• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : تفسير كنز الدقائق ( الجزء الأول ) ، تأليف : الميرزا محمد المشهدي .
                    • الموضوع : من آية ( 125 - 134) .

من آية ( 125 - 134)

[333]

الآية 125 - 134

[ وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبرهم مصلى وعهدنا إلى إبرهم وإسمعيل أن طهرا بيتى للطائفين والعكفين والركع السجود(125) ]

والقيام بامورها، وتأديب جنايتها، وتولية ولايتها، وإقامة الحدود على مستحقها، ومحاربة من يكيدها ويعاديها. وقد يطلق على المقتدى به في أقواله وأفعاله.

قال ومن ذريتى: عطف على الكاف عطف تلقين، أي وبعض ذريتي، كما تقول: وزيدا في جواب ساكرمك.

والذرية نسل الرجل، فعلية أو فعولة، من الذر، بمعنى التفريق، والاصل ذرية على الاول، وعلى الثاني ذرورة قلبت راؤها الثالثة ياء، كما في تقضيت، ثم ابدلت الواو والضمة، أو فعلية أو فعولة من الذر بمعنى الخلق، فخففت الهمزة. وقرئ ذريتي بالكسر، وهي لغة، وبعض العرب بفتح الذال.

قال لا ينال عهدى الظلمين: والعهد: الامامة، كما روي عن أبي جعفر و أبي عبدالله (عليهما السلام)(1) أي لا يكون الظالم إماما للناس.

واستدل أصحابنا بهذه الآية على أن الامام لا يكون إلا معصوما عن القبائح، لان الله سبحانه نفى أن ينال عهده - الذي هو الامامة - ظالم، ومن ليس بمعصوم فقد يكون ظالما إما لنفسه أو لغيره.

لا يقال: إنما نفي أن يناله ظالم في حال ظلمه، فإذا تاب لا يسمى ظالما، فيصح أن يناله.

لانا نقول: إن الظالم وإن تاب فلا يخرج من أن تكون الآية قد تناولته في حال كونه ظالما، وقد حكم عليه بأنه لا ينالها، والآية مطلقة غير مقيدة بوقت دون وقت،

___________________________________

(1) تفسير العياشي: ج 1، ح 89، من تفسير سورة البقرة. (*)

[334]

فيجب أن تكون محموله على الاوقات كلها، فلا ينالها الظالم وإن تاب فيما بعد.

وإذ جعلنا البيت: أي الكعبة، غلب عليها كالنجم على الثريا.

مثابة للناس: أي مرجعا يثوب إليه أعيان الزوار، أو أمثالهم، أو موضع ثواب يثابون بحجته واعتماره، أو موضع لا ينصرف منه أحد إلا وينبغي أن يكون على قصد الرجوع إليه.

وقد ورد في الخبر: إن من رجع من مكة وهو ينوي الحج من قابل زيد في عمره، ومن خرج من مكة وهو لا ينوي العود إليها فقد قرب أجله(1).

وأمنا: أي موضع أمن، والحمل للمبالغة، وذلك أنه لا يتعرض لاهله، أو يأمن حجه من عذاب الآخرة لان الحج يجب ما قبله، أو لا يؤاخذ الجاني الملتجئ إليه، والحمل على العموم أولى.

واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى: على إرادة القول، أو عطف على المقدر العامل في (إذ) أو اعتراض معطوف على مضمر، تقديره توبوا إليه واتخذوا.

ومقام إبراهيم الحجر الذي فيه أثر قدميه، والمراد باتخاذه مصلى الصلاة فيه بعد الصلاة كما روي عن الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن الرجل يطوف بالبيت طواف الفريضة ونسى أن يصلي ركعتين عند مقام إبراهيم، فقال: يصليها ولو بعد أيام ان الله تعالى يقول: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى "(2).

وروي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنه قال: نزلت ثلاثة أحجار من الجنة: مقام إبراهيم، وحجر بني إسرائيل، والحجر الاسود استودعه الله ابراهيم (عليه السلام) حجرا أبيض، وكان أشد بياضا من القراطيس فاسود من خطايا بني آدم(3).

___________________________________

(1) مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 203، في نقل المعنى لآية 125.

(2) تفسير العياشي: ج 1، ص 58، ح 92، من تفسير سورة البقرة، وفي مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 203، في نقل المعنى لآية 125.

(3) رواه في مجمع البيان ج 1 - 2، ص 203، في نقل المعنى لآية 125، كما في المتن، ورواه العياشي في تفسيره: ج 1، ص 59، ح 93، ولفظه (عن المنذر الثوري عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن الحجر؟ (*)

[335]

وروي في سبب النزول عن ابن عباس، وعلي بن إبراهيم عن أبيه عن أبن أبي عمير عن أبان عن الصادق (عليه السلام) أنه لما أتى إبراهيم بإسماعيل وهاجر فوضعهما بمكة، وأتت على ذلك مدة ونزلها الجرهميون وتزوج إسماعيل امرأة منهم وماتت هاجر، فاستاذن إبراهيم سارة أن يزور إسماعيل فأذنت له، وشرطت عليه أن لا ينزل، فقدم إبراهيم (عليه السلام) إذ قد ماتت هاجر، فذهب إلى بيت إسماعيل، فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت: ليس هاهنا ذهب يتصيد، وكان إسماعيل يخرج من الحرم فيصيد ثم يرجع، فقال إبراهيم: هل عندك ضيافة؟ قالت: ليس عندي شئ وما عندي أحد، فقال لها إبراهيم (عليه السلام): إذا جاء زوجك فاقرئيه السلام وقولي له فليغير عتبة بابه، وذهب إبراهيم (عليه السلام)، فجاء إسماعيل فوجد ريح أبيه، فقال لامرأته: هل جاء_ك أحد؟ قالت: جاء_ني شيخ صفته كذا وكذا، كالمستخفة بشأنه، قال: فما قال لك؟ قالت: قال لي: اقرئي زوجك السلام وقولي له: فليغير عتبة بابه، فطلقها وتزوج اخرى.

فلبث إبراهيم ما شاء أن يلبث، ثم استأذن سارة أن يزور اسماعيل، فأذنت له واشترطت عليه أن لا ينزل، فجاء إبراهيم حتى انتهى إلى باب إسماعيل، فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت: ذهب يتصيد وهو يجيئ الآن إن شاء الله فأنزل يرحمك الله، قال لها: هل عندك ضيافة؟ قالت: نعم، فجاء_ت باللبن واللحم، فدعا لهما بالبركة فلو جاء_ت يومئذ بخبز أو بر أو شعير أو تمر لكان أكثر أرض الله برا وشعيرا وتمرا، فقالت: انزل حتى أغسل رأسك، فلم ينزل، فجاء_ت بالمقام، فوضعته على شقه الايمن، فوضع قدمه عليه، فبقي أثر قدمه عليه، فغسلت شق رأسه الايمن، ثم حولت المقام إلى شقة الايسر، فغسلت شق رأسه الايسر، فبقي أثر قدمه عليه، فقال لها: إذا جاء_ك زوجك فاقرئيه السلام وقولي له: قد استقامت عتبة بابك، فلما جاء إسماعيل وجد ريح أبيه فقال لامرأته: هل جاء_ك أحد؟ قالت:

___________________________________

فقال: نزلت ثلاثة أحجار من الجنة: الحجر الاسود استودعه إبراهيم، ومقام إبراهيم، وحجر بني إسرائيل، قال أبوجعفر: إن الله استودع إبراهيم الحجر الابيض. الحديث. (*)

[336]

نعم شيخ أحسن الناس وجها وأطيبهم ريحا، فقال لي كذا وكذا وقلت له كذا وكذا وغسلت رأسه، وهذا موضع قدميه على المقام، فقال إسماعيل: ذاك إبراهيم(1).

وفي رواية اخرى عنه (عليه السلام): إن إبراهيم استأذن سارة أن يزور إسماعيل فأذنت له على أن لا يلبث عنها، وأن لا ينزل من حماره، فقيل له: فكيف كان ذلك؟ فقال: إن الارض طويت له(2).

وروى عبدالله بن عمر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما، ولولا أن نورهما طمس لاضاء ما بين المشرق والمغرب(3).

واستدل أصحابنا بهذه الآية على أن صلاة الطواف فريضة مثل الطواف، بأن الله تعالى أمر بذلك، وظاهر الامر يقتضي الوجوب، ولا صلاة واجبة عند مقام إبراهيم غير صلاة الطواف بلا خلاف، والاستدلال بها معاضد بالروايات الواردة عن الائمة (عليهم السلام)(4). وعهدنا إلى إبرهم وإسمعيل: أمرناهما.

أن طهرا بيتى: بأن طهرا، ويجوز أن تكون (أن) مفسرة، لتضمن العهد معنى القول.

يريد طهراه من الاوثان والانجاس وما لا يليق به، أو أخلصاه. للطائفين: حوله.

والعكفين: المقيمين عنده، أو المعتكفين فيه. والركع السجود: اي المصلين، جمع راكع وساجد.

___________________________________

(1) مجمع البيان، ج 1 - 2، ص 204.

(2 و 3) مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 204.

(4) الوسائل: ج 9، ص 155، كتاب الحج، الباب(71 - 72) من أبواب الطواف وفي خلال سائر الابواب أيضا. (*)

[337]

[ وإذ قال إبرهم رب اجعل هذا بلداء_امنا وارزق أهله من الثمرت من_ء_امن منهم بالله واليوم الاخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير(126) ]

وإذ قال إبرهم رب اجعل هذا: معطوف على (إذ جعلنا) والاشارة إلى البلد أو المكان.

بلداء_امنا: ذا أمن كقوله تعالى " في عيشة راضية "(1) أو آمنا أهله كقوله: ليله نائم.

والمراد بالبلد: مكة، والمراد بكونه آمنا أنه لا يصاد طيره ولا يقطع شجره ولا يختلى خلاه(2).

كما روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: من دخل الحرم مستجيرا بالله فهو آمن من سخط الله عزوجل، ومن دخله من الوحش والطير كان آمنا من أن يهاج أو يؤذى حتى يخرج من الحرم(3).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم فتح مكة: إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السماوات والارض، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحل لاحد قبلي ولا تحل

___________________________________

(1) سورة الحاقة: الآية 21.

(2) ومنه حديث مكة: لا يختلى خلاها بضم أوله وفتح اللام أي لا يجز نبتها الرقيق ولا يقطع ما دام رطبا، وإذا يبس فهو حشيش. مجمع البحرين: ج 1، ص 129، في لغة (خلا) والخلا هو الرطب من الكلاء.

قالوا: الخلا والعشب اسم للرطب منه. والحشيش والهشيم اسم لليابس منه، والكلاء يقع على الرطب واليابس، ومعنى يختلى: يؤخذ ويقطع.

شرح النووي لصحيح مسلم: ج 9، ص 125، باب تحريم مكة وتحريم صيدها وخلاها وشجرها.

(3) مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 206. (*)

[338]

لاحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من النهار(1).

فهذا الخبر وأمثاله المشهورة في روايات أصحابنا، يدل على أن الحرم كان آمنا قبل دعوة إبراهيم، وإنما تأكدت حرمته بدعاء_ه (عليه السلام).

وبعضهم قالوا: إنما صار حرما بدعاء إبراهيم، وكان قبل ذلك كسائر البلاد، واستدلوا عليه بقول النبي (صلى الله عليه وآله): إن إبراهيم (عليه السلام) حرم مكة، وإني حرمت المدينة(2).

والجواب: أنه يحتمل أن يكون حرمه بغير الوجه الذي كانت حراما قبله، لجواز كونها حراما قبل بمعنى كونها ممنوعا من الاصطلام والانتقال كما لحق غيرها من البلاد وصارت حراما بعد دعاء إبراهيم (عليه السلام) بتعظيمه على ألسنة الرسل وغير ذلك.

وارزق أهله من الثمرت من_ء_امن منهم بالله واليوم الاخر: (من آمن) بدل من (أهله) بدل البعض.

قال ومن كفر: مبتدأ متضمن معنى الشرط.

فأمتعه قليلا: خبره، والجملة معطوفة على محذوف، أي من آمن مرزوق، ومن كفر فامتعه قليلا.

ثم أضطره إلى عذاب النار: أدفعه وأسوقه إليها في الآخرة.

وبئس المصير: المخصوص محذوف، أي العذاب و " قليلا " منصوب على المصدر، أو الظرف، وقرئ بلفظ الامر في (فأمتعه) و (أضطره) على أنه من دعاء إبراهيم، و الضمير في " قال " راجع إليه.

___________________________________

(1) رواه الخاصة والعامة في الصحاح والسنن.

الوسائل: ج 9، ص 68، الباب 50، من أبواب الاحرام، ح 7، وصحيح مسلم: ج 2، باب 82 تحريم مكة وصيدها، ح 445، ومسند أحمد بن حنبل: ج 1، ص 253، وغيرها.

(2) مسند أحمد بن حنبل: ج 1، ص 119، ومجمع البيان: ج 1 - 2، ص 206. (*)

[339]

[ وإذ يرفع إبرهم القواعد من البيت وإسمعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم(127) ]

وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت: حكاية حال ماضية، تقديره واذكر " إذ يرفع ".

والقواعد: جمع قاعدة وهي الاساس، صفة غالبة ومعناها الثابتة، ومنه قعدك الله أي أسأل الله ان يقعدك أي يثبتك، ورفعها البناء عليها، لانها إذا بني عليها نقلت عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع، وتطاولت بعد التقاصر. ويحتمل أن يراد بها سافات البناء، فان كل ساف قاعدة يوضع فوقه ويرفع بناؤها، لانه إذا وضع ساف فوق ساف فقد رفع السافات.

ويجوز أن يكون المعنى: وإذ يرفع إبراهيم ما قعد من البيت، أي استوطأ، يعني جعل هيئة القاعدة المستوطئة مرتفعة عالية بالبناء.

وقيل: المراد رفع مكانته وإظهار شرفه بتعظيمه ودعاء الناس إلى حجه.

روي عن أئمتنا (عليهم السلام) أنه قد كان آدم بناه، ثم عفا أثره فجدده إبراهيم (عليه السلام)(1).

وقال مجاهد: بل إنشاء إبراهيم (عليه السلام) بأمر الله عزوجل(2).

وكان الحسن (عليه السلام) يقول: أول من حج البيت إبراهيم(3).

وفي أكثر الروايات أن أول من حج البيت آدم (عليه السلام)(4).

ويمكن الجمع بأنه كان مطاف آدم البيت المعمور، ومطاف إبراهيم الكعبة.

كما روي أن الله تعالى أنزل البيت ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد

___________________________________

(1 و 2 و 3 و 4) مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 207. (*)

[340]

شرقي وغربي، وقال لآدم: أهبطت لك ما يطاف به كما يطاف حول عرشي، فتوجه آدم من أرض الهند إليه ماشيا وتلقته الملائكة، فقالوا: بر حجك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام، وحج آدم أربعين حجة من أرض الهند إلى مكة على رجليه، فكان على ذلك إلى أن رفعه الله أيام الطوفان إلى السماء الرابعة، فهو البيت المعمور، ثم أن الله تعالى أمر إبراهيم ببنائه وعرفه جبرئيل مكانه(1). أو كان بناه آدم أولا ثم زال أثره، ثم أمر ابراهيم (عليه السلام) بالبناء ورفع القواعد.

وإسمعيل: كان يناوله الحجارة، ولكنه لما كان له مدخل في البناء عطف عليه.

وقيل: كانا يبنيان في طرفين، أو على التناوب.

يقولان: ربنا تقبل منا: على تقدير الحال. وقرئ باظهار يقولان.

إنك أنت السميع: لدعائنا. العليم: بنياتنا.

وقصة مهاجرة إسماعيل وهاجر على ما رواه الشيخ الطبرسي، عن علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن هشام، عن الصادق (عليه السلام) قال: إن ابراهيم (عليه السلام) كان نازلا في بادية الشام، فلما ولد له من هاجر إسماعيل اغتمت سارة من ذلك غما شديدا، لانه لم يكن له منها ولد، فكانت تؤذي إبراهيم في هاجر وتغمه، فشكا ذلك إبراهيم إلى الله عزوجل فأوحى الله إليه: إنما مثل المرأة مثل الضلع المعوج إن تركته استمتعت به، وإن رمت أن تقيمه كسرته.

وقد قال القائل في ذلك: هي الضلع العوجاء لست تقيمها * ألا إن تقويم الضلوع انكسارها ثم أمره أن يخرج إسماعيل وأمه عنها، فقال: أي رب، إلى أي مكان؟ قال:

___________________________________

(1) الكشاف: ج 1، ص 187، في تفسيره لآية 128، من سورة البقرة. (*)

[341]

إلى حرمي وأمني وأول بقعة خلقتها من أرضي، وهي مكة.

وأنزل عليه جبرئيل بالبراق، فحمل عليه هاجر وإسماعيل وإبراهيم، فكان إبراهيم لا يمر بموضع حسن فيه شجر ونخل وزرع إلا قال: يا جبرئيل إلى هاهنا؟ فيقول جبرئيل: لا إمض، حتى وافى مكة فوضعه في موضع البيت، وقد كان إبراهيم عاهد سارة أن لا ينزل حتى يرجع إليها، فلما نزلوا في ذلك المكان كان فيه شجر، فالقت هاجر على ذلك الشجر كساء كان معها فاستظلت تحته، فلما سرحهم إبراهيم ووضعهم وأراد الانصراف عنهم إلى سارة قالت له هاجر: لم تدعنا في هذا الموضع الذي ليس فيه أنيس ولا ماء ولا زرع؟ فقال إبراهيم: ربي الذي أمرني أن أضعكم في هذا المكان، ثم انصرف عنهم، فلما بلغ كدى(1)، وهو جبل بذي طوى التفت إليهم إبراهيم فقال: ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع.

إلى قوله: لعلهم يشكرون(2) ثم مضى وبقيت هاجر فلما ارتفع النهار عطش إسماعيل، فقامت هاجر في الوادي حتى صارت في موضع المسعى، فنادت: هل في الوادي من أنيس؟ فغاب عنها إسماعيل، فصعدت على الصفا ولمع لها السراب في الوادي، وظنت أنه ماء فنزلت في بطن الوادي وسعت فلما بلغت المروة غاب عنها إسماعيل، ثم لمع لها السراب في ناحية الصفا وهبطت إلى الوادي تطلب الماء، فلما غاب عنها إسماعيل عادت حتى بلغت الصفا فنظرت إلى اسماعيل، حتى فعلت ذلك سبع مرات، فلما كان في الشوط السابع وهي على المروة نظرت إلى إسماعيل وقد ظهر الماء من تحت رجليه، فعدت حتى جمعت حوله رملا وانه كان سائلا، فزمته بما جعلت حوله، فلذلك سميت زمزم، وكانت جرهم(3) نازلة بذي المجاز وعرفات، فلما ظهر الماء

___________________________________

(1) وفيه أنه دخل مكة عام الفتح من كداء ودخل في العمرة من كدى، وكداء بالفتح والمد: الثنية العليا بمكة مما يلي المقابر وهو المعلا، وكدى بالضم والقصر الثنية السفلى مما يلي باب العمرة، وأما كدي بالضم وتشديد الياء فهو موضع بأسفل مكة وقد تكرر ذكر الاولين في الحديث، النهاية: ج 4، ص 156، باب الكاف مع الدال.

(2) سورة إبراهيم: الآية 37.

(3) جرهم بضم الجيم والهاء، حي من اليمن. مجمع البحرين: ج 6، ص 31، في لغة جرهم. (*)

[342]

بمكة عكفت الطير والوحوش على الماء، فنظرت جرهم إلى تعكف الطير على ذلك المكان فاتبعوها حتى نظروا إلى امرأة وصبي نزلا في ذلك الموضع قد استظلا بشجرة قد ظهر لهم الماء، فقال لهم جرهم: من أنت وما شأنك وشأن هذا الصبي؟ قالت: أنا ام ولد إبراهيم خليل الرحمن وهذا ابنه أمره الله أن ينزلنا هاهنا، فقالوا لها: أتأذنين أن نكون بالقرب منكم؟ فقالت: حتى أسأل إبراهيم، قال: فزارهما إبراهيم يوم الثالث فقالت له هاجر: يا خليل الله إن هاهنا قوما من جرهم يسألونك أن تأذن لهم حتى يكونوا بالقرب منا، أفتأذن لهم في ذلك؟ فقال إبراهيم: نعم، فأذنت هاجر لجرهم، فنزلوا بالقرب منهم وضربوا خيامهم وأنست هاجر و إسماعيل بهم، فلما زارهم إبراهيم في المرة الثانية ونظر إلى كثرة الناس حولهم، سر بذلك سرورا شديدا، فلما تحرك إسماعيل وكانت جرهم قد وهبوا لاسماعيل كل واحد منهم شاة وشاتين، فكانت هاجر وإسماعيل يعيشان بها، فلما بلغ مبلغ الرجال أمر الله تعالى إبراهيم أن يبني البيت، فقال يا رب: في أي بقعة؟ قال: في البقعة التي انزلت على آدم القبة، فأضاء_ت الحرم، قال: ولم تزل القبة التي أنزلها على آدم قائمة حتى كان أيام الطوفان في زمن نوح، فلما غرقت الدنيا رفع الله تلك القبة وغرقت الدنيا ولم تغرق مكة فسمي البيت العتيق، لانه اعتق من الغرق، فلما أمر الله عزوجل إبراهيم أن يبني البيت لم يدر في أي مكان يبنيه، فبعث الله جبريل (عليه السلام)، فخط له موضع البيت وأنزل عليه القواعد من الجنة، وكان الحجر الذي أنزله الله على آدم أشد بياضا من الثلج، فلما مسته أيدي الكفار إسود، قال: فبنى إبراهيم البيت ونقل إبراهيم الحجر من ذي طوى، فرفعه في السماء تسعة أذرع ثم دله على موضع الحجر فاستخرجه إبراهيم ووضعه في موضعه الذي هو فيه وجعل له بابين بابا إلى المشرق وبابا إلى المغرب، فالباب الذي إلى المغرب يسمى المستجار، ثم ألقى عليه الشجر الاذخر وعلقت هاجر على بابه كساء كان معها، فكانوا يكونون تحته، فلما بناه وفرغ حج إبراهيم وإسماعيل ونزل عليهما جبرئيل يوم التروية لثمان خلت من ذي الحجة فقال: قم يا إبراهيم فارتو من الماء لانه لم يكن بمنى وعرفات ماء فسميت التروية لذلك، ثم أخرجه إلى منى فبات بها، ففعل به ما

[343]

[ ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك و أرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم(128) ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم ء_ايتك و يعلمهم الكتب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم(129) ]

فعل بآدم، فقال إبراهيم لما فرغ من بناء البيت: رب اجعل إلى آخر الآية(1).

ربنا واجعلنا مسلمين لك: مخلصين لك، من أسلم وجهه، أو مستسلمين من أسلم إذا استسلم وانقاد، وقرئ على لفظ الجمع على أن المراد أنفسهما وهاجر، أو أن التثنية من مراتب الجمع.

ومن ذريتنا أمة مسلمة لك: أي واجعل بعض ذريتنا، والتخصيص بالدعاء لانهم أحق بالشفقة، ولانهم إذا صلحوا صلح بهم الاتباع.

وخصا بعضهم لما اعلما أن في ذريتهما ظلمة، وعلما أن الحكمة الالهية لا تقتضي الاتفاق على الاخلاص والاقبال على الله تعالى، فإنه مما يشوش المعاش، ولذلك قيل: لولا الحمقاء لخربت الدنيا.

وقيل: المراد بالامة، امة محمد (صلى الله عليه وآله)، ويحتمل أن تكون (من) للتبيين. وروي عن الصادق (عليه السلام) أن المراد بالامة بنو هاشم خاصة(2). وأرنا: من رأى بمعنى أبصر أو عرف، ولذلك لم يتجاوز مفعولين. مناسكنا: المواضع التي يتعلق النسك بها، لنفعله عندها ونقضي عباداتنا

___________________________________

(1) مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 208.

(2) مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 210. (*)

[344]

فيها على حد ما يقتضيه توفيقنا عليها، وقال عطا ومجاهد: معنى مناسكنا مذابحنا، والاول أقوى(1).

والنسك في الاصل: غاية العبادة، وشاع في الحج، لما فيه من الكلفة والبعد عن العادة.

وقرأ ابن كثير ويعقوب (أرنا) قياسا على فخذ في فخذ(2).

وتب علينا: قالا تلك الكلمة على وجه التسبيح والتعبد والانقطاع إلى الله، ليقتدي بهما الناس فيهما.

وقيل: أنهما سألا التوبة على ظلمة ذريتهما.

وقيل معناه: ارجع علينا بالرحمة. فليس فيها دلالة على جواز الصغيرة عليهم كما لا يخفى.

إنك أنت التواب: القابل للتوبة من عظائم الذنوب، أو الكثير القبول للتوبة مرة بعد اخرى.

الرحيم: بعباده المنعم عليهم بالنعم العظام وتكفير الآثام. وفي هذه الآية دلالة على أنه يحسن الدعاء بما يعلم الداعي أنه يكون لا محالة.

ربنا وابعث فيهم: في الامة المسلمة.

رسولا منهم: ولم يبعث من ذريتهما غير محمد (صلى الله عليه وآله)، فهو المجاب به دعوتهما كما قال (صلى الله عليه وآله): أنا دعوة أبي إبراهيم (عليه السلام) وبشرى عيسى (عليه السلام) يعنى قوله: " ومبشرا برسول يأتي من بعدى اسمه أحمد " ورؤيا امي(3) وهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف من بني زهرة، رأت في المنام أنها وضعت نورا أضاء به قصور الشام من بصرى.

___________________________________

(1) مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 210.

(2) مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 209.

(3) مسند أحمد بن حنبل: ج 4، ص 127 و 128. وج 5، ص 262.

ولفظ الاخير (لقمان بن عامر قال: سمعت أبا امامة قال: قلت: يا نبي الله ما كان أول بدء أمرك؟ قال: دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورأت امي أنه يخرج منها نور أضاء_ت منها قصور الشام). (*)

[345]

[ ومن يرغب عن ملة إبرهم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفينه في الدنيا وإنه في الاخرة لمن الصلحين(130) إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العلمين(131) ]

يتلوا عليهم ء_ايتك: التي توحي بها إليه.

ويعلمهم الكتب: أي القرآن.

والحكمة: ما يكمل به نفوسهم من المعارف والاحكام.

ويزكيهم: عن الشرك والمعاصي.

إنك أنت العزيز: الذي لا يغلب على ما يريد.

الحكيم: المحكم له.

ومن يرغب: أي لا يرغب.

عن ملة إبرهم: إنكار لان يكون أحد يرغب من ملته الواضحة الغراء.

إلا من سفه نفسه: إلا من أذلها واستخف بها، قال المبرد وثعلب: " سفه " بالكسر متعد وبالضم لازم(1).

وقيل: أصله " سفه نفسه " بالرفع، فنصب على التميز، نحو غبن رأيه، أو سفه في نفسه، فنصب بنزع الخافض. والمستثنى في محل الرفع بدلا من الضمير في (يرغب) لانه في معنى النفي.

روي أن عبدالله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجر إلى الاسلام، فقال: لقد علمنا صفة محمد في التوراة، فأسلم سلمة وأبى مهاجر أن يسلم، فأنزل الله هذه الآية(2).

___________________________________

(1) تفسير البيضاوي: ج 1، ص 83.

(2) مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 212. (*)

[346]

[ ووصى بها إبرهم بنيه ويعقوب يبنى إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون(132) ]

ولقد اصطفينه: اخترناه بالرسالة.

في الدنيا وإنه في الاخرة لمن الصلحين: قيل: وإنما خص الآخرة بالذكر وإن كان في الدنيا كذلك، لان المعنى من الذين يستوجبون على الله سبحانه الكرامة وحسن الثواب، فلما كان خلوص في الآخرة دون الدنيا وصفه بما ينبئ عن ذلك.

إذ قال: ظرف لاصطفيناه، أي اخترناه في ذلك الوقت، أو انتصب بإضمار اذكر استشهادا على ما ذكر من حاله، كانه قيل: اذكر ذلك الوقت لتعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله.

له ربه أسلم: أخطر ببالك النظر في الدلالة المؤدية إلى المعرفة.

قال أسلمت لرب العلمين: أي فنظر وعرف.

وقيل: أسلم أي أذعن، وقيل: أن يكون المراد اثبت على الانقياد.

ووصى بها: أي بالملة، أو الكلمة، وهي أسلمت لرب العالمين. وقرئ وأوصى.

إبرهم بنيه ويعقوب: عطف على إبراهيم داخل في حكمه، والمعنى ووصى بها يعقوب بنيه أيضا، وقرئ بالنصب عطفا على بنيه، والمعنى ووصى بها إبراهيم بنيه ونافلته يعقوب.

يبنى: على إضمار القول عند البصريين، وعند الكوفيين يتعلق ب_(وصى) لانه في معنى القول.

وفي قراء_ة ابي وابن مسعود أن يا بني(1).

إن الله اصطفى لكم الدين: أعطاكم الدين الذي هو صفوة الاديان، وهو

___________________________________

(1) تفسير الكشاف: ج 1، ص 191. (*)

[347]

[ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدى قالوا نعبد إلهك وإله ء_ابائك إبرهم وإسمعيل وإسحق إلها وحدا ونحن له مسلمون(133) تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون(134) ]

دين الاسلام ووفقكم الاخذ به.

فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون: لا يكن موتكم على حال إلا على حال كونكم ثابتين على الاسلام، فالنهي راجع إلى كونهم على خلاف الاسلام في حال الموت، والنكتة في إدخال النهي على الموت، إظهار أن الموت على غير الاسلام كلا موت، والموت الحقيقي هو موت السعداء وهو الموت على الاسلام.

أم كنتم: (أم) هي المنقطعة، ومعنى الهمزة فيها الانكار، أي ما كنتم.

شهداء: جمع شهيد، بمعنى الحاضر.

قيل: إن اليهود قالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله): ألست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه باليهودية يوم مات فنزلت ردا عليهم(1) أي ما كنتم حاضرين.

إذ حضر: وقرئ حضر بكسر الصاد، وهي لغة.

يعقوب الموت: فالخطاب لليهود.

وقيل: الخطاب للمؤمنين، يعني ما شاهدتم ذلك وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي.

إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدى: تقريرا لهم على التوحيد والاسلام، و

___________________________________

(1) تفسير البحر المحيط لابي حيان الاندلسي: ج 1، ص 400. وفي مجمع البيان: ج 1 - 2، ص 214.

(*)

[348]

(ما) عام في كل شئ، فإذا علم فرق بما ومن.

ويمكن أن يقال: " ما تعبدون " سؤال عن صفة المعبود، كما تقول: ما زيد؟ تريد أفقيه أم طبيب أم غير ذلك من الصفات؟ قالوا نعبد إلهك وإله ء_ابائك: وقرأ ابي بطرح (آبائك) وقرئ (أبيك) إما بالافراد وكون إبراهيم وحده عطف بيان له، أو بالجمع بالياء والنون.

إبرهيم وإسمعيل وإسحق: عطف بيان لآبائك.

وعد إسماعيل من آبائه، لان العرب تسمي العم أبا كما تسمي الخالة أما، لانخراطهما في سلك واحد وهو الاخوة ووجوب تعظيمهما.

وفي الحديث: عم الرجل صنو أبيه(1)، أي لا تفاوت بينهما كما لا تفاوت بين صنوي النخلة.

إلها وحدا: بدل من " إله آبائك " كقوله: " بالناصية ناصية كاذبة "(2) أو على الاختصاص أي نريد بإله آبائك، إلها واحدا.

ونحن له مسلمون: حال من فاعل " نعبد " أو من مفعوله، لرجوع الهاء إليه في (له)، ويجوز أن يكون جملة معطوفة على " نعبد " وأن يكون جملة اعتراضية مؤكدة، إن جاز وقوع الاعتراض في الآخر كما هو مذهب البعض، أي ومن حالنا أنا له مسلمون مخلصون بالتوحيد، أو مذعنون. وروى العياشي عن الباقر (عليه السلام) أنها جرت في القائم (عليه السلام)(3).

وقال بعضهم في توجيه الحديث: لعل مراده (عليه السلام) بكون الآية: أنها جارية في قائم آل محمد، فكل قائم منهم يقول حين موته ذلك لبنيه، ويحبيبونه بما أجابوا به.

___________________________________

(1) رواه أئمة الصحاح والسنن عنه (صلى الله عليه وآله) في موارد عديدة، ومنها قوله (عليه السلام) (يا أيها الناس من آذى العباس فقد آذاني إنما عم الرجل صنو أبيه) مسند أحمد بن حنبل: ج 4، ص 165.

(2) سورة العلق: الآية 15 - 16.

(3) تفسير العياشي: ج 1، ص 61، ح 102، ولفظ الحديث (عن جابر عن أبي جعفر قال: سألته عن تفسير هذه الآية من قول الله: " إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي " الآية قال: جرت في القائم (عليه السلام). (*)

[349]


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=1654
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28