• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء الثامن ) ، تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي .
                    • الموضوع : سورة العنكبوت .

سورة العنكبوت

29 - سورة العنكبوت

قال قوم: هي مكية، وقال قتادة: العشر الاول مدني، والباقي مكي.

وقال مجاهد: هي مكية.

وهي تسع وستون آية بلا خلاف في جملتها، وفى تفصيلها خلاف

بسم الله الرحمن الرحيم

(الم(1) أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون(2) ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين(3) أم حسب الذين يعملون السيآت أن يسبقونا ساء ما يحكمون(4) من كان يرجو لقاء الله فان أجل الله لات وهو السميع العليم(5))

خمس آيات كوفي وأربع فيما عداه عدوا " الم " آية. ولم يعده الباقون.

قال قتادة: نزلت في أناس من أهل مكة خرجوا للهجرة فعرض لهم

[186]

المشركون، فرجعوا، فنزلت الآية فيهم، فلما سمعوها خرجوا، فقتل منهم من قتل وخلص من خلص، فنزلت فيهم * (والذين جاهدوا فينا) * الآية(1) وقيل: نزلت في عمار، ومن كان بقرب مكة - ذكره ابن عمر - وقيل: نزلت في قوم أسلموا قبل فرض الجهاد والزكاة، فلما فرضا منعا، فنزلت الآية فيهم. قد بينا في غير موضع اختلاف الناس في ابتداء السور بحروف الهجاء وذكرنا أن أقوى الاقوال قول من قال: إنها اسماء للسور. وقال قوم: إنها اسماء للقرآن.

وقوله * (ام أحسب الناس ان يتركوا) * اختلف الناس في * (ام) * وقد ذكرناه فيما مضى(2).

وقوله * (أحسب الناس أن يتركوا) * خطاب من الله لخلقه على وجه التوبيخ لهم بأن قال أيظن الناس أن يتركهم الله إذا قالوا آمنا أي صدقنا ونقتصر منهم على هذا القدر، والحسبان والظن واحد.

وقوله * (أحسب) * معناه التوهم والتخيل. وقيل: الحسبان مشتق من الحساب، لانه في حساب ما يعمل عليه. ومنه الحسيب، لانه في حساب ما يختبي، و " هم لا يفتنون " أي أيظنون أنهم لا يختبرون إذا قالوا آمنا؟ !. والمعنى انهم يعاملون معاملة المختبر لتظهر الافعال التي يستحق عليها الجزاء.

وقيل: في معنى " أن يقولوا آمنا " قولان: احدهما - يتركوا لان يقولوا. الثاني - أحسبوا أن يقولوا على البدل وقال مجاهد: معنى " يفتنون " يبتلون في أنفسهم واموالهم.

وقيل: معنى يفتنون يصابون بشدائد الدنيا أي ان ذلك لا يجب أن يرفع في الدنيا لقولهم آمنا.

وقال ابن عمر: أظنوا ان لا يؤمروا ولا ينهوا.

___________________________________

(1) آية 69 من هذه السورة.

(2) انظر 1 / 47 - 51

[187]

وقال الربيع: ألا يؤذوا ولا يقتلوا؟ ! ثم اقسم تعالى انه فتن الذين من قبلهم " فليعلمن الله الذين صدقوا " في ايمانهم " وليعلمن الكاذبين " فيه.

وانما قال " فليعلمن " مع أنه للاستقبال والله تعالى عليم فيما لم يزل، لحدوث المعلوم فلا تصح الصفة إلا على معنى المستقبل إذ لا يصلح ولا يصح لم يزل عالما بأنه حادث، لانعقاد معنى الصفة بالحادث، وهو إذا حدث علمه تعالى حادثا بنفسه.

وقيل: معنى " وليعلمن الله الذين صدقوا " ليجازيهم بما يعلم منهم.

وقيل: معناه يعلم الله الذين صدقوا في أفعالهم، كما قال الشاعر:

[ ليث بعثر يصطاد الرجال ] إذا * ما الليث كذب عن أقرانه صدقا(1)

وقال ابن شجرة " فليعلمن الله " معناه فليظهرن الله لرسوله صدق الصادق.

وقال النقاش: معناه فليميزن الله الصادقين من الكاذبين. وهو قول الجبائي.

ثم قال تعالى ممددا لخلقه " أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا " اي أيظن الذين يفعلون القبائح والمعاصي ان يفوتونا؟ ! كما يفوت السابق لغيره.

ثم قال " ساء ما يحكمون " اي بئس الشئ الذي يحكمون بظنهم. انهم يفوتونا.

ثم قال " من كان يرجوا لقاء الله " أي من كان يأمل لقاء ثواب الله.

وقال سعيد بن جبير والسدي: معناه من كان يخاف عقاب الله، كما قال الشاعر: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها(2) أي لم يخف ف‍ (من) رفع بالابتداء، وخبرها (كان) وجواب الجزاء كقولك زيد إن كان في الدار فقد صدق الوعد.

___________________________________

(1) قائله زهير بن ابى سلمى ديوانه: 43.

(2) قد مر تخريجه في 2 / 210 و 3 / 315 و 7 / 491

[188]

وقوله " فان أجل الله لآت " أي الوقت الذي وقته الله للثواب والعقاب آت لا محالة والله " هو السميع " لاقوالكم " العليم " بما تضمرونه في نفوسكم، فيجازيكم بحسب ذلك.

قوله تعالى: (ومن جاهد فانما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين(6) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيآتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون(7) ووصينا الانسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فانبئكم بما كنتم تعملون(8) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين(9) ومن الناس من يقول آمنا بالله فاذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله باعلم بما في صدور العالمين(10))

خمس آيات بلا خلاف.

يقول الله تعالى " ومن جاهد " أي من جاهد نفسه بأن يصبر على ما أمره الله به، ويعمل بسنته، ومنه الجهاد، وهو الصبر في الحرب على ما جاء به الشرع " فانما يجاهد لنفسه " لان ثواب صبره عائد عليه وواصل اليه دون الله تعالى، لانه تعالى غني عن جميع الخلائق غير محتاج إلى طاعاتهم، ولا غير ذلك.

ثم قال تعالى " والذين آمنوا " أي صدقوا بوحدانيته واقروا بنبوة

[189]

نبيه، واعترفوا بما جاء به من عند الله " لنكفرن عنهم سيئاتهم " التي اقترفوها قبل ذلك.

ومن قال بالاحباط قال: تبطل السيئة الحسنة التي هي أكبر منها حتى يصير بمنزلة ما لم يعمل، كما قال " ان الحسنات يذهبن السيئات "(1) والاحباط هو ابطال الحسنة بالسيئة التي هي اكبر منها.

والسيئة الخصلة التي يسوء صاحبها عاقبتها.

والحسنة الخصلة التي يسر صاحبها عاقبتها.

وكل حسنة طاعة لله، وكل سيئة هي معصية له تعالى.

وقوله " لنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون " قال الجبائي: معناه أحسن ما كانوا يعملون: طاعاتهم لله، لانه لا شئ في ما يعمله العباد أحسن من طاعاتهم لله.

وقال قوم: معناه ولتجزينهم بأحسن اعمالهم، وهو الذي أمرناهم به، دون المباح الذي لم نأمرهم به ولا نهيناهم عنه.

وقوله " ووصينا الانسان بوالديه حسنا " معناه أمرناه أن يفعل حسنا وألزمناه ذلك. ثم خاطب كل واحد من الناس، فقال " وإن جاهداك " يعني الوالدين أيها الانسان " لتشرك بي " في العبادة " ما ليس لك به علم، فلا تطعهما " في ذلك.

وقيل: نزلت في سعد بن ابي وقاص، لانه لما هاجر حلفت أمه انها لا يظلها سقف بيت حتى يعود. فنزلت الآية.

ثم قال مهددا للجميع " الي مرجعكم " أي إلي مآلكم " فانبئكم " أي اخبركم " بما كنتم تعملون " في دار التكليف، ثم اجازيكم بحسبه.

ثم قال تعالى " والذين آمنوا " بتوحيد الله واخلاص العبادة له وصدق انبيائه واضافوا إلى ذلك الاعمال الصالحات " لندخلنهم في " جملة " الصالحين " الذين فعلوا الطاعات ويجازيهم الله ثواب الجنة.

___________________________________

(1) سورة 11 هود آية 115

[190]

ثم اخبر ان " من الناس من يقول " بلسانه " آمنا بالله فاذا أوذي في الله " أي إذا لحقه شدة في جنب الله " جعل فتنة الناس " أي عذاب الناس إياهم " كعذاب الله " اي خافوا عذاب الخلق، كما يخاف عذاب الله، فيرتدون.

" ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم " وهذا الذي ذكره صفة المنافقين الذين إذا جاهدوا الكفار وكانت الدائرة على المسلمين جعلوا ذلك مثل ما يعذبهم الله، ومتى ظفروا بأعدائهم قالوا للمؤمنين " انا كنا معكم " في الجهاد فلنا مثل ما لكم من الغنيمة، فقال تعالى " أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين " أي الله يعلم بواطن احوالهم وسرائر ما في نفوسهم، فيجازيهم على حسب ذلك.

قوله تعالى: (وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين(11) وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شئ إنهم لكاذبون(12) وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسئلن يوم القيمة عما كانوا يفترون(13) ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون(14) فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين(15))

خمس آيات بلا خلاف.

[191]

اقسم الله تعالى بأنه يعلم الذين يؤمنون بالله على الحقيقة ظاهرا وباطنا فيجازيهم على ذلك بثواب الجنة، وذلك ترغيب لهم " وليعلمن المنافقين " فيه تهديد للمنافقين مما هو معلوم من حالهم التي يستترون بها ويتوهمون انهم نجوا من ضررها، باخفائها، وهي ظاهرة عند من يملك الجزاء عليها، وتلك الفضيحة العظمى بها.

ثم حكى تعالى أن الذين كفروا نعم الله وجحدوها يقولون للذين آمنوا بتوحيده وصدق انبيائه " اتبعوا سبيلنا ولنحمل " نحن " خطاياكم " أي نحمل ما تستحقون عليها من العقاب يوم القيامة عنكم هزؤا بهم واشعارا بأن هذا لا حقيقة له، فالمأمور بهذا الكلام هو المتكلم به أمر نفسه في مخرج اللفظ ومعناه يضمن إلزام النفس هذا المعنى، كما يلزم بالامر، قال الشاعر:

فقلت ادعي وادع فان اندى * لصوت أن ينادي داعيان(1)

معناه ولادع.

وفيه معنى الجزاء وتقديره ان تتبعوا ديننا حملنا خطاياكم.

ثم نفى تعالى أن يكونوا هم الحاملين لخطاياهم من شئ، وانهم يكذبون في هذا القول، لان الله تعالى لا يؤاخذ أحدا بذنب غيره، فلا يصح إذا أن يتحمل احد ذنب غيره، كما قال تعالى " ولا تزر وازرة وزر أخرى.

وأن ليس للانسان إلا ما سعى "(2) وليس ذلك بمنزلة تحمل الدية عن غيره، ولان الفرض في الدية أداء المال عن نفس المقتول، فلا فضل بين ان يؤديه زيد عن نفسه، وبين ان يؤديه عمرو عنه، لانه بمنزلة قضاء الدين.

___________________________________

(1) شرح الفية بن مالك 267 وتفسير القرطبي 13 / 334.

(2) سورة 6 الانعام آية 164 وسورة 17 الاسرى آية 15 وسورة 35 فاطر آية 18 وسورة 39 الزمر آية 7 وسورة 53 النجم آية 39

[192]

وقوله " وليحملن اثقالهم واثقالا مع اثقالهم " معناه انهم يحملون خطاياهم في أنفسهم التي لا يعملونها بغيرهم، ويحلون الخطايا التي ظلموا بها غيرهم، فحسن لذلك فيه التفصيل الذي ذكره الله.

وقوله " وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون " أى يعملون. ومعناه إنهم يسألون سؤال تعنيف وتوبيخ وتبكيت وتقريع، لا سؤال استعلام كسؤال التعجيز في الجدل، كقولك للوثني ما الدليل على جواز عبادة الاوثان، وكما قال تعالى " هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين "(1).

ثم اخبر تعالى انه أرسل نوحا إلى قومه يدعوهم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له، وانه مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، فلم يجيبوه، وكفروا به " فأخذهم الطوفان " جزاء على كفرهم، فأهلكهم الله تعالى " وهم ظالمون " لنفوسهم بما فعلوه من عصيان الله تعالى والاشراك به، والطوفان الماء الكثير الغامر، لانه يطوف بكثرته في نواحي الارض قال الراجز: افناهم طوفان موت جارف(2) شبه الموت في كثرته بالطوفان.

ثم اخبر تعالى انه أنجى نوحا والذين ركبوا معه السفينه من المؤمنين به، وجعل السفينة آية أي علامة للخلائق يعتبرون بها إلى يوم القيامة، لانها فرقت بين المؤمنين والكفار والعاصين والاخيار، فهي دلالة للخلق على صدق نوح وكفر قومه.

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 111 وسورة 27 النمل آية 64(2) تفسير القرطبي 13 / 534

[193]

قوله تعالى: (وإبرهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون(16) إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون(17) وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين(18) أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير(19) قل سيروا في الارض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شئ قدير(20))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ اهل الكوفة إلا عاصما " أو لم تروا " بالتاء. الباقون بالياء.

وقرأ ابن كثير وابوعمرو " النشاء‌ة " بفتح الشين ممدودة - هنا - وفي النجم، والواقعة. الباقون - بسكون الشين مقصورا - ومن قرأ بالتاء، فعلى الخطاب تقديره: قل لهم يا محمد " أو لم تروا " حين انكروا البعث والنشور " أو لم تروا كيف يبدئ الله الخلق " أي إذا انكرتم الاعادة كان الابتداء أولى بالنكرة.

وحيث أقروا بان الله خالقهم ابتداء فيلزمهم أن يقروا بالاعادة ثانيا. ومن قرأ بالياء، فعلى الاخبار عنهم " ويبدئ " فيه لغتان اتى بهما القرآن بدأ الله الخلق، وأبدأهم، قال الله تعالى " وهو الذي يبدؤ الخلق ثم يعيده " فمصدر أبدأ يبدؤ إبداء‌ا، فهو مبدئ. ومن قرأ (بدأ) يبدؤ

[194]

بدء‌ا، فهو بادئ، وذاك مبدوء، ويقال: رجع عوده على بدئه بالهمز، وبدا يبدو، بغير همز: ظهر.

وقال ابوعمرو (غلام تغلب): يجوز رجع عوده على بده - بغيره همز - بمعنى الظهور كقولهم: ما عدا مما بدا. والنشاء‌ة والنشأة بالمد والقصر، لغتان.

كقولهم: رأفة ورآفة، وكأبة وكآبة وهما مصدران. فالنشأة المرة الواحدة، يقال: نشأ الغلام، فهو ناشى، وامرأة ناشئة، والجمع نواشئ، ويقال للجواري الصغار نشأ قال نصيب:

ولولا ان يقال صبا نصيب * لقلت بنفسي النشأ الصغار(1)

وانشأهم الله إنشاء، فهو منشئ، ونشت - بغير همز - ريحا طيبة، ورجل نشوان من الشراب. ورجل نشيان للخير إذا كان يتخير الخير، حكاه تغلب.

قوله " وابراهيم إذ قال " يحتمل نصبه أمرين: احدهما - ان يكون عطفا على قوله " وارسلنا نوحا إلى قومه " وتقديره وأرسلنا إبراهيم أيضا. الثاني - بتقدير واذكر " ابراهيم " حين " قال لقومه أعبدوا الله " وحده لا شريك له، واتقوا عقابه باتقاء معاصيه " ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون " ما هو خير لكم مما هو شر لكم.

وقوله " انما تعبدون من دون الله اوثانا " حكاية عما قال ابراهيم لقومه كأنه قال لهم ليس تعبدون من دون الله إلا اوثانا، وهو جمع وثن، وهو ما يعبد من دون الله. وقيل: ما يعمل من حجر وطين يسمى وثنا.

و (ما) في قوله " إنما " كافة، وليست بمعنى الذي، لانها لو كانت بمعنى الذي، لكان (اوثان) رفعا.

___________________________________

(1) مر تخريجه في 4 / 304

[195]

وقوله " وتخلقون إفكا " أي تعملون أصناما، وسماها إفكا لادعائهم انها آلهة - وهو قول قتادة، والجبائي - وقال ابن عباس: وتصنعون كذبا، وتحقيقه يصنعون على ما يقدرون، ثم قال لهم ابراهيم أيضا * (إن الذين تعبدون من دون الله) * يعني الاصنام * (لا يملكون لكم رزقا) * أي لا يقدرون على أن يرزقوكم، وإنما يبتغى الرزق من القادر على المنع، وهو الله الرازق. والملك قدرة القادر على ماله أن يتصرف فيه أتم التصرف، وليس ذلك إلا لله - عز وجل - على الحقيقة لان له التصرف والقدرة على جميع الاشياء بلا مانع، والانسان إنما يملك ما يملكه الله، ويأذن له في التصرف فيه. فأصل الملك لجميع الاشياء لله. ومن لا يملك أن يرزق غيره لا يستحق العبادة، لان العبادة تجب بأعلى مراتب النعمة. والاصنام لا تقدر على ذلك، فاذا لا يحسن عبادتها.

ثم قال لهم * (وابتغوا عند الله الرزق) * أي اطلبوا الرزق من عند الله دون من سواه * (واعبدوه) * على ما انعم به عليكم من أصول النعم، وأعلى مراتب الفضل * (واشكروا له) * ايضا، لانكم اليه ترجعون يوم القيامة فيجازيكم على قدر اعمالكم. فمن عبده وشكره جازاه بالثواب. ومن عبد غيره وكفر نعمه جازاه بالعقاب. ويقال: شكرته وشكرت له يؤكد باللام. فمعنى الشكر له اختصاصه بنفسه من غير احتمال لغيره.

ثم قال * (وإن تكذبوا) * بما اخبركم به من عند الله، وما أدعوكم اليه من اخلاص عبادته * (فقد كذب أمم من قبلكم) * انبياء‌هم الذين بعثوا فيهم وليس * (على الرسول إلا البلاغ المبين) * يعني الا أن يوصل اليهم ويؤدي اليهم ما أمر به لكونه بيانا ظاهرا يمكنهم معرفته وفهمه، وليس عليه حملهم على الايمان.

ثم قال * (او لم يروا كيف يبدؤا الله الخلق) * اي ألم يفكروا فيعلموا كيف

[196]

اخترع الله الخلق من العدم * (ثم يعيده) * ثانيا اذا اعدمهم بعد وجودهم. قال قتادة: معنى * (ثم يعيده) * بالبعث بعد الموت. وقيل ينشئه بالاحياء * (ثم يعيده " بالرد إلى حال الموت. والاول أصح * (ان ذلك على الله يسير) * غير متعذر، لان من قدر على الاختراع والانشاء أولا كان على الاعادة اقدر. ومعنى (يسير) لا تعب عليه فيه ولا نصب، وكل فعل كان كذلك، فهو سهل يسير. والاحتجاج في ذلك أن من قدر على ذلك قادر على ارسال الرسول إلى العباد.

ثم قال لنبيه محمد صلى الله عليه واله * (قل) * لهؤلاء الكفار * (سيروا في الارض فانظروا كيف بدأ الله الخلق) * وفكروا في آثار من كان قبلكم، وإلى اي شئ صار امرهم لتعتبروا بذلك فيما يؤديكم إلى العلم بربكم.

وقوله * (ثم الله ينشئ النشأة الآخرة) * فالنشأة الآخرة اعادة الخلق كرة ثانية من غير سبب كما كان اول مرة، لان معنى الانشاء الايجاد من غير سبب * (ان الله على كل شئ قدير) * اخبار منه تعالى انه قادر على كل شئ يصح ان يكون مقدورا له.

[197]

قوله تعالى: (يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون(21) وما أنتم بمعجزين في الارض ولا في السماء ومالكم من دون الله من ولي ولا نصير(22) والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم(23) فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجيه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون(24) وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحيوة الدنيا ثم يوم القيمة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأويكم النار ومالكم من ناصرين(25))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ ابن كثير وابوعمرو، والكسائي " مودة بينكم " بالرفع والاضافة.

وقرأ نافع وابوبكر عن عاصم وابن عامر " مودة بينكم " منونا منصوبا.

وروى الاعشى عن أبي بكر برفع " مودة " و " بينكم " نصب، وقرأ حفص عن عاصم وحمزة " مودة بينكم " نصبا غير منون مضاف. من رفع يحتمل وجهين احدهما - ان يجعل " انما " كلمتين يجعل (ما) بمعنى الذي، وهو اسم (ان) و (مودة) خبره، ومفعول اتخذتم (هاء) محذوفة، وتقديره: إن الذي اتخذتموه مودة بينكم، كما قال الشاعر:

ذريني إنما خطائي وصوا * بي علي وانما اهلكت مالي

يريد ان الذي أهلكته مالي.

الثاني - ان يرفعها بالابتداء، " وفى الحياة الدنيا " خبرها.

ومن نصب جعل (المودة) مفعول (اتخذتم). ومن أضاف جعل البين الوصل.

[198]

ومن لم ينون ولم يضف جعل (البين) ظرفا. وهو الفراق ايضا.

يقال: بينهما بين بعيد، وبون بعيد، وجلس زيد بيننا، وبينا بالادغام، ذكره ابن زيد عن ابن حاتم عنا الاصمعي، يقال: بان زيد عمرا: إذا فارقه يبونه بونا قال الشاعر:

كأن عيني وقد بانوني * غربا نصوح غير محنوني

وقرأ ابي " اثما مودة بينكم ".

اخبر الله تعالى انه " يعذب من يشاء " من عباده اذا استحقوا العقاب * (ويرحم من يشاء) * منهم فيعفو عنهم بالتوبة وغير التوبة * (واليه تقلبون) * معاشر الخلق أي اليه تحشرون وترجعون يوم القيامة. والقلب الرجوع والرد، فتقلبون أي تردون إلى حال الحياة في الآخرة بحيث لا يملك الضر والنفع فيه إلا الله. والقلب نفي حال بحال يخالفها.

ثم قال: ولستم بمعجزين في الارض أي بفائتين، فالمعجز الفائت بما يعجز القادر عن لحاقه.

ولهذا فسروا * (وما أنتم بمعجزين) * أي بفائتين، والمعنى لا تغتروا بطول الامهال * (في الارض ولا في السماء) * اي لستم تفوتونه في الارض، ولا في السماء لو كنتم فيها، فانه قادر عليكم حيث كنتم.

وقيل في ذلك قولان: احدهما - لا يفوتونه هربا في الارض، ولا في السماء. الثاني - ولا من في السماء بمعجزين، كما قال حسان:

أمن يهجوا رسول الله منكم * ويمدحه وينصره سواء(1)

وتقديره ومن يمدحه وينصره سواء أم لا يتساوون؟ ! وقوله * (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير) * أي وليس لكم ولي ولا ناصر من دون الله يدفع عنكم عقاب الله إذا أراد بكم، فالولي هو الذي

___________________________________

(1) مر تخريجه في 1 / 410

[199]

يتولى المعونة بنفسه، والنصير قد يدفع المكروه عن غيره تارة بنفسه وتارة بان يأمر بذلك.

ثم قال تعالى * (والذين كفروا بآيات الله) * اي جحدوا أدلة الله ولقاء ثوابه وعقابه يوم القيامة * (أولئك يئسوا من رحمتي) * اخبار عن اياسهم من رحمة الله، لعلمهم انها لا تقع بهم ذلك اليوم * (وأولئك لهم عذاب اليم) * اي مؤلم. وفى ذلك دلالة على ان المؤمن بالله واليوم الآخر لا يجوز ان ييأس من رحمة الله.

ثم قال * (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه او حرقوه) * وفى ذلك دلالة على ان جميع ما تقدم حكاية ما قال ابراهيم لقومه، وانهم لما عجزوا عن جوابه بحجة عدلوا إلى ان قالوا اقتلوه او حرقوه وفى الكلام حذف، وتقديره: إنهم اوقدوا نارا وطرحوه فيها * (فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآية) * واضحة وحجة بينة * (لقوم يؤمنون) * بصحة ما اخبرناك به من توحيد الله واخلاص عبادته.

ثم عاد إلى حكاية قول ابراهيم وانه قال لهم * (إنما اتخذتم من دون الله اوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا. ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا) * قال قتادة: كل خلة تنقلب يوم القيامة عداوة إلا خلة المتقين كما قال * (الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو الا المتقين) *(1) ومعنى الآية ان ابراهيم قال لقومه: انما اتخذتم هذه الاوثان آلهة من دون الله لتتوادوا بها في الحياة الدنيا، ثم يوم القيامة يتبرؤ بعضكم من بعض ويلعن بعضكم بعضا، ومستقركم النار، ومالكم من ينصركم بدفع عذاب الله عنكم.

___________________________________

(1) سورة 43 الزخرف آية 67

[200]

ثم قال لهم " ومأواكم النار " أي مستقركم و " ما لكم من ناصرين " يدفعون بالقهر والغلبة.

وروى عبدالله بن احمد بن حنبل عن أبيه في كتاب التفسير أن جميع الدواب والهوام كانت تطفي عن ابراهيم النار إلا الوزغ فانها كانت تنفخ النار، فامر بقتلها.

وروى أيضا انه لم ينتفع احد يوم طرح ابراهيم في النار بالنار في جميع الدنيا.

قوله تعالى: (فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم(26) ووهبنا له إسحق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الاخرة لمن الصالحين(27) ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين(28) أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين(29) قال رب انصرني على القوم المفسدين(30))

خمس آيات بلا خلاف.

ست آيات حجازي وخمس في ما عداه عدوا " السبيل " آية ولم يعدها الباقون. قرأ اهل الحجاز وابن عامر وحفص ويعقوب " إنكم لتأتون الفاحشة " بهمزة واحدة على الخبر. وقرأه اهل الكوفة. إلا حفصا بهمزتين مخففتين على الاستفهام.

[201]

وقرأ ابوعمرو كذلك إلا انه بلين الثانية، ويفصل بينهما بألف، وأما " انكم لتأتون الرجال " فانهم على اصولهم.

حكى الله سبحانه ان ابراهيم لما دعا قومه إلى اخلاص عبادة الله وترك عبادة الاوثان، وقبح فعلهم في ذلك أنه صدق به لوط عليه السلام وآمن به. وكان ابن اخته، فابراهيم خاله وهو قول ابن عباس وابن زيد والضحاك وجميع المفسرين.

وقال لوط " اني مهاجر إلى ربي " معناه اي خارج من جملة الظالمين على جهة الهجر لهم لقبح أفعالهم إلى حيث أمرني ربي، ومن هذا هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة وإلى أرض الحبشة، لانهم هجروا ديارهم وأوطانهم لاذى المشركين لهم فأمروا بأن يخرجوا عنها.

وقيل: هاجر ابراهيم ولوط من كوثى، وهي من سواد الكوفة إلى أرض الشام في قول قتادة.

وقال " إنه هو العزيز الحكيم " الذي لا تضيع الطاعة عنده، العزيز الذي لا يذل من نصره.

ثم قال " ووهبنا له " يعني لابراهيم " إسحاق ويعقوب، وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب " قيل: إنما لم يذكر اسماعيل مع انه نبي معظم، لانه قد دل عليه بقوله " وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب " فترك ذكر اسمه لانه يكفي فيه الدلالة عليه لشهرته وعظم شأنه، وذكر ولد ولده في سياقه ذكر ولده، لانه يحسن اضافته اليه، لانه الاب الاكبر له.

وقوله " وآتيناه أجره في الدنيا " قال ابن عباس: الاجر في الدنيا الثناء الحسن، والولد الصالح، وقال الجبائي: هو ما أمر الله به المكلفين من تعظيم الانبياء.

قال البلخي: وذلك يدل على انه يجوز أن يثيب الله في دار التكليف ببعض الثواب. و (الكتاب) أريد به الكتب، من التوراة والانجيل والزبور والقرآن، غير انه خرج مخرج الجنس. " وإنه في الآخرة لمن الصالحين "

[202]

اخبار منه تعالى أن ابراهيم مع انه آتاه أجره وثوابه في الدنيا إنه في الآخرة يحشره الله من جملة الصالحين العظيمي الاقدار، لما قاموا به من النبوة على ما أمر الله به، وقوله " ولوطا إذ قال لقومه " يحتمل نصبه أيضا بشيئين: احدهما - و (أرسلنا لوطا) عطفا على (نوحا وابراهيم). والثاني - بتقدير واذكر لوطا حين قال لقومه " انكم لتأتون الفاحشة " من قرأ بلفظ الاستفهام أراد به الانكار دون الاستعلام.

ومن قرأ على الخبر أراد إن لوطا أخبرهم بذلك منكرا لفعلهم لا مفيدا لهم، لانهم كانوا يعلمون ما فعلوه. والفاحشة - ههنا - ما كانوا يفعلونه من اتيان الذكران في أدبارهم " ما سبقكم بها " بهذه الفاحشة أحد من الخلائق. ثم فسر ما أراد بالفاحشة فقال " انكم لتأتون الرجال " يعني في أدبارهم، والفاحش الشنيع في القبح، فحش فلان يفحش فحشا وتفاحش تفاحشا إذا شنع في قبحه، وهو ظهوره بما تقتضي العقول بالبديهه رده وانكاره.

وقوله " وتقطعون السبيل " قيل: انهم كانوا يقطعون الطريق لاخذ الاموال، وقيل: يقطعون سبيل الولد باتيان الذكران في الادبار، وقيل: بالعمل الخبيث، لانهم كانوا يطلبون الغرباء " وتأتون في ناديكم المنكر " قال ابن عباس: كانوا يضرطون في مجالسهم، وقال السدي: كانوا يحذفون من مر بهم.

وقال مجاهد: كانوا يأتون الرجال في مجالسهم.

وقال الكلبي: منها الحذف، والصفير، ومضغ العلك، والرمي بالبندق، وحل ازرار القبا والقميص. وهي ثماني عشرة خصلة. وقال غيره: هي عشرة خصال.

وقوله " فما كان جواب قومه إلا ان قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت

[203]

من الصادقين " حكاية عما قال قوم لوط في جوابه حين عجزوا عن مقاومته بالحجة وانهم قالوا له " ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين " في دعواك النبوة وأن الله أرسلك وأمرك بما تدعو اليه، فقال عند ذلك لوط " رب انصرني على القوم المفسدين " الذين فعلوا المعاصي وارتكبوا القبائح وأفسدوا في الارض والمعنى اكفني شرهم وأذاهم، ويجوز أن يريد اهلكهم، وانزل عذابك عليهم.

قوله تعالى: (ولما جاء‌ت رسلنا إبرهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين(31) قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين(32) ولما أن جاء‌ت رسلنا لوطا سئ بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين(33) إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون(34) ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون(35))

خمس آيات

قرأ حمزة والكسائي وخلف ويعقوب " لننجينه " بالتخفيف. الباقون بالتثقيل.

وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وخلف وابوبكر ويعقوب " منجوك " غير متحرك بالتخفيف. الباقون بالتشديد وقرأ ابن عامر والكسائى

[204]

عن ابي بكر * (منزلون) * بالتشديد. الباقون بالتخفيف.

من قرأ " لننجينه " بالتشديد وبتحريك النون، فلقوله * (ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون) *(1) ولقوله * (إلا آل لوط نجيناهم بسحر) *(2) ومن خفف فلقوله * (فأنجاه الله من النار) *(3) يقال: نجا زيد وأنجيته ونجيته، مثل فرح وفرحته وأفرحته.

ومن قرأ * (منزلون) * بالتشديد، فلان أصله نزل، كما قال * (نزل به الروح الامين) *(4). فاذا عديته ثقلته إما بالهمزة او بالتضعيف والتضعيف يدل على التكرار.

وقوله * (انا منجوك وأهلك) * نصب * (أهلك) * على انه مفعول به عطفا على موضع الكاف، وقوله * (قوا أنفسكم وأهليكم) *(5) انما كسر اللام وموضعها النصب، لان العرب تقول: رأيت أهلك يريدون جميع القرابات.

ومنهم من يقول: أهليك، ويجمع اهل على أهلين، فاذا أضافه ذهبت النون للاضافة، فالياء علامة الجمع والنصب، وكسرت اللام لمجاورتها الياء.

وفي الحديث (ان لله أهلين) قيل: من هم يا رسول الله؟ قال (اهل القرآن هم اهل الله وخاصته) ومن العرب من يجمع (أهلا) أهلات انشد ابن مجاهد:

فهم اهلات حول قيس بن عاصم * إذا ادلجوا بالليل يدعون كوثوا

قال ابن خالويه: الصواب أن يجعل اهلات جمع اهلة.

قال: فان قيل: هل يجوز أن تقول أهلون؟ - بفتح الهاء - كما يقولون: أرضون إذ كان الاصل ارضات، قال: إن (أهلا) مدكر تصغيره أهيل، وارضا مؤنثة تصغيرها

___________________________________

(1) سورة 41 حم السجدة (فصلت) آية 18.

(2) سورة 54 القمر آية 34.

(3) سورة 29 العنكبوت آية 24.

(4) سورة 26 الشعراء آية 193.

(5) سورة 66 التحريم آية 6

[205]

أريضة، والتاء سابقة في المؤنث ممتنعة في المذكر، فهذا يفصل ما بينهما، قال وما علمت احدا تكلم فيه. اخبر الله تعالى انه لما جاء ابراهيم رسل الله، وهم من الملائكة بالبشرى يبشرونه باسحاق ومن وراء اسحاق يعقوب، والبشرى البيان، وهو الخبر بما يظهر سروره في بشرة الوجه.

وقيل: للاخبار بما يظهر سروره او غمه في البشرة: بشرى، ويقوي ذلك قوله * (فبشرهم بعذاب اليم) *(1) غير انه غلب عليه البشارة بما يسر به.

وقوله * (قالوا إنا مهلكوا اهل هذه القرية) * حكاية ما قالت الملائكة لابراهيم فانهم قالوا له: بعثنا الله وارسلنا لاهلاك هذه القرية التي فيها قوم لوط. والاهلاك الاذهاب بالشئ إلى مالا يقع به احساس، فلما كانوا بالعذاب قد اذهبوا هذا الاذهاب كانوا قد اهلكوا، والقرية البلدة التي يجتمع اليها للايواء من جهات مختلفة، وهي من قريت الماء في الحوض أقريه قريا. إذا جمعته. ومنه قرى الضيف لانك تجمعه اليك بما تعده له من طعام. و (الظالم) من فعل الظلم وهو صفة ذم.

فقال لهم ابراهيم عند ذلك * (إن فيها لوطا) * كيف تهلكونها، فقالوا في جوابه * (نحن أعلم بمن فيها) * والاعلم الاكثر معلوما، فاذا كان الشئ معلوما لعالم من جهات مختلفة ولعالم آخر من بعض تلك الوجوه دون بعض كان ذلك اعلم. ثم قالوا * (لننجينه) * أي لنخلصنه من العذاب * (وأهله) * أي ونخلص أيضا اهله المؤمنين منهم * (إلا امرأنه كانت من الغابرين) * أي من الباقين

___________________________________

(1) سورة 3 آل عمران آية 21 وسورة 9 التوبة آية 35 وسورة 84 الانشقاق آية 24

[206]

في العذاب، قال المبرد: و (أهلك) عطف على المعنى، لان موضع الكاف الخفض، ولا يجوز العطف على المضمر المخفوض على اللفظ، ومثل ذلك قول لبيد:

فان لم تجد من دون عدنان والدا * ودون معد فلترعك العواذل(1)

فنصب (ودون) على الموضع.

ثم حكى تعالى أن رسل الله لما جاء‌ت * (لوطا سئ بهم) * وقيل في معناه قولان: احدهما - سئ بالملائكة أي ساء مجيؤهم لما طلبوا منه الضيافة لما يعلم من خبث فعل قومه - في قول قتادة -. الثاني - سئ بقومه ذرعا أي ضاق بهم ذرعا، لما علم من عظم البلاء النازل بهم، فلما رأته الملائكة على تلك الصفة * (قالوا) * له * (لا تخف ولا تحزن انا منجوك) * اي مخلصوك ومخلصوا * (اهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين) * اي من الباقين في العذاب.

وانما قال * (من الغابرين) * على جمع المذكر تغليبا للمذكر على المؤنث إذا اجتمعا.

وقيل: كانت من الباقين لانه طال عمرها، ذكره ابوعبيدة، وقالوا له * (إنا منزلون على اهل هذه القرية رجزا) * اي عذابا رجزا * (بما كانوا يفسقون) * ويخرجون من طاعة الله إلى معصيته. ثم اخبر تعالى فقال * (ولقد تركنا منها) * يعني من القرية انه بينه، قال قتادة الآية البينة الحجارة التي أمطرت عليهم.

وقال غيره عفو آثارهم مع ظهور هلاكهم * (لقوم يعقلون) * ذلك ويبصرونه ويتفكرون فيه ويتعظون به، فيزجرهم ذلك عن الكفر بالله واتخاذ شريك معه في العبادة.

___________________________________

(1) الكتاب لسيبويه 1 / 34

[207]

قوله تعالى: (وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الارض مفسدين(36) فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين(37) وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين(38) وقارون وفرعون وهامان ولقد جاء‌هم موسى بالبينات فاستكبروا في الارض وما كانوا سابقين(39) فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الارض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون(40))

خمس آيات بلا خلاف.

قوله " وإلى مدين أخاهم شعيبا " عطف على قوله " ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه " وتقديره وأرسلنا إلى مدين، وقد فسرنا معنى (مدين) فيما تقدم(1) " أخاهم شعيبا " وانه قال لهم " يا قوم اعبدوا الله " وحده لا شريك له ولا تشركوا معه في العبادة غيره " وارجوا اليوم الآخر " يحتمل أن

___________________________________

(1) انظر 6 / 47

[208]

يكون أراد وخافوا عقاب اليوم الآخرة بمعاصي الله، ويحتمل ان يكون أراد واطلبوا ثواب يوم القيامة بفعل الطاعات " ولا تعثوا في الارض مفسدين " معناه لا تضطربوا بحال الجهالة يقال: عثى يعثي عثى، كقولهم عاث يعيث عيثا وفيه معنى الامر بالاستقامة، لانه إنما يخرج عن اضطراب الجهال إلى الاستقامة، في الافعال.

والفساد كل فعل ينافي العقل أو الشرع، فهو عبارة عن معاصي الله.

ثم اخبر أن قومه كذبوه في ادعائه النبوة ولم يقبلوا منه فعاقبهم الله بعذاب الرجفة، وهي زعزعة الارض تحت القدم، يقال: رجف السطح من تحت أهله يرجف رجفا، ورجفة شديدة، والارجاف هو الاخبار بما يضطرب الناس لاجله من غير أن يحققونه " فأصبحوا في دارهم جاثمين " قال قتادة: ميتين بعضهم على بعض.

وقيل: باركين على ركبهم، والجاثم البارك على ركبتيه مستقبلا بوجهه الارض.

وقوله " وعادا وثمود " أي وأهلكنا أيضا عادا وثمود جزاء على كفرهم " وقد تبين لكم " معاشر الناس كثير " من مساكنهم ".

ثم اخبر أنه " زين لهم الشيطان اعمالهم " التي كفروا بها وعصوا الله فيها، وذلك يدل على بطلان قول المجبرة الذين ينسبون ذلك إلى الله. ثم اخبر أن الشيطان صدهم ومنعهم عن طريق الحق " فهم لا يهتدون " اليه لاتباعهم دعاء الشيطان. وعدولهم عن الطريق الواضح " وكانوا مستبصرين " أي وكانوا عقلاء يمكنهم تمييز الحق من الباط بابصارهم له وفكرهم فيه.

وقال مجاهد وقتادة " وكانوا مستبصرين " في ضلالتهم لعجبهم به، فتصوروه بخلاف صورته.

[209]

ثم اخبر انه تعالى أهلك قارون، وفرعون، وهامان. ويجوز أن يكون عطفا على (الهاء والميم) في قوله " فصدهم عن السبيل " وكأنه قال فصد عادا وثمود، وصد قارون وفرعون وهامان. وأنهم " جاء‌هم موسى بالبينات " يعني بالحجج الواضحات: من فلق البحر وقلب العصا وغير ذلك " فاستكبروا في الارض " أي طلبوا التجبر فيها، ولم ينقادوا للحق وأنفوا من اتباع موسى " وما كانوا سابقين " أي فائتين لله، كما يفوت السابق.

ثم اخبر تعالى فقال " فكلا أخذنا بذنبه " أي اخذنا كلا بذنبه " فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا " وهو الريح العاصفة التي فيها حصباء وهي الحصى الصغار، وشبه به البرد والجليد، قال الاخطل:

ولقد علمت إذا العشار تروحت * هدج الرئال تكبهن شمالا

ترمي الرياح بحاصب من ثلجها * حتى تبيت على العضاة جفالا(1)

وقال الفرزدق:

مستقبلين شمال الشام يضربنا * بحاصب كنديف القطن منثور(2)

والذين أرسل عليهم الحاصب قوم لوط - في قول ابن عباس، وقتادة - والذين أخذتهم الصيحة ثمود وقوم شعيب - في قولهما - " ومنهم من خسفنا به الارض " يعني قارون، " ومنهم من أغرقنا " يعني قوم نوم وفرعون.

ثم اخبر تعالى أنه لم يظلمهم بما فعل معهم " ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " بجحدهم نعم الله واتخاذهم مع الله آلهة عبدوها، وطغيانهم وفسادهم في الارض. وذلك يدل على فساد قول المجبرة الذين قالوا: إن الظلم من فعل الله، لانه

___________________________________

(1) مر تخريجه في 7 / 8.

(2) مر تخريجه في 6 / 502.

[210]

لو كان من فعله لما كانوا هم الظالمين لنفوسهم، بل كان الظالم لهم من فعل فيهم الظلم

قوله تعالى: (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون(41) إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شئ وهو العزيز الحكيم(42) وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون(43) خلق الله السموات والارض بالحق إن في ذلك لاية للمؤمنين(44) أتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلوة إن الصلوة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون(45))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ ابوعمرو ويعقوب وعاصم - في رواية حفص - والعليمي، والعبسي " ان الله يعلم ما يدعون من دونه " بالياء على الخبر عن الغائب. الباقون بالتاء على الخطاب.

قال ابوعلي: (ما) استفهام وموضعها النصب ب‍ (يدعون) ولا يجوز أن يكون نصبا ب‍ (يعلم) ولكن صارت الجملة التي هي منها في موضع نصب، وتقديره إن الله يعلم أوثانا يدعون من دونه، لا يخفى عليه ذلك. ومثله " فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار "(1) والمعنى سيعلمون آلمسلم

___________________________________

(1) سورة 6 الانعام آية 135

[211]

يكن له عقابة الدار أم الكافر؟. وكل ما كان من هذا فهكذا القول فيه، وهو قياس قول الخليل. شبه الله سبحانه حال من اتخذ من دونه أولياء ينصرونه عند الحاجة في الوهن والضعف بحال العنكبوت الذي يتخذ بيتا ليأوى اليه، فكما أن بيت العنكبوت في غاية الوهن والضعف، فكذلك حال من اتخذ من دون الله أولياء مثله في الضعف والوهن. والمثل قول سائر يشبه به حال الثاني بالاول.

و (الاتخاذ) أخذ الشئ على اعداده لنائبة، وهو (افتعال) من (الاخذ) فلما اخذوا عبادة غير الله إعدادا لنائبة كانوا اتخذوا الاولياء من دون الله، وذلك فاسد لان عبادة الله هي العاصمة من المكاره دون عبادة الاوثان. والمولي هو المتولي للنصرة، وهو أبلغ من الناصر، لان الناصر قد يكون ناصرا بأن يأمر غيره بالنصرة، والولي هو الذي يتولى فعلها بنفسه. والعنكبوت هو دابة لطيفة تنسج بيتا تأويه، في غاية الوهن والضعف، ويجمع عناكب، ويصغر عنيكب ووزنه (فعللوت) وهو يذكر ويؤنث، قال الشاعر:

على هطأ لهم منهم بيوت * كأن العنكبوت هو ابتناها(1)

ويقال: هو العنكباء.

ثم اخبر تعالى " ان أوهن البيوت لبيت العنكبوت " الذي شبه الله حال من اتخذ من دونه أولياء به، فاذا حاله أضعف الاحوال.

وقوله " لو كانوا يعلمون " صحة ما أخبرناهم به ويتحققونه، لكنهم كفار بذلك، فلا يعلمونه ف‍ (لو) متعلقة بقوله " اتخذوا " أي لو علموا أن اتخاذهم الاولياء كاتخاذ العنكبوت بيتا سخيفا لم يتخذوهم أولياء، ولا يجوز أن تكون متعلقة بقوله " وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت " لانهم كانوا عالمين بأن بيت العنكبوت واه ضعيف.

___________________________________

(1) تفسير القرطبي 13 / 345

[212]

ثم قال تعالى " إن الله يعلم ما تدعون من دونه من شئ " سواء كان صنما او وثنا أو ما كان مثل ذلك " وهو العزيز " في انتقامه الذي لا يغالب في ما يريده " الحكيم " في جميع أحواله وأفعاله، واضع لها في مواضعها.

ثم قال " وتلك الامثال " وهي الاشباه والنظائر، قال الشاعر:

هل يذكر العهد في تنمص * إذ يضرب لي قاعدة بها مثلا(1)

" يضر بها للناس وما يعقلها إلا العالمون " أي ما يدركها إلا من كان عالما بمواقعها.

ثم اخبر تعالى انه " خلق السموات والارض " وأخرجهما من العدم إلى الوجود " بالحق " أي على وجه الحكمة دون العبث الذي لا فائدة فيه وانه قصد بها الدلالة على توحيده " إن في ذلك " يعني في خلق الله ذلك على ما ذكره " لآية للمؤمنين " المصدقين بتوحيد الله، لانهم المنتفعون بها دون الكفار الذين لم ينتفعوا بها لتفريطهم، فلذلك اسندها إلى المؤمنين ثم قال لنبيه صلى الله عليه واله " اتل ما أوحي اليك من الكتاب " يا محمد يعني القرآن - على المكلفين، واعمل بما تضمنه " وأقم الصلاة " بحدودها " ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر " يعني فعلها فيه لطف للمكلف في فعل الواجب والامتناع عن القبيح، فهي بمنزلة الناهي بالقول إذا قال: لا تفعل الفحشاء ولا المنكر، وذلك لان فيها: التكبير، والتسبيح، والقراء‌ة، وصنوف العبادة، وكل ذلك يدعو إلى شكله ويصرف عن ضده، كالامر والنهي بالقول، وكل دليل مؤد إلى المعرفة بالحق، فهو داع اليه وصارف عن ضده من الباطل.

وقال ابن مسعود: الصلاة تنهى عن المنكر وتأمر بالمعروف. وبه

___________________________________

(1) مجاز القرآن 2 / 116

[213]

قال ابن عباس. وقال ابن مسعود: الصلاة لا تنفع إلا من أطاع.

وقوله " ولذكر الله اكبر " معناه ولذكر الله إياكم برحمته اكبر من ذكركم إياه بطاعته - ذكره ابن عباس، وسلمان، وابن مسعود، ومجاهد - وقيل: معناه ذكر العبد لربه أفضل من جميع عمله - في رواية أخرى - عن سلمان، وهو قول قتادة وابن زيد وابي الدرداء.

وقال ابومالك: معناه إن ذكر العبد لله تعالى في الصلاة أكبر من الصلاة.

وقيل: ذكر الله بتعظيمه اكبر من سائر طاعاته.

وقيل: ولذكر الله اكبر من النهي عن الفحشاء.

وقوله " والله يعلم ما تصنعون " من خير وشر، فيجازيكم بحسبه. وفي الآية دلالة على بطلان قول من قال: ان المعرفة ضرورة، ودلالة على بطلان قول المجبرة في أن الله خلق الكافر للضلال.

[214]

قوله تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون(46) وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون(47) وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون(48) بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون(49) وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين(50))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ ابوعمرو، وابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم وقتيبة عن الكسائي " لولا أنزل عليه آيات من ربه " على الجمع لقوله " قل إنما الآيات ". وقرأ الباقون " آية " على التوحيد. ومعناهما واحد، لانه لفظ جنس يدل على القليل والكثير.

قال قتادة: الآية الاولى منسوخة بالجهاد والقتال.

وقال غيره: هي ثابتة، وهو الاولى، لانه لا دليل على ما قاله.

فكيف وقد أمر بالجدال بالذي هو أحسن، وهو الواجب الذي لا يجوز غيره كما قال " وجادلهم بالتي هي احسن "(1) فالآية خطاب من الله تعالى لنبيه وجميع المؤمنين ينهاهم أن يجادلوا أهل الكتاب: من اليهود والنصارى " إلا بالتي هي أحسن " وقيل: معناه إلا بالجميل من القول في التنبيه على آيات الله وحججه والاحسن الاعلى في الحسن من جهة تقبل العقل له،.

وقد يكون الاعلى في الحسن من جهة تقبل الطبع له، وقد يكون في الامرين، و (الجدال) فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج فيه.

وفي ذلك دلالة على حسن المجادلة، لانها لو كانت قبيحة على كال حال، لما قال " إلا بالتي هي أحسن ".

وأصل الجدال شدة الفتل، يقال: جدلته أجدله جدلا إذا فتله فتلا شديدا، ومنه الاجدل: للصقر لشدة فتل بدنه.

وقيل: انه يجوز أن يغلظ

___________________________________

(1) سورة 16 النحل آية 125

[215]

المحق في الجدل على الظالم فيه، بتأديب الله تعالى في الآية في قوله " إلا الذين ظلموا منهم " فاستثنى الظالم عن المجادلة بالتي هي أحسن.

فان قيل: لم استثنى الذين ظلموا؟ وكلهم ظالم لنفسه بكفره ! قيل: لان المراد " إلا الذين ظلموا " في جدالهم أو في غيره مما يقتضي الاغلاظ لهم، ولهذا يسع الانسان ان يغلظ على غيره، والا فالداعي إلى الحق يجب أن يستعمل الرفق في أمره.

قال مجاهد: " إلا الذين ظلموا منهم " بمنع الجزية.

وقال ابن زيد: الذين ظلموا بالاقامة على كفرهم بعد إقامة الحجة عليهم.

ثم قال تعالى للمؤمنين " وقولوا آمنا بالذي انزل الينا " من القرآن " وانزل اليكم " من التوراة والانجيل، وقولوا " وإلهنا وإلهكم واحد " لا شريك له " ونحن له مسلمون " طائعون.

ثم قال لنبيه صلى الله عليه واله ومثل ما أنزلنا الكتاب على موسى وعيسى من التوراة والانجيل " انزلنا اليك الكتاب " القرآن " فالذين آتيناهم الكتاب " يعني الذين آتيناهم علم الكتاب يصدقون بالقرآن لدلالته عليه " ومن هؤلاء من يؤمن به " أى من غير جهة علم الكتاب.

وقيل " فالذين آتيناهم الكتاب " يعني به عبدالله بن سلام وأمثاله. و " من هؤلاء " يعني أهل مكة " من يؤمن به ".

ويحتمل ان يكون أراد ب‍ (الذين آتيناهم الكتاب) الذين آتاهم القرآن: المؤمنين منهم و (ومن هؤلاء) يعني من اليهود والنصارى " من يؤمن به " أيضا، والهاء في قوله (به) يجوز أن تكون راجعة إلى النبي، ويجوز أن تكون راجعة إلى القرآن " وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون " لان كل من جحد بآيات الله من المكلفين، فهو كافر: معاندا كان أو غير معاند.

ثم خاطب نبيه صلى الله عليه واله فقال " وما كنت تتلو من قبله من كتاب " يعني

[216]

لم تكن تحسن القراء‌ة قبل أن يوحى اليك بالقرآن " ولا تخطه بيمينك " معناه وما كنت أيضا تخط بيمينك. وفيه اختصار، وتقديره ولو كنت تتلو الكتاب وتخطه بيمينك " إذا لارتاب المبطلون " وقال المفسرون: إنه لم يكن النبي صلى الله عليه واله يحسن الكتابة.

والآية لا تدل على ذلك بل فيها إنه لم يكن يكتب الكتاب وقد لا يكتب الكتاب من يحسنه، كمالا يكتب من لا يحسنه، وليس ذلك بنهي، لانه لو كان نهيا لكان الاجود أن يكون مفتوحا، وإن جاز الضم على وجه الاتباع لضمة الخاء، كما يقال: (رده) بالضم والفتح والكسر، ولكان أيضا غير مطابق للاول. ولو أفاد أنه لم يكن يحسن الكتابة قبل الايحاء، لكان دليله يدل على انه كان يحسنها بعد الايحاء اليه، ليكون فرقا بين الحالتين.

ثم بين تعالى أنه لم يكتب، لانه لو كتب لشك المبطلون في القرآن وقالوا هو قرأ الكتب أو هو يصنفه، ويضم شيئا إلى شئ في حال بعد حال فاذا لم يحسن الكتابة لم تسبق اليه الظنة. ثم قال " بل هو آيات بينات في صدور الذين اوتوا العلم " وقيل: معناه بل هي آيات واضحات في صدور العلماء. بأنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، على صفته في التوراة والانجيل - في قول ابن عباس - وقال الحسن: بل القرآن آيات بينات في صدور العلماء.

ثم قال * (وما يجحد بآياتنا) * أي لا ينكر حججنا ويجحدها إلا الذين ظلموا نفوسهم بترك النظر فيها، أو العناد لها بعد طول المدة وحصول العلم بها. ثم حكى عن الكفار انهم قالوا: هلا انزل على محمد آية من ربه؟ يريدون آية يقترحونها، وآية كآية موسى: من فلق البحر وقلب العصا حية، فقال الله تعالى لهم * (قل) * لهم يا محمد * (انما الآيات عند الله) * ينزلها ويظهرها بحسب ما يعلم من مصالح خلقه * (وانما أنا نذير) * أي

[217]

منذر مخوف من معصية الله * (مبين) * طريق الحق من طريق الباطل.

قوله تعالى: (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون(51) قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السموات والارض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون(52) ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاء‌هم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون(53) يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين(54) يوم يغشيهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون(55))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ اهل الكوفة ونافع " يقول " بالياء على معنى: ويقول لهم الموكلون بعذابهم. الباقون - بالنون - على وجه الاخبار من الله تعالى عن نفسه. وفي قراء‌ة عبدالله ويقال لهم: على ما لم يسم فاعله. لما حكى الله تعالى عن الكفار أنهم قالوا: هلا أنزل على محمد آيات

[218]

اقترحوها او آيات كما أنزل على موسى وعيسى، قال الله لهم " أو لم يكفهم أنا انزلنا عليك " يا محمد " الكتاب " يعني القرآن " يتلى عليهم " فبين أن في القرآن دلالة واضحة وحجة بالغة ينزاح معه العلة وتقوم به الحجة لا يحتاج معه إلى غيره في الوصول إلى العلم بصحة نبوته وأنه مبعوث من عند الله، مع أن اظهار المعجزات مع كونها لازاحة العلة يراعى فيها المصلحة. فاذا كانت المصلحة في اظهار نوع منها لم يجز إظهار غيرها، ولو اظهر الله الاعلام التي اقترحوها ثم لم يؤمنوا، لاقتضت المصلحة استئصالهم كما اقتضت في الامم الماضية، وقد وعد الله أن هذه الامة لا تعذب بعذاب الاستئصال، كما قال " وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الاولون "(1).

والكفاية بلوغ حد ينافي الحاجة، يقال: كفى بكفي كفاية، فهو كاف. وقيل: إن الآية نزلت في قوم كتبوا شيئا من كتب أهل الكتاب شبه الخرافات، فقال الله تعالى * (أولم يكفهم) * القرآن تهديدا لهم ومنعا من التعرض لغيره.

وقولهم: كفى الله معناه أنه فعل ما ينافي الحاجة بالنصرة.

والتلاوة هي القراء‌ة وسميت تلاوة لانه يتلو حرف حرفا في التلاوة. والقرآن مشتق من جمع الحروف بعضها إلى بعض.

ثم بين الله تعالى * (إن في ذلك) * أي القرآن * (لرحمة) * أي نعمة * (وذكرى) * اي ما يتذكر به ومعتبر * (لقوم يؤمنون) * يصدقون به ويعتبرون وانما أضافه اليهم، لانهم الذين ينتفعون به. ثم أمر نبيه صلى الله عليه واله أن يقول * (كفى بالله) * أي كفى الله. والباء زائدة * (بيني وبينكم شهيدا) * يشهد بالحق. والشاهد والشهيد واحد، وفيه مبالغة، والشهادة هي الخبر بالشئ عن مشاهدة تقوم به الحجة في حكم من أحكام الشرع، ولذلك لم يكن خبر من لا تقوم به

___________________________________

(1) سورة 17 الاسرى آية 59

[219]

الحجة - في الزنا - شهادة وكان قذفا، ثم بين أن الشهيد الذي هو الله * (يعلم ما في السموات والارض) * ويعلم الذين صدقوا بالبالطل وجحدوا وحدانيته. ثم اخبر عنهم انهم الخاسرون الذين خسروا ثواب الجنة بارتكابهم المعاصي وجحدهم بالله، فكان ذلك الخسران الذي لا يوازيه خسران مال.

وقوله * (والذين آمنوا بالباطل) * انما وصفهم بالايمان مقيدا بالباطل، كما يقال: فلان كافر بالطاغوت مقيدا، وانما الاطلاق لا يجوز فيهما. ثم خاطب نبيه صلى الله عليه واله فقال * (ويستعجلونك بالعذاب) * يعني هؤلاء الكفار * (يستعجلونك بالعذاب) * أن ينزل عليهم بجحودهم صحة ما تدعوهم به، كما قالوا * (فأمطر علينا حجارة من السماء) *(1) و * (لو لا أجل مسمى) * يعني وقتا قدره الله أن يعاقبهم فيه وهو يوم القيامة وأجل قدره الله أن يبقيهم اليه لضرب من المصلحة.

وقال الجبائي: ذلك يدل على أن التبقية لا تجب لكونه أصلح، لانه علله بأنه قدر له أجلا * (لجاء‌هم العذاب) * الذي استحقوه * (وليأتينهم) * العذاب الذي يوعدونه * (بغتة) * أي فجأة * (وهم لا يشعرون) * بوقت مجيئه.

ثم قال * (يستعجلونك) * يا محمد * (بالعذاب) * أي يطلبون العذاب عاجلا قلة يقين منهم بصحته * (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) * أي كأنها محيطة بهم لما قد لزمهم بكفرهم من كونهم فيها. وقيل: معناه انه إذا كان يوم القيامة أحاطت بهم.

ووجه ثالث - أنها تحيط بهم * (يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت ارجلهم ونقول ذوقوا ما كنتم تعملون) * أي تكسبون أي ذوقوا جزاء اعمالكم المعاصي التي اكتسبتموها.

___________________________________

(1) سورة 8 الانفال آية 32

[220]

قوله تعالى: (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فأياي فاعبدون(56) كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون(57) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الانهار خالدين فيها نعم أجر العاملين(58) الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون(59) وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم(60))

خمس آيات بلا خلاف

قرأ يحيى والعليمي " ثم الينا يرجعون " بالياء على الخبر عن الغائب. الباقون بالتاء على الخطاب.

وقرأ اهل الكوفة إلا عاصما " لنثوينهم " بالثاء من أثويته منزلا أي جعلت له منزل مقام، والثواء المقام، الباقون بالباء من قولهم: بوأته منزلا، كما قال تعالى " مبوء صدق " في قوله " ولقد بوأنا بني اسرائيل مبوء صدق "(1) و " إذ بوأنا لابراهيم مكان البيت "(2) ويحتمل ان تكون اللام زائدة، كقوله * (ردف لكم بعض) *(3) ويحتمل ان يكون المراد * (بوأنا) * لدعاء إبراهيم * (مكان البيت) * ويقول القائل: اللهم بوئنا مبوء صدق أى انزلنا منزل صدق والتبوء اتخاذ منزل يرجع اليه من يأوى اليه، وأصله

___________________________________

(1) سورة 10 يونس آية 93.

(2) سورة 22 الحج آية 26.

(3) سورة 27 النمل آية 72

[221]

الرجوع من قوله * (باء‌وا بغضب من الله) *(1) أي رجعوا، ومنه قول الحارث ابن عباد: (بوئوا بشسع كليب) وقيل: معناه لننزلنهم من الجنة علالي. يقول الله تعالى لخلقه الذين صدقوا بوحدانيته وأقروا بنبوة نبيه * (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة) * لبعد أقطارها، فاهربوا من أرض من منعكم فيها من الايمان واخلاص عبادتي فيها.

وقيل: نزلت في مؤمني مكة أمروا بالهجرة عنها، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وابن زيد. وقيل * (أرضي واسعة) * بما أخرج فيها من الرزق لكم - ذكره مطرف بن عبدالله بن السخير العامري.

وقال الجبائي: معناه إن ارض الجنة واسعة، واكثر اهل التأويل على ان المراد به ارض الدنيا.

وقوله * (فاياي فاعبدون) * أي اعبدوني خالصا، ولا تطيعوا احدا من خلقي في معصيتي.

وقيل: دخول الفاء في الكلام للجزاء وتقديره إن ضاق موضع بكم فاياي فاعبدون لان أرضي واسعة. و (إياي) منصوب بمضمر يفسره ما بعده.

ثم اخبر تعالى ان * (كل نفس) * احياها الله بحياة خلقها فيها * (ذائقة الموت) * والذائق الواجد للجسم بحاسة إدراك الطعم * (ثم الينا ترجعون) * أي تردون إلينا فنجازيكم على قدر استحقاقكم من الثواب والعقاب. وفي ذلك غاية التهديد والزجر.

ثم قال * (والذين آمنوا) * أي صدقوا بوحدانية الله، وأقروا بنبوة نبيه صلى الله عليه واله * (وعملوا) * مع ذلك الاعمال * (الصالحات لنبوء‌نهم) * أي لننزلنهم * (من الجنة) * التي وعدها الله المتقين * (غرفا) * أي مواضع عاليات * (تجري من تحتها الانهار) * لان الغرف تعلو عليها.

وقيل: تجري من تحت أشجارها المياه.

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 61 وسورة 3 آل عمران آية 112

[222]

وقيل: انهار الجنة في أخاديد تحت الارض * (خالدين فيها) * أي يبقون فيها ببقاء الله.

ثم اخبر تعالى ان ذلك * (نعم أجر العاملين) * أي نعم الثواب والاجر للعاملين بطاعة الله * (الذين صبروا) * على الاذى في الله، وصبروا على مشاق الطاعات، ووكلوا أمورهم إلى الله وتوكلوا عليه في ارزاقهم وجهاد اعدائهم ومهمات أمورهم.

ثم قال تعالى " وكأين من دابة " معنى كاين (كم) وقد فسرناه في ما مضى(1) " لا تحمل رزقها " أي لا تدخره لغد - في قول علي بن الاقمر - وقال الحسن " لا تحمل رزقها " للادخار.

وقيل: ان الحيوان أجمع من البهائم والطير ونحوهما لا تدخر القوت لغدها - إلا ابن آدم والنملة والفارة - بل تأكل منه كفايتها فقط.

وقال مجاهد: معناه " لا تحمل رزقها " لا تطيق حمل رزقها لضعفها " الله يرزقها " يعني تلك الدابة الضعيفة التي لا تقدر على حمل رزقها " وإياكم " أي ويرزقكم أيضا " وهو السميع العليم " يعني " السميع " لما يقول القائل في فراق وطنه " العليم " بما في نفسه، لانه عالم بجميع الاشياء وقيل: الآية نزلت في أهل مكة: المؤمنين منهم، فانهم قالوا لرسول الله: ليس لنا بالمدينة اموال، ولا منازل، فمن أين المعاش، فأنزل الله الآية.

___________________________________

(1) انظر 3 / 10 و 6 / 202

[223]

قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السموات والارض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون(61) ألله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شئ عليم(62) ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الارض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون(63) وما هذه الحيوة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون(64) فاذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجيهم إلى البر إذا هم يشركون(65) ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون(66))

سبع آيات بصري وشامي، وست في ما عداه عدوا " مخلصين له الدين " ولم يعده الباقون.

قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وخلف، والمسيبي، والاعشى، والبرجمي والكسائي عن أبي بكر * (ليكفروا، وليتمتعوا) * ساكنة اللام. الباقون بالكسر إلا نافعا، لانه اختلف عنه فيه.

قال ابوعلي: من كسرها وجعلها الجارة جعلها متعلقة بالاشراك، وكأن المعنى: يشركون ليكفروا، أي لا فائدة لهم في الاشراك إلا الكفر والتمتع بما يتمتعون به عاجلا من غير نصيب آجلا. ومن سكن جعل * (ليكفروا) * بمنزلة الامر، وعطف عليه، وكان على وجه التهديد.

[224]

وقال غيره: تحتمل هذه اللام أن تكون (لام كي) أي كأنهم اشركوا ليكفروا إذ لا يدفع الشرك في العبادة من كفر النعمة. ويجوز أن يكون لام الامر على وجه التهديد بدلالة قوله * (فسوف تعلمون) *.

يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه واله ولئن سألت هؤلاء الكفار الذين جحدوا توحيدى وكفروا بنبوتك * (من خلق السموات والارض) * والمنشئ لها والمخرج لها من العدم إلى الوجود * (وسخر الشمس والقمر) * في دورانها على طريقه واحدة لا تختلف؟؟ * (ليقولن) * في جواب ذلك * (الله) * الفاعل لذلك لانهم كانوا يقولون بحدوث العالم. والنشأة الاولى، ويعترفون بأن الاصنام لا تقدر على ذلك.

ثم قال * (فأنى يؤفكون) * هؤلاء أي كيف يصرفون عن صانع ذلك والاخلاص لعبادته - في قول قتادة -.

ثم قال * (الله يبسط الرزق لمن يشاء) * أي يوسعه لمن يشاء من عباده بحسب ما تقتضيه المصلحة * (ويقدر) * أي يضيق مثل ذلك على حسب المصلحة ومنه قوله * (ومن قدر عليه رزقه) *(1) بمعنى ضيق على قدر ما فيه مصلحته.

وقيل: معنى ويقدر - ههنا - ويقبض رزق العبد بحسب ما تقتضيه مصلحته.

وخص بذكر الرزق على الهجرة لئلا يخلفهم عنها خوف العيلة.

وقوله " ان الله بكل شئ عليم " أي عالم بما يصلح العبد وبما يفسده فهو يوسع الرزق ويبسط بحسب ذلك.

ثم قال " ولئن سألتهم " يعني هؤلاء الذين ذكرناهم " من نزل من السماء ماء "؟ يعني مطرا " فأحيا به الارض من بعد موتها ليقولن " في الجواب عن ذلك " الله " ف‍ " قل " يا محمد عند ذلك " الحمد لله " على فنون نعمه على ما وفقنا للاعتراف بتوحيده واخلاص عبادته.

___________________________________

(1) سورة 65 الطلاق آية 7

[225]

ثم قال " بل اكثرهم " يعني هؤلاء الخلق " لا يعقلون " ما قلناه لعدو لهم عن طريق المفضي اليه.

ثم قال تعالى وليس " هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب " لانها تزول كما يزول اللهو واللعب، لا بقاء لها، ولا دوام، كما يزول اللهو واللعب " وإن الدار الآخرة لهي الحيوان " أي الحياة على الحقيقة لكونها دائمة باقية " لو كانوا يعلمون " صحة ما أخبرناك به.

وقال ابوعبيدة: الحيوان والحياة واحد.

ثم قال تعالى مخبرا عن حال هؤلاء الكفار انهم " إذا ركبوا في الفلك " وهي السفن وهاجت به الرياح وخافوا الهلاك " دعو الله مخلصين له الدين " لا يوجهون دعاء‌هم إلى الاصنام والاوثان " فلما نجاهم إلى البر " أي خلصهم إلى البر " إذا هم يشركون " أي يعودون إلى ما كانوا عليه من الاشراك معه في العبادة " ليكفروا بما آتيناهم " أي يفعلون ما ذكرناه من الاشراك مع الله ليجحدوا نعم الله التي أعطاهم إياها " وليتمتعوا " أي وليتلذذوا في العاجل من دنياهم، فالتمتع يكون بالمناظر الحسنة، والاصوات المطربة.

والمشام الطيبة والمآكل الملذة، ثم قال مهددا لهم " فسوف يعلمون " أي لابد أن يعلموا جزاء ما يفعلونه من الافعال من طاعة او معصية، فان الله يجازيهم بحسبها وذلك غاية التهديد.

[226]

قوله تعالى: (أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون(67) ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاء‌ه أليس في جهنم مثوى للكافرين(68) والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين(69))

ثلاث آيات بلا خلاف.

يقول الله تعالى لهؤلاء الكفار " اولم يروا " ومعناه اولم يعلموا " أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم " أي يتناول الناس من حوالي مكة بسرعة، وتؤخذ أموالهم. ومنه خطف البصر لسرعته. ومنه اختطاف الطير لصيده ومنه الخطاف الذي يخرج الدلو. والمعنى بذلك تنبيههم على جميل صنع اله بهم، وسبوغ نعمه عليهم، بأن جعلهم في أمن مع ان الناس يؤخذون من حولهم. وذلك لا يقدر عليه غير الله.

ثم قال مهددا لهم " أفبالباطل يؤمنون " ! أي يصدقون بعبادة الاصنام وهي باطلة مضمحلة " وبنعمة الله " التي انعم بها عليهم " يكفرون "؟ !

ثم قال " ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا " أي من اظلم لنفسه ممن جحد آيات الله واضاف اليه ما لم يقله ولم يأمر به من عبادة الاصنام وغيرها " او كذب بالحق لما جاء‌ه " من نبوة محمد صلى الله عليه واله من القرآن الذي أنزل عليه.

ثم قال " أليس في جهنم مثوى للكافرين " أي موضع مقام للذين يجحدون نعم الله، ويكفرون بآياته.

ثم قال " والذين جاهدوا فينا " يعني جاهدوا للكفار بأنفسهم، وجاهدوا نفوسهم بمنعها عن المعاصي وإلزامها فعل الطاعة لوجه الله " لنهدينهم سبلنا " أي نرشدهم السبيل الموصل إلى الثواب.

وقيل: معناه لنوفقنهم لازدياد الطاعات فيزدادوا ثوابهم.

وقيل: معناه لنرشدنهم إلى الجنة " وإن الله لمع المحسنين " أي ناصر الذين فعلوا الافعال الحسنة، ويدفع عنهم اعداء‌هم.

 

 

 

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=1285
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19