• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء الثامن) ، تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده) .
                    • الموضوع : من ص 81 الى ص 160 .

من ص 81 الى ص 160

الإنسان في حياته من الرزق إلا بما يلائم طباع قواه و أدواته التي جهز بها و يساعده على بقاء تركيبه الذي ركب به، و ما جهز بشي‏ء و لا ركب من جزء إلا لحاجة له إليه فلو تعدى في شي‏ء مما يلائم فطرته إلى ما لا يلائمها طبعا اضطر إلى تتميم النقص الوارد عليه في القوة المربوطة به إلى صرف شي‏ء من سائر القوى فيه كالمنهوم الشره الذي يفرط في الأكل فيصيبه آفات الهضم. فيضطر إلى استعمال الأدوية المصلحة لجهاز الهضم و المشهية للمعدة و لا يزال يستعمل و يفرط حتى يعتاد بها فلا تؤثر فيه فيصير إنسانا عليلا تشغله العلة عن عامة واجبات الحياة، و أهمها الفكر السالم الحر و على هذا القياس.

و التعدي عن طيب الرزق يبدل الإنسان إلى شي‏ء آخر لا هو مخلوق لهذا العالم و لا هذا العالم مخلوق له و أي خير يرجى في إنسان يتوخى أن يعيش في ظرف غير ظرفه الذي أعده له الكون، و يسلك طريقا لم تهيئه له الفطرة، و ينال غاية غير غايته و هو أن يتوسع بالتمتع بكل ما تزينه له الشهوة و الشره، و يصوره له الخيال بآخر ما يقدر و أقصى ما يمكن.

و الله سبحانه يذكر في هذه الآية أن هناك زينة أخرجها لعباده و أظهرها و بينها لهم من طريق الإلهام الفطري، و لا تلهم الفطرة إلا بشي‏ء قامت حاجة الإنسان إليه بحسبها.

و لا دليل على إباحة عمل من الأعمال و سلوك طريق من الطرق أقوى من الحاجة إليه بحسب الوجود و الطبيعة الذي يدل على أن الله سبحانه هو الرابط بين الإنسان المحتاج و بين ما يحتاج إليه بما أودع في نفسه من القوى و الأدوات الباعثة له إليه بحسب الخلقة و التكوين.

ثم يذكر بعطف الطيبات من الرزق على الزينة في حيز الاستفهام الإنكاري أن هناك أقساما من الرزق طيبة ملائمة لطباع الإنسان يشعر بطيبه من طريق قواه المودعة في وجوده، و لا يشعر بها و لا يتنبه لها إلا لقيام حاجته في الحياة إليها و إلى التصرف فيها تصرفا يستمد به لبقائه، و لا دليل على إباحة شي‏ء من الأعمال أقوى من الحاجة الطبيعية و الفقر التكويني إليه كما سمعت.

 

 

 ثم يذكر بالاستفهام الإنكاري أن إباحة زينة الله و الطيبات من الرزق مما لا ينبغي أن يرتاب فيها فهو من إمضاء الشرع لحكم العقل و القضاء الفطري.

و إباحة الزينة و طيبات الرزق لا تعدو مع ذلك حد الاعتدال فيها و الوسط العدل بين الإفراط و التفريط فإن ذلك هو الذي يقضي به الفطرة، و قد قال الله سبحانه في الآية السابقة: ﴿وَ لاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ و قال فيما قبل ذلك: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ.

ففي التعدي إلى أحد جانبي الإفراط و التفريط من تهديد المجتمع الإنساني بالانحطاط، و فساد طريق السعادة ما في انثلام ركن من أركان البناء من تهديده بالانهدام فقلما ظهر فساد في البر و البحر و تنازع يفضي إلى الحروب المبيدة للنسل المخربة للمعمورة إلا عن إتراف الناس و إسرافهم في أمر الزينة أو الرزق، و هو الإنسان إذا جاوز حد الاعتدال، و تعدى ما خط له من وسط الجادة ذهب لوجهه لا يقف على حد و لا يلوي على شي‏ء فمن الحري أن لا يرفع عنه سوط التربية و يذكر حتى بأوضح ما يقضي به عقله، و من هذا القليل الأمر الإلهي بضروريات الحياة كالأكل و الشرب و اللبس و السكنى و أخذ الزينة.

قال صاحب المنار، في بعض كلامه و ما أجود ما قال: و إنما يعرفها يعني قيمة الأمر بأخذ الزينة مع بساطته و وضوحه من قراء تواريخ الأمم و الملل، و علم أن أكثر المتوحشين الذين يعيشون في الحرجات و الغابات أفرادا و جماعات يأوون إلى الكهوف و المغارات، و القبائل الكثيرة الوثنية في بعض جزائر البحار و جبال إفريقيا كلهم يعيشون عراة الأجسام نساء و رجالا، و أن الإسلام ما وصل إلى قوم منهم إلا و علمهم لبس الثياب بإيجابه للستر و الزينة إيجابا شرعيا.

و لما أسرف بعض دعاة النصرانية الأوروبيين في الطعن في الإسلام لتنفير أهله منه و تحويلهم إلى ملتهم و لتحريض أوربا عليهم رد عليهم بعض المنصفين منهم فذكر في رده أن في انتشار الإسلام في إفريقيا منة على أوربا بنشره للمدنية في أهلها بحملهم على ترك العرى و إيجابه لبس الثياب الذي كان سببا لرواج تجارة النسج الأوروبية فيهم.

 

 

 بل أقول: إن بعض الأمم الوثنية ذات الحضارة و العلوم و الفنون كان يغلب فيها معيشة العرى حتى إذا ما اهتدى بعضهم بالإسلام صاروا يلبسون و يتجملون ثم صاروا يصنعون الثياب و قلدهم جيرانهم من الوثنيين بعض التقليد.

هذه بلاد الهند على ارتقاء حضارة الوثنيين فيها قديما و حديثا لا يزال ألوف الألوف من نسائهم و رجالهم عراة أو أنصاف أو أرباع عراة فترى بعض رجالهم في معاهد تجارتهم و صناعتهم بين عار لا يستر إلا السوأتين و يسمونهما «سبيلين» و هي الكلمة العربية التي يستعملها الفقهاء في باب نواقض الوضوء أو ساتر لنصفه الأسفل فقط و امرأة مكشوفة البطن و الفخذين أو النصف الأعلى من الجسم كله أو بعضه، و قد اعترف بعض علمائهم المنصفين بأن المسلمين هم الذين علموهم لبس الثياب، و الأكل في الأواني و لا يزال أكثر فقرائهم يضعون طعامهم على ورق الشجر و يأكلون منه، و لكنهم خير من كثير من الوثنيين سترا و زينة لأن المسلمين كانوا حكامهم، و قد كانوا و لا يزالون من أرقى مسلمي الأرض علما و عملا و تأثيرا في وثني بلادهم.

و أما المسلمون في بلاد الشرق التي يغلب عليها الجهل فهم أقرب إلى الوثنية منهم إلى الإسلام في اللباس و كثير من الأعمال الدينية، و منهم نساء مسلمي «سيام» اللاتي لا ترين في أنفسهن عورة إلا السوأتين كما بين هذا من قبل فحيث يقوى الإسلام يكون الستر و الزينة اللائقة بكرامة البشر و رقيهم.

فمن عرف مثل هذا عرف قيمة هذا الأصل الإصلاحي في الإسلام و لو لا أن جعل هذا الدين المدني الأعلى أخذ الزينة من شرع الله أوجبه على عباده لما نقل أمما و شعوبا كثيرة من الوحشية الفاحشة إلى المدنية الراقية، و إنما يجهل هذا الفضل له من يجهل التاريخ و إن كان من أهله بل لا يبعد أن يوجد في متحذلقة المتفرنجين من يجلس في ملهى أو مقهى أو حانة متكئا مميلا طربوشه على رأسه يقول: ما معنى جعل أخذ زينة اللباس من أمور الدين؟ و هو من لوازم البشر لا يحتاجون فيه إلى وحي إلهي و لا شرع ديني، و قد يقول مثل هذا في قوله تعالى: ﴿كُلُوا وَ اِشْرَبُوا انتهى.

و مما يناسب المقام‏

ما روي: أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال ذات يوم لعلي بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شي‏ء، و العلم علمان: علم

 

 

 الأديان و علم الأبدان! فقال له علي: قد جمع الله الطب كله في نصف آية و هو قوله:

﴿كُلُوا وَ اِشْرَبُوا وَ لاَ تُسْرِفُوا و جمع نبينا الطب في قوله: «المعدة بيت الداء، و الحمية رأس كل دواء، و أعط كل بدن ما عودته» فقال الطبيب: ما ترك كتابكم و لا نبيكم لجالينوس طبا.

 قوله تعالى: ﴿قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ لا ريب أن الخطاب في صدر الآية إما لخصوص الكفار أو يعمهم و المؤمنين جميعا كما يعمهم جميعا ما في الآية السابقة من الخطاب بقوله: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا وَ لاَ تُسْرِفُوا و لازمه أن تكون الزينة و طيبات الرزق موضوعة على الشركة بين الناس جميعا، مؤمنهم و كافرهم.

فقوله: ﴿قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا إلخ، مسوق لبيان ما خص الله سبحانه به المؤمنين من عباده من الكرامة و المزية، و إذ قد اشتركوا في نعمه في الدنيا فهي خالصة لهم في الآخرة، و لازم ذلك أن يكون قوله: ﴿فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا متعلقا بقوله:

﴿آمَنُوا و قوله: ﴿يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ متعلقا بما تعلق به قوله: ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا و هو قولنا كائنة أو ما يقرب منه، «و ﴿خَالِصَةً حال عن الضمير المؤنث و قدمت على قوله: ﴿يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ لتكون فاصلة بين قوليه: ﴿فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا و ﴿يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ و المعنى: قل هي للمؤمنين يوم القيامة و هي خالصة لهم لا يشاركهم فيها غيرهم كما شاركوهم في الدنيا فمن آمن في الدنيا ملك نعمها يوم القيامة.

و بهذا البيان يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالخلوص إنما هو الخلوص من الهموم و المنغصات و المعنى: هي في الحياة الدنيا للذين آمنوا غير خالصة من الهموم و الأحزان و المشقة، و هي خالصة يوم القيامة من ذلك.

و ذلك أنه ليس في سياق الآية و لا في سياق ما تقدمها من الآيات إشعار باحتفاف النعم الدنيوية بما ينغص عيش المتنعمين بها و يكدرها عليهم حتى يكون قرينة على إرادة ما ذكره من معنى الخلوص.

و كذا ما في قول بعض آخر: إن قوله: ﴿فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا متعلق بما تعلق به قوله ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا و المعنى: هي ثابتة للذين آمنوا بالأصالة و الاستحقاق في الحياة

 

 

 الدنيا، و لكن يشاركهم غيرهم فيها بالتبع لهم و إن لم يستحقها مثلهم، و هي خالصة لهم يوم القيامة أو حال كونها خالصة لهم يوم القيامة فقد قرأ نافع ﴿خَالِصَةً بالرفع على أنها خبر و الباقون بالنصب على الحالية و ذلك أن المؤمنين هم الذين ينتهي إليهم العلوم النافعة في الحياة الصالحة، و الأوامر المحرضة لإصلاح الحياة بأخذ الزينة و الارتزاق بالطيبات و القيام بواجبات المعاش ثم التفكر في آيات الآفاق و الأنفس المؤدي إلى إيجاد الصناعات و الفنون المستخدمة في الرقي في المدنية و الحضارة، و معرفة قدرها و الشكر عليها. كل ذلك من طريق الوحي و النبوة.

وجه فساده: أنه إن أراد أن ما ذكره من الأصالة و التبعية هو مدلول الآية فمن الواضح أن الآية أجنبية عن الدلالة على ذلك، و إن أراد أن الآية تفيد أن النعم الدنيوية للمؤمنين ثم بينت مشاركة الكفار لهم فيها و أن ذلك بالأصالة و التبعية فقد عرفت أن الآية لا تدل إلا على اشتراك الطائفتين معا في النعم الدنيوية لا اختصاص المؤمنين بها في الدنيا فأين حديث الأصالة و التبعية.

بل ربما كان الظاهر من أمثال قوله: ﴿وَ لَوْ لاَ أَنْ يَكُونَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ  إلى أن قال ﴿وَ إِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا وَ اَلْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ: الزخرف: ٣٥، خلاف ذلك و أن زهرة الحياة الدنيا أجدر أن يخصوا به.

و قد امتن الله تعالى في ذيل الآية على أهل العلم بتفصيل البيان إذ قال: ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.

قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ إلى آخر الآية، قد تقدم البحث المستوفى عن مفردات الآية فيما مر، و إن

الفواحش‏

 هي المعاصي البالغة قبحا و شناعة كالزنا و اللواط و نحوهما، و

الإثم‏

 هو الذنب الذي يستعقب انحطاط الإنسان في حياته و ذلة و هوانا و سقوطا كشرب الخمر الذي يستعقب للإنسان تهلكة في جاهه و ماله و عرضه و نفسه و نحو ذلك، و

البغي‏

 هو طلب الإنسان ما ليس له بحق كأنواع الظلم و التعدي على الناس و الاستيلاء غير المشروع عليهم، و وصفه بغير الحق من قبيل التوصيف باللازم نظير التقييد الذي في قوله: ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً.

 

 

و كان إلقاء الخطاب بإباحة الزينة و طيبات الرزق داعيا لنفس السامع إلى أن يحصل على ما حرمه الله فألقى الله سبحانه في هذه الآية جماع القول في ذلك، و لا يشذ عما ذكره شي‏ء من المحرمات الدينية، و هي تنقسم بوجه إلى قسمين: ما يرجع إلى الأفعال و هي الثلاثة الأول، و ما يرجع إلى الأقوال و الاعتقادات و هو الأخيران، و القسم الأول منه ما يرجع إلى الناس و هو البغي بغير الحق، و منه غيره و هو إما ذو قبح و شناعة فالفاحشة، و إما غيره فالإثم، و القسم الثاني إما شرك بالله أو افتراء على الله سبحانه.

قوله تعالى: ﴿وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إلى آخر الآية هي حقيقة مستخرجة من قوله تعالى في ذيل القصة: ﴿قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَ فِيهَا تَمُوتُونَ وَ مِنْهَا تُخْرَجُونَ نظير الأحكام الآخر المستخرجة منها المذكورة سابقا، و مفاده أن الأمم و المجتمعات لها أعمار و آجال نظير ما للأفراد من الأعمار و الآجال.

و ربما استفيد من هذا التفريع و الاستخراج أن قوله تعالى في ذيل القصة سابقا:

﴿قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ إلخ، راجع إلى حياة كل فرد فرد و كل أمة أمة، و هي بعض عمر الإنسانية العامة، و إن قوله قبله: ﴿وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتَاعٌ إِلى‏َ حِينٍ راجع إلى حياة النوع إلى حين و هو حين الانقراض أو البعث، و هذا هو عمر الإنسانية العامة في الدنيا.

قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي إلى آخر الآيتين. ﴿إِمَّا أصله إن الشرطية دخلت على ما، و في شرطها النون الثقيلة، و كأن ذلك يفيد أن الشرط محقق لا محالة، و المراد بقص الآيات بيانها و تفصيلها لما فيه من معنى القطع و الإبانة عن مكمن الخفاء.

و الآية إحدى الخطابات العامة المستخرجة من قصة الجنة المذكورة هاهنا و هي رابعها و آخرها يبين للناس التشريع الإلهي العام للدين باتباع الرسالة و طريق الوحي، و الأصل المستخرج عنه هو مثل قوله في سورة طه: ﴿قَالَ اِهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً إلخ، فبين أن إتيان الهدى منه إنما يكون بطريق الرسالة.

 

 

بحث روائي‏

 في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله: ﴿قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ قال: نزلت في الخمس من قريش و من كان يأخذ مأخذها من قبائل العرب: الأنصار الأوس و الخزرج و خزاعة و ثقيف و بني عامر بن صعصعة و بطون كنانة بن بكر كانوا لا يأكلون اللحم، و لا يأتون البيوت إلا من أدبارها، و لا يضطربون وبرا و لا شعرا إنما يضطربون الأدم، و يلبسون صبيانهم الرهاط، و كانوا يطوفون عراة إلا قريشا، فإذا قدموا طرحوا ثيابهم التي قدموا فيها، و قالوا: هذه ثيابنا التي تطهرنا إلى ربنا فيها من الذنوب و الخطايا ثم قالوا لقريش: من يعيرنا مئزرا؟ فإن لم يجدوا طافوا عراة فإذا فرغوا من طوافهم أخذوا ثيابهم التي كانوا وضعوا. و فيه، أخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال: كان الناس يطوفون بالبيت عراة يقولون: لا نطوف في ثياب أذنبنا فيها فجاءت امرأة فألقت ثيابها و طافت و وضعت يدها على قبلها و قالت:

اليوم يبدو بعضه أو كله *** فما بدا منه فلا أحله‏

 فنزلت هذه الآية: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ  إلى قوله ﴿وَ اَلطَّيِّبَاتِ مِنَ اَلرِّزْقِ. أقول: و روي ما يقرب منه عن ابن عباس و مجاهد و عطاء لكنك قد عرفت أن الآيات المصدرة بقوله ﴿يَا بَنِي آدَمَ أحكام و شرائع عامة لجميع بني آدم من غير أن يختص بأمة دون أمة فهذه الآحاد من الأخبار لا تزيد على اجتهاد من المنقول عنهم لا حجية فيها، و أعدل الروايات في هذا المعنى الروايتان الآتيتان.

 في الدر المنثور،: أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عباس قال : كان رجال يطوفون بالبيت عراة فأمرهم الله بالزينة و الزينة اللباس و هو ما يواري السوآت و ما سوى ذلك من جيد البز و المتاع. و فيه،: أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال :كان أهل الجاهلية يحرمون أشياء أحلها الله من الثياب و غيرها و هو قول الله: ﴿قُلْ أَ رَأَيْتُمْ مَا

 

 

 أَنْزَلَ اَللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ - فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَ حَلاَلاً و هو هذا فأنزل الله: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللَّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَ اَلطَّيِّبَاتِ مِنَ اَلرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا يعني: شارك المسلمون الكفار في الطيبات في الحياة الدنيا فأكلوا من طيبات طعامها و لبسوا من جياد ثيابها، و نكحوا من صالح نسائها ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا و ليس للمشركين فيها شي‏ء. أقول: و الروايتان كما ترى ظاهرتان في التطبيق دون سبب النزول، و المعول على ذلك.

 و فيه،: أخرج أبو الشيخ عن الحسن قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : ما من عبد عمل خيرا أو شرا - إلا كسي رداء عمله حتى يعرفوه، و تصديق ذلك في كتاب الله: ﴿وَ لِبَاسُ اَلتَّقْوى‏َ ذَلِكَ خَيْرٌ الآية. و في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) : في قوله: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا الآية. لباس التقوى ثياب بيض. و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن عثمان : قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقرأ:

«و رياشا» و لم يقل: و ريشا. و في تفسير القمي، قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) : في قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِبَاسُ اَلتَّقْوى‏َ قال:

فأما اللباس فاللباس التي تلبسون، و أما الرياش فالمتاع و المال، و أما لباس التقوى فالعفاف، إن العفيف لا تبدو له عورة و إن كان عاريا من اللباس، و الفاجر بادي العورة و إن كان كاسيا من اللباس.

أقول: و ما في الروايتين من معنى لباس التقوى من الأخذ ببعض المصاديق و قد تكرر نظير ذلك في الروايات.

 و في تفسير القمي، أيضا في قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا الآية قال:

قال الذين عبدوا الأصنام فرد الله عليهم فقال: ﴿قُلْ إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ إلى آخر الآية.

 

 

 و في البصائر، عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن محمد بن منصور قال : سألته عن قول الله تبارك و تعالى: ﴿وَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَ اَللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا إلى آخر الآية فقال: أ رأيت أحدا يزعم أن الله أمرنا بالزنا و شرب الخمور و شي‏ء من المحارم؟ فقلت: لا، فقال: فما هذه الفاحشة التي يدعون أن الله أمرنا بها؟ فقلت:

الله أعلم و رسوله، فقال: فإن هذه في أئمة الجور ادعوا أن الله أمر بالائتمام بقوم لم يأمر الله بهم فرد الله عليهم و أخبرنا أنهم قالوا عليه الكذب فسمى الله ذلك منهم فاحشة.:

أقول: و رواه في الكافي، عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن أبي وهب عن محمد بن منصور قال : سألته و ساق الحديث، و روي ما في معناه في تفسير العياشي، عن محمد بن منصور عن عبد صالح فعلم أن في السند أبا وهب و عنه يروي الحسين بن سعيد و أن الحديث مروي عن موسى بن جعفر (عليه السلام). و كيف كان فالرواية لا تنطبق بحسب مضمونها على حين نزول الآية و لا ما ذكر فيه من الحجة ينطبق على موردها فإن أهل الجاهلية كانت عندهم أحكام كثيرة متعلقة بأمور من قبيل الفحشاء ينسبونه إلى الله سبحانه كالطواف بالبيت عاريا.

لكن الحجة المذكورة فيه من حيث انطباق الآية على مصاديق بعد زمن النزول أقرب انطباقا على أئمة الجور و الحكام الظلمة فإن المسلمين مرت بهم أعصار يتولى فيها أمورهم أمثال الدعي زياد بن أبيه و ابنه عبيد الله و الحجاج بن يوسف و عتاة آخرون، و حول عروشهم و كراسيهم عدة من العلماء يفتون بنفوذ أحكامهم و وجوب طاعتهم بأمثال قوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ. فالرواية ناظرة إلى انطباق الآية على مصاديقها بعد عصر النزول.

 و في تفسير العياشي، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول : من زعم أن الله يأمر بالفحشاء فقد كذب على الله، و من زعم أن الخير و الشر إليه فقد كذب على الله.

 و فيه،: عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) : من زعم أن الله أمر بالسوء و الفحشاء فقد كذب على الله، و من زعم أن الخير و الشر بغير مشية منه فقد أخرج الله من سلطانه، و من زعم أن المعاصي عملت بغير قوة الله فقد كذب على الله، و من

 

 

 كذب على الله أدخله الله النار.

 أقول: و قوله (عليه السلام): و من زعم أن الخير و الشر بغير مشية منه إلخ، ناظر إلى قول المفوضة باستقلال العبد في أفعال الخير و الشر كما أن قوله في الرواية السابقة: و من زعم أن الخير و الشر إليه إلخ، «ناظر إلى قول المجبرة: أن الخير و الشر و الطاعة و المعصية إنما تستند إلى إرادة الله من غير أن يكون لإرادة العبد و مشيته دخل في صدور الفعل و إن أمكن بوجه إرجاع الضمير إلى العبد ليكون إشارة إلى قول المفوضة.

 و في التهذيب، بإسناده عن ابن مسكان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سألته عن قول الله عز و جل: ﴿وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ قال: هذه القبلة.

أقول: و هو من قبيل الجري و الانطباق كما تبين من البيان السابق، و روى مثله العياشي في تفسيره، عن أبي بصير عن أحدهما (عليه السلام).

 و في التهذيب، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله:

﴿وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ قال: مساجد محدثة فأمروا أن يقيموا وجوههم شطر المسجد الحرام.

 أقول: الظاهر أن مراده (عليه السلام) أن معنى إقامة الوجوه في الآية التوجه إلى الله باستقبال القبلة عند كل مسجد يصلى فيه ثم القبلة تعينت بمثل قوله: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ وَ حَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ: البقرة: ١٤٤، و هي الكعبة إذ قد تقدم في الكلام على آيات القبلة أن الكعبة إنما جعلت قبلة في المدينة بعد الهجرة، و الآية التي نحن فيها و هي من سورة الأعراف مكية و لعل أصل الجعل في هذه السورة ثم تفصيل التشريع أو التفسير في سورة البقرة المدنية إن ساعد سياق آيات القبلة على ذلك كما أن الأحكام الآخر المفصلة من الواجبات و الحرمات تشتمل السور المكية على إجمالها و تشرع تفاصيلها أو تفسر و تبين في السور المدنية.

فقوله (عليه السلام): مساجد محدثة إلخ، معناه أن المراد بكل مسجد في الآية المساجد يحدثها المسلمون في أكناف الأرض، و المراد بإقامة الوجوه تولية الوجوه التي في آية الكعبة و هي استقبال الشطر من المسجد الحرام.

 و في تفسير العياشي، عن الحسين بن مهران عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله:

 

 

﴿وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ يعني الأئمة.

أقول: الظاهر أن المراد به أئمة الجماعات، و سيجي‏ء له معنى آخر.

 و فيه،: عن الحسين بن مهران عنه (عليه السلام) في قول الله: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ قال: يعني الأئمة. أقول: و هو كالحديث السابق فإن تقديم الإمام زينة الصلاة و من المستحب شرعا تقديم خيار القوم و وجوههم للإمامة و يمكن أن يكون المراد بالأئمة أئمة الدين على ما سيجي‏ء من رواية العلاء بن سيابة في آخر البحث.

 و في الدر المنثور، أخرج العقيلي و أبو الشيخ و ابن مردويه و ابن عساكر عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) في قول الله: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ قال: صلوا في نعالكم. أقول: و روي هذا المعنى بعدة طرق أخرى عن علي و أبي هريرة و ابن مسعود و شداد بن الأوس و غيرهم عنه (ص).

 و فيه،: أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : وجهني علي بن أبي طالب إلى ابن الكواء و أصحابه - و علي قميص رقيق و حلة فقالوا لي: أنت ابن عباس و تلبس مثل هذه الثياب؟ فقلت: أول ما أخاصمكم به قال الله: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللَّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ  و ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يلبس في العيدين بردي حبرة.

 و في الكافي، بإسناده عن يحيى بن أبي العلاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : بعث أمير المؤمنين (عليه السلام) عبد الله بن عباس إلى ابن الكواء و أصحابه و عليه قميص رقيق و حلة فلما نظروا إليه قالوا: يا ابن عباس أنت خيرنا في أنفسنا و أنت تلبس هذا اللباس؟ فقال:

و هذا أول ما أخاصمكم فيه ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللَّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَ اَلطَّيِّبَاتِ مِنَ اَلرِّزْقِ  و قال الله عز و جل: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ.

 و في الكافي، بإسناده عن فضالة بن أيوب في قول الله عز و جل: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ قال: في العيد و الجمعة.:

أقول: و رواه في التهذيب، عن فضالة عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) و روى ما في معناه العياشي في تفسيره، عنه، و في المجمع، عن أبي جعفر (عليه السلام).

 

 

 و في الفقيه، سئل أبو الحسن الرضا (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ قال من ذلك التمشط عند كل صلاة.

 أقول: و في معناها غيرها من الروايات.

 و في تفسير العياشي، عن خيثمة بن أبي خيثمة قال : كان الحسن بن علي (عليه السلام) إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه. فقيل له: يا ابن رسول الله لم تلبس أجود ثيابك؟ فقال: إن الله جميل يحب الجمال فأتجمل لربي و هو يقول: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فأحب أن ألبس أجود ثيابي:

أقول: و الحديث مروي من طرق أهل السنة أيضا.

 و في الكافي، بإسناده عن يونس بن إبراهيم قال : دخلت يوما على أبي عبد الله (عليه السلام) و علي جبة خز و طيلسان خز فنظر إلي فقلت: جعلت فداك علي جبة خز و طيلسان خز هذا ما تقول فيه؟ فقال: لا بأس بالخز قلت: و سداه إبريسم فقال: و ما بأس يا إبراهيم فقد أصيب الحسين (عليه السلام) و عليه جبة خز ثم ذكر (عليه السلام) قصة عبد الله بن عباس مع الخوارج و احتجاجه عليهم بالآيتين.

 و فيه،: بإسناده عن أحمد بن أبي عبد الله عن محمد بن علي رفعه قال : مر سفيان الثوري في المسجد الحرام فرأى أبا عبد الله (عليه السلام) و عليه أثواب كثيرة قيمة حسان فقال: و الله لآتينه و لأوبخنه فدنا منه فقال: يا ابن رسول الله و الله ما لبس رسول الله مثل هذا اللباس و لا علي و لا أحد من آبائك! فقال أبو عبد الله (عليه السلام): كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في زمان قتر مقتر، و كان يأخذ لقتره و إقتاره، و إن الدنيا بعد ذلك أرخت عزاليها[1] و أحق أهلها بها أبرارها ثم تلا: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللَّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَ اَلطَّيِّبَاتِ مِنَ اَلرِّزْقِ فنحن أحق من أخذ ما أعطاه الله.

يا ثوري ما ترى علي من ثوب إنما لبسته للناس ثم اجتذب بيد سفيان فجرها إليه ثم رفع الثوب الأعلى - و أخرج ثوبا تحت ذلك على جلده غليظا، ثم قال: هذا لبسته

 

 

 لنفسي و ما رأيته للناس ثم جذب ثوبا على سفيان أعلاه غليظا خشنا و داخل ذلك الثوب لين فقال: لبست هذا الأعلى للناس، و لبست هذا لنفسك تسترها.

و فيه، بإسناده عن ابن القداح قال : كان أبو عبد الله (عليه السلام) متكئا علي فلقيه عباد بن كثير و عليه ثياب مروية حسان فقال: يا أبا عبد الله إنك من أهل بيت النبوة و كان أبوك فما لهذه الثياب المروية عليك؟ فلو لبست دون هذه الثياب. فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): ويلك يا عباد من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق؟ إن الله عز و جل إذا أنعم على عبده نعمة أحب أن يراها عليه، و ليس به بأس.

 و في الدر المنثور، أخرج الترمذي و حسنه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده. و في قرب الإسناد، للحميري عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا (عليه السلام) في حديث طويل : قال (عليه السلام) لي: ما تقول في اللباس الخشن؟ فقلت: بلغني أن الحسن كان يلبس، و أن جعفر بن محمد كان يأخذ الثوب الجديد فيأمر به فيغمس في الماء فقال لي البس و جمل فإن علي بن الحسين كان يلبس الجبة الخز بخمس مائة درهم، و المطرف الخز بخمسين دينارا فيشتو فيه فإذا خرج الشتاء باعه و تصدق بثمنه، و تلا هذه الآية: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللَّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَ اَلطَّيِّبَاتِ مِنَ اَلرِّزْقِ.

أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة جدا، و من أجمعها معنى الرواية الآتية

 في تفسير العياشي، عن أبان بن تغلب قال : قال أبو عبد الله (عليه السلام): أ ترى الله أعطى من أعطى من كرامته عليه أو منع من منع من هوان به عليه؟ لا و لكن المال مال الله يضعه عند الرجل ودائع، و جوز لهم أن يأكلوا قصدا، و يشربوا قصدا، و يلبسوا قصدا، و ينكحوا قصدا، و يركبوا قصدا، و يعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين و يلموا به شعثهم فمن فعل ذلك كان ما يأكل حلالا و يشرب حلالا و يركب حلالا، و ينكح حلالا، و من عدا ذلك كان عليه حراما، ثم قال: ﴿وَ لاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ  أ ترى الله ائتمن رجلا على مال خول له أن يشتري فرسا بعشرة آلاف درهم و يجزيه فرسا بعشرين درهما، و يشتري جارية بألف دينار و يجزيه جارية بعشرين دينارا و قال: ﴿وَ لاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ.

 

 

 و في الكافي، بإسناده عن إسحاق بن عبد العزيز عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : نكون بطريق مكة و نريد الإحرام فنطلي و لا يكون معنا نخالة فنتدلك بها من النورة فنتدلك بالدقيق و قد دخلني من ذلك ما الله أعلم به؟ فقال: مخافة الإسراف؟ قلت: نعم، فقال: ليس فيما أصلح البدن إسراف إني ربما أمرت بالنقي فيلت بالزيت فأتدلك به، إنما الإسراف فيما أفسد المال و أضر بالبدن، قلت: و ما الإقتار؟ قال: أكل الخبز و الملح و أنت تقدر على غيره. قلت: فما القصد؟ قال:

الخبز و اللحم و اللبن و الخل و السمن مرة هذا و مرة هذا.

 و في الكافي، بإسناده عن علي بن يقطين عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: قال : قول الله عز و جل: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ وَ اَلْإِثْمَ وَ اَلْبَغْيَ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ فأما قوله: ﴿مَا ظَهَرَ مِنْهَا يعني الزنا المعلن و نصب الرايات التي كانت ترفعها الفواحش في الجاهلية للفواحش، و أما قوله عز و جل: ﴿وَ مَا بَطَنَ  يعني ما نكح من أزواج الآباء لأن الناس كانوا قبل أن يبعث النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إذا كان للرجل زوجة و مات عنها تزوجها ابنه من بعده إذا لم تكن أمه فحرم الله عز و جل ذلك، و أما ﴿اَلْإِثْمَ فإنها الخمر بعينها.

أقول: و الرواية ملخصة من كلامه (عليه السلام) مع المهدي و قد رواها في صورة المحاجة في الكافي، مسندة و في تفسير العياشي، مرسلة و أوردناها في روايات آية الخمر من سورة المائدة.

 و في تفسير العياشي، عن محمد بن منصور قال : سألت عبدا صالحا (عليه السلام) عن قول الله: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ قال: إن للقرآن ظهرا و بطنا فأما ما حرم به في الكتاب هو في الظاهر و الباطن من ذلك أئمة الجور و جميع ما أحل في الكتاب هو في الظاهر و الباطن من ذلك أئمة الحق.

 أقول: و رواه في الكافي، عن محمد بن منصور مسندا، و فيه : فجميع ما حرم الله في القرآن هو الظاهر، و الباطن من ذلك أئمة الجور، و جميع ما أحل الله في القرآن هو الظاهر، و الباطن من ذلك أئمة الحق.

 أقول: انطباق المعاصي و المحرمات على أولئك و المحللات على هؤلاء لكون كل واحد من الطائفتين سببا للقرب من الله أو البعد عنه، أو لكون اتباع كل سببا لما

 

 

 يناسبه من الأعمال.

و من هذا الباب‏

 ما في التهذيب، بإسناده عن العلاء بن سيابة عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ قال: الغسل عند لقاء كل إمام‏، و كذا ما تقدم من روايتي الحسين بن مهران.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و البخاري و مسلم و ابن مردويه عن المغيرة بن شعبة قال: قال سعد بن عبادة : لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: أ تعجبون من غيرة سعد؟ فوالله لأنا أغير من سعد و الله أغير مني، و من أجله حرم الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و لا شخص أغير من الله. و في تفسير العياشي، عن علي بن أبي حمزة قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:

قال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم): ما من أحد أغير من الله تبارك و تعالى، و من أغير ممن حرم الفواحش ما ظهر منها و ما بطن؟.

 و فيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَ لاَ يَسْتَقْدِمُونَ قال: هو الذي يسمى لملك الموت.

 أقول: و قد تقدمت روايات في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَضى‏َ أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ: الأنعام: ٢.

بحث روائي مختلط بغيره في السعادة و الشقاوة

 في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدى‏َ وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلضَّلاَلَةُ قال: خلقهم حين خلقهم مؤمنا و كافرا و شقيا و سعيدا، و كذلك يعودون يوم القيامة مهتد و ضال.

 قال علي بن إبراهيم: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : الشقي من شقي في بطن أمه و السعيد من سعد في بطن أمه.

 أقول: الرواية و إن كانت عن أبي الجارود و هو مطعون غير أن القوم قبلوا ما رواه عن أبي جعفر (عليه السلام) في حال استقامته قبل انحرافه عنه، على أن الآية قد فسرت

 

 

بمثل ما في هذه الرواية في غيرها كرواية إبراهيم الليثي عن أبي جعفر (عليه السلام) و غيره، و قد وقع هذا المعنى في روايات أخرى واردة في تفسير آيات القدر، و هي روايات جمة مختلفة يشترك جميعها في الدلالة على أن آخر الخلقة يشاكل أولها، و عود الإنسان يناظر بدأه، و أن المهتدي في آخر أمره مهتد من أول، و أن الضال كذلك ضال من أول و الشقي شقي في بدء خلقته و السعيد سعيد فيه، و الروايات على اختلاف بياناتها كالآيات ليست في مقام إثبات السعادة و الشقاوة الذاتيتين بمعنى ما يقتضيه ذات الإنسان و يلزم ماهيته كالزوجية للأربعة فإن ذلك مما لا ينبغي توهمه إذ لو رجع إلى مجرد التصوير العقلي من غير مطابقة للواقع الخارجي لم يستلزم أثرا حقيقيا لتأخر الوجود عن ماهيات الأشياء و عروضه لها في الذهن و الخارج على خلافه، و لو رجع إلى اقتضاء ذاتي حقيقي تملك به الماهية الإنسانية سعادتها أو شقاوتها بحيث لا يبقى لله سبحانه في خلقه إلا أن يظهر منها ما كان دفينا في ذاته كامنا في باطنها كان في ذلك إبطال لإطلاق ملك الله سبحانه و تحديد لسلطانه، و الكتاب و السنة و العقل متعاضدة على نفيه.

على أن ذلك يوجب اختلال نظام العقل في جميع ما يبني عليه العقلاء في أمورهم و اتفاقهم على توقع التأثير في باب التعليم و التربية، و تسالمهم على وجود ما يستتبع المدح و الذم أو يتصف بالحسن و القبح يدفعه.

و كذا يوجب لغوية تشريع الشرائع و إنزال الكتب و إرسال الرسل، و لا معنى لإتمام الحجة في الذاتيات بأي معنى صورناها بعد ما كانت مستحيلة الانفكاك عن الذوات.

و الكتاب الكريم يسلم نظام العقل و يصدق بناء الإنسان بنيان أعماله في الحياة على الاختيار، و يبين فما يبين أن الله سبحانه خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم أنبته نباتا حسنا حتى أنعم عليه بالبلوغ و العقل، يفعل باختياره و يميز بين الحسن و القبيح، و الخير و الشر، و النفع و الضرر و الطاعة و المعصية، و الثواب و العقاب بعقله، ثم أنعم عليه بتكاليف دينية فإن اتبع عقله و أطاع ربه فيما يأمره و ينهاه كان سعيدا و جوزي أحسن الجزاء، و إن خالف عقله و اتبع هواه و عصى ربه كان شقيا و ذاق وبال أمره، و الدار دار امتحان و ابتلاء، و العمل اليوم و الجزاء غدا.

 

 

 و أساس هذا البيان كما ترى على قضيتين اثنتين: إحداهما: أن بين الفعل الاختياري و غيره فرقا، و هي قضية عقلية ضرورية، و الثانية: أن الأفعال الاختيارية تتصف بحسن و قبح و تستتبع مدحا و ذما و ثوابا و عقابا، و هي قضية عقلائية لا يسع لعاقل أن ينكرها و هو واقع تحت النظام الاجتماعي الحاكم عليه مدى حياته.

و بالجملة لا مجال للقول بالسعادة و الشقاوة الذاتيتين بالمعنى المتقدم أبدا فما ورد من الآيات و الروايات التي تعطف آخر الأمر على أوله إنما تسند الأمر إلى الخلق و الإيجاد دون ذات الإنسان بما أنه إنسان، و قد عرفت أن ارتباط السعادة و الشقاء بأفعال الإنسان الاختيارية على ما تقتضيه القضيتان المتقدمتان مما لا يشوبه شك و لا يداخله ريب فما معنى هذه الآيات و الروايات.

و الروايات الواردة في مطابقة العود إلى البدء على كثرتها البالغة تختلف في مضامينها و أنحاء بيانها طبقا للآيات:

فمنها ما دل على ذلك إجمالا، و أن الله خلقهم حين خلقهم صنفين: شقي و سعيد، و كافر و مؤمن كرواية أبي الجارود المتقدمة، و ما مر في ذيل قوله تعالى: ﴿هُوَ اَلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي اَلْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ: آل عمران: ٦، من رواية الكافي، في خلقة الجنين.

و هذا القسم من الروايات يحاذي قوله تعالى: ﴿هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ: التغابن: ٢، و قوله: ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اِتَّقى‏َ: النجم: ٣٢، و قوله تعالى: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدى‏َ وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلضَّلاَلَةُ الآية.

و لا إشكال كثير فيها فإن الآيات كما يشهد به سياقها و يدل عليه ذيل الأخيرة منها إنما تدل على قضاء إجمالي بكون النوع الإنساني مشتملا على فريقين، و إنما يفصل الإجمال، و يتعين كل من الطائفتين، و تتميز من غيرها في مرحلة البقاء بأفعال اختيارية تستتبع سعادة أو شقاوة، و تستدعي الاهتداء بالتوفيق أو أن يحق له الضلالة بولاية الشياطين، و بعبارة أخرى الذي في بدء الخلقة قضاء مشروط ثم يخرج عن الاشتراط إلى الإطلاق بالأعمال الاختيارية بعد ذلك.

 

 

 و منها: ما يدل تفصيلا أن الله سبحانه خلق الناس مختلفين فمنهم من خلقه من طين الجنة و إليه مرجعه، و منهم من خلقه من طينة النار و إليها مآله‏

 ففي البصائر، عن علي بن الحسين (عليه السلام) أنه قال : أخذ الله ميثاق شيعتنا معنا على ولايتنا لا يزيدون و لا ينقصون إن الله خلقنا من طينة عليين و خلق شيعتنا من طينة أسفل من ذلك،

 و خلق عدونا من طينة سجين و خلق أولياءهم من طينة أسفل من ذلك. أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة جدا.

 و في المحاسن، عن عبد الله بن كيسان قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك أنا مولاك عبد الله بن كيسان فقال: أما النسب فأعرفه، و أما أنت فلست أعرفك، قال: قلت: ولدت بالجبل و نشأت بأرض فارس، و أنا أخالط الناس في التجارات و غير ذلك فأرى الرجل حسن السمت و حسن الخلق و الأمانة ثم أفتشه فأفتشه عن عداوتكم، و أخالط الرجل و أرى فيه سوء الخلق و قلة أمانة و زعارة ثم أفتشه فأفتشه عن ولايتكم فكيف يكون ذلك.

فقال: أ ما علمت يا ابن كيسان إن الله تبارك و تعالى أخذ طينة من الجنة و طينة من النار فخلطهما جميعا ثم نزع هذه من هذه فما رأيت من أولئك من الأمانة و حسن السمت و حسن الخلق فمما مستهم من طينة الجنة، و هم يعودون إلى ما خلقوا منه، و ما رأيت من هؤلاء من قلة الأمانة و سوء الخلق و الزعارة، فمما مستهم من طينة النار، و هم يعودون إلى ما خلقوا منه.

 أقول: و الروايات في هذا المعنى أيضا كثيرة جدا.

 و في العلل، عن حبة العرني عن علي (عليه السلام) قال : إن الله خلق آدم من أديم الأرض فمنه السباخ، و منه الملح، و منه الطيب فكذلك في ذريته الصالح و الطالح.

أقول: و حديث الخلق من طينة عليين و سجين إشارة إلى قوله تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ اَلفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ إلى أن قال ﴿كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ اَلْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ اَلْمُقَرَّبُونَ: المطففين: ٢١، أما الآيات فسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى في محلها، و أما الروايات فالرواية الأخيرة لا تخلو عن جهة بيان بمدلولها لمدلول ما تقدم عليها.

 

 

 و ذلك أنها تدل على أن المادة الأرضية على اختلافها في أوصافها لها ارتباط بأحوال الإنسان و أوصافه من حيث الصلاح و الطلاح على حسب ما نشاهده في الخارج أن اختلاف المواد لها تأثير ما قطعي في اختلاف الصور الطارئة عليها و الآثار البارزة منها و إن كان ذلك على الاقتضاء دون العلية التامة.

فقوله (عليه السلام): إن الإنسان مخلوق من الطين ثم قوله: إن أصله من الجنة أو من النار يفيد أن من الأرض ما هو من الجنة و منها ما هي من النار و إليهما يئول فإنها تصير إنسانا ثم يسلك إلى الجنة أو إلى النار، و إنما يسلك إلى كل منهما ما يناسبها في مادة الخلقة فهذا الموجود المادي الأرضي هو الذي يصفو فيدخل الجنة و يكون طينه طين الجنة، أو يزيد في التكدر و الانحطاط فيدخل النار فيكون وقودا لها.

و يشعر به بعض الإشعار قوله تعالى حكاية عن أهل الجنة: ﴿اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا اَلْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ اَلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ الآية: الزمر: ٧٤، فإن ظاهر الآية أن المراد من الأرض هو هذه الأرض يسكنها الإنسان و يموت فيها و يبعث منها، و هي المرادة من الجنة، و إليه يشير أيضا قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَ اَلسَّمَاوَاتُ: إبراهيم: ٤٨.

فكأن المراد بطينة الجنة و النار في الروايات الطينة التي ستكون من أجزاء الجنة أو النار، و خاصة بالنظر إلى بعض تعبيراته كقوله (عليه السلام): من طينة عليين و من طينة سجين و من طينة الجنة و من طينة النار.

و على هذا فالمراد الإنسان مأخوذ بحسب تركيب أجزاء بدنه من المادة الأرضية إما مادة طيبة أو مادة خبيثة، و هي بحسب وصفها البارز فيها مؤثرة في الإنسان في إدراكاته و عواطفه الباطنية و قواه ثم إذا شرعت قواه و عواطفه المناسبة لمادته في العمل تأيدت أعمال المادة بأعمال العواطف و القوى و بالعكس و لم يزل على ذلك يشتد أمره حتى يتم إنسانا سعيدا أو شقيا على حسب ما نظمه الله من عمل الأسباب و أراده و لله فيه البداء بتسليط سبب آخر أقوى من الأسباب الموجودة الفعالة يبدل مجرى سير الإنسان و يمنع من تأثير الأسباب المخالفة له.

ترى الإنسان المتكون من نطفة صالحة غير مئوفة مرباة في رحم سالمة و ممدة

 

 

بأغذية صالحة في هواء سالم و محيط سالم أشد استعدادا للسلوك في المسلك الإنساني، و أوقد ذهنا و ألطف إدراكا، و أقوى للعمل فالأمزجة السالمة بالوراثة ثم بإمداد النطفة بأسبابها و شرائطها كالمناطق المعتدلة أقرب إلى قبول الكمالات الإنسانية، و المناطق الرديئة ماء و هواء و الصعبة الخشنة في أسبابها الحيوية كالمناطق الإستوائية و القطبية أقرب إلى الخشونة و القسوة و البلادة من غيرها.

ثم الأمزجة السالمة من موانع لطف الإدراك تنشأ ذوات أرواح لطيفة لها عقول جيدة و عواطف رقيقة تميل بالإنسان إلى ما فيه صلاح إنسانيته من العقائد و الإرادات و الأعمال، و تقربه من المواد الحافظة للبقاء إلى ما يزيد في تأييد الروح في عمله و لا يزال يتعاكس التأثير حتى يتم الأثر، و نظير الكلام جار في جانب الشقاء قال تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَ إِنَّ اَللَّهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ: العنكبوت: ٦٩، و قال ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَسَاؤُا اَلسُّواى‏َ أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اَللَّهِ وَ كَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُنَ: الروم: ١٠ و الآيات في هذا المعنى كثيرة.

و مع ما نعلم من تأثير المواد الأرضية في نحو حياة الإنسان السعيدة و الشقية لسنا نحصي من الأسباب الدخيلة في هذا الباب إلا بعض الأسباب العامة البينة التي ليس لها قدر تجاه ما نجهله منها كما سمعت من حديث سلامة مزاج الأبوين و الغذاء الممد للبقاء و المنطقة من الأرض التي يعيش فيها الإنسان و غيرها، فهناك أسباب لا تحصى كثرة خفية عنا، و من شواهد ذلك نوادر الأفراد الذين ينشئون في غير ما نحسبه منشأ لهم و الله يخرج الحي من الميت و يخرج الميت من الحي.

و بالجملة سعادة الإنسان في حياته أعني سعادته في علمه و عمله لها ارتباط تام بطيب مواده الأصلية فهي التي تقبل ما يناسبها من الروح، و هي التي تهتدي إلى الجنة، و كذلك شقاء الإنسان في علمه بترك العقل و العكوف على الأوهام و الخرافات التي تزينها له عواطف الشهوة و الغضب، و في عمله بالتمتع من لذائذ المادة، و الاكتناه و الاسترسال في الشهوات الحيوانية و الاستكبار عن كل حق لا يوافق هواه.

فهذان القبيلان من الأسباب المادية يسوقان الإنسان إلى الحق و الباطل و السعادة و الشقاء و الجنة و النار غير أنهما مقتضيان من غير علية تامة، و لله سبحانه المشية فيهما

 

 

و البداء بإظهار سبب آخر يقهر ما يخالفه من الأسباب، و قد تقدم ما يدل عليه في حديث خلقة الجنين في أوائل سورة آل عمران. و في معناه أحاديث أخر تثبت لله المشية و جواز المحو و الإثبات في الأمور.

و يمكن أن توجه هذه الأخبار بوجه آخر أدق يحتاج تعقله إلى صفاء في الذهن و قدم صدق في المعارف الحقيقية، و هو أن السعادة و الشقاوة في الإنسان إنما تتحققان بفعلية الإدراك و استقراره، و الإدراك لتجرده عن المادة ليس بمقيد بقيودها و لا محكومة بأحكامها و منها الزمان الذي هو مقدار حركتها، و نحن و إن كنا نقدر بالنظر إلى كون المادة تنتهي بحركتها إلى هذه الفعلية أن السعادة بعد زمان الحركة لكنها بحسب حقيقة نفسها غير مقيدة بالزمان فما بعد الحركة منها هو بعينه قبل الحركة و ذلك نظير ما ننسب أمورا حادثة إلى فعل الله سبحانه فنقيد فعله بالزمان نقول: خلق الله زيدا في زمان كذا، و أهلك قوم نوح، و نجى قوم يونس، و بعث محمدا (صلى الله عليه وآله و سلم) في عصر كذا فنقيد فعله بالزمان و إنما هو كذلك من حيث نظرنا إلى نفس الحادثة و كونها مأخوذة في نفسها من دون الزمان و الحركة التي انتهت إلى وجودها و أما لو أخذت مع زمانها و سائر قيود ذاتها على ما عليه الأمر في نفسه فالفعل الإلهي غير متقيد بالزمان لأنه موجد مجموع الحادث و زمانه و سائر ما يتقيد به، و إن كنا - بالنظر إلى اتحاد ما لفعله الحادث المتقيد بالزمان - نقيد فعله بالزمان كما نقول: اليوم علمت أن كذا كذا، و رأيته الساعة فنقيد العلم باليوم و الساعة و ليس بمقيد بهما لمكان تجرده، و إنما المتقيد هو العمل الدماغي أو العصبي المادي الذي يصاحب العلم مصاحبة الاستعداد للمستعد له.

فالإنسان لما كان انتهاؤه إلى تجرد علمي بالسعادة أو الشقاء و إن كان مقارنا لجنة جسمانية أو نار كذلك على ما هو ظاهر الكتاب و السنة فما له من المال في نفسه لا زمان له و صح أن يؤخذ قبل كما يؤخذ بعد، و أن يسمى بدءا كما يسمى عودا فافهم ذلك.

و منها: ما يدل على انتهاء خلقة الناس إلى الماء العذب الفرات و الملح الأجاج‏

كما في العلل، عن الصادق (عليه السلام) قال : إن الله عز و جل خلق ماء عذبا فخلق منه أهل طاعته، و جعل ماء مرا فخلق منه أهل معصيته ثم أمرهما فاختلطا فلو لا ذلك ما ولد

 

 

 المؤمن إلا مؤمنا و لا الكافر إلا كافرا.

 و فيه، عن ابن سنان عن الصادق (عليه السلام) قال : سألته عن أول ما خلق الله فقال:

إن أول ما خلق الله عز و جل ما خلق منه كل شي‏ء. قلت: جعلت فداك ما هو؟ قال: الماء.

قال: إن الله تبارك و تعالى خلق الماء بحرين أحدهما عذب، و الآخر ملح، فلما خلقهما نظر إلى العذب فقال: يا بحر فقال: لبيك و سعديك. قال: فيك بركتي و رحمتي و منك أخلق أهل طاعتي و جنتي، ثم نظر إلى الآخر فقال: يا بحر، فلم يجب فأعاد ثلاث مرات: يا بحر، فلم يجب فقال: عليك لعنتي و منك أخلق أهل معصيتي و من أسكنته ناري ثم أمرهما أن يمتزجا فامتزجا.

قال: فمن ثم يخرج المؤمن من الكافر و الكافر من المؤمن.

 و في تفسير العياشي، عن عثمان بن عيسى عن بعض أصحابه عنه (عليه السلام) قال : إن الله قال لماء: كن عذبا فراتا أخلق منك جنتي و أهل طاعتي، و قال لماء: كن ملحا أجاجا أخلق منك ناري و أهل معصيتي فأجرى الماءين على الطين‏، الحديث و هو طويل.

أقول: و في معنى كل من هذه الأحاديث الثلاثة أحاديث كثيرة أخرى مروية عن علي و الباقر و الصادق و غيرهم (عليه السلام)، و إنما أوردنا ما أوردناه بعنوان الأنموذج.

و هذه الروايات تنتهي إلى مثل قوله تعالى: ﴿وَ اَللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَ مَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى‏َ وَ لاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَ مَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيرٌ وَ مَا يَسْتَوِي اَلْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَ هَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَ تَرَى اَلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ: الفاطر ١٢، و أنت ترى موقع الآية الثانية من الأولى، و أنها بمنزلة التمثيل لبيان مضمون الآية و شرح اختلاف الناس في أنفسهم في عين اتحادهم في الإنسانية و اشتراكهم في بعض المنافع و الآثار. و قد قال تعالى: ﴿وَ جَعَلْنَا مِنَ اَلْمَاءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ: الأنبياء: ٣٠.

و قوله تعالى: ﴿وَ هُوَ اَلَّذِي مَرَجَ اَلْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَ هَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَ جَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَ حِجْراً مَحْجُوراً وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ مِنَ اَلْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كَانَ

 

 

 رَبُّكَ قَدِيراً: الفرقان: ٥٤، و سيجي‏ء بيان الآيات في محلها.

و أما الروايات فإنها كما ترى في معناها تعود قسمين:

أحدهما: ما يذكر أن الماءين العذب الفرات و الملح الأجاج أجريا على الطين الذي خلق منه الإنسان فاختلف الطين باختلاف الماء، و هذا القسم يرجع إلى الصنف المتقدم من الأخبار الدالة على أن اختلاف الخلقة يعود إلى اختلاف الطينة المأخوذة لها فالكلام فيه كالكلام في أخبار الطينة و قد قدمناه.

و ثانيهما: ما دل على أن الخلقة أعم من خلقة الإنسان و غيره، حتى الجنة و النار تنتهي إلى الماء ثم اختلاف الماء منشأ لاختلاف الناس في السعادة و الشقاوة أما اختلاف الخلقة باختلاف العذوبة و الملوحة فيعود أيضا إلى القسم الأول و يجري فيه الكلام السابق فإن القسم الأول من هذه الأخبار يعود كالمفسر لهذا القسم الثاني ثم هما معا كالمفسر لأخبار الطينة السابقة.

و أما انتهاء الخلقة إلى أصل أولي هو الماء فسيجي‏ء البحث فيه فيما يناسبه من المحل إن شاء الله العزيز.

و منها: ما دل على أن الاختلاف يعود إلى اختلاف الخلقة من النور و الظلمة

 كما في العلل، عن الصادق (عليه السلام) قال : إن الله تبارك و تعالى خلقنا من نور مبتدع من نور سنخ ذلك النور في طينة من أعلى عليين، و خلق قلوب شيعتنا مما خلق منه أبداننا، و خلق أبدانهم من طينة دون ذلك فقلوبهم تهوي إلينا لأنها خلقت مما خلقنا منه، ثم قرأ ﴿كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ اَلْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ اَلْمُقَرَّبُونَ. و إن الله تبارك و تعالى خلق قلوب أعدائنا من طينة من سجين، و خلق أبدانهم من دون ذلك، و خلق قلوب شيعتهم مما خلق منه أبدانهم فقلوبهم تهوي إليهم، ثم قرأ: ﴿إِنَّ كِتَابَ اَلفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ.

 أقول: و في معناه روايات أخر، و هو في الحقيقة راجع إلى ما تقدم من الروايات الدالة على انتهاء الخلقة إلى طينة عليين و طينة سجين، و إنما يصير بعد خلقه من هذه الطينة نورا و ظلمة، و لعل ذلك لكون طينة السعادة مما يظهر به الحق و تنجلي به المعرفة

 

 

 بخلاف طينة الشقاوة الملازمة للجعل الذي هو ظلمة و عمى فطينة السعادة نور، و كثيرا ما يسمي القرآن العلم و الهدى نورا كما يسمي الإيمان حياة قال تعالى: ﴿أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا : الأنعام: ١٢٢.

و قال: ﴿اَللَّهُ وَلِيُّ اَلَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُمَاتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ اَلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ اَلنُّورِ إِلَى اَلظُّلُمَاتِ: البقرة: ٢٥٧، و في كون النور أصلا لخلقة طائفة من الموجودات كالأنبياء و الملائكة و اللوح و القلم و العرش و الكرسي و الجنة أخبار كثيرة أخرى سيأتي بعضها فيما سيأتي إن شاء الله.

و منها: ما دل على لحوق حسنات الأشقياء بالسعداء يوم القيامة و بالعكس‏ كما في العلل، بإسناده عن إبراهيم الليثي عن الباقر (عليه السلام) في حديث طويل: ثم قال:

أخبرني يا إبراهيم عن الشمس إذا طلعت و بدا شعاعها في البلدان أ هو بائن من القرص؟ قلت: في حال طلوعه بائن. قال أ ليس إذا غابت الشمس اتصل ذلك الشعاع بالقرص حتى يعود إليه؟ قلت: نعم. قال: كذلك يعود كل شي‏ء إلى سنخه و جوهره و أصله فإذا كان يوم القيامة نزع الله عز و جل سنخ الناصب و طينته مع أثقاله و أوزاره من المؤمن فيلحقها كلها بالناصب، و ينزع سنخ المؤمن و طينته مع حسناته و أبواب بره و اجتهاده من الناصب فيلحقها كلها بالمؤمن.

أ فترى هاهنا ظلما و عدوانا؟ قلت: لا يا ابن رسول الله. قال: هذا و الله القضاء الفاصل و الحكم القاطع، و العدل البين، لا يسأل عما يفعل و هم يسألون هذا يا إبراهيم الحق من ربك فلا تكن من الممترين، هذا من حكم الملكوت.

قلت: يا ابن رسول الله و ما حكم الملكوت؟ قال: حكم الله و حكم أنبيائه و قصة الخضر و موسى حين استصحبه فقال: ﴿إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى‏َ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً  افهم يا إبراهيم و اعقل، أنكر موسى على الخضر و استفظع أفعاله حتى قال له الخضر: يا موسى ما فعلته عن أمري، و إنما فعلته عن أمر الله عز و جل‏ الحديث.

أقول: الرواية تبني البيان على قوله تعالى: ﴿لِيَمِيزَ اَللَّهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ اَلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى‏َ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ: الأنفال: ٣٧، و آيات

 

 

 أخر ذكرها (عليه السلام) في متن الرواية، و الآية - كما ترى - تذكر أن الله سبحانه سيفصل يوم القيامة الطيب من الخبيث و يميز بينها تمييزا تاما لا يبقى في قسم الطيب من خلط الخباثة شي‏ء، و لا في سنخ الخبيث من خلط الطيب شي‏ء ثم يجمع كل خبيث برد بعضه إلى بعض و إلحاق بعضه ببعض، و يرجع الآثار و الأعمال حينئذ إلى موضوعاتها، و ترد الفروع إلى أصولها لا محالة، و لازم ذلك اجتماع الحسنات جميعا في جانب و رجوعها إلى سعادة الذات الذي لا تمازجه شقاوة أصلا، و اجتماع السيئات جميعا في جانب و رجوعها إلى منشئها الخالص في منشئيته، و هو الذي تبينه الرواية.

قوله (عليه السلام): أخبرني يا إبراهيم عن الشمس إلخ تمثيل بظاهر الحس على كون الأثر مظهرا لمؤثره مسانخا له قائما به ملازما لوجوده، و قوله (عليه السلام): هذا و الله القضاء الفاصل إلخ، هذا مع كونه بحسب بادئ النظر خلاف العدل مبني على ما تحكم به الضرورة من وجوب المناسبة و السنخية بين الفاعل و فعله و المؤثر و أثره، و لازمه الحكم بأن كل فعل من الأفعال إنما يملكه من الفواعل ما يناسبه في ذاته لا ما لا يناسبه، و إن كان قضاء النظر السطحي المعتمد على ظاهر الحس بخلافه.

فالفعل من حيث كونه حركات كذا و سكنات كذا فهو للموضوع الذي يتحرك و يسكن بها، و أما من حيث كونه معنى من المعاني حسنة أو سيئة و من آثار السعادة أو من آثار الشقاوة فإنما هو لذات سعيدة أو شقية تناسبه في وصفه، و لو كان هناك موضوعان لهما حكمان مختلفان ثم وجد شي‏ء من حكم كل في الآخر فإنما هو الامتزاج وقع بين الموضوعين و اختلاط بمعنى أن وراء هذا الفعل موضوعه الأصلي القائم بأمره و إن ظهر في ظاهر النظر في غير موضوعه كالحرارة الظاهرة في الماء التي عاملها الأصلي نار أو شمس مثلا و إن كانت صفة بارزة في الماء ظاهرا فالحرارة للنار مثلا و إن ظهرت في الماء و هذا مما لا يرتاب فيه الخبير بالأبحاث الحقيقية.

و على هذا تكون الحسنات للمحسنين ذاتا و السعداء جوهرا و سنخا، و السيئات للمسيئين ذاتا و الأشقياء طينة و أصلا بحسب ظرف الحقيقة و وعاء الحق فهو الذي يقتضيه العدل الحقيقي.

و لا يناقضه أمثال قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ

 

 

 مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ: الزلزال: ٨، و قوله: ﴿أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏َ: النجم: ٣٨ و قوله: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَ عَلَيْهَا مَا اِكْتَسَبَتْ: البقرة: ٢٨٦، إلى غير ذلك من الآيات الحاكمة بأن تبعة كل فعل إنما هو لفاعله إن خيرا فخير و إن شرا فشر.

و ذلك أن الذي تحكم به الآيات في محله و لا يتخطاه لكن لما كان فاعل الفعل بحسب النظر الاجتماعي الدنيوي هو الذي تقوم به الحركة و السكون المسمى فعلا فإليه تعود تبعة الفعل من مدح أو ذم أو ثواب أو عقاب دنيويين و أما بحسب النظر الحقيقي ففاعل الفعل الأصل الذي يسانخه الفعل و يناسبه و هو غير من قامت به الحركات و السكنات المسماة فعلا، و رجوع هذا الفعل و ما له من الآثار الحسنة أو السيئة إلى هذا الأصل ليس من رجوع تبعة الفعل إلى غير فاعله حتى تناقضه الآيات الكريمة فهذا الحكم الباطني الذي يسميه (عليه السلام) حكما ملكوتيا في طول الحكم الظاهري الذي نألفه في حياتنا الاجتماعية.

و إذا كان يوم القيامة هو اليوم الذي تبلى فيه السرائر و تظهر فيه الحقائق و لا يحتجب الحق فيه بشي‏ء كما مرت الإشارة إليه كرارا - كان هو مجلى هذا الحكم الملكوتي الذي يلحق كل حكم بحقيقة موضوعه فيرجع به كل شي‏ء إلى أصله قال تعالى:

﴿وَ بَدَا لَهُمْ مِنَ اَللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ: الزمر: ٤٧، و قال: ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ: ق: ٢٢، و قال: ﴿أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ مَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ: الطور: ٢١، و قال: ﴿وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَ أَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ: العنكبوت: ١٣.

و من هنا يظهر وجه اختصاص هذا الحكم الملكوتي بيوم القيامة مع أن البرزخ و هو ما بين الموت و البعث أيضا من ظروف المجازاة و من أيام الله، و ذلك لأن الظاهر من كلامه تعالى أن البرزخ من تتمة المكث الأرضي محسوب من الدنيا كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ اَلْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً: المؤمنون: ١١٤، و قوله: ﴿وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ يُقْسِمُ اَلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ وَ قَالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ اَلْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اَللَّهِ إِلى‏َ يَوْمِ اَلْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ اَلْبَعْثِ: الروم: ٥٦. ـ

 

 

فالحياة البرزخية كأنها من بقايا الحياة الدنيوية محكومة ببعض أحكامها، و الناس فيها بعد في طريق التصفية و التخلص إلى سعادتهم و شقاوتهم، و الحكم الفصل الذي يحتاج إلى السنخ الخالص و الذات الممحوضة بعد هذه الحياة.

و من هنا يظهر أيضا سر ما يظهر في القرآن و الحديث أن الله سبحانه يجازي الكفار جزاء حسناتهم التي أتوا بها في الدنيا. و أما في الآخرة فأعمالهم فيها حبط، و لا يقيم لهم يوم القيامة وزنا، و ليس لهم فيها إلا النار فافهم ذلك.

و قوله (عليه السلام): ﴿لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ تعليل منه لما بينه من الحكم الملكوتي بالآية، و ذلك أن السؤال عن شي‏ء سواء كان فعلا فعله فاعل أو قضى به قاض أو خبرا أخبر به مخبر إنما هو طلب من الفاعل أو القاضي أو المخبر أن يبين مطابقة ما أتى به الواقع و يطبقه على الحق فإن ما نأتي به من الأمر إنما هو محاذاة منا للواقع الحق و لا ينقطع السؤال إلا إذا بين لنا وجه الحق فيه و كونه مطابقا للواقع أما إذا كان الفعل الذي أتى به أو الحكم الذي حكم به أو الخبر الذي أخبر به مثلا نفس الواقع بلا واسطة فلا معنى للسؤال البتة.

فإذا سألك سائل مثلا: لم ضربت اليتيم؟ أو لم قضيت أن المال لزيد؟ أو من أين أخبرت أن زيدا قائم؟ لم ينقطع السؤال دون أن تقول مثلا: ضربته للتأديب، و أن تقول إن زيدا ورثه عن أبيه مثلا و أن تريه زيدا و هو قائم مثلا، و هذا هو الحق الواقع المسئول عنه، و أما كون الأربعة زوجا، أو كون العشرة أكبر من الخمسة أو بطلان حياة زيد لو جز رأسه من بدنه مثلا فهذه الأمور نفس الواقع الحق و لا معنى لأن يسأل عن الأربعة لم صارت زوجا؟ أو عن العشرة لم صارت أكبر من الخمسة؟ أو عن فعل من الأفعال أو أثر من الآثار و عنده فاعله و غايته لم كان كما كان؟ أو لم فعل سببه التام ما فعل؟ فإن ذلك هذر.

و الله سبحانه فعله نفس الواقع الحق، و قوله نفس العين الخارجية و لا ينتهي إلى غيره فلا معنى للسؤال عنه بلم و كيف. و جميع القضايا الحقة التي نطبق عليها عقائدنا أو أفعالنا لتكون حقة إنما هي مأخوذة من الخارج الذي هو فعله فلا تحكم في شي‏ء من فعله، و إنما تلازم بوجه فعله ملازمة التابع للمتبوع و المنتزع للمنتزع منه فافهم،

 

 

 و بتقرير آخر الفعل الإلهي إنما يظهر بالأسباب الكونية فهي بمنزلة الآلات و الأدوات لا يظهر له فعل إلا بتوسطها، و السائل إنما يسأل عن فعل من أفعاله لجهله بالأسباب مثلا إذا مات زيد بسقوط حائط عليه بغتة سأل سائل: لم أهلك الله زيدا و لم يرحم شبابه و لا أبويه المسكينين؟ فإذا أجيب بانهدام الحائط عليه نقل السؤال إلى أنه لم هدم عليه الحائط؟ فإذا أجيب بأن السماء أمطرت فاسترخت أصله و مال به الثقل فسقط و كان تحته زيد فمات به، نقل السؤال إلى أمطار السماء و هلم جرا، و لا يقع السؤال إلا على أثر مجهول العلة، و أما الأثر المعلوم العلة فلا يقع عنه سؤال و ليس إلا أن السائل بجهله يقدر لزيد حياة مستندة إلى علل ليس بينها هذه التي فاجأته بسلسلتها فتوهم أن الله سبحانه فعل به ما فعل جزافا من غير سبب و لذلك بادر إلى السؤال و لو أحاط بعلل الحوادث لم يسأل قط، و قد تقدم بعض الكلام في قوله تعالى: ﴿لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ إلخ، في البحث عن اعتراضات إبليس في محاورته الملائكة.

و قوله (عليه السلام): حكم الله و حكم أنبيائه إلخ، أي قضاؤه تعالى و قضاء أنبيائه بإذنه فإنه تعالى إنما يقضي و يحكم الحكم الحق الذي بحسب حقيقة الأمر و باطنه لا بحسب الظاهر كما نحكم عليه بالاعتماد على الشواهد و الأمارات.

فقد تبين معنى لحوق الحسنات و آثارها للذوات الطيبة و سنخ النور، و لحوق السيئات و آثارها للسنخ الظلمة و الفساد و الذوات الخبيثة، و يتبين بما تبين من معنى قوله ﴿لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ، الجواب عن شي‏ء آخر ربما يختلج بالبال في بادئ النظر و هو أنه لم اختصت الذوات الطيبة و سنخ النور بالحسنات و آثارها، و الذوات الخبيثة و سنخ الظلمة بخلافها؟ و لم استعقبت الحسنات النعمة الدائمة و الجنة الخالدة و استعقبت السيئات النقمة و النار.

و الجواب: أنها آثار واقعية عن روابط خارجية كما تقدم بيانه في البحث عن نتائج الأعمال لا أحكام وضعية اعتبارية و إن بينت في لسان الشرع بنظائر ما تبين به تبعات أحكامنا الوضعية الاعتبارية الواقعة في ظرف الاجتماع الإنساني تتميما لنظام التشريع.

إذا عرفت ذلك علمت أن هذه الاختصاصات ترجع إلى روابط تكوينية بين ذوات

 

 

 الأشياء و آثارها الذاتية و لا سؤال في الذاتيات غير أنك ينبغي أن تتذكر ما تقدم أن لزوم حكم لذات من الذوات ليس معناه استقلال ذاته باقتضاء ذلك الحكم و الأثر، و استغناؤه عن الله سبحانه في إيجابه و ضمه لنفسه فهذا مما يدفعه البيان الإلهي في كتابه بل معناه لزومه لفعله الحق و لا سؤال عن ذلك كما اتضح معناه.

و هذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَ اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ اَلَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً: الأعراف: ٥٨، فإنما هو مثل مضروب لاقتضاء الذوات، و إنما قيده بقوله: ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِ دفعا لتوهم اللزوم الذاتي بمعنى استقلال الذوات في التأثير مستغنية عنه تعالى، و في هذا المعنى‏ ما ورد من قوله (ص): جف القلم بالسعادة لمن آمن و اتقى.

[سورة الأعراف (٧): الآیات ٣٧ الی ٥٣]

﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى‏ عَلَى اَللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ اَلْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَ شَهِدُوا عَلى‏َ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ٣٧ قَالَ اُدْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ فِي اَلنَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا اِدَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ اَلنَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَ لَكِنْ لاَ تَعْلَمُونَ ٣٨ وَ قَالَتْ أُولاَهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا اَلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ٣٩ إِنَّ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ اِسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ اَلسَّمَاءِ وَ لاَ يَدْخُلُونَ

 

 

اَلْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ اَلْجَمَلُ فِي سَمِّ اَلْخِيَاطِ وَ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلْمُجْرِمِينَ ٤٠ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَ كَذَلِكَ نَجْزِي اَلظَّالِمِينَ ٤١ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ اَلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ٤٢ وَ نَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ اَلْأَنْهَارُ وَ قَالُوا اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَ مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لاَ أَنْ هَدَانَا اَللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَ نُودُوا أَنْ تِلْكُمُ اَلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ٤٣ وَ نَادى‏ أَصْحَابُ اَلْجَنَّةِ أَصْحَابَ اَلنَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى اَلظَّالِمِينَ ٤٤ اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ ٤٥ وَ بَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَ عَلَى اَلْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَ نَادَوْا أَصْحَابَ اَلْجَنَّةِ أَنْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَ هُمْ يَطْمَعُونَ ٤٦ وَ إِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ اَلنَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ ٤٧ وَ نَادى‏ أَصْحَابُ اَلْأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنى‏ عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَ مَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ٤٨ أَ هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اَللَّهُ بِرَحْمَةٍ اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ٤٩ وَ نَادى‏ أَصْحَابُ اَلنَّارِ أَصْحَابَ اَلْجَنَّةِ أَنْ 

 

 

أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ اَلْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اَللَّهُ قَالُوا إِنَّ اَللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى اَلْكَافِرِينَ ٥٠ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً وَ غَرَّتْهُمُ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَ مَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ٥١ وَ لَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلى‏ عِلْمٍ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ٥٢ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ اَلَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ اَلَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ٥٣

بيان

الآية الأولى تفريع و استخراج من الخطاب العام الأخير المصدر بقوله: ﴿يَا بَنِي آدَمَ نظير التفريعات المذكورة لسائر الخطابات العامة السابقة، و ما يتلوها بيان لما يستتبعه الكذب على الله و تكذيب آياته من سوء العاقبة، و الإيمان بالله و العمل الصالح من السعادة الخالدة إلا آيتين من آخرها فإن فيهما رجوعا إلى أول الكلام و بيانا لتمام الحجة عليهم بنزول الكتاب.

قوله تعالى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى‏َ عَلَى اَللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ تفريع على ما تتضمنه الآية السابقة من إعلام الشريعة العامة المبلغة بواسطة الرسل أي إذا كان الأمر على ذلك و قد أبلغ الله دينه العام جميع أولاد آدم و أخبر بما أعده من الجزاء للأخذ به و تركه فمن أظلم ممن استنكف عن ذلك إما بافتراء الكذب على الله، و نسبة دين إليه، و وضعه موضع ما أتى به الرسل من دين التوحيد، و قد أخبر الله أنهم وسائط بينه و بين خلقه في تبليغهم دينه، و إما بالتكذيب لآياته الدالة على وحدانيته و ما يتبعه من الشرائع.

 

 

 و من هنا يظهر أن افتراء الكذب على الله و إن كان يعم كل بدعة في الدين أصوله و فروعه غير أن المورد هو الشرك بالله باتخاذ آلهة دون الله، و يدل عليه ما سيأتي من قوله: ﴿قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللَّهِ.

قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ اَلْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا إلى آخر الآية. المراد بالكتاب ما قضي و كتب أن يصيب الإنسان من مقدرات الحياة من عمر و معيشة و غنى و صحة و مال و ولد و غير ذلك، و الدليل عليه تقييده بقوله: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا إلخ، و المراد به أجل الموت، و من المعلوم أنه غاية للحياة الدنيا بجميع شئونها و مقارناتها.

و المراد بالنصيب من الكتاب السهم الذي يختص كل واحد منهم من مطلق ما كتب له و لغيره، و في جعل النصيب من الكتاب هو الذي ينالهم، و الأمر منعكس بحسب الظاهر دلالة على أن النصيب الذي فرض للإنسان و قضي له من الله سبحانه لم يكن ليخطئه البتة و ما لم يفرض له لم يكن ليصيبه البتة.

و المعنى: أولئك الذين كذبوا على الله بالشرك أو كذبوا بآياته بالرد لجميع الدين أو شطر منه ينالهم نصيبهم من الكتاب، و نصيبهم ما قضي في حقهم من الخير و الشر في الحياة الدنيا حتى إذا قضوا أجلهم و جاءتهم رسلنا من الملائكة و هم ملك الموت و أعوانه نزلوا عليهم و هم يتوفونهم و يأخذون أرواحهم و نفوسهم من أبدانهم سألوهم و قالوا:

أين ما كنتم تدعون من دون الله من الشركاء الذين كنتم تدعون أنهم شركاء الله فيكم و شفعاؤكم عنده؟ قالوا ضلوا عنا و إنما ضلت أوصافهم و نعوتهم، و شهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين بمعاينة حقيقة الأمر أن غير الله سبحانه لا ينفع و لا يضر شيئا، و قد أخطئوا في نسبة ذلك إلى أوليائهم.

و في مضمون الآية جهات من البحث تقدمت في نظيرة الآية من سورة الأنعام و غيرها.

قوله تعالى: ﴿قَالَ اُدْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ الخطاب من الله سبحانه دون الملائكة و إن كانوا في وسائط في التوفي و غيره، و المخاطبون بحسب سياق اللفظ هم بعض الكفار و هم الذين توفيت قبلهم أمم من الجن و الإنس إلا أن الخطاب في معنى: ادخلوا فيما دخل فيه سابقوكم و لاحقوكم و إنما نظم الكلام هذا

 

 

النظم ليتخلص به إلى ذكر التخاصم الذي يقع بين متقدميهم و متأخريهم، و قد قال تعالى:

﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ اَلنَّارِ: ص: ٦٤.

و في الآية دلالة على أن من الجن أمما يموتون بآجال خاصة قبل انتهاء أمد الدنيا على خلاف إبليس الباقي إلى يوم الوقت المعلوم.

قوله تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا هذا من جملة خصامهم في النار و هو لعن كل داخل من تقدم عليه في الدخول، و

اللعن

هو الإبعاد من الرحمة و من كل خير و

 الأخت

المثل.

قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا اِدَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً إلى آخر الآيتين،

 اداركوا

 أي تداركوا أي أدرك بعضهم بعضا اللاحقون السابقين أي اجتمعوا في النار جميعا.

و المراد بالأولى و الأخرى اللتين تتخاصمان ما هو كذلك بحسب الرتبة أو بحسب الزمان فإن الأولى منهم مقاما و هم رؤساء الضلال، و أئمة الكفر المتبوعون أعانوا تابعيهم بإضلالهم على الضلال، و كذا الأولى منهم زمانا و هم الأسلاف المتقدمون أعانوا متأخريهم على ضلالتهم لأنهم هم الذين جرءوهم بفتح الباب لهم و تمهيد الطريق لسلوكهم.

و

الضعف‏

 بالكسر فالسكون ما يكرر الشي‏ء فضعف الواحد اثنان و ضعف الاثنين أربعة غير أنه ربما أريد به ما يوجب تكرار شي‏ء آخر فقط كالاثنين يوجب بنفسه تكرار الواحد فضعف الواحد اثنان و ضعفاه أربعة، و ربما أريد به ما يوجب التكرار بانضمامه إلى شي‏ء كالواحد يوجب تكرار واحد آخر بانضمامه إليه لأنهما يصيران بذلك اثنين فكل واحد من جزئي الاثنين ضعف و هما جميعا ضعفان نظير الزوج فالاثنان زوج و هما زوجان و على كلا الاعتبارين ورد استعماله في كلامه تعالى، قال تعالى كما في هذه الآية ﴿فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً و قال تعالى: ﴿ضِعْفَيْنِ مِنَ اَلْعَذَابِ.

و قوله: ﴿قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أَضَلُّونَا إلخ، نوع من الالتفات لطيف في بابه فيه رجوع من مخاطبتهم بالمخاصمة إلى مخاطبة الله سبحانه بالدعاء عليهم معللا بظلمهم فيفيد فائدة التكنية بالإشارة إلى الملزوم و إفادة الملازمة، و فيه مع ذلك نوع من الإيجاز فإن فيه اكتفاء بمحاورة واحدة عن محاورتين، و التقدير قالت أخراهم لأولاهم

 

 

 أنتم أشد ظلما منا لأنكم ضالون في أنفسكم و قد أضللتمونا فليعذبكم الله عذابا ضعفا من النار، ثم رجعوا إلى ربهم بالدعاء عليهم و قالوا ﴿رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً.. إلخ، فأجابهم الله و قال ﴿لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَ لَكِنْ لاَ تَعْلَمُونَ، ثم أجابتهم أولاهم و قالوا: ﴿فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ إلخ.

فمعنى الآية: ﴿حَتَّى إِذَا اِدَّارَكُوا و اجتمعوا بلحوق أخراهم لأولاهم ﴿فِيهَا أي في النار تخاصموا «و ﴿قَالَتْ أُخْرَاهُمْ و هم اللاحقون مرتبة أو زمانا من التابعين ﴿لِأُولاَهُمْ و هم الملحوقون المتبوعون من رؤسائهم و أئمتهم، و من آبائهم و الأجيال السابقة عليهم زمانا الممهدين لهم الطريق إلى الضلال أنتم أضللتمونا بإعانتكم عليه فلتعذبوا بأشد من عذابنا فسألوا ربهم ذلك و قالوا: ﴿رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ اَلنَّارِ يكون ضعف عذابنا لأنهم ضلوا في أنفسهم و أضلوا غيرهم بالإعانة ﴿قَالَ الله سبحانه ﴿لِكُلٍّ من الأولى و الأخرى ﴿ضِعْفٌ من العذاب» أما أولاكم فإنهم ضلوا و أعانوكم على الضلال، و أما أنتم فإنكم ضللتم و أعنتموهم على الإضلال باتباع أمرهم و إجابة دعوة الرؤساء منهم، و تكثير سواد السابقين منهم باللحوق بهم ﴿وَ لَكِنْ لاَ تَعْلَمُونَ فإن العذاب إنما يتحقق أو يتم في مرحلة الإدراك و العلم. و أنتم تشاهدونهم أمثال أنفسكم في شمول العذاب و إحاطة النار فتتوهمون أن عذابهم مثل عذابكم و ليس كذلك بل لهم من العذاب ما لا طريق لكم إلى إدراكه و الشعور به كما أنهم بالنسبة إليكم كذلك فما عندكم و عندهم من العذاب ضعف و لكن إحاطة العذاب شغلكم عن العلم بذلك.

و هذا خطاب إلهي مبني على القهر و الإذلال فيه تعذيب لهم يسمعه أولاهم و أخراهم جميعا فتعود به أولاهم لأخراهم بالتهكم و تقول كما حكى الله: ﴿وَ قَالَتْ أُولاَهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بخفة العذاب ﴿فَذُوقُوا اَلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ في الدنيا من الذنوب و الآثام.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ اِسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ إلى آخر الآية. السم‏ هو الثقب و جمعه السموم، و الخياط و المخيط الإبرة.

و الذي نفاه الله تعالى من تفتيح أبواب السماء مطلق في نفسه يشمل الفتح لولوج

 

 

 أدعيتهم و صعود أعمالهم و دخول أرواحهم غير أن تعقيبه بقوله: ﴿وَ لاَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ إلخ، كالقرينة على أن المراد نفي أن يفتح بابها لدخولهم الجنة فإن ظاهر كلامه سبحانه أن الجنة في السماء كما هو في قوله: ﴿وَ فِي اَلسَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَ مَا تُوعَدُونَ: الذاريات: ٢٢.

و قوله: ﴿حَتَّى يَلِجَ اَلْجَمَلُ فِي سَمِّ اَلْخِيَاطِ من التعليق بالمحال و إنما يعلق الأمر بالمحال كناية عن عدم تحققه و إياسا من وجوده كما يقال: لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب و يبيض الفأر، و قد قال تعالى في موضع آخر في هذا المعنى: ﴿وَ مَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ اَلنَّارِ: البقرة: ١٦٧، و الآية في معنى تعليل مضمون الآية السابقة، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ إلخ.

جهنم‏

 اسم من أسماء نار الآخرة التي بها التعذيب، و قد قيل: إنه مأخوذ من قولهم «بئر جهنام» أي بعيدة القعر و قيل: فارسي معرب، و

المهاد

 الوطاء الذي يفترش، و منه مهد الصبي و

 الغواشي‏

جمع غاشية و هي ما يغشى الشي‏ء و يستره و منه غاشية السرج.

و قد أفيد بقوله: ﴿لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ أنهم محاطون بالعذاب من تحتهم و من فوقهم، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا إلخ.

الآية و ما يتلوها لتتميم بيان حال الطائفتين الكفار و المؤمنين، و لتكون كالتوطئة لقوله الآتي: ﴿وَ نَادى‏َ أَصْحَابُ اَلْجَنَّةِ أَصْحَابَ اَلنَّارِ إلخ.

و قوله: ﴿لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا مسوق للتخفيف و تقوية الرجاء في قلوب المؤمنين فإن تقييد الإيمان بعمل الصالحات و الصالحات جمع محلى باللام و هو يفيد الاستغراق يفيد بظاهره لزوم العمل بجميع الصالحات حتى لا يشذ عنها شاذ، و ما أقل من وفق لذلك من طبقة أهل الإيمان و يسد ذلك باب الرجاء على أكثر المؤمنين فذكر الله سبحانه أن التكليف على قدر الوسع فمن عمل من الصالحات ما وسعه أن يعمله من غير أن يشق على نفسه و يتحمل ما لا طاقة له به بعد الإيمان بالله فهو من أهل هذه الآية، و من أصحاب الجنة هم فيها خالدون.

قوله تعالى: ﴿وَ نَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ اَلْأَنْهَارُ

 الغل

هو الحقد و ضغن القلوب و عداوتها، و في مادتها معنى التوسط باللطف و الحيلة و منه

الغلالة

و هي الثوب المتوسط بين الدثار و الشعار، و غل الصدور من أعظم ما ينغص عيش الإنسان، و ما من إنسان يعاشر إنسانا و يأتلف به إلا و ائتلافه مشروط بأن يوافقه فيما يراه و يريده فإذا شاهد من حاله ما لا يرتضيه جأش صدره بالغل و راحت الألفة و تنغصت العيشة فإذا ذهب الله سبحانه بغل الصدور لم يسؤ الإنسان ما يشاهده من أليفه على الإطلاق و هي اللذة الكبرى و في قوله: ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ اَلْأَنْهَارُ إشارة إلى أنهم ساكنون في قصورها العالية.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي هَدَانَا إلى قوله ﴿بِالْحَقِّ في نسبة التحميد إليهم دلالة على أن الله سبحانه يخلصهم لنفسه فلا يوجد عندهم اعتقاد باطل و لا عمل سي‏ء كما قال تعالى: ﴿لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَ لاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً: الواقعة ٢٦، فيصح منهم تحميد الله سبحانه و يقع توصيفهم موقعه فليس توصيفه تعالى بحيث يصيب غرضه و يقع موقعه بذلك المبتذل حتى يناله كل نائل، قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ اَللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ: الصافات: ١٦٠، و قد تقدم القول في معنى الحمد و خصوصية حمده تعالى في تفسير سورة الحمد.

و في قولهم: ﴿هَدَانَا لِهَذَا وَ مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لاَ أَنْ هَدَانَا اَللَّهُ إشارة إلى اختصاص الهداية به تعالى فليس إلى الإنسان من الأمر شي‏ء.

و في قولهم: ﴿لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ اعتراف بحقية ما وعدهم الله تعالى بلسان أنبيائه، و هو الذي يأخذون الاعتراف به من أصحاب النار على ما تقصه الآية التالية، و في هذا الاعتراف و سائر الاعترافات المأخوذة من الفريقين يوم القيامة من قبل مصدر العظمة و الكبرياء ظهور منه تعالى بالقهر و تمام الربوبية، و يكون ذلك من أهل الجنة شكرا، و من أهل النار تماما للحجة.

و اعتراف أهل الجنة بحقية ما وعدهم الله سبحانه بواسطة رسله هو من الحقائق العالية القرآنية و إن كان بحسب ساذج النظر معنى بسيطا مبتذلا، و لعلنا نوفق لشطر من البحث فيه في ذيل الكلام على هذه الآيات.

قوله تعالى: ﴿وَ نُودُوا أَنْ تِلْكُمُ اَلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الإشارة بلفظ البعيد ﴿تِلْكُمُ  إشارة إلى رفعة قدر الجنة و علو مكانها فإن ظاهر السياق كما

 

 

قيل إن النداء إنما هو حين كونهم في الجنة، و قد جعلت الجنة إرثا لهم في قبال عملهم.

و إنما يتحقق الإرث فيما إذا كان هناك مال أو نحوه مما ينتفع به و هو في معرض انتفاع شخص ثم زال عنه الشخص فبقي لغيره يقال: ورث‏ فلان أباه أي مات و ترك مالا بقي له، و العلماء ورثة الأنبياء أي مختصون بما تركوا لهم من العلم، و يرث الله الأرض أي إنه كان خولهم ما بها من مال و نحوه و سوف يموتون فيبقى له ما خولهم.

و على هذا فكون الجنة إرثا لهم أورثوها معناه كونها خلقت معروضة لأن يكسبها بالعمل المؤمن و الكافر جميعا غير أن الكافر زال عنها بشركه و معاصيه فتركها فبقيت للمؤمن فهو الوارث لها بعمله، و لو لا عمله لم يرثها، قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ اَلْوَارِثُونَ اَلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْفِرْدَوْسَ: المؤمنون: ١١.

و قال تعالى: حكاية عن أهل الجنة: ﴿اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا اَلْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ اَلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ: الزمر: ٧٤.

و هذا أوضح مما ذكره الراغب في المفردات، إذ قال:

 الوراثة و الإرث

‏ انتقال قنية إليك عن غيرك من غير عقد و لا ما يجري مجرى العقد، و سمي بذلك المنتقل عن الميت فيقال للقنية الموروثة

ميراث و إرث و تراث‏

 فقلبت الواو ألفا و تاء قال: ﴿وَ تَأْكُلُونَ اَلتُّرَاثَ، و قال (عليه السلام): اثبتوا على مشاعركم فإنكم على إرث أبيكم‏ أي أصله و بقيته. قال الشاعر:

فنظر في صحف كالرباط *** فيهن إرث كتاب محي‏

قال: و يقال لكل من حصل له شي‏ء من غير تعب: قد ورث كذا و يقال لكل من خول شيئا مهنئا: أورث، قال تعالى: ﴿تِلْكَ اَلْجَنَّةُ اَلَّتِي أُورِثْتُمُوهَا، ﴿أُولَئِكَ هُمُ اَلْوَارِثُونَ اَلَّذِينَ يَرِثُونَ. و قوله: ﴿وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ فإنه يعني وراثة النبوة و العلم و الفضيلة دون المال فالمال لا قدر له عند الأنبياء حتى يتنافسوا فيه بل قلما يقتنون المال و يملكونه أ لا ترى أنه‏

 قال (عليه السلام): «إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة» نصب على الاختصاص فقد قيل: ما تركناه هو العلم و هو صدقة يشترك فيها الأمة،

 و ما روي عنه (عليه السلام) من قوله: «العلماء ورثة الأنبياء» فإشارة إلى ما ورثوه من العلم و استعمل لفظ الورثة لكون ذلك بغير ثمن و لا منة: و قال لعلي رضي الله عنه: أنت أخي و وارثي. قال: و ما إرثك؟ قال: ما ورثت الأنبياء قبلي كتاب الله و سنتي‏،

 

 

و وصف الله تعالى نفسه بأنه الوارث من حيث إن الأشياء كلها صائرة إلى الله تعالى انتهى كلامه.

و إنما كان ما قدمناه أوضح مما ذكره لصعوبة إرجاع ما ذكره من المعاني إلى أصل واحد هو معنى المادة.

قوله تعالى: ﴿وَ نَادى‏َ أَصْحَابُ اَلْجَنَّةِ أَصْحَابَ اَلنَّارِ إلى آخر الآية. هذا في نفسه أخذ اعتراف من أصحاب النار بتوسط أصحاب الجنة و واقع موقع التهكم و السخرية يتهكم و يسخر به أصحاب الجنة من أصحاب النار. و الاستهزاء و السخرية إنما يكون من اللغو الباطل إذا لم يتعلق به غرض حق كالاستهزاء بالحق و أهله أما إذا كان لغرض المقابلة و المجاراة أو لغرض آخر حق من غير محذور فليس من قبيل اللغو الذي لا يصدر عن أهل الجنة قال تعالى حكاية عن نوح (عليه السلام): ﴿وَ يَصْنَعُ اَلْفُلْكَ وَ كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ: هود: ٣٨، و قال:

﴿إِنَّ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَ إِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ  إلى أن قال ﴿فَالْيَوْمَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنَ اَلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ: المطففين: ٣٤.

و أما الفرق بين قولهم: ﴿مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا و قولهم: ﴿مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حيث ذكر المفعول في الوعد الأول دون الثاني فلعل ذلك للدلالة على نوع من التشريف فإن الظاهر أن المراد بما وعد الله جميع ما وعده من الثواب و العقاب لعامة الناس.

و هناك وجه آخر و هو أن متعلق اعتراف المؤمنين و إنكار الكفار من أمر المعاد مختلف في الدنيا فإن المؤمنين يثبتون البعث بجميع خصوصياته التي بينها الله لهم و وعدها إياهم، و أما الكفار المنكرون فإنهم ينكرون أصل البعث الذي اشترك في الوعد به المؤمنون و الكفار جميعا، و لذلك احتج الله سبحانه و يتم الحجة عليهم بأصله دون خصوصياته كقوله تعالى: ﴿وَ لَوْ تَرى‏ إِذْ وُقِفُوا عَلى‏ رَبِّهِمْ قَالَ أَ لَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلى‏ وَ رَبِّنَا» : الأنعام: ٣٠، و قوله: ﴿وَ يَوْمَ يُعْرَضُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى اَلنَّارِ أَ لَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلى‏ وَ رَبِّنَا: الأحقاف: ٣٤.

و على هذا فقولهم: ﴿أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا اعتراف منهم بحقية ما وعدهم الله و كانوا يذعنون به و يشهدون من جميع خصوصيات البعث بما قصهم الله في

 

 

 الدنيا بلسان أنبيائه، و أما الكفار فقد كانوا ينكرون أصل البعث و العذاب، و هو مما يشتركون فيه هم و المؤمنون فلذا قيل: ﴿فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا و لم يقل ما وعدكم ربكم لأن الوعد بأصل البعث و العذاب لم يكن مختصا بهم.

و بذلك يظهر الجواب عما قيل: إن الوفاء بالوعد واجب دون الوفاء بالوعيد على ما ذكره المتكلمون فما معنى أخذ الاعتراف بحقية ما ذكره الله من عقاب الكفار و المجرمين و أنذرهم به في الدنيا، و ليس تحققه بلازم.

و ذلك أن الملاك فيما ذكروه من الفرق أن الثواب حق العامل على ولي الثواب الذي بيده الأمر، و العقاب حق الولي المثيب على العامل، و من الجائز أن يصرف الشخص نظره عن إعمال حق نفسه لكن لا يجوز إبطال حق الغير فإنجاز الوعد واجب دون إنجاز الوعيد، و هذا إنما يتم في موارد الوعيد الخاصة و مصاديقه في الجملة، و أما عدم إنجاز أصل العقاب على الذنب و إبطال أساس المجازاة على التخلف فليس كذلك إذ في إبطاله إبطال التشريع من أصله و إخلال النظام العام.

و ربما وجه الفرق في قوليه: ﴿وَعَدَنَا رَبُّنَا ﴿وَعَدَ رَبُّكُمْ بأن المراد بقوله:

﴿وَعَدَنَا ما وعد الله المتقين من خصوصيات ما يعاملهم به يوم القيامة، و بقوله: ﴿وَعَدَ رَبُّكُمْ عموم ما وعد به المؤمنين و الكفار من الثواب و العقاب يوم القيامة كالذي في قوله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ إلى آخر الآيتين. و من المعلوم أن هذا الوعد لا يختص بالكفار حتى يقال: وعدكم ربكم بل التعبير الحق وعد ربكم.

و فيه: أن أصل الفرق لا بأس به لكنه لا يقطع السؤال فللسائل أن يعود فيقول ما هو السبب الفارق في أن أصحاب الجنة لما أوردوا اعتراف نفسهم اقتصروا بذكر ما يخصهم من أمور يوم القيامة، و أما إذا سألوا أصحاب النار سألوهم عن جميع ما وعد الله به المؤمنين و الكفار؟ و بعبارة أخرى هناك ما يشترك فيه الطائفتان و ما يختص به كل منهما فما بالهم إذا اعترفوا هم أنفسهم اعترفوا بما يختص بأنفسهم و يسألون أصحاب النار الاعتراف بما يشترك فيه الجميع؟.

و ربما وجه الفرق بأن المراد بقوله ﴿مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ الذي وعده أصحاب الجنة من أنواع الثواب الجزيل فإن أصحاب النار يشاهدون ذلك كما يجدون ما بهم من أليم

 

 

 العقاب. و هو وجه سخيف على سخافته لا يغني طائلا.

و قوله: ﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى اَلظَّالِمِينَ تفريع على تحقق الاعتراف من الطائفتين جميعا على حقية ما وعده الله سبحانه، و الأذان هو قوله: ﴿لَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى اَلظَّالِمِينَ و هو إعلام عام للفريقين و الدليل عليه ظاهر قوله: ﴿بَيْنَهُمْ بقضاء اللعنة و هي الإبعاد و الطرد من الرحمة الإلهية على الظالمين و قد فسر الظالمين الذين ضربت عليهم باللعنة بقوله: ﴿اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ فهم الكافرون المنكرون للآخرة الذين يصدون عن سبيل الله محرفة منحرفة، و يصرفون غيرهم عن سلوك الصراط المستقيم فهؤلاء هم المعاندون للحق المنكرون للمعاد.

و هذا الوصف يشمل جميع المعاندين للحق الكافرين بالجزاء حتى المنكرين للصانع الذين لا يدينون بدين فإن الله سبحانه يذكر في كتابه أن دينه و سبيله الذي يهدي إليه و به هو سبيل الإنسانية الذي تدعو إليه الفطرة الإنسانية و الخلقة خص بها الإنسان ليس وراءه إسلام و لا دين.

فالسبيل الذي يسلكه الإنسان في حياته هو سبيل الله و صراطه و هو الدين الإلهي فإن سلكه على استقامة ما تدعو إليه الفطرة و هو الذي يسوقه إلى سعادته كان هو الصراط المستقيم و الإسلام الذي هو الدين عند الله و سبيل الله الذي لا عوج فيه، و إن سلك غير ذلك سواء كان فيه إذعان بألوهية و عبادة لمعبود كالملل و الأديان الباطلة أو لم يكن فيه خضوع لشي‏ء و عبادة لمعبود كالمادية المحضة فهو سلوك يبغون فيه سبيل الله عوجا و هو الإسلام محرفا عن وجهه، و نعمة الله التي بدلت كفرا، فافهم ذلك.

و قد أبهم الله هذا الذي يخبر عنه بقوله: ﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ و لم يعرفه من هو؟ أ من الإنس أم من الجن أم من الملائكة؟ لكن الذي يقتضيه التدبر في كلامه تعالى أن يكون هذا المؤذن من البشر لا من الجن و لا من الملائكة: أما الجن فلم يذكر في شي‏ء من تضاعيف كلامه تعالى أن يتصدى الجن شيئا من التوسط في أمر الإنسان من لدن وروده في عالم الآخرة و هو حين نزول الموت إلى أن يستقر في جنة أو نار فيختم أمره فلا موجب لاحتمال كونه من الجن.

و أما الملائكة فإنهم وسائط لأمر الله و حملة لإرادته بأيديهم إنفاذ الأوامر الإلهية،

 

 

و بوساطتهم يجري ما قضى به في خلقه، و قد ذكر الله سبحانه أشياء من أمرهم و حكمهم في عالم الموت و في جنة الآخرة و نارها كقولهم للظالمين حين القبض: ﴿أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الخ: الأنعام: ٩٣ و قولهم لأهل الجنة: ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ الخ: النحل: ٣٢ و قول مالك لأهل النار: ﴿إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ الخ:، الزخرف: ٧٧، و نظائر ذلك.

و أما المحشر و هو حظيرة البعث و السؤال و الشهادة و تطاير الكتب و الوزن و الحساب و الظرف الذي فيه الحكم الفصل فلم يذكر للملائكة فيه شي‏ء من الحكم أو الأمر و النهي و لا لغيرهم صريحا إلا ما صرح تعالى به في حق الإنسان.

كقوله تعالى في أصحاب الأعراف في ذيل هذه الآيات حكاية عنهم: ﴿وَ نَادَوْا أَصْحَابَ اَلْجَنَّةِ أَنْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ و قولهم لجمع من المؤمنين هناك: ﴿اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ و هذا حكم و أمر و تأمين بإذن الله، و قوله تعالى فيما يصف يوم القيامة: ﴿قَالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ إِنَّ اَلْخِزْيَ اَلْيَوْمَ وَ اَلسُّوءَ عَلَى اَلْكَافِرِينَ: النحل: ٢٧ و قوله تعالى بعد ذكر سؤاله أهل الجمع عن مدة لبثهم في الأرض: ﴿وَ قَالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ اَلْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اَللَّهِ إِلى‏َ يَوْمِ اَلْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ اَلْبَعْثِ وَ لَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ: الروم: ٥٦.

فهذه جهات من تصدي الشئون، و القيام بالأمر يوم القيامة حبا الله الإنسان به دون الملائكة مضافا إلى أمثال الشهادة و الشفاعة اللتين له.

فهذا كله يقرب إلى الذهن أن يكون هذا المؤذن من الإنسان دون الملائكة، و يأتي في البحث الروائي ما له تعلق بالمقام.

قوله تعالى: ﴿وَ بَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَ عَلَى اَلْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ

الحجاب‏

 معروف و هو الستر المتخلل بين شيئين يستر أحدهما من الآخر. و

الأعراف‏

الحجاب، و التلال من الرمل و

العرف‏

 للديك و للفرس و هو الشعر فوق رقبته و أعلى كل شي‏ء ففيه معنى العلو على أي حال، و ذكر الحجاب قبل الأعراف، و ما ذكر بعده من إشرافهم على الجميع و ندائهم أهل الجنة و النار جميعا كل ذلك يؤيد أن يكون المراد بالأعراف أعالي الحجاب الذي بين الجنة و النار و هو المحل المشرف على الفريقين أهل الجنة و أهل النار جميعا.

 

 

 و

السيماء

 العلامة قال الراغب: السيماء و السيمياء العلامة، قال الشاعر:

له سيمياء لا تشق على البصر *** ...

 و قال تعالى: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ و قد سومته أي أعلمته، و مسومين أي معلمين (انتهى).

و الذي يعطيه التدبر في معنى هذه الآية و ما يلحق بها من الآيات أن هذا الحجاب الذي ذكره الله تعالى إنما هو بين أصحاب الجنة و أصحاب النار فهما مرجع الضمير في قوله: ﴿وَ بَيْنَهُمَا و قد أنبأنا الله سبحانه بمثل هذا المعنى عند ذكر محاورة بين المنافقين و المؤمنين يوم القيامة بقوله: ﴿يَوْمَ يَقُولُ اَلْمُنَافِقُونَ وَ اَلْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا اُنْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ اِرْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ اَلرَّحْمَةُ وَ ظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ اَلْعَذَابُ: الحديد: ١٣، و إنما هو حجاب لكونه يفرق بين الطائفتين و يحجب إحداهما عن الأخرى لا أنه ثوب منسوج مخيط على هيئة خاصة معلق بين الجنة و النار ثم أخبر الله سبحانه أن على أعراف الحجاب و أعاليه رجالا مشرفين على الجانبين لارتفاع موضعهم يعرفون كلا من الطائفتين أصحاب الجنة و أصحاب النار بسيماهم و علامتهم التي تختص بهم.

و لا ريب في أن السياق يفيد أن هؤلاء الرجال منحازون على الطائفتين متمايزون من جماعتهم فهل ذلك لكونهم خارجين عن نوع الإنسان كالملائكة أو الجن مثلا، أو لكونهم خارجين عن أهل الجمع من حيث ما يتعلق بهم من السؤال و الحساب و سائر الشئون الشبيهة بهما فيكون بذلك أهل الجمع منقسمين إلى طوائف ثلاث: أصحاب الجنة، و أصحاب النار، و أصحاب الأعراف كما قسمهم الله في الدنيا إلى طوائف ثلاث:

المؤمنين و الكفار و المستضعفين الذين لم تتم عليهم الحجة و قصروا عن بلوغ التكليف كضعفاء العقول من النساء و الأطفال غير البالغين و الشيخ الهرم الخرف و المجنون و السفيه و أضرابهم، أو لكونهم مرتفعين عن موقف أهل الجمع بمكانتهم؟.

لا ريب أن إطلاق لفظ ﴿رِجَالٌ لا يشمل الملائكة فإنهم لا يتصفون بالرجولية و الأنوثية كما يتصف به جنس الحيوان و إن قيل: إنهم ربما يظهرون في شكل الرجال فإن ذلك لا يصحح الاتصاف و التسمية، على أنه لا دليل يدل عليه.

 

 

 ثم إن التعبير بمثل قوله: ﴿رِجَالٌ يَعْرِفُونَ إلخ، و خاصة بالتنكير يدل بحسب عرف اللغة على اعتناء تام بشأن الأفراد المقصودين باللفظ نظرا إلى دلالة الرجل بحسب العادة على الإنسان القوي في تعقله و إرادته الشديد في قوامه.

و على ذلك يجري ما يوجد في كلامه تعالى من مثل هذا التعبير كقوله تعالى:

﴿رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَ لاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللَّهِ: النور: ٣٧، و قوله: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا: التوبة: ١٠٨، و قوله: ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اَللَّهَ عَلَيْهِ» : الأحزاب: ٢٣، و قوله: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ: يوسف:

 ١٠٩ حتى في مثل قوله: ﴿مَا لَنَا لاَ نَرى‏َ رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ اَلْأَشْرَارِ: _ ص: ٦٢، و قوله: ﴿وَ أَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ اَلْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ اَلْجِنِّ: الجن: ٦.

فالمراد برجال في الآية أفراد تامون في إنسانيتهم لا محالة، و إن فرض أن فيهم أفرادا من النساء كان من التغليب.

و أما المستضعفون فإنهم ضعفاء أفراد الإنسان لا مزية في أمرهم توجب الاعتناء بشأنهم، و فيهم النساء و الأطفال حتى الأجنة، و لا فضل لبعضهم على بعض، و لرجالهم على غيرهم حتى يعبر به عنهم بالرجال تغليبا فلو كانوا هم المرادين بقوله ﴿رِجَالٌ يَعْرِفُونَ إلخ، لكان حق التعبير أن يقال: قوم يعرفون إلخ، أو أناس أو طائفة أو نحو ذلك كما هو المعهود من تعبيرات القرآن الكريم في أمثال هذه الموارد كقوله تعالى: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اَللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ: الأعراف: ١٦٤، و قوله: ﴿إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ : الأعراف: ٨٢، و قوله: ﴿فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَ كَفَرَتْ طَائِفَةٌ: الصف: ١٤.

على أن ما يصفهم الله تعالى به في الآيات التالية من الأوصاف و يذكرهم به من الشئون أمور تأبى إلا أن يكون القائمون به من أهل المنزلة و المكانة، و أصحاب القرب و الزلفى فضلا أن يكونوا من الناس المتوسطين فضلا أن يكونوا من المستضعفين.

فأول ذلك: أنهم جعلوا على الأعراف و وصفوا بأنهم مشرفون على أهل الجمع عامة، و مطلعون على أصحاب الجنة و أصحاب النار يعرفون كل إنسان منهم بسيماه الخاص به و يحيطون بخصوصيات نفوسهم و تفاصيل أعمالهم، و لا ريب أن ذلك منزلة رفيعة يختصون بها من بين الناس، و ليست مشاهدة جميع الناس يوم القيامة و خاصة بعد دخول

 

 

 الجنة و النار أمرا عاما موجودا عند الجميع فإن الله يقول حكاية عن قول أهل النار:

﴿مَا لَنَا لاَ نَرى‏َ رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ اَلْأَشْرَارِ: ص: ٦٢، و قولهم: ﴿رَبَّنَا أَرِنَا اَلَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ اَلْأَسْفَلِينَ: حم السجدة: ٢٩، و قال: ﴿لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ: عبس: ٣٧.

و ليس معنى السيماء أن يعلم المؤمنون و الكفار بعلامة عامة يعرف صنفهم بها كل من شاهدهم كبياض الوجه و سواده مثلا فإن قوله تعالى في الآية التالية: ﴿وَ نَادى‏َ أَصْحَابُ اَلْأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنى‏ عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَ مَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَ هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اَللَّهُ بِرَحْمَةٍ يفيد أنهم ميزوا خصوصيات من أحوالهم و أعمالهم من سيماهم ككونهم مستكبرين أولي جمع و قد أقسموا كذا و كذا، و هذه أمور وراء الكفر و الإيمان في الجملة.

و ثانيا: أنهم يحاورون الفريقين فيكلمون أصحاب الجنة و يحيونهم بتحية الجنة، و يكلمون أئمة الكفر و الضلال و الطغاة من أهل النار فيقرعون عليهم بأحوالهم و أقوالهم مسترسلين في ذلك من غير أن يحجزهم حاجز، و ليس التكلم بمجاز يومئذ إلا للأوحدي من عباد الله الذين لا ينطقون إلا بحق، قال تعالى: ﴿لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمَنُ وَ قَالَ صَوَاباً: النبأ: ٣٨، و هذا وراء ما يناله المستضعفون.

و ثالثا: أنهم يؤمنون أهل الجنة بالتسليم عليهم ثم يأمرونهم بدخول الجنة في أمر مطلق على ما هو ظاهر السياق في الآيات التالية.

و رابعا: أنه لا يشاهد فيما يذكره الله من مكانتهم و ما يحاورون به أصحاب الجنة و الجبابرة المستكبرين من أصحاب النار شي‏ء من آثار الفزع و القلق عليهم و لا اضطراب في أقوالهم، و لم يذكر أنهم محضرون فيه مختلطون بالجماعة داخلون فيما دخلوا فيه من الأهوال التي تجعل الأفئدة هواء و الجبال سرابا، و قد قال تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلاَّ عِبَادَ اَللَّهِ اَلْمُخْلَصِينَ: الصافات: ١٢٨، فجعل ذلك من خاصة مخلصي عباده، ثم استثناهم من كل هول أعد ليوم القيامة.

ثم إنه تعالى ذكر دعاءهم في قوله: ﴿وَ إِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ اَلنَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ و لم يعقبه بالرد فدل ذلك على أنهم مجازون فيما

 

 

 يتكلمون به مستجاب دعاؤهم، و لو لا ذلك لعقبه بالرد كما في موارد ذكرت فيها أدعية أهل الجمع و مسائل أصحاب النار و أدعية أخرى من غيرهم.

فهذه الخصوصيات التي تنكشف واحدة بعد واحدة من هذه الآيات بالتدبر فيها و أخرى تتبعها لا تبقي ريبا للمتدبر في أن هؤلاء الذين أخبر الله سبحانه عنهم في قوله:

﴿وَ عَلَى اَلْأَعْرَافِ رِجَالٌ جمع من عباد الله المخلصين من غير الملائكة هم أرفع مقاما و أعلى منزلة من سائر أهل الجمع يعرفون عامة الفريقين، لهم أن يتكلموا بالحق يوم القيامة و لهم أن يشهدوا، و لهم أن يشفعوا، و لهم أن يأمروا و يقضوا.

و أما أنهم من الإنس أو من الجن أو من القبيلين مختلطين؟ فلا طريق من اللفظ يوصلنا إلى العلم به غير أن شيئا من كلامه تعالى لا يدل على تصدي الجن شيئا من شئون يوم القيامة و لا توسطا في أمر يعود إلى الحكم الفصل الذي يجري على الإنسان يومئذ كالشهادة و الشفاعة و نحوهما.

و لا ينافي ما قدمناه من أوصافهم و نعوتهم أمثال قوله تعالى: ﴿يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ اَلْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ: الانفطار: ١٩، فإن الآية مفسرة بآيات أخرى تدل على أن المراد بها إنما هو ظهور ملكه تعالى لكل شي‏ء و إحاطته بكل أمر لا حدوث ملكه يومئذ فإنه مالك على الإطلاق دائما لا وقتا دون وقت، و لا يملك نفس لنفس شيئا دائما لا في الآخرة فحسب لنفسه؟ و الملائكة على وساطتهم يومئذ، و الشهداء يملكون شهادتهم يومئذ، و الشفعاء يملكون شفاعتهم يومئذ و قد نص على ذلك كلامه تعالى قال: ﴿وَ تَتَلَقَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ اَلَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ: الأنبياء: ١٠٣، و قال: ﴿يَوْمَ يَقُومُ اَلْأَشْهَادُ: المؤمن: ٥١، و قال: ﴿وَ لاَ يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ: الزخرف: ٨٦.

فلله سبحانه الملك يومئذ و له الحكم يومئذ، و لغيره ما أذن له فيه كالدنيا غير أن الذي يختص به يوم القيامة ظهور هذه الحقائق ظهور عيان لا يقبل الخفاء، و حضورها بحيث لا يغيب بغفلة أو جهل أو خطإ أو بطلان.

و قد اشتد الخلاف بينهم في معنى الآية حتى ساق بعضهم إلى أقوال لا تخلو عن المجازفة فقد اختلفوا في معنى الأعراف:

 

 

١ - فمن قائل: أنه شي‏ء مشرف على الفريقين.

 ٢ - و قيل: سور له عرف كعرف الديك.

 ٣ - و قيل: تل بين الجنة و النار جلس عليه ناس من أهل الذنوب.

 ٤ - و قيل: السور الذي ذكره الله في القرآن بين المؤمنين و المنافقين إذ قال:

﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ.

 ٥ - و قيل: معنى الأعراف التعرف أي على تعرف حال الناس رجال.

 ٦ - و قيل: هو الصراط.

ثم اختلفوا في الرجال الذين على الأعراف على أقوال أنهيت إلى اثني عشر قولا:

 ١ - أنهم أشراف الخلق الممتازون بكرامة الله.

 ٢ - أنهم قوم استوت حسناتهم و سيئاتهم فلم يترجح حسناتهم حتى يدخلوا الجنة و لا غلبت سيئاتهم حتى يؤمروا بدخول النار فأوقفهم الله تعالى على هذه الأعراف لكونها درجة متوسطة بين الجنة و النار ثم يدخلهم الجنة برحمته.

 ٣ - أنهم أهل الفترة.

٤ - أنهم مؤمنوا الجن.

 ٥ - أنهم أولاد الكفار الذين لم يبلغوا في الدنيا أوان البلوغ.

 ٦ - أنهم أولاد الزنا.

 ٧ - أنهم أهل العجب بأنفسهم.

 ٨ - أنهم ملائكة واقفون عليها يعرفون كلا بسيماهم، و إذا أورد عليهم أن الملائكة لا تتصف بالرجولية و الأنوثية قالوا: إنهم يتشكلون بأشكال الرجال.

 ٩ - أنهم الأنبياء (عليه السلام) يقامون عليها تمييزا لهم على سائر الناس و لأنهم شهداء عليهم.

 ١٠ - أنهم عدول الأمم الشهداء على الناس يقومون عليها للشهادة على أممهم.

 ١١ - أنهم قوم صالحون فقهاء علماء.

 ١٢ - أنهم العباس و حمزة و علي و جعفر يجلسون على موضع من الصراط يعرفون محبيهم ببياض الوجوه، و مبغضيهم بسوادها ذكر الآلوسي في روح المعاني، أن هذا

 

 

 القول رواه الضحاك عن ابن عباس.

قال في المنار،: و لم نره في شي‏ء من كتب التفسير المأثور، و الظاهر أنه نقله عن تفاسير الشيعة، و فيه أن أصحاب الأعراف يعرفون كلا من أهل الجنة و أهل النار بسيماهم فيميزون بينهم أو يشهدون عليهم فأي فائدة في تمييز هؤلاء السادة على الصراط لمن كان يبغضهم من الأمويين و من يبغضون عليا خاصة من المنافقين و النواصب؟ و أين الأعراف من الصراط؟ هذا بعيد عن نظم الكلام و سياقه جدا (انتهى).

أقول: أما الرواية فلا توجد في شي‏ء من تفاسير الشيعة بطرقهم إلى الضحاك، و قد نقله في مجمع البيان، عن الثعلبي في تفسيره بإسناده عن الضحاك عن ابن عباس، و سيأتي ما في روايات الشيعة في رجال الأعراف في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.

و أما طرحه الرواية فهو في محله غير أن الذي استند إليه في طرحها ليس في محله فإنه يكشف عن نحو السلوك الذي يسلكه في الأبحاث المتعلقة بالمعاد فإنه يقيس نظام الوقائع التي يقصها القرآن و الحديث ليوم القيامة إلى النظام الجاري في النشأة الدنيوية، و يعده من نوعه فيوجه منها ما لاح سبب وقوعه، و يبقي ما لا ينطبق على النظام، الدنيوي على الجمود و هو الجزاف في الإرادة فافهم ذلك.

و لو جاز أن يغني تمييز أهل الأعراف عن تمييز أهل الصراط فتبطل فائدته فيبطل بذلك أصله - كما ذكره - لأغنى الصراط نفسه عن تمييز أهل الأعراف، و أغنى عن المسألة و الحساب، و نشر الدواوين، و نصب الموازين، و حضور الأعمال، و إقامة الشهود و إنطاق الأعضاء، و لأغنى بعض هذه عن بعض، و وراء ذلك كله إحاطة رب العالمين فعلمه يغني عن الجميع، و هو لا يسأل عما يفعل.

و كأنه فرض أن نسبة الأعراف و هي أعالي الحجاب من الصراط الممدود هناك كنسبة السور و الحائط الذي عندنا إلى الصراط الممدود الذي يسلكه الطراق السالكون لا يجتمع هاهنا الصراط و السور و لا يتحدان فلا يسع لأحد أن يكون سألك صراط أو واقفا عليه و واقفا على السور معا في زمان واحد، و لذلك قال: و أين الصراط من الأعراف؟ فقاس ما هناك إلى ما هاهنا، و قد عرفت فساده.

ثم الوارد في ظواهر الحديث أن الصراط جسر ممدود على النار يعبر منه أهل

 

 

 المحشر من موقفهم إلى الجنة فينجي الله الذين آمنوا و يسقط الظالمون من الناس في النار فما المانع من أن يكون الحجاب الموعود مضروبا عليه و الأعراف في الحجاب؟.

على أنه فات منه أن أحد الأقوال في معنى الأعراف أنه الصراط كما رواه الطبري في تفسيره، عن ابن مسعود و رواه في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم عن ابن جريح قال: زعموا أنه الصراط.

و أما قوله: «هذا بعيد عن نظم الكلام و سياقه جدا» فأوضح فسادا فسياق هذه الأنباء الغيبية و النظم المأخوذ فيها يذكر لنا أمورا بنعوت عامة و بيانات مطلقة معانيها معلومة، و حقائقها مبهمة مجهولة إلا المقدار الذي تهدي إليه بياناته تعالى، و يوضع بعض أجزائه بعضا، و لا يأبى ذلك أن يقصد ببعض النعوت المذكورة فيها رجال معينون بأشخاصهم إذا انطبقت عليهم الأوصاف المذكورة فيها، و لا أن ينطبق بعض البيانات على بعض في موارد مع تعدد البيان لفظا كالعدل و الميزان مثلا.

فهذه اثنا عشر قولا و يمكن أن يضاف إلى عدتها قولان آخران:

أحدهما: أنهم المستضعفون ممن لم تتم عليهم الحجة و لم يتعلق بهم التكليف كالضعفاء من الرجال و النساء و الأطفال غير البالغين، و يمكن أن يدرج في القول الثاني المتقدم بأن يقال: إنهم الذين لا تترجح أعمالهم من الحسنات أو السيئات على خلافها سواء كان ذلك لعدم تمام الحجة فيهم و تعلق التكليف بهم حتى يحاسبوا عليه كالأطفال و المجانين و أهل الفترة و نحوهم أو لأجل استواء حسناتهم و سيئاتهم في القدر و الوزن فحكم القسمين واحد.

الثاني: أنهم الذين خرجوا إلى الجهاد من غير إذن آبائهم فاستشهدوا فيها فهم من أهل النار لمعصيتهم و من أهل الجنة لشهادتهم! و عليه رواية، و يمكن إدراجه في القول الثاني.

و الأقوال المذكورة غير متقابلة جميعا في الحقيقة فإن القول بكونهم أهل الفترة و القول بكونهم أولاد الكفار إنما ملاكهما عدم ترجح شي‏ء من الحسنات و السيئات على الآخر فيرجعان بوجه إلى القول الثاني و كذا القول بكونهم أولاد الزنا نظرا إلى أنهم لا مؤمنون و لا كفار، و كذا رجوع القول التاسع و العاشر و الحادي عشر و الثاني عشر

 

 

 إلى القول الأول بوجه.

فأصول الأقوال في رجال الأعراف ثلاثة:

أحدها: أنهم رجال من أهل المنزلة و الكرامة على اختلاف بينهم في أنهم من هم؟ فقيل: هم الأنبياء، و قيل: الشهداء على الأعمال، و قيل: العلماء الفقهاء، و قيل:

غير ذلك كما مر.

و الثاني: أنهم الذين لا رجحان في أعمالهم للحسنة على السيئة و بالعكس على اختلاف منهم في تشخيص المصداق.

و الثالث: أنهم من الملائكة، و قد مال الجمهور إلى الثاني من الأقوال، و عمدة ما استندوا إليه في ذلك أخبار مأثورة سنوردها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.

و قد عرفت أن الذي يعطيه سياق الآيات هو الأول من الأقوال حتى أن بعضهم مع تمايله إلى القول الثاني لم يجد بدا من بعض الاعتراف بعدم ملاءمة سياق الآيات ذلك كالآلوسي في روح المعاني،.

قوله تعالى: ﴿وَ نَادَوْا أَصْحَابَ اَلْجَنَّةِ أَنْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَ هُمْ يَطْمَعُونَ المنادون هم الرجال الذين على الأعراف على ما يعطيه السياق و قوله: ﴿أَنْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ يفسر ما نادوا به، و قوله: ﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا وَ هُمْ يَطْمَعُونَ جملتان حاليتان فجملة ﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا من أصحاب الجنة، و جملة ﴿وَ هُمْ يَطْمَعُونَ حال آخر من أصحاب الجنة و المعنى: أن أصحاب الجنة نودوا و هم في حال لم يدخلوا الجنة بعد و هم يطمعون في أن يدخلوها، أو حال من ضمير الجمع في ﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا و هو العامل فيه، و المعنى أن أصحاب الجنة نودوا بذلك و هم في الجنة لكنهم لم يدخلوا الجنة على طمع في دخولها لأن ما شاهدوه من أهوال الموقف و دقة الحساب كان أيأسهم من أن يفوزوا بدخول الجنة لكن قوله بعد: ﴿أَ هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ إلى آخر الآية يؤيد أول الاحتمالين و أنهم إنما سلموا عليهم قبل دخولهم الجنة.

و أما احتمال أن تكون الجملتان حالين من ضمير الجمع في ﴿نَادَوْا فيوجب سقوط الجملة عن الإفادة كما هو ظاهر، و ذلك لرجوع المعنى إلى أن هؤلاء الرجال الذين هم

 

 

 على أعراف الحجاب بين الجنة و النار نادوا و هم لم يدخلوا.

و على من يميل إلى أن يجعل قوله: ﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا وَ هُمْ يَطْمَعُونَ بيانا لحال أصحاب الأعراف أن يجعل قوله: ﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا استئنافا يخبر عن حال أصحاب الأعراف أو صفة لرجال و التقدير: و على الأعراف رجال لم يدخلوها و هم يطمعون و إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا.. إلخ كما نقل عن الزمخشري في الكشاف،.

لكن يبعد الاستئناف أن اللازم حينئذ إظهار الفاعل في قوله: ﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا دون إضماره لمكان اللبس كما فعل ذلك في قوله: ﴿وَ نَادى‏َ أَصْحَابُ اَلْأَعْرَافِ رِجَالاً إلخ، و يبعد الوصفية الفصل بين الموصوف و الصفة بقوله: ﴿وَ نَادَوْا أَصْحَابَ اَلْجَنَّةِ أَنْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ من غير ضرورة موجبة.

و هذا التقدير الذي تقدم أعني رجوع معنى قوله: ﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا وَ هُمْ يَطْمَعُونَ وَ إِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ إلى آخر الآية، إلى قولنا: و على الأعراف رجال يطمعون في دخول الجنة و يتعوذون من دخول النار على ما زعموا هو الذي مهد لهم الطريق و سواه للقول بأن أصحاب الأعراف رجال استوت حسناتهم و سيئاتهم فلم يترجح لهم أن يدخلوا الجنة أو النار فأوقفوا على الأعراف!.

لكنك عرفت أن قوله ﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا إلخ، حال أصحاب الجنة لا وصف أصحاب الأعراف، و أما قوله: ﴿وَ إِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ إلخ، فسيأتي ما في كونه بيانا لحال أصحاب الأعراف من الكلام.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ اَلنَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ التلقاء كالبيان مصدر لقي يلقى ثم استعمل بمعنى جهة اللقاء، و ضمير الجمع في قوله: ﴿أَبْصَارُهُمْ و قوله: ﴿قَالُوا عائد إلى ﴿رِجَالٌ و التعبير عن النظر إلى أصحاب النار بصرف أبصارهم إليه كأن الوجه فيه أن الإنسان لا يحب إلقاء النظر إلى ما يؤلمه النظر إليه و خاصة في مثل المورد الذي يشاهد الناظر فيه أفظع الحال و أمر العذاب و أشقه الذي لا يطاق النظر إليه غير أن اضطراب النفس و قلق القلب ربما يفتح العين نحوه للنظر إليه كان غيره هو الذي صرف نظره إليه و إن كان الإنسان لو خلي و طبعه لم يرغب في النظر و لو بوجه نحوه، و لذا قيل: ﴿وَ إِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ إلخ و لم يقل

 

 

 و إذا نظروا إليه أو ما يفيد مفاده.

و معنى الآية: و إذا نظر أصحاب الأعراف أحيانا إلى أصحاب النار تعوذوا بالله من أن يجعلهم مع أصحاب النار فيدخلهم النار، و قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين.

و ليس دعاؤهم هذا الدعاء دالا على سقوط منزلتهم، و خوفهم من دخول النار كما يدل على رجائهم دخول الجنة قوله ﴿وَ هُمْ يَطْمَعُونَ و ذلك أن ذلك مما دعا به أولوا العزم من الرسل و الأنبياء المكرمون و العباد الصالحون و كذا الملائكة المقربون فلا دلالة فيه و لو بالإشعار الضعيف على كون الداعي ذا سقوط في حاله و حيرة من أمره. هذا ما فسروا به الآية بإرجاع ضميري الجمع إلى ﴿رِجَالٌ.

لكنك خبير بأن ذلك لا يلائم الإظهار الذي في مفتتح الآية التالية في قوله:

﴿وَ نَادى‏َ أَصْحَابُ اَلْأَعْرَافِ إذ الكلام في هذه الآيات الأربع جار في أوصاف أصحاب الأعراف و أخبارهم كقوله: ﴿يَعْرِفُونَ كُلاًّ إلخ، و قوله: ﴿وَ نَادَوْا أَصْحَابَ اَلْجَنَّةِ إلخ و قوله: ﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا إلخ، على احتمال، و قوله: ﴿وَ إِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ إلخ، فكان من اللازم أن يقال: «و نادوا أي أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم» إلخ، و ليس في الكلام أي لبس و لا نكتة ظاهرة توجب العدول من الإضمار الذي هو الأصل في المقام إلى الإظهار بمثل قوله: ﴿وَ نَادى‏َ أَصْحَابُ اَلْأَعْرَافِ.

فالظاهر أن ضميري الجمع أعني ما في قوله: ﴿أَبْصَارُهُمْ و قوله ﴿قَالُوا راجعان إلى أصحاب الجنة، و الجملة إخبار عن دعائهم إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار كما أن الجملة السابقة بيان لطمعهم في دخول الجنة، و كل ذلك قبل دخولهم الجنة.

قوله تعالى: ﴿وَ نَادى‏َ أَصْحَابُ اَلْأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ إلى آخر الآية، في توصيف الرجال بقوله: ﴿يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ دلالة على أن سيماءهم كما يدلهم على أصل كونهم من أصحاب الجنة يدلهم على أمور أخر من خصوصيات أحوالهم، و قد مرت الإشارة إليه.

و قوله: ﴿قَالُوا مَا أَغْنى‏َ عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَ مَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ تقريع لهم و شماتة، و كشف عن تقطع الأسباب الدنيوية عنهم فقد كانوا يستكبرون عن الحق و يستذلونه و يغترون بجمعهم.

 

 

قوله تعالى: ﴿أَ هَؤُلاَءِ اَلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اَللَّهُ بِرَحْمَةٍ إلى آخر الآية. الإشارة إلى أصحاب الجنة، و الاستفهام للتقرير أي هؤلاء هم الذين كنتم تجزمون قولا أنهم لا يصيبهم فيما يسلكونه من طريق العبودية خير، و أصابه الخير هي نيله تعالى إياهم برحمة و وقوع النكرة ﴿بِرَحْمَةٍ  في حيز النفي يفيد استغراق النفي للجنس، و قد كانوا ينفون عن المؤمنين كل خير.

و قوله: ﴿اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ، أمر من أصحاب الأعراف للمؤمنين أن يدخلوا الجنة بعد تقرير حالهم بالاستفهام، و هذا هو الذي يفيده السياق.

و قول بعضهم في الآية: إنها بتقدير القول أي قيل لهم من قبل الرحمن: ادخلوا الجنة لا خوف عليكم مما يكون في مستقبل أمركم، و لا أنتم تحزنون من شي‏ء ينغص عليكم حاضركم، و حذف القول للعلم به من قرائن الكلام كثير في التنزيل و في كلام العرب الخلص (انتهى). مدفوع بعدم مساعدة السياق و دلالة القرائن عليه بوجه كما تقدم بيانه، و ليس إذا جاز تقدير القول في محل لتبادر معناه من الكلام جاز ذلك في أي مقام أريد، و أي سياق أم أية قرينة تدل على ذلك في المقام؟

كلام في معنى الأعراف في القرآن‏

لم يذكر الأعراف في القرآن إلا في هذه الآيات الأربع من سورة الأعراف (٤٦ - ٤٩) و قد استنتج باستيفاء البحث في الآيات الشريفة أنه من المقامات الكريمة الإنسانية التي تظهر يوم القيامة، و قد مثله الله سبحانه بأن بين الدارين دار الثواب و دار العقاب حجابا يحجز إحداهما من الأخرى و الحجاب بالطبع خارج عن حكم طرفيه في عين أنه مرتبط بهما جميعا و للحجاب أعراف و على الأعراف رجال مشرفون على الناس من الأولين و الآخرين يشاهدون كل ذي نفس منهم في مقامه الخاص به على اختلاف مقاماتهم و درجاتهم و دركاتهم من أعلى عليين إلى أسفل سافلين، و يعرفون كلا منهم بما له من الحال الذي يخصه و العمل الذي عمله، لهم أن يكلموا من شاءوا منهم، و يؤمنوا من شاءوا، و يأمروا بدخول الجنة بإذن الله.

و يستفادوا من ذلك أن لهم موقفا خارجا من موقفي السعادة التي هي النجاة

 

 

 بصالح العمل، و الشقاوة التي هي الهلاك بطالح العمل، و مقاما أرفع من المقامين معا و لذلك كان مصدرا للحكم و السلطة عليهما جميعا.

و لك أن تعتبر في تفهم ذلك بما تجده عند الملوك و مصادر الحكم فهناك جماعة منعمون بنعمتهم مشمولون لرحمتهم يستدرون ضرع السعادة بما تشتهيه أنفسهم، و آخرون محبوسون في سجونهم معذبون بأليم عذابهم قد أحاط بهم هوان الشقاوة من كل جانب فهذان ظرفان ظرف السعادة و ظرف الشقاوة، و الظرفان متمايزان لا يختلطان بظرف آخر ثالث يحكم فيهما و يصلح شأن كل منهما و ينظم أمره و في هذا الظرف قوم خدمة يخدمون العرش بمداخلتهم الجانبين و إهداء النعم إلى أهل السعادة، و إيصال النقم إلى أهل الشقاوة، و هم مع ذلك من السعداء، و قوم آخر وراء الخدمة و العمال هم المدبرون لأمر الجميع و هم أقرب الوسائط من العرش، و هم أيضا من السعداء، فللسعادة مراتب من حيث الإطلاق و التقييد.

و ليس من الممتنع على ملك يوم الدين أن يخص قوما برحمته فيدخلهم بحسناتهم الجنة و يبسط عليهم بركاته بما أنه الغفور ذو الفضل العظيم، و يدخل آخرين في ناره و دار هوانه بما عملوه من سيئاتهم و هو عزيز ذو انتقام شديد العقاب ذو البطش، و يأذن لطائفة ثالثة أن يتوسطوا بينه و بين الفريقين بإجراء أوامره و أحكامه فيهم أو إصدارها عليهم بإسعاد من سعد منهم و إشقاء من شقي فإنه الواحد القهار الذي يقهر بوحدته كل شي‏ء كما شاء بتوسيط أو إسعاد أو إشقاء، و قد قال تعالى: ﴿لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ فافهم.

بيان‏

قوله تعالى: ﴿وَ نَادى‏ أَصْحَابُ اَلنَّارِ أَصْحَابَ اَلْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا إلخ، الإفاضة من الفيض و هو سيلان الماء منصبا، قال تعالى: ﴿تَرى‏َ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ اَلدَّمْعِ أي يسيل دمعها منصبا، و عطف سائر ما رزقهم الله من النعم على الماء يدل على أن المراد بالإفاضة صب مطلق النعم أعم من المائع و غيره على نحو عموم المجاز، و ربما قيل: إن الإفاضة حقيقة في إعطاء النعمة الكثيرة فيكون تعليقه على الماء و غيره حقيقة حينئذ.

و كيف كان ففي الآية إشعار بعلو مكانة أهل الجنة بالنسبة إلى مكان أهل النار.

و إنما أفرز الماء و هو من جملة ما رزقهم الله ثم قدم في الذكر على سائر ما رزقهم

 

 

 الله لأن الحاجة إلى بارد الماء أسبق إلى الذهن طبعا بالنسبة إلى غيره عند ما تحيط الحرارة بالإنسان، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً إلى آخر الآية.

 اللهو

 ما يشغلك عما يهمك، و

 اللعب

‏ الفعل المأتي به لغاية خيالية غير حقيقية، و

الغرور

 إظهار النصح و استبطان الغش، و

النسيان‏

 يقابل الذكر، و ربما يستعار لترك الشي‏ء و عدم الاعتناء بشأنه كالشي‏ء المنسي، و على ذلك يجري في الآية، و

الجحد

 النفي و الإنكار، و الآية مسوقة لتفسير الكافرين، و يستفاد منها تفسيرات ثلاثة للكفر: أولها: أنه اتخاذ الإنسان دينه لهوا و لعبا و غرور الحياة الدنيا له، و الثاني: نسيان يوم اللقاء، و الثالث:

الجحد بآيات الله، و لكل من التفاسير وجه.

و في قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً دلالة على أن الإنسان لا غنى له عن الدين على أي حال حتى من اشتغل باللهو و اللعب و محض حياته فيها محضا فإن الدين كما تقدمت الإشارة إليه في تفسير قوله: ﴿اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ وَ يَبْغُونَهَا عِوَجاً الآية هو طريق الحياة الذي يسلكه الإنسان في الدنيا، و لا محيص له عن سلوكه، و قد نظمه الله سبحانه بحسب ما تهدي إليه الفطرة الإنسانية و دعت إليه، و هو دين الإنسان الذي يخصه و ينسب إليه، و هو الذي يهم الإنسان و يسوقه إلى غاية حقيقية هي سعادة حياته.

فحيث جرى عليه الإنسان و سلكه كان على دينه الذي هو دين الله الفطري، و حيث اشتغل عنه إلى غيره الذي يلهو عنه و لا يهديه إلا إلى غايات خيالية و هي اللذائذ المادية التي لا بقاء لها و لا نفع فيها يعود إلى سعادته فقد اتخذ دينه لهوا و لعبا و غرته الحياة الدنيا بسراب زخارفها.

و قوله تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا أي اليوم نتركهم و لا نقوم بلوازم حياتهم السعيدة كما تركوا يومهم هذا فلم يقوموا بما يجب أن يعملوا له و بما كانوا بآياتنا يجحدون و نظير الآية في جعل تكذيب الآيات سببا لنسيان الله له يوم القيامة قوله: ﴿قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَ كَذَلِكَ اَلْيَوْمَ تُنْسى‏َ: طه: ١٢٦، و قد بدل هناك الجحد نسيانا.

 

 

 قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلى‏َ عِلْمٍ الآية عود على بدء الكلام أعني قوله في أول الآيات: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى‏َ عَلَى اَللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أي من أعظم من هؤلاء ظلما و لقد أتممنا عليهم الحجة و أقمنا لهم البيان فجئناهم بكتاب فصلناه و أنزلناه إليهم على علم منا بنزوله؟.

فقوله: ﴿عَلى‏َ عِلْمٍ متعلق بقوله ﴿لَقَدْ جِئْنَاهُمْ و الكلمة تتضمن احتجاجا على حقية الكتاب و التقدير: و لقد جئناهم بكتاب حق: و كيف لا يكون حقا؟ و قد نزل على علم منا بما يشتمل عليه من المطالب.

و قوله: ﴿هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي هدى و إراءة طريق للجميع و رحمة للمؤمنين به خاصة، أو هدى و إيصالا بالمطلوب للمؤمنين و رحمة لهم، و الأول أنسب بالمقام و هو مقام الاحتجاج.

قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ إلى آخر الآية. الضمير في تأويله راجع إلى الكتاب، و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: ﴿هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ اَلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ الآية: آل عمران: ٧ إن التأويل في عرف القرآن هو الحقيقة التي يعتمد عليها حكم أو خبر أو أي أمر ظاهر آخر اعتماد الظاهر على الباطن و المثل على المثل.

فقوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ معناه هل ينتظر هؤلاء الذين يفترون على الله كذبا أو يكذبون بآياته و قد تمت عليهم الحجة بالقرآن النازل عليهم، إلا حقيقة الأمر التي كانت هي الباعثة على سوق بياناته و تشريع أحكامه و الإنذار و التبشير الذين فيه؟ فلو لم ينتظروه لم يتركوا الأخذ بما فيه.

ثم يخبر تعالى عن حالهم في يوم إتيان التأويل بقوله: يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه إلخ، أي إذا انكشفت حقيقة الأمر يوم القيامة يعترف التاركون له بحقية ما جاءت به الرسل من الشرائع التي أوجبوا العمل بها، و أخبروا أن الله سيبعثهم و يجازيهم عليها.

و إذ شاهدوا عند ذلك أنهم صفر الأيدي من الخير، هالكون بفساد أعمالهم سألوا أحد أمرين يصلح به ما فسد من أمرهم إما شفعاء ينجونهم من الهلاك الذي أطل عليهم أو أنفسهم، بأن يردوا إلى الدنيا فيعملوا صالحا غير الذي كانوا يعملونه من السيئات و ذلك قوله حكاية عنهم: ﴿فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ اَلَّذِي

 

 

 كُنَّا نَعْمَلُ؟.

و قوله تعالى: ﴿قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ فصل في معنى التعليل لما حكي عنهم من سؤال أحد أمرين: إما الشفعاء و إما الرد إلى الدنيا كأنه قيل: لما ذا يسألون هذا الذي يسألون؟ فقيل: ﴿قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فيما بدلوا دينهم لهوا و لعبا، و اختاروا الجحود على التسليم و قد زال عنهم الافتراءات المضلة التي كانت تحجبهم عن ذلك في الدنيا فبان لهم أنهم في حاجة إلى من يصلح لهم أعمالهم إما أنفسهم أو غيرهم ممن يشفع لهم.

و قد تقدم في مبحث الشفاعة في الجزء الأول من الكتاب أن في قوله ﴿فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا دلالة على أن هناك شفعاء يشفعون للناس إذ قال: ﴿مِنْ شُفَعَاءَ، و لم يقل: من شفيع فيشفع لنا.

بحث روائي‏

 في الكافي، بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال في قوله تعالى: ﴿وَ مَا أَضَلَّنَا إِلاَّ اَلْمُجْرِمُونَ إذ دعوهم إلى سبيلهم ذلك قول الله عز و جل فيهم إذ جمعهم إلى النار: ﴿قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ اَلنَّارِ و قوله:

«كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها يتبرأ بعضهم من بعض و يلعن بعضهم بعضا يريد أن بعضهم يحج بعضا رجاء الفلج فيفلتوا من عظيم ما نزل بهم، و ليس بأوان بلوى و لا اختبار و لا قبول معذرة و لا حين نجاة.

أقول: و قوله (عليه السلام): قوله كلما دخلت أمة «إلخ» نقل للآية بالمعنى.

 و في الدر المنثور، في قوله تعالى: ﴿لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ اَلسَّمَاءِ أخرج ابن مردويه عن البراء بن عازب قال: قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) : «لا يفتح لهم» بالياء. و فيه، أخرج الطيالسي و ابن شيبة و أحمد و هناد بن السري و عبد بن حميد و أبو داود في سننه و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في كتاب عذاب القبر عن البراء بن عازب قال : خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر و لما يلحد فجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و جلسنا حوله و كأن على

 

 

رءوسنا الطير، و في يده عود ينكت به الأرض فرفع رأسه فقال: استعيذوا من عذاب القبر مرتين أو ثلاثا.

ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا و إقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم أكفان من كفن الجنة و حنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر ثم يجي‏ء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله و رضوان فتخرج تسيل كما تسيل القطر من في السقاء و إن كنتم ترون غير ذلك فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن و في ذلك الحنوط فتخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون على ملإ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فتفتح لهم فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي به إلى السماء السابعة فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، و أعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم و فيها أعيدهم و منها أخرجهم تارة أخرى فيعاد روحه في جسده.

فيأتيه الملكان فيجلسان فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له:

ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام - فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول هو رسول الله فيقولان له: و ما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به و صدقت فينادي مناد من السماء إن صدق عبدي فافرشوه من الجنة و ألبسوه من الجنة و افتحوا له بابا إلى الجنة فيأتيه من روحها و طيبها، و يفسح له في قبره مد بصره، و يأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد! فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجي‏ء بالخير. فيقول: أنا عملك الصالح فيقول: رب أقم الساعة أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي و مالي.

قال: و إن العبد الكافر إذا كان في إقبال من الآخرة و انقطاع من الدنيا نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ثم يجي‏ء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله

 

 

 و غضب فيفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها.

فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، و يخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملإ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح فلا تفتح له. ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ﴿لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ اَلسَّمَاءِ.

فيقول الله عز و جل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى فيطرح روحه طرحا. ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ﴿مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ اَلسَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ اَلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ اَلرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ.

فتعاد روحه في جسده، و يأتيه ملكان فيجلسان فيقولان له: من ربك؟ فيقول:

هاه، هاه، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري! فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري! فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فافرشوا له من النار، و افتحوا له بابا إلى النار فيأتيه من حرها و سمومها، و يضيق عليه القبر حتى تختلف فيه أضلاعه.

و يأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يجي‏ء بالشر فيقول:

أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تقم الساعة.. أقول: و الرواية من المشهورات رواها جمع من المؤلفين في كتبهم كما رأيت، و في معناها روايات من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليه السلام) أودعنا بعضها في البحث الروائي الموضوع في ذيل قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ أَمْوَاتٌ الخ،: البقرة: ١٥٤، في الجزء الأول من الكتاب.

و في تفسير العياشي، عن سعيد بن جناح قال : حدثني عوف بن عبد الله الأزدي عن جابر بن يزيد الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام): في حديث قبض روح الكافر: فإذا أوتي بروحه إلى السماء الدنيا - أغلقت منه أبواب السماء، و ذلك قوله: ﴿لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ﴾ إلى آخر الآية. يقول الله: ردوها عليه - فمنها خلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم

 

 

 تارة أخرى.

أقول: و روي ما في معناه في المجمع، عنه (عليه السلام).

 و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن عائشة : أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) تلا هذه الآية:

﴿لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ قال: هي طبقات من فوقه، و طبقات من تحته لا يدري ما فوقه أكبر أو ما تحته؟ غير أنه ترفعه الطبقات السفلى و تضعه الطبقات العليا، و يضيق عليهما حتى يكون بمنزلة الزج في القدح.

 و فيه، أخرج عبد الرزاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن علي بن طالب قال : فينا و الله أهل بدر نزلت هذه الآية: ﴿وَ نَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ.

 أقول: وقوع الجملة في سياق هذه الآيات و هي مكية يأبى نزولها يوم بدر أو في أهل بدر، و قد وقعت الجملة أيضا في قوله تعالى: ﴿وَ نَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلى‏َ سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ: الحجر: ٤٧، و هي أيضا في سياق آيات أهل الجنة، و هي مكية.

 و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : بلغني أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: يحبس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا فيدخلون الجنة و ليس في قلوب بعضهم على بعض غل. و فيه، أخرج النسائي و ابن أبي الدنيا و ابن جرير في ذكر الموت و ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): كل أهل النار يرى منزله من الجنة يقول: لو هدانا الله، فيكون حسرة عليهم، و كل أهل الجنة يرى منزله من النار فيقول لو لا أن هدانا الله، فهذا شكرهم. و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و عبد بن حميد و الدارمي و مسلم و الترمذي و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن أبي هريرة و أبي سعيد عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : ﴿وَ نُودُوا أَنْ تِلْكُمُ اَلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قال: نودوا أن صحوا فلا تسقموا، و أنعموا فلا تيأسوا، و شبوا فلا تهرموا، و اخلدوا فلا تموتوا. أقول: و في معنى وراثة الجنة أخبار أخر سيأتي إن شاء الله.

 و في الكافي، و تفسير القمي، بإسنادهما عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى اَلظَّالِمِينَ قال المؤذن أمير المؤمنين (عليه السلام).

 

 

أقول: و رواه العياشي، عنه (عليه السلام) و رواه في روضة الواعظين، عن الباقر (عليه السلام) قال: المؤذن علي (عليه السلام).

 و في المعاني، بإسناده عن جابر الجعفي عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) قال : خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بالكوفة منصرفه من النهروان و بلغه أن معاوية يسبه و يعيبه و يقتل أصحابه فقام خطيبا، و ذكر الخطبة إلى أن قال فيها: و أنا المؤذن في الدنيا و الآخرة قال الله عز و جل: ﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اَللَّهِ عَلَى اَلظَّالِمِينَ أنا ذلك المؤذن، و قال: ﴿وَ أَذَانٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ أنا ذلك الأذان.

 أقول: أي أنا المؤذن بذلك الأذان بقرينة صدر الكلام و يشير (عليه السلام) به إلى قصة آيات البراءة.

 و في المجمع، روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن محمد بن الحنفية عن علي أنه قال : أنا ذلك المؤذن.

 و بإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال : لعلي في كتاب الله أسماء لا يعرفها الناس قوله: ﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ يقول: ألا لعنة الله على الذين كذبوا بولايتي و استخفوا بحقي.

أقول: قال الآلوسي في روح المعاني، في قوله تعالى: ﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ الآية. هو على ما روي عن ابن عباس صاحب الصور، و قيل: مالك خازن النار، و قيل: ملك من الملائكة غيرهما يأمره الله تعالى بذلك، و رواية الإمامية عن الرضا و ابن عباس:

أنه علي كرم الله وجهه مما لم يثبت من طريق أهل السنة و بعيد عن هذا الإمام أن يكون مؤذنا و هو إذ ذاك في حظائر القدس (انتهى).

و قال صاحب المنار، في تفسيره بعد نقله عنه: و أقول: إن واضعي كتب الجرح و التعديل لرواة الآثار لم يضعوها على قواعد المذاهب، و قد كان في أئمتهم من يعد في شيعة علي و آله كعبد الرزاق و الحاكم، و ما منهم أحد إلا و قد عدل كثيرا من الشيعة في روايتهم، فإذا ثبت هذه الرواية بسند صحيح قبلنا و لا نرى كونه في حظائر القدس مانعا منها، و لو كنا نعقل لإسناد هذا التأذين إليه كرم الله وجهه معنى يعد به فضيلة أو مثوبة عند الله تعالى لقبلنا الرواية بما دون السند الصحيح ما لم يكن موضوعا أو معارضا برواية أقوى سندا أو أصح متنا (انتهى).

 

 

 و لقد أجاد فيما أفاد غير أن الآحاد من الروايات لا تكون حجة عندنا إلا إذا كانت محفوفة بالقرائن المفيدة للعلم أعني الوثوق التام الشخصي سواء كانت في أصول الدين أو التاريخ أو الفضائل أو غيرها إلا في الفقه فإن الوثوق النوعي كاف في حجية الرواية كل ذلك بعد عدم مخالفة الكتاب و التفصيل موكول إلى فن أصول الفقه.

و أما كون هذا التأذين فضيلة فلا ينبغي الارتياب فيه و ليعتبر التأذين الأخروي بالتأذين الدنيوي فالتأذين هو إعلام الحكم من قبل صاحبه ليستقر على المحكومين فالمؤذن هو الرابطة يربط صاحب الحكم بالمحكومين بتقرير حكمه عليهم و الرابطة في شرفها و خستها يتبع الطرفين، و من الواضح أن الطرف إذا كان هو الله عز اسمه كان في ذلك من الشرف و الكرامة ما لا يعادله شي‏ء كما في وساطة إبراهيم عن الله سبحانه في قوله:

﴿وَ أَذِّنْ فِي اَلنَّاسِ بِالْحَجِّ: الحج: ٢٧، و وساطة علي (عليه السلام) في إبلاغ آيات البراءة:

﴿وَ أَذَانٌ مِنَ اَللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلنَّاسِ الخ،: براءة: ٣، هذا في الأذان و الاعلام التشريعي الذي يستقر به حكم الحاكم على المحكومين به، و أما الأذان غير التشريعي كما في أذان يوم القيامة أن لعنة الله على الظالمين ففيه استقرار البعد التام و اللعن المطلق الدائم على الظالمين بعد إشهادهم حقية الوعد الإلهي الذي بلغهم منه تعالى من طريق أنبيائه و رسله، و فيه تثبيت ما في ظهور حقائق الوعد و الوعيد للظالمين من النتيجة العائدة إليهم فافهم ذلك و لا يهونن عليك أمر الحقائق، و لا تساهل في البحث عنها إن كنت ذا قدم فيه.

و هذا هو الذي يشير إليه علي (عليه السلام) نفسه فيما مر من خطبته إذ قال: و أنا المؤذن في الدنيا و الآخرة.

و الرواية كما تقدم مروية بطرق متعددة من الشيعة عن علي و الباقر و الرضا (عليه السلام) من طرق أهل السنة ما رواه الحاكم بإسناده عن ابن الحنفية عن علي و بإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس و الرجل جيد الرواية ضابط في الحديث ينقل في التفاسير الروائية و غيرها رواياته في التفسير لكنهم لم يذكروا روايته هذه حتى مثل السيوطي الذي يستوفي في الدر المنثور، ما رواه في التفسير ترك ذكر الحديث، و ما أدري ما هو السبب فيه؟.

 و في الدر المنثور، أخرج أبو الشيخ و ابن مردويه و ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): يوضع الميزان يوم القيامة فيوزن الحسنات و السيئات فمن

 

 

رجحت حسناته على سيئاته مثقال صؤابة دخل الجنة، و من رجحت سيئاته على حسناته مثقال صؤابة دخل النار.

قيل: يا رسول الله فمن استوى حسناته و سيئاته؟ قال: أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها و هم يطمعون. و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير قال : سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)(صلى الله عليه وآله و سلم) عن أصحاب الأعراف فقال: هم آخر من يفصل بينهم من العباد - فإذا فرغ رب العالمين من الفصل بين العباد قال: أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار و لم تدخلوا الجنة فأنتم عتقائي فارعوا في الجنة حيث شئتم. أقول: و روي القول بكون أهل الأعراف هم الذين استوت حسناتهم و سيئاتهم عن ابن مسعود و حذيفة و ابن عباس من الصحابة.

 و في الكافي، بإسناده عن حمزة الطيار قال : قال أبو عبد الله (عليه السلام): الناس على ستة أصناف إلى أن قال قلت: و ما أصحاب الأعراف؟ قال: قوم استوت حسناتهم و سيئاتهم فإن أدخلهم النار فبذنوبهم، و إن أدخلهم الجنة فبرحمته‏، الحديث.

 و فيه، بإسناده عن زرارة قال : قال أبو جعفر (عليه السلام): ما تقول في أصحاب الأعراف؟ فقلت: ما هم إلا مؤمنون أو كافرون إن دخلوا الجنة فهم مؤمنون، و إن دخلوا النار فهم كافرون. فقال: و الله ما هم بمؤمنين و لا كافرين و لو كانوا مؤمنين لدخلوا الجنة كما دخلها المؤمنون، و لو كانوا كافرين لدخلوا النار كما دخلها الكافرون، و لكنهم قوم استوت حسناتهم و سيئاتهم فقصرت بهم الأعمال، و أنهم كما قال الله عز و جل.

فقلت: أ من أهل الجنة هم أم من أهل النار؟ فقال: اتركهم كما تركهم الله.

قلت: أ فأرجئهم؟ قال: نعم أرجئهم كما أرجأهم الله إن شاء أدخلهم الجنة برحمته، و إن شاء ساقهم إلى النار بذنوبهم و لم يظلمهم. فقلت: هل يدخل الجنة كافر؟ قال:

لا. قلت: فهل يدخل النار إلا كافر؟ فقال: لا إلا أن يشاء الله. يا زرارة إني أقول:

ما شاء الله أما إن كبرت رجعت و تحللت عنك عقدك. أقول: قوله (عليه السلام): أما إن كبرت إلخ، أي إن استعظمت قولي و لم تقبله خرجت عما كنت عليه من الحق و انحل ما عقدت عليه قلبك من التصديق.

 

 

 و الروايات كما ترى يفسر أصحاب الأعراف بمن استوت حسناتهم و سيئاتهم في الميزان، و في بعضها أن قوله تعالى: ﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا وَ هُمْ يَطْمَعُونَ إلخ، من كلامهم و هذا لا ينطبق على آيات الأعراف البتة كما مر بيانه.

على أنك عرفت فيما تقدم من تفسير قوله تعالى: ﴿وَ اَلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ اَلْحَقُّ الخ:

الأعراف: ٨، أن الميزان الذي يذكره إما أن يثقل و هو رجحان الحسنات أو يخف و هو رجحان السيئات، و لا معنى حينئذ لاستواء الحسنات و السيئات الذي هو ثقل الميزان و خفته معا! فلو فرض أن هناك من لا يشخص الميزان رجحان بعض أعماله على بعض مثلا كان ممن لا يقام له وزن يوم القيامة كالكافر الذي أحبطت أعماله، و المستضعف الذي لم تتم عليه الحجة و لم يتعلق به التكليف.

نعم ربما يستفاد من الرواية الأخيرة أن المراد بالذين استوت حسناتهم و سيئاتهم هم المستضعفون المرجون لأمر الله إن يشأ يغفر لهم و إن يشأ يعذبهم. فالاستواء كناية عن عدم الرجحان، و يندفع حينئذ إشكال الوزن لكن يبقى الإشكال من جهة الانطباق على ظاهر الآيات و فيها من صفات رجال الأعراف و أصحابه ما لا يتصف به إلا السابقون المقربون المتصدرون في حظيرة الكرامة و السعادة، و هؤلاء المستضعفون إن صح عدهم من أهل السعادة فهم نازلون في أنزل منازلها.

 و في المجمع، قال أبو عبد الله (عليه السلام) : الأعراف كثبان بين الجنة و النار يوقف عليها كل نبي و كل خليفة مع المذنبين من أهل زمانه كما يقف صاحب الجيش مع الضعفاء من جنده و قد سبق المحسنون إلى الجنة فيقول ذلك الخليفة للمذنبين الواقفين معه: انظروا إلى إخوانكم المحسنين قد سبقوا فيسلم عليهم المذنبون: و ذلك قوله: ﴿وَ نَادَوْا أَصْحَابَ اَلْجَنَّةِ أَنْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ثم أخبر سبحانه و تعالى: أنهم لم يدخلوها و هم يطمعون يعني هؤلاء المذنبين لم يدخلوا الجنة و هم يطمعون أن يدخلهم الله بشفاعة النبي و الإمام، و ينظر هؤلاء المذنبون إلى أهل النار فيقولون ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين.

ثم ينادي أصحاب الأعراف و هم الأنبياء و الخلفاء رجالا من أهل النار مقرعين لهم ما أغنى عنكم جمعكم و ما كنتم تستكبرون أ هؤلاء الذين أقسمتم يعني أ هؤلاء المستضعفين الذين كنتم تستضعفونهم و تحتقرونهم بفقرهم و تستطيلون بدنياكم عليهم ثم يقولون لهؤلاء

 

 

 المستضعفين عن أمر من الله بذلك لهم: ادخلوا الجنة لا خوف عليكم و لا أنتم تحزنون. أقول: و روى القمي في تفسيره، عن أبيه عن الحسن بن محبوب عن أبي أيوب عن مرثد عن أبي عبد الله (عليه السلام) ما يقرب منه.

و هذه الرواية كما ترى تذكر المستضعفين مكان من استوت حسناتهم و سيئاتهم صريحا ثم تذكر أن هناك جماعة من المستضعفين يطمعون في دخول الجنة و يتعوذون من دخول النار من غير أن تفسر بهم الرجال الذين ذكر الله تعالى أنهم على الأعراف يعرفون كلا بسيماهم، و يسميهم أصحاب الأعراف. و يسهل حينئذ انطباق مضمونها على الآيات، و لا يبقى من الإشكال إلا ظهور الآيات في أن المسلم على أهل الجنة هم أصحاب الأعراف و الرجال الذين على الأعراف.

و الظاهر أن في الروايات اختلالا و هو ناشئ عن سوء فهم بعض النقلة ثم النقل و لعل الذي بينه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو بعض الأئمة أن هناك جماعة من المستضعفين يدخلهم الله الجنة بشفاعة أو مشية ثم غيره النقل بالمعنى و أخرجه إلى الصورة التي تراها، و هذا ظاهر كسائر الروايات الواردة عن ابن عباس و ابن مسعود و حذيفة و غيرهم القائلة إن الرجال على الأعراف هم الذين استوت حسناتهم و سيئاتهم مع ما فيها من الاختلاف في المتون و كذا رواية القمي عن الصادق (عليه السلام) فراجعها تعرف صدق ما ادعيناه.

 و في البصائر، بإسناده عن جابر بن يزيد قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الأعراف ما هم؟ قال: هم أكرم الخلق على الله تبارك و تعالى.

 أقول: السائل يأخذ الأعراف و الرجال الذين عليه واحدا و على ذلك ورد الجواب منه (عليه السلام) فكأنه أخذ جمعا لعرف بمعنى العريف و العارف و في هذا المعنى روايات كثيرة يأتي بعضها.

 و فيه، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) : ﴿وَ عَلَى اَلْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ قال: نحن أصحاب الأعراف من عرفنا فمآله إلى الجنة و من أنكرنا فمآله إلى النار.

 أقول: قوله من عرفنا و من أنكرنا إن كان فعلا و فاعلا فهو، و إن كان فعلا و مفعولا كان على وزان سائر الروايات من عرفهم و عرفوه، و من أنكرهم و أنكروه.

 

 

و فيه، بإسناده عن الأصبغ بن نباتة قال : كنت عند أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له رجل: ﴿وَ عَلَى اَلْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ فقال له علي (عليه السلام): نحن الأعراف نعرف أنصارنا بسيماهم، و نحن الأعراف الذين لا يعرف الله إلا بسبيل معرفتنا و نحن الأعراف نوقف يوم القيامة بين الجنة و النار فلا يدخل الجنة إلا من عرفنا و عرفناه، و لا يدخل النار إلا من أنكرنا و أنكرناه و ذلك قول الله عز و جل.

لو شاء لعرف الناس نفسه حتى يعرفوا حده و يأتونه من بابه، جعلنا أبوابه و صراطه و سبيله و بابه الذي يؤتى منه.:

أقول: و رواه أيضا بإسناده عن مقرن عن أبي عبد الله (عليه السلام) و الرجل السائل هو ابن الكواء، و روى هذه القصة أيضا الكليني في الكافي، عن مقرن قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: جاء ابن الكواء، إلخ.

و الظاهر أن المراد بالمعرفة و الإنكار في الرواية المعرفة بالحب و البغض أي لا يدخل الجنة إلا من عرفنا بالولاية و عرفناه بالطاعة، و لا يدخل النار إلا من أنكر ولايتنا و أنكرنا طاعته، و هذا غير معرفتهم الجميع بأعيانهم، و إلا أشكل انطباقه على قوله تعالى: ﴿رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ و قوله تعالى: ﴿وَ نَادى‏َ أَصْحَابُ اَلْأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ إلخ، و لعل ذلك إنما نشأ من نقل بعض الرواة الرواية بالمعنى، و يؤيد ما استظهرناه ما يأتي في الرواية التالية.

 و في المجمع، روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده رفعه إلى الأصبغ بن نباتة قال : كنت جالسا عند علي (عليه السلام) فأتاه ابن الكواء فسأله عن هذه الآية فقال ويحك يا ابن الكواء نحن نوقف يوم القيامة بين الجنة و النار فمن نصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنة و من أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار.

 و في تفسير العياشي، عن هلقام عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : سألته عن قول الله:

﴿وَ عَلَى اَلْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ ما يعني بقوله: ﴿عَلَى اَلْأَعْرَافِ رِجَالٌ؟ قال: أ لستم تعرفون عليكم عرفاء على قبائلكم ليعرفوا من فيها من صالح أو طالح؟ قلت: بلى. قال: فنحن أولئك الرجال الذين يعرفون كلا بسيماهم.

 

 

أقول: و هو مبني على أخذ الأعراف جمعا للعرف كأقطاب جمع قطب و العرف هو المعروف من الأمر و لعله مصدر بمعنى المفعول فمعنى ﴿وَ عَلَى اَلْأَعْرَافِ رِجَالٌ:

وكل على أمورهم و أحوالهم المعروفة منهم رجال، و لا ينافي ذلك ما تقدم أن الأعراف أعالي الحجاب و كذا ما تقدم في بعض الروايات أن الأعراف كثبان بين الجنة و النار فإن المعرفة التي هي مادة اللفظ حافظة لمعناه في مشتقاته و موارد استعمالها على أي حال.

و اعلم أن الأخبار من طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام في ما يقرب من هذه المعاني في الأعراف كثيرة جدا، و فيما أوردناه للإشارة إلى أنواع مضامينها في تفسير الأعراف و أصحاب الأعراف كفاية.

 و في تفسير البرهان، عن الثعلبي في تفسيره عن ابن عباس أنه قال : الأعراف موضع عال من الصراط عليه العباس و حمزة و علي بن أبي طالب و جعفر ذو الجناحين يعرفون شيعتهم ببياض الوجوه و مبغضيهم بسواد الوجوه.:

أقول: و قد تقدم في البيان السابق نقل الرواية عن مجمع البيان، عن تفسير الثعلبي عن الضحاك عن ابن عباس. و في الدر المنثور، أخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده و ابن جرير و ابن مردويه عن عبد الله بن مالك الهلالي عن أبيه : قال قائل: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ما أصحاب الأعراف قال: هم قوم خرجوا في سبيل الله بغير إذن آبائهم - فاستشهدوا فمنعتهم الشهادة أن يدخلوا النار، و منعتهم معصية آبائهم أن يدخلوا الجنة فهم آخر من يدخل الجنة. أقول: و هذا المعنى مروي بطرق أخرى عن أبي سعيد الخدري و أبي هريرة و ابن عباس و قد تقدم الإشكال عليه بعدم الانطباق على ظاهر الآيات، و الأصول المسلمة تعطي أنه إن تعين الخروج وجوبا عينيا لم يؤثر فيه عدم إذن الوالدين، و إن لم يتعين و بقي على الكفاية كان الخروج محرما و لم ينفعه القتل في المعركة إلا أن يكون مستضعفا من جهة الجهل بالحكم فيعود إلى القول بكون أصحاب الأعراف هم المستضعفين و يجري فيه البحث السابق.

[سورة الأعراف (٧): الآیات ٥٤ الی ٥٨]

﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ

 

 

ثُمَّ اِسْتَوى‏ عَلَى اَلْعَرْشِ يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ وَ اَلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ تَبَارَكَ اَللَّهُ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ ٥٤ اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ ٥٥ وَ لاَ تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَ اُدْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اَللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ ٥٦ وَ هُوَ اَلَّذِي يُرْسِلُ اَلرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ اَلْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ اَلْمَوْتى‏ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ٥٧ وَ اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ اَلَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ اَلْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ٥٨

بيان‏

الآيات متصلة بما قبلها مرتبطة بها فإن الآيات السابقة كانت تبين وبال الشرك بالله و التكذيب بآياته و أن ذلك يسوق الإنسان إلى هلاك مؤبد و شقاء مخلد، و هذه الآيات تعلل ذلك بأن رب الجميع واحد إليه تدبير الكل يجب عليهم أن يدعوه و يشكروا له و تؤكد توحيد رب العالمين من جهتين:

إحداهما: أنه تعالى هو الذي خلق السماوات و الأرض جميعا ثم دبر أمرها بالنظام الأحسن الجاري فيها الرابط بينها جميعا فهو رب العالمين.

و الثانية: أنه تعالى هو الذي يهيئ لهم الأرزاق بإخراج أنواع الثمرات التي يرتزقون بها بخلق ذلك بأعجب الطرق المتخذة لذلك و ألطفها و هو الإمطار فهو ربهم لا رب سواه.

 

 

 قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اَللَّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ سيأتي البحث في معنى السماء و الأيام الستة التي خلقتا فيها في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اِسْتَوى‏ عَلَى اَلْعَرْشِ  إلى قوله ﴿بِأَمْرِهِ الاستواء الاعتدال على الشي‏ء و الاستقرار عليه، و ربما استعمل بمعنى التساوي، يقال: استوى زيد و عمرو أي تساويا قال تعالى: ﴿لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اَللَّهِ.

و العرش ما يجلس عليه الملك و ربما كني به عن مقام السلطنة، قال الراغب في المفردات،: العرش في الأصل شي‏ء مسقف، و جمعه عروش قال: ﴿وَ هِيَ خَاوِيَةٌ عَلى‏َ عُرُوشِهَا و منه قيل: عرشت الكرم و عرشتها إذا جعلت له كهيئة سقف. قال:

و العرش شبه هودج للمرأة تشبيها في الهيئة بعرش الكرم، و عرشت البئر جعلت له عريشا، و سمي مجلس السلطان عرشا اعتبارا بعلوه. قال: و عرش الله ما لا يعلمه البشر على الحقيقة إلا بالاسم، و ليس كما يذهب إليه أوهام العامة فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له تعالى عن ذلك لا محمولا و الله تعالى يقول: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يُمْسِكُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَ لَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، و قال قوم: هو الفلك الأعلى و الكرسي فلك الكواكب، و استدل‏

بما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ما السماوات السبع و الأرضون السبع في جنب الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة و الكرسي عند العرش كذلك (انتهى).

و قد استقرت العادة منذ القديم أن يختص العظماء من ولاة الناس و حكامهم و مصادر أمورهم من المجلس بما يختص بهم و يتميزون به عن غيرهم كالبساط و المتكإ حتى آل الأمر إلى إيجاد السرر و التخوت فاتخذ للملك ما يسمى عرشا و هو أعظم و أرفع و أخص بالملك، و الكرسي يعمه و غيره، و استدعى التداول و التلازم أن يعرف الملك بالعرش كما كان العرش يعرف بالملك في أول الأمر فصار العرش حاملا لمعنى الملك ممثلا لمقام السلطنة إليه يرجع و ينتهي، و فيه تتوحد أزمة المملكة في تدبير أمورها و إدارة شئونها.

و اعتبر لاستيضاح ذلك مملكة من الممالك قطنت فيها أمة من الأمم لعوامل طبيعية أو اقتصادية أو سياسية استقلوا بذلك في أمرهم و تميزوا من غيرهم فأوجدوا مجتمعا من المجتمعات الإنسانية و اختلطوا و امتزجوا بالأعمال و نتائجها ثم اقتسموا في

 

 

 التمتع بالنتائج فاختص كل بشي‏ء منها على قدر زنته الاجتماعية.

كان من الواجب أن تحفظ هذه الوحدة و الاتصال المتكون بالاجتماع بمن يقوم عليها فإن التجربة القطعية أوضحت للإنسان أن العوامل المختلفة و الأعمال و الإرادات المتشتتة إذا وجهت نحو غرض واحد و سيرت في مسير واحد لم تدم على نعت الاتحاد و الملاءمة إلا أن تجمع أزمة الأمور المختلفة في زمام واحد و توضع في يد من يحفظه و يديم حياته بالتدبير الحسن فتحيا به الجميع و إلا فسرعان ما تتلاشى و تتشتت.

و لذلك ترى أن المجتمع المترقي ينوع الأعمال الجزئية نوعا نوعا ثم يقدم زمام كل نوع إلى كرسي من الكراسي كالدوائر و المصالح الجزئية المحلية، ثم ينوع أزمة الكراسي فيعطي كل نوع كرسيا فوق ذلك، و على هذا القياس حتى ينتهي الأمر إلى زمام واحد يقدم إلى العرش و يهدى لصاحب العرش.

و من عجيب أمر هذا الزمام و انبساطه و سعته في عين وحدته أن الأمر الواحد الصادر من هذا المقام يسير في منازل الكراسي التابعة له على كثرتها و اختلاف مراتبها فيتشكل في كل منزل بشكل يلائمه و يعرف فيه، و يتصور لصاحبه بصورة ينتفع بها و يأخذها ملاكا لعمله. يقول مصدر الأمر «ليجر الأمر» فتأخذه المصالح المالية تكليفا ماليا و مصالح السياسية تكليفا سياسيا، و مصالح الجيش تكليفا دفاعيا و على هذا القياس كلما صعد أو نزل.

فجميع تفاصيل الأعمال و الإرادات و الأحكام المجراة فيها المنبسطة في المملكة و هي لا تحصى كثرة أو لا تتناهى لا تزال تتوحد و تجتمع في الكراسي حتى تنتهي إلى العرش فتتراكم عنده بعضها على بعض و تندمج و تتداخل و تتوحد حتى تصير واحدا هو في وحدته كل التفاصيل فيما دون العرش، و إذا سار هذا الواحد إلى ما دونه لم يزل يتكثر و يتفصل حتى ينتهي إلى أعمال أشخاص المجتمع و إراداتهم.

هذا في النظام الوضعي الاعتبار الذي عندنا، و هو لا محالة مأخوذ من نظام التكوين، و الباحث عن النظام الكوني يجد أن الأمر فيه على هذه الشاكلة، فالحوادث الجزئية تنتهي إلى علل و أسباب جزئية، و تنتهي هي إلى أسباب أخرى كلية حتى تنتهي الجميع إلى الله سبحانه غير أن الله سبحانه مع كل شي‏ء و هو محيط بكل شي‏ء، و ليس

 

 

 كذلك الملك من ملوكنا لحقيقية ملكه تعالى و اعتبارية ملك غيره.

ففي عالم الكون على اختلاف مراحل مرحلة تنتهي إليها جميع أزمة الحوادث الملقاة على كواهل الأسباب، و أزمة الأسباب على اختلاف أشخاصها و أنواعها، و ترتب مراتبها هو المسمى عرشا كما سيجي‏ء، و فيه صور الأمور الكونية المدبرة بتدبير الله سبحانه كيفما شاء، و عنده مفاتح الغيب.

فقوله تعالى: ﴿ثُمَّ اِسْتَوى‏ عَلَى اَلْعَرْشِ كناية عن استيلائه على ملكه و قيامه بتدبير الأمر قياما ينبسط على كل ما دق و جل، و يترشح منه تفاصيل النظام الكوني ينال به كل ذي بغية بغيته، و تقضي لكل ذي حاجة حاجته، و لذلك عقب حديث الاستواء في سورة يونس في مثل الآية بقوله: ﴿يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ إذ قال: ﴿ثُمَّ اِسْتَوى‏ عَلَى اَلْعَرْشِ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ: يونس: ٣.

ثم فصل بقوله: ﴿يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهَارَ و يستره به ﴿يَطْلُبُهُ أي يطلب الليل النهار ليغشيه و يستره ﴿حَثِيثاً أي طلبا حثيثا سريعا، و فيه إشعار بأن الظلمة هي الأصل، و النهار الذي يحصل من إنارة الشمس ما يواجهها مما حولها، عارض لليل الذي هو الظلمة المخروطية اللازمة لأقل من نصف كرة الأرض المقابل للجانب المواجه للشمس كان الليل يعقبه و يهجم عليه.

و قوله: ﴿وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ وَ اَلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أي خلقهن و الحال أنها مسخرات بأمره يجرين على ما يشاء و لما يشاء و قرئ الجميع بالرفع، و على ذلك فالشمس مبتدأ و القمر و النجوم معطوفة عليها، و مسخرات خبره، و الباء في قوله: ﴿بِأَمْرِهِ للسببية.

و مجموع قوله: ﴿يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهَارَ﴾ إلخ، يجري مجرى التفسير لقوله: ﴿ثُمَّ اِسْتَوى‏ عَلَى اَلْعَرْشِ على ما يعطيه السياق، و هو الذي تعطيه أغلب الآيات القرآنية التي يذكر فيها العرش فإنها تذكر معه شيئا من التدبير أو ما يئول إليه بحسب المعنى.

قوله تعالى: ﴿أَلاَ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ تَبَارَكَ اَللَّهُ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ  الخلق هو التقدير بضم شي‏ء إلى شي‏ء و إن استقر ثانيا في عرف الدين و أهله في معنى الإيجاد أو الإبداع على غير مثال سابق، و أما الأمر فيستعمل في معنى الشأن و جمعه أمور، و مصدرا بمعنى يقرب من بعث الإنسان غيره نحو ما يريده يقال أمرته بكذا أمرا، و ليس من البعيد

 

 

 أن يكون هذا هو الأصل في معنى اللفظ ثم يستعمل الأمر اسم مصدر بمعنى نتيجة الأمر و هو النظم المستقر في جميع أفعال المأمور المنبسط على مظاهر حياته، فينطبق في الإنسان على شأنه في الحياة ثم يتوسع فيه فيستعمل بمعنى الشأن في كل شي‏ء فأمر كل شي‏ء هو الشأن الذي يصلح له وجوده، و ينظم له تفاريق حركاته و سكناته و شتى أعماله و إراداته، يقال: أمر العبد إلى مولاه، أي هو يدبر حياته و معاشه، و أمر المال إلى مالكه، و أمر الإنسان إلى ربه أي بيده تدبيره في مسير حياته.

و لا يرد عليه أن الأمر بمعنى الشأن يجمع على «أمور» و بمعنى يقابل النهي على «أوامر» و هو ينافي رجوع أحدهما إلى الآخر معنى!، فإن أمثال هذه التفننات كثيرة في اللغة يعثر عليها المتتبع الناقد فالأمر كالمتوسط بين من يملكه و بين من يملك منه كالمولى و العبد و يضاف إلى كل منهما يقال: أمر العبد و أمر المولى، قال تعالى: ﴿وَ أَمْرُهُ إِلَى اَللَّهِ» : البقرة: ٢٧٥، و قال: ﴿أَتى‏ أَمْرُ اَللَّهِ: النحل: ١.

و قد فسر سبحانه أمره الذي يملكه من الأشياء بقوله: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ: يس: ٨٣، فبين أن أمره الذي يملكه من كل شي‏ء سواء كان ذاتا أو صفة أو فعلا و أثرا هو قول كن و كلمة الإيجاد و هو الوجود الذي يفيضه عليه فيوجد هو به، فإذا قال لشي‏ء: كن فكان، فقد أفاض عليه ما وجد به من الوجود، و هذا الوجود الموهوب له نسبة إلى الله سبحانه و هو بذاك الاعتبار أمره تعالى و كلمة «كن» الإلهية، و له نسبة إلى الشي‏ء الموجود، و هو بذاك الاعتبار أمره الراجع إلى ربه، و قد عبر عنه في الآية بقوله: ﴿فَيَكُونُ.

و قد ذكر تعالى لكل من النسبتين و إن شئت فقل: للإيجاد المنسوب إليه تعالى و للوجود المنسوب إلى الشي‏ء - نعوتا و أحكاما مختلفة سنبحث عنها إن شاء الله في محل يناسبه.

و الحاصل: أن الأمر هو الإيجاد سواء تعلق بذات الشي‏ء أو بنظام صفاته و أفعاله فأمر ذوات الأشياء إلى الله و أمر نظام وجودها إلى الله لأنها لا تملك لنفسها شيئا البتة، و الخلق هو الإيجاد عن تقدير و تأليف سواء كان ذلك بنحو ضم شي‏ء إلى شي‏ء كضم أجزاء النطفة بعضها إلى بعض و ضم نطفة الذكور إلى نطفة الإناث ثم ضم الأجزاء الغذائية إليها في شرائط خاصة حتى يخلق بدن إنسان مثلا، أم من غير أجزاء مؤلفة كتقدير ذات

 

 

الشي‏ء البسيط و ضم ما له من درجة الوجود وحده و ما له من الآثار و الروابط التي له مع غيره، فالأصول الأولية مقدرة مخلوقة كما أن المركبات مقدرة مخلوقة. قال الله تعالى:

﴿وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً: الفرقان: ٢، و قال: ﴿اَلَّذِي أَعْطى‏َ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‏: طه: ٥٠، و قال: ﴿اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ: الزمر: ٦٢، فعمم خلقه كل شي‏ء.

فقد اعتبر في معنى الخلق تقدير جهات وجود الشي‏ء و تنظيمها سواء كانت متمايزة منفصلا بعضها عن بعض أم لا بخلاف الأمر.

و لذا كان الخلق يقبل التدريج كما قال: ﴿خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ بخلاف الأمر قال تعالى: ﴿وَ مَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ: القمر: ٥٠، و لذلك أيضا نسب في كلامه إلى غيره الخلق كقوله: ﴿وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا: المائدة: ١١٠، و قال: ﴿فَتَبَارَكَ اَللَّهُ أَحْسَنُ اَلْخَالِقِينَ: المؤمنون: ١٤.

و أما الأمر بهذا المعنى فلم ينسبه إلى غيره بل خصه بنفسه، و جعله بينه و بين ما يريد حدوثه و كينونته كالروح الذي يحيا به الجسد.

انظر إلى قوله تعالى: ﴿وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ وَ اَلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ و قوله:

﴿وَ لِتَجْرِيَ اَلْفُلْكُ بِأَمْرِهِ: الروم: ٤٦، و قوله: ﴿يُنَزِّلُ اَلْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ: النحل : ٢، و قوله: ﴿وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ: الأنبياء: ٢٧، إلى غير ذلك من الآيات تجد أنه تعالى يجعل ظهور هذه الأشياء بسببية أمره أو بمصاحبة أمره، فنلخص أن الخلق و الأمر يرجعان بالآخرة إلى معنى واحد و إن كانا مختلفين بحسب الاعتبار.

فإذا انفرد كل من الخلق و الأمر صح أن يتعلق بكل شي‏ء، كل بالعناية الخاصة به، و إذا اجتمعا كان الخلق أحرى بأن يتعلق بالذوات لما أنها أوجدت بعد تقدير ذواتها و آثارها، و يتعلق الأمر بآثارها و النظام الجاري فيها بالتفاعل العام بينها لما أن الآثار هي التي قدرت للذوات و لا وجه لتقدير المقدر فافهم ذلك.

و لذلك قال تعالى: ﴿أَلاَ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ فأتى بالعطف المشعر بالمغايرة بوجه و كان المراد بالخلق ما يتعلق من الإيجاد بذوات الأشياء، و بالأمر ما يتعلق بآثارها و الأوضاع الحاصلة فيها و النظام الجاري بينها كما ميز بين الجهتين في أول الآية حيث قال:

﴿خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ و هذا هو إيجاد الذوات ﴿ثُمَّ اِسْتَوى‏ عَلَى اَلْعَرْشِ

 

 

 يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ و هو إيجاد النظام الأحسن بينها بإيقاع الأمر تلو الأمر و الإتيان بالواحد منه بعد الواحد.

و ما ربما يقال: إن العطف لا يقتضي المغايرة، و لو اقتضى ذلك لدل في قوله:

﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَ مَلاَئِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ: البقرة: ٩٨ على كون جبريل من غير جنس الملائكة! مدفوع بأن المراد مغايرة ما و لو اعتبارا لقبح قولنا جاءني زيد و زيد و رأيت عمرا و عمرا فلا محيص عن مغايرة ما و لو بحسب الاعتبار، و جبريل مع كونه من جنس الملائكة يغايره غيره بما له من المقام المعلوم و القوة و المكانة عند ذي العرش.

و قوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ اَللَّهُ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ أي كان ذا بركات ينزلها على مربوبيه من جميع من في العالمين فهو ربهم.

كلام في معنى العرش‏

للناس في معنى العرش بل في معنى قوله: ﴿ثُمَّ اِسْتَوى‏ عَلَى اَلْعَرْشِ و الآيات التي في هذا المساق مسالك مختلفة، فأكثر السلف على أنها و ما يشاكلها من الآيات من المتشابهات التي يجب أن يرجع علمها إلى الله سبحانه، و هؤلاء يرون البحث عن الحقائق الدينية و التطلع إلى ما وراء ظواهر الكتاب و السنة بدعة، و العقل يخطئهم في ذلك و الكتاب و السنة لا يصدقانهم فآيات الكتاب تحرض كل التحريض على التدبر في آيات الله و بذل الجهد في تكميل معرفة الله و معرفة آياته بالتذكر و التفكر و النظر فيها و الاحتجاج بالحجج العقلية، و متفرقات السنة المتواترة معنى توافقها، و لا معنى للأمر بالمقدمة و النهي عن النتيجة، و هؤلاء هم الذين كانوا يحرمون البحث عن حقائق الكتاب و السنة - حتى البحث الكلامي الذي بناؤه على تسليم الظواهر الدينية و وضعها على ما تفيده بحسب الفهم العامي ثم الدفاع عنها بما تيسر من المقدمات المشهورة و المسلمة عند أهل الدين و يعدونها بدعة فلنتركهم و شأنهم.

و أما طبقات الباحثين فقد اختلفوا في معناه على أقوال:

 ١ - حمل الكلمة على ظاهر معناها فالعرش عندهم مخلوق كهيئة السرير له قوائم و هو موضوع على السماء السابعة و الله تعالى عما يقول الظالمون مستو عليه كاستواء

 

 

 الملوك منا على عروشهم، و أكثر هؤلاء على أن العرش و الكرسي شي‏ء واحد، و هو الذي وصفناه.

و هؤلاء هم المشبهة من المسلمين، و الكتاب و السنة و العقل تخاصمهم في ذلك و تنزه رب العالمين أن يماثل شيئا من خلقه و يشبهه في ذات، أو صفة، أو فعل تعالى و تقدس.

 ٢ - أن العرش هو الفلك التاسع المحيط بالعالم الجسماني و المحدد للجهات و الأطلس الخالي من الكواكب، و الراسم بحركته اليومية للزمان، و في جوفه مماسا به الكرسي و هو الفلك الثامن الذي فيه الثوابت، و في جوفه الأفلاك السبعة الكلية التي هي أفلاك السيارات السبع: زحل و المشتري و المريخ و الشمس و الزهرة و عطارد و القمر بالترتيب محيطا بعضها ببعض.

و هذه هي التي يفرضها علم الهيئة على مسلك بطليموس لتنظيم الحركات العلوية الظاهرة للحس طبقوا عليها ما يذكره القرآن من السماوات السبع و الكرسي و العرش فما وجدوا من أحكامها المذكورة في الهيئة و الطبيعيات لا يخالف الظواهر قبلوه، و ما وجدوه يخالف الظواهر الموجودة في الكتاب ردوه كقولهم: ليس للفلك المحدد وراء لا خلأ و لا ملأ، و قولهم بدوام الحركات الفلكية، و استحالة الخرق و الالتيام عليها، و كون كل فلك يماس بسطحه سطح غيره من غير وجود بعد بينها و لا سكنة فيها، و كون أجسامها بسيطة متشابهة لا ثقب فيها و لا باب.

و الظواهر من القرآن و الحديث تثبت أن وراء العرش حجبا و سرادقات، و أن له قوائم، و أن له حملة، و أن الله سيطوي السماء كطي السجل للكتب، و أن في السماء سكنة من الملائكة ليس فيها موضع إهاب إلا و فيه ملك راكع أو ساجد يلجونه و ينزلون منه و يصعدون إليه، و أن للسماء أبوابا، و أن الجنة فيها عند سدرة المنتهى التي ينتهي إليها أعمال العباد إلى غير ذلك مما ينافي بظاهره ما افترضه علماء الهيئة و الطبيعيات سابقا، و القائلون منا إن السماوات و الكرسي و العرش هي ما افترضوه من الأفلاك التسعة الكلية يدفعون ذلك كله بمخالفة الظواهر.

و لم ينبههم هذا الاختلاف في الوصف على أن ما يصفه القرآن غير ما يفترضه أولئك لتوجيه الحركات العلوية حتى أوضحت الأبحاث الأخيرة العميقة في الهيئة و الطبيعيات المؤيدة بالحس و التجربة بطلان الفرضيات السابقة من أصلها فاضطر هؤلاء

 

 

 إلى فسخ تطبيقهم و رفع اليد عنه.

 ٣ - أن لا مصداق للعرش خارجا و إنما قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اِسْتَوى‏ عَلَى اَلْعَرْشِ و ﴿اَلرَّحْمَنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى‏َ كناية عن استيلائه تعالى على عالم الخلق، و كثيرا ما يطلق الاستواء على الشي‏ء على الاستيلاء عليه كما قيل:

قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف و دم مهراق

 أو أن الاستواء على العرش معناه الشروع في تدبير الأمور كما أن الملوك إذا أرادوا الشروع في إدارة أمور مملكتهم استووا على عروشهم و جلسوا عليه و الشروع و الأخذ في أمر و جميع ما ينبئ عن تغير الأحوال و تبدلها و إن كانت ممتنعة في حقه تعالى لتنزهه تعالى عن التغير و التبدل لكن شأنه تعالى يسمى شروعا و أخذا بالنظر إلى حدوث الأشياء بذواتها و أعيانها يومئذ فيسمى شأنه تعالى و هو الشمول بالرحمة إذا تعلق بها شروعا و أخذا بالتدبير نظير سائر الأفعال الحادثة المقيدة بالزمان المنسوبة إليه تعالى كقولنا خلق الله فلانا، و أحيا فلانا، و أمات فلانا، و رزق فلانا، و نحو ذلك.

و فيه: أن كون قوله: ﴿ثُمَّ اِسْتَوى‏ عَلَى اَلْعَرْشِ جاريا مجرى الكناية بحسب اللفظ و إن كان حقا لكنه لا ينافي أن يكون هناك حقيقة موجودة تعتمد عليها هذه العناية اللفظية، و السلطة و الاستيلاء و الملك و الإمارة و السلطنة و الرئاسة و الولاية و السيادة و جميع ما يجري هذا المجرى فينا أمور وضعية اعتبارية ليس في الخارج منها إلا آثارها على ما سمعته منا كرارا في الأبحاث الاعتبارية السابقة، و الظواهر الدينية تشابه من حيث البيان ما عندنا من بيانات أمورنا و شئوننا الاعتبارية لكن الله سبحانه يبين لنا أن هذه البيانات وراءها حقائق واقعية، و جهات خارجية ليست بوهمية اعتبارية.

فمعنى الملك و السلطنة و الإحاطة و الولاية و غيرها فيه سبحانه هو المعنى الذي نفهمه من كل هذه الألفاظ عندنا لكن المصاديق غير المصاديق فلها هناك مصاديق حقيقية خارجية على ما يليق بساحة قدسه تعالى و أما ما عندنا من مصاديق هذه المفاهيم فهي أوصاف ذهنية ادعائية و جهات وضعية اعتبارية لا تتعدى الوهم، و إنما وضعناها و أخذنا بها للحصول على آثار حقيقية هي آثارها بحسب الدعوى فلا يسمى الرئيس رئيسا إلا لأن يتبع الذين نسميهم مرءوسين إراداته و عزائمه لا لأن الجماعة بدون حقيقة و هو

 

 

[1]   و في الحديث فأرسلت السماء عزاليها أي: أفراحها، و العزالى بفتح اللام و كسرها: جمع العزلاء مثل الحمراء، و هو فم المزادة: فقوله أرسلت السماء عزاليها يريد شدة وقع المطر على التشبيه بنزوله من أفواه المزادة. و مثله: «إن الدنيا بعد ذلك أرخت عزاليها» مجمع البحرين.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=2060
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 05 / 10
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 03