أهل البيت (عليه السلام) أن الله سبحانه و تعالى يتجلى لأهل الجنة، و إن لهم في كل جمعة زورة كما وقع ذلك في قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلى‏َ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ: القيامة: ٢٣.

و ثالثا تحصل من الروايتين: أن صعقة موسى (عليه السلام) كانت موتا ثم رد الله إليه روحه لا غشية.

و رابعا: أن ما ذكره (عليه السلام) أنه تجلى له من نوره مقدار ما يخرج من سم الخياط من النور من قبيل تمثيل المعنى بالأمور المحسوسة فلا نوره تعالى نور حسي، و لا أنه يتقدر بأمر حسي كسم الخياط، و لذلك مثل ذلك في غير هذه الرواية بوضع طرف الإبهام على أنملة الخنصر كما سيأتي، و الغرض على أي تقدير بيان صغره و حقارته.

و على أي حال فالتجلي إنما هو بما يكفي لدكه و صعقته، و أما كمال نوره تعالى فهو غير متناه لا يحاذيه أي أمر متناه مفروض فلا نسبة بين المتناهي و غير المتناهي.

 

 

 و في الدر المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد و الترمذي و صححه و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن عدي في الكامل و أبو الشيخ و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في كتاب الرؤية من طرق عن أنس بن مالك : أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قرأ هذه الآية:

﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا قال هكذا و أشار بإصبعيه، و وضع طرف إبهامه على أنملة الخنصر و في لفظ: على المفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل و خر موسى صعقا و في لفظ: فساخ الجبل في الأرض فهو يهوي فيها إلى يوم القيامة.

 أقول: و وقع في أحاديث أئمة أهل البيت (عليه السلام) أن الجبل دك فصار رميما، و في بعضها أنه ساخ في البحر فهو يهوي حتى الساعة، و في بعضها: إلى هذه الساعة، و المحصل من تفسير بعضها ببعض أنه صار رميما نزل البحر فلا يرى منه أثر أبدا و ينبغي أن يكون هذا معنى قوله: فساخ الجبل في الأرض أو في البحر فهو يسخ إلى يوم القيامة أو إلى الساعة.

 و فيه، أخرج أبو الشيخ و ابن مردويه من طريق ثابت عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في قوله: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ قال: أظهر مقدار هذا و وضع الإبهام على خنصر الإصبع الصغرى. فقال حميد راوي الحديث يا أبا محمد الراوي عن أنس ما تريد إلى هذا؟ فضرب في صدره و قال: من أنت يا حميد؟ و ما أنت يا حميد؟ يحدثني أنس بن مالك عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و تقول أنت: ما تريد إلى هذا؟ و فيه،: أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول و أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال : تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) هذه الآية: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قال: قال الله عز و جل يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات، و لا يابس إلا تدهده و لا رطب إلا تفرق، و إنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم، و لا تبلى أجسادهم. أقول: و الرواية نظيرة ما تقدم من رواية التوحيد عن علي (عليه السلام) و تقدم توضيح معناها.

 و في تفسير العياشي، عن أبي بصير، عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) قال :

لما سأل موسى ربه تبارك و تعالى، ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَ لَكِنِ اُنْظُرْ إِلَى اَلْجَبَلِ فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي قال: فلما صعد موسى على الجبل فتحت

 

 

 أبواب السماء، و أقبلت الملائكة أفواجا في أيديهم العمد، و في رأسها النور يمرون به فوجا بعد فوج، يقولون: يا ابن عمران اثبت فقد سألت عظيما. قال: فلم يزل موسى واقفا حتى تجلى ربنا جل جلاله فجعل الجبل دكا و خر موسى صعقا فلما أن رد الله عليه روحه أفاق ﴿قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ.

 و فيه، أيضا عن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن موسى بن عمران لما سأل ربه النظر إليه وعد الله أن يقعد في موضع ثم أمر الملائكة تمر عليه موكبا موكبا بالرعد و البرق و الريح و الصواعق فكلما مر به موكب من المواكب ارتعدت فرائصه فيرفع رأسه فيسأل: أيكم ربي؟ فيجاب هو آت و قد سألت عظيما يا ابن عمران.

 أقول: و الرواية موضوعة، و ما تشمل عليه لا يقبل الانطباق على شي‏ء من مسلمات الأصول المتخذة من الكتاب و السنة.

 و في البصائر، بإسناده عن أبي محمد عبد الله بن أبي عبد الله الفارسي و غيره فرفعوه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) : أن الكروبيين قوم من شيعتنا من الخلق الأول جعلهم الله خلف العرش لو قسم نور واحد منهم على أهل الأرض لكفاهم، ثم قال: إن موسى (عليه السلام) لما سأل ربه ما سأل أمر واحدا من الكروبيين تجلى للجبل فجعله دكا.

 أقول: محصل الرواية أن تجليه سبحانه يقبل الوسائط كما أن سائر الأمور المنسوبة إليه تعالى كالتوفي و الإحياء و الرزق و الوحي و غيرها يقبل الوسائط فهو تعالى يتجلى بالوسائط كما يتوفى بملك الموت، و يحيي بصاحب الصور، و يرزق بميكائيل، و يوحي بجبرئيل الروح الأمين، و سيوافيك شرح الرواية في موضع مناسب له إن شاء الله. و للكروبيين ذكر في التوراة.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه و الحاكم و صححه عن أنس : أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قرأ ﴿دَكًّا منونة و لم يمده. و فيه، أخرج ابن مردويه عن أنس أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قرأ ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا مثقلة ممدودة. و فيه، أخرج أبو نعيم في الحلية عن معاوية بن قرة عن أبيه قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): فلما تجلى ربه للجبل طارت لعظمته ستة أجبل فوقعن بالمدينة: أحد و ورقان

 

 

 و رضوى. و وقع بمكة ثور و ثبير و حراء.:

أقول: و رواه أيضا عن ابن أبي حاتم و أبي الشيخ و ابن مردويه عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم). - و فيه، أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال *: لما تجلى الله لموسى تطايرت سبعة أجبال - ففي الحجاز منها خمسة، و في اليمن اثنان: في الحجاز أحد و ثبير و حراء و ثور و ورقان، و في اليمن حصور و صير. أقول: و روي في تقطع الجبل غير ذلك، و هذه الروايات على ما فيها من الاختلاف في عدد الجبال المتطايرة إن كان المراد بها تفسير دك الجبل لم ينطبق على الآية، و إن أريد غير ذلك فهو و إن كان ممكن الوقوع غير أنه لا يكفي لإثباته أمثال هذه الآحاد.

و كذا ما ورد من طرق الشيعة و أهل السنة أن ألواح التوراة كانت من زبرجد، و في بعضها- من طرق أهل السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): إن الألواح التي أنزلت على موسى - كانت من سدر الجنة كان طول اللوح اثني عشر ذراعا، و في بعضها: كتب الله الألواح لموسى و هو يسمع صريف الأقلام في الألواح، و في بعض أخبارنا أن هذه الألواح مدفونة في جبل من جبال اليمن، أو التقمها حجر هناك فهي محفوظة في بطنه إلى غير ذلك من آحاد الأخبار غير المؤيدة بقرائن قطعية. على أن البحث التفسيري لا يتوقف على الغور في البحث عنها.

 و في روح المعاني، قال : و عن علي كرم الله وجهه: أنه قرأ «جؤار» بجيم مضمومة و همزة. قال و هو الصوت الشديد. و في الدر المنثور، في قوله تعالى: ﴿وَ أَلْقَى اَلْأَلْوَاحَ الآية: أخرج أحمد و عبد بن حميد و البزاز و ابن أبي حاتم و ابن حبان و الطبراني و أبو الشيخ و ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): ليرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر أخبره ربه تبارك و تعالى أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح فلما رآهم و عاينهم ألقى الألواح فتكسر منها ما تكسر. و في تفسير العياشي، عن محمد بن أبي حمزة عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال :

إن الله تبارك و تعالى لما أخبر موسى أن قومه اتخذوا عجلا [جسدا] له خوار فلم يقع منه موقع العيان فلما رآهم اشتد غضبه فألقى الألواح من يده، قد قال أبو عبد الله

 

 

(عليه السلام): و للرؤية فضل على الخبر.

 و في الكافي، بإسناده عن سفيان بن عيينة عن السدي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال :

ما أخلص عبد الإيمان بالله أربعين يوما أو قال: ما أجل عبد ذكر الله أربعين يوما إلا زهده الله في الدنيا، و بصره داءها و دواءها، و أثبت الحكمة في قلبه، و أنطق به لسانه.

ثم تلا: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا اَلْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ ذِلَّةٌ فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُفْتَرِينَ فلا ترى صاحب بدعة إلا ذليلا، و مفتريا على الله عز و جل و على رسوله و على أهل بيته إلا ذليلا.

بحث روائي آخر معنى رؤية القلب

نورد فيها بعض ما ورد عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) في معنى رؤية القلب في التوحيد، و الأمالي، بإسناده عن الرضا (عليه السلام) في خطبة له قال : أحد لا بتأويل عدد ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجل لا باستهلال رؤية، باطن لا بمزايلة. أقول: و حديث تجليه تعالى الدائم لخلقه متكرر في كلام علي و الأئمة من ذريته (عليه السلام)، و قد نقلنا شذرات من كلامه (عليه السلام) في مباحث التوحيد في ذيل قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اَللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ: المائدة: ٧٣.

 و في التوحيد، بإسناده عن الصادق (عليه السلام) في كلام له في التوحيد : واحد صمد أزلي صمدي، لا ظل له يمسكه، و هو يمسك الأشياء بأظلتها، عارف بالمجهول، معروف عند كل جاهل، لا هو في خلقه و لا خلقه فيه. أقول: قوله (عليه السلام) «معروف عند كل جاهل» ظاهر في أن له تعالى معرفة عند خلقه لا يطرأ عليها غفلة، و لا يغشاها جهل، و لو كانت هي المعرفة الحاصلة من طريق الاستدلال لزالت بزوال صورته عن الذهن هذا إذا كان المراد من قوله: «معروف عند كل جاهل» أن الإنسان يجهل كل شي‏ء و لا يجهل ربه، و أما لو كان المراد أن الله سبحانه معروف عند كل جاهل به فكون هذه المعرفة غير المعرفة الحاصلة بالاستدلال أظهر.

و قوله (عليه السلام): لا ظل له يمسكه و هو يمسك الأشياء بأظلتها، الأظلة و الظلال

 

 

 اصطلاح منهم (عليه السلام) و المراد بظل الشي‏ء حده، و لذلك كان منفيا عن الله سبحانه ثابتا في غيره، و قد فسره أبو جعفر الباقر (عليه السلام) في بعض‏[4]

أحاديث الذر و الطينة حيث ذكر: أن الله خلق طائفة من خلقه من طينة الجنة، و طائفة أخرى من طينة النار ثم بعثهم في الظلال فقيل: و أي شي‏ء الظلال؟ فقال (عليه السلام): أ لم تر إلى ظلك في الشمس شي‏ء و ليس بشي‏ء؟ فالحدود الوجودية بالنظر إلى وجود الأشياء غيره و ليست غيره، و بها تتعين الأشياء و لولاها لبطلت، و لعل الاصطلاح مأخوذ من آية الظلال.

 و في الإرشاد، و غيره عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له : إن الله أجل من أن يحتجب عن شي‏ء أو يحتجب عنه شي‏ء. و عنه (عليه السلام): ما رأيت شيئا إلا و رأيت الله قبله.

 و عنه: لم أعبد ربا لم أره.

 و في النهج، عنه: لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، و لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان. و في التوحيد، بإسناده عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) قال : سألته عن الله عز و جل هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟ قال: نعم و قد رأوه قبل يوم القيامة. قلت:

متى؟ قال حين قال لهم: ﴿أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلى‏َ ثم سكت ساعة ثم قال: و إن المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة. أ لست تراه في وقتك هذا؟.

قلت: فأحدث بهذا عنك؟ فقال: لا، فإنك إذا حدثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما تقوله ثم قدر أن ذلك تشبيه كفر، و ليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين تعالى الله عما يصفه المشبهون و الملحدون. أقول: و ظاهر من الرواية أن هذه الرؤية ليست هي الاعتقاد و الإيمان القلبي المكتسب بالدليل كما أنها غير الرؤية البصرية الحسية، و إن المانع من تكثير استعمال لفظ الرؤية في مورده تعالى و إذاعة هذا الاستعمال انصراف اللفظ عند الأفهام العامية إلى الرؤية الحسية المنفية عن ساحة قدسه، و إلا فحقيقة الرؤية ثابتة و هي نيل الشي‏ء

 

 

 بالمشاهدة العلمية من غير طريق الاستدلال الفكري بل هناك عدة من الأخبار تنكر أن يكون الله سبحانه معلوما معروفا من طريق الفكر و سيأتي بعضها.

 و في التوحيد، بإسناده عن موسى بن جعفر (عليه السلام) في كلام له في التوحيد : ليس بينه و بين خلقه حجاب غير خلقه فقد احتجب بغير حجاب محجوب، و استتر بغير ستر مستور، لا إله إلا هو الكبير المتعال. أقول: و هذا المعنى مروي عن الرضا (عليه السلام) أيضا على ما في العلل، و جوامع التوحيد،.

و الرواية الشريفة تفسر معنى حصول المعرفة به تعالى معرفة لا تقبل الجهالة، و لا يطرأ عليها زوال و لا تغيير و لا خطأ البتة فهي توضح أن الله سبحانه غير محتجب عن شي‏ء إلا بنفس ذلك الشي‏ء فالالتفات إلى الأشياء هو العائق عن الالتفات إلى مشاهدته تعالى. ثم حكم (عليه السلام) أن هذا الحاجب الساتر غير مانع حقيقة فهو حجاب غير حاجب و ستر غير ساتر.

و ينتج مجموع الكلامين أنه سبحانه مشهود لخلقه معروف لهم غير غائب عنهم غير أن اشتغالهم بأنفسهم و التفاتهم إلى ذواتهم حجبهم عن التنبه على أنهم يشهدونه دائما فالعلم موجود أبدا، و العلم بالعلم مفقود في بعض الأحيان، و قد بنى الصادق (عليه السلام) على هذا الأساس فيما أجاب به بعض من شكى إليه كثرة الشبهات‏- فقال (عليه السلام) له: هل ركبت السفينة فانكسرت و غرقت - و بقيت وحدك على لوحة خشبة منها تلعب بك الأمواج - فانقطعت عن كل سبب ينجيك؟ قال: نعم. قال: فهل تعلق قلبك إذ ذاك بشي‏ء؟ قال: نعم. قال: ذلك الشي‏ء هو الله‏[5]

 و في جوامع التوحيد، عن الرضا (عليه السلام) قال : خلقة الله الخلق حجاب بينه و بينهم. - و في العلل، بإسناده عن الثمالي قال : قلت لعلي بن الحسين (عليه السلام): لأي علة حجب الله عز و جل الخلق عن نفسه؟ قال: لأن الله تبارك و تعالى بناهم بنية على الجهل. أقول: يظهر من رواية التوحيد، السابقة أن بناءهم على الجهل هو خلقهم بحيث يشتغلون بأنفسهم.

 و في المحاسن، بإسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : إن الله عز و جل كان و لا شي‏ء

 

 

 غيره نورا لا ظلام فيه، و صادقا لا كذب فيه، و عالما لا جهل فيه، و حيا لا موت فيه و كذلك هو اليوم، و كذلك لا يزال أبدا (الحديث).

 و في التوحيد، بإسناده عن الرضا (عليه السلام) في حديث : كان يعني رسول (صلى الله عليه وآله و سلم) إذا نظر إلى ربه بقلبه جعله في نور مثل نور الحجب حتى يستبين له ما في الحجب.

و فيه، أيضا بإسناده عن محمد بن الفضيل قال : سألت أبا الحسن (عليه السلام) هل رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ربه عز و جل؟ فقال: نعم بقلبه رآه أ ما سمعت الله عز و جل يقول:

﴿مَا كَذَبَ اَلْفُؤَادُ مَا رَأى‏َ لم يره بالبصر و لكن رآه بالفؤاد. و فيه، بإسناده عن عبد الأعلى مولى آل سام عن الصادق (عليه السلام) في حديث : و من زعم أنه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك لأن الحجاب و المثال و الصورة غيره و إنما هو واحد موحد فكيف يوحد من زعم أنه عرفه بغيره؟ إنما عرف الله من عرفه بالله فمن لم يعرفه به فليس يعرفه، إنما يعرف غيره، ليس بين الخالق و المخلوق شي‏ء، و الله خالق الأشياء لا من شي‏ء.

تسمى بأسمائه فهو غير أسمائه، و الأسماء غيره، و الموصوف غير الواصف، فمن زعم أنه يؤمن بما لا يعرف فهو ضال عن المعرفة، لا يدرك مخلوق شيئا إلا بالله، و لا تدرك معرفة الله إلا بالله، و الله خلو من خلقه و خلقه خلو منه. أقول: الرواية تثبت معرفة الله لكل مخلوق يدرك شيئا ما من الأشياء، و تثبت أن هذه المعرفة غير المعرفة الفكرية التي تحصل من طريق الأدلة و الآيات و أن القصر على المعرفة الاستدلالية لا يخلو عن جهل بالله، و شرك خفي.

بيان ذلك بما تعطيه الرواية من المقدمات أن المعرفة المتعلقة بشي‏ء إنما هي إدراكه فما وقع في ظرف الإدراك فهو الذي تتعلق به المعرفة حقيقة لا غيره، فلو فرضنا أنا عرفنا شيئا من الأشياء بشي‏ء آخر هو واسطة في معرفته فالذي تعلق به إدراكنا هو الوسط دون الظرف الذي هو ذو وسط، فلو كانت المعرفة بالوسط مع ذلك معرفة بذي الوسط كان لازمه أن يكون ذلك الوسط بوجه هو ذا الوسط حتى تكون المعرفة بأحدهما هي بعينها معرفة بالآخر فهو هو بوجه و ليس هو بوجه فيكون واسطة رابطة بين الشيئين فزيد الخارجي الذي نتصوره في ذهننا هو زيد بعينه و لو كان غيره لم نكن

 

 

 تصورناه بل تصورنا غيره، و عاد عند ذلك علومنا جهالات.

و إذ كان لا واسطة بين الخالق و المخلوق ليكون رابطة بينهما فلا تمكن معرفته سبحانه بشي‏ء آخر غير نفسه فلو عرف بشي‏ء كان ذلك الشي‏ء هو نفسه بعينه، و إن لم يعرف بنفسه لم يعرف بشي‏ء آخر أبدا فدعوى أنه تعالى معروف بشي‏ء من الأشياء كتصور أو تصديق أو آية خارجية شرك خفي لأنه إثبات واسطة بين الخالق و المخلوق يكون غيرهما جميعا و ما هذا وصفه غير محتاج الوجود إلى الخالق تعالى فهو مثله و شريكه فالله سبحانه لو عرف عرف بذاته، و لو لم يعرف بذاته لم يعرف بشي‏ء آخر البتة لكنه سبحانه معروف، فهو معروف بذاته أي إن ذاته المتعالية و المعروفية شي‏ء واحد بعينه فمن المستحيل أن يكون مجهولا لأن ثبوت ذاته عين ثبوت معروفيته.

و أما بيان كونه تعالى معروفا فلأن شيئا من الأشياء المخلوقة لا يستقل عنه تعالى بذاته بوجه من الوجوه لا في خارج و لا في ذهن، فوجوده كالنسبة و الربط الذي لا يمكنه الاستقلال عن طرفه بوجه من الوجوه، فإذا تعلق علم مخلوق بشي‏ء من الأشياء أي وقع المعلوم في ظرف علمه لم يتحقق هناك إلا و معه خالقا متكئا بوجوده عليه و إلا لاستقل دونه فلا يجد عالم معلومه إلا و قد وجد الله سبحانه قبله، و العالم نفسه حيث كان مخلوقا لم يستقل بالعلم إلا بالله سبحانه الذي قوم وجود هذا العالم، و لو استقل به دونه كان مستقلا دونه غير مخلوق له، فالله سبحانه يحتاج إليه العالم في كونه عالما كما يفتقر إليه وجود المعلوم في كونه معلوما أي إن العلم يتعلق باستقلال ذات المعلوم أي إن الله سبحانه هو المعلوم أولا و يعلم به المعلوم ثانيا كما أنه تعالى هو العالم أولا و به يكون الشي‏ء عالما ثانيا فافهم ذلك و تدبر في قوله تعالى: ﴿وَ لاَ يُحِيطُونَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ: البقرة : ٢٥٥، و في قوله (عليه السلام): «ما رأيت شيئا إلا و رأيت الله قبله». فقد تبين أنه تعالى معروف لأن ثبوت علم ما بمعلوم ما في الخارج لا يتم إلا بكونه تعالى هو المعروف أولا، و ثبوت ذلك ضروري.

فقوله (عليه السلام): «من زعم أنه يعرف الله بحجاب أو صورة أو مثال فهو مشرك كان المراد بالحجاب هو الشي‏ء الذي يفرض فاصلا بينه تعالى و بين العارف، و بالصورة الصورة الذهنية المقارنة للأوصاف المحسوسة من الأضواء و الألوان و الأقدار و بالمثال ما

 

 

 هو من المعاني العقلية غير المحسوسة أو المراد بالصورة الصورة المحسوسة، و بالمثال الصورة المتخيلة، أو المراد بالصورة التصور و بالمثال التصديق، و كيف كان فالعلوم الفكرية داخلة في ذلك، و الأخبار في نفي كون العلم الفكري إحاطة علمية بالله كثيرة جدا.

و كون هذه المعرفة شركا لإثباتها أمرا ليس بخالق و لا مخلوق كما عرفت آنفا، و لزوم كونه مشاركا معه بوجه مباينا له بوجه، و لذلك عقب (عليه السلام) الكلام بقوله:

«و إنما هو واحد موحد» أي إنه لا يشاركه في ذاته شي‏ء بوجه من الوجوه حتى يوجب ذلك تركبه و انتفاء وحدته كما أن الصورة العلمية تشارك المعلوم الخارجي في معناه و ماهيته و تفارقه في وجوده فيصير المعلوم بذلك مركبا من ماهية و وجود.

«فكيف يوحد من زعم أنه يعرفه بغيره» مع إثباته شريكا له في وجوده و تركبا له في ذاته «إنما عرف الله من عرفه بالله» أي بنفس ذاته من غير واسطة «و من لم يعرفه به فليس يعرفه إنما يعرف غيره» كل ذلك «لأنه ليس بين الخالق و المخلوق شي‏ء» أي أمر يربطهما هو غيرهما «و الله خالق الأشياء لا من شي‏ء» يكون رابطا بينهما موصلا للخالق إلى المخلوق و بالعكس كما أن الإنسان الصانع يربطه إلى مصنوعه مثاله الذي في ذهن الصانع، و المادة الخارجية التي بيده.

و قوله (عليه السلام): «تسمى بأسمائه فهو غير أسمائه» في موضع دفع اعتراض مقدر، و هو أن يقال: إنا إنما نعرفه سبحانه بأسمائه الحاكية لجماله و جلاله، فدفعه بأن نفس التسمي بالأسماء يقضي بأن الأسماء غيره إذ لو لم تكن غيره لكان معرفته بأسمائه معرفة له بنفسه لا بشي‏ء آخر ثم أكده بأن الأسماء واصفة، و الذات موصوفة «و الموصوف غير الواصف».

فإن رجع المعترض و قال: إنا نؤمن بما نجهله، و لا يمكننا معرفته بنفسه إلا بما تسمى معرفة به بنوع من المجاز كالمعرفة بالآيات و «زعم أنه يؤمن بما لا يعرف فهو ضال عن المعرفة لا يدري ما ذا يقول فإنه يدرك شيئا لا محالة لا مجال له لإنكار ذلك «و لا يدرك مخلوق شيئا إلا بالله» فهو يعرف الله و إلا لم يمكنه أن يعرف به، و لا تنال «و لا تدرك معرفة الله إلا بالله» و لا رابطة مشتركة بين الخالق و المخلوق «و الله خلو من خلقه و خلقه خلو منه».

 

 

 فقد تحصل من الرواية أن معرفة الله سبحانه ضروري لكل مدرك ذي شعور من خلقه إلا أن الكثير منهم ضال عن المعرفة مختلط عليه، و العارف بالله يعرفه به، و يعلم أنه يعرفه و يعرف كل شي‏ء به، و في بعض هذه المعاني روايات أخر.

و اعلم أن الروايات من طرق أئمة أهل البيت (عليه السلام) كثيرة جدا لا حاجة إلى إيرادها على كثرتها.

و اعلم أنا لم نورد بحثا فلسفيا في مسألة الرؤية لأن الذي تتضمنه غالب ما أوردناه من الروايات من البيان بيان فلسفي فلم تمس الحاجة إلى عقد بحث على حدة.

[سورة الأعراف (٧): الآیات ١٥٥ الی ١٦٠ ]

﴿وَ اِخْتَارَ مُوسى‏ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيَّايَ أَ تُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ اَلسُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَ اِرْحَمْنَا وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْغَافِرِينَ ١٥٥ وَ اُكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا حَسَنَةً وَ فِي اَلْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ١٥٦ اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْرَاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّبَاتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبَائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ اَلْأَغْلاَلَ اَلَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اِتَّبَعُوا اَلنُّورَ اَلَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ ١٥٧ قُلْ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنِّي

 

 

رَسُولُ اَللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ اَلنَّبِيِّ اَلْأُمِّيِّ اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ كَلِمَاتِهِ وَ اِتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ١٥٨ وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى‏ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ ١٥٩ وَ قَطَّعْنَاهُمُ اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَ أَوْحَيْنَا إِلى‏ مُوسى‏ إِذِ اِسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اِضْرِبْ بِعَصَاكَ اَلْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اِثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَ ظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ اَلْغَمَامَ وَ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ اَلْمَنَّ وَ اَلسَّلْوى‏ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَ مَا ظَلَمُونَا وَ لَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ١٦٠

بيان

فصول أخرى من قصص بني إسرائيل يذكر فيها آيات كثيرة أنزلها الله إليهم و حباهم بها يهديهم بها إلى سبيل الحق، و يدلهم على منهج التقوى فكفروا بها و ظلموا أنفسهم.

قوله تعالى: ﴿وَ اِخْتَارَ مُوسى‏ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا أي اختار من قومه فالقوم منصوب بنزع الخافض.

و الآية تدل على أن الله سبحانه عين لهم ميقاتا فحضره منهم سبعون رجلا اختارهم موسى من القوم، و لا يكون ذلك إلا لأمر ما عظيم لكن الله سبحانه لم يبين هاهنا ما هو الغاية المقصودة من حضورهم غير أنه ذكر أنهم أخذتهم الرجفة و لم تأخذهم إلا لظلم عظيم ارتكبوه حتى أدى بهم إلى الهلاك بدليل قول موسى (عليه السلام): ﴿رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيَّايَ أَ تُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ اَلسُّفَهَاءُ مِنَّا فيظهر من هنا أن الرجفة أهلكتهم.

و يتأيد بذلك أن هذه القصة هي التي يشير سبحانه إليها بقوله: ﴿وَ إِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى‏ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اَللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ اَلصَّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ

 

 

 مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ: البقرة: ٥٦، و بقوله: ﴿يَسْئَلُكَ أَهْلُ اَلْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ اَلسَّمَاءِ» فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى‏ أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اَللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اِتَّخَذُوا اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ اَلْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ : النساء: ١٥٣.

و من ذلك يظهر أن المراد بالرجفة التي أخذتهم في الميقات رجفة الصاعقة لا رجفة في أبدانهم كما احتمله بعض المفسرين و لا ضير في ذلك فقد تقدم نظير التعبير في قصة قوم صالح حيث قال تعالى: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ: الأعراف: ٧٨، و قال فيهم: ﴿فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ اَلْعَذَابِ اَلْهُونِ: حم السجدة: ١٧.

و في آية النساء المنقولة آنفا إشعار بأن سؤالهم الرؤية كان مربوطا بنزول الكتاب و أن اتخاذ العجل كان بعد ذلك فكأنهم حضروا الميقات لنزول التوراة، و أنهم إنما سألوا الرؤية ليكونوا على يقين من كونها كتابا سماويا نازلا من عند الله، و يؤيد ذلك أن الظاهر أن هؤلاء المختارين كانوا مؤمنين بأصل دعوة موسى، و إنما أرادوا بقولهم: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اَللَّهَ جَهْرَةً تعليق إيمانهم به من جهة نزول التوراة عليه على الرؤية.

و بهذا كله يتأيد أن هذه القصة جزء من قصة الميقات و نزول التوراة، و أن موسى (عليه السلام) لما أراد الحضور لميقات ربه و نزول التوراة اختار هؤلاء السبعين فذهبوا معه إلى الطور و لم يقنعوا بتكليم الله كليمه، و سألوا الرؤية فأخذتهم الصاعقة فماتوا ثم أحياهم الله بدعوة موسى، ثم كلم الله موسى و سأل الرؤية و كان ما كان، و مما كان اتخاذ بني إسرائيل العجل بعد غيبتهم و ذهابهم لميقات الله، و قد وقع هذا المعنى في بعض الأخبار المأثورة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) كما سيجي‏ء إن شاء الله.

و على أي حال العناية في هذه القصة ببيان ظلمهم و نزول العذاب عليهم و دعاء موسى لهم لا بيان كون هذه القصة جزءا من القصة السابقة لو كان جزءا، و لا مغايرتها لها لو كانت مغايرة فلا دلالة في اللفظ تنبه على شي‏ء من ذلك.

و ما قيل: إن ظاهر الحال أن تكون هذه القصة مغايرة للمتقدمة إذ لا يليق بالفصاحة ذكر بعض القصة ثم النقل إلى أخرى ثم الرجوع إلى الأولى فإنه اضطراب يصان عند كلامه. على أنه لو كانت الرجفة بسبب سؤال الرؤية لقيل: أ تهلكنا بما قال ـ

 

 

السفهاء منا لا بما فعل، و لم يذكر هاهنا أنهم قالوا شيئا، و ليس من المعلوم أن يكون قولهم ﴿أَرِنَا اَللَّهَ جَهْرَةً صدر منهم هاهنا بل الحق أنها قصص ثلاث: قصة سؤالهم الرؤية و نزول الصاعقة، و قصة ميقات موسى و صعقته، و قصة ميقات السبعين و أخذ الرجفة، و سنوردها في البحث الروائي التالي إن شاء الله.

و لذلك ذكر بعضهم أن هذا الميقات غير الميقات الأول، و ذلك أنهم لما عبدوا العجل أمر الله موسى أن يأتي في أناس منهم إلى الطور فيعتذروا من عبادة العجل فاختار منهم سبعين فأتوا الطور فقالوا ما قالوا فأخذتهم رجفة في أبدانهم كادت تهلكهم ثم انكشفت عنهم بدعاء موسى.

و ذكر بعض آخر أن هارون لما مات اتهم بنو إسرائيل موسى في أمره، و قالوا له: أنت حسدته فينا فقتلته، و أصروا على ذلك فاختار منهم سبعين و فيهم ابن هارون فأتوا قبره فكلمه موسى فبرأه هارون من قتله فقالوا: ما نقضي يا موسى ادع لنا ربك يجعلنا أنبياء فأخذتهم الرجفة فصعقوا.

و ذكر آخرون أن بني إسرائيل سألوا موسى الرؤية فاختار منهم السبعين فجاءوا إلى الطور فقالوا ما قالوا و أخذتهم الرجفة فهلكوا ثم أحياهم الله بدعاء موسى إلا أنها قصة مستقلة ليست بجزء من قصة موسى.

و أنت خبير بأن شيئا من هذه الأقوال و بالخصوص القولان الأولان لا دليل عليه من لفظ القرآن، و لا يؤيده أثر معتبر، و تقطيع القصة الواحدة إلى قصص متعددة، و الانتقال من حديث إلى آخر لتعلق عناية بذلك غير عزيز في القرآن الكريم، و ليس القرآن كتاب قصة حتى يعاب بالانتقال عن قصة قبل تمامها، و إنما هو كتاب هداية و دلالة و حكمة يأخذ من القصص ما يهمه.

و أما قوله: ﴿بِمَا فَعَلَ اَلسُّفَهَاءُ و قد كان الصادر منهم قولا لا فعلا فالوجه في ذلك أن المؤاخذة إنما هو على المعصية، و المعصية تعد عملا و فعلا و إن كانت من قبيل الأقوال كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ: التحريم: ٧، فإنه شامل لقول كلمة الكفر و الكذب و الافتراء و نحو ذلك بلا ريب، و الظاهر أنهم عذبوا بما كان يستلزمه قولهم من سوء الأدب و العناد و الاستهانة بمقام ربهم.

 

 

 على أن ظاهر تلك الأقوال جميعا أنهم إنما عذبوا بالرجفة قبال ما قالوه دون ما فعلوه فالإشكال على تقدير وروده مشترك بين جميع الأقوال فالأقرب كون القصة جزءا من سابقتها كما تقدم.

قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيَّايَ  إلى قوله ﴿مَنْ تَشَاءُ﴾ يريد (عليه السلام) بذلك أن يسأل ربه أن يحييهم خوفا من أن يتهمه بنو إسرائيل فيخرجوا به عن الدين، و يبطل بذلك دعوته من أصلها فهذا هو الذي يبتغيه غير أن المقام و الحال يمنعانه من ذلك فها هو (عليه السلام) واقع أمام معصية موبقة من قومه صرعتهم و غضب إلهي شديد أحاط بهم حتى أهلكهم.

و لذلك أخذ يمهد الكلام رويدا و يسترحم ربه بجمل من الثناء حتى يهيج الرحمة على الغضب، و يثير الحنان و الرأفة الإلهية ثم يتخلص إلى مسألته و ذكر حاجته في جو خال من موانع الإجابة.

﴿قَالَ مبتدئا باسم الربوبية المهيجة للرحمة ﴿رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ فالأمر إلى مشيتك، و لو أهلكتهم من قبل ﴿وَ إِيَّايَ لم يتجه من قومي إلي تهمة في هلاكهم، ثم ذكر أنه ليس من شأن رحمته و سنة ربوبيته أن يؤاخذ قوما بفعل سفهائهم فقال في صورة الاستفهام تأدبا: ﴿أَ تُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ اَلسُّفَهَاءُ مِنَّا؟ ثم أكد القول بقوله:

﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ و امتحانك ﴿تُضِلُّ بِهَا أي بالفتنة ﴿مَنْ تَشَاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أي إن هذا المورد أحد موارد امتحانك و ابتلائك العام الذي تبتلي به عبادك و تجريه عليهم ليضل من ضل و يهتدي من اهتدى، و ليس من سنتك أن تهلك كل من افتتن بفتنتك فانحرف عن سوي صراطك.

و بالجملة أنت الذي سبقت رحمتك غضبك ليس من دأبك أن تستعجل المسيئين من عبادك بالعقوبة أو تعاقبهم بما فعل سفهاؤهم، و أنت الذي أرسلتني إلى قومي و وعدتني أن تنصرني في نجاح دعوتي، و هلاك هؤلاء المصعوقين يجلب علي التهمة من قومي.

قوله تعالى: ﴿أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَ اِرْحَمْنَا وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْغَافِرِينَ شروع منه (عليه السلام) في الدعاء بعد ما قدمه من الثناء، و بدأه بقوله: ﴿أَنْتَ وَلِيُّنَا و ختمه بقوله:

﴿وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْغَافِرِينَ ليقع ما يسأله بين صفتي ولاية الله الخاصة به، و مغفرته التي

 

 

 هي خير مغفرة ثم سأل حاجته بقوله: ﴿فَاغْفِرْ لَنَا وَ اِرْحَمْنَا لأنه خير حاجة يرتضي الله من عباده أن يسألوها عنه، و لم يصرح بخصوص حاجته التي بعثته إلى الدعاء، و هي إحياء السبعين الذين أهلكهم الله تذللا و استحياء.

و حاجته هذه مندرجة في قوله: ﴿فَاغْفِرْ لَنَا وَ اِرْحَمْنَا لا محالة فإن الله سبحانه يذكر في آية سورة البقرة أنه بعثهم بعد موتهم، و لم يكن ليحييهم بعد ما أهلكهم إلا بشفاعة موسى (عليه السلام) و لم يذكر من دعائه المرتبط بحالهم إلا هذا الدعاء فهو إنما سأله ذلك تلويحا بقوله ﴿فَاغْفِرْ لَنَا إلخ كما تقدم لا تصريحا.

قوله تعالى: ﴿وَ اُكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا حَسَنَةً وَ فِي اَلْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ أي رجعنا إليك من هاد يهود إذا رجع، و هو أعني قوله: ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ تعليل لهذا الفصل من الدعاء سأل فيه أن يكتب الله أي يقضي لهم بحسنة في الدنيا و حسنة في الآخرة و المراد بالحسنة لا محالة الحياة و العيشة الحسنة فإن الرجوع إلى الله أي سلوك طريقته و التزام سبيل فطرته يهدي الإنسان إلى حياة طيبة و عيشة حسنة في الدنيا و الآخرة جميعا، و هذا هو الوجه فيما ذكرنا أن قوله: ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ تعليل لهذا الفصل من دعائه فإن الحياة الطيبة من آثار الرجوع إلى الله، و هي شي‏ء من شأنه أن يرزقوه لو رزقوا - في مستقبل أمرهم، و هو المناسب للكتابة و القضاء، و أما الفصل الأول من الدعاء أعني قوله: ﴿فَاغْفِرْ لَنَا وَ اِرْحَمْنَا إلخ فتكفي في تعليله الجمل السابقة عليه، و ما احتف به من قوله: ﴿أَنْتَ وَلِيُّنَا و قوله: ﴿وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْغَافِرِينَ و لا يتعلق بقوله: ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ فافهم ذلك.

قوله تعالى: ﴿قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ هذا جواب منه سبحانه لموسى، و فيه محاذاة لما قدمه موسى قبل مسألته من قوله: ﴿رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيَّايَ، و قد قيد الله سبحانه إصابة عذابه بقوله: ﴿مَنْ أَشَاءُ دون سعة رحمته لأن العذاب إنما ينشأ من اقتضاء من قبل المعذبين لا من قبله سبحانه، قال تعالى: ﴿مَا يَفْعَلُ اَللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ: النساء: ١٤٧ و قال:

 

 

﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ: إبراهيم: ٧ فلا يعذب الله سبحانه باقتضاء من ربوبيته و لو كان كذلك لعذب كل أحد بل إنما يعذب بعض من تعلقت به مشيته فلا تتعلق مشيته إلا بعذاب من كفروا نعمه فالعذاب إنما هو باقتضاء من قبل المعذبين لكفرهم لا من قبله.

على أن كلامه سبحانه يعطي أن العذاب إنما حقيقته فقدان الرحمة، و النقمة عدم بذل النعمة، و لا يتحقق ذلك إلا لعدم استعداد المعذب بواسطة الكفران و الذنب لإفاضة النعمة عليه و شمول الرحمة له، فسبب العذاب في الحقيقة عدم وجود سبب الرحمة.

و أما سعة الرحمة و إفاضة النعمة فمن المعلوم أنه من مقتضيات الألوهية و لوازم صفة الربوبية فما من موجود مخلوق إلا و وجوده نعمة لنفسه و لكثير ممن دونه لارتباط أجزاء الخلقة، و كل ما عنده من خير أو شر نعمة إما لنفسه و لغيره كالقوة و الثروة و غيرهما التي يستفيد منها الإنسان و غيره، و إما لغيره إذا كان نقمة بالنسبة إليه كالعاهات و الآفات و البلايا يستضر بها شي‏ء و ينتفع أشياء و على هذا فالرحمة الإلهية واسعة كل شي‏ء فعلا لا شأنا، و لا يختص بمؤمن و لا كافر و لا ذي شعور و لا غيره و لا دنيا و لا آخرة، و المشيئة لازمة لها.

نعم تحقق العذاب و النقمة في بعض الموارد و هو معنى قياسي - يوجب أن يتحقق هناك رحمة تقابلها و تقاس إليها فإن حرمان البعض من النعمة التي أنعم الله بها على بعض آخر إذا كان عذابا كان ما يجده البعض الآخر رحمة تقابل هذا العذاب، و كذا نزول ما يتألم به و يؤذى على بعض كالعقوبات الدنيوية و الأخروية إذا كان عذابا كان الأمن و السلامة التي يجدها البعض الآخر رحمة بالنسبة إليه و تقابله، و إن كانت الرحمة المطلقة بالمعنى الذي تقدم بيانه يشملهما جميعا.

فهناك رحمة إلهية عامة يتنعم بها المؤمن و الكافر و البر و الفاجر و ذو الشعور و غير ذي الشعور فيوجدون بها و يرزقون بها في أول وجودهم ثم في مسيرة الوجود ما داموا سالكين سبيل البقاء، و رحمة إلهية خاصة و هي العطية الهنيئة التي يجود بها الله سبحانه في مقابل الإيمان و العبودية، و تختص لا محالة بالمؤمنين الصالحين من عباده من حياة طيبة نورانية في الدنيا، و جنة و رضوان في الآخرة و لا نصيب فيها للكافرين و المجرمين،

 

 

 و يقابل الرحمة الخاصة عذاب و هو اللاملائم الذي يصيب الكافرين و المجرمين من جهة كفرهم و جرمهم في الدنيا كعذاب الاستئصال و المعيشة الضنك و في الآخرة من النار و آلامها، و لا يقابل الرحمة العامة شي‏ء من العذاب إذ كل ما يصدق عليه اسم شي‏ء فهو من مصاديق الرحمة العامة لنفسه أو لغيره، و كونه رحمة هي المقصودة في الخلقة، و ليس وراء الشي‏ء شي‏ء.

إذا تحقق هذا تبين أن قوله تعالى: ﴿عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ بيان لخصوص العذاب و عموم الرحمة، و إنما قابل بين العذاب و الرحمة العامة مع عدم تقابلهما لأن ذكر الرحمة العامة توطئة و تمهيد لما سيذكره من صيرورتها رحمة خاصة في حق المتقين من المؤمنين.

و قد اتضح بما تقدم أن سعة الرحمة ليست سعة شأنية و أن قوله: ﴿وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ليس مقيدا بالمشيئة المقدرة بل من لوازم سعة الرحمة الفعلية كما تقدم، و ذلك لأن الظاهر من الآية أن المراد بالرحمة الرحمة العامة و هي تسع كل شي‏ء بالفعل و قد شاء الله ذلك فلزمتها فلا محل لتقدير «إن شئت» خلافا لظاهر كلام جمع من المفسرين.

قوله تعالى: ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ تفريع على قوله: ﴿عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَ رَحْمَتِي الآية أي لازم وجوب إصابة العذاب بعض الناس و سعة الرحمة لكل شي‏ء أن أوجب الرحمة على البعض الباقي، و هم الذين يتقون و يؤتون الزكاة الآية.

و قد ذكر سبحانه الذين تنالهم الرحمة بأوصاف عامة و هي التقوى و إيتاء الزكاة و الإيمان بآيات الله من غير أن يقيدهم بما يخص قومه كقولنا: للذين يتقون منكم و نحو ذلك لأن ذلك مقتضى عموم البيان في قوله: ﴿عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ الآية و البيان العام ينتج نتيجة عامة.

و إذا قوبلت مسألة موسى بالآية كانت الآية بمنزلة المقيدة لها فإنه (عليه السلام) سأل الحسنة و الرحمة لقومه ثم عللها بقوله: ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ فكان معنى ذلك مسألة الرحمة لكل من هاد و رجع منهم بأن يكتب الله حسنة الدنيا و الآخرة لمجرد هودهم و عودهم

 

 

 إليه فكان فيما أجابه الله به أنه سيكتب رحمته للذين آمنوا و اتقوا فكأنه قال: اكتب رحمتك لمن هاد إليك منا، فأجابه الله أن سأكتب رحمتي لمن هاد و اتقى و آمن بآياتي فكان في ذلك تقييد لمسألته.

و لا ضير في ذلك فإنه سبحانه هو الهادي لأنبيائه و رسله المعلم لهم يعلم كليمه أن يقيد مسألته بالتقوى و هو الورع عن محارمه و بالإيمان بآياته و هو التسليم لأنبيائه و للأحكام النازلة إليهم، و لا يطلق الهود و هو الرجوع إلى الله بالإيمان به، فهذا تصرف في دعاء موسى بتقييده كما تصرف تعالى في دعاء إبراهيم بالتقييد في قوله:

﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي اَلظَّالِمِينَ: البقرة:

 ١٢٤، و بالتعميم و الإطلاق في قوله فيما يحكي من دعائه لأهل مكة: ﴿وَ اُرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ اَلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ قَالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى‏َ عَذَابِ اَلنَّارِ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ: البقرة: ١٢٦، فقد تبين أولا أن الآية تتضمن استجابته تعالى لدعاء موسى: ﴿وَ اُكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا حَسَنَةً وَ فِي اَلْآخِرَةِ بتقييد ما له فمن العجيب ما ذكره بعضهم: أن الآية بسياقها تدل على أن الله سبحانه رد دعوة موسى و لم يستجبها، و كذا قول بعضهم: إن موسى (عليه السلام) دعا لقومه فاستجابه الله في حق أمة محمد ص بناء على بيانية قوله: ﴿اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ الآية لقوله: ﴿لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الآية و سيجي‏ء.

و ثانيا: أنه تعالى استجاب ما اشتمل عليه الفصل الأول من دعائه فإنه تعالى لم يرده، و حاشا أن يحكي الله في كلامه دعاء لاغيا غير مستجاب، و قوله: ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ الآية فإنه يحاذي ما سأله (عليه السلام) من الحسنة المستمرة الباقية في الدنيا و الآخرة لقومه، و أما طلب المغفرة لذنب دفعي صدر عنهم بقولهم: ﴿أَرِنَا اَللَّهَ جَهْرَةً فلا يحاذيه قوله: ﴿فَسَأَكْتُبُهَا الآية بوجه، فسكوته تعالى عن رد دعوته دليل إجابتها كما في سائر الموارد التي تشابهه في القرآن.

و يلوح إلى استجابة دعوته لهم بالمغفرة قوله في القصة في موضع آخر: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ: البقرة: ٥٦ فمن البعيد المستبعد أن يحييهم الله بعد إهلاكهم و لم يغفر لهم ذنبهم الذي أهلكوا به.

 

 

و على أي حال معنى الآية: ﴿فَسَأَكْتُبُهَا أي سأكتب رحمتي و أقضيها و أوجبها استعيرت الكتابة للإيجاب لأن الكتابة أثبت و أحكم ﴿لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ و يجتنبون المعاصي و ترك الواجبات ﴿وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ و هي الحق المالي أو مطلق الإنفاق في سبيل الله الذي ينمو به المال، و يصلح به مفاسد الاجتماع، و يتم به نواقصه، و ربما قيل: إن المراد بها زكاة النفس و طهارتها، و إيتاء الزكاة إصلاح أخلاق النفس. و ليس بشي‏ء.

﴿وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ أي يسلمون لما جاءتهم من عند الله من الآيات و العلامات سواء كانت آيات معجزة كمعجزات موسى و عيسى و محمد صلى الله عليه و آله و عليهم، أو أحكاما سماوية كشرائع موسى و أوامره و شرائع غيره من الأنبياء، أو الأنبياء أنفسهم أو علامات صدق الأنبياء كعلائم محمد ص التي ذكرها الله تعالى لهم في كتاب موسى و عيسى (عليه السلام) فكل ذلك آيات له تعالى يجب عليهم و على غيرهم أن يؤمنوا بها و يسلموا لها، و لا يكذبوا بها.

و في الآية التفات من سياق التكلم مع الغير إلى الغيبة فإنه قال أولا: ﴿وَ اِخْتَارَ مُوسى‏َ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا. ثم قال: ﴿قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ الآية و كان النكتة فيه إظهار ما له سبحانه من العناية الخاصة باستجابة دعاء الداعين من عباده فيقبل عليهم هو تعالى من غير أن يشاركه فيه غيره و لو بالتوسط فإن التكلم بلفظ المتكلم مع الغير لإظهار العظمة لمكان أن العظماء يتكلمون عنهم و عن أتباعهم فإذا أريد إظهار عناية خاصة بالمخاطب أو بالخطاب تكلم بلفظ المتكلم وحده.

و على هذا جرى كلامه تعالى فاختار سياق المتكلم وحده المناسب لمعنى المناجاة و المسارة فيما حكى من أدعية أنبيائه و أوليائه و استجابته لهم في كلامه كأدعية نوح و إبراهيم و دعاء موسى ليلة الطور، و أدعية سائر الصالحين و استجابته لهم، و لم يعدل عن سياق المتكلم وحده إلا لنكتة زائدة.

و أما قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ و ما فيه من العدول من التكلم وحده السياق السابق إلى التكلم مع الغير فالظاهر أن النكتة فيه إيجاد الاتصال بين هذه الآية و الآية التالية التي هي نوع من البيان لهذه الجملة أعني قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ فإن الآية التالية كما سيجي‏ء بمنزلة المعترضة من النتيجة المأخوذة في ضمن

 

 

 الكلام الجاري، و سياقها سياق خارج عن سياق هذه القطعة المتعرضة للمشافهة و المناجاة بين موسى و بينه تعالى راجع إلى السياق الأصلي السابق الذي هو سياق المتكلم مع الغير.

فبتبديل «و الذين هم بآياتي يؤمنون» إلى قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ يتصل الآية التالية بسابقتها في السياق بنحو لطيف فافهم ذلك و تدبر فيه فإنه من أعجب السياقات القرآنية.

قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْرَاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ  إلى قوله ﴿كَانَتْ عَلَيْهِمْ. قال الراغب في المفردات،:

الإصر

 عقد الشي‏ء و حبسه بقهره يقال: أصرته فهو مأصور، و

المأصر و المأصر

 بفتح الصاد و كسرها محبس السفينة، قال تعالى: ﴿وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ أي الأمور التي تثبطهم و تقيدهم عن الخيرات، و عن الوصول إلى الثوابات، و على ذلك: ﴿وَ لاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً، و قيل ثقلا و تحقيقه ما ذكرت. (انتهى) و

الأغلال‏

 جمع غل و هو ما يقيد به.

و قوله: ﴿اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ الآية بحسب ظاهر السياق بيان لقوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ و يؤيده ما هو ظاهر الآية أن كونه (ص) رسولا نبيا أميا و يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر، و يحل لهم الطيبات و يحرم عليهم الخبائث، و يضع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم كل ذلك من أمارات النبوة الخاتمية و آياتها المذكورة لهم في التوراة و الإنجيل فمن الإيمان بآيات الله الذي شرطه الله تعالى لهم في كلامه: أن يؤمنوا بالآيات المذكورة لهم أمارات لنبوة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم).

غير أن من المسلم الذي لا مرية فيه أن الرحمة التي وعد الله كتابته لليهود بشرط التقوى و الإيمان بآيات الله ليست بحيث تختص بالذين آمنوا منهم بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم)، و يحرم عنها صالحو بني إسرائيل من لدن أجاب الله دعوة موسى (عليه السلام) إلى أن بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم) فآمن به شرذمة قليلة من اليهود، فإن ذلك مما لا ينبغي توهمه أصلا. فبين موسى و عيسى (عليه السلام)، و كذا بعد عيسى (عليه السلام) ممن آمن به من بني إسرائيل جم غفير من المؤمنين الذين آمنوا بالدعوة الإلهية فقبل الله منهم إيمانهم و وعدهم بالخير، و الكلام

 

 

 الإلهي بذلك ناطق فكيف يمكن أن تقصر الرحمة الإلهية المبسوطة على بني إسرائيل في جماعة قليلة منهم آمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم)؟.

فقوله: ﴿اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ الآية و إن كان بيانا لقوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ إلا أنه ليس بيانا مساويا في السعة و الضيق لمبينه بل بيان مستخرج من مبينه انتزع منه، و خص بالذكر ليستفاد منه فيما هو الغرض من سوق الكلام، و هو بيان حقيقة الدعوة المحمدية، و لزوم إجابتهم لها و تلبيتهم لداعيها.

و لذلك في القرآن الكريم نظائر من حيث التضييق و التوسعة في البيان كما قال تعالى حاكيا عن إبليس: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ الآية ثم قال في موضع آخر حاكيا عنه: ﴿لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ اَلْأَنْعَامِ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اَللَّهِ: النساء: ١١٩ فإن القول الثاني المحكي عن إبليس مستخرج من عموم قوله المحكي أولا: ﴿لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ.

و قال تعالى في أول هذه السورة: ﴿وَ لَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ إلى أن قال ﴿يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ الآية و قد تقدم أن ذلك من قبيل استخراج الخطاب من الخطاب لغرض التعميم إلى غير ذلك من النظائر.

فيئول معنى بيانية قوله: ﴿اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ إلى استخراج بيان من بيان للتطبيق على مورد الحاجة كأنه قيل: فإذا كان المكتوب من رحمة الله لبني إسرائيل قد كتب للذين يتقون و يؤتون الزكاة و الذين هم بآياتنا يؤمنون فمصداقه اليوم يوم بعث محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) هم الذين يتبعونه من بني إسرائيل لأنهم الذين اتقوا و آتوا الزكاة و هم الذين آمنوا بآياتنا فإنهم آمنوا بموسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) و هم آياتنا، و آمنوا بمعجزات هؤلاء الرسل و ما نزل عليهم من الشرائع و الأحكام و هي آياتنا، و آمنوا بما ذكرنا لهم في التوراة و الإنجيل من أمارات نبوة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) و علامات ظهوره و دعوته، و هي آياتنا.

ثم قوله: ﴿اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ الآية أخذ فيه ﴿يَتَّبِعُونَ موضع يؤمنون، و هو من أحسن التعبير لأن الإيمان بآيات الله سبحانه كأنبيائه و شرائعهم إنما هو بالتسليم و الطاعة فاختير لفظ الاتباع للدلالة على أن الإيمان بمعنى الاعتقاد المجرد

 

 

 لا يغني شيئا فإن ترك التسليم و الطاعة عملا تكذيب بآيات الله و إن كان هناك اعتقاد بأنه حق.

و ذكره (ص) بهذه الأوصاف الثلاث: ﴿اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ، و لم يجتمع له في موضع من كلامه تعالى إلا في هذه الآية و الآية التالية، مع قوله تعالى بعده: ﴿اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْرَاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ تدل على أنه (ص) كان مذكورا فيهما معرفا بهذه الأوصاف الثلاث.

و لو لا أن الغرض من توصيفه بهذه الثلاث هو تعريفه بما كانوا يعرفونه به من النعوت المذكورة له في كتابيهم لما كانت لذكر الثلاث: ﴿اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ و خاصة الصفة الثالثة نكتة ظاهرة.

و كذلك ظاهر الآية يدل أو يشعر بأن قوله: ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ إلى آخر الأمور الخمسة التي وصفه (ص) بها في الآية من علائمه المذكورة في الكتابين، و هي مع ذلك من مختصات النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و ملته البيضاء فإن الأمم الصالحة و إن كانوا يقومون بوظيفة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كما ذكره تعالى من أهل الكتاب في قوله: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ  إلى أن قال ﴿وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُسَارِعُونَ فِي اَلْخَيْرَاتِ وَ أُولَئِكَ مِنَ اَلصَّالِحِينَ: آل عمران ١١٤.

و كذلك تحليل الطيبات و تحريم الخبائث في الجملة من الجملة الفطريات التي أجمع عليها الأديان الإلهية، و قد قال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللَّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَ اَلطَّيِّبَاتِ مِنَ اَلرِّزْقِ: الأعراف: ٣٢.

و كذلك وضع الإصر و الأغلال و إن كان مما يوجد في الجملة في شريعة عيسى (عليه السلام) كما يدل عليه قوله فيما حكى الله عنه في القرآن الكريم: ﴿وَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ اَلتَّوْرَاةِ وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ: آل عمران: ٥٠ و يشعر به قوله خطابا لبني إسرائيل: ﴿قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ: الزخرف ٦٣.

إلا أنه لا يرتاب ذو ريب في أن الدين الذي جاء به محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) بكتاب من عند الله مصدق لما بين يديه من الكتب السماوية و هو دين الإسلام هو الدين الوحيد الذي نفخ في جثمان الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كل ما يسعه من روح الحياة، و بلغ

 

 

 به من حد الدعوة الخالية إلى درجة الجهاد في سبيل الله بالأموال و النفوس، و هو الدين الوحيد الذي أحصى جميع ما يتعلق به حياة الإنسان من الشئون و الأعمال ثم قسمها إلى طيبات فأحلها، و إلى خبائث فحرمها، و لا يعادله في تفصيل القوانين المشرعة أي شريعة دينية و قانون اجتماعي، و هو الدين الذي نسخ جميع الأحكام الشاقة الموضوعة على أهل الكتاب و اليهود خاصة، و ما تكلفها علماؤهم، و ابتدعها أحبارهم و رهبانهم من الأحكام المبتدعة.

فقد اختص الإسلام بكمال هذه الأمور الخمسة و إن كانت توجد في غيره نماذج من ذلك.

على أن كمال هذه الأمور الخمسة في هذه الملة البيضاء أصدق شاهد و أبين بينة على صدق الناهض بدعوتها (ص)، و لو لم تكن تذكر أمارات له في الكتابين فإن شريعته كمال شريعة الكليم و المسيح (عليه السلام) و هل يطلب من شريعة حقة إلا عرفانها المعروف و إنكارها المنكر، و تحليلها الطيبات، و تحريمها الخبائث، و إلغاؤها كل إصر و غل؟ و هي تفاصيل الحق الذي يدعو إليه الشرائع الإلهية فليعترف أهل التوراة و الإنجيل أن الشريعة التي تتضمن كمال هذه الأمور بتفاصيلها هي عين شريعتهم في مرحلة كاملة.

و بهذا البيان يظهر أن قوله تعالى: ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ الآية يفيد بمجموعه معنى تصديقه لما في كتابيهم من شرائع الله تعالى كأنه قيل مصدقا لما بين يديه كما في قوله تعالى: ﴿وَ لَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتَابَ كِتَابَ اَللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ: البقرة ١٠١ و قوله: ﴿وَ لَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَ كَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى اَلْكَافِرِينَ: البقرة: ٨٩ يريد مجي‏ء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بكمال ما في كتابهم من الشريعة مصدقا له ثم كفرهم به و هم يعلمون أنه المذكور في كتبهم المبشر به بلسان أنبيائهم كما حكى سبحانه عن المسيح في قوله: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اَللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ اَلتَّوْرَاةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اِسْمُهُ أَحْمَدُ: الصف: ٦.

 

 

 و سنبحث عن بشاراته (عليه السلام) الواقعة في كتبهم المقدسة بما تيسر من البحث إن شاء الله العزيز.

غير أنه تعالى لم يقل: مصدقا لما بين يديه بدل قوله: ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ الآية لأن وجه الكلام إلى جميع الناس دون أهل الكتاب خاصة، و لذا أمر نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) في الآية التالية بقوله: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اَللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً و لم يقيد الكلام في قوله: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ إلخ بما يختص به بأهل الكتاب.

قوله تعالى: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اِتَّبَعُوا اَلنُّورَ إلى آخر الآية

التعزير

 النصرة مع التعظيم، و المراد بالنور النازل معه القرآن الكريم ذكر بنعت النورية ليدل به على أنه ينير طريق الحياة، و يضي‏ء الصراط الذي يسلكه الإنسان إلى موقف السعادة و الكمال، و الكلام في هذا الشأن.

و في قوله تعالى: ﴿أُنْزِلَ مَعَهُ و لم يقل: أنزل عليه أو أنزل إليه و «مع» تدل على المصاحبة و المقارنة تلويح إلى معنى الأمارة و الشهادة التي ذكرناها كأنه قيل:

و اتبعوا النور الذي أنزل عليه و هو بما يحتوي عليه من كمال الشرائع السابقة، و يظهره بالإضاءة شاهد على صدقه، و أمارة أنه هو الذي وعد به أنبياؤهم، و ذكر لهم في كتبهم فقوله: ﴿مَعَهُ حال من نائب فاعل ﴿أُنْزِلَ. و قد وقع نظيره في قوله تعالى:

﴿فَبَعَثَ اَللَّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ: البقرة: ٢١٣.

و قد اختلف المفسرون في توجيه هذه المعية و معناها: فقيل: إن الظرف ﴿مَعَهُ  متعلق بأنزل، و الكلام على حذف مضاف أي مع نبوته أو إرساله (ص) لأنه لم ينزل معه، و إنما أنزل مع جبرئيل، و قيل: متعلق بـ ﴿اِتَّبَعُوا و المعنى شاركوا النبي (عليه السلام) في اتباعه، أو المعنى اتبعوا القرآن مع اتباعهم له و قيل: حال عن فاعل ﴿اِتَّبَعُوا، و المعنى اتبعوا القرآن مصاحبين للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في اتباعه، و قيل: «مع» هنا بمعنى على، و قيل: بمعنى عند، و لا يخفى بعد الجميع.

و قوله: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اِتَّبَعُوا اَلنُّورَ الآية بمنزلة التفسير لقوله في صدر الآية: ﴿اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ و أن المراد باتباعه حقيقة اتباع كتاب

 

 

 الله المشتمل على شرائعه، و أن الذي له (عليه السلام) من معنى الاتباع هو الإيمان بنبوته و رسالته من غير تكذيب به، و احترامه بالتسليم له و نصرته فيما عزم عليه من سيرته.

و الكلام أعني قوله: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ الآية نتيجة متفرعة على قوله في صدر الآية: ﴿اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ الآية بناء على ما قدمناه من أنه بيان خاص مستخرج من قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الذي هو بيان عام، و المعنى إذا كان اتباع الرسول بهذه الأوصاف و النعوت هو من الإيمان بآياتنا الذي شرطناه على بني إسرائيل في قبول دعوة موسى لهم ببسط الرحمة في الدنيا و الآخرة و فيه الفلاح بكتابة الحسنة في الدنيا و الآخرة فالذين آمنوا به إلى آخر ما شرط الله أولئك هم المفلحون.

قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اَللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً  إلى قوله ﴿وَ يُمِيتُ لما لاح من الأوصاف التي وصف بها نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم) أن عنده كمال الدين الذي به حياة الناس الطيبة في أي مكان فرضوا و في أي زمان قدر وجودهم، و لا حاجة للناس في طيب حياتهم إلى أزيد من أن يؤمروا بالمعروف، و ينهوا عن المنكر، و تحلل لهم الطيبات، و تحرم عليهم الخبائث، و يوضع عنهم إصرهم و الأغلال التي عليهم أمر نبيهم (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يعلن بنبوته الناس جميعا من غير أن تختص بقوم دون قوم فقال: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اَللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً.

و قوله: ﴿اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ صفات وصف الله بها، و هي بمجموعها بمنزلة تعليل يبين بها إمكان الرسالة من الله في نفسها أولا و إمكان عمومها لجميع الناس ثانيا فيرتفع به استيحاش بني إسرائيل أن يرسل إليهم من غير شعبهم و خاصة من الأميين و هم شعب الله و من مزاعمهم أنه ليس عليهم في الأميين سبيل، و هم خاصة الله و أبناؤه و أحباؤه، و به يزول استبعاد غير العرب من جهة العصبية القومية أن يرسل إليهم رسول عربي.

و ذلك أن الله الذي اتخذه رسولا هو الذي له ملك السماوات و الأرض و السلطنة العامة عليها، و لا إله غيره حتى يملك شيئا منها فله أن يحكم بما يشاء من غير أن يمنع عن حكمه مانع يزاحمه أو تعوق إرادته إرادة غيره فله أن يتخذ رسولا إلى عباده و أن يرسل رسوله إلى بعض عباده أو إلى جميعهم كيف شاء.

 

 

و هو الذي له الإحياء و الإماتة فله أن يحيي قوما أو الناس جميعا بحياة طيبة سعيدة و السعادة و الهدى من الحياة كما أن الشقاوة و الضلالة موت، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ: الأنفال: ٢٤، و قال: ﴿أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ: الأنعام: ١٢٢، و قال: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ اَلَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَ اَلْمَوْتى‏َ يَبْعَثُهُمُ اَللَّهُ: الأنعام: ٣٦.

قوله تعالى: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ اَلنَّبِيِّ اَلْأُمِّيِّ إلى آخر الآية تفريع على ما تقدم أي إذا كان الحال هذا الحال فآمنوا بي فإني ذاك الرسول النبي الأمي الذي بشر به في التوراة و الإنجيل، و أنا أومن بالله و لا أكفر به و أومن بكلماته و هي ما قضى به من الشرائع النازلة علي و على الأنبياء السالفين، و اتبعوني لعلكم تفلحون.

هذا ما يقتضيه السياق، و منه يعلم وجه الالتفات من التكلم إلى الغيبة في قوله ﴿وَ رَسُولِهِ اَلنَّبِيِّ اَلْأُمِّيِّ اَلَّذِي الآية فإن الظاهر من السياق أن هذه الآية ذيل الآية السابقة، و هما جميعا من كلام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).

و وجه الالتفات كما ظهر مما تقدم أن يدل بالأوصاف الموضوعة مكان ضمير المتكلم على تعليل الأمر في قوله: ﴿فَآمِنُوا و قوله: ﴿وَ اِتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.

و المراد بالاهتداء الاهتداء إلى السعادة الآخرة التي هي رضوان الله و الجنة لا الاهتداء إلى سبيل الحق فإن الإيمان بالله و رسوله و اتباع رسوله بنفسه اهتداء، فيرجع معنى قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إلى معنى قوله في الآية السابقة في نتيجة الإيمان و الاتباع: ﴿أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ.

قوله تعالى: ﴿وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى‏َ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ و هذا من نصفة القرآن مدح من يستحق المدح، و حمد صالح أعمالهم بعد ما قرعهم بما صدر عنهم من السيئات فالمراد أنهم ليسوا جميعا على ما وصفنا من مخالفة الله و رسوله، و التزام الضلال و الظلم بل منهم أمة يهدون الناس بالحق و بالحق يعدلون فيما بينهم فالباء في قوله:

﴿بِالْحَقِّ للآلة و تحتمل الملابسة.

و على هذا فالآية من الموارد التي نسبت الهداية فيها إلى غيره تعالى و غير الأنبياء

 

 

 و الأئمة كما في قوله حكاية عن مؤمن آل فرعون و لم يكن بنبي ظاهرا: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اِتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ اَلرَّشَادِ: المؤمن: ٣٨.

و لا يبعد أن يكون المراد بهذه الأمة من قوم موسى (عليه السلام) الأنبياء و الأئمة الذين نشئوا فيهم بعد موسى و قد وصفهم الله في كلامه بالهداية كقوله تعالى: ﴿وَ جَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَ كَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ: الم السجدة: ٢٤ و غيره من الآيات و ذلك أن الآية أعني قوله: ﴿أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ لو حملت على حقيقة معناها من الهداية بالحق و العدل بالحق لم يتيسر لغير النبي و الإمام أن يتلبس بذلك و قد تقدم كلام في الهداية في تفسير قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً: البقرة ١٢٤ و قوله: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اَللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ: الأنعام: ١٢٥. و غيرهما من الآيات.

قوله تعالى: ﴿وَ قَطَّعْنَاهُمُ اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً إلى آخر الآية. السبط بحسب اللغة ولد الولد أو ولد البنت. و الجمع أسباط، و هو في بني إسرائيل بمعنى قوم خاص، فالسبط عندهم بالمنزلة القبيلة عند العرب. و قد نقل عن ابن الحاجب أن ﴿أَسْبَاطاً في الآية بدل من العدد لا تمييز و إلا لكانوا ستة و ثلاثين سبطا على إرادة أقل الجمع من ﴿أَسْبَاطاً و تمييز العدد محذوف للدلالة عليه بقوله: ﴿أَسْبَاطاً و التقدير و قطعناهم اثنتي عشرة فرقة أسباطا هذا. و ربما قيل: إنه تمييز لكونه بمعنى المفرد و المعنى اثنتي عشرة جماعة مثلا.

و قوله: ﴿وَ أَوْحَيْنَا إِلى‏َ مُوسى‏َ إِذِ اِسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ الآية

الانبجاس‏

 هو الانفجار و قيل الانبجاس خروج الماء بقلة، و الانفجار خروجه بكثرة، و ظاهر من قوله:

﴿فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اِثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ أن العيون كانت بعدد الأسباط و أن كل سبط اختصوا بعين من العيون، و أن ذلك كانت عن مشاجرة بينهم و منافسة، و هو يؤيد ما في الروايات من قصتها. و باقي الآية ظاهر.

و قد عد الله سبحانه في هذه الآيات من معجزات موسى (عليه السلام) و آياته: الثعبان و اليد البيضاء، و سني آل فرعون و نقص ثمراتهم، و الطوفان، و الجراد، و القمل، و الضفادع، و الدم، و فلق البحر، و إهلاك السبعين، و إحياءهم، و انبجاس العيون من الحجر بضرب العصا، و التظليل بالغمام، و إنزال المن و السلوى، و نتق الجبل فوقهم

 

 

 كأنه ظلة. و يمكنك أن تضيف إليها التكليم و نزول التوراة، و مسخ بعضهم قردة خاسئين. و سيجي‏ء تفصيل البحث في قصته (عليه السلام) في تفسير سورة هود إن شاء الله.

بحث روائي

 في تفسير العياشي، عن محمد بن سالم بياع القصب عن الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : قلت له: إن عبد الله بن عجلان قال في مرضه الذي مات فيه:

أنه لا يموت فمات. فقال: لا غفر الله شيئا من ذنوبه أين ذهب إن موسى اختار سبعين رجلا من قومه فلما أخذتهم الرجفة قال رب: أصحابي أصحابي. قال: إني أبدلك بهم من هو خير لكم منهم فقال: إني عرفتهم و وجدت ريحهم. قال: فبعث الله له أنبياء. أقول: المراد أن الله بدل له بعبد الله بن عجلان أصحابا هم خير منه كما فعل بموسى، و الخبر غريب في بابه و لا يوافق ظاهر الكتاب.

 و في البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن سعد بن عبد الله القمي في حديث طويل عن القائم (عليه السلام) قال : قلت: فأخبرني يا مولاي عن العلة التي تمنع القوم من اختيار إمام لأنفسهم. قال: مصلح أو مفسد؟ قلت: مصلح. قال: فهل يجوز أن يقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحدهم ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد؟ قلت: بلى. قال: هي العلة التي أوردها لك برهانا:

أخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم الله، و أنزل عليهم الكتاب و أيدهم بالعصمة إذ هم أعلام الأمم‏[6] و أهدى للاختيار منهم مثل موسى و عيسى هل يجوز مع وفور عقلهما و كمال علمهما إذا هما بالاختيار أن يقع خيرتهما على المنافق و هما يظنان أنه مؤمن؟ قلت: لا. فقال: هذا موسى كليم الله مع وفور عقله، و كمال علمه: و نزول الوحي عليه اختار من أعيان قومه، و وجوه عسكره لميقات ربه سبعين رجلا ممن لا يشك في إيمانهم و إخلاصهم فوقعت خيرته على المنافقين قال الله عز و جل: ﴿وَ اِخْتَارَ مُوسى‏ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا  إلى قوله ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اَللَّهَ جَهْرَةً ﴾... ﴿فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ﴾.

 

 

 

 فلما وجدنا اختيار من قد اصطفاه للنبوة واقعا على الأفسد دون الأصلح و هو يظن أنه الأصلح دون الأفسد علمنا أن الاختيار ليس إلا لمن يعلم بما تخفي الصدور، و تكن الضمائر و تنصرف عليه السرائر، و أن لا خطر لاختيار المهاجرين و الأنصار - بعد وقوع خيرة الأنبياء على ذوي الفساد - لما أرادوا أهل الصلاح. أقول: الآية فيها منقولة بالمعنى بمعنى أنها ملفقة من آيات القصة في سورتي الأعراف و النساء.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن نوف الحميري قال : لما اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقات ربه قال الله لموسى: أجعل لكم الأرض مسجدا و طهورا، و أجعل السكينة معكم في بيوتكم، و أجعلكم تقرءون التوراة من ظهور قلوبكم فيقرؤها الرجل منكم و المرأة و الحر و العبد و الصغير و الكبير.

فقال موسى: إن الله قد جعل لكم الأرض مسجدا و طهورا. قالوا: لا نريد أن نصلي إلا في الكنائس. قال: و يجعل السكينة معكم في بيوتكم. قالوا: لا نريد إلا كما كانت في التابوت. قال: و يجعلكم تقرءون التوراة عن ظهور قلوبكم فيقرؤها الرجل منكم و المرأة و الحر و العبد و الصغير و الكبير. قالوا: لا نريد أن نقرأها إلا نظرا.

قال الله: ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكَاةَ  إلى قوله ﴿اَلْمُفْلِحُونَ .

قال موسى: أتيتك بوفد قومي فجعلت وفادتهم لغيرهم اجعلني من هذه الأمة.

قال: إن نبيهم منهم. قال: اجعلني من هذه الأمة قال: إنك لن تدركهم. قال:

رب أتيتك بوفد قومي فجعلت وفادتهم لغيرهم. قال: فأوحى إليه ﴿وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى‏َ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ قال: فرضي موسى. قال نوف: أ لا تحمدون ربا شهد غيبتكم، و أخذ لكم بسمعكم، و جعل وفادة غيركم لكم. و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن نوف البكالي: أن موسى لما اختار من قومه سبعين رجلا قال لهم: فدوا إلى الله و سلوه فكانت لموسى مسألة و لهم مسألة فلما انتهى إلى الطور المكان الذي وعده الله به قال لهم موسى: سلوا الله. قالوا: أرنا الله جهرة. قال: ويحكم تسألون الله هذا مرتين؟ قالوا: هي مسألتنا أرنا الله جهرة فأخذتهم

 

 

 الرجفة فصعقوا. فقال موسى: أي رب جئتك بسبعين من خيار بني إسرائيل فارجع إليهم و ليس معي منهم أحد فكيف أصنع ببني إسرائيل؟ أ ليس يقتلوني؟ فقال له:

سل مسألتك. قال: أي رب إني أسألك أن تبعثهم، فبعثهم الله، فذهبت مسألتهم و مسألته، و جعلت تلك الدعوة لهذه الأمة. أقول: و إنما أوردنا الروايتين لكونهما بما فيهما من القصة شبيهتين بالموقوفات لكنهما مع الاختلاف لا ينطبقان على شي‏ء مما فيهما من أطراف القصة و نزول الآيات، على ظاهر شي‏ء من الآيات فمسألتهم إنما هي الرؤية و قد ردت إليهم. و مسألة موسى (عليه السلام) إنما هي بعثهم، و قد أجيبت فبعثوا، و كتابة الرحمة على بني إسرائيل، و قد أجيبت بشرط التقوى و الإيمان بآيات الله، و لم يجعل شي‏ء من وفادتهم لغيرهم، و الخطاب بقوله: ﴿وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى‏َ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) دون موسى على ما يعطيه السياق.

و نظير الروايتين في عدم الانطباق على الآية ما روي عن ابن عباس:في قوله:

﴿وَ اُكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا حَسَنَةً وَ فِي اَلْآخِرَةِ قال: فلم يعطها موسى قال: ﴿عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ  إلى قوله ﴿اَلْمُفْلِحُونَ و المراد أنه لم يعطها بل أعطيتها هذه الأمة و قد مر أن ظهور الآية في غير ذلك.

و نظير ذلك‏ ما روي عن السدي :في قوله تعالى: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ الآية قال: قال موسى: يا رب إن هذا السامري أمرهم أن يتخذوا العجل أ رأيت الروح من نفخها فيه؟ قال الرب: أنا، قال: فأنت إذا أضللتهم‏،

و روى العياشي في تفسيره، مثله عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) مرسلا، و فيه: قال موسى: يا رب و من أخار العجل؟ قال: أنا. قال موسى عنده: إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء و تهدي من تشاء.

و ذلك أن الآية أعني قوله: ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ من كلامه (عليه السلام) في قصة هلاك السبعين، و أين هي من قصة العجل؟ إلا أن يتكرر منه ذلك.

 

 

 و في الدر المنثور، أخرج أحمد و أبو داود عن جندب بن عبد الله البجلي قال جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عقلها ثم صلى خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ثم نادى: اللهم ارحمني و محمدا و لا تشرك في رحمتنا أحدا. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): لقد حظرت رحمة واسعة إن الله خلق مائة رحمة فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق - جنها و إنسها و بهائمها، و عنده تسعة و تسعون. و فيه، أخرج أحمد و مسلم عن سلمان عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال : إن لله مائة رحمة فمنها رحمة يتراحم بها الخلق، و بها تعطف الوحوش على أولادها، و آخر تسعة و تسعين إلى يوم القيامة. و فيه، أخرج ابن أبي شيبة عن سلمان موقوفا و ابن مردويه عن سلمان قال : قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): إن الله خلق مائة رحمة يوم خلق السماوات و الأرض كل رحمة منها طباق ما بين السماء و الأرض فأهبط منها رحمة إلى الأرض فبها تراحم الخلائق، و بها تعطف الوالدة على ولدها، و بها تشرب الطير و الوحوش من الماء، و بها تعيش الخلائق فإذا كان يوم القيامة انتزعها من خلقه ثم أفاضها على المتقين، و زاد تسعة و تسعين رحمة ثم قرأ:

﴿وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ. أقول: و هذا المعنى مروي أيضا من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام)، و الرواية الثانية كأنها نقل بالمعنى للرواية الأولى، و قد أفسد الراوي المعنى بقوله: «فإذا كان يوم القيامة انتزعها من خلقه» و ليت شعري إذا سلب الرحمة عن غير المتقين من خلقه فبما ذا يبقى و يعيش السماوات و الأرض و الجنة و النار و من فيها و الملائكة و غيرهم و لا رحمة تشملهم.

و الأحسن في التعبير ما ورد في بعض رواياتنا - على ما أذكر - أن الله يومئذ يجمع المائة للمؤمنين، و جمع المائة لهم و استعمالها فيهم غير انتزاعها عن غيرهم و تخصيصها بهم فالأول جائز معقول دون الثاني فافهم ذلك.

 و فيه، أخرج الطبراني عن حذيفة بن اليمان عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في حديث : و الذي نفسي

 

 

 بيده ليغفرن الله يوم القيامة مغفرة يتطاول بها إبليس رجاء أن تصيبه. أقول: و من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) ما في معناه.

 و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن أبي بكر الهذلي قال : لما نزلت ﴿وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ قال إبليس: يا رب و أنا من الشي‏ء فنزلت ﴿فَسَأَكْتُبُهَا «لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الآية فنزعها الله من إبليس. أقول: و الظاهر أنه فرض و تقدير من أبي بكر، و لا ريب في تنعم إبليس بالرحمة العامة التي يشتمل عليها صدر الآية، و حرمانه من الرحمة الخاصة الأخروية التي يتضمنها ذيلها.

- في تفسير البرهان، عن نهج البيان روي عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه قال : أي الخلق أعجب إيمانا؟ فقالوا: الملائكة، فقال: الملائكة عند ربهم فما لهم لا يؤمنون؟ فقالوا:

الأنبياء. فقال: الأنبياء يوحى إليهم فما لهم لا يؤمنون؟ فقالوا: نحن. فقال: أنا فيكم فما لكم لا تؤمنون؟ إنما هم قوم يكونون بعدكم فيجدون كتابا في ورق - فيؤمنون به، و هذا معنى قوله: ﴿وَ اِتَّبَعُوا اَلنُّورَ اَلَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ. أقول: و الخبر لا بأس به، و هو من الجري و الانطباق، و في بعض الروايات أن النور هو علي (عليه السلام) و هو أيضا من قبيل الجري أو الباطن.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال : افترقت بنو إسرائيل بعد موسى إحدى و سبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة، و افترقت النصارى بعد عيسى على اثنتين و سبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة، و تفترق هذه الأمة على ثلاث و سبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة. فأما اليهود فإن الله يقول: ﴿وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى‏َ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ و أما النصارى فإن الله يقول: ﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ فهذه التي تنجو، و أما نحن فنقول: ﴿وَ مِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ فهذه التي تنجو من هذه الأمة.

 و في تفسير العياشي، عن أبي الصهبان البكري قال : سمعت علي بن أبي طالب (عليه السلام) دعا رأس الجالوت و أسقف النصارى فقال: إني سائلكما عن أمر و أنا أعلم به

 

 

 منكما و لا تكتماني.

يا رأس الجالوت بالذي أنزل التوراة على موسى، و أطعمهم المن و السلوى، و ضرب لهم في البحر طريقا يبسا، و فجر لهم من الحجر الطوري اثنتي عشرة عينا لكل سبط من بني إسرائيل عينا إلا ما أخبرتني على كم افترقت بنو إسرائيل بعد موسى؟ فقال: فرقة واحدة، فقال: كذبت و الذي لا إله إلا هو لقد افترقت على إحدى و سبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة فإن الله يقول: ﴿وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى‏َ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ فهذه التي تنجو.

 و في المجمع، :أنهم قوم من وراء الصين و بينهم و بين الصين واد من الرمال لم يغيروا و لم يبدلوا. قال: و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام).

 أقول: الرواية ضعيفة غير مسلمة، و لا خبر عن هذه الأمة اليهودية الهادية العادلة اليوم، و لو كانوا اليوم لم يكونوا هادين و لا مهتدين لنسخ شريعة موسى بشريعة عيسى (عليه السلام) أولا ثم نسخ شريعتهما جميعا بشريعة محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) ثانيا، و لذا اضطر بعض من أورد هذه القصة الخرافية فأضاف إليها أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) نزل إليهم ليلة المعراج و دعاهم فآمنوا به و علمهم الصلاة.

و قد اختلقوا لهم قصصا عجيبة مختلفة،

 فعن مقاتل :أن مما فضل الله به محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه عاين ليلة المعراج قوم موسى الذين من وراء الصين، و ذلك أن بني إسرائيل حين عملوا بالمعاصي و قتلوا الذين يأمرون بالقسط من الناس دعوا ربهم و هم بالأرض المقدسة فقالوا: اللهم أخرجنا من بين أظهرهم. فاستجاب لهم فجعل لهم سربا في الأرض فدخلوا فيه، و جعل معهم نهرا يجري، و جعل لهم مصباحا من نور بين أيديهم فساروا فيه سنة و نصفا، و ذلك من بيت المقدس إلى مجلسهم الذي هم فيه فأخرجهم الله إلى أرض يجتمع فيها الهوام و البهائم و السباع مختلطين بها ليست فيها ذنوب و لا معاص، فأتاهم النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) تلك الليلة و معه جبرئيل فآمنوا به و صدقوه و علمهم الصلاة. و قالوا: إن موسى قد بشرهم به.

 و عن الشعبي قال: إن لله عبادا من وراء الأندلس كما بيننا و بين الأندلس لا يرون أن الله عصاه مخلوق رضراضهم الدر و الياقوت، و جبالهم الذهب و الفضة لا

 

 

 يزرعون و لا يحصدون و لا يعملون عملا، لهم شجر على أبوابهم لها أوراق عراض هي لبوسهم، و لهم شجر على أبوابهم لها ثمر فمنها يأكلون.

إلى غير ذلك مما ورد في قصتهم، و هي جميعا مجعولة، و قد عرفت معنى الآية في البيان المتقدم.

[سورة الأعراف (٧): الآیات ١٦١ الی ١٧١]

﴿وَ إِذْ قِيلَ لَهُمُ اُسْكُنُوا هَذِهِ اَلْقَرْيَةَ وَ كُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَ قُولُوا حِطَّةٌ وَ اُدْخُلُوا اَلْبَابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ اَلْمُحْسِنِينَ ١٦١ فَبَدَّلَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ اَلَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ اَلسَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ ١٦٢ وَ سْئَلْهُمْ عَنِ اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ اَلْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي اَلسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ١٦٣ وَ إِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اَللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلى‏ رَبِّكُمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ١٦٤ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا اَلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلسُّوءِ وَ أَخَذْنَا اَلَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ١٦٥ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ١٦٦ وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى‏ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ

 

 

سُوءَ اَلْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ اَلْعِقَابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ١٦٧ وَ قَطَّعْنَاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ اَلصَّالِحُونَ وَ مِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَ بَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَ اَلسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ١٦٨ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا اَلْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا اَلْأَدْنى‏ وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَ إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ اَلْكِتَابِ أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى اَللَّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ وَ دَرَسُوا مَا فِيهِ وَ اَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ ١٦٩ وَ اَلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُصْلِحِينَ ١٧٠ وَ إِذْ نَتَقْنَا اَلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَ ظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اُذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ١٧١ 

 بيان

في الآيات بيان قصص أخرى من قصص بني إسرائيل فسقوا فيها عن أمر الله، و نقضوا ميثاقه فأخذهم الله بعقوبة أعمالهم و سلط عليهم من الظالمين من يسومهم سوء العذاب فهؤلاء أسلافهم و قد خلف من بعدهم أخلاف يشترون بآيات الله ثمنا قليلا و يساهلون في أمر الدين، و هذا حالهم إلا قليل منهم لا يعدون الحق.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذْ قِيلَ لَهُمُ اُسْكُنُوا هَذِهِ اَلْقَرْيَةَ إلى آخر الآيتين، القرية هي التي كانت في الأرض المقدسة أمروا بدخولها و قتال أهلها من العمالقة و إخراجهم منها فتمردوا عن الأمر، و ردوا على موسى (عليه السلام) فابتلوا بالتيه، و القصة مذكورة في

 

 

 سورة المائدة آية ٢٠-٢٦.

و قوله: ﴿وَ قُولُوا حِطَّةٌ وَ اُدْخُلُوا اَلْبَابَ سُجَّداً الآية تقدم الكلام في نظيره من سورة البقرة آية: ٥٨-٥٩، و قوله: ﴿سَنَزِيدُ اَلْمُحْسِنِينَ في موضع الجواب عن سؤال مقدر كأنه لما قال: ﴿نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ قيل: ثم ما ذا فقال: ﴿سَنَزِيدُ اَلْمُحْسِنِينَ.

قوله تعالى: ﴿وَ سْئَلْهُمْ عَنِ اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ اَلْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي اَلسَّبْتِ إلى آخر الآية. أي أسأل بني إسرائيل عن حال أهل ﴿اَلْقَرْيَةِ «اَلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ اَلْبَحْرِ أي قريبة منه مشرفة عليه من حضر الأمر إذا أشرف عليه و شهده ﴿إِذْ يَعْدُونَ و يتجاوزون حدود ما أمر الله به في أمر ﴿اَلسَّبْتِ و تعظيمه و ترك الصيد فيه ﴿إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ و السمك الذي في ناحيتهم ﴿يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً جمع شارع‏ و هو الظاهر البين ﴿وَ يَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ أي إن تجاوزهم عن حدود ما أمر به الله كان إذ كانت الحيتان تأتيهم شرعا يوم منعوا من الصيد و أمروا بالسبت، و أما إذا مضى اليوم و أبيح لهم الصيد و ذلك غير يوم السبت فكان لا تأتيهم الحيتان و كان ذلك من بلاء الله و امتحانه ابتلاهم بذلك لشيوع الفسق بينهم فبعثهم الحرص على صيدها على مخالفة أمر الله سبحانه، و لم يمنعهم تقوى عن التعدي، و لذلك قال: ﴿كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ أي نمتحنهم ﴿بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اَللَّهُ مُهْلِكُهُمْ إلى آخر الآية، إنما قالت هذه الأمة ما قالت، لأمة أخرى منهم كانت تعظهم و تنهاهم عن مخالفة أمر الله في السبت.

فالتقدير: «و إذ قالت أمة منهم لأمة أخرى كانت تعظهم» حذف للإيجاز و ظاهر كلامهم: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اَللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً أنهم كانوا أهل تقوى يجتنبون مخالفة الأمر إلا أنهم تركوا نهيهم عن المنكر فخالطوهم و عاشروهم و لو كان هؤلاء اللائمون من المتعدين الفاسقين لوعظهم أولئك الملومون، و لم يجيبوهم بمثل قولهم:

﴿مَعْذِرَةً إِلى‏َ رَبِّكُمْ إلخ، و أن المتعدين طغوا في تعديهم و تجاهروا في فسقهم فلم يكونوا لينتهوا بنهي ظاهرا غير أن الأمة التي كانت تعظهم لم ييأسوا من تأثير العظة فيهم، و كانوا

 

 

 يرجون منهم الانتهاء لو استمروا في عظتهم، و لا أقل من انتهاء بعضهم و لو بعض الانتهاء، و ليكون ذلك معذرة منهم إلى الله سبحانه بإظهار أنهم غير موافقين لهم في فسقهم منزجرون عن طغيانهم بالتمرد.

و لذلك أجابوا عن قولهم: ﴿لِمَ تَعِظُونَ إلخ، بقولهم: ﴿مَعْذِرَةً إِلى‏َ رَبِّكُمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي إنما نعظهم ليكون ذلك عذرا إلى ربكم، و لأنا نرجو منهم أن يتقوا هذا العمل.

و في قولهم: ﴿إِلى‏َ رَبِّكُمْ حيث أضافوا الرب إلى اللائمين و لم يقولوا: إلى ربنا إشارة إلى أن التكليف بالعظة ليس مختصا بنا بل أنتم أيضا مثلنا يجب عليكم أن تعظوهم لأن ربكم لمكان ربوبيته يجب أن يعتذر إليه، و يبذل الجهد في فراغ الذمة من تكاليفه و الوظائف التي أحالها إلى عباده، و أنتم مربوبون له كما نحن مربوبون فعليكم من التكاليف ما هو علينا.

قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا اَلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلسُّوءِ المراد بنسيانهم ما ذكروا انقطاع تأثير الذكر في نفوسهم و إن كانوا ذاكرين لنفس التذكر حقيقة فإنما الأخذ الإلهي مسبب عن الاستهانة بأمره و الإعراض عن ذكره، بل حقيقة النسيان بحسب الطبع مانع عن فعلية التكليف و حلول العقوبة.

فالإنسان يطوف عليه طائف من توفيق الله يذكره بتكاليف هامة إلهية ثم إن استقام و ثبت، و إن ترك الاستقامة و لم يزجره زاجر باطني و لا ردعه رادع نفساني عدا حدود الله بالمعصية غير أنه في بادئ أمره يتألم تألما باطنيا و يتحرج تحرجا قلبيا من ذلك ثم إذا عاد إليها ثانيا من غير توبة زادت صورة المعصية في نفسه تمكنا، و ضعف أثر التذكير و هان أمره، و كلما عاد إليها و تكررت منه المخالفة زادت تلك قوة و هذه ضعفا حتى يزول أثر التذكير من أصله، ساوى وجوده عدمه فلحق بالنسيان في عدم التأثير، و هو المراد بقوله: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا أي زال أثره كأنه منسي زائل، الصورة عن النفس.

و في الآية دلالة على أن الناجين كانوا هم الناهين عن السوء فقط، و قد أخذ الله الباقين، و هم الذين يعدون في السبت و الذين قالوا: ﴿لِمَ تَعِظُونَ إلخ.

 

 

و فيه دلالة على أن اللائمين كانوا مشاركين للعادين في ظلمهم و فسقهم حيث تركوا عظتهم و لم يهجروهم.

و في الآية دلالة على سنة إلهية عامة، و هي أن عدم ردع الظالمين عن ظلمهم بمنع، و عظة إن لم يمكن المنع أو هجره إن لم تمكن العظة أو بطل تأثيرها، مشاركة معهم في ظلمهم، و أن الأخذ الإلهي الشديد كما يرصد الظالمين كذلك يرصد مشاركيهم في ظلمهم.

قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ

 العتو

 المبالغة في المعصية و

القردة

جمع القرد و هو الحيوان المعروف، و

 الخاسئ

الطريد البعيد من خسأ الكلب إذا بعد.

و قوله: ﴿فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ أي عن ترك ما نهوا عنه فإن العتو إنما يكون عن ترك المنهيات لا عن نفسها، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى‏َ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ إلى آخر الآية تأذن و أذن‏ بمعنى أعلم، و اللام في قوله: ﴿لَيَبْعَثَنَّ للقسم، و المعنى: و اذكر إذ أعلم ربك أنه قد أقسم ليبعثن على هؤلاء الظالمين بعثا يدوم عليهم ما دامت الدنيا من يذيقهم و يوليهم سوء العذاب.

و قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ اَلْعِقَابِ معناه أن من عقابه ما يسرع إلى الناس كعقاب الطاغي لطغيانه، قال تعالى: ﴿اَلَّذِينَ طَغَوْا فِي اَلْبِلاَدِ - إلى أن قال - ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ: الفجر: ١٤ و الدليل على ما فسرنا به قوله بعده: ﴿وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ فإن الظاهر أنه لم يؤت به إلا للدلالة على أنه تعالى ليس بسريع العقاب دائما و إلا فمضمون الآية ليس مما يناسب التذليل باسمي الغفور و الرحيم لتمحضه في معنى المؤاخذة و الانتقام فمعنى قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ اَلْعِقَابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ إنه تعالى غفور للذنوب رحيم بعباده لكنه إذا قضى لبعض عباده بالعقاب لاستيجابهم ذلك بطغيان و عتو و نحو ذلك فسرعان ما يتبعهم إذ لا مانع يمنع عنه و لا عائق يعوقه.

و لعل هذا هو معنى قول بعضهم: إن معنى قوله ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ اَلْعِقَابِ

 

 

سريع العقاب لمن شاء أن يعاقبه في الدنيا، و إن كان الأنسب أن يقال: إن ذلك معنى قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ اَلْعِقَابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، و يرتفع به ما يمكن أن يتوهم أن كونه تعالى سريع العقاب ينافي كونه حليما لا يسرع إلى المؤاخذة.

قوله تعالى: ﴿وَ قَطَّعْنَاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ اَلصَّالِحُونَ إلى آخر الآية. قال:

في المجمع،: دون في موضع الرفع بالابتداء، و لكنه جاء منصوبا لتمكنه في الظرفية، و مثله على قول أبي الحسن «لقد تقطع بينكم» هو في موضع الرفع فجاء منصوبا لهذا المعنى، و كذلك في قوله: «يوم القيامة يفصل بينكم» بين في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل، و إن شئت كان التقدير: و منهم جماعة دون ذلك فحذف الموصوف و قامت صفته مقامه. انتهى.

و المراد بالحسنات و السيئات نعماء الدنيا و ضرائها و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا اَلْكِتَابَ إلى آخر الآية، العرض‏ ما لا ثبات له، و منه قوله تعالى: ﴿عَرَضَ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا: النساء: ٩٤ أي ما لا ثبات له من شئونها، و المراد بعرض هذا الأدنى عرض هذه الحياة الدنيا و الدار العاجلة غير أنه أشير إليها بلفظ التذكير لأخذها شيئا ليس له من الخصوصيات إلا أن يشار إليه تجاهلا بخصوصياتها تحقيرا لشأنها كأنها لا يخص بنعت من النعوت يرغب فيها، و قد تقدم نظيره في قول إبراهيم (عليه السلام) على ما حكاه الله. ﴿هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ: الأنعام: ٧٨ يريد الشمس.

و قوله: ﴿وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا قول جزافي لهم قالوه، و لا معول لهم فيه إلا الاغترار بشعبهم الذي سموه شعب الله كما سموا أنفسهم أبناء الله و أحباءه، و لم يقولوا ذلك لوعد النفس بالتوبة لأن ذلك قيد لا يدل عليه الكلام، و لا أنهم قالوا ذلك رجاء للمغفرة الإلهية فإن للرجاء آثارا لا تلائم هذه المشيئة إذ رجاء الخير لا ينفك عن خوف الشر الذي يقابله و كما أن الرجاء يستدعي شيئا من ثبات النفس و طيبها كذلك الخوف يوجب قلق النفس و اضطرابها و مساءتها فآية الرجاء الصادق توسط النفس بين سكون و اضطراب، و جذب و دفع، و مسرة و مساءة، و أما من توغل في شهوات نفسه و انغمر في لذائذ الدنيا من غير أن يتذكر بعقوبة ما يجنيه و يقترفه ثم إذا ردعه رادع من نفسه

 

 

 أو غيره بما أوعد الله الظالمين، و ذكره شيئا من سوء عاقبة المجرمين قال: إن الله غفور رحيم يتخلص به من اللوم، و يخلص به إلى صافي لذائذه الدنية فليس ما يتظاهر به رجاء صادقا بل أمنية نفسانية كاذبة، و تسويل شيطاني موبق فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحدا.

و قوله: ﴿وَ إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أي لم يقنعوا بما أخذوه من العرض بمرة حتى يكون تركهم ذلك و رجوعهم إلى اتقاء محارم الله نحوا من التوبة، و قولهم:

﴿سَيُغْفَرُ لَنَا نوعا من الرجاء يتلبس به التائبون بل كلما وجدوا شيئا من عرض الدنيا أخذوه من غير أن يراقبوا الله تعالى فيه فالجملة أعني قوله: ﴿وَ إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ في معنى قوله تعالى في وصفهم في موضع آخر: ﴿كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ: المائدة: ٧٩.

و قوله: ﴿وَ دَرَسُوا مَا فِيهِ كان الواو للحال، و الجملة حال عن ضمير ﴿عَلَيْهِمْ و قيل الجملة معطوفة على قوله: ﴿وَرِثُوا اَلْكِتَابَ في صدر الآية، و لا يخلو من بعد.

و المعنى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد هؤلاء الأسلاف من بني إسرائيل و حالهم في تقوى الله و اجتناب محارمه ما وصف ﴿خَلْفٌ وَرِثُوا اَلْكِتَابَ و تحملوا ما فيه من المعارف و الأحكام و المواعظ و العبر، و كان لازمه أن يتقوا و يختاروا الدار الآخرة، و يتركوا أعراض الدنيا الفانية الصارفة عما عند الله من الثواب الدائم ﴿يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا اَلْأَدْنى‏َ و ينكبون على اللذائذ الفانية العاجلة، و لا يبالون بالمعصية و إن كثرت ﴿وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا قولا بغير الحق و لا يرجعون عن المعصية بالمرة و المرتين بل هم على قصد العود إليها كلما أمكن ﴿وَ إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ و لا يتناهون عما اقترفوه من المعصية.

﴿أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ اَلْكِتَابِ و هو الميثاق المأخوذ عليهم عند حملهم إياه ﴿أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى اَللَّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ و الحال أنهم درسوا ما فيه، و علموا بذلك أن قولهم:

﴿سَيُغْفَرُ لَنَا قول بغير الحق ليس لهم أن يتفوهوا به، و هو يجرئهم على معاصي الله و هدم أركان دينه. ﴿وَ الحال أن ﴿اَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ لدوام ثوابها و أمنها من كل مكروه ﴿أَ فَلاَ تَعْقِلُونَ.

 

 

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَ أَقَامُوا اَلصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُصْلِحِينَ قال في المجمع،: أمسك و مسك و تمسك و استمسك‏ بالشي‏ء بمعنى واحد أي اعتصم به. انتهى.

و تخصيص إقامة الصلاة بالذكر من بين سائر أجزاء الدين لشرفها و كونها ركنا من الدين يحفظ بها ذكر الله و الخضوع إلى مقامه الذي هو بمنزلة الروح الحية في هيكل الشرائع الدينية.

و الآية تعد التمسك بالكتاب إصلاحا و الإصلاح يقابل الإفساد و هو الإفساد في الأرض أو إفساد المجتمع البشري فيها، و لا تفسد الأرض و لا المجتمع البشري إلا بإفساد طريقة الفطرة التي فطر الله الناس عليها، و الدين الذي يشتمل عليه الكتاب الإلهي النازل في عصر من الأعصار هو المتضمن لطرق الفطرة بحسب ما يستدعيه استعداد أهله فإن الله سبحانه يذكر في كلامه أن الدين القيم الذي يقوم بحوائج الحياة هي الفطرة التي فطر الناس عليها، و الخلقة التي لا حقيقة لهم وراءها قال: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ اَلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ: الروم: ٣٠ ثم قال: ﴿إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللَّهِ اَلْإِسْلاَمُ: آل عمران: ١٩ و الإسلام هو التسليم لله سبحانه في سنته الجارية في تكوينه المبتنية عليها تشريعه.

فالآيتان - كما ترى - تناديان بأن دين الله سبحانه هو تطبيق الإنسان حياته على ما تقتضيه فيه قوانين التكوين و نواميسه حتى يقف بذلك موقفا تتحراه نفسية النوع الإنساني ثم يسير في مسيرها أي يعود بذلك إنسانا نسميه إنسانا طبيعيا و يتربى تربية يستدعيها ذاته بحسب ما ركب عليه تركيبه الطبيعي.

فما تقتضيه نفسية الإنسان الطبيعية من الخضوع إلى المبدإ الغيبي الذي يقوم بإيجاده و إبقائه و إسعاده، و توفيق شئون حياته مع القوانين الحاكمة في الكون حكومة حقيقية هو الدين المسمى بالإسلام الذي يدعو إليه القرآن و سائر كتب الله السماوية المنزلة على أنبيائه و رسله.

فإصلاح شئون الحياة الإنسانية و تخليصها من كل دخيل خرافي، و وضع الإصر

 

 

 و الأغلال التي اختلقتها الأوهام و الأهواء ثم وضعتها على الناس، جزء معنى الدين المسمى بالإسلام لا أثر من آثاره و حكم من أحكامه حتى تختلف فيه الآراء فيسلمه مسلم، و يرده، راد، و يبحث فيه باحث منصف فيتبع ما أدى إليه جهد نظره.

و بعبارة أخرى: الذي يدعي إليه الناس بمنطق الدين الإلهي هو الشرائع و السنن القائمة بمصالح العباد في حياتهم الدنيوية و الأخروية لا أنه يضع مجموعة من معارف و شرائع ثم يدعي أن المصالح الإنسانية تطابقه و هو يطابقها فافهم ذلك.

و إياك أن تتوهم أن الدين الإلهي مجموع أمور من معارف و شرائع جافة تقليدية لا روح لها إلا روح المجازفة بالاستبداد، و لا لسان لها إلا لسان التأمر الجاف و التحكم الجافي و قد قضى شارعها بوجوب اتباعها و الانقياد لها تجاه ما هيأ لهم بعد الموت من نعيم مخلد للمطيعين منهم، و العذاب المؤبد للعاصين، و لا رابط لها يربطها بالنواميس التكوينية المماسة للإنسان الحاكمة في حياته القائمة بشئونها القيمة بإصلاحها فتعود الأعمال الدينية أغلالا غلت بها أيدي الناس في دنياهم، و أما الآخرة فقد ضمنت إصلاحها إرادة مولوية إلهية فحسب، و ليس للمنتحل بالدين في دنياه من سعادة الحياة إلا ما استلذها بالعادة كمن اعتاد بالأفيون و السم حتى عاد يلتذ بما يتألم به المزاج الطبيعي السالم، و يتألم بما يلتذ به غيره.

فهذا من الجهل بالمعارف الدينية، و الفرية على ساحة شارعة الطاهرة يدفعه الكلام الإلهي فكم من آية تتبرأ من ذلك بتصريح أو تلويح أو بإشارة أو كناية و غير ذلك.

و بالجملة الكتاب الإلهي يتضمن مصالح العباد، و فيه ما يصلح المجتمع الإنساني بإجرائه فيه بل الكتاب الإلهي هو الكتاب الذي يشتمل على ذلك، و الدين الإلهي هو مجموع القوانين المصلحة، و مجموع القوانين المصلحة هو الدين فلا يدعو الدين الناس إلا إلى إصلاح أعمالهم و سائر شئون مجتمعهم و يسمى ذلك إسلاما لله لأن من جرى على مجرى الإنسان الطبيعي الذي خطه له التكوين فقد أسلم للتكوين و وافقه بأعماله فيما يقتضيه و موافقته و السير على المسير الذي مهده و خطه إسلام لله سبحانه في ما يريده منه.

و ليس يدعو الدين إلى متابعة مواد قوانينه و محتوياته ثم يدعي أن في ذلك

 

 

 خيرهم و سعادتهم حتى يكون لشاك أن يشك فيه.

و الآية أعني قوله: ﴿وَ اَلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ الآية في نفسها عامة مستقلة لكنها بحسب دخولها في سياق الكلام في بني إسرائيل معتنية بشأنهم، و المراد بالكتاب بهذا النظر التوراة أو هي و الإنجيل.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذْ نَتَقْنَا اَلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ الآية.

النتق

قلع الشي‏ء من أصله، و

الظلة

هي الغمامة، و ما يستظل بها من نحو السقف، و الباقي ظاهر.

و الآية تقص رفع الطور فوق رءوس بني إسرائيل، و قد تقدمت هذه القصة مكررة في سورتي البقرة و النساء.

بحث روائي‏

 في تفسير القمي، عن أبيه عن الحسن بن محبوب عن ابن أبي عمير عن أبي عبيدة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : وجدنا في كتاب علي (عليه السلام) أن قوما من أهل أيلة من قوم ثمود و أن الحيتان كانت سيقت إليهم يوم السبت ليختبر الله طاعتهم في ذلك فشرعت إليهم يوم سبتهم في ناديهم و قدام أبوابهم في أنهارهم و سواقيهم فبادروا إليها فأخذوا يصطادونها و يأكلونها فلبثوا في ذلك ما شاء الله لا ينهاهم الأحبار، و لا يمنعهم العلماء عن صيدها، ثم إن الشيطان أوحى إلى طائفة منهم أنما نهيتم عن أكلها يوم السبت و لم تنهوا عن صيدها - فاصطادوها يوم السبت و أكلوها في ما سوى ذلك من الأيام.

فقالت طائفة منهم: الآن نصطادها فعتت و انحازت طائفة أخرى منهم ذات اليمين فقالوا: ننهاكم عن عقوبة الله أن تتعرضوا لخلاف أمره، و اعتزلت طائفة منهم ذات اليسار فسكتت و لم تعظهم، فقالت للطائفة التي وعظتهم: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اَللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً؟ فقالت الطائفة التي وعظتهم: ﴿مَعْذِرَةً إِلى‏ رَبِّكُمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، فقال الله عز و جل: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ  يعني لما تركوا ما وعظوا به مضوا على الخطيئة فقالت الطائفة التي وعظتهم: لا و الله لا نجامعكم و لا نبايتكم الليلة في مدينتكم هذه التي عصيتم الله فيها مخافة أن ينزل عليكم البلاء فيعمنا معكم.

 

 

 قال: فخرجوا عنهم من المدينة مخافة أن يصيبهم البلاء فنزلوا قريبا من المدينة فباتوا تحت السماء فلما أصبح أولياء الله المطيعون لأمر الله غدوا لينظروا ما حال أهل المعصية فأتوا باب المدينة فإذا هو مصمت فدقوا فلم يجاوبوا و لم يسمعوا منها حس أحد فوضعوا فيها سلما على سور المدينة ثم أصعدوا رجلا منهم فأشرف على المدينة فنظر فإذا هو بالقوم قرد يتعاونون و لهم أذناب فكسروا الباب فعرفت الطائفة أنسابها من الإنس، و لم يعرف الإنس أنسابها من القردة فقال القوم للقردة: أ لم ننهكم؟.

فقال علي (عليه السلام): و الذي فلق الحبة و برأ النسمة - إني لأعرف أنسابها من هذه الأمة لا ينكرون و لا يغيرون - بل تركوا ما أمروا به فتفرقوا، و قد قال الله: ﴿فَبُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ، فقال الله: ﴿أَنْجَيْنَا اَلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلسُّوءِ وَ أَخَذْنَا اَلَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ.:

أقول: و رواه العياشي في تفسيره، عن أبي عبيدة عن أبي جعفر (عليه السلام). و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن عبد الرزاق و ابن جرير و ابن أبي حاتم و البيهقي في سننه عن عكرمة عن ابن عباس غير أن فيها أن المذكورين في الآية حي من اليهود من أهل أيلة و ظاهره أنهم كانوا من بني إسرائيل و رواية أبي جعفر (عليه السلام) تصرح بأنهم كانوا من قوم ثمود، و ليس من البعيد أن يكونوا قوما من عرب ثمود دخلوا في دين اليهود لقرب دارهم و جوارهم فإن أيلة كما يقال: كانت بلدة بين مصر و المدينة على شاطئ البحر.

و ربما قيل: إن القرية التي أشارت إليها الآية هي مدين، و قيل: هي طبرية، و قيل: هي قرية يقال لها: مقنا، بين مدين و عينونا.

و في رواية ابن عباس التي أشرنا إليها و غيرها مما روي عنه أيضا أنه كان يبكي و يقول: نجا الناهون، و هلك الفاعلون، و لا أدري ما فعل بالساكتين، و في رواية عكرمة: قلت لابن عباس: أي جعلني الله فداك أ لا ترى أنهم كرهوا ما هم عليه و خالفوهم و قالوا لم تعظون قوما الله مهلكهم؟ قال: فأمرني فكسيت ثوبين غليظين.

يريد أنه استحسن قولي بنجاتهم لكراهتهم فعلهم و اعتقادهم بأنهم معاقبون لا محالة فخلع علي بثوبين، و أخذ بقولي.

و قد أخطأ عكرمة فإن القوم و إن كانوا كرهوا فعلهم و لم يشاركوهم في الصيد

 

 

 المحرم لكنهم اقترفوا معصية هي أعظم من ذلك و هو ترك النهي عن المنكر، و قد نبههم الناهون بذلك إذ قالوا: ﴿مَعْذِرَةً إِلى‏َ رَبِّكُمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، و كلامهم يدل على أن المقام لم يكن مقام اليأس عن تأثير الموعظة حتى يسقط بذلك التكليف، و لما يئس منهم الناهون هجروهم و فارقوهم، و لم يهجرهم الآخرون و لم يفارقوهم على ما في الروايات.

على أن الله تعالى قال: ﴿أَنْجَيْنَا اَلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلسُّوءِ وَ أَخَذْنَا اَلَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فلم يذكر في جانب النجاة إلا الذين ينهون عن السوء و أخذ في جانب الأخذ الذين ظلموا دون الذين صادوا، و لا مانع من شمول ﴿اَلَّذِينَ ظَلَمُوا لأولئك التاركين للنهي عن المنكر.

و أما قوله: ﴿فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً فإن كان معناه عتوا عن ترك ما نهوا عنه كما تقدم عن المفسرين كان هذا العذاب بحسب دلالة هذه الآية مختصا بالصائدين لكنها لا تمنع عموم الآية السابقة للصائدين و الساكتين جميعا لاشتراكهم في الظلم و الفسق، و إن كان معنى الآية الإعراض عما نهوا عنه من غير تقدير الترك و ما بمعناه اختصت الآية ببيان عذاب الساكتين و كان عذاب الصائدين مبينا في الآية السابقة:

﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ الآية كما يومئ إليه بعض الروايات الآتية.

و في المجمع،: أنه هلكت الفرقتان، و نجت الفرقة الناهية: روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام).

 أقول: و لا ينافيه نص الآية على مسخ العاتين فإن الهلاك يعم مثل المسخ.

على أن الأخبار متظافرة في أن الممسوخ لا يعيش بعد المسخ إلا أياما ثم يهلك.

 و في الكافي، عن سهل بن زياد عن عمرو بن عثمان عن عبد الله بن المغيرة عن طلحة بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا اَلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلسُّوءِ قال: كانوا ثلاثة أصناف: صنف ائتمروا و أمروا و نجوا، و صنف ائتمروا و لم يأمروا فمسخوا، و صنف لم يأتمروا و لم يأمروا فهلكوا.

أقول: و الرواية كما ترى مبنية على كون قوله: ﴿فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً الآية ناظرا إلى عذاب الساكتين دون المرتكبين للصيد المحرم

 

 

 و معنى ﴿عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا كفوا عن الصيد الذي نهوا عنه و لا حاجة حينئذ إلى تقدير الترك و نحوه في الكلام و يبقى لبيان عذاب الفرقة الأخرى قوله في الآية السابقة.

و لا مانع من هذا المعنى إلا أن مقتضى المقام أن يذكر السبب لعذاب الساكتين كفهم عن موعظة الفاعلين لا عتوهم عما نهوا عنه مع ما في استعمال العتو في مورد الكف و الإعراض من البعد، و الرواية مع ذلك ضعيفة- و قد رواها الصدوق بالسند بعينه عن طلحة عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية و فيها: قال: كانوا ثلاثة أصناف:

صنف ائتمروا و أمروا، و صنف ائتمروا و لم يأمروا، و صنف لم يأتمروا و لم يأمروا فهلكوا - و و رواها العياشي عن طلحة عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام) في الآية قال *: افترق القوم ثلاث فرق فرقة انتهت و اعتزلت، و فرقة أقامت و لم يقارف الذنوب، و فرقة اقترفت الذنوب - فلم ينج من العذاب إلا من انتهت - قال جعفر: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): ما صنع بالذين أقاموا و لم يقارفوا الذنوب؟ قال أبو جعفر (عليه السلام):

بلغني أنهم صاروا ذرا، و الظاهر أنها جميعا رواية واحدة على ما في سندها من الضعف، و في متنها من التشويش و الاختلاف.

 و في الكافي، بإسناده عن إسحاق بن عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : «إن الله خص عباده بآيتين من كتابه: أن لا يقولوا حتى يعلموا، و لا يردوا ما لم يعلموا قال الله عز و جل: ﴿أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ اَلْكِتَابِ أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى اَللَّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ و قال:

﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ.:

أقول: و رواه العياشي عن إسحاق عنه (عليه السلام)، و روي مثله عن إسحاق بن عبد العزيز عن أبي الحسن الأول (عليه السلام). و في تفسير القمي،: في معنى قوله تعالى: ﴿وَ إِذْ نَتَقْنَا اَلْجَبَلَ الآية قال الصادق (عليه السلام): لما أنزل الله التوراة على بني إسرائيل لم يقبلوه - فرفع الله عليهم جبل طور سيناء فقال لهم موسى: إن لم تقبلوا وقع عليكم الجبل فقبلوه و طأطئوا رءوسهم. و في الإحتجاج، عن أبي بصير قال : كان مولانا أبو جعفر محمد بن علي (عليه السلام) جالسا في الحرم و حوله جماعة من أوليائه إذ أقبل طاووس اليماني في جماعة من أصحابه. ثم قال لأبي جعفر (عليه السلام): أ تأذن لي في السؤال؟ قال: أذنا لك فاسأل. فسأله عن سؤال

 

 

 و أجابه و كان فيما سأله قال: فأخبرني عن طائر طار و لم يطر قبلها و لا بعدها ذكره الله عز و جل في القرآن، ما هو؟ فقال: طور سيناء أطاره الله عز و جل على بني إسرائيل الذين أظلهم بجناح منه فيه ألوان العذاب حتى قبلوا التوراة، و ذلك قوله عز و جل: ﴿وَ إِذْ نَتَقْنَا اَلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَ ظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ الآية.

أقول: و قد روي ما في معنى الرواية الأولى من طرق أهل السنة- عن ثابت بن الحجاج قال: جاءتهم التوراة جملة واحدة فكبر عليهم فأبوا أن يأخذوه حتى ظلل الله عليهم الجبل فأخذوه عند ذلك. و الرواية الثانية من طرقهم عن ابن عباس في مسائل كتبها هرقل ملك الروم إلى معاوية يسأله عنها فقيل له: لست هناك و إنك متى تخطئ شيئا في كتابك إليه يغتمزه فيك فاكتب إلى ابن عباس فكتب إليه بها فأرسل ذلك إلى قيصر فقال قيصر: ما يعلم هذا إلا نبي أو أهل بيت نبي.

و اعلم أن في الآية بعض روايات أخر تقدمت في نظيرة الآية من سورة البقرة فراجعها إن شئت.

[سورة الأعراف (٧): الآیات ١٧٢ الی ١٧٤]

﴿وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلى‏ شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ١٧٢ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَ فَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ اَلْمُبْطِلُونَ ١٧٣ وَ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآيَاتِ وَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ١٧٤  

 

 

بيان

الآيات تذكر الميثاق من بني آدم على الربوبية و هي من أدق الآيات القرآنية معنى، و أعجبها نظما.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلى‏ شَهِدْنَا أخذ الشي‏ء من الشي‏ء يوجب انفصال المأخوذ من المأخوذ منه و استقلاله دونه بنحو من الأنحاء، و هو يختلف باختلاف العنايات المتعلقة بها و الاعتبارات المأخوذة فيها كأخذ اللقمة من الطعام و أخذ الجرعة من ماء القدح و هو نوع من الأخذ، و أخذ المال و الأثاث من زيد الغاصب أو الجواد أو البائع أو المعير و هو نوع آخر، أو أنواع مختلفة أخرى، و كأخذ العلم من العالم و أخذ الأهبة من المجلس و أخذ الحظ من لقاء الصديق و هو نوع و أخذ الولد من والده للتربية و هو نوع إلى غير ذلك.

فمجرد ذكر الأخذ من الشي‏ء لا يوضح نوعه إلا ببيان زائد، و لذلك أضاف الله سبحانه إلى قوله: ﴿وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ الدال على تفريقهم و تفصيل بعضهم من بعض، قوله: ﴿مِنْ ظُهُورِهِمْ ليدل على نوع الفصل و الأخذ، و هو أخذ بعض المادة منها بحيث لا تنقص المادة المأخوذ منها بحسب صورتها و لا تنقلب عن تمامها و استقلالها ثم تكميل الجزء المأخوذ شيئا تاما مستقلا من نوع المأخوذ منه فيؤخذ الولد من ظهر من يلده و يولده، و قد كان جزء ثم يجعل بعد الأخذ و الفصل إنسانا تاما مستقلا من والديه بعد ما كان جزء منهما.

ثم يؤخذ من ظهر هذا المأخوذ مأخوذ آخر و على هذه الوتيرة حتى يتم الأخذ و ينفصل كل جزء عما كان جزء منه، و يتفرق الأناسي و ينتشر الأفراد و قد استقل كل منهم عمن سواه و يكون لكل واحد منهم نفس مستقلة لها ما لها و عليها ما عليها، فهذا مفاد قوله: ﴿وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ و لو قال: أخذ ربك من بني آدم ذريتهم أو نشرهم و نحو ذلك بقي المعنى على إبهامه.

و قوله: ﴿وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ ينبئ عن فعل آخر إلهي تعلق

 

 

 بهم بعد ما أخذ بعضهم من بعض و فصل بين كل واحد منهم و غيره و هو إشهادهم على أنفسهم، و الإشهاد على الشي‏ء هو إحضار الشاهد عنده و إراءته حقيقته ليتحمله علما تحملا شهوديا فإشهادهم على أنفسهم هو إراءتهم حقيقة أنفسهم ليتحملوا ما أريد تحملهم من أمرها ثم يؤدوا ما تحملوه إذا سئلوا.

و للنفس في كل ذي نفس جهات من التعلق و الارتباط بغيرها يمكن أن يستشهد الإنسان على بعضها دون بعض غير أن قوله: ﴿أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ يوضح ما أشهدوا لأجله و أريد شهادتهم عليه، و هو أن يشهدوا ربوبيته سبحانه لهم فيؤدوها عند المسألة.

فالإنسان و إن بلغ من الكبر و الخيلاء ما بلغ، و غرته مساعدة الأسباب ما غرته و استهوته لا يسعه أن ينكر أنه لا يملك وجود نفسه و لا يستقل بتدبير أمره، و لو ملك نفسه لوقاها مما يكرهه من الموت و سائر آلام الحياة و مصائبها، و لو استقل بتدبير أمره لم يفتقر إلى الخضوع قبال الأسباب الكونية، و الوسائل التي يرى لنفسه أنه يسودها و يحكم فيها ثم هي كالإنسان في الحاجة إلى ما وراءها، و الانقياد إلى حاكم غائب عنها يحكم فيها لها أو عليها، و ليس إلى الإنسان أن يسد خلتها و يرفع حاجتها.

فالحاجة إلى رب مالك مدبر حقيقة الإنسان، و الفقر مكتوب على نفسه، و الضعف مطبوع على ناصيته، لا يخفى ذلك على إنسان له أدنى الشعور الإنساني، و العالم و الجاهل و الصغير و الكبير و الشريف و الوضيع في ذلك سواء.

فالإنسان في أي منزل من منازل الإنسانية نزل يشاهد من نفسه أن له ربا يملكه و يدبر أمره، و كيف لا يشاهد ربه و هو يشاهد حاجته الذاتية؟ و كيف يتصور وقوع الشعور بالحاجة من غير شعور بالذي يحتاج إليه؟ فقوله: ﴿أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ بيان ما أشهد عليه، و قوله: ﴿قَالُوا بَلى‏َ شَهِدْنَا اعتراف منهم بوقوع الشهادة و ما شهدوه، و لذا قيل: إن الآية تشير إلى ما يشاهده الإنسان في حياته الدنيا أنه محتاج في جميع جهات حياته من وجوده و ما يتعلق به وجوده من اللوازم و الأحكام، و معنى الآية أنا خلقنا بني آدم في الأرض و فرقناهم و ميزنا بعضهم من بعض بالتناسل و التوالد، و أوفقناهم على احتياجهم و مربوبيتهم لنا فاعترفوا بذلك قائلين: بلى شهدنا أنك ربنا.

 

 

 و على هذا يكون قولهم: ﴿بَلى‏َ شَهِدْنَا من قبيل القول بلسان الحال أو إسناد اللازم القول إلى القائل بالملزوم حيث اعترفوا بحاجاتهم و لزمه الاعتراف بمن يحتاجون إليه، و الفرق بين لسان الحال، و القول بلازم القول: أن الأول انكشاف المعنى عن الشي‏ء لدلالة صفة من صفاته و حال من أحواله عليه سواء شعر به أم لا كما تفصح آثار الديار الخربة عن حال ساكنيها، و كيف لعب الدهر بهم؟ و عدت عادية الأيام عليهم؟ فأسكنت أجراسهم و أخمدت أنفاسهم، و كما يتكلم سيماء البائس المسكين عن فقره و مسكنته و سوء حاله. و الثاني انكشاف المعنى عن القائل لقوله بما يستلزمه أو تكلمه بما يدل عليه بالالتزام.

فعلى أحد هذين النوعين من القول أعني القول بلسان الحال و القول بالاستلزام يحمل اعترافهم المحكي بقوله تعالى: ﴿قَالُوا بَلى‏َ شَهِدْنَا و الأول أقرب و أنسب فإنه لا يكتفي في مقام الشهادة إلا بالصريح منها المدلول عليه بالمطابقة دون الالتزام.

و من المعلوم أن هذه الشهادة على أي نحو تحققت فهي من سنخ الاستشهاد المذكور في قوله: ﴿أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ فالظاهر أنه قد استوفى الجواب بعين اللسان الذي سألهم به، و لذلك كان هناك نحو ثالث يمكن أن يحمل عليه هذه المساءلة و المجاوبة فإن الكلام الإلهي يكشف به عن المقاصد الإلهية بالفعل، و الإيجاد كلام حقيقي و إن كان بنحو التحليل - كما تقدم مرارا في مباحثنا السابقة فليكن هنا قوله: ﴿أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ و قولهم: ﴿بَلى‏َ شَهِدْنَا من ذاك القبيل، و سيجي‏ء للكلام تتمة.

و كيف كان فقوله: ﴿وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ الآية يدل على تفصيل بني آدم بعضهم من بعض، و إشهاد كل واحد منهم على نفسه، و أخذ الاعتراف على الربوبية منه، و يدل ذيل الآية و ما يتلوه أعني قوله: ﴿أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَ فَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ اَلْمُبْطِلُونَ على الغرض من هذا الأخذ و الإشهاد.

و هو على ما يفيده السياق إبطال حجتين للعباد على الله و بيان أنه لو لا هذا الأخذ و الإشهاد و أخذ الميثاق على انحصار الربوبية كان للعباد أن يتمسكوا يوم القيامة

 

 

[1]   سورة طه‏

[2]   طه: ٩٤.

[3]   طه: ٨٥.

[4]   رواها في الكافي بإسناده عن عبد الله بن محمد الحنفي و عقبة جميعا عنه عليه السلام، و سنوردها إن شاء الله في ذيل قوله تعالى: «فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل» يونس: ٧٤.

[5]   الحديث منقول بالمعنى.

[6]   كذا في النسختين المطبوعتين من البرهان و لعله تصحيف: إذ هم أعلم الأمم.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=2062
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 05 / 10
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 03