• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الميزان في تفسير القرآن ( الجزء الثالث) ، تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده) .
                    • الموضوع : من ص ( 189 ـ 279 ) .

من ص ( 189 ـ 279 )

(بيان)

 قوله تعالى: وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله أصطفيك وطهرك الجملة معطوفة على قوله إذ قالت امرأة عمران فتكون شرحا مثله لاصطفاء آل عمران المشتمل عليه قوله تعالى إن الله اصطفى الآية. وفي الآية دليل على كون مريم محدثة تكلمها الملائكة وهي تسمع كلامهم كما يدل عليه أيضا قوله في سورة مريم فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا إلى آخر الآيات وسيأتي الكلام في المحدث. وقد تقدم في قوله تعالى فتقبلها ربها بقبول حسن الآية أن ذلك بيان لاستجابة دعوة ام مريم وإني سميتها مريم وإني اعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم الآية وأن قول الملائكة لمريم إن الله اصطفيك وطهرك إخبار لها بما لها عند الله سبحانه من الكرامة والمنزلة فارجع إلى هناك. فاصطفائها تقبلها لعبادة الله وتطهيرها اعتصامها بعصمة الله فهي مصطفاة معصومة وربما قيل إن المراد من تطهيرها جعلها بتولا لا تحيض فيتهيأ لها بذلك أن لا تضطر إلى الخروج من الكنيسة ولا بأس به غير أن الذي ذكرناه هو الاوفق بسياق الآيات.

[ 189 ]

قوله تعالى واصطفاك على نساء العالمين قد تقدم في قوله تعالى إن الله اصطفى إلى قوله على العالمين أن الاصطفاء المتعدي بعلى يفيد معنى التقدم وأنه غير الاصطفاء المطلق الذي يفيد معنى التسليم وعلى هذا فاصطفائها على نساء العالمين تقديم لها عليهن. وهل هذا التقديم تقديم من جميع الجهات أو من بعضها ظاهر قوله تعالى فيما بعد الآية إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك الآية وقوله تعالى " والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين " الانبياء - 91 وقوله تعالى " ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين " التحريم - 12 حيث لم تشتمل مما تختص بها من بين النساء إلا على شأنها العجيب في ولادة المسيح عليه السلام أن هذا هو وجه اصطفائها وتقديمها على النساء من العالمين. وأما ما اشتملت عليه الآيات في قصتها من التطهير والتصديق بكلمات الله وكتبه والقنوت وكونها محدثة فهي امور لا تختص بها بل يوجد في غيرها وأما ما قيل إنها مصطفاة على نساء عالمي عصرها فإطلاق الآية يدفعه. قوله تعالى يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين القنوت هو لزوم الطاعة عن خضوع على ما قيل والسجدة معروفة والركوع هو الانحناء أو مطلق التذلل. ولما كان النداء يوجب تلفيت نظر المنادى (اسم مفعول) وتوجيه فهمه نحو المنادي (اسم فاعل) كان تكرار النداء في المقام بمنزلة أن يقال لها إن لك عندنا نبأ بعد نبأ فاستمعي لهما وأصغي اليهما أحدهما ما أكرمك الله به من منزلة وهو مالك عند الله والثاني ما يلزمك من وظيفة العبودية بالمحاذاة وهو ما لله سبحانه عندك فيكون هذا إيفائا للعبودية وشكرا للمنزلة فيؤل معنى الكلام إلى كون قوله يا مريم اقنتي " الخ " بمنزلة التفريع لقوله يا مريم إن الله اصطفيك " الخ " أي إذا كان كذلك فاقنتي واسجدي واركعي مع الراكعين ولا يبعد أن يكون كل واحدة من الخصال الثلاث المذكورة في هذه الآية فرعا لواحدة من الخصال الثلاث المذكورة في الآية السابقة وإن لم يخل عن خفاء فليتأمل.

[ 190 ]

قوله تعالى ذلك من أنباء الغيب نوحيه اليك عده من أنباء الغيب نظير ما عدت قصة يوسف عليه السلام من أنباء الغيب التي توحي إلى رسول الله قال تعالى: " ذلك من أنباء الغيب نوحيه اليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون " يوسف - 102 وأما ما يوجد من ذلك عند أهل الكتاب فلا عبرة به لعدم سلامته من تحريف المحرفين كما أن كثيرا من الخصوصيات المقتصة في قصص زكريا غير موجودة في كتب العهدين على ما وصفه الله في القرآن. ويؤيد هذا الوجه قوله تعالى في ذيل الآية وما كنت لديهم إذ يلقون " الخ ". على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقومه كانوا اميين غير عالمين بهذه القصص ولا أنهم قرئوها في الكتب كما ذكره تعالى بعد سرد قصة نوح " تلك من أنباء الغيب نوحيها اليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا " هود - 49 والوجه الاول أوفق بسياق الآية. قوله تعالى وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم " الخ " القلم بفتحتين القدح الذي يضرب به القرعة ويسمى سهما أيضا وجمعه أقلام فقوله يلقون أقلامهم أي يضربون بسهامهم ليعينوا بالقرعة أيهم يكفل مريم. وفي هذه الجملة دلالة على أن الاختصام الذي يدل عليه قوله وما كنت لديهم إذ يختصمون إنما هو اختصامهم وتشاحهم في كفالة مريم وأنهم لم يتناهوا حتى تراضوا بالاقتراع بينهم فضربوا بالقرعة فخرج السهم لزكريا فكفلها بدليل قوله وكفلها زكريا الآية. وربما احتمل بعضهم أن هذا الاختصام والاقتراع بعد كبرها وعجز زكريا عن كفالتها وكأن منشائه ذكر هذا الاقتراع والاختصام بعد تمام قصة ولادتها واصطفائها وذكر كفالة زكريا في أثنائها فيكونان واقعتين اثنتين. وفيه أنه لا ضير في إعادة بعض خصوصيات القصة أو ما هو بمنزلة الاعادة لتثبيت الدعوى كما وقع نظيره في قصة يوسف حيث قال تعالى بعد تمام القصة " ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون " يوسف - 102 يشير بذلك إلى معنى قوله تعالى في أوائل القصة " إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى

[ 191 ]

أبينا منا ونحن عصبة إلى أن قال لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين: يوسف - 10. قوله تعالى إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك إلخ الظاهر أن هذه البشارة هي التى يشتمل عليها قوله تعالى في موضع آخر فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إنى أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لاهب لك غلاما زكيا الآيات: مريم - 19 فتكون البشارة المنسوبة إلى الملائكة هيهنا هي المنسوبة إلى الروح فقط هناك. وقد قيل في وجهه أن المراد بالملائكة هو جبرئيل عبر بالجمع عن الواحد تعظيما لامره كما يقال سافر فلان فركب الدواب وركب السفن وإنما ركب دابة واحدة وسفينة واحدة ويقال قال له الناس كذا وإنما قاله واحد وهكذا ونظير الآية قوله في قصة زكريا السابقة فنادته الملائكة ثم قوله قال كذلك الله يفعل ما يشاء الآية. وربما قيل إن جبرئيل كان معه غيره فاشتركوا في ندائها. والذى يعطيه التدبر في الآيات التى تذكر شأن الملائكة أن بين الملائكة تقدما وتأخرا من حيث مقام القرب وأن للمتأخر التبعية المحضة لاوامر المتقدم بحيث يكون فعل المتأخر رتبة عين فعل المتقدم وقوله عين قوله نظير ما نشاهده ونذعن به من كون أفعال قوانا وأعضائنا عين أفعالنا من غير تعدد فيه تقول رأته عيناى وسمعته اذناى وريته وسمعته ويقال فعلته جوارحي وكتبته يدى ورسمته أناملي وفعلته أنا وكتبته أنا وكذلك فعل المتبوع من الملائكة فعل التابعين له المؤتمرين لامره بعينه وقوله قولهم من غير اختلاف وبالعكس كما أن فعل الجميع فعل الله سبحانه وقولهم قوله كما قال تعالى الله يتوفى الانفس حين موتها: الزمر - 42 فنسب التوفى إلى نفسه وقال قل يتوفيكم ملك الموت الذى وكل بكم: السجدة - 11 فنسبه إلى ملك الموت وقال حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا: الانعام - 61 فنسبه إلى جمع من الملائكة. ونظيره قوله تعالى إنا أوحينا اليك: النساء - 163 وقوله نزل به الروح الامين على قلبك: الشعراء - 194 وقوله من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على

[ 192 ]

قلبك: البقرة - 97 وقوله كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدى سفرة كرام بررة: عبس - 16. فظهر أن بشارة جبرئيل هي عين بشارة من هو تحت أمره من جماعة الملائكة وهو من سادات الملائكة ومقربيهم على ما يدل عليه قوله تعالى إنه لقول رسول كريم ذى قوة عند ذى العرش مكين مطاع ثم أمين: التكوير - 21 وسيأتى زيادة توضيح لهذا الكلام في سورة فاطر انشاء الله تعالى. ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى في الآية التالية قال كذلك الله يفعل ما يشاء فإن ظاهره أن القائل هو الله سبحانه مع أنه نسب هذا القول في سورة مريم في القصة إلى الروح قال تعالى قال إنما أنا رسول ربك لاهب لك غلاما زكيا قالت أني يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو على هين الآيات: مريم - 21. وفي تكلم الملائكة والروح مع مريم دلالة على كونها محدثة بل قوله تعالى في سورة مريم في القصة بعينها فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا: مريم - 17 يدل على معاينتها الملك زيادة على سماعها صوته وسيجئ تمام الكلام في المعنى في البحث الروائي الآتي إنشاء الله. قوله تعالى بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم قد مر البحث في معنى كلامه تعالى في تفسير قوله تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض: البقرة - 253 والكلمة والكلم كالتمرة والتمر جنس وفرد وتطلق الكلمة على اللفظ الواحد الدال على المعنى وعلى الجملة سواء صح السكوت عليها مثل زيد قائم أو لم يصح مثل إن كان زيد قائما هذا بحسب اللغة وأما بحسب ما يصطلح عليه القرآن أعني الكلمة المنسوبة إلى الله تعالى فهي الذي يظهر به ما أراده الله تعالى من أمر نحو كلمة الايجاد وهو قوله تعالى لشئ أراده كن أو كلمة الوحي والالهام ونحو ذلك. وأما المراد بالكلمة فقد قيل إن المراد به المسيح عليه السلام من جهة أن من سبقه من الانبياء أو خصوص أنبياء بني إسرائيل بشروا به بعنوان أنه منجي بني إسرائيل يقال في نظير المورد هذه كلمتي التي كنت أقولها ونظيره قوله تعالى في ظهور موسى

[ 193 ]

عليه السللام: " وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا " الاعراف - 137 وفيه أن ذلك وإن كان ربما ساعده كتب العهدين لكن القرآن الكريم خال عن ذلك بل القرآن يعد عيسى بن مريم مبشرا لا مبشرا به على أن سياق قوله اسمه المسيح لا يناسبه فإن الكلمة على هذا ظهور عيسى المخبر به قبلا لا نفس عيسى وظاهر قوله اسمه المسيح أن المسيح اسم الكلمة لا اسم من تقدمت في حقه الكلمة. وربما قيل إن المراد به عيسى عليه السلام لايضاحه مراده تعالى بالتوراة وبيانه تحريفات اليهود وما اختلفوا فيه من امور الدين كما حكى الله تعالى عنه ذلك فيما يخاطب به بني إسرائيل " ولابين لكم بعض الذي تختلفون فيه: الزخرف - 63 وفيه أنه نكتة تصحح هذا التعبير لكنها خالية عما يساعدها من القرائن. وربما قيل إن المراد بكلمة منه البشارة نفسها وهي الاخبار بحملها بعيسى وولادته فمعنى قوله يبشرك بكلمة منه يبشرك ببشارة هي أنك ستلدين عيسى من غير مس بشر وفيه أن سياق الذيل أعني قوله اسمه المسيح لا يلائمه وهو ظاهر. وربما قيل إن المراد به عيسى عليه السلام من جهة كونه كلمة الايجاد أعني قوله كن وإنما اختص عيسى عليه السلام بذلك مع كون كل إنسان بل كل شئ موجودا بكلمة كن التكوينية لان سائر الافراد من الانسان يجرى ولادتهم على مجرى الاسباب العادية المألوفة في العلوق من ورود ماء الرجل على نطفة الاناث وعمل العوامل المقارنة في ذلك ولذلك يسند العلوق إليه كما يسند سائر المسببات إلى أسبابها ولما لم يجر علوق عيسى هذا المجرى وفقد بعض الاسباب العادية التدريجية كان وجوده بمجرد كلمة التكوين من غير تخلل الاسباب العادية فكان نفس الكلمة كما يؤيده قوله تعالى " وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه: النساء - 171 وقوله تعالى في آخر هذه الآيات " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الآية " وهذا أحسن الوجوه. والمسيح هو الممسوح سمي به عيسى عليه السلام لانه كان مسيحا باليمن والبركه أو لانه مسح بالتطهير من الذنوب أو مسح بدهن زيت بورك فيه وكانت الانبياء يمسحون

[ 194 ]

به أو لان جبرائيل مسحه بجناحه حين ولادته ليكون عوذة من الشيطان أو لانه كان يمسح رؤوس اليتامى أو لانه كان يمسح عين الاعمى بيده فيبصر أو لانه كان لا يمسح ذا عاهه بيده إلا برء فهذه وجوه ذكروها في تسميته بالمسيح. لكن الذي يمكن أن يعول عليه أن هذا اللفظ كان واقعا في ضمن البشارة التي بشر بها جبرائيل مريم عليه السلام على ما يحكيه تعالى بقوله " إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم " وهذا اللفظ بعينه معرب " مشيحا " الواقع في كتب العهدين. والذى يستفاد منها أن بني إسرائيل كان من دأبهم أن الملك منهم إذا قام بأمر الملك مسحته الكهنة بالدهن المقدس ليبارك له في ملكه فكان يسمى مشيحا فمعناه إما الملك وإما المبارك. وقد يظهر من كتبهم أنه عليهم السلام إنما سمي مشيحا من جهة كون بشارته متضمنا لملكه وأنه سيظهر في بني إسرائيل ملكا عليهم منجيا لهم كما يلوح ذلك من إنجيل لوقا في بشارة مريم قال: فلما دخل إليها الملك قال السلام لك - يا ممتلية نعمة الرب معك مباركة أنت في النساء - فلما رأته اضطربت من كلامه وفكرت ما هذا السلام فقال لها الملك لا تخافي يا مريم فقد ظفرت بنعمة من عند الله وأنت تحبلين وتلدين ابنا وتدعين اسمه يسوع هذا يكون عظيما وابن العلي يدعى ويعطيه الرب له كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب إلى الابد ولا يكون لملكه انقضاء " لوقا 1 - 34. ولذلك تتعلل اليهود عن قبول نبوته بأن البشارة لاشتمالها على ملكه لا تنطبق على عيسى عليه السلام لانه لم ينل الملك أيام دعوته وفي حيوته ولذلك أيضا ربما وجهته النصارى وتبعه بعض المفسرين من المسلمين بأن المراد بملكه الملك المعنوي دون الصوري أقول وليس من البعيد أن يقال إن تسميته بالمسيح في البشارة بمعنى كونه مباركا فإن التدهين عندهم إنما كان للتبريك ويؤيده قوله تعالى " قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت " مريم - 31. وعيسى أصله يشوع فسروه بالمخلص وهو المنجي وفي بعض الاخبار تفسيره بيعيش وهو أنسب من جهة تسمية ابن زكريا بيحيى على ما مر من المشابهة التامة بين

[ 195 ]

هذين النبيين. وتقييد عيسى بابن مريم مع كون الخطاب في الآية لمريم للتنبيه على أنه مخلوق من غير أب ويكون معروفا بهذا النعت وأن مريم شريكته في هذه الآية كما قال تعالى " وجعلناها وابنها آية للعالمين " الانبياء - 91. قوله تعالى وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين الوجاهة هي المقبولية وكونه عليه السلام مقبولا في الدنيا مما لا خفاء فيه وكذا في الآخرة بنص القرآن. ومعنى المقربين ظاهر فهو مقرب عند الله داخل في صف الاولياء والمقربين من الملائكة من حيث التقريب كما ذكره تعالى بقوله " لن يستنكف المسيح أن يكون عبد الله ولا الملائكة المقربون " النساء - 172 وقد عرف تعالى معنى التقريب بقوله " إذا وقعت الواقعة - إلى أن قال -: وكنتم أزواجا ثلثة إلى أن قال: والسابقون السابقون اولئك المقربون " الواقعة - 11 والآية كما ترى تدل على أن هذا التقرب وهو تقرب إلى الله سبحانه حقيقته سبق الانسان سائر أفراد نوعه في سلوك طريق العود إلى الله الذي سلوكه مكتوب على كل إنسان بل كل شئ قال تعالى " يا أيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه " الانشقاق - 6 وقال تعالى ألا إلى الله تصير الامور " الشورى - 53. وأنت إذا تأملت كون المقربين صفة الافراد من الانسان وصفة الافراد من الملائكة علمت أنه لا يلزم أن يكون مقاما اكتسابيا فإن الملائكة لا يحرزون ما أحرزوه من المقام عند الله سبحانه بالكسب فلعله مقام تناله المقربون من الملائكة بهبة إلهيه والمقربون من الانسان بالعمل. وقوله وجيها في الدنيا والآخرة حال وكذا ما عطف عليه من قوله ومن المقربين ويكلم اه ومن الصالحين ويكلمه اه رسولا اه. قوله تعالى ويكلم الناس في المهد وكهلا، المهد ما يهيا للصبي من الفراش والكهل من الكهولة وهو ما بين الشباب والشيخوخة وهو ما يكون الانسان فيه رجلا تاما قويا ولذا قيل الكهل من وخطه الشيب أي خالطه وربما قيل إن الكهل من بلغ أربعا وثلاثين.

[ 196 ]

وكيف كان ففيه دلالة على أنه سيعيش حتى يبلغ سن الكهولة ففيه بشارة اخرى لمريم. وفي التصريح بذلك مع دلالة الاناجيل على أنه لم يعش في الارض أكثر من ثلاث وثلاثين سنة نظر ينبغي أن يمعن فيه ولذا ربما قيل إن تكليمه للناس كهلا إنما هو بعد نزوله من السماء فإنه لم يمكث في الارض ما يبلغ به سن الكهولة وربما قيل إن الذي يعطيه التاريخ بعد التثبت أن عيسى عليه السلام عاش نحوا من أربع وستين سنه خلافا لما يظهر من الاناجيل. والذي يظهر من سياق قوله في المهد وكهلا أنه لا يبلغ سن الشيخوخة وإنما ينتهي إلى سن الكهولة وعلى هذا فقد أخذ في البيان كلامه في طرفي عمره الصبي والكهولة. والمعهود من وضع الصبي في المهد أن يوضع فيه أوائل عمره ما دام في القماط قبل أن يدرج ويمشي وهو في السنة الثانية فما دونها غالبا وهو سن الكلام فكلام الصبي في المهد وإن لم يكن في نفسه من خوارق العادة لكن ظاهر الآية أنه يكلم الناس في المهد كلاما تاما يعتني به العقلاء من الناس كما يعتنون بكلام الكهل وبعبارة أخرى يكلمهم في المهد كما يكلمهم كهلا والكلام من الصبي بهذه الصفة آية خارقة. على أن القصة في سورة مريم تبين أن تكليمه الناس إنما كان لاول ساعة أتت به مريم إلى الناس بعد وضعه وكلام الصبي لاول يوم ولادته آية خارقة لا محالة قال تعالى " فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا اخت هرون ما كان أبوك امرء سوء وما كانت امك بغيا فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت الآيات " مريم - 31. قوله تعالى قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر خطابها لربها مع كون المكلم إياها الروح المتمثل بنائا على ما تقدم أن خطاب الملائكة وخطاب الروح وكلامهم كلام الله سبحانه فقد كانت تعلم أن الذي يكلمها هو الله سبحانه وإن كان الخطاب متوجها إليها من جهة الروح المتمثل أو الملائكة ولذلك خاطبت ربها.

[ 197 ]

ويمكن أن يكون الكلام من قبيل قوله تعالى " قال رب ارجعون " المؤمنون - 99 فهو من الاستغاثة المعترضة في الكلام. قوله سبحانه قال كذلك الله يفعل ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون قد مرت الاشارة إلى أن تطبيق هذا الجواب بما في سورة مريم من قوله " قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا " مريم - 21 يفيد أن يكون قوله هيهنا كذلك كلاما تاما تقديره الامر كذلك ومعناه أن الذي بشرت به أمر مقضي لا مرد له. وأما التعجب من هذا الامر فإنما يصح لو كان هذا الامر مما لا يقدر عليه الله سبحانه أو يشق أما القدرة فإن قدرته غير محدودة يفعل ما يشاء وأما صعوبته ومشقته فإن العسر والصعوبة إنما يتصور إذا كان الامر مما يتوسل إليه بالاسباب فكلما كثرت المقدمات والاسباب وعزت وبعد منالها اشتد الامر صعوبة والله سبحانه لا يخلق ما يخلق بالاسباب بل إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون. فقد ظهر أن قوله كذلك كلام تام أريد به رفع اضطراب مريم وتردد نفسها وقوله الله يخلق ما يشاء رفع العجز الذي يوهمه التعجب وقوله إذا قضى رفع لتوهم العسر والصعوبة. قوله تعالى ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل اللام في الكتاب والحكمة للجنس وقد مر أن الكتاب هو الوحي الرافع لاختلافات الناس والحكمة هي المعرفة النافعة المتعلقة بالاعتقاد أو العمل وعلى هذا فعطف التوراة والانجيل على الكتاب والحكمة مع كونهما كتابين مشتملين على الحكمة من قبيل ذكر الفرد بعد الجنس لاهمية في اختصاصه بالذكر وليست لام الكتاب للاستغراق لقوله تعالى " ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولابين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون " الزخرف - 63 وقد مر بيانه. وأما التوراة فالذي يريده القرآن منها هو الذي نزله الله على موسى عليه السلام في الميقات في ألواح على ما يقصه الله سبحانه في سورة الاعراف وأما الذي عند اليهود من الاسفار فهم معترفون بانقطاع اتصال السند ما بين بختنصر من ملوك بابل وكورش

[ 198 ]

من ملوك الفرس غير أن القرآن يصدق أن التوراة الموجود بأيديهم في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير مخالفة للتوراة الاصل بالكلية وإن لعبت بها يد التحريف ودلالة آيات القرآن على ذلك واضحة. وأما الانجيل ومعناه البشارة فالقرآن يدل على أنه كان كتابا واحدا نازلا على عيسى فهو الوحي المختص به قال تعالى " وأنزل التوراة والانجيل من قبل هدى للناس " آل عمران - 4 وأما هذه الاناجيل المنسوبة إلى متى ومرقس ولوقا ويوحنا فهي كتب مؤلفة بعده عليه السلام. ويدل أيضا على أن الاحكام إنما هي في التوراة وأن الانجيل لا تشتمل إلا على بعض النواسخ كقوله في هذه الآيات مصدقا لما بين يدي من التوراة ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم الآية وقوله " وآتيناه الانجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين وليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه " المائدة - 47 ولا يبعد أن يستفاد من الآية أن فيه بعض الاحكام الاثباتية. ويدل أيضا على أن الانجيل مشتمل على البشارة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كالتوراة قال تعالى " الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل " الاعراف - 157. قوله تعالى ورسولا إلى بني إسرائيل ظاهره أنه عليه السلام كان مبعوثا إلى بني إسرائيل خاصة كما هو اللائح من الآيات في حق موسى عليه السلام وقد مر في الكلام على النبوة في ذيل قوله تعالى " كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين الآية " البقرة - 213 أن عيسى عليه السلام كموسى من أولي العزم وهم مبعوثون إلى أهل الدنيا كافة. لكن العقدة تنحل بما ذكرناه هناك في الفرق بين الرسول والنبي أن النبوة هي منصب البعث والتبليغ والرسالة هي السفارة الخاصة التي تستتبع الحكم والقضاء بالحق بين الناس إما بالبقاء والنعمة أو بالهلاك كما يفيده قوله تعالى " ولكل امة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط " يونس - 47. وبعبارة اخرى النبي هو الانسان المبعوث لبيان الدين للناس والرسول هو المبعوث لاداء بيان خاص يستتبع رده الهلاك وقبوله البقاء والسعادة كما يؤيده بل

[ 199 ]

يدل عليه ما حكاه الله سبحانه من مخاطبات الرسل لاممهم كنوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم عليهم السلام. وإذا كان كذلك لم يستلزم الرسالة إلى قوم خاص البعثة إليهم وكان من الممكن أن يكون الرسول إلى قوم خاص نبيا مبعوثا إليهم وإلى غيرهم كموسى وعيسى عليهم السلام. وعلى ذلك شواهد من القرآن الكريم كرسالة موسى إلى فرعون قال تعالى " اذهب إلى فرعون إنه طغى " طه - 24 وإيمان السحرة لموسى وظهور قبول إيمانهم ولم يكونوا من بني إسرائيل قال تعالى " قالوا آمنا برب هارون وموسى " طه - 70 ودعوة قوم فرعون قال تعالى " ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم " الدخان - 17 ونظير ذلك ما كان من أمر إيمان الناس بعيسى فلقد آمن به عليه السلام قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الروم وأمم عظيمة من الغربيين كالافرنج والنمسا والبروس وإنجلترا وأمم من الشرقيين كنجران وهم جميعهم ليسوا من بني إسرائيل والقرآن لم يخص فيما يذكر فيه النصارى - نصارى بني إسرائيل خاصة بالذكر بل يعمم مدحه أو ذمه الجميع. قوله تعالى أني قد جئتكم بآية من ربكم اني أخلق لكم من الطين إلى قوله واحيي الموتى بإذن الله الخلق جمع أجزاء الشئ وفيه نسبة الخلق إلى غيره تعالى كما يشعر به أيضا قوله تعالى " فتبارك الله أحسن الخالقين " المؤمنون - 14. والاكمه هو الذي يولد مطموس العين وقد يقال لمن تذهب عينه قال كمهت عيناه حتى ابيضتا قاله الراغب والابرص من كان به برص وهو مرض جلدى معروف. وفي قوله واحيي الموتى حيث علق الاحياء بالموتى وهو جمع دلالة ولا أقل من الاشعار بالكثرة والتعدد. وكذا قوله بإذن الله سيق للدلالة على أن صدور هذه الآيات المعجزة منه عليه السلام مستند إلى الله تعالى من غير أن يستقل عيسى عليه السلام بشئ من ذلك وإنما كرر تكرارا يشعر بالاصرار لما كان من المترقب أن يضل فيه الناس فيعتقدوا بالوهيته

[ 200 ]

استدلالا بالآيات المعجزة الصادرة عنه عليه السلام ولذا كان يقيد كل آية يخبر بها عن نفسه مما يمكن أن يضلوا به كالخلق وإحياء الموتى بإذن الله ثم ختم الكلام بقوله إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم. وظاهر قوله أني أخلق لكم " الخ " أن هذه الآيات كانت تصدر عنه صدورا خارجيا لا أن الكلام مسوق لمجرد الاحتجاج والتحدي ولو كان مجرد قول لقطع العذر وإتمام الحجة لكان من حق الكلام أن يقيد بقيد يفيد ذلك كقولنا إن سألتم أو أردتم أو نحو ذلك. على أن ما يحكيه الله سبحانه من مشافهته لعيسى يوم القيامة يدل على وقوع هذه الآيات أتم الدلالة قال " إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك - إلى إن قال -: وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الاكمه والابرص بإذني وإذ تخرج الموتى الآية " المائدة - 110. ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعضهم أن قصارى ما تدل عليه الآية أن الله سبحانه جعل في عيسى بن مريم هذا السر وأنه احتج على الناس بذلك وأتم الحجة عليهم بحيث لو سألوه شيئا من ذلك لآتى به أما أن كلها أو بعضها وقع فلا دلالة فيها على ذلك. قوله تعالى وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم وهذا إخبار بالغيب المختص بالله تعالى ومن خصه من رسله بالوحي وهو آية اخرى وإخبار بغيب صريح التحقق لا يتطرق إليه الشك والريب فإن الانسان لا يشك عادة فيما أكله ولا فيما ادخره في بيته. وإنما لم يقيد هذه الآية بإذن الله مع أن الآية لا تتحقق إلا بإذن منه تعالى كما قال " وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله " المؤمن - 78 لان هذه الآية عبر عنها بالانباء وهو كلام قائم بعيسى عليه السلام يعد فعلا له فلا يليق أن يسند إلى ساحة القدس بخلاف الآيتين السابقتين أعني الخلق والاحياء فإنها فعل الله بالحقيقة ولا ينسبان إلى غيره إلا بإذنه. على أن الآيتين المذكورتين ليستا كالانباء فإن الضلال إلى الناس فيهما أسرع منه

[ 201 ]

في الانباء فإن القلوب الساذجة تقبل الوهية خالق الطير ومحيي الموتى بأدنى وسوسة ومغلطة بخلاف الوهية من يخبر بالمغيبات فإنها لا تذعن باختصاص الغيب بالله سبحانه بل تعتقده أمرا مبتذلا جايز النيل لكل مرتاض أو كاهن مشعبذ فكان من الواجب عند مخاطبتهم أن يقيد الآيتين المذكورتين بالاذن دون الاخيرة وكذا الابراء فيكفي فيها مجرد ذكر أنها آية من الله وخاصة إذا القي الخطاب إلى قوم يدعون أنهم مؤمنون ولذلك ذيل الكلام بقوله إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين أي إن كنتم صادقين في دعويكم الايمان. قوله تعالى ومصدقا لما بين يدى من التوراة ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم عطف على قوله ورسولا إلى بني إسرائيل وكون المعطوف مبنيا على التكلم مع كون المعطوف عليه مبنيا على الغيبة أعني كون عيسى عليه السلام في قوله ومصدقا لما بين يدي متكلما وفي قوله ورسولا إلى بني إسرائيل غائبا ليس مما يضر بالعطف بعد تفسير قوله ورسولا إلى بني إسرائيل بقول عيسى أني قد جئتكم فإن وجه الكلام يتبدل بذلك من الغيبة إلى الحضور فيستقيم به العطف وتصديقه للتوراة التي بين يديه إنما هو تصديق لما علمه الله من التوراة على ما تفيده الآية السابقة وهو التوراة الاصل النازلة على موسى عليهما السلام فلا دلالة لكونه مصدقا للتوراة التي في زمانه على كونها غير محرفة كما لا دلالة لتصديق نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم للتوراة التي بين يديه على كونها غير محرفة. قوله تعالى ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم فإن الله تعالى كان حرم عليهم بعض الطيبات قال تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم الآية: النساء - 160. والكلام لا يخلو عن دلالة على إمضائه عليه السلام لاحكام التوراة إلا ما نسخه الله تعالى بيده من الاحكام الشاقة المكتوبة على اليهود ولذا قيل ان الانجيل غير مشتمل على الشريعة وقوله ولاحل معطوف على قوله بآية من ربكم واللام للغاية والمعنى قد جئتكم لانسخ بعض الاحكام المحرمة المكتوبة عليكم. قوله تعالى وجئتكم بآية من ربكم الظاهر أنه لبيان أن قوله فاتقوا الله

[ 202 ]

وأطيعون متفرع على إتيان الآية لا على إحلال المحرمات فهو لدفع الوهم ويمكن أن يكون هو مراد من قال إن إعادة الجملة للتفرقة بين ما قبلها وما بعدها فإن مجرد التفرقة ليست من المزايا في الكلام. قوله تعالى إن الله ربي وربكم فاعبدوه فيه قطع لعذر من اعتقد الوهيته لتفرسه عليه السلام ذلك منهم أو لعلمه بذلك بالوحي كما ذكرنا نظير ذلك في تقييد قوله فيكون طيرا وقوله واحيي الموتى بقوله بإذن الله لكن الظاهر من قوله تعالى فيما يحكى قول عيسى عليه السلام ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم: المائدة - 117 أن ذلك كان بأمر من ربه ووحى منه. قوله تعالى فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله لما كانت البشارة التي بشر بها مريم مشتملة على جمل قصص عيسى عليه السلام من حين حمله إلى حين رسالته ودعوته اقتصر عليها اقتصاصا إيجازا في الكلام وفرع عليها تتمة الجملة من قصته وهو انتخابه حوارييه ومكر قومه به ومكر الله بهم في تطهيره منهم وتوفيه ورفعه إليه وهو تمام القصة. وقد اعتبر في القصة المقدار الذي يهم إلقائه إلى النصارى حين نزول الآيات وهم نصارى نجران الوفد الذين أتوا المدينة للبحث الاحتجاج ولذلك اسقط منها بعض الخصوصيات التي تشتمل عليه قصصه المذكورة في سائر السور القرآنية كسورة النساء والمائدة والانبياء والزخرف والصف. وفي استعمال لفظ الاحساس في مورد الكفر مع كونه أمرا قلبيا إشعار بظهوره منهم حتى تعلق به الاحساس أو أنهم هموا بإيذائه وقتله بسبب كفرهم فاحس به فقوله فلما أحس عيسى أي استشعر واستظهر منهم أي من بني إسرائيل المذكور اسمهم في البشارة الكفر قال من أنصاري إلى الله وإنما أراد بهذا الاستفهام أن يتميز عدة من رجال قومه فيتمحضوا للحق فتستقر فيهم عدة الدين وتتمركز فيهم قوته ثم تنتشر من عندهم دعوته وهذا شأن كل قوة من القوى الطبيعية والاجتماعية وغيرها إنها إذا شرعت في الفعل ونشر التأثير وبث العمل كان من اللازم أن تتخذ لنفسها كانونا تجتمع فيه وتعتمد عليه وتستمد منه ولو لا ذلك لم تستقر على عمل وذهبت سدى لا تجدي نفعا.

[ 203 ]

و نظير ذلك في دعوة الاسلام بيعة العقبة وبيعة الشجرة أراد بها رسول الله صلى الله عليه وآله ركوز القدرة وتجمع القوة ليستقيم به أمر الدعوة. فلما أيقن عيسى عليه السلام أن دعوته غير ناجحة في بني إسرائيل كلهم أو جلهم وأنهم كافرون به لا محالة وأنهم لو أخمدوا أنفاسه بطلت الدعوة واشتدت المحنة مهد لبقاء دعوته هذا التمهيد فاستنصر منهم للسلوك إلى الله سبحانه فأجابه الحواريون على ذلك فتميزوا من سائر القوم بالايمان فكان ذلك أساسا لتميز الايمان من الكفر وظهوره عليه بنشر الدعوة وإقامة الحجة كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني اسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين: الصف - 14. وقد قيد الانصار في قوله من أنصاري بقوله إلى الله ليتم به معنى التشويق والتحريص الذي سيق لاجله هذا الاستفهام نظير قوله تعالى من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا: البقرة - 245. والظرف متعلق بقوله أنصاري بتضمين النصرة معنى السلوك والذهاب أو ما يشابههما كما حكى عن إبراهيم عليه السلام من قوله إني ذاهب إلى ربي سيهدين الصافات - 99. وأما ما احتمله بعض المفسرين من كون إلى بمعنى مع فلا دليل عليه ولا يساعد أدب القرآن أن يجعله تعالى في عداد غيره فيعد غير الله ناصرا كما يعده ناصرا ولا يساعد عليه أدب عيسى عليه السلام اللائح مما يحكيه القرآن من قوله على أن قوله تعالى قال الحواريون نحن أنصار الله أيضا لا يساعد عليه إذ كان من اللازم على ذلك أن يقولوا نحن أنصارك مع الله فليتأمل. قوله تعالى قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون حواري الانسان من اختص به من الناس وقيل أصله من الحور وهو شدة البياض ولم يستعمل القرآن هذا اللفظ إلا في خواص عيسى عليه السلام من أصحابه. وقولهم آمنا بالله بمنزل التفسير لقولهم نحن أنصار الله وهذا مما يؤيد كون

[ 204 ]

قوله أنصاري إلى الله جاريا مجرى التضمين كما مر فإنه يفيد معنى السلوك في الطريق إلى الله والايمان طريق. وهل هذا أول إيمانهم بعيسى عليه السلام ربما استفيد من قوله تعالى كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة: الصف - 14 أنه إيمان بعد إيمان ولا ضير فيه كما يظهر بالرجوع إلى ما أوضحناه من كون الايمان والاسلام ذوي مراتب مختلفة بعضها فوق بعض. بل ربما دل قوله تعالى وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا وأشهد باننا مسلمون: المائدة - 111 أن إجابتهم إنما كانت بوحي من الله تعالى إليهم وأنهم كانوا أنبياء فيكون الايمان الذي أجابوه به هو الايمان بعد الايمان. على أن قولهم وأشهد بأننا مسلمون ربنا آمنا بما أنزلت وأتبعنا الرسول وهذا الاسلام هو التسليم المطلق لجميع ما يريده الله تعالى منهم وفيهم يدل أيضا على ذلك فإن هذا الاسلام لا يتأتى إلا من خلص المؤمنين لا من كل من شهد بالتوحيد والنبوة مجرد شهادة بيان ذلك أنه قد مر في البحث عن مراتب الايمان والاسلام أن كل مرتبة من الايمان تسبقها مرتبة من مراتب الاسلام كما يدل عليه قولهم آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون حيث أتوا في الايمان بالفعل وفي الاسلام بالصفة فأول مراتب الاسلام هو التسليم والشهادة على أصل الدين إجمالا ويتلوه الاذعان القلبي بهذه الشهادة الصورية في الجملة ويتلوه وهو المرتبة الثانية من الاسلام التسليم القلبي لمعنى الايمان وينقطع عنده السخط والاعتراض الباطني بالنسبة إلى جميع ما يأمر به الله ورسوله وهو الاتباع العملي في الدين ويتلوه وهو المرتبة الثانية من الايمان خلوص العمل واستقرار وصف العبودية في جميع الاعمال والافعال ويتلوه وهو المرتبة الثالثة من الاسلام التسليم لمحبة الله وإرادته تعالى فلا يحب ولا يريد شيئا إلا بالله ولا يقع هناك إلا ما أحبه الله وأراده ولا خبر عن محبة العبد وإرادته في نفسه ويتلوه وهو المرتبة الثالثة من الايمان شيوع هذا التسليم العبودي في جميع الاعمال. فإذا تذكرت هذا الذي ذكرناه وتأملت في قوله عليه السلام فيما نقل من دعوته فاتقوا الله وأطيعون إن ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم الآية وجدت أنه عليه السلام أمر أولا بتقوى الله وإطاعة نفسه ثم علل ذلك بقوله إن الله ربي وربكم

[ 205 ]

أي إن الله ربكم معشر الامة ورب رسوله الذي أرسله اليكم فيجب عليكم أن تتقوه بالايمان وأن تطيعوني بالاتباع وبالجملة يجب عليكم أن تعبدوه بالتقوى وطاعة الرسول أي الايمان والاتباع فهذا هو المستفاد من هذا الكلام ولذا بدل التقوى والاطاعة في التعليل من قوله فاعبدوه وإنما فعل ذلك ليتضح ارتباط الامر بالله لظهور الارتباط به في العبودية ثم ذكر أن هذه العبادة صراط مستقيم فجعله سبيلا ينتهى بسالكه إلى الله سبحانه. ثم لما أحس منهم الكفر ولاحت أسباب اليأس من إيمان عامتهم قال من أنصاري إلى الله فطلب أنصارا لسلوك هذا الصراط المستقيم الذي كان يندب إليه وهو العبودية أعني التقوى والاطاعة فأجابه الحواريون بعين ما طلبه فقالوا نحن أنصار الله ثم ذكروا ما هو كالتفسير له فقالوا آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون ومرادهم بالاسلام إطاعته وتبعيته ولذا لما خاطبوا ربهم خطاب تذلل والتجاء وذكروا له ما وعدوا به عيسى عليه السلام قالوا ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فبدلوا الاسلام من الاتباع ووسعوا في الايمان بتقييده بجميع ما أنزل الله. فأفاد ذلك أنهم آمنوا بجميع ما أنزل الله مما علمه عيسى بن مريم من الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل واتبعوا الرسول في ذلك وهذا كما ترى ليس أول درجة من الايمان بل من أعلى درجاته وأسماها. وإنما استشهدوا عيسى عليه السلام في إسلامهم واتباعهم ولم يقولوا آمنا بالله وإنا مسلمون أو ما يفيد معناه ليكونوا على حجة في عرضهم حالهم على ربهم إذ قالوا ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فكأنهم قالوا ربنا حالنا هذا الحال ويشهد بذلك رسولك. قوله تعالى ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين مقول قول الحواريين حذف القول من اللفظ للدلالة على حكاية نفس الواقعة وهو من الاساليب اللطيفة في القرآن الكريم وقد مر بيانه وقد سألوا ربهم أن يكتبهم من الشاهدين وفرعوا ذلك على إيمانهم وإسلامهم جميعا لان تبليغ الرسول رسالته إنما يتحقق ببيانه ما أنزله الله عليه قولا وفعلا أي بتعليمه معالم الدين وعمله بها فالشهادة على التبليغ

[ 206 ]

إنما يكون بتعلمها من الرسول واتباعه عملا حتى يشاهد أنه عامل بما يدعو إليه لا يتخطاه ولا يتعداه والظاهر أن هذه الشهادة هي التي يومي إليها قوله تعالى فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين: الاعراف - 6 وهي الشهادة على التبليغ وأما قوله تعالى وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين: المائدة - 83 فهو شهادة على حقية رسالة الرسول دون التبليغ والله أعلم. وربما أمكن أن يستفاد من قولهم فاكتبنا مع الشاهدين بعد استشهادهم الرسول على إسلامهم أن المسئول أن يكتبهم الله من شهداء الاعمال كما يلوح ذلك مما حكاه الله تعالى في دعاء إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا امة مسلمة لك وأرنا مناسكنا: البقرة - 128 وليرجع إلى ما ذكرناه في ذيل الآية. قوله تعالى ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين، الماكرون هم بنو إسرائيل بقرينة قوله فلما أحس عيسى منهم الكفر وقد مر الكلام في معنى المكر المنسوب إليه تعالى في ذيل قوله وما يضل به إلا الفاسقين: البقرة - 26. قوله تعالى إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك التوفى أخذ الشئ أخذا تاما ولذا يستعمل في الموت لان الله يأخذ عند الموت نفس الانسان من بدنه قال تعالى توفته رسلنا: الانعام - 61 أي أماتته وقال تعالى وقالوا أئذا ضللنا في الارض أئنا لفي خلق جديد إلى أن قال قل يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم: السجدة - 11 وقال تعالى الله يتوفى الانفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الاخرى: الزمر - 42 والتأمل في الآيتين الاخيرتين يعطي أن التوفي لم يستعمل في القرآن بمعنى الموت بل بعناية الاخذ والحفظ وبعبارة اخرى إنما استعمل التوفي بما في حين الموت من الاخذ للدلالة على أن نفس الانسان لا يبطل ولا يفني بالموت الذي يظن الجاهل أنه فناء وبطلان بل الله تعالى يحفظها حتى يبعثها للرجوع إليه وإلا فهو سبحانه يعبر في الموارد التي لا تجري فيه هذه العناية بلفظ الموت دون التوفي كما في قوله تعالى وما محمد إلا رسول قد خلت

[ 207 ]

من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم: آل عمران - 144 وقوله تعالى لا يقضى عليهم فيموتوا: الفاطر - 36 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جدا حتى ما ورد في عيسى عليه السلام بنفسه كقوله والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا: مريم - 33 وقوله وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا: النساء - 159 فمن هذه الجهة لا صراحة للتوفي في الموت. على أن قوله تعالى في رد دعوى اليهود وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا: النساء - 159 يؤيد ذلك فإن اليهود كانت تدعى أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم عليه السلام وكذلك كانت تظن النصارى أن اليهود قتلت عيسى بن مريم عليه السلام بالصلب غير أنهم كانوا يزعمون أن الله سبحانه رفعه بعد قتله من قبره إلى السماء على ما في الاناجيل والآيات كما ترى تكذب قصة القتل والصلب صريحا. والذي يعطيه ظاهر قوله وإن من أهل الكتاب الآية أنه حي عند الله ولن يموت حتى يؤمن به أهل الكتاب عليهذا فيكون توفيه عليه السلام أخذه من بين اليهود لكن الآية مع ذلك غير صريحة فيه وإنما هو الظهور وسيجئ تمام الكلام في ذلك في آخر سورة النساء. قوله تعالى ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا الرفع خلاف الوضع والطهارة خلاف القذارة وقد مر الكلام في معنى الطهارة. وحيث قيد الرفع بقوله إلى أفاد ذلك أن المراد بالرفع الرفع المعنوي دون الرفع الصوري إذ لا مكان له تعالى من سنخ الامكنة الجسمانية التي تتعاورها الاجسام والجسمانيات بالحلول فيها والقرب والبعد منها فهو من قبيل قوله تعالى في ذيل الآية ثم إلى مرجعكم وخاصة لو كان المراد بالتوفي هو القبض لظهور أن المراد حينئذ هو رفع الدرجة والقرب من الله سبحانه نظير ما ذكره تعالى في حق المقتولين في سبيله أحياء عند ربهم: آل عمران - 169 وما ذكره في حق إدريس عليه السلام ورفعناه مكانا عليا: مريم - 57.

[ 208 ]

وربما يقال إن المراد برفعه إليه رفعه بروحه وجسده حيا إلى السماء على ما يشعر به ظاهر القرآن الشريف أن السماء أي الجسمانية هي مقام القرب من الله سبحانه ومحل نزول البركات ومسكن الملائكة المكرمين ولعلنا نوفق للبحث عن معنى السماء فيما سيأتي إنشاء الله تعالى. والتطهير من الكافرين حيث أتبع به الرفع إلى الله سبحانه أفاد معنى التطهير المعنوي دون الظاهري الصوري فهو إبعاده من الكفار وصونه عن مخالطتهم والوقوع في مجتمعهم المتقذر بقذارة الكفر والجحود. قوله تعالى وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة وعد منه تعالى له عليه السلام أنه سيفوق متبعي عيسى عليه السلام على مخالفيه الكافرين بنبوته وأن تفوقهم هذا سيدوم إلى يوم القيامة وإنما ذكر تعالى في تعريف هؤلاء الفائقين على غيرهم أن الفائقين هم الذين اتبعوه وأن غيرهم هم الذين كفروا من غير أن يقول هم بنو إسرائيل أو اليهود المنتحلون بشريعة موسى عليه السلام أو غير ذلك. غير أنه تعالى لما أخذ الكفر في تعريف مخالفيه ظهر منه أن المراد باتباعه هو الاتباع على الحق أعني الاتباع المرضي لله سبحانه فيكون الذين اتبعوه هم أتباعه المستقيمون من النصارى قبل ظهور الاسلام ونسخه دين عيسى والمسلمون بعد ظهور الاسلام فإنهم هم أتباعه على الحق وعلى هذا فالمراد بالتفوق هو التفوق بحسب الحجة دون السلطنة والسيطرة فمحصل معنى الجملة أن متبعيك من النصارى والمسلمين ستفوق حجتهم على حجة الكافرين بك من اليهود إلى يوم القيامة هذا ما ذكره وارتضاه المفسرون في معنى الآية. والذي أراه أن الآية لا تساعد عليه لا بلفظها ولا بمعناها فإن ظاهر قوله إني متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك أنه إخبار عن المستقبل وأنه سيتحقق فيما يستقبل حال التكلم توف ورفع وتطهير وجعل على أن قوله وجاعل الذين اتبعوك وعد حسن وبشرى وما هذا شأنه لا يكون إلا في ما سيأتي ومن المعلوم أن ليست حجة متبعي عيسى عليه السلام إلا حجة عيسى نفسه وهي التي ذكرها الله تعالى في ضمن آيات البشارة أعني بشارة مريم وهذه الحجج حجج فائقة حين حضور عيسى قبل الرفع وبعد رفع عيسى بل كانت قبل رفعه عليه السلام أقطع لعذر

[ 209 ]

الكفار ومنبت خصومتهم وأوضح في رفع شبههم فما معنى وعده عليه السلام أنه ستفوق حجة متبعيه على حجة مخالفيه ثم ما معنى تقييد هذه الغلبة والتفوق بقوله إلى يوم القيامة مع أن الحجة في غلبتها لا تقبل التقييد بوقت ولا يوم على أن تفوق الحجة على الحجة باق على حاله يوم القيامة على ما يخبر به القرآن في ضمن أخبار القيامة. فان قلت لعل المراد من تفوق الحجة تفوقها من جهة المقبولية بأن يكون الناس أسمع لحجة المتبعين وأطوع لها فيكونوا بذلك أكثر جمعا وأوثق ركنا وأشد قوة. قلت مرجع ذلك إما إلى تفوق متبعيه الحقيقيين من حيث السلطنة والقوة والواقع خلافه واحتمال أن يكون إخبارا عن ظهور للمتبعين وتفوق منهم سيتحقق في آخر الزمان لا يساعد عليه لفظ الآية واما إلى كثرة العدد بأن يراد أن متبعيه عليه السلام سيفوقون الكافرين أي يكون أهل الحق بعد عيسى أكثر جمعا من أهل الباطل ففيه مضافا إلى أن الواقع لا يساعد عليه فلم يزل أهل الباطل يربو ويزيد جمعهم على أهل الحق من زمن عيسى إلى يومنا هذا وقد بلغ الفصل عشرين قرنا أن لفظ الآية لا يساعد عليه فإن الفوقية في الآية وخاصة من جهة كون المقام مقام الانباء عن نزول السخط الالهي على اليهود وشمول الغضب عليهم انما يناسب القهر والاستعلاء اما من حيث الحجة البالغة أو من حيث السلطة والقوة وأما من حيث كثرة العدد فلا يناسب المقام كما هو ظاهر. والذي ينبغي أن يقال أن الذي أخذ في الآية معرفا للفرقتين هو قوله الذين اتبعوك وقوله الذين كفروا والفعل إنما يدل على التحقق والحدوث دون التلبس الذي يدل عليه الوصف كالمتبعين و الكافرين ومجرد صدور فعل من بعض أفراد امة مع رضاء الباقين به وسلوك اللاحقين مسلك السابقين وجريهم على طريقتهم كاف في نسبة ذلك الفعل إليهم كما أن القرآن يؤنب اليهود ويوبخهم على كثير من أفعال سلفهم كقتل الانبياء وإيذائهم والاستكبار عن امتثال أوامر الله سبحانه ورسله وتحريف آيات الكتاب وغير ذلك. وعلي هذا صح أن يراد بالذين كفروا اليهود وبالذين اتبعوا النصارى لما صدر من

[ 210 ]

صدرهم وسلفهم من الايمان بعيسى عليه السلام واتباعه وقد كان إيمانا مرضيا واتباعا حقا وإن كان الله سبحانه لم يرتض اتباعهم له عليه السلام بعد ظهور الاسلام ولا اتباع أهل التثليث منهم قبل ظهور الدعوة الاسلامية. فالمراد جعل النصارى وهم الذين اتبع أسلافهم عيسى عليه السلام فوق اليهود وهم الذين كفروا بعيسى عليه السلام ومكروا به والغرض في المقام بيان نزول السخط الالهي على اليهود وحلول المكر بهم وتشديد العذاب على امتهم ولا ينافي ما ذكرناه كون المراد بالاتباع هو الاتباع على الحق كما استظهرناه في أول الكلام كما لا يخفى. ويؤيد هذا المعنى تغيير الاسلوب في الآية الآتية أعني قوله وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات إذ لو كان المراد بالذين اتبعوا هم أهل الحق والنجاة من النصارى والمسلمين فقط كان الانسب أن يقال وأما الذين اتبعوك فيوفيهم اجورهم من غير تغيير للسياق كما لا يخفى. وهيهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالذين اتبعوا هم النصارى والمسلمون قاطبة وتكون الآية مخبرة عن كون اليهود تحت إذلال من يذعن لزوم اتباع عيسى إلى يوم القيامة والتقريب عين التقريب وهذا أحسن الوجوه في توجيه الآية عند التدبر. قوله تعالى ثم إلى مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون وقد جمع سبحانه في هذا الخطاب بين عيسى وبين الذين اتبعوه والذين كفروا به وهذا مآل أمرهم يوم القيامة وبذلك يختتم أمر عيسى وخبره من حين البشارة به إلى آخر أمره ونبأه. قوله تعالى فأما الذين كفروا فاعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة ظاهره أنه متفرع على قوله فأحكم بينكم تفرع التفصيل على الاجمال فيكون بيانا للحكم الالهي في يوم القيامة بالعذاب لليهود الذين كفروا وتوفية الاجر للمؤمنين. لكن اشتمال التفريع على قوله في الدنيا يدل على كونه متفرعا على مجموع قوله وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا ثم إلى مرجعكم الخ فيدل على أن نتيجة هذا الجعل والرجوع تشديد العذاب عليهم في الدنيا بيد الذين فوقهم الله تعالى عليهم وفي الآخرة بالنار وما لهم في ذلك من ناصرين

[ 211 ]

وهذا أحد الشواهد على أن المراد بالتفويق في الآية السابقة هو التسليط بالسيطرة والقوة دون التأييد بالحجة. وفي قوله وما لهم من ناصرين دلالة على نفى الشفاعة المانعة عن حلول العذاب بساحتهم وهو حتم القضاء كما تقدم. قوله تعالى وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم اجورهم وهذا وعد حسن بالجزاء الخير للذين اتبعوا إلا أن مجرد صدق الاتباع لما لم يستلزم استحقاق جزيل الثواب لان الاتباع كما عرفت وصف صادق على الامة بمجرد تحققه وصدوره عن عدة من أفرادها وحينئذ إنما يؤثر الاثر الجميل والثواب الجزيل بالنسبة إلى من تلبس به شخصا دون من انتسب إليه اسما فلذلك بدل الذين اتبعوك من مثل قوله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستقيم المعنى فإن السعادة والعاقبة الحسنى تدور مدار الحقيقة دون الاسم كما يدل عليه قوله تعالى إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون: البقرة - 62. فهذا أجر الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الذين اتبعوا عيسى عليه السلام أن الله يوفيهم اجورهم وأما غيرهم فليس لهم من ذلك شئ وقد اشير إلى ذلك في الآية بقوله والله لا يحب الظالمين. ومن هنا يظهر السر في ختم الآية وهي آية الرحمة والجنة بمثل قوله والله لا يحب الظالمين مع أن المعهود في آيات الرحمة والنعمة أن تختتم بأسماء الرحمة والمغفرة أو بمدح حال من نزلت في حقه الآية نظير قوله تعالى وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير: الحديد - 10 وقوله تعالى إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم: التغابن - 17 وقوله تعالى ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم: التغابن - 9 وقوله تعالى فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين: الجاثيه - 30 إلى غير ذلك من الآيات. فقوله والله لا يحب الظالمين مسوق لبيان حال الطائفة الاخرى ممن انتسب

[ 212 ]

إلى عيسى عليه السلام بالاتباع وهم غير الذين آمنوا وعملوا الصالحات. قوله تعالى ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم إشارة إلى اختتام القصة والمراد بالذكر الحكيم القرآن الذي هو ذكر لله محكم من حيث آياته وبياناته لا يدخله باطل ولا يلج فيه هزل. قوله تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون تلخيص لموضع الحاجة مما ذكره من قصة عيسى في تولده تفصيلا والايجاز بعد الاطناب وخاصة في مورد الاحتجاج والاستدلال من مزايا الكلام والآيات نازلة في الاحتجاج ومتعرضة لشأن وفد النصارى نصارى نجران فكان من الانسب ان يوجز البيان في خلقته بعد الاطناب في قصته ليدل على أن كيفية ولادته لا تدل على أزيد من كونه بشرا مخلوقا نظير آدم عليهما السلام فليس من الجائز أن يقال فيه أزيد وأعظم مما قيل في آدم وهو أنه بشر خلقه الله من غير أب. فمعنى الآية أن مثل عيسى عند الله أي وصفه الحاصل عنده تعالى أي ما يعلمه الله تعالى من كيفية خلق عيسى الجاري بيده أن كيفية خلقه يضاهي كيفية خلق آدم وكيفية خلقه أنه جمع أجزائه من تراب ثم قال له كن فتكون تكونا بشريا من غير أب. فالبيان بحسب الحقيقة منحل إلى حجتين تفي كل واحدة منهما على وحدتها بنفي الالوهية عن المسيح (ع). إحديهما أن عيسى مخلوق لله على ما يعلمه الله ولا يضل في علمه خلقة بشر وإن فقد الاب ومن كان كذلك كان عبدا لا ربا. وثانيهما أن خلقته لا تزيد على خلقة آدم فلو اقتضى سنخ خلقه أن يقال بالوهيته بوجه لاقتضى خلق آدم ذلك مع أنهم لا يقولون بها فيه فوجب أن لا يقولوا بها في عيسى ع أيضا لمكان المماثلة. ويظهر من الآية أن خلقة عيسى كخلقة آدم خلقة طبيعية كونية وإن كانت خارقة للسنة الجارية في النسل وهي حاجة الولد في تكونه إلى والد. والظاهر أن قوله فيكون أريد به حكاية الحال الماضية ولا ينافي ذلك دلالة

[ 213 ]

قوله ثم قال له كن على انتفاء التدريج فإن النسبة مختلفة فهذه الموجودات بأجمعها أعم من التدريجي الوجود وغيره مخلوقة لله سبحانه موجودة بأمره الذي هو كلمة كن كما قال تعالى إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون: يس - 82 وكثير منها تدريجية الوجود إذا قيست حالها إلى أسبابها التدريجية وأما إذا لوحظ بالقياس إليه تعالى فلا تدريج هناك ولا مهلة كما قال تعالى وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر: القمر - 50 وسيجئ زيادة توضيح لهذا المعنى إنشاء الله تعالى في محله المناسب له. على أن عمدة ما سيق لبيانه قوله ثم قال له كن إنه تعالى لا يحتاج في خلق شئ إلى الاسباب حتى يختلف حال ما يريد خلقه من الاشياء بالنسبة إليه تعالى بالامكان والاستحالة والهوان والعسر والقرب والبعد باختلاف أحوال الاسباب الدخيلة في وجوده فما أراده وقال له كن كان من غير حاجة إلى الاسباب الدخيلة عادة. قوله تعالى الحق من ربك فلا تكن من الممترين تأكيد لمضمون الآية السابقة بعد تأكيده بأن ونحوه نظير تأكيد تفصيل القصة بقوله ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم الآية وفيه تطييب لنفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه على الحق وتشجيع له في المحاجة. وهذا أعنى قوله الحق من ربك من أبدع البيانات القرآنية حيث قيد الحق بمن الدالة على الابتداء دون غيره بأن يقال الحق مع ربك لما فيه من شائبة الشرك ونسبة العجز إليه تعالى بحسب الحقيقة. وذلك أن هذه الاقاويل الحقة والقضايا النفس الامرية الثابتة كائنة ما كانت وان كانت ضرورية غير ممكنة التغير عما هي عليه كقولنا الاربعة زوج والواحد نصف الاثنين ونحو ذلك إلا أن الانسان إنما يقتنصها من الخارج الواقع في الوجود والوجود كله منه تعالى فالحق كله منه تعالى كما أن الخير كله منه ولذلك كان تعالى لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون فإن فعل غيره إنما يصاحب الحق إذا كان حقا وأما فعله تعالى فهو الوجود الذي ليس الحق إلا صورته العلمية.

[ 214 ]

(بحث روائي) في تفسير القمي: في قوله تعالى يا مريم إن الله اصطفيك - وطهرك واصطفيك على نساء العالمين قال قال ع اصطفاها مرتين - أما الاولى فاصطفاها أي اختارها - وأما الثانية فإنها حملت من غير فحل - فاصطفاها بذلك على نساء العالمين وفي المجمع قال أبو جعفر ع: معنى الآية اصطفاك لذرية الانبياء وطهرك من السفاح واصطفيك لولادة عيسى من غير فحل. اقول معنى قوله اصطفاك لذرية الانبياء اختارك لتكوني ذرية صالحة جديرة للانتساب إلى الانبياء ومعنى قوله وطهرك من السفاح أعطاك العصمة منه وهو العمدة في موردها لكونها ولدت عيسى من غير فحل فالكلام مسوق لبيان بعض لوازم اصطفائها وتطهيرها فالروايتان غير متعارضتين كما هو ظاهر وقد مر دلالة الآية على ذلك. وفي الدر المنثور أخرج أحمد والترمذي وصححه وابن المنذر وابن حبان والحاكم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: حسبك من نساء العالمين - مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد - وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآسية امرأة فرعون: قال السيوطي وأخرجه ابن أبي شيبة عن الحسن مرسلا: وفيه أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أفضل نساء العالمين - خديجة وفاطمة ومريم وآسية امرأة فرعون وفيه أخرج ابن مردويه عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله اصطفى على نساء العالمين أربعة - آسية بنت مزاحم ومريم بنت عمران - وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن فاطمة رضى الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - أنت سيدة نساء أهل الجنة لا مريم البتول وفيه أخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران - ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية امرأة فرعون

[ 215 ]

وفيه أخرج ابن عساكر من طريق مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أربع نسوة سادات عالمهن - مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد - وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأفضلهن عالما فاطمة وفيه أخرج ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة سيدة نساء العالمين بعد مريم ابنة عمران - وآسية امرأة فرعون وخديجة ابنة خويلد وفي الخصال بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس قال: خط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربع خطوط ثم قال - خير نساء الجنة مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد - وفاطمة بنت محمد وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون وفيه أيضا بإسناده عن أبي الحسن الاول عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله عز وجل اختار من النساء أربعا: مريم وآسية وخديجة وفاطمة الخبر. أقول والروايات فيما يقرب من هذا المضمون من طرق الفريقين كثيرة وكون هؤلاء سيدات النساء لا ينافي وجود التفاضل بينهن أنفسهن كما يظهر من الخبر السادس المنقول من الدر المنثور وأخبار اخرى وقد مر نظير هذا البحث في تفسير قوله تعالى " إن الله اصطفى آدم ونوحا الآية " آل عمران - 33. ومما ينبغي أن يتنبه له أن الواقع في الآية هو الاصطفاء وقد مر أنه الاختيار والذي وقع في الاخبار هو السيادة وبينهما فرق بحسب المعنى فالثاني من مراتب كمال الاول. وفي تفسير العياشي في قوله تعالى إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم عن الباقر عليه السلام يقرعون بها حين ايتمت من أبيها. وفي تفسير القمي: وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين قال اصطفاها مرتين أما الاولى فاصطفاها أي اختارها وأما الثانية فانها حملت من غير فحل - فاصطفاها بذلك على نساء العالمين - إلى أن قال القمي ثم قال الله لنبيه - ذلك من أنباء الغيب نوحيه اليك يا محمد وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم

[ 216 ]

أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون قال لما ولدت اختصموا آل عمران فيها وكلهم قالوا: نحن نكفلها فخرجوا وضربوا بالسهام بينهم فخرج سهم زكريا الخبر. أقول وقد مر من البيان ما يؤيد هذا الخبر وما قبلها. واعلم أن هناك روايات كثيرة في بشارة مريم وولادة عيسى عليه السلام ودعوته ومعجزاته لكن ما وقع في الآيات الشريفة من جمل قصصه كاف فيما هو المهم من البحث التفسيري ولذلك تركنا ذكرها إلا ما يهم ذكره منها. وفي تفسير القمي في قوله تعالى وأنبئكم بما تأكلون الآية عن الباقر عليه السلام أن عيسى كان يقول لبني إسرائيل إني رسول الله اليكم وإني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وابرء الاكمه والابرص والاكمه هو الاعمى قالوا ما نرى الذي تصنع إلا سحرا فأرنا آية نعلم أنك صادق قال - أرأيتكم إن أخبرتكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم يقول ما أكلتم في بيوتكم قبل أن تخرجوا وما ادخرتم بالليل تعلمون أني صادق ؟ قالوا: نعم فكان يقول أنت أكلت كذا وكذا وشربت كذا وكذا ورفعت كذا وكذا - فمنهم من يقبل منه فيؤمن ومنهم من يكفر - وكان لهم في ذلك آية إن كانوا مؤمنين. اقول وتغيير سياق الآية في حكاية ما ذكره عليه السلام من الآيات أولا وآخرا يؤيد هذه الرواية وقد مرت الاشارة إليه. وفي تفسير العياشي في قوله تعالى: ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولاحل لكم الآية عن الصادق عليه السلام قال كان بين داود وعيسى أربعمأه سنة - وكانت شريعة عيسى أنه بعث بالتوحيد والاخلاص وبما أوصى به نوح وإبراهيم وموسى - وأنزل عليه الانجيل وأخذ عليه الميثاق الذي أخذ على النبيين وشرع له في الكتاب إقام الصلوة مع الدين والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحريم الحرام وتحليل الحلال - وأنزل عليه في الانجيل مواعظ وأمثال وحدود ليس فيها قصاص ولا أحكام حدود ولا فرض مواريث وأنزل عليه تخفيف ما كان على موسى في التوراة وهو قول الله في الذي قال عيسى لبني إسرائيل ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم وأمر عيسى من معه ممن اتبعه من المؤمنين أن يؤمنوا بشريعة التوراة والانجيل.

[ 217 ]

اقول وروى الرواية في قصص الانبياء مفصلة عن الصادق عليه السلام وفيها: كان بين داود وعيسى أربعمائة سنة وثمانون سنة ولا يوافق شيئ منهما تاريخ أهل الكتاب. وفي العيون عن الرضا عليه السلام: أنه سئل لم سمي الحواريون الحواريين ؟ قال: أما عند الناس فإنهم سموا حواريين لانهم كانوا قصارين يخلصون الثياب من الوسخ بالغسل وهو اسم مشتق من الخبز الحوار وأما عندنا فسمي الحواريون الحواريين لانهم كانوا مخلصين في أنفسهم ومخلصين غيرهم من أوساخ الذنوب بالوعظ والتذكير وفي التوحيد عنه عليه السلام: إنهم كانوا اثنا عشر رجلا وكان أفضلهم وأعلمهم لوقا وفي الاكمال عن الصادق عليه السلام في حديث: بعث الله عيسى بن مريم - واستودعه النور والعلم والحكم وجميع علوم الانبياء قبله وزاده الانجيل وبعثه إلى بيت المقدس إلى بني إسرائيل - يدعوهم إلى كتابه وحكمته والى الايمان بالله ورسوله فأبى أكثرهم إلا طغيانا وكفرا فلما لم يؤمنوا دعا ربه وعزم عليه فمسخ منهم شياطين ليريهم آية فيعتبروا فلم يزدهم ذلك إلا طغيانا وكفرا فأتى بيت المقدس فمكث يدعوهم ويرغبهم فيما عند الله ثلاثة وثلاثين سنة حتى طلبته اليهود وادعت أنها عذبته ودفنته في الارض حيا وادعى بعضهم أنهم قتلوه وصلبوه - وما كان الله ليجعل لهم سلطانا عليه وإنما شبه لهم وما قدروا على عذابه وقتله ولا على قتله وصلبه - لانهم لو قدروا على ذلك لكان تكذيبا لقوله ولكن رفعه الله بعد أن توفاه. أقول قوله عليه السلام فمسخ منهم شياطين أي مسخ جمعا من شرارهم. وقوله (ع) فمكث يدعوهم الخ لعله إشارة إلى مدة عمره على ما هو المشهور فإنه ع كان يكلمهم من المهد إلى الكهولة وكان نبيا من صباه على ما يدل عليه قوله على ما حكاه الله عنه " فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا " مريم - 30. وقوله (ع) لكان تكذيبا لقوله: ولكن رفعه الله بعد أن توفاه نقل بالمعنى لقوله تعالى ولكن رفعه الله الآية وقوله تعالى: إني متوفيك ورافعك إلي الآية وقد استفاد من تقديم التوفي على الرفع في اللفظ الترتيب بينهما في الوجود.

[ 218 ]

وفي تفسير القمي عن الباقر (ع) قال: إن عيسى وعد أصحابه ليلة رفعه الله إليه فاجتمعوا إليه عند المساء وهم اثنا عشر رجلا فأدخلهم بيتا ثم خرج إليهم من عين في زاوية البيت وهو ينفض رأسه عن الماء فقال - إن الله أوحى إلي أنه رافعي إليه الساعة ومطهري من اليهود فأيكم يلقى عليه شبحي فيقتل ويصلب ويكون معي في درجتي فقال شاب منهم أنا يا روح الله قال فأنت هو ذا فقال لهم عيسى - أما إن منكم من يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة فقال رجل منهم أنا هو يا نبي الله فقال له عيسى - أتحس بذلك في نفسك ؟ فلتكن هو ثم قال لهم عيسى أما إنكم ستفترقون بعدي ثلاث فرق فرقتين مفتريتين على الله في النار - وفرقة تتبع شمعون صادقة على الله في الجنة ثم رفع الله عيسى إليه من زاوية البيت وهم ينظرون إليه. ثم قال إن اليهود جاءت في طلب عيسى من ليلتهم - فأخذوا الرجل الذي قال له عيسى إن منكم لمن يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة وأخذوا الشاب الذي القي عليه شبح عيسى فقتل وصلب وكفر الذي قال له عيسى يكفر قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة. اقول وروي قريب منه عن ابن عباس وقتادة وغيرهما وقال بعضهم إن الذي القي عليه شبح عيسى هو الذي دلهم ليقبضوا عليه ويقتلوه وقيل غير ذلك والقرآن ساكت عن ذلك وسيأتي استيفاء البحث عنه في الكلام على قوله تعالى " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم الآية " النساء - 157. وفي العيون عن الرضا (ع) قال: إنه ما شبه أمر أحد من أنبياء الله وحججه على الناس إلا أمر عيسى وحده لانه رفع من الارض حيا - وقبض روحه بين السماء والارض ثم رفع إلى السماء ورد عليه روحه وذلك قوله عز وجل إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك - وقال الله حكاية لقول عيسى يوم القيامة وكنت شهيدا عليهم ما دمت فيهم - فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد. وفي تفسير العياشي عن الصادق (ع) قال: رفع عيسى بن مريم بمدرعة صوف من غزل مريم ومن نسج مريم ومن خياطة مريم فلما انتهى إلى السماء نودي يا عيسى ألق عنك زينة الدنيا.

[ 219 ]

اقول وسيأتي توضيح معنى الروايتين في أواخر سورة النساء إنشاء الله تعالى. وفي الدر المنثور: في قوله تعالى إن مثل عيسى عند الله الآية أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال ذكر لنا أن سيدي أهل نجران واسقفيهم السيد والعاقب لقيا نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم فسئلاه عن عيسى فقال كل آدمي له أب فما شأن عيسى لا أب له فأنزل الله فيه هذه الآية إن مثل عيسى عند الله الآية. اقول وروي ما يقرب منه عن السدي وعكرمة وغيرهما وروي القمي في تفسيره أيضا نزول الآية في المورد. (بحث روائي آخر في معنى المحدث) في البصائر عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن الرسول وعن النبي وعن المحدث قال: الرسول الذي يعاين الملك يأتيه بالرسالة من ربه يقول يأمرك كذا وكذا والرسول يكون نبيا مع الرسالة. والنبي لا يعاين الملك ينزل عليه الشئ النبأ على قلبه فيكون كالمغمى عليه فيرى في منامه قلت: فما علمه أن الذي رأى في منامه حق ؟ قال يبينه الله حتى يعلم أن ذلك حق ولا يعاين الملك. والمحدث الذي يسمع الصوت ولا يرى شاهدا. اقول ورواه في الكافي عن أبي عبد الله (ع) قوله شاهدا أي صائتا حاضرا ويمكن أن يكون حالا من فاعل لا يرى. وفيه أيضا عن بريد عن الباقر والصادق عليهما السلام في حديث قال بريد: فما الرسول والنبي والمحدث ؟ قال: الرسول الذي يظهر الملك فيكلمه - والنبي يرى في المنام - وربما اجتمعت النبوة والرسالة لواحد - والمحدث الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة قال قلت أصلحك الله كيف يعلم أن الذي رأى في المنام هو الحق وأنه من الملك ؟ قال يوفق لذلك حتى يعرفه - لقد ختم الله بكتابكم الكتب وبنبيكم الانبياء الحديث. وفيه عن محمد بن مسلم قال: ذكرت المحدث عند أبي عبد الله (ع) قال فقال: إنه يسمع الصوت ولا يرى الصورة فقلت أصلحك الله كيف يعلم أنه كلام الملك ؟ قال إنه يعطى السكينة والوقار حتى يعلم أنه ملك.

[ 220 ]

وفيه أيضا عن أبي بصير عنه (ع) قال: كان علي محدثا وكان سلمان محدثا قال قلت فما آية المحدث ؟ قال: يأتيه الملك فينكت في قلبه كيت وكيت. وفيه عن حمران بن أعين قال: أخبرني أبو جعفر عليهما السلام أن عليا كان محدثا فقال أصحابنا ما صنعت شيئا إلا سألته من يحدثه ؟ فقضي أني لقيت أبا جعفر فقلت ألست أخبرتني أن عليا كان محدثا ؟ قال بلى قلت من كان يحدثه ؟ قال ملك قلت فأقول إنه نبي أو رسول ؟ قال لا بل قل مثله مثل صاحب سليمان وصاحب موسى ومثله مثل ذي القرنين أما سمعت أن عليا سئل عن ذي القرنين أنبيا كان ؟ قال لا ولكن كان عبدا أحب الله فأحبه - وناصح الله فنصحه فهذا مثله. اقول والروايات في معنى المحدث عن ائمة أهل البيت كثيرة جدا رواها في البصائر والكافي والكنز والاختصاص وغيرها ويوجد في روايات أهل السنة أيضا. وأما الفرق الوارد في الاخبار المذكورة بين النبي والرسول والمحدث فقد مر الكلام في الفرق بين الرسول والنبي وأن الوحي بمعنى تكليم الله سبحانه لعبده فهو يوجب العلم اليقيني بنفس ذاته من غير حاجة إلى حجة فمثله في الالقاءات الالهية مثل العلوم البديهية التي لا تحتاج في حصولها للانسان إلى سبب تصديقي كالقياس ونحوه. وأما المنام فالروايات كما ترى تفسره بمعنى غير المعنى المعهود منه أعني الرؤيا يراها الانسان في النوم العادي العارض له في يومه وليلته بل هو حال يشبه الاغماء تسكن فيه حواس الانسان النبي فيشاهد عند ذلك نظير ما نشاهده في اليقظة ثم يسدده الله سبحانه بإفاضته على نفسه اليقين بأنه من جانب الله سبحانه لا من تصرف الشيطان. وأما التحديث فهو سماع صوت الملك غير أنه بسمع القلب دون سمع الحس وليس من قبيل الخطور الذهني الذي لا يسمى سمع صوت إلا بنحو من المجاز البعيد ولذلك ترى أن الروايات تجمع فيه بين سماع الصوت والنكت في القلب وتسميه مع ذلك تحديثا وتكليما فالمحدث يسمع صوت الملك في تحديثه ويعيه بسمعه نظير

[ 221 ]

ما نسمعه ويسمعه من الكلام المعتاد والاصوات المسموعة في عالم المادة غير أنه لا يشاركه في ما يسمعه من كلام الملك غيره ولذا كان أمرا قلبيا. وأما علمه بأن ما حدث به من كلام الملك لا من نزغة الشيطان فذلك بتأييد من الله سبحانه وتسديد كما يشير إليه ما في رواية محمد بن مسلم المتقدمة أنه يعطي السكينة والوقار حتى يعلم أنه ملك وذلك أن النزغة الشيطانية إما باطل في صورته الباطلة عند الانسان المؤمن فظاهر أنه ليس من حديث الملائكة المكرمين الذين لا يعصون الله وأما باطل في صورة حق وسيستتبع باطلا فالنور الالهي الذي يلازم العبد المؤمن يبين حاله قال تعالى " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس " الانعام - 122 والنزغة والوسوسة مع ذلك كله لا تخلو عن اضطراب في النفس وتزلزل في القلب كما أن ذكر الله وحديثه لا ينفك عن الوقار وطمأنينة الباطن قال تعالى " ذلكم الشيطان يخوف أوليائه " آل عمران - 175 وقال " ألا بذكر الله تطمئن القلوب " الرعد - 28 وقال " إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون " الاعراف - 201 فالسكينة والطمأنينة عندما يلقى إلى الانسان من حديث أو خاطر دليل كونه إلقائا رحمانيا كما أن الاضطراب والقلق دليل على كونه إلقاء شيطانا ويلحق بذلك العجلة والجزع والخفة ونحوها. وأما ما في الروايات من أن المحدث يسمع الصوت ولا يعاين الملك فمحمول على الجهة دون التمانع بين المعنيين بمعنى أن الملاك في كون الانسان محدثا أن يسمع الصوت من غير لزوم الرؤية فإن اتفق أن شاهد الملك حين ما يسمع الصوت فليس ذلك لانه محدث وذلك لان الآيات صريحآ في رؤية بعض المحدثين للملائكة حين التحديث كقوله تعالى في مريم " فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال انما انا رسول ربك لاهب لك غلاما زكيا الآيات " مريم - 19 وقوله تعالى - في زوجة إبراهيم في قصة البشارة " ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام إلى إن قال -: وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشئ عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد " هود - 73.

[ 222 ]

وهيهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالمعاينة المنفية معاينة حقيقة الملك في نفسه دون مثاله الذي يتمثل به فإن الآيات لا تثبت أزيد من معاينة المثال كما هو ظاهر. وهيهنا وجه آخر ثالث احتمله بعضهم وهو أن المنفي من المعاينة الوحي التشريعي بأن يظهر للمحدث فيلقي إليه حكما شرعيا وذلك صون من الله لمقام المشرعين من أنبيائه ورسله ولا يخلو عن بعد.

* * *

فمن حاجك فيه من بعد ما جائك من العلم فقل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين (61). إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم (62). فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين (63)

( بيان )

 قوله تعالى فمن حاجك فيه من بعد ما جائك من العلم الفاء للتفريع وهو تفريع المباهلة على التعليم الالهي بالبيان البالغ في أمر عيسى بن مريم عليهما السلام مع ما أكده في ختمه بقوله الحق من ربك فلا تكن من الممترين والضمير في قوله فيه راجع إلى عيسى أو إلى الحق المذكور في الآية السابقة. وقد كان البيان السابق منه تعالى مع كونه بيانا إلهيا لا يرتاب فيه مشتملا على البرهان الساطع الذي يدل عليه قوله إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم الآية فالعلم الحاصل فيه علم من جهة البرهان أيضا ولذلك كان يشمل أثره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغيره من كل سامع فلو فرض تردد من نفس السامع المحاج من جهة كون البيان وحيا إلهيا لم يجز الارتياب فيه من جهة كونه برهانا يناله العقل السليم ولعله لذلك قيل من

[ 223 ]

بعد ما جائك من العلم ولم يقل من بعد ما بيناه لهم. وهيهنا نكتة اخرى وهي أن في تذكيره صلى الله عليه وآله وسلم بالعلم تطييبا لنفسه الشريفة أنه غالب بإذن الله وأن ربه ناصره وغير خاذله البتة. قوله تعالى فقل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم المتكلم مع الغير في قوله ندع غيره في قوله أبنائنا ونسائنا وأنفسنا فإنه في الاول مجموع المتخاصمين من جانب الاسلام والنصرانية وفي الثاني وما يلحق به من جانب الاسلام ولذا كان الكلام في معنى قولنا ندع الابناء والنساء والانفس فندعو نحن أبنائنا و نسائنا وأنفسنا وتدعون أنتم أبنائكم ونسائكم وأنفسكم ففي الكلام إيجاز لطيف. والمباهلة والملاعنة وإن كانت بحسب الظاهر كالمحاجة بين رسول الله وبين رجال النصارى لكن عممت الدعوة للابناء والنساء ليكون أدل على اطمينان الداعي بصدق دعواه وكونه على الحق لما أودعه الله سبحانه في قلب الانسان من محبتهم والشفقة عليهم فتراه يقيهم بنفسه ويركب الاهوال والمخاطرات دونهم وفي سبيل حمايتهم والغيرة عليهم والذب عنهم ولذلك بعينه قدم الابناء على النساء لان محبة الانسان بالنسبة إليهم أشد وأدوم. ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بقوله ندع أبنائنا وأبنائكم الخ ندع نحن أبنائكم ونسائكم وأنفسكم وتدعوا أنتم أبنائنا ونسائنا وانفسنا وذلك لابطاله ما ذكرناه من وجه تشريك الابناء والنساء في المباهلة. وفي تفصيل التعداد دلالة اخرى على اعتماد الداعي وركونه إلى الحق كأنه يقول ليباهل الجمع الجمع فيجعل الجمعان لعنة الله على الكاذبين حتى يشمل اللعن والعذاب الابناء والنساء والانفس فينقطع بذلك دابر المعاندين وينبت أصل المبطلين. وبذلك يظهر أن الكلام لا يتوقف في صدقه على كثرة الابناء ولا على كثرة النساء ولا على كثرة الانفس فإن المقصود الاخير أن يهلك أحد الطرفين بمن عنده من صغير وكبير وذكور وإناث وقد أطبق المفسرون واتفقت الرواية وأيده التاريخ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حضر للمباهلة ولم يحضر معه إلا على وفاطمة والحسنان عليهم السلام فلم يحضر لها إلا نفسان وابنان وامرأة واحدة وقد امتثل أمر الله سبحانه فيها. على أن المراد من لفظ الآية أمر والمصداق الذي ينطبق عليه الحكم بحسب

[ 224 ]

الخارج أمر آخر وقد كثر في القرآن الحكم أو الوعد والوعيد للجماعة ومصداقه بحسب شأن النزول واحد كقوله تعالى الذين يظاهرون منكم من نسائهم ماهن امهاتهم الآية: المجادلة - 2 وقوله تعالى والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا: المجادلة - 3 و قوله تعالى لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء: آل عمران - 181 وقوله تعالى ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو: البقرة - 219 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي وردت بلفظ الجمع ومصداقها بحسب شأن النزول مفرد. قوله تعالى ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين الابتهال من البهلة بالفتح والضم وهي اللعنة هذا أصله ثم كثر استعماله في الدعاء والمسألة إذا كان مع إصرار وإلحاح. وقوله فنجعل لعنة الله كالبيان للابتهال وقد قيل فنجعل ولم يقل فنسأل إشارة إلى كونها دعوة غير مردودة حيث يمتاز بها الحق من الباطل على طريق التوقف والابتناء. وقوله الكاذبين مسوق سوق العهد دون الاستغراق أو الجنس إذ ليس المراد جعل اللعنة على كل كاذب أو على جنس الكاذب بل على الكاذبين الواقعين في أحد طرفي المحاجة الواقعة بينه صلى الله عليه وآله وسلم وبين النصارى حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله لا إله غيره وإن عيسى عبده ورسوله وقالوا إن عيسى هو الله أو إنه ابن الله - أو إن الله ثالث ثلاثة. وعلى هذا فمن الواضح أن لو كانت الدعوى والمباهلة عليها بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين النصارى أعني كون أحد الطرفين مفردا والطرف الآخر جمعا كان من الواجب التعبير عنه بلفظ يقبل الانطباق على المفرد والجمع معا كقولنا فنجعل لعنة الله على من كان كاذبا فالكلام يدل على تحقق كاذبين بوصف الجمع في أحد طرفي المحاجة والمباهلة على أي حال إما في جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإما في جانب النصارى وهذا يعطى أن يكون الحاضرون للمباهلة شركاء في الدعوى فإن الكذب لا يكون إلا في دعوى فلمن حضر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم على وفاطمة والحسنان عليهم السلام شركة في الدعوى والدعوة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا من أفضل المناقب التي خص الله به أهل

[ 225 ]

بيت نبيه عليهم السلام كما خصهم باسم الانفس والنساء والابناء لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم من بين رجال الامة ونسائهم وأبنائهم. فان قلت قد مر أن القرآن يكثر إطلاق لفظ الجمع في مورد المفرد وأن إطلاق النساء في الآية مع كون من حضرت منهن للمباهلة منحصرة في فاطمة عليها السلام فما المانع من تصحيح استعمال لفظ الكاذبين بهذا النحو. قلت إن بين المقامين فارقا وهو أن إطلاق الآيات لفظ الجمع في مورد المفرد إنما هو لكون الحقيقة التي تبينها أمرا جائز التحقق من كثيرين يقضي ذلك بلحوقهم بمورد الآية في الحكم وأما فيما لا يجوز ذلك لكون مورد الآية مما لا يتعداه الحكم ولا يشمل غيره الوصف فلا ريب في عدم جوازه نظير قوله تعالى وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله: الاحزاب - 37 وقوله تعالى لسان الذي يلحدون إليه أعجمى وهذا لسان عربي مبين: النحل - 103 وقوله تعالى إنا أحللنا لك أزواجك اللاتى آتيت اجورهن إلى أن قال وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين: الاحزاب - 50. وأمر المباهلة في الآية مما لا يتعدى مورده وهو مباهلة النبي مع النصارى فلو لم يتحقق في المورد مدعون بوصف الجمع في كلا الطرفين لم يستقم قوله الكاذبين بصيغة الجمع البتة. فان قلت كما أن النصارى الوافدين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحاب دعوى وهي أن المسيح هو الله أو ابن الله أو هو ثالث ثلاثة من غير فرق بينهم أصلا ولا بين نسائهم وبين رجالهم في ذلك كذلك الدعوى التي كانت في جانب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وهي أن الله لا إله إلا هو وأن عيسى بن مريم عبده ورسوله كان القائمون بها جميع المؤمنين من غير اختصاص فيه بأحد من بينهم حتى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يكون لمن أحضره فضل على غيره غير أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحضر من أحضر منهم على سبيل الانموذج لما اشتملت عليه الآية من الابناء والنساء والانفس على أن الدعوى غير الدعوة وقد ذكرت أنهم شركاء في الدعوة.

[ 226 ]

قلت لو كان إتيانه بمن أتى به على سبيل الانموذج لكان من اللازم أن يحضر على الاقل رجلين ونسوة وأبناءا ثلاثة فليس الاتيان بمن أتى به إلا للانحصار وهو المصحح لصدق الامتثال بمعنى أنه لم يجد من يمتثل في الاتيان به أمره تعالى إلا من أتى به وهو رجل وامرأة وابنان وإنك لو تأملت القصة وجدت أن وفد نجران من النصارى إنما وفدوا على المدينة ليعارضوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويحاجوه في أمر عيسى بن مريم فإن دعوى أنه عبد الله ورسوله إنما كانت قائمة به مستندة إلى الوحي الذي كان يدعيه لنفسه وأما الذين اتبعوه من المؤمنين فما كان للنصارى بهم شغل ولا لهم في لقائهم هوى كما يدل على ذلك قوله تعالى في صدر الآية فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل وكذا قوله تعالى قبل عدة آيات فإن حاجوك فقل اسلمت وجهي لله ومن اتبعن. ومن هنا يظهر أن إتيان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمن أتى به للمباهلة لم يكن إتيانا بنحو الانموذج إذ لا نصيب للمؤمنين من حيث مجرد إيمانهم في هذه المحاجة والمباهلة حتى يعرضوا للعن والعذاب المتردد بينهم وبين خصمهم وإنما أتى صلى الله عليه وآله وسلم بمن أتى به من جهة أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان طرف المحاجة والمداعاة فكان من حقه أن يعرض نفسه للبلاء المترقب على تقدير الكذب فلو لا أن الدعوى كانت قائمة بمن أتى به منهم كقيامها بنفسه الشريفة لم يكن لاتيانه بهم وجه فإتيانه بهم من جهة انحصار من هو قائم بدعواه من الابناء والنساء والانفس بهم لا من جهة الاتيان بالانموذج فقد صح أن الدعوى كانت قائمة بهم كما كانت قائمة به. ثم إن النصارى إنما قصدوه صلى الله عليه وآله لا لمجرد أنه كان يرى أن عيسى ابن مريم عليه السلام عبد الله ورسوله ويعتقد ذلك بل لانه كان يدعيه ويدعوهم إليه فالدعوة هي السبب العمدة التي بعثهم على الوفود والمحاجة فحضوره وحضور من حضر معه للمباهلة لمكان الدعوى والدعوة معا فقد كانوا شركائه في الدعوة الدينية كما شاركوه في الدعوى كما ذكرناه. فان قلت هب إن إتيانه بهم لكونهم منه وانحصار هذا الوصف بهم لكن الظاهر كما تعطيه العادة الجارية أن إحضار الانسان أحبائه وأفلاذ كبده من النساء والصبيان في المخاطر والمهاول دليل على وثوقه بالسلامة والعافية و الوقاية فلا يدل إتيانه

[ 227 ]

صلى الله عليه وآله بهم على أزيد من ذلك وأما كونهم شركاء في الدعوة فهو بمعزل عن أن يدل عليه فعله. قلت نعم صدر الآية لا يدل على أزيد مما ذكر لكنك قد عرفت أن ذيلها أعنى قوله على الكاذبين يدل على تحقق كاذبين في أحد طرفي المحاجة والمباهلة البتة ولا يتم ذلك إلا بأن يكون في كل واحد من الطرفين جماعة صاحبة دعوى إما صادقة أو كاذبة فالذين أتى بهم النبي صلى الله عليه وآله مشاركون معه في الدعوى وفي الدعوة كما تقدم فقد ثبت أن الحاضرين كانوا بأجمعهم صاحبي دعوى ودعوة معه صلى الله عليه وآله وشركاء في ذلك. فان قلت لازم ما ذكرته كونهم شركاء في النبوة. قلت كلا فقد تبين (1) فيما أسلفناه من مباحث النبوة أن الدعوة والتبليغ ليسا بعين النبوة والبعثة وإن كانا من شؤونها ولوازمها ومن المناصب والمقامات الالهية التي يتقلدها وكذا تبين مما تقدم (2) من مبحث الامامة أيضا أنهما ليسا بعين الامامة وإن كانا من لوازمها بوجه. قوله تعالى إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله هذا إشارة إلى ما تقدم من قصص عيسى عليه السلام والكلام مشتمل على قصر القلب أي ما قصصناه هو الحق دون ما تدعيه النصارى من أمر عيسى. وفي الاتيان بإن واللام وضمير الفصل تأكيد بالغ لتطييب نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتشجيعه في أمر المباهلة بإيقاظ صفة يقينه وبصيرته ووثوقه بالوحي الذي أنزله الله سبحانه إليه ويتعقبه التأكيد الثاني بإيراد الحقيقة بلازمها وهو قوله وما من إله إلا الله فإن هذه الجملة لازمة كون القصص المذكور حقا. قوله تعالى وإن الله لهو العزيز الحكيم معطوف على أول الآية وهو بما فيه من التأكيد البالغ تطييب آخر وتشجيع لنفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الله لا يعجز عن نصرة

____________________________

(1) في تفسير آية 213 من سورة البقرة من المجلد الثاني. (2) في تفسير آية 124 من سورة البقرة من المجلد الاول.

[ 228 ]

الحق وتاييده ولا أنه يغفل أو يلهو عن ذلك بإهمال أو جهل فإنه هو العزيز فلا يعجز عما أراده الحكيم فلا يجهل ولا يهمل لا ما عملته أوهام خصماء الحق من إله غير الله سبحانه. ومن هنا يظهر وجه الايتان بالاسمين العزيز الحكيم وأن الكلام مسوق لنصر القلب أو الافراد. قوله تعالى فإن الله عليم بالمفسدين لما كان الغرض من المحاجة وكذا المباهلة بحسب الحقيقة هو إظهار الحق لم يكن يعقل التولى عن الطريق لمريد الغرض والمقصد فلو كانوا أرادوا بذلك إظهار الحق وهم يعلمون أن الله سبحانه ولى الحق لا يرضى بزهوقه ودحوضه لم يتولوا عنها فإن تولوا فإنما هو لكونهم لا يريدون بالمحاجة ظهور الحق بل الغلبة الظاهرية والاحتفاظ على ما في أيديهم من حاضر الوضع والسنة التي استحكمت عليه عادتهم فهم إنما يريدون ما تزينه لهم أهوائهم وهوساتهم من شكل الحياة لا الحياة الصالحة التي تنطبق على الحق والسعادة فهم لا يريدون إصلاحا بل إفساد الدنيا بإفساد الحياة السعيدة فإن تولوا فإنما هو لانهم مفسدون. ومن هنا يظهر أن الجزاء وضع فيه السبب مكان المسبب أعني الافساد مكان عدم إرادة ظهور الحق. وقد ضمن الجزاء وصف العلم حيث قيل فإن الله عليم ثم اكد بإن ليدل على أن هذه الصفة متحققة في نفوسهم ناشبة في قلوبهم فيشعر بأنهم سيتولون عن المباهلة لا محالة وقد فعلوا وصدقوا قول الله بفعلهم.

( بحث روائي )

 في تفسير القمي عن الصادق عليه السلام: أن نصارى نجران لما وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - وكان سيدهم الاهتم والعاقب والسيد - وحضرت صلوتهم فأقبلوا يضربون الناقوس وصلوا - فقال أصحاب رسول الله يا رسول الله هذا في مسجدك - فقال دعوهم فلما فرغوا دنوا من رسول الله فقالوا إلى ما تدعو ؟ فقال إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وأن عيسى عبد مخلوق يأكل ويشرب ويحدث قالوا فمن

[ 229 ]

أبوه ؟ فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال قل لهم ما تقولون في آدم أكان عبدا مخلوقا يأكل ويشرب ويحدث وينكح ؟ فسألهم النبي فقالوا نعم: قال فمن أبوه ؟ فبهتوا فأنزل الله إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب الآية وقوله فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم - إلى قوله فنجعل لعنه الله على الكاذبين فقال رسول الله - فباهلوني فإن كنت صادقا أنزلت اللعنة عليكم وان كنت كاذبا أنزلت علي فقالوا أنصفت فتواعدوا للمباهلة فلما رجعوا إلى منازلهم قال رؤسائهم السيد والعاقب والاهتم ان باهلنا بقومه باهلناه فإنه ليس نبيا وإن باهلنا باهل بيته خاصة لم نباهله فإنه لا يقدم إلى أهل بيته إلا وهو صادق فلما اصبحوا جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام فقال النصارى: من هؤلاء ؟ فقيل لهم هذا ابن عمه ووصيه وختنه علي بن أبي طالب وهذا ابنته فاطمة وهذا ابناه الحسن والحسين ففرقوا فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نعطيك الرضا فاعفنا من المباهلة فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الجزية وانصرفوا. وفي العيون بإسناده عن الريان بن الصلت عن الرضا عليه السلام في حديثه مع المأمون والعلماء في الفرق بين العترة والامة وفضل العترة على الامة وفيه قالت العلماء: هل فسر الله الاصطفاء في كتابه ؟ فقال الرضا عليه السلام فسر الاصطفاء في الظاهر سوى الباطن في اثني عشر موضعا وذكر المواضع من القرآن وقال فيها وأما الثالثة حين ميز الله الطاهرين من خلقه وأمر نبيه بالمباهلة بهم في آية الابتهال فقال عز وجل فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم - فقل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم قالت العلماء عنى به نفسه قال أبو الحسن - غلطتم إنما عنى به على بن أبي طالب ومما يدل على ذلك قول النبي لينتهين بنوا وليعة أو لابعثن إليهم رجلا كنفسي يعني على بن أبي طالب وعني بالابناء الحسن والحسين وعني بالنساء فاطمة فهذه خصوصية لا يتقدمهم فيها أحد وفضل لا يلحقهم فيه بشر وشرف لا يسبقهم إليه خلق إذ جعل نفس علي كنفسه الحديث. وعنه بإسناده إلى موسى بن جعفر عليه السلام في حديث له مع الرشيد قال الرشيد له: كيف قلتم إنا ذرية النبي والنبي لم يعقب وإنما العقب للذكر لا للانثى وأنتم ولد البنت ولا يكون له عقب فقلت أساله بحق القرابة والقبر ومن فيه إلا

[ 230 ]

ما أعفاني عن هذه المسألة فقال تخبرني بحجتكم فيه يا ولد علي وأنت يا موسى يعسوبهم وإمام زمانهم كذا أنهي إلي ولست أعفيك في كل ما أسألك عنه حتى تأتيني فيه بحجة من كتاب الله وأنتم تدعون معشر ولد علي أنه لا يسقط عنكم منه شئ لا ألف ولا واو إلا تأويله عندكم واحتججتم بقوله عز وجل ما فرطنا في الكتاب من شئ وقد استغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم. فقلت تأذن لي في الجواب ؟ فقال هات قلت أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس من أبو عيسى يا أمير المؤمنين ؟ فقال ليس له أب فقلت إنما ألحقه بذراري الانبياء من طريق مريم وكذلك ألحقنا الله تعالى بذراري النبي من امنا فاطمة أزيدك يا أمير المؤمنين ؟ قال هات قلت قول الله عز وجل - فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ولم يدع أحد أنه أدخل النبي تحت الكساء - عند المباهلة مع النصارى إلا علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين فكان تأويل قوله أبنائنا الحسن والحسين ونسائنا فاطمة وأنفسنا علي بن أبي طالب. وفي سؤالات المأمون عن الرضا عليه السلام قال المأمون - ما الدليل على خلافة جدك علي بن أبي طالب ؟ قال آية أنفسنا قال لولا نسائنا قال لولا أبنائنا. أقول قوله آية أنفسنا يريد أن الله جعل نفس علي كنفس نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وقوله لو لا نسائنا معناه أن كلمة نسائنا في الآية دليل على أن المراد بالانفس الرجال فلا فضيلة فيه حينئذ وقوله لو لا أبنائنا معناه أن وجود أبنائنا فيها يدل على خلافه فإن المراد بالانفس لو كان هو الرجال لم يكن مورد لذكر الابناء. وفي تفسير العياشي بإسناده عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن أمير المؤمنين عليه السلام سئل عن فضائله فذكر بعضها ثم قالوا له زدنا فقال إن رسول الله صلى الله عليه وآله أتاه حبران من أحبار النصارى من أهل نجران فتكلما في أمر عيسي فأنزل الله هذه الآية إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم إلى آخر الآية فدخل رسول الله

[ 231 ]

فأخذ بيد علي والحسن والحسين وفاطمة ثم خرج ورفع كفه إلى السماء وفرج بين أصابعه ودعاهم إلى المباهلة قال وقال أبو جعفر عليهما السلام وكذلك المباهلة يشبك يده في يده يرفعهما إلى السماء فلما رآه الحبران قال أحدهما لصاحبه والله لئن كان نبيا لنهلكن وإن كان غير نبي كفانا قومه فكفا وانصرفا. اقول وهذا المعنى أو ما يقرب منه مروي في روايات أخر من طرق الشيعة وفي جميعها أن الذين أتى بهم النبي صلى الله عليه وآله للمباهلة هم علي وفاطمة والحسنان فقد رواه الشيخ في أماليه بإسناده عن عامر بن سعد عن أبيه ورواه أيضا فيه بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير عن الصادق عليه السلام ورواه فيه أيضا بإسناده عن سالم ابن أبي الجعد يرفعه إلى أبي ذر رضوان الله عليه ورواه أيضا فيه بإسناده عن ربيعة ابن ناجد عن علي عليه السلام ورواه المفيد في كتاب الاختصاص بإسناده عن محمد بن الزبرقان عن موسى بن جعفر عليهما السلام ورواه أيضا فيه عن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جده ورواه العياشي في تفسيره عن محمد بن سعيد الاردني عن موسى بن محمد بن الرضا عن أخيه ورواه أيضا عن أبي جعفر الاحول عن الصادق عليه السلام ورواه أيضا فيه في رواية اخرى عن الاحول عنه عليه السلام وعن المنذر عن علي عليه السلام ورواه أيضا فيه بإسناده عن عامر بن سعد ورواه الفرات في تفسيره معنعنا عن أبي جعفر وعن أبي رافع والشعبي وعلى عليه السلام وشهر بن حوشب ورواه في روضة الواعظين وفي إعلام الورى وفي الخرائج وغيرها. وفي تفسير الثعلبي عن مجاهد والكلبي: أنه صلى الله عليه وآله لما دعاهم إلى المباهلة قالوا: حتى نرجع وننظر فلما تخالوا قالوا للعاقب - وكان ذا رأيهم يا عبد المسيح ما ترى ؟ فقال والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبي مرسل ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لنهلكن فإن أبيتم إلا إلف دينكم والاقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم. فأتوا رسول الله وقد غدا محتضنا بالحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي خلفها وهو يقول: إذا أنا دعوت فأمنوا فقال اسقف نجران يا معشر النصارى إني لارى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لازاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا

[ 232 ]

ولا يبقى على وجه الارض نصراني إلى يوم القيامة فقالوا يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك وأن نقرك على دينك ونثبت على ديننا قال فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم فأبوا قال فإني اناجزكم فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي اليك كل عام ألفي حلة ألف في صفر وألف في رجب وثلاثين درعا عادية من حديد فصالحهم على ذلك. وقال والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي نارا ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا. اقول وروى القصة قريبا منه في كتاب المغازي عن ابن إسحق ورواه أيضا المالكي في الفصول المهمة عن المفسرين قريبا منه ورواه الحموي عن ابن جريح قريبا منه. وقوله ألف في صفر المراد به المحرم وهو أول السنة عند العرب وقد كان يسمى صفرا في الجاهلية فيقال صفر الاول وصفر الثاني وقد كانت العرب تنسئ في الصفر الاول ثم أقر الاسلام الحرمة في الصفر الاول فسمي لذلك بشهر الله المحرم ثم اشتهر بالمحرم. وفي صحيح مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا فقال - ما يمنعك أن تسب أبا تراب قال أما ما ذكرت ثلاثا قالهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه لان يكون لي واحدة منهن أحب إلى من حمر النعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين خلفه في بعض مغازيه فقال له علي يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هرون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ؟ وسمعته يقول يوم خيبر: لاعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله قال فتطاولنا لها فقال: أدعوا لي عليا فاتي به أرمد العين فبصق في عينيه ودفع الراية إليه ففتح الله على يده ولما نزلت هذه الآية قل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل دعا رسول الله عليا وفاطمة وحسنا وحسينا وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي.

[ 233 ]

اقول ورواه الترمذي في صحيحه ورواه أبو المؤيد الموفق بن أحمد في كتاب فضائل علي ورواه أيضا أبو نعيم في الحلية عن عامر بن سعد عن أبيه ورواه الحمويني في كتاب فرائد السمطين. وفي حلية الاولياء لابي نعيم بإسناده عن عامر بن أبي وقاص عن أبيه قال: لما نزلت هذه الآية - دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال اللهم هؤلاء أهل بيتي. وفيه بإسناده عن الشعبي عن جابر قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم العاقب والطيب فدعاهما إلى الاسلام فقالا أسلمنا يا محمد فقال كذبتما إن شئتما أخبرتكما ما يمنعكما من الاسلام فقالا فهات الينا قال حب الصليب وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير - قال جابر فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه إلى أن يفداه بالغداة فغدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ بيد علي والحسن والحسين وفاطمة فأرسل اليهما فأبيا أن يجيباه وأقرا له فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذي بعثني بالحق لو فعلا لامطر عليهم الوادي نارا قال جابر فيهم نزلت ندع أبنائنا وأبنائكم قال جابر أنفسنا وأنفسكم رسول الله وعلي وأبنائنا الحسن والحسين ونسائنا فاطمة. أقول ورواه ابن المغازلي في مناقبه بإسناده عن الشعبي عن جابر ورواه ايضا الحمويني في فرائد السمطين بإسناده عنه ورواه المالكي في الفصول المهمة مرسلا عنه ورواه أيضا عن أبي داود الطيالسي عن شعبة الشعبي مرسلا ورواه في الدر المنثور عن الحاكم وصححه وعن ابن مردويه وأبي نعيم في الدلائل عن جابر. وفي الدر المنثور خرج أبو نعيم في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: أن وفد نجران من النصارى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم منهم السيد وهو الكبير والعاقب وهو الذي يكون بعده وصاحب رأيهم ثم ساق القصة نحوا مما مر. وفيه أيضا أخرج البيهقي في الدلائل من طريق سلمة بن عبد يشوع عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان: بسم الله إله إبراهيم وإسحق ويعقوب من محمد رسول الله إلى اسقف نجران وأهل

[ 234 ]

نجران إن أسلمتم فإني أحمد اليكم الله إله إبراهيم وإسحق ويعقوب أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية من الله من ولاية العباد - فإن أبيتم فالجزية وإن أبيتم فقد آذنتكم بالحرب والسلام - فلما قرأ الاسقف الكتاب فظع به وذعر ذعرا شديدا فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة فدفع إليه كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقرأه فقال له الاسقف: ما رأيك ؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسمعيل من النبوة فما يؤمن أن يكون هذا الرجل ؟ ليس لي في النبوة رأي لو كان رأى من أمر الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت لك فبعث الاسقف إلى واحد بعد واحد من أهل نجران فكلهم قالوا مثل قول شرحبيل فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة وعبد الله بن شرحبيل وجبار بن فيض فيأتونهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فانطلق الوفد حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألهم وسألوه فلم نزل به وبهم المسألة حتى قالوا له: ما تقول في عيسى بن مريم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما عندي فيه شئ يومى هذا فأقيموا حتى اخبركم بما يقال في عيسى صبح الغد فأنزل الله هذه الآية إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب - إلى قوله فنجعل لعنة الله على الكاذبين فأبوا أن يقروا بذلك فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملا على الحسن والحسين في خميلة له وفاطمة تمشي خلف ظهره للملاعنة وله يومئذ عدة نسوة فقال شرحبيل لصاحبيه إني أرى أمرا مقبلا إن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلاعناه لا يبقى على وجه الارض منا شعر ولا ظفر إلا هلك فقالا له ما رأيك ؟ فقال رأيي أن احكمه فإني أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا فقالا له أنت وذلك فتلقى شرحبيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك قال: وما هو ؟ قال حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح فمهما حكمت فينا فهو جائز فرجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يلاعنهم وصالحهم على الجزية. وفيه أخرج ابن جرير عن علباء بن أحمر اليشكري قال: لما نزلت هذه الآية قل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم الآية أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين ودعا اليهود ليلاعنهم فقال شاب من اليهود ويحكم إليس عهدتم الامس إخوانكم الذين مسخوا قردة وخنازير ؟ لا تلاعنوا فانتهوا.

[ 235 ]

أقول والرواية تؤيد أن يكون الضمير في قوله تعالى فمن حاجك فيه راجعا إلى الحق في قوله: الحق من ربك فيتم بذلك حكم المباهلة لغير خصوص عيسى بن مريم عليه السلام وتكون حينئذ هذه قصة اخرى واقعة بعد قصة دعوة وفد نجران إلى المباهلة على ما تقصه الاخبار الكثيرة المتظافرة المنقولة أكثرها فيما تقدم. وقال ابن طاوس في كتاب سعد السعود رأيت في كتاب تفسير ما نزل من القرآن في النبي وأهل بيته تأليف محمد بن العباس بن مروان أنه روى خبر المباهلة من أحد وخمسين طريقا عمن سماه من الصحابة وغيرهم وعد منهم الحسن بن علي عليهما السلام وعثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وبكر بن سمال وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عباس وأبا رافع مولى النبي وجابر بن عبد الله والبراء بن عازب وانس بن مالك. وروى ذلك في المناقب عن عدة من الرواة والمفسرين وكذا السيوطي في الدر المنثور. ومن عجيب الكلام ما ذكره بعض المفسرين حيث قال إن الروايات متفقة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اختار للمباهلة عليا وفاطمة وولديهما ويحملون كلمة نسائنا على فاطمة وكلمة أنفسنا على علي فقط ومصادر هذه الروايات الشيعة ومقصدهم منها معروف وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة ولكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية فإن كلمة نسائنا لا يقولها العربي ويريد بها بنته لا سيما إذا كان له أزواج ولا يفهم هذا من لغتهم وأبعد من ذلك أن يراد بأنفسنا علي ثم إن وفد نجران الذين قالوا: إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نسائهم واولادهم وكل ما يفهم من الآيه امر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعوا المحاجين والمجادلين في عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالا ونسائا وأطفالا ويجمع هو المؤمنين رجالا ونسائا وأطفالا ويبتهلون إلى الله تعالى بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى. وهذا الطلب يدل على قوة يقين صاحبه وثقته بما يقول كما يدل امتناع من دعوا إلى ذلك من أهل الكتاب سواء كانوا نصارى نجران أو غيرهم على امترائهم في حجاجهم ومما راتهم فيما يقولون وزلزالهم فيما يعتقدون وكونهم على غير بينة ولا يقين وأنى لمن يؤمن بالله أن يرضى بأن يجتمع هذا الجمع من الناس المحقين والمبطلين في

[ 236 ]

صعيد واحد متوجهين إلى الله في طلب لعنه وإبعاده من رحمته ؟ وأي جرأة على الله واستهزاء بقدرته وعظمته أقوى من هذا. قال أما كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين كانوا على يقين مما يعتقدون في عيسى عليه السلام فحسبنا في بيانه قوله تعالى: من بعد ما جاءك من العلم فالعلم في هذه المسائل الاعتقادية لا يراد به إلا اليقين وفي قوله: ندع أبنائنا وأبنائكم " الخ " وجهان: أحدهما: أن كل فريق يدعو الآخر فأنتم تدعون أبنائنا ونحن ندعو أبنائكم، وهكذا الباقي. وثانيهما أن كل فريق يدعو أهله فنحن المسلمون ندعو أبنائنا ونسائنا وأنفسنا وأنتم كذلك. ولا إشكال في وجه من وجهي التوزيع في دعوة الانفس وإنما الاشكال فيه على قول الشيعة ومن شايعهم على القول بالتخصيص انتهى. اقول وهذا الكلام - وأحسب أن الناظر فيه يكاد يتهمنا في نسبته إلى مثله واللبيب لا يرضى بإيداعه وأمثاله في الزبر العلمية إنما أوردناه على وهنه وسقوطه ليعلم أن النزعة والعصبية إلى أين يورد صاحبه من سقوط الفهم وردائة النظر فيهدم كل ما بنى عليه ويبني كل ما هدمه ولا يبالي ولان الشر يجب أن يعلم ليجتنب عنه. والكلام في مقامين أحدهما دلالة الآية على أفضلية علي عليه السلام وهو بحث كلامي خارج عن الغرض الموضوع له هذا الكتاب وهو النظر في معاني الآيات القرآنية. وثانيهما البحث عما ذكره هذا القائل من حيث تعلقه بمدلول آية المباهلة والروايات الواردة في ما جرى بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين وفد نجران وهذا بحث تفسيري داخل في غرضنا. وقد عرفت ما تدل عليه الآية وأن الذي نقلناه من الاخبار المتكثرة المتظافرة هو الذي يطابق مدلول الآية وبالتأمل في ذلك يتضح وجوه الفساد في هذه الحجة المختلقة والنظر الواهي الذي لا يرجع إلى محصل وهاك تفصيلها: منها أن قوله ومصادر هذه الروايات الشيعة إلى قوله وقد اجتهدوا في

[ 237 ]

ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة بعد قوله إن الروايات متفقة ليت شعري أي روايات يعنى بهذا القول ؟ أمراده هذه الروايات المتظافرة التي أجمعت على نقلها وعدم طرحها المحدثون وليست بالواحدة والاثنتين والثلاث أطبق على نقلها وتلقيها بالقبول أهل الحديث وأثبتها أرباب الجوامع في جوامعهم ومنهم مسلم في صحيحه والترمذي في صحيحه وأيدها أهل التاريخ. ثم أطبق المفسرون على إيرادها وإيداعها في تفاسيرهم من غير اعتراض أو ارتياب وفيهم جمع من أهل الحديث والتاريخ كالطبري وأبي الفداء بن كثير والسيوطي وغيرهم ثم من الذي يعنيه من الشيعة المصادر لهذه الروايات ؟ أيريد بهم الذين تنتهي إليهم سلاسل الاسناد في الروايات أعني سعد بن أبي وقاص وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس وغيرهم من الصحابة ؟ أو التابعين الذين نقلوا عنهم بالاخذ والرواية كأبي صالح والكلبي والسدي والشعبي وغيرهم وأنهم تشيعوا لنقلهم ما لا يرتضيه بهواه فهؤلاء وأمثالهم ونظرائهم هم الوسائط في نقل السنة ومع رفضهم لا تبقى سنة مذكورة ولا سيرة مأثورة وكيف يسع لمسلم أو باحث حتى ممن لا ينتحل بالاسلام أن يبطل السنة ثم يروم أن يطلع على تفاصيل ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تعليم وتشريع والقرآن ناطق بحجية قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته وناطق ببقاء الدين على حيوته ولو جاز بطلان السنه من رأس لم يبق للقرآن أثر ولا لانزاله ثمر. أو أنه يريد أن الشيعة دسوا هذه الاحاديث في جوامع الحديث وكتب التاريخ فيعود محذور سقوط السنة وبطلان الشريعة بل يكون البلوى أعم والفساد أتم. ومنها قوله وحملون كلمة نسائنا على فاطمة وكلمة أنفسنا على علي فقط مراده به أنهم يقولون بأن كلمة نسائنا أطلقت واريدت بها فاطمة وكذا المراد بكلمة أنفسنا علي فقط وكأنه فهمه مما يشتمل عليه بعض الروايات السابقة قال جابر: نسائنا فاطمة وأنفسنا علي الخبر وقد أساء الفهم فليس المراد في الآية بلفظ نسائنا فاطمة وبلفظ أنفسنا علي بل المراد أنه صلى الله عليه وآله وسلم إذ لم يأت في مقام الامتثال إلا بها وبه كشف ذلك أنها هي المصداق الفرد لنسائنا وأنه هو المصداق الوحيد لانفسنا وأنهما مصداق أبنائنا وكان المراد بالابناء والنساء والانفس في الآية هو الاهل فهم

[ 238 ]

أهل بيت رسول الله وخاصته كما ورد في بعض الروايات بعد ذكر إتيانه صلى الله عليه وآله وسلم بهم أنه قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فإن معنى الجملة أني لم أجد من أدعوه غير هؤلاء. ويدل على ما ذكرناه من المراد ما وقع في بعض الروايات أنفسنا وأنفسكم رسول الله وعلي فإن اللفظ صريح في أن المقصود بيان المصداق دون معنى اللفظ. ومنها قوله ولكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية فإن كلمة نسائنا لا يقولها العربي ويريد بها بنته لا سيما إذا كان له أزواج ولا يفهم هذا من لغتهم وأبعد من ذلك أن يراد بأنفسنا علي وهذا المعنى العجيب الذي توهمه هو الذي أوجب أن يطرح هذه الروايات على كثرتها ثم يطعن على رواتها وكل من تلقاها بالقبول ويرميهم بما ذكره وقد كان من الواجب عليه أن يتنبه لموقفه من تفسير الكتاب ويذكر هؤلاء الجم الغفير من أئمة البلاغة وأساتيذ البيان وقد أوردوها في تفسيرهم وسائر مؤلفاتهم من غير أي تردد أو اعتراض. فهذا صاحب الكشاف وهو الذي ربما خطأ أئمة القراءة في قراءتهم يقول في ذيل تفسير الآية وفيه دليل لا شئ أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبي صلى الله عله وآله وسلم لانه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك انتهى. فكيف خفي على هؤلاء العظماء أبطال البلاغة وفرسان الادب أن هذه الاخبار على كثرتها وتكررها في جوامع الحديث تنسب إلى القرآن أنه يغلط في بيانه فيطلق النساء وهو جمع في مورد نفس واحدة. لا وعمري وإنما التبس الامر على هذا القائل واشتبه عنده المفهوم بالمصداق فتوهم أن الله عز اسمه لو قال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم إلخ وصح أن المحاجين عند نزول الآية وفد نجران وهم أربعة عشر رجلا على ما في بعض الروايات ليس عندهم نساء ولا أبناء وصح أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى مباهلتهم وليس معه إلا علي وفاطمة والحسنان كان لازم ذلك أن معنى من حاج وفد نجران ومعنى نسائنا المرأة الواحدة ومعنى أنفسنا النفس الواحدة وبقي نسائكم وأبنائكم لا معنى لهما إذ لم يكن مع

[ 239 ]

الوفد نساء ولا أبناء. وكان عليه أن يضيف إلى ذلك لزوم استعمال الابناء وهو جمع في التثنية وهو أشنع من استعمال الجمع في المفرد فإن استعمال الجمع في المفرد ربما وجد في كلام المولدين وإن لم يوجد في العربية الاصيلة إلا في التكلم لغرض التعظيم لكن استعمال الجمع في المثنى مما لا مجوز له أصلا. فهذا هو الذي دعاه إلى طرح الروايات ورميها بالوضع وليس الامر كما توهمه. توضيح ذلك أن الكلام البليغ إنما يتبع فيه ما يقتضيه المقام من كشف ما يهم كشفه فربما كان المقام مقام التخاطب بين متخاطبين أو قبيلين ينكر أو يجهل كل منهما حال صاحبه فيوضع الكلام على ما يقتضيه الطبع والعادة فيؤتى في التعبير بما يناسب ذلك فأحد القبيلين المتخاصمين إذا أراد أن يخبر صاحبه أن الخصومة والدفاع قائمة بجميع أشخاص قبيله من ذكور واناث وصغير وكبير فإنما يقول نخاصمكم أو نقاتلكم بالرجال والظعائن والاولاد فيضع الكلام على ما تقتضيه الطبع والعادة فإن العادة تقتضي أن يكون للقبيل من الناس نساء وأولاد والغرض متعلق بأن يبين للخصم أنهم يد واحدة على من يخاصمهم ويخاصمونه ولو قيل نخاصمكم أو نقاتلكم بالرجال والنساء وابنين لنا كان إخبارا بأمر زائد على مقتضى المقام محتاجا إلى عناية زائدة وتعرفا إلى الخصم لنكتة زائدة. وأما عند المتعارفين والاصدقاء والاخلة فربما يوضع الكلام على مقتضى الطبع والعادة فيقال في الدعوة للضيافة والاحتفال سنقرئكم بأنفسنا ونسائنا وأطفالنا وربما يسترسل في التعرف فيقال سنخدمكم بالرجال والبنت والسبطين الصبيين ونحو ذلك. فللطبع والعادة وظاهر الحال حكم ولواقع الامر وخارج العين حكم وربما يختلفان فمن بنى كلامه على حكاية ما يعلم من ظاهر حاله ويقضي به الطبع والعادة فيه ثم بدا حقيقة حاله وواقع أمره على خلاف ما حكاه من ظاهر حاله لم يكن غالطا في كلامه ولا كاذبا في خبره ولا لاغيا هازلا في قوله. والآية جارية على هذا المجرى فقوله فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا

[ 240 ]

ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم الخ اريد به على ما تقدم أدعهم إلى أن تحضر أنت وخاصتك من أهلك الذين يشاركونك في الدعوى والعلم ويحضروا بخاصتهم من أهليهم ثم وضع الكلام على ما يعطيه ظاهر الحال أن لرسول الله في أهله رجالا ونساءا وأبناءا ولهم في أهليهم رجال ونساء وأبناء فهذا مقتضى ظاهر الحال وحكم الطبع والعادة فيه وفيهم أما واقع الامر وحقيقته فهو أنه لم يكن له صلى الله عليه وآله وسلم من الرجال والنساء والبنين إلا نفس وبنت وابنان ولم يكن لهم إلا رجال من غير نساء ولا أبناء ولذلك لما أتاهم برجل وامرأة وولدين لم يجبهوه بالتلحين والتكذيب ولا أنهم اعتذروا عن الحضور بأنك أمرت بإحضار النساء والابناء وليس عندنا نساء ولا أبناء ولا أن من قصت عليه القصة رماها بالوضع والتمويه. ومن هنا يظهر فساد ما أورده بقوله ثم وفد نجران الذين قالوا إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساء ولا أبناء. ومنها قوله وكل ما يفهم من الآية أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعو المحاجين والمجادلين في عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالا ونسائا وأطفالا ويجمع هو المؤمنين رجالا ونسائا وأطفالا ويبتهلون إلى الله بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى إلى قوله وأنى لمن يؤمن بالله أن يرضى أن يجتمع مثل هذا الجمع من الناس المحقين والمبطلين في صعيد واحد متوجهين إلى الله تعالى في طلب لعنه وإبعاده من رحمته وأي جرأة على الله واستهزاء بقدرته وعظمته أقوى من هذا. وملخصه أن الآية تدعو الفريقين إلى الاجتماع بأنفسهم ونسائهم وذراريهم في صعيد واحد ثم الابتهال بالملاعنة وينبغي أن يستبان ما هذا الاجتماع المدعو إليه أهو اجتماع الفريقين كافة أعني المؤمنين بأجمعهم وهم يومئذ (1) عرب ربيعة ومضر جلهم أو كلهم من اليمن والحجاز والعراق وغيرها والنصارى وهم أهل نجران من اليمن ونصارى الشام وسواحل البحر الابيض وأهل الروم والافرنج والانجليز والنمسا وغيرهم.

____________________________

(1) وهو سنة تسع على ما ذكره بعض المؤرخين أو عشر على ما ذكره آخرون وإن لم يخل جميعا عن الاشكال على ما سيجئ في البحث الروائي عن الآيات التالية لهذه الآيات.

[ 241 ]

وهؤلاء الجماهير في مشارق الارض ومغاربها تربو نفوسهم بالرجال والنساء والذراري يومئذ على الملائين بعد الملائين ولا يشك ذو لب أن من المتعذر اجتماعهم في صعيد واحد فالاسباب العادية تأبى ذلك بجميع أركانها ولازم ذلك أن يندب القرآن الناس إلى المحال وينيط ظهور حجته وتبين الحق الذي يدعيه على ما لا يكون البتة وكان ذلك عذرا ونعم العذر للنصارى في عدم أجابتهم دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المباهلة وكان ذلك أضر لدعواه منه لدعويهم. أم هو اجتماع الحاضرين من الفريقين ومن في حكمهم أعني المؤمنين من أهل المدينة وما والاها وأهل نجران ومن والاهم وهذا وإن كان أقل وأخف شناعة من الوجه السابق لكنه من حيث استحالة التحقق وامتناع الوقوع كسابقه فمن الذي كان يسعه يومئذ أن يجمع أهل المدينة ونجران قاطبة حتى النساء والذراري منهم في صعيد للملاعنة وهل هذه الدعوة إلا تعليقا بالمحال واعترافا بأن الحق متعذر الظهور أم هو اجتماع المتلبسين بالخصام والجدال من الفريقين أعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم والحاضرين عنده من المؤمنين ووفد نجران من النصارى ويرد عليه حينئذ ما أورده بقوله ثم إن وفد نجران الذين قالوا إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساءهم وأولادهم وكان ذلك وقوعا فيما ذكره من المحذور. ومنها قوله أما كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين كانوا على يقين مما يعتقدون في عيسى عليه السلام فحسبنا في بيانه قوله تعالى من بعد ما جاءك من العلم فالعلم في هذه المسائل الاعتقادية لا يراد به إلا اليقين. أقول أما كون العلم فيها بمعنى اليقين فهو حق وأما كون الآية دالة على كون المؤمنين على يقين من أمر عيسى عليه السلام فليت شعري من أين له إثبات ذلك والآية غير متعرضة بلفظها فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك الخ إلا لشأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومقام التخاطب أيضا لا يشمل غيره صلى الله عليه وآله وسلم من المؤمنين فإن الوفد من النصارى ما كان لهم هم إلا المحاجة والخصام مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن لهم هوى في لقاء المؤمنين ولا كلموهم بكلمة ولا كلمهم المؤمنون بكلمة.

[ 242 ]

نعم لو دلت الآية على حصول العلم لاحد غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لدل فيمن جئ به للمباهلة على ما استفدناه من قوله تعالى: على الكاذبين فيما تقدم. بل القرآن يدل على عدم عموم العلم واليقين لجميع المؤمنين حيث يقول تعالى: " وما يؤمن أكثرهم بالله الا وهم مشركون " يوسف - 106 فوصفهم بالشرك وكيف يجتمع الشرك مع اليقين ويقول تعالى " وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا " الاحزاب - 12 ويقول تعالى " ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون اليك نظر المغشي عليه من الموت، فأولى لهم طاعة وقول معروف فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم - إلى أن قال -: اولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم " محمد - 23 فاليقين لا يتحقق به إلا بعض اولي البصيرة من متبعي النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى " فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن " آل عمران - 20 وقال تعالى " قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى " يوسف - 108. ومنها قوله وفي قوله ندع أبنائنا وأبنائكم الخ وجهان أحدهما أن كل فريق يدعو الآخر الخ قد عرفت فساد وجهه الاول وعدم انطباقه على لفظ الآية إذ قد عرفت أن الغرض كان مستوفى حاصلا لو قيل تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين وإنما زيد عليه قوله ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ليدل على لزوم إحضار كل من الفريقين عند المباهلة أعز الاشياء عنده وأحبها إليه وهو الابناء والنساء والانفس (الاهل والخاصة) وهذا إنما يتم لو كان معنى الآية ندعو نحن أبناءنا ونساءنا وأنفسنا وتدعون أنتم أبناءكم ونساءكم وأنفسكم ثم نبتهل وأما لو كان المعنى ندعو نحن أبنائكم ونسائكم وأنفسكم وتدعون أنتم أبناءنا ونساءنا وأنفسنا ثم نبتهل بطل الغرض المذكور. على أن هذا المعنى في نفسه مما لا يرتضيه الطبع السليم فما معنى تسليط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النصارى على أبنائه ونسائه وسؤاله أن يسلطوه على ذراريهم ونسائهم ليتداعوا فيتم الحضور والمباهلة مع تأتي ذلك بدعوة كل فريق أهل نفسه لها. على أن هذا المعنى يحتاج في فهمه من الآية إلى فهم معنى التسليط وما يشابهه كما

[ 243 ]

تقدم منها وأنما لنا فهمه ؟ فالحق أن هذا الوجه ساقط وأن الوجه الآخر وهو أن يكون المراد دعوة كل أهل نفسه هو المتعين. ومنها قوله ولا إشكال في وجه من وجهي التوزيع في دعوة الانفس وإنما الاشكال فيه على قول الشيعة ومن شايعهم على القول بالتخصيص يريد بالاشكال ما اورد على الآية من لزوم دعوة الانسان نفسه وهذا الاشكال غير مرتبط بشئ من الوجهين أصلا وإنما هو إشكال على القول بكون المراد بأنفسنا هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يحكى عن بعض المناظرات المذهبية حيث ادعى أحد الخصمين أن المراد بأنفسنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاورد عليه بلزوم دعوة الانسان نفسه وهو باطل تشير إليه الرواية الثانية المنقولة عن العيون فيما تقدم. ومن هنا يظهر سقوط قوله إنما الاشكال فيه على قول الشيعة فإن قولهم على ما قدمنا أن المراد بأنفسنا هو الرجال من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم بحسب المصداق رسول الله وعلي عليهما السلام ولا إشكال في دعوة بعضهم بعضا. فلا إشكال عليهم حتى على ما نسبه إليهم بزعمه أن معنى أنفسنا علي فإنه لا إشكال في دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام. وقال تلميذه في المنار بعد الاشارة إلى الروايات وأخرج ابن عساكر عن جعفر ابن محمد عن أبيه: " قل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم " الآية قال فجاء بأبي بكر و ولده وعمر وولده وعثمان وولده قال والظاهر أن الكلام في جماعة المؤمنين. ثم قال بعد نقل كلام أستاذه المنقول سابقا وفي الآية ما ترى من الحكم بمشاركة النساء للرجال في الاجتماع للمباراة القومية والمناضلة الدينية وهو مبني على اعتبار المرئة كالرجل حتى في الامور العامة إلا ما استثنى منها إلى آخر ما أطنب به من الكلام. أقول أما ما ذكره من الرواية فهي رواية شاذة تخالف جميع روايات الآية على كثرتها واشتهارها وقد أعرض عن هذه الرواية المفسرون وهي مع ذلك تشتمل على ما لا يطابق الواقع وهو جعله لكل من المذكورين فيه ولدا ولا ولد يومئذ لجميعهم ألبتة.

[ 244 ]

وكأنه يريد بقوله والظاهر أن الكلام في جماعة المؤمنين أن يستظهر من الرواية الدلالة على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحضر جميع المؤمنين وأولادهم فيكون قوله فجاء بأبي بكر وولده إلخ كناية عن إحضاره عامة المؤمنين وكأنه يريد به تأييد شيخه فيما ذكره من المعنى وأنت ترى ما عليه الرواية من الشذوذ والاعراض والمتن ثم في الدلالة على ما ذكره من المعنى. وأما ما ذكره من دلالة الآية على مشاركة النساء الرجال في الحقوق العامة فلو تم ما ذكره دل على مشاركة الاطفال أيضا وفي هذا وحده كفاية في بطلان ما ذكره. وقد قدمنا الكلام في اشتراكهن معهم عند الكلام على آيات الطلاق في الجزء الثاني من الكتاب وسيأتي شطر في ما يناسبه من المورد من غير حاجة إلى مثل ما استفاده من الآية. قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا إشهدوا بأنا مسلمون - 64. يا أهل الكتاب لم تحاجون في ابراهيم وما أنزلت التورية والانجيل إلا من بعده أفلا تعقلون - 65. ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون - 66. ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين - 67. إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين - 68. ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم

[ 245 ]

وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون - 69. يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون - 70. يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون - 71. وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون - 72. ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشآء والله واسع عليم - 73. يختص برحمته من يشآء والله ذو الفضل العظيم - 74. ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الاميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون - 75. بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين - 76. إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيمة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم - 77. وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون - 78.

[ 246 ]

(بيان)

 شروع في المرحلة الثانية من البيان المتعرض لحال أهل الكتاب عامة والنصارى خاصة وما يلحق بذلك فقد كانت الآيات فيما مر تعرضت لحال أهل الكتاب عامة بقوله " إن الدين عند الله الاسلام " آل عمران - 19 وبقوله " ألم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب " آل عمران - 23 ثم انعطف البيان إلى شأن النصارى خاصة بقوله " إن الله اصطفى آدم ونوحا إلخ " آل عمران - 33 وتعرضت في أثنائها لولاية المؤمنين للكافرين بقوله " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء " آل عمران - 28 فهذا في المرحلة البادئة. ثم عادت إلى بيان ما ذكرته ثانيا بلسان آخر ونظم دون النظم السابق فتعرضت لحال أهل الكتاب عامة في هذه الآيات المنقولة آنفا وما سيلحق بذلك من متفرقات بحسب مساس خصوصيات البيانات بذلك كقوله " قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله إلخ " آل عمران - 98 وقوله " قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله إلخ " وتعرضت لحال النصارى وما تدعيه في أمر عيسى عليه السلام بقوله " ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب إلخ " آل عمران - 79 وتعرضت لامور ترجع إلى المؤمنين من دعوتهم إلى الاسلام والاتحاد والاتقاء من ولاية الكفار واتخاذ البطانة من دون المؤمنين في آيات كثيرة متفرقة. قوله تعالى " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم الخطاب لعامة أهل الكتاب والدعوة في قوله: تعالوا إلى كلمة إلخ بالحقيقة إنما هي إلى الاجتماع على معنى الكلمة بالعمل به وإنما تنسب إلى الكلمة لتدل على كونها دائرة بألسنتهم كقولنا اتفقت كلمة القوم على كذا فيفيد معنى الاذعان والاعتراف والنشر والاشاعة فالمعنى تعالوا نأخذ بهذه الكلمة متعاونين متعاضدين في نشرها والعمل بما توجبه. والسواء في الاصل مصدر ويستعمل وصفا بمعنى مساوي الطرفين وسواء بيننا وبينكم أي مساو من حيث الاخذ والعمل بما توجبه وعلي هذا فتوصيف الكلمة بالسواء توصيف بحال المتعلق وهو الاخذ والعمل وقد عرفت أن العمل إنما يتعلق

[ 247 ]

بمعنى الكلمة لا نفسها كما أن تعليق الاجتماع أيضا على المعنى لا يخلو من عناية مجازية ففي الكلام وجوه من لطائف العنايات نسبه الاجتماع إلى المعنى ثم وضع الكلمة مكان المعنى ثم توصيف الكلمه بالسواء ! وربما قيل إن معنى كون الكلمة سواء أن القرآن والتوراة والانجيل متفقة في الدعوة إليها وهي كلمة التوحيد ولو كان المراد به ذلك كان قوله تعالى: أن لا نعبد إلا الله الخ من قبيل وضع التفسير الحق موضع الكلمة المتفق عليها والاعراض عما لعبت به أيديهم من تفسيره غير المرضي الذي تنطبق الكلمة بذلك على أهوائهم من الحلول واتخاذ الابن والتثليث وعبادة الاحبار والقسيسين والاساقفة ويكون محصل المعنى تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم وهي التوحيد ولازم التوحيد رفض الشركاء وعدم اتخاذ الارباب من دون الله سبحانه. والذي تختتم به الآية من قوله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون يؤيد المعنى الاول فإن محصل المعنى بالنظر إليه أنه يدعو إلى هذه الكلمة وهي أن لا نعبد إلا الله الخ لانها مقتضى الاسلام لله الذى هو الدين عند الله وإن كان الاسلام أيضا لازما من لوازم التوحيد لكن الدعوة في الآية إنما هي إلى التوحيد العملي وهو ترك عبادة غير الله سبحانه دون اعتقاد الوحدة فافهم ذلك. قوله تعالى أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله تفسير للكلمه السواء وهي التي يوجبها الاسلام لله. والمراد بقوله أن لا نعبد إلا الله نفى عبادة غير الله لا إثبات عبادة الله تعالى على ما مرت الاشاره إليه في معنى كلمة الاخلاص (لا إله إلا الله) أن لازم كون إلا الله بدلا لا استثنائا كون الكلام مسوقا لبيان نفي الشريك دون إثبات الاله فإن القرآن يأخذ إثبات وجود الاله وحقيته مفروغا عنه. ولما كان الكلام مسوقا لنفي الشريك في العبادة ولا ينحسم به مادة الشرك اللازم من اعتقاد البنوة والتثليث ونحو ذلك أردفه بقوله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ الخ فإن تسمية العبادة بعبادة الله لا تصير العبادة عبادة لله سبحانه ما لم يخلص الاعتقاد ولم يتجرد الضمير من الاعتقادات والآراء المولودة من أصل الشرك لان العبادة حينئذ إنما

[ 248 ]

تكون عبادة إله له شريك والعبادة التي يعبد بها أحد الشريكين وإن خص باسمه ووجه نحوه ليست إلا نابتة منبت التشريك لانها لا تعدو أن تكون سهما يسهم له وحظا يقسم له من بين الشريكين أو الشركاء ففيها بعينها نحو عبادة للغير. وهذا الذي يدعو إليه النبي بأمر الله سبحانه وهو الذي يدل عليه قوله: أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله هو الذي يجمع عرض النبوة في السيرة التي كانت الانبياء تدعو إليها وتبسطها على المجتمع الانساني. فقد تقدم عند الكلام على قوله تعالى كان الناس أمة واحدة: البقرة - 213 أن النبوة انبعاث إلهي ونهضة حقيقية يراد بها بسط كلمة الدين وأن حقيقة الدين تعديل المجتمع الانساني في سيره الحيوي ويتبعه تعديل حيوة الانسان الفرد فينزل بذلك الكل منزلته التي نزله عليها الفطرة والخلقة فيعطي به المجتمع موهبة الحرية وسعادة التكامل الفطري على وجه العدل والقسط وكذلك الفرد فهو فيه حر مطلق في الانتفاع من جهات الحيوة فيما يهديه إليه فكره وإرادته إلا ما يضر بحيوة المجتمع وقد قيد جميع ذلك بالعبودية والاسلام لله سبحانه والخضوع لسيطرة الغيب وسلطنته. وخلاصة ذلك أن الذي كانت تندب إليه جماعة الانبياء عليهم السلام أن يسير النوع الانساني فرادى ومجتمعين على ما تنطق به فطرتهم من كلمة التوحيد التي تقضي بوجوب تطبيق الاعمال الفردية والاجتماعية على الاسلام لله وبسط القسط والعدل أعني بسط التساوي في حقوق الحيوة والحرية في الارادة الصالحة والعمل الصالح. ولا يتأتى ذلك إلا بقطع منابت الاختلاف والبغي بغير الحق واستخدام القوى واستعباده للضعيف وتحكمه عليه وتعبد الضعيف للقوي فلا إله إلا الله ولا رب الا الله ولا حكم إلا لله سبحانه. وهذا هو الذى تدل عليه الآية أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله الآية وقال تعالى فيما يحكيه عن يوسف عليه السلام يا صاحبي السجن أ أرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسمائا سميتموها أنتم وآبائكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم: يوسف - 40 وقال تعالى اتخذوا أحبارهم

[ 249 ]

ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو: التوبة - 31 إلى غير ذلك من الآيات. وفيما حكاه القرآن عن الانبياء السالفين كنوح وهود وصالح وإبراهيم وشعيب وموسى وعيسى عليهم السلام مما كلموا به اممهم شئ كثير من هذا القبيل كقول نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا: نوح - 21 وقول هود لقومه أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين: الشعراء - 130 وقول صالح لقومه ولا تطيعوا أمر المسرفين: الشعراء - 151 وقول إبراهيم لابيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آبائنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآبائكم في ضلال مبين: الانبياء - 54 وقوله تعالى لموسى وأخيه إذهبا إلى فرعون إنه طغى إلى أن قال فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم: طه - 47 وقول عيسى لقومه ولابين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون: الزخرف - 63 فالدين الفطري هو الذي ينفي البغي والفساد وهذه المظالم والسلطات بغير الحق الهادمة لاساس السعادة والمخربة لبنيان الحق والحقيقة وإلى ذلك يشير قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع وقد ذكره المسعودي في حوادث سنة عشر من الهجرة في مروج الذهب ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والارض وكأنه صلى الله عليه وآله وسلم يريد به رجوع الناس إلى حكم الفطرة باستقرار سيرة الاسلام بينهم. والكلام أعني قوله تعالى أن لا نعبد إلا الله الخ على كونه آخذا بمجامع غرض النبوة مفصح عن سبب الحكم وملاكه. أما قوله أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا فلان الالوهية هي التي يأله إليه ويتوله فيه كل شئ من كل وجه وهو أن يكون منشئا لكل كمال في الاشياء على كثرتها وارتباطها واتحادها في الحاجة وفيه كل كمال يفتاق إليه الاشياء وهذا المعنى لا يستقيم إلا إذا كان واحدا غير كثير ومالكا إليه تدبير كل شئ فمن الواجب أن يعبد الله لانه إله واحد لا شريك له ومن الواجب أن لا يتخذ له شريك في عبادته وبعبارة اخرى هذا العالم وجميع ما يحتوي عليه لا يصح ولا يجوز أن يخضع ويتصغر إلا لمقام واحد إذ هؤلاء المربوبون لوحدة نظامهم وارتباط وجودهم لا

[ 250 ]

رب لهم إلا واحد إذ لا خالق لهم إلا واحد. وأما قوله تعالى ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فمن حيث أفاد أن المجتمع الانساني على كثرة أفراده وتفرق أشخاصه أبعاض من حقيقة واحدة هي حقيقة الانسان ونوعه فما أودعته فيه يد الصنع والايجاد من الاستحقاق والاستعداد الموزع بينهم على حد سواء يقضي بتساويهم في حقوق الحياة واستوائهم على مستوى واحد وما تفاوت فيه أحوال الافراد واستعدادهم في اقتناء مزايا الحياة من مواهب الانسانية العامة التي ظهرت في مظاهر خاصة من هيهنا وهناك وهنالك يجب أن تعطاه الانسانية لكن من حيث تسأله كما أن الازدواج والولادة والمعالجة مثلا من مسائل الانسانية العامة لكن الذي يعطي الازدواج هو الانسان البالغ الذكر أو الانثى والولادة يعطاها الانسان الانثى والعلاج يعطاه الانسان المريض. وبالجملة أفراد الانسان المجتمع أبعاض متشابهة من حقيقة واحدة متشابهة فلا ينبغي أن يحمل البعض إرادته وهواه على البعض إلا أن يتحمل ما يعادله وهو التعاون على اقتناء مزايا الحياة وأما خضوع المجتمع أو الفرد لفرد أعني الكل أو البعض لبعض بما يخرجه عن البعضية ويرفعه عن التساوي بالاستعلاء والتسيطر والتحكم بأن يؤخذ ربا متبع المشية يحكم مطلق العنان ويطاع فيما يأمر وينهى ففيه إبطال الفطرة وهدم بنيان الانسانية. وأيضا من حيث إن الربوبية مما يختص بالله لا رب سواه فتمكين الانسان مثله من نفسه يتصرف فيه بما يريد من غير انعكاس اتخاذ رب من دون الله لا يقدم عليه من يسلم لله الامر. فقد تبين أن قوله ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله يفصح عن حجتين فيما يفيده من المعنى إحديهما كون الافراد أبعاضا والآخر كون الربوبية من خصائص الالوهية. قوله تعالى فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون استشهاد بأنهم وهم النبي صلى الله علبيه وآله وسلم ومن اتبعه على الدين المرضي عند الله تعالى وهو الاسلام قال إن الدين عند الله الاسلام: آل عمران - 19 فينقطع بذلك خصامهم وحجاجهم إذ لا حجة على الحق وأهله.

[ 251 ]

وفيه إشارة إلى أن التوحيد في العبادة من لوازم الاسلام. قوله تعالى يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم إلى آخر الآية الظاهر أنه مقول القول الواقع في الآية السابقة وكذا ما يأتي بعد أربع آيات فيكون مقولا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان ظاهر سياق قوله بعد آيتين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا الآية أن يكون الخطاب من الله لا من رسوله بإذنه. ومحاجتهم في إبراهيم عليه السلام بضم كل طائفة إياه إلى نفسها يشبه أن تكون أولا بالمحاجة لاظهار المحقية كأن تقول اليهود إن إبراهيم عليه السلام الذي أثنى الله عليه في كتابه منا فتقول النصارى إن إبراهيم كان على الحق وقد ظهر الحق بظهور عيسى معه ثم تتبدل إلى اللجاج والعصبية فتدعي اليهود أنه كان يهوديا وتدعي النصارى أنه كان نصرانيا ومن المعلوم أن اليهودية والنصرانية إنما نشأتا جميعا بعد نزول التوراة والانجيل وقد نزلا جميعا بعد أبراهيم عليه السلام فكيف يمكن أن يكون عليه السلام يهوديا بمعنى المنتحل بالدين الذي يختص بموسى عليه السلام ولا نصرانيا بمعنى المتعبد بشريعة عيسى عليه السلام فلو قيل في إبراهيم شئ لوجب أن يقال إنه كان على الحق حنيفا من الباطل إلى الحق مسلما لله سبحانه وهذه الآيات في مساق قوله تعالى أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والاسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله: البقرة - 140 قوله تعالى ها انتم حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم الآية الآية تثبت لهم علما في المحاجة التي وقعت بينهم وتنفي علما وتثبته لله تعالى ولذلك ذكر المفسرون أن المعنى أنكم حاججتم في إبراهيم عليه السلام ولكم به علم ما كالعلم بوجوده ونبوته فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم وهو كونه يهوديا أو نصرانيا والله يعلم وأنتم لا تعلمون أو أن المراد بالعلم علم ما بعيسى وخبره والمعنى أنكم تحاجون في عيسى ولكم بخبره علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم وهو كون إبراهيم يهوديا أو نصرانيا هذا ما ذكروه. وأنت تعلم أن شيئا من الوجهين لا ينطبق على ظاهر سياق الآية أما الاول فلانه لم تقع لهم محاجة في وجود إبراهيم ونبوته وأما الثاني فلان المحاجة التي وقعت منهم في عيسى لم يكونوا فيها على الصواب بل كانوا مخطئين في خبره ؟ ؟ كاذبين في

[ 252 ]

دعويهم فيه فكيف يمكن أن يسمى محاجة فيما لهم به علم وكلامه تعالى على أي حال يثبت منهم محاجة فيما لهم به علم كما يثبت لهم محاجة فيما ليس لهم به علم فما هذه المحاجة التي هي فيما لهم به علم ؟ على أن ظاهر الآية أن هاتين إنما جرتا جميعا فيما بين أهل الكتاب أنفسهم لا بينهم وبين المسلمين وإلا كان المسلمون على الباطل في الحجاج الذي أهل الكتاب فيه على علم وهو ظاهر. والذي ينبغي ان يقال والله العالم أن من المعلوم أن المحاجة كانت جارية بين اليهود والنصارى في جميع موارد الاختلاف التي كانت بينهم وعمدة ذلك نبوة عيسى عليه السلام وما كانت تقوله النصارى في حقه (إنه الله أو ابنه أو التثليث) فكانت النصارى تحاج اليهود في بعثته ونبوته وهم على علم منه وكانت اليهود تحاج النصارى وتبطل الوهيته ونبوته والتثليث وهم على علم منه فهذه محاجتهم فيما لهم به علم وأما محاجتهم فيما ليس لهم به علم فمحاجتهم في أمر إبراهيم أنه كان يهوديا أو نصرانيا. وليس المراد بجهلهم به جهلهم بنزول التوراة والانجيل بعده وهو ظاهر ولا ذهولهم عن أن السابق لا يكون تابعا لللاحق فإنه خلاف ما يدل عليه قوله تعالى " أفلا تعقلون فإنه يدل على أن الامر يكفي فيه أدنى تنبيه فهم عالمون بأنه كان سابقا على التوراة والانجيل لكنهم ذاهلون على مقتضى علمهم وهو أنه لا يكون حينئذ يهوديا ولا نصرانيا بل على دين الله الذي هو الاسلام لله. لكن اليهود مع ذلك قالوا إن الدين الحق لا يكون إلا واحدا وهو اليهودية فلا محالة كان إبراهيم يهوديا وقالت النصارى مثل ذلك فنصرت إبراهيم وقد جهلوا في ذلك أمرا وليس بذهول وهو أن دين الله واحد وهو الاسلام لله وهو واحد مستكمل بحسب مرور الزمان واستعداد الناس من حيث تدرجهم بالكمال واليهودية والنصرانية شعبتان من شعب كمال الاسلام الذي هو أصل الدين والانبياء عليهم السلام بمنزلة بناة هذا البنيان لكل منهم موقعه فيما وضعه من الاساس ومما بنا عليه من هذا البنيان الرفيع. وبالجملة فاليهود والنصارى جهلوا أنه لا يلزم من كون إبراهيم مؤسسا للاسلام وهو الدين الاصيل الحق ثم ظهور دين حق باسم اليهودية أو النصرانية وهو اسم شعبة من شعب كماله ومراتب تمامه أن يكون إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا بل يكون مسلما

[ 253 ]

حنيفا متلبسا باسم الاسلام الذي أسسه وهو أصل اليهودية والنصرانية دون نفسهما والاصل لا ينسب إلى فرعه بل ينبغي أن يعطف الفرع عليه. وتسمية إبراهيم مسلما لا يهوديا ولا نصرانيا غير عده تابعا لدين النبي وشريعة القرآن ليرد الاشكال بأنه كما كان متقدما على نزول التوراة والانجيل فلا ينبغى أن يعد يهوديا أو نصرانيا كذلك كان متقدما على نزول القرآن وظهور الاسلام فلا ينبغي أن يعد مسلما (حذو النعل بالنعل). وذلك أن الاسلام بمعنى شريعة القرآن من الاصطلاحات الحادثة بعد نزول القرآن وانتشار صيت الدين المحمدي والاسلام الذي وصف به إبراهيم هو أصل التسليم لله سبحانه والخضوع لمقام ربوبيته فالاشكال غير متوجه من أصله. ولعل هذا الذي ذكرناه من وجه جهلهم بمعنى الدين الاصيل وكونه حقيقة ذات مراتب مختلفة ومتدرجة في الاستكمال هو المراد بقوله تعالى والله يعلم وأنتم لا تعلمون ما كان إبراهيم يهوديا الخ ويؤيده قوله إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه الآية وقوله تعالى في ذيل الآيات " قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما انزل على إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والاسباط وما أوتى موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه الآية: آل عمران - 85 على ما سيجئ من البيان. قوله تعالى ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا إلى آخر الآية قد مر تفسيره فيما مر وقد قيل إن اليهود والنصارى كما كانوا يدعون أن إبراهيم عليه السلام منهم وعلى دينهم كذلك عرب الجاهلية من الوثنية كانت تدعي أنهم على الدين الحنيف دين إبراهيم عليه السلام حتى كان أهل الكتاب يسمونهم الحنفاء ويدعون بالحنيفية الوثنية. ولما وصف الله سبحانه إبراهيم عليه السلام بقوله ولكن كان حنيفا وجب بيانه حتى لا يتوهم منه الوثنية فلذلك أردفه بقوله مسلما وما كان من المشركين أي كان على الدين المرضي عند الله تعالى وهو الاسلام وما كان من المشركين كعرب الجاهلية. قوله تعالى إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا الآية في موضع التعليل للكلام السابق وبيان للحق في المقام والمعنى والله العالم

[ 254 ]

أن هذا النبي المعظم إبراهيم لو أخذت النسبة بينه وبين من بعده من المنتحلين وغيرهم لكان الحق أن لا يعد تابعا لمن بعده بل يعتبر الاولوية به والاقربية منه والاقرب من النبي الذي له شرع وكتاب هم الذين يشاركونه في إتباع الحق والتلبس بالدين الذي جاء به والاولى بهذا المعنى بإبراهيم عليه السلام هذا النبي والذين آمنوا لانهم على الاسلام الذي اصطفى الله به إبراهيم وكذا كل من اتبعه دون من يكفر بآيات الله ويلبس الحق بالباطل. وفي قوله للذين اتبعوه تعريض لاهل الكتاب من اليهود والنصارى بنحو الكنايه أي لستم أولى بإبراهيم لعدم اتباعكم إياه في إسلامه لله. وفي قوله وهذا النبي والذين آمنوا إفراد للنبى عليه السلام ومن اتبعه من المؤمنين من الذين اتبعوا إبراهيم اجلالا للنبي وصونا لمقامه أن يطلق عليه الاتباع كما يستشعر ذلك مثل قوله تعالى " اولئك الذين هدى الله فبهديهم اقتده: الانعام - 90 حيث لم يقل فبهم اقتده. وقد تمم التعليل والبيان بقوله والله ولي المؤمنين فإن ولاية إبراهيم (ولى الله) من ولاية الله والله ولي المؤمنين دون غيرهم الكافرين بآياته اللابسين الحق بالباطل. قوله تعالى ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون الطائفة الجماعة من الناس وكأن الاصل فيه أن الناس وخاصه العرب كانوا أولا يعيشون شعوبا وقبائل بدويين يطوفون صيفا وشتائا بماشيتهم في طلب الماء والكلاء وكانوا يطوفون وهم جماعة تحذرا من الغيلة والغارة فكان يقال لهم جماعة طائفة ثم اقتصر على ذكر الوصف (الطائفة) للدلالة على الجماعه. وأما كون أهل الكتاب لا يضلون إلا أنفسهم فإن أول الفضائل الانسانية الميل إلى الحق واتباعه فحب صرف الناس عن الحق إلى الباطل من جهة أنه من أحوال النفس وأخلاقها رذيلة نفسانية وبئست الرذيلة وإثم من آثامها ومعاصيها وبغيها بغير حق وماذا بعد الحق إلا الضلال فحبهم لاضلال المؤمنين وهم على الحق إضلال بعينه لانفسهم من حيث لا يشعرون. وكذا لو تمكنوا من بعضهم بإلقاء الشبهات فأضلوه بذلك فإنما يضلون أولا أنفسهم

[ 255 ]

لان الانسان لا يفعل شيئا من خير أو شر إلا لنفسه كما قال تعالى من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد: حم السجدة - 46 وأما ضلال من ضل بإضلالهم فليس بتأثير منهم بل هو بسوء فعال الضال الغاوي وشامة إرادته بإذن من الله قال تعالى من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلانفسهم يمهدون: الروم - 44 وقال تعالى " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير وما أنتم بمعجزين في الارض ومالكم من دون الله من ولى ولا نصير: الشورى - 31 وقد مر شطر من الكلام في خواص الاعمال في الكلام على قوله تعالى حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة: البقرة - 217 في الجزء الثاني من الكتاب. وهذا الذي ذكرناه من المعارف القرآنية التي يفيدها التوحيد الافعالي الذي يتفرع على شمول حكم الربوبية والملك وبه يوجه ما يفيده قوله تعالى وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون من الحصر. وأما ما ذكره المفسرون من التوجيه لمعنى الآية فلا يغني في الحصر المذكور طائلا ولذلك أغمضنا عن نقله. قوله تعالى يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون قد مر أن الكفر بآيات الله غير الكفر بالله تعالى وأن الكفر بالله هو الالتزام بنفي التوحيد صريحا كالوثنيه والدهريه والكفر بآيات الله إنكار شئ من المعارف الالهية بعد ورود البيان ووضوح الحق وأهل الكتاب لا ينكرون أن للعالم إلها واحدا وإنما ينكرون امورا من الحقائق بينتها لهم الكتب السماوية المنزلة عليهم وعلى غيرهم كنبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكون عيسى عبدا لله ورسولا منه وأن إبراهيم ليس بيهودي ولا نصراني وأن يد الله مبسوطة وأن الله غنى إلى غير ذلك فأهل الكتاب في لسان القرآن كافرون بآيات الله غير كافرين بالله ولا ينافيه قوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب: التوبه - 29 حيث نفى الايمان عنهم صريحا وليس الا الكفر وذلك أن ذكر عدم تحريمهم للحرام وعدم تدينهم بدين الحق في الآية يشهد بأن المراد من توصيفهم بعدم الايمان هو التوصيف بلازم الحال فلازم حالهم من الكفر بآيات الله عدم الايمان بالله واليوم الآخر وإن لم يشعروا به وليس بالكفر الصريح.

[ 256 ]

وفي قوله تعالى وأنتم تشهدون - والشهادة هو الحضور والعلم عن حس دلالة على أن المراد بكفرهم بآيات الله إنكارهم كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو النبي الموعود الذي بشر به التوراة والانجيل مع مشاهدتهم انطباق الآيات والعلائم المذكورة فيهما عليه. ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعضهم أن لفظ الآيات عام شامل لجميع الآيات ولا وجه لتخصيصه بآيات النبوة بل المراد كفرهم بجميع الآيات الحقة والوجه في فساده ظاهر. قوله تعالى يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل إلى آخر الآية اللبس بفتح اللام إلقاء الشبهة والتمويه أي تظهرون الحق في صورة الباطل. وفي قوله وأنتم تعلمون دلالة أو تلويح على أن المراد باللبس والكتمان ما هو في المعارف الدينية غير ما يشاهد من الآيات كالآيات التي حرفوها أو كتموها أو فسروها بغير ما يراد منها. وهاتان الآيتان أعنى قوله يا أهل الكتاب لم تكفرون إلى قوله وأنتم تعلمون تتمه لقوله تعالى ودت طائفة الآية وعلي هذا فعتاب الجميع بفعال البعض بنسبته إليهم من جهة اتحادهم في العنصر والنسل والصفة ورضاء البعض بفعال البعض وهو كثير الورود في القرآن. قوله تعالى وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل إلى آخر الآية المراد بوجه النهار بقرينة مقابلته بآخره هو أوله فإن وجه الشئ ما يبدو ويظهر به لغيره وهو في النهار أوله وسياق قولهم يكشف عن نزول وحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وجه النهار يوافق ما عليه أهل الكتاب وآخر في آخره يخالف ما هم عليه فإنما هو الذي دعاهم إلى أن يقولوا هذا القول. وعلي هذا فقوله بالذي أنزل على الذين آمنوا اريد به شئ خاص من وحي القرآن يوافق ما عند أهل الكتاب وقوله وجه النهار منصوب على الظرفية ومتعلق بقوله أنزل لا بقوله آمنوا (صيغة الامر) لانه أقرب وقوله واكفروا آخره في معنى واكفروا بما أنزل في آخره فيكون من وضع الظرف موضع المظروف بالمجاز العقلي نظير قوله تعالى " بل مكر الليل والنهار: سبأ - 33.

[ 257 ]

وبذلك يتأيد ما ورد في سبب النزول عن أئمة أهل البيت أن هذه كلمة قالتها اليهود حين تغيير القبلة حيث صلى رسول الله صلوة الصبح إلى بيت المقدس وهو قبلة اليهود ثم حولت القبلة في صلوة الظهر نحو الكعبة فقالت طائفة من اليهود آمنوا بما أنزل على الذين آمنوا وجه النهار يريدون استقبال بيت المقدس واكفروا آخره يريدون استقبال الكعبة ويؤيده قولهم بعده على ما حكاه الله ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أي لا تثقوا بمن لا يتبع دينكم بالايمان به فتفشوا عنده شيئا من أسراركم والبشارات التي عندكم وكان من علائم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه يحول القبلة إلى الكعبة. وذكر بعضهم أن قوله وجه النهار متعلق بقوله آمنوا (بصيغة الامر) والمراد به أول النهار وقوله آخره ظرف بتقدير في ومتعلق بقوله واكفروا والمراد بقولهم آمنوا بالذي أنزل إلخ أن يظهر عدة منهم الايمان بالقرآن ويلحقوا بجماعة المؤمنين ثم يرتدوا في آخر النهار بإظهار أنهم انما آمنوا أول النهار لما كاد يلوح لهم من إمارات الصدق والحق من ظاهر الدعوة الاسلامية وإنما ارتدوا آخر النهار لما تبين لهم من شواهد البطلان وعدم انطباق ما عندهم من بشارات النبوة وعلائم الحقانية على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيكون ذلك مكيدة تكاد بها المؤمنون فيرتابون في دينهم ويهنون في عزيمتهم فينكسر بذلك سورتهم وتبطل أحدوثتهم وهذا المعنى في نفسه غير بعيد وخاصة من اليهود الذين لم يألوا جهدا في الكرة على الاسلام لاطفاء نوره من أي طريق ممكن غير أن لفظ الآية لا ينطبق عليه وسيأتي للكلام تتمة نتعرض لها في البحث الروائي التالي إنشاء الله العزيز. وقال بعضهم: إن المراد آمنوا بصلاتكم إلى الكعبة أول النهار واكفروا به آخره لعلهم يرجعون وقال آخرون: المعنى أظهروا الايمان في صدر النهار بما أقررتم به من صفة النبي صلى الله عليه وآله واكفروا آخره بإبداء أن ما وصف به النبي الموعود لا ينطبق عليه لعلهم يرتابون بذلك فيرجعوا عن دينهم وهذان الوجهان لا شاهد عليهما وكيف كان المراد لا إجمال في الآية. قوله تعالى: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم إلخ الذي يعطيه السياق هو أن تكون هذه الجملة من قول أهل الكتاب تتمة لقولهم: آمنوا بالذي أنزل على الذين

[ 258 ]

آمنوا وكذا قوله تعالى أن يؤتي أحد مثل ما اوتيتم أو يحاجوكم به عند ربكم ويكون قوله " قل إن الهدى هدى الله " جملة معترضة هو جواب الله سبحانه عن مجموع ما تقدم من كلامهم أعني قولهم: آمنوا بما انزل إلى قوله دينكم على ما يفيده تغيير السياق وكذا قوله تعالى قل إن الفضل بيد الله جوابه تعالى عن قولهم أن يؤتى أحد إلى آخره هذا هو الذي يقتضيه ارتباط أجزاء الكلام واتساق المعاني في الآيتين أولا وما تناظر الآيتين من الآيات الحاكية لاقوال اليهود في الجدال والكيد ثانيا. والمعنى - والله أعلم - أن طائفة من أهل الكتاب وهم اليهود قالت أي قال بعضهم لبعض: صدقوا النبي والمؤمنين في صلوتهم وجه النهار إلى بيت المقدس ولا تصدقوهم في صلوتهم إلى الكعبة آخر النهار ولا تثقوا في الحديث بغيركم فيخبروا المؤمنين أن من شواهد نبوة النبي الموعود تحويل القبلة إلى الكعبة فإن في تصديقكم أمر الكعبة وإفشائكم ما تعلمونه من كونها من امارات صدق الدعوة محذور أن يؤتى المؤمنون مثل ما اوتيتم من القبلة فيذهب به سوددكم ويبطل تقدمكم في أمر القبلة ومحذور أن يقيموا عليكم الحجة عند ربكم أنكم كنتم عالمين بأمر القبلة الجديدة شاهدين على حقيته ثم لم تؤمنوا. فأجاب الله تعالى عن قولهم في الايمان بما في وجه النهار والكفر في آخره وأمرهم بكتمان أمر القبلة لئلا يهتدي المؤمنون إلى الحق بأن الهدى الذي يحتاج إليه المؤمنون الذي هو حق الهدى إنما هو هدى لله دون هداكم فالمؤمنون في غنى عن ذلك فإن شئتم فاتبعوا وإن شئتم فاكفروا وإن شئتم فأفشوا وإن شئتم فاكتموا. وأجاب تعالى عما ذكروه من مخافة أن يؤتى أحد مثل ما اوتوا أو يحاجوهم عند ربهم بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء لا بيدكم حتى تحبسوه لانفسكم وتمنعوا منه غيركم وأما حديث الكتمان مخافة المحاجة فقد أعرض عن جوابه لظهور بطلانه كما فعل كذلك في قوله تعالى في هذا المعنى بعينه " وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون " البقرة - 77 فقوله: أو لا يعلمون إيذان بأن هذا القول بعد ما علموا أن الله لا يتفاوت فيه السر

[ 259 ]

والعلانية كلام منهم لا يستوي على تعقل صحيح وليس جوابا لمكان الواو في قوله أو لا يعلمون. وعلى ما مر من المعنى فقوله تعالى ولا تؤمنوا معناه لا تثقوا ولا تصدقوا لهم الوثاقة وحفظ السر على حد قوله تعالى ويؤمن للمؤمنين: البرائة - 61 والمراد بقوله لمن تبع اليهود. والمراد بالجملة النهي عن إفشاء ما كان عندهم من حقية تحويل القبلة إلى الكعبة كما مر في قوله تعالى فول وجهك شطر المسجد الحرام إلى أن قال وإن الذين اوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم إلى أن قال الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنائهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون: البقرة - 146. وفي معنى الآية أقوال شتى دائرة بين المفسرين كقول بعضهم إن قوله تعالى ولا تؤمنوا إلى آخر الآية كلام لله تعالى لا لليهود وخطاب الجمع في قوله ولا تؤمنوا وقوله ما اوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم جميعا للمؤمنين وخطاب الافراد في قوله قل في الموضعين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وقول آخرين بمثله إلا أن خطاب الجمع في قوله اوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم لليهود في الكلام عتاب وتقريع وقول آخرين إن قوله ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم من كلام اليهود وقوله قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد إلخ كلام لله تعالى جوابا عما قالته اليهود وكذا الخلاف في معنى الفضل أن المراد به الدين أو النعمة الدنيوية أو الغلبة أو غير ذلك. وهذه الاقوال على كثرتها بعيدة عما يعطيه السياق كما قدمنا الاشارة إليه ولذا لم نشتغل بها فضل اشتغال. قوله تعالى قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم الفضل هو الزائد عن الاقتصاد ويستعمل في المحمود كما أن الفضول يستعمل في المذموم قال الراغب وكل عطية لا تلزم من يعطي يقال لها فضل نحو قوله واسألوا الله من فضله ذلك فضل الله ذو الفضل العظيم وعلى هذا قوله قل بفضل الله ولو لا فضل الله انتهى. وعلى هذا فقوله إن الفضل بيد الله من قبيل الايجاز بالقناعة بكبرى البيان

[ 260 ]

القياسي والتقدير قل إن هذا الانزال والايتاء الالهي الذي تحتالون في تخصيصه بأنفسكم بالتظاهر على الايمان والكفر والايصاء بالكتمان أمر لا نستوجبه معاشر الناس على الله تعالى بل هو من الفضل والفضل بيد الله الذي له الملك وله الحكم فله أن يؤتيه من يشاء والله واسع عليم. ففي الكلام نفي ما يدل عليه قولهم وفعلهم من تخصيص النعمة الالهية بأنفسهم بجميع جهاته المحتملة فإن تنعم بعض الناس بفضل الله تعالى دون البعض كتنعم اليهود بنعمة الدين والقبلة وحرمان غيرهم إما أن يكون لان الفضل منه تعالى يمكن أن يقع تحت تأثير الغير فيزاحم المشية الالهية ويحبس فضله عن جانب ويصرفه إلى آخر وليس كذلك فإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء. وأما أن يكون لان الفضل قليل غير واف والمفضل عليهم كثيرون فيكون إيتائه على البعض دون البعض يحتاج إلى انضمام مرجح فيحتال إلى إقامة مرجح لتخصيص البعض الذي ينعم عليه وليس كذلك فإن الله سبحانه واسع الفضل والمقدرة. وإما أن يكون لان الفضل وإن كان واسعا وبيد الله لكن يمكن أن يحتجب المفضل عليه عنه تعالى بجهل منه فلا ينال الفضل فيحتال في حجبه وستر حاله عنه تعالى حتى يحرم من فضله وليس كذلك فإن الله سبحانه عليم لا يطرأ عليه جهل. قوله تعالى يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم فلما كان الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وكان واسعا عليما أمكن أن يختص بعض عباده ببعض نعمه فإن له أن يتصرف في ملكه كيف يشاء وليس إذا لم يكن ممنوع التصرف في فضله وإيتائه عباده أن يجب عليه أن يؤتي كل فضله كل أحد فإن هذا أيضا نوع ممنوعية في التصرف بل له أن يختص بفضله من يشاء. وقد ختم الكلام بقوله والله ذو الفضل العظيم وهو بمنزلة التعليل لجميع المعاني السابقة فإن لازم عظمة الفضل على الاطلاق أن يكون بيده يؤتيه من يشاء وأن يكون واسعا في فضله وأن يكون عليما بحال عباده وما هو اللائق بحالهم من الفضل وأن يكون له أن يختص بفضله من يشاء. وفي تبديل الفضل بالرحمة في قوله يختص برحمته من يشاء دلالة على أن

[ 261 ]

الفضل وهو العطية غير الواجبة من شعب الرحمة قال تعالى ورحمتي وسعت كل شئ: الاعراف - 156 وقال ولو لا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا: النور - 21 وقال تعالى قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لامسكتم خشية الانفاق: أسرى - 100. قوله تعالى ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك إلى قوله من سبيل إشارة إلى اختلافهم في حفظ الامانات والعهود اختلافا فاحشا آخذا بطرفي التضاد وأن هذا وإن كان في نفسه رذيلة قومية ضارة إلا أنه ناش بينهم فاش في جماعتهم من رذيلة اخرى اعتقادية وهي ما يشتمل عليه قولهم ليس علينا في الاميين سبيل فانهم كانوا يسمون أنفسهم بأهل الكتاب وغيرهم بالاميين فقولهم ليس علينا في الاميين سبيل معناه نفي أن يكون لغير إسرائيلي على إسرائيلي سبيل وقد أسندوا الكلمة إلى الدين والدليل عليه قوله تعالى ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون بلى الخ. فقد كانوا يزعمون كما أنهم اليوم على زعمهم أنهم هم المخصوصون بالكرامة الالهية لاتعدوهم إلى غيرهم بما أن الله سبحانه جعل فيهم نبوة وكتابا وملكا فلهم السيادة والتقدم على غيرهم واستنتجوا من ذلك أن الحقوق المشرعة عندهم اللازمة المراعاة عليهم كحرمة أخذ الربا وأكل مال الغير وهضم حقوق الناس إنما هي بينهم معاشر أهل الكتاب فالمحرم هو أكل مال الاسرائيلي على مثله و المحظور هضم حقوق يهودي على أهل ملته وبالجملة إنما السبيل على أهل الكتاب لاهل الكتاب وأما غير أهل الكتاب فلا سبيل له على أهل الكتاب فلهم أن يحكموا في غيرهم ما شائوا ويفعلوا في من دونهم ما أرادوا وهذا يؤدي إلى معاملتهم مع غيرهم معاملة الحيوان العجم كائنا من كان. وهذا وإن لم يوجد فيما عندهم من الكتب المنسوبة إلى الوحي كالتوراة وغيرها لكنه أمر أخذوه من أفواه أحبارهم فقلدوهم فيه ثم لما كان الدين الموسوي لا يعدو بني إسرائيل إلى غيرهم جعلوه جنسية بينهم وتولد من ذلك أن هذه الكرامة والسؤدد أمر جنسي خص بذلك بنو إسرائيل خاصة فالانتساب الاسرائيلي هو مادة الشرف وعنصر السؤدد والمنتسب إلى إسرائيل له التقدم المطلق على غيره وهذه الروح الباغية إذا دبت في قالب قوم بعثتهم إلى إفساد الارض وإماتة روح الانسانية وآثارها

[ 262 ]

الحاكمة في الجامعة البشرية. نعم أصل هذه الكلمة وهو سلب الحقوق العامة عن بعض الافراد والجوامع مما لا مناص عنه في الجامعة الانسانية لكن الذي يعتبره المجتمع الانساني الصالح هو سلب الحقوق عمن يريد إبطال الحقوق وهدم المجتمع والذي يعتبره الاسلام في ثبوت الحق هو دين التوحيد من الاسلام أو الذمة فمن لا إسلام له ولا ذمة فلا حق له من الحيوة وهو الذي ينطبق على الناموس الفطري الذي سمعت أنه المعتبر أجمالا عند المجتمع الانساني ولنرجع إلى ما كنا فيه من الكلام في الآية فقوله تعالى ومن أهل الكتاب كان الظاهر أن يقال ومنهم فهو من وضع الظاهر موضع الضمير والوجه فيه دفع أن يتوهم أن هؤلاء بعض من الطائفة المذكورة في الآيتين السابقتين التي قالت آمنوا بالذي انزل الخ ولذلك لما اندفع التوهم المذكور قيل في الآية الآتية وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب الآية. وهناك وجه آخر وهو أن ذكر الوصف وهو كونهم من أهل الكتاب مشعر بنوع من التعليل وذلك أن صدور هذا القول والفعل منهم أعني قولهم ليس علينا في الاميين سبيل وأكلهم مال الناس بذلك لم يكن بذاك البعيد المستغرب لو كانوا اميين لاخبر عندهم من النبوة والوحي لكنهم أهل الكتاب وعندهم الكتاب فيه حكم الله وهم يعلمون أن الكتاب لا يحكم لهم بذلك ولا يبيح لهم مال غيرهم لانه غيرهم فهذا الذي قالوه ثم فعلوه وهم أهل الكتاب منهم أغرب وأبعد والتوبيخ والتقبيح عليهم أوجه وألزم. والقنطار والدينار معروفان والمقابلة بينهما على ما فيها من المحسنات البديعية والمقام مقام يذكر فيه الامانة تفيد أنه كنى بهما عن الكثير والقليل والمراد أن منهم من لا يخون الامانة وإن كثرت وثقلت قيمتها ومنهم من يخونها وإن قلت وخفت. وكذا الخطاب الموضوع في الكلام بقوله إن تأمنه بقنطار يؤده إليك غير متوجه إلى مخاطب معين بل هو للتكنية عن أي مخاطب يمكن أن يخاطب بهذا الكلام للاشعار بأن الحكم عام غير مقصور على واحد دون واحد والكلام في معنى قولنا

[ 263 ]

إن يأمنه مؤتمن أي مؤتمن كان بقنطار يؤده إليه. وما في قوله إلا ما دمت عليه قائما مصدرية على ما قيل والتقدير إلا أن تدوم قائما عليه وذكر القيام عليه للدلالة على الالحاح والاستعجال فإن قيام المطالب على ساقه عند المطالبة من غير قعود دليل على ذلك وربما قيل إن ما ظرفية وليس بشئ. وقوله ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الاميين سبيل ظاهر السياق أن ذلك إشارة إلى مجموع المضمون المأخوذ من سابق القول أي كون بعضهم يؤدي الامانة وإن كانت خطيرة مهمة وبعضهم لا يؤديها وإن كانت حقيرة لا يعبأ بها إنما هو لقولهم ليس علينا في الاميين سبيل فأوجب ذلك اختلافا بينهم في الصفات الروحية كحفظ الامانات والاتقاء عن تضييع حقوق الناس والاغترار بالكرامة مع أنهم يعلمون أن الله لم يسن لهم ذلك في الكتاب ولا رضي بمثل هذه الافعال منهم. ويمكن أن يكون ذلك إشارة إلى حال الطائفة الثانية المذكورة بقوله ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده اليك ويكون ذكر الطائفة الاولى الامينة لاستيفاء تمام الاقسام والتحفظ على النصفة ويجوز حينئذ أن تكون ضمائر الجمع في قوله ويقولون وفي قوله وهم يعلمون راجعة إلى أهل الكتاب أو راجعة إلى قوله من إن تأمنه بدينار بحسب المعنى وكذا يجوز على التقدير الثاني أن يكون المراد بضمير التكلم في قوله علينا جميع أهل الكتاب أو خصوص البعض ويختلف المعنى باختلاف المحتملات إلا أن الجميع صحيحة مستقيمة وعليك بالتدبر فيها. قوله تعالى ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون إبطال لدعويهم أنه ليس علينا في الاميين سبيل ودليل على أنهم كانوا ينسبون ذلك إلى الوحي السماوي والتشريع الديني كما مر. قوله تعالى بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين رد لكلامهم وإثبات لما نفوه بقولهم ليس علينا في الاميين سبيل وإيفاء العهد تتميمه بالتحفظ من العذر والنقص والتوفية البذل والاعطاء وافيا والاستيفاء الاخذ والتناول وافيا. والمراد بالعهد ما أخذ الله الميثاق عليه من عباده أن يؤمنوا به ويعبدوه على ما يشعر به قوله في الآية التالية إن الذين يشترون بعهد الله وايمانهم ثمنا قليلا أو مطلق

[ 264 ]

العهد الذي منه عهد الله تعالى. وقوله فإن الله يحب المتقين من قبيل وضع الكبرى موضع الصغرى إيثارا للايجاز والتقدير فأن الله يحبه لانه متق والله يحب المتقين والمراد أن كرامة الله لعباده المتقين حبه لهم لا ما زعمتموه من نفي السبيل. فمفاد الكلام أن الكرامة الالهية ليست بذاك المبتذل السهل التناول حتى ينالها كل من انتسب إليه انتسابا أو يحسبها كل محتال أو مختال كرامة جنسية أو قومية بل يشترط في نيلها الوفاء بعهد الله وميثاقه والتقوى في الدين فإذا تمت الشرائط حصلت الكرامة وهي المحبة والولاية الالهية التي لا تعدو عباده المتقين وأثرها النصرة الالهية والحيوة السعيدة التي تعمر الدنيا وتصلح بال أهلها وترفع درجات الآخرة. فهذه هي الكرامة الالهية لا أن يحمل قوما على أكتاف عباده من صالح وطالح ويطلقهم ويخلي بينهم وبين ما يشائون وما يعملون فيقولوا يوما ليس علينا في الاميين سبيل ويوما نحن أولياء لله من دون الناس (1) ويوما نحن أبناء الله وأحبائه فيهديهم ذلك إلى إفساد الارض وإهلاك الحرث والنسل. قوله تعالى إن الذين يشترون بعهد الله وايمانهم ثمنا قليلا تعليل للحكم المذكور في الآية السابقة والمعنى أن الكرامة الالهية خاصة بمن أوفى بعهده واتقى لان غيرهم وهم الذين يشترون بعهد الله وايمانهم ثمنا قليلا لا كرامة لهم. ولما كان نقض عهد الله وترك التقوى إنما هو للتمتع بزخارف الدنيا وإيثار شهوات الاولى على الاخرى كان فيه وضع متاع الدنيا موضع إيفاء العهد والتقوى وتبديل العهد به ولذلك شبه عملهم ذلك بالمعاملة فجعل عهد الله مبيعا يشترى بالمتاع وسمى متاع الدنيا وهو قليل بالثمن القليل والاشتراء هو البيع فقيل يشترون بعهد الله وايمانهم ثمنا قليلا أي يبدلون العهد والايمان من متاع الدنيا. قوله تعالى أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله إلى آخر الآية

____________________________

(1) قال تعالى: (قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس الآية) الجمعة - 1. (2) قال تعالى: " وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحبائه الآية " المائدة - 18

[ 265 ]

الخلاق النصيب والتزكية هي الانماء نموا صالحا ولما كان الوصف المأخوذ في بيان هذه الطائفة من الناس مقابلا للوصف المأخوذ في الطائفة الاخرى المذكورة في قوله من أوفى بعهده واتقى ثم كانت التبعات المذكورة لوصفهم امورا سلبية أفاد ذلك. أولا أن الاتيان في الاشارة بلفظ اولئك الدال على البعد لافادة بعد هؤلاء من ساحة القرب كما أن الموفون بعهدهم المتقون مقربون لمكان حب الله تعالى لهم. وثانيا أن آثار محبة الله سبحانه هي الخلاق في الآخرة والتكليم والنظر يوم القيامة والتزكية والمغفرة وهي رفع أليم العذاب. والخصال التي ذكرها الله تعالى لهؤلاء الناقضين لعهد الله وأيمانهم امور ثلاثة أحدها أنهم لا نصيب لهم في الآخرة والمراد بالآخرة هي الدار الآخرة من قيام الوصف مقام الموصوف ويعني بها الحياة التي بعد الموت كما أن المراد بالدنيا هي الدار الدنيا وهي الحياة الدنيا قبل الموت. ونفي النصيب عنهم في الآخرة لاختيارهم نصيب الدنيا عليه ومن هنا يظهر أن المراد بالثمن القليل هو الدنيا وإنما فسرناه فيما تقدم بمتاع الدنيا لمكان توصيفه تعالى إياه بالقليل وقد وصف به متاع الدنيا في قوله عز من قائل قل متاع الدنيا قليل: النساء - 77 على أن متاع الدنيا هو الدنيا. وثانيها أن الله لا يكلمهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة وقد حوذي به المحبة الالهية للمتقين من حيث إن الحب يوجب تزود المحب من المحبوب بالاسترسال بالنظر والتكليم عند الحضور والوصال وإذ لا يحبهم الله فلا يكلمهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة وهو يوم الاحضار والحضور والتدرج من التكليم إلى النظر لوجود القوة والضعف بينهما فإن الاسترسال في التكليم أكثر منه في النظر فكأنه قيل لا نشرفهم لا كثيرا ولا قليلا. وثالثها أن الله لا يزكيهم ولهم عذاب أليم وإطلاق الكلام يفيد أن المراد بهما ما يعم التزكية والعذاب في الدنيا والآخرة. قوله تعالى وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب

[ 266 ]

وما هو من الكتاب اللي هو فتل الحبل ولي الرأس واللسان إمالتهما قال تعالى لووا رؤوسهم: المنافقون - 5 وقال تعالى ليا بألسنتهم: النساء - 46 والظاهر أن المراد بذلك أنهم يقرأون ما افتروه من الحديث على الله سبحانه بألحان يقرأون بها الكتاب تلبيسا على الناس ليحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب. وتكرار لفظ الكتاب ثلاث مرات في الكلام لدفع اللبس فإن المراد بالكتاب الاول هو الذي كتبوه بأيديهم ونسبوه إلى الله سبحانه وبالثاني الكتاب الذي أنزله الله تعالى بالوحي وبالثالث هو الثاني كرر لفظه لدفع اللبس وللاشارة إلى أن الكتاب بما أنه كتاب الله أرفع منزلة من أن يشتمل على مثل تلك المفتريات وذلك لما في لفظ الكتاب من معنى الوصف المشعر بالعلية. ونظيره تكرار لفظ الجلالة في قوله ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله فالمعنى وما هو من عند الله الذي هو إله حقا لا يقول إلا الحق قال تعالى والحق أقول: ص - 84. وأما قوله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون تكذيب بعد تكذيب لنسبتهم ما اختلقوه من الوحي إلى الله سبحانه فإنهم كانوا يلبسون الامر على الناس بلحن القول فأبطله الله بقوله وما هو من الكتاب ثم كانوا يقولون بألسنتهم هو من عند الله فكذبهم الله أولا بقوله وما هو من عند الله وثانيا بقوله ويقولون على الله الكذب وزاد في الفائدة أولا أن الكذب من دأبهم وديدنهم وثانيا أن ذلك ليس كذبا صادرا عنهم بالتباس من الامر عليهم بل هم عالمون به متعمدون فيه.

( بحث روائي )

 في الدر المنثور: في قوله تعالى قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء الآية أخرج يعني ابن جرير عن السدي قال ثم دعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - يعني الوفد من نصارى نجران فقال - يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء الآية. اقول وروى فيه هذا المعنى أيضا عن ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير وظاهر الرواية أن الآية نزلت فيهم وقد قدمنا الرواية في أول السورة الدالة على أن

[ 267 ]

صدر السورة إلى نيف وثمانين آية نزلت في نصارى نجران وهذه الآية منها لوقوعها قبل تمام العدد. وورد في بعض الروايات أن رسول الله دعا يهود المدينة إلى الكلمة السواء حتى قبلوا الجزية وذلك لا ينافي نزول الآية في وفد نجران. وفي صحيح البخاري بإسناده عن ابن عباس عن أبي سفيان في حديث طويل: يذكر فيه كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هرقل عظيم الروم - قال أبو سفيان ثم دعا يعني هرقل بكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - فقرأه فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم - من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم - سلام على من اتبع الهدى أما بعد - فإني أدعوك بدعاية الاسلام أسلم تسلم - وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين - فإن توليت فإن عليك إثم الاريسيين - ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمه سواء - بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله - إلى قوله اشهدوا بأنا مسلمون الحديث. اقول ورواه أيضا مسلم في صحيحه ورواه السيوطي في الدر المنثورعن النسائي وعبد الرزاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس وقد قيل إن كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مقوقس عظيم القبط أيضا كان مشتملا على قوله تعالى يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم وهناك نسخة منسوبة إليه صلى الله عليه وآله وسلم مخطوطة بالخط الكوفي تضاهي كتابه صلى الله عليه وآله وسلم إلى هرقل وقد استنسخ منها أخيرا بالتصوير الشمسي ما يوجد عند كثيرين. وكيف كان فقد ذكر المؤرخون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما كتب الكتب وأرسل الرسل ألى الملوك من قيصر وكسرى والنجاشي سنة ست من الهجرة ولازمه نزول الآية في سنة ست أو قبلها وقد ذكر المؤرخون كالطبري وابن الاثير والمقريزي أن نصارى نجران إنما وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سنة عشر من الهجرة وذكر آخرون كأبي الفداء في البداية والنهاية ونظيره في السيرة الحلبية أن ذلك كان في سنة تسع من الهجرة ولازم ذلك نزول هذه الآية في سنة تسع أو عشر. وربما قيل إن الآية مما نزلت أول الهجرة على ما تشعر به الروايات الآتية وربما قيل إن الآية نزلت مرتين نقله الحافظ ابن حجر.

[ 268 ]

والذي يؤيده اتصال آيات السورة سياقا كما مرت الاشارة إليه في أول السورة أن الآية نزلت قبل سنة تسع وأن قصة الوفد إنما وقعت في سنة ست من الهجرة أو قبلها ومن البعيد أن يكاتب صلى الله عليه وآله وسلم عظماء الروم والقبط وفارس ويغمض عن نجران مع قرب الدار. وفي الرواية نكتة اخرى وهي تصدير الكتاب ببسم الله الرحمن الرحيم ومنه يظهر ما في بعض ما نقلناه من الروايات في قصة وفد نجران كما عن البيهقي في الدلائل: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتب إلى أهل نجران - قبل أن ينزل عليه طس سليمان - بسم الله إله إبراهيم وإسحق ويعقوب من محمد رسول الله - إلى اسقف نجران إن أسلمتم فإني أحمد اليكم الله - إله إبراهيم وإسحق ويعقوب أما بعد - فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد - وإلى ولاية الله من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية وإن بيتم فقد آذنتكم بالحرب والسلام الحديث. وذلك أن سورة النمل من السور المكية ومضامين آياتها كالنص في أنها نزلت قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكيف يجتمع ذلك مع قصة نجران على أن الكتاب يشتمل على امور اخر لا يمكن توجيهها كحديث الجزية والايذان بالحرب وغير ذلك والله أعلم. وفي الدر المنثور أخرج الطبراني عن ابن عباس ": أن كتاب رسول الله إلى الكفار - تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم الآية وفي الدر المنثور أيضا: في قوله تعالى يا أهل الكتاب لم تحاجون الآية - أخرج ابن إسحأق وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - فتنازعوا عنده فقالت الاحبار - ما كان إبراهيم إلا يهوديا - وقالت النصارى ما كان إبراهيم إلا نصرانيا فأنزل الله فيهم - يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم - وما أنزلت التوراة والانجيل إلا من بعده - إلى قوله والله ولي المؤمنين - فقال أبو رافع القرظي (1) - أتريد منا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم - فقال رجل من أهل نجران أ ذلك تريد يا محمد فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غيره - ما بذلك بعثني ولا

____________________________

(1) من يهود بني قريظة

[ 269 ]

أمرنى فأنزل الله في ذلك من قولهما - ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة - ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله - إلى قوله بعد إذ أنتم مسلمون - ثم ذكر ما أخذ عليهم وعلى آبائهم من الميثاق - بتصديقه إذا هو جائهم وإقرارهم به على أنفسهم فقال - وإذ أخذ الله ميثاق النبيين - إلى قوله من الشاهدين. اقول الآيات أعني قوله ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة إلى آخر الآيات أوفق سياقا وأسهل انطباقا على عيسى بن مريم عليه السلام منه برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ما سيجئ في الكلام على الآيات فلعل ما في الرواية من نزول الآيات في حق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استنباط وتطبيق من ابن عباس على ان المعهود من دأب القرآن التعرض لهذا النوع من القول في صورة السؤال والجواب أو الحكاية والرد. وفي تفسير الخازن روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ورواه محمد بن اسحاق عن ابن شهاب بإسناده حديث هجرة الحبشة قال لما هاجر جعفر بن أبي طالب واناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أرض الحبشة واستقرت بهم الدار وهاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وكان من أمر بدر ما كان اجتمعت قريش في دار الندوة وقالوا إن لنا في الذين عند النجاشي من أصحاب محمد ثأرا ممن قتل منكم ببدر فأجمعوا مالا وأهدوه إلى النجاشي لعله يدفع اليكم من عنده من قومكم ولينتدب إليه رجلان من ذوي رأيكم. فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن أبي معيط معهم الهدايا الادم وغيره فركبا البحر حتى أتيا الحبشة فلما دخلا على النجاشة سجدا له وسلما عليه وقالا له إن قومنا لك ناصحون شاكرون ولاصحابك محبون وأنهم بعثونا اليك لنحذر هؤلاء الذين قدموا عليك لانهم قوم رجل كذاب خرج يزعم أنه رسول الله ولم يتابعه أحد منا إلا السفهاء وإنا كنا قد ضيقنا عليهم: الامر وألجأناهم إلى شعب بأرضنا لا يدخل عليهم أحد فقتلهم الجوع والعطش فلما اشتد عليه الامر بعث اليك ابن عمه ليفسد عليك دينك وملكك ورعيتك فاحذرهم وادفعهم الينا لنكفيكم قال وآية ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ولا يحيونك بالتحية التي يحييك بها الناس رغبة عن دينك وسنتك. قال فدعاهم النجاشي فلما حضروا صاح جعفر بالباب يستأذن عليك حزب

[ 270 ]

الله تعالى فقال النجاشي مروا هذا الصائح فليعد كلامه ففعل جعفر فقال النجاشي نعم فليدخلوا بأمان الله وذمته فنظر عمرو إلى صاحبه فقال أ لا تسمع كيف يرطنون بحزب الله وما أجابهم به الملك فأسائهما ذلك. ثم دخلوا عليه فلم يسجدوا له فقال عمرو بن العاص أ لا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك فقال لهم النجاشي ما منعكم أن تسجدوا لي وتحيوني بالتحية التي يحيينى بها من أتاني من الآفاق قالوا نسجد لله الذي خلقك وملكك وإنما كانت تلك التحية لنا ونحن نعبد الاوثان فبعث الله فينا نبيا صادقا فأمرنا بالتحية التي رضيها الله وهي السلام تحيه أهل الجنة فعرف النجاشي أن ذلك حق وأنه في التوراة والانجيل قال أيكم الهاتف يستأذن عليك حزب الله قال جعفر أنا قال أنك ملك من ملوك الارض من أهل الكتاب ولا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم وإنما احب أن اجيب عن أصحابي فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما ولينصت الآخر فتسمع محاورتنا فقال عمرو لجعفر تكلم. فقال جعفر للنجاشي سل هذين الرجلين أ عبيد نحن أم أحرار فإن كنا عبيدا قد أبقنا من أربابنا فردنا عليهم فقال النجاشي أ عبيد هم أم أحرار فقال بل أحرار كرام فقال النجاشي نجوا من العبودية فقال جعفر سلهما هل أرقنا دما بغير حق فيقتص منا فقال عمرو لا ولا قطرة قال جعفر سلهما هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضائها قال النجاشي إن كان قنطارا فعلي قضائه فقال عمرو لا ولا قيراط فقال النجاشي فما تطلبون منهم قال كنا وإياهم على دين واحد على دين آبائنا فتركوا ذلك واتبعوا غيره فبعثنا قومنا لتدفعهم الينا فقال النجاشي ما هذا الذي كنتم عليه والدين الذي اتبعوه فقال جعفر أما الدين الذي كنا عليه فهو دين الشيطان كنا نكفر بالله ونعبد الحجاره ة وأما الذي تحولنا إليه فهو دين الله الاسلام جاءنا به من عند الله رسول بكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقا له فقال النجاشي يا جعفر تكلمت بأمر عظيم. ثم أمر النجاشي بضرب الناقوس فضرب واجتمع إليه كل قسيس وراهب فلما اجتمعوا عنده قال النجاشي انشدكم بالله الذي أنزل الانجيل على عيسى هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيا مرسلا قالوا اللهم نعم قد بشرنا فقال من آمن به فقد

[ 271 ]

آمن بي ومن كفر به فقد كفر بي فقال النجاشي لجعفر ما ذا يقول لكم هذا الرجل وما يأمركم به وما ينهاكم عنه فقال يقرأ علينا كتاب الله ويأمرنا بالمعروف وينهانا عن المنكر ويأمرنا بحسن الجوار وصلة الرحم وبر اليتيم يأمرنا أن نعبد الله وحده لا شريك له فقال له اقرأ علي مما يقرأ عليكم فقرأ عليه سورة العنكبوت والروم ففاضت عينا النجاشي وأصحابه من الدمع وقالوا زدنا من هذا الحديث الطيب فقرأ عليهم سورة الكهف فأراد عمرو أن يغضب النجاشي فقال إنهم يشتمون عيسى وامه فقال النجاشي فما تقولون في عيسى وامه فقرأ عليهم سورة مريم فلما أتى على ذكر مريم وعيسى رفع النجاشي من سواكه قدر ما يقذي العين وقال والله ما زاد المسيح على ما تقولون هذا ثم أقبل على جعفر وأصحابه فقال اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي يقول آمنون من سبكم وأذاكم غرم ثم قال ابشروا ولا تخافوا فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيم فقال عمرو يا نجاشي ومن حزب إبراهيم قال هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاءوا من عنده ومن اتبعهم فأنكر ذلك المشركون وادعوا دين إبراهيم ثم رد النجاشي على عمرو وصاحبه المال الذي حملوه وقال إنما هديتكم إلى رشوة فاقبضوها فإن الله ملكني ولم يأخذ مني رشوة قال جعفر فانصرفنا فكنا في خير جوار وأنزل الله عز وجل في ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خصومتهم في إبراهيم وهو في المدينة إن اولى الناس بأبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين. اقول وهذه القصة مروية من طرق اخرى ومن طرق أهل البيت عليهم السلام وإنما نقلناها على طولها لاشتمالها على فوائد هامة في بلاء المسلمين من المهاجرين الاولين وليست من سبب النزول في شئ. وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا قال قال أمير المؤمنين لا يهوديا يصلي إلى المغرب - ولا نصرانيا يصلي إلى المشرق - لكن كان حنيفا مسلما على دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم. اقول قد تقدم في البيان السابق معنى كونه على دين محمد صلى الله عليهما وآلهما وقد اعتبر في الرواية استقبال الكعبة وقد حولت القبلة إليها في المدينة والكعبة في نقطة جنوبها تقريبا وتأبى اليهود والنصارى عن قبولها أوجب لهم الانحراف عنها إلى

[ 272 ]

جهتي المغرب التي بها بيت المقدس والمشرق التي يستقبلها النصارى فعد ذلك من الطائفتين انحرافا عن حاق الوسط وقد أيد هذه العناية لفظ الآية وكذلك جعلناكم امة وسطا الآية وبالجملة فإنما هي عناية لطيفة لا تزيد على ذلك وفي الكافي عن الصادق عليه السلام: خالصا مخلصا ليس فيه شئ عن عبادة الاوثان وفي المجمع: في قوله تعالى إن اولى الناس بإبراهيم الآية - قال أمير المؤمنين عليه السلام - إن اولى الناس بالانبياء أعملهم بما جاءوا به - ثم تلا هذه الآية وقال - ان ولي محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته - وإن عدو محمد من عصى الله وإن قربت لحمته وفي الكافي وتفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: هم الائمة ومن اتبعهم وفي تفسيري القمي والعياشي عن عمر بن اذينة عنه عليه السلام قال: أنتم والله من آل محمد فقلت من أنفسهم جعلت فداك ؟ قال: نعم والله من أنفسهم ثلاثا ثم نظر إلى ونظرت إليه - فقال يا عمر إن الله يقول في كتابه إن اولى الناس الآية وفي تفسير القمي: في قوله تعالى وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا الآية عن الباقر عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما قدم المدينة وهو يصلي نحو بيت المقدس أعجب ذلك القوم فلما صرفه الله عن بيت المقدس إلى بيت الله الحرام وجدت اليهود من ذلك وكان صرف القبلة صلوة الظهر فقالوا صلى محمد الغداة واستقبل قبلتنا فآمنوا بالذي انزل على محمد وجه النهار وأكفروا آخره يعنون القبلة حين استقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسجد الحرام. اقول والرواية كما ترى تجعل قوله وجه النهار ظرفا لقوله أنزل دون قوله آمنوا وقد تقدم الكلام فيه في البيان السابق. وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله وقالت طائفة الآية قال إن طائفة من اليهود قالت إذا لقيتم أصحاب محمد أول النهار فآمنوا وإذا كان آخره فصلوا صلوتكم لعلهم يقولون هؤلاء أهل الكتاب وهم أعلم منا لعلهم ينقلبون عن دينهم. أقول ورواه فيه أيضا عن السدي ومجاهد.

[ 273 ]

وفي الكافي: (في قوله تعالى إن الذين يشترون بعهد الله الآية) عن الباقر عليه السلام قال انزل في العهد إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولهم عذاب إليهم والخلاق النصيب فمن لم يكن له نصيب في الآخرة فبأي شئ يدخل الجنة. وفي أمالي الشيخ بإسناده عن عدي بن عدي عن أبيه قال: اختصم امرؤ القيس ورجل من حضرموت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أرض فقال ألك بينة ؟ قال لا قال فبيمينه قال إذن والله يذهب بأرضي قال إن ذهب بأرضك بيمينه كان ممن لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم قال ففزع الرجل وردها إليه. اقول والرواية كما ترى لا تدل على نزول الآية في مورد القصة وقد روي من طرق أهل السنة في عدة روايات أن الآية نزلت في هذا الشأن وهي متعارضة من حيث مورد القصة ففي بعضها أن النزاع كان بين امرء القيس ورجل من حضرموت كما مر في الرواية السابقة وفي بعضها أنه كان بين الاشعث بن القيس وبين رجل من اليهود في أرض له وفي بعضها أنها نزلت في رجل من الكفار وقد كان أقام سلعة له في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعطه ليوقع بها رجلا من المسلمين فنزلت الآية. وقد عرفت في البيان السابق أن ظاهر الآية أنها واقعة موقع التعليل لمضمون الآية السابقة عليها فالوجه حمل الروايات إن أمكن على بيان انطباق الآية على مورد القصة دون النزول بالمعنى المعهود منه = ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون (79) - ولا يأمركم

[ 274 ]

أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أ يأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون (80))

( بيان )

 وقوع الآيات عقيب الآيات المرتبطة بأمر عيسى عليه السلام يفيد أنها بمنزلة الفصل الثاني من الاحتجاج على برائة ساحة المسيح مما يعتقده في حقه أهل الكتاب من النصارى والكلام بمنزلة قولنا إنه ليس كما تزعمون فلا هو رب ولا أنه ادعى لنفسه الربوبية أما الاول فلانه مخلوق بشري حملته امه ووضعته وربته في المهد غير أنه لا أب له كآدم عليهما السلام فمثله عند الله كمثل آدم وأما الثاني فلانه كان نبيا أوتي الكتاب والحكم والنبوة والنبي الذي هذا شأنه لا يعدو طور العبودية ولا يتعرى عن زي الرقية فكيف يتأتى أن يقول للناس اتخذوني ربا وكونوا عبادا لي من دون الله أو يجوز ذلك في حق غيره من عباد الله من ملك أو نبي فيعطي لعبد من عباد الله ما ليس له بحق أو ينفي عن نبي من الانبياء ما أثبت الله في حقه من الرسالة فيأخذ منه ما هو له من الحق. قوله تعالى ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله البشر مرادف للانسان ويطلق على الواحد والكثير فالانسان الواحد بشر كما أن الجماعة منه بشر. وقوله ما كان لبشر اللام للملك أي لا يملك ذلك أي ليس له بحق كقوله تعالى ما يكون لنا أن نتكلم بهذا: النور - 16 وقوله وما كان لنبي أن يغل: آل عمران - 161. وقوله تعالى أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة اسم كان إلا أنه توطئة لما يتبعه من قوله ثم يقول للناس وذكر هذه التوطئة مع صحة المعنى بدونها ظاهرا يفيد وجها آخر لمعنى قوله ما كان لبشر فإنه لو قيل ما كان لبشر أن يقول للناس كان معناه أنه لم يشرع له هذا الحق وإن أمكن أن يقول ذلك فسقا وعتوا ولكنه

[ 275 ]

إذا قيل ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول كان معناه أن إيتاء الله له العلم والفقه مما عنده وتربيته له بتربية ربانية لا يدعه أن يعدو طور العبودية ولا يوسع له أن يتصرف فيما لا يملكه ولا يحق له كما يحكيه تعالى عن عيسى عليه السلام في قوله وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وامي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق: المائدة - 116. ومن هنا تظهر النكتة في قوله أن يؤتيه الله الخ دون أن يقال ما كان لبشر آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يقول الخ فإن العبارة الثانية تفيد معنى أصل التشريع كما تقدم بخلاف قوله أن يؤتيه الله الخ فإنه يفيد أن ذلك غير ممكن البتة أي أن التربية الربانية والهداية الالهية لا تتخلف عن مقصدها كما قال تعالى اولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء يعني قوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين: الانعام - 89. فمحصل المعنى أنه لا يسع لبشر أن يجمع بين هذه النعم الالهية وبين دعوة الناس إلى عبادد نفسه بأن يؤتى الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله فالآية بحسب السياق بوجه كقوله تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون إلى أن قال وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا: النساء - 173 فإن المستفاد من الآية أن المسيح وكذا الملائكة المقربون أجل شأنا وأرفع قدرا أن يستنكفوا عن عبادة الله فإن الاستنكاف عن عبادته يستوجب أليم العذاب وحاشا أن يعذب الله كرام أنبيائه ومقربي ملائكته فان قلت الاتيان بثم الدالة على التراخي في قوله ثم يقول للناس ينافي الجمع الذي ذكرته. قلت ما ذكرناه من معنى الجمع محصل المعنى وكما يصح اعتبار الاجتماع والمعية بين المتحدين زمانا كذلك يصح اعتباره بين المترتبين والمتتاليين فهو نوع من الجمع. وأما قوله كونوا عبادا لي من دون الله فالعباد كالعبيد جمع عبد والفرق بينهما أن العباد يغلب استعماله فيما إذا نسب إلى الله سبحانه يقال عباد الله ولا

[ 276 ]

يقال غالبا عباد الناس بل عبيد الناس وتقييد قوله عبادا لي بقوله من دون الله تقييد قهري فإن الله سبحانه لا يقبل من العبادة إلا ما هو خالص لوجهه الكريم كما قال تعالى ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار: الزمر - 3 فرد عبادة من يعبد مع عبادته غيره حتى بعنوان التقرب والتوسل والاستشفاع. على أن حقيقة العبادة لاتتحقق إلا مع إعطاء استقلال ما للمعبود حتى في صورة الاشراك فإن الشريك من حيث إنه شريك مساهم ذو استقلال ما والله سبحانه له الربوبية المطلقة فلا يتم ربوبيته ولا تستقيم عبادته إلا مع نفي الاستقلال عن كل شئ من كل جهة فعبادة غير الله عبادة له من دون الله وإن عبد الله معه. قوله تعالى ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون الرباني منسوب إلي الرب زيد عليه الالف والنون للدلالة على التفخيم كما يقال لحياني لكثير اللحية ونحو ذلك فمعنى الرباني شديد الاختصاص بالرب وكثير الاشتغال بعبوديته وعبادته والباء في قوله بما كنتم للسببية وما مصدرية والكلام بتقدير القول والمعنى ولكن يقول كونوا ربانيين بسبب تعليمكم الكتاب للناس ودراستكم إياه فيما بينكم. الدراسة أخص من التعليم فإنه يستعمل غالبا فيما يتعلم عن الكتاب بقرائته قال الراغب درس الدار بقي أثرها وبقاء الاثر يقتضي انمحائه في نفسه فلذلك فسر الدروس بالانمحاء وكذا درس الكتاب ودرست العلم تناولت أثره بالحفظ لما كان تناول ذلك بمداومة القرائة عبر عن إدامة القرائة بالحفظ قال تعالى ودرسوا ما فيه وقال بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون وما آتيناهم من كتب يدرسونها انتهى. ومحصل الكلام أن البشر الذي هذا شأنه إنما يدعوكم إلى التلبس بالايمان واليقين بما في الكتاب الذي تعلمونه وتدرسونه من اصول المعارف الالهية والاتصاف والتحقق بالملكات والاخلاق الفاضلة التي يشتمل عليها والعمل بالصالحات التي تدعون الناس إليها حتى تنقطعوا بذلك إلى ربكم وتكونوا به علماء ربانيين.

[ 277 ]

وقوله بما كنتم حيث اشتمل على الماضي الدال على التحقق لا يخلو عن دلالة ما على أن الكلام في الآية مسوق للتعريض بالنصارى من أهل الكتاب في قولهم أن عيسى أخبرهم بأنه ابنه وكلمته على الخلاف في تفسير البنوة وذلك أن بني إسرائيل هم الذين كان في أيديهم كتاب سماوي يعلمونه ويدرسونه وقد اختلفوا فيه اختلافا يصاحب التغيير والتحريف وما بعث عيسى عليه السلام إلا ليبين لهم بعض ما اختلفوا فيه وليحل بعض الذي حرم عليهم وبالجملة ليدعوهم إلى القيام بالواجب من وظائف التعليم والتدريس وهو أن يكونوا ربانيين في تعليمهم ودراستهم كتاب الله سبحانه. والآية وإن لم تأب الانطباق على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بوجه فقد كانت لدعوته أيضا مساس بأهل الكتاب الذين كانوا يعلمون ويدرسون كتاب الله لكن عيسى عليه السلام أسبق انطباقا عليه وكانت رسالته خاصة ببني إسرائيل بخلاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأما سائر الانبياء العظام من اولي العزم والكتاب كنوح وإبراهيم وموسى فمضمون الآية لا ينطبق عليهم وهو ظاهر. قوله تعالى أو يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا عطف على قوله يقول على القرائة المشهورة التي هي نصب يأمركم وهذا كما كان طائفة من أهل الكتاب كالصابئين يعبدون الملائكة ويسندون ذلك إلى الدعوة الدينية وكعرب الجاهلية حيث كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله وهم يدعون أنهم على دين إبراهيم عليه السلام هذا في إتخاذ الملائكة أربابا. وأما إتخاذ النبيين أربابا فكقول اليهود عزير ابن الله على ما حكاه القرآن ولم يجوز لهم موسى عليه السلام ذلك ولا وقع في التوراة إلا توحيد الرب ولو جوز لهم ذلك لكان أمرا به حاشاه من ذلك. وقد اختلفت الآيتان أعني قوله ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله وقوله أو يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا من جهتين في سياقهما الاولى أن المأمور في الاولى ثم يقول للناس الناس وفي الثانية هم المخاطبون بالآية والثانية أن المأمور به في الاولى العبودية له وفي الثانية الاتخاذ أربابا. أما الاولى فحيث كان الكلام مسوقا للتعريض بالنصارى في عبادتهم لعيسى

[ 278 ]

وقولهم بألوهيته صريحا مسندين ذلك إلى دعوته كان ذلك نسبة منهم إليه أنه قال كونوا عبادا لي بخلاف اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا بالمعنى الذي قيل في غير عيسى فإنه يضاد الالوهية بلازمه لا بصريحه فلذلك قيل أربابا ولم يقل آلهة. وأما الثانية فالوجه فيه أن التعبيرين كليهما كونوا عبادا لي يأمركم أن تتخذوا أمر لو تعلق بأحد تعلق بهؤلاء الذين يخاطبون بهذه الآيات من أهل الكتاب والعرب لكن التعبير لما وقع في الآية الاولى بالقول والقول يقضي بالمشافهة ولم يكن الحاضرون في زمن نزول الآية حاضرين إذ ذاك لا جرم قيل ثم يقول للناس ولم يقل ثم يقول لكم وهذا بخلاف لفظ الامر المستعمل في الآية الثانية فإنه لا يستلزم شفاها بل يتم مع الغيبة فإن الامر المتعلق بالاسلاف متعلق بالاخلاف مع حفظ الوحدة القومية وأما القول فهو لافادته بحسب الانصراف إسماع الصوت يقضي بالمشافهة والحضور إلا أن يعني به مجرد معنى التفهيم. وعلى هذا فالاصل في سياق هذه الآيات الحضور وخطاب الجمع كما جرى عليه قوله تعالى أو يأمركم إلى آخر الآية قوله تعالى أ يأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ظاهر الخطاب أنه متعلق بجميع المنتحلين بالنبوة من أهل الكتاب أو المدعين للانتساب إلى الانبياء كما كانت عرب الجاهلية تزعم أنهم حنفاء والكلام موضوع على الفرض والتقدير فالمعنى أنكم على تقدير إجابتكم هذا البشر الذي اوتي الكتاب والحكم والنبوة تكونون مسلمين لله متحلين بحلية الاسلام مصبوغين بصبغته فكيف يمكنه أن يأمركم بالكفر ويضلكم عن السبيل الذي هداكم إليه بإذن الله سبحانه. ومن هنا يظهر أن المراد بالاسلام هو دين التوحيد الذي هو دين الله عند جميع الانبياء على ما يدل عليه أيضا احتفاف الآيات بهذا المعنى من الاسلام أعني قوله تعالى من قبل إن الدين عند الله الاسلام: آل عمران - 19 وقوله تعالى من بعد أفغير دين الله يبغون إلى أن قال ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين: آل عمران - 85. وقد ذكر بعض المفسرين أن المراد بقوله تعالى ما كان لبشر أن يؤتيه الله إلى آخر

[ 279 ]

الآيتين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بناءا على ما روي في سبب النزول وحاصله أن أبا رافع القرظي ورجلا من نصارى نجران قالا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أ تريد أن نعبدك يا محمد فأنزل الله ما كان لبشر أن يؤتيه الله إلى آخر الآيتين الحديث ثم أيده بقوله في آخرهما بعد إذ أنتم مسلمون فإن الاسلام هو الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وفيه أنه خلط بين الاسلام في عرف القرآن وهو دين التوحيد الذي بعث به جميع الانبياء وبين الاسلام بالاصطلاح الحادث بين المسلمين بعد عصر النزول وقد تقدم الكلام فيه.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=2032
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 03