• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء السابع) ، تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي .
                    • الموضوع : سورة الكهف من ( آية 1 ـ 44 ) .

سورة الكهف من ( آية 1 ـ 44 )

التبيان في تفسير القرآن

تأليف

شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

385 - 460 ه‍.

تحقيق وتصحيح أحمد حبيب قصير العاملي

المجلد السابع

18 - سورة الكهف

قال مجاهد وقتادة: هي مكية، وهي مئة وعشرون آية في الكوفي وأحدى عشرة في البصري وخمس في المدنيين.

الآية: 1 - 24

بسم الله الرحمن الرحيم

(الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا(1) قيما لينذر باسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم اجرا حسنا(2) ماكثين فيه ابدا(3))

ثلاث آيات بلا خلاف.

قرأ ابوبكر (لدنه) باسكان الدال واشمال الضمة، وكسر النون والهاء وإيصالها بياء. الباقون بضم الدال وسكون النون وضم الهاء من غير واو، إلا ابن كثير، فانه كان يصل الهاء بواو.

[4]

واعلم أن (لدن) اسم غير متمكن، ومعناه (عند)، قال الله تعالى " من لدن حكيم خبير "(1) فالنون ساكنة في كل أحوالها، والهاء إذا أتت بعد حرف ساكن لم يجز فيها إلا الضم نحو (منه) فالاصل (منهو) و (لهو) فهو كقول ابن كثير، غير أنهم حذفوا الواو اختصارا، وإنما أسكن ابوبكر الدال استثقالا للضم كما قالوا " في كرم زيد ": قد كرم زيد، فلما سكن الدال التقى ساكنان، النون والدال، فكسر النون لالتقاء الساكنين، وكسر الهاء لمجاورة حرف مكسور، ووصلها بهاء كما تقول: مررت به، ولو فتح النون لالتقاء الساكنين لجاز، بعد أن أسكن الثاني كقول الشاعر:

عجبت لمولود وليس له أب *** ومن ولد لم يلده ابوان(2)

يعني آدم وعيسى.

فلا يتوهم أن عاصما كسر النون علامة للجزم، لان (لدن) لاتعرب.

وحكى ابوزيد: جئت فلانا لدن غدوة - بفتح الدال -.

يقول الله تعالى لخلقه قولوا (الحمد لله الذي) خص برسالته محمدا صلى الله عليه وآله وانتجبه لابلاغها عنه، وبعثه إلى خلقه نبيا رسولا، وانزل عليه كتابا قيما، ولم يجعل له عوجا.

وقيل في معنى قوله (قيما) قولان: أحدهما - معتدلا مستقيما. الثاني - أنه قيم على سائر الكتب يصدقها ويحفظها. والاول قول ابن عباس.

فعلى هذا " قيما " مؤخر، والمراد به التقدم، وتقديره أنزل الكتاب قيما، ولم يجعل له عوجا أي اختلافا.

وقال الضحاك: معناه مستقيما.

وقال ابن اسحاق: معناه معتدلا لا اختلاف فيه.

وقال قتادة: أنزل الله الكتاب قيما، ولم يجعل عوجا.

وفي بعض القراء‌ات " ولكن جعله قيما " وكسرت العين من قوله " عوجا " لان العرب تقول: عوجا

___________________________________

(1) سورة 11 هود آية 1.

(2) تفسير الطبري 15 / 119 وهو في مجمع البيان 3: 446

[5]

- بكسر العين - في كل اعوجاج كان في دين أو فيما لا يرى شخصه قائما ولا يدرك عيانا منتصبا كالعوج في الدين، ولذلك كسرت العين في هذا الموضع. وكذلك العوج في الطريق، لانه ليس بالشخص المنتصب. فأما ما كان في الاشخاص المنتصبة فان عينها تفتح كالعوج في القناة والخشبة ونحوها.

وقال ابن عباس: معنى قوله " ولم يجعل له عوجا " أي لم يجعله ملتبسا.

ولا خلاف بين أهل العربية ان قوله (قيما) وإن كان مؤخرا فتقديره إلى جنب الكتاب. وإنما افتتح الله تعالى هذه السورة بذكر نفسه بما هو أهله، وبالخبر عن انزال كتابه على رسوله، ليخبر المشركين من أهل مكة بأن محمدا صلى الله عليه وآله رسوله، لان المشركين كانوا سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله عن أشياء لقنوها إياهم اليهود، من قريظه والنضير، وأمروهم أن يسألوه عنها، وقالوا: إن اخبركم بها فهو نبي، وإن لم يخبركم فهو مقتول، فوعدهم رسول الله صلى الله عليه وآله الجواب عنها، موعدا فأبطأ - على قول بعضهم - الوحي عنه بعض الابطاء وتأخر مجئ جبرائيل (ع) عنه، عن ميعاده القوم فتحدث المشركون بأنه اخلفهم موعده، وأنه مقتول، فأنزل الله هذه السورة جوابا عن مسائلهم، وافتتح أولها بذكره تكذببا للمشركين فيما تحدثوا بينهم من احدوثتهم - ذكر ذلك محمد بن اسحاق باسناده عن عكرمة عن ابن عباس - وكان الذين ذهبوا إلى اليهود وسألوهم عن أمر النبي صلى الله عليه وآله النضر بن الحارث بن كلدة، وعقبة بن أبي معيط، وكانت المسائل التي لقنوهم إياها: أن قالوا: سلوه عن ثلاثة اشياء، فان أخبركم بهن، فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فانه مقتول، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الاول، ما كان أمرهم؟ فانه كان لهم حديث عجيب.

وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الارض ومغاربها، ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فان اخبركم بذلك فانه نبي مبعوث، فاتبعوه، وإن لم يخبر كم فانه مقتول. فرجعا إلى مكة

[6]

واجتمعا مع قريش فجاؤا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فسألوه عنها، فقال النبي صلى الله عليه وآله اخبركم بذلك.

وقال بعضهم: انه قال اخبركم غدا بما سألتم، ولم يستثن، وانصرفوا عن النبي صلى الله عليه وآله فمكث رسول الله خمس عشرة ليلة لا ينزل الله اليه في ذلك وحيا، ولا يأتيه جبرائيل (ع) حتى اوجف أهل مكة، وتكلموا في ذلك، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله فأنزل الله عليه جبرائيل ومعه (سورة الكهف) يخبره فيها عما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطواف، وانزل عليه " ويسألونك عن الروح... "(1) الآية.

فروى ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وآله أفتتح السورة، فقال " الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما " أي معتدلا، لا اختلاف فيه.

وقوله " لينذر بأسا شديدا من لدنه، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم اجرا حسنا ماكثين فيه ابدا " معناه أنزل على عبده القرآن معتدلا مستقيما لا عوج فيه، لينذركم أيها الناس بأسا شديدا من أمر الله.

ومعنى البأس العذاب العاجل والنكال الحاضر، والسطوة.

ومعنى " من لدنه " من عند الله، وهو قول ابن اسحاق، وقتادة.

ومفعول " لينذر " محذوف، لدلالة الكلام عليه، وتقديره: لينذركم بأسا كلما قال " يخوف أولياء‌ه "(2) وتقديره يخوفكم أولياء‌ه، ومعنى " ويبشر المؤمنين " يعني المصدقين بالله ورسوله " الذين يعملون الصالحات " يعني ما أمرهم الله به من الطاعات، وهي الاعمال الصالحات، والانتهاء عما نهاهم عنه " أن لهم اجرا حسنا " يعني ثوابا جزيلا من الله على ايمانهم بالله ورسوله، وعملهم في الدنيا بالطاعات واجتناب المعاصي، وذلك الثواب هو الجنة.

وقوله " ما كثين فيه أبدا " أي لابثين فيه ابدا خالدين مؤبدين لا ينتقلون

 (1) سورة 17 الاسرى آية 85.

(2) سورة 3 آل عمران آية 175

[7]

عنه ولا ينقلبون، ونصب (ماكثين) على الحال من قوله " إن لهم أجرا حسنا " في هذه الحال، في حال مكثهم في ذلك الاجر.

قوله تعالى: (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا(4) مالهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من افواههم إن يقولون إلا كذبا(5))

آيتان.

يقول الله تعالى أنه يحذر ايضا محمد صلى الله عليه وآله القوم " الذين قالوا اتخذ الله ولدا " من مشركي قومه وغيرهم - عقاب الله، وعاجل نقمته وأليم عذابه على قولهم ذلك.

وقوله " ما لهم به من علم " (معناه ما لقائلي القول هذا يعني قولهم " اتخذا الله ولدا " به من علم)(1) يعني ليس لهم بالله من علم. ومعنى الكلام ما لهؤلاء القائلين هذا القول بالله من علم بأنه لا يجوز أن يكون له ولد. وفلجهلهم بالله وعظمته قالوا ذلك.

وقوله " ولا لآبائهم " معناه ولا لاسلافهم الذين مضوا قبلهم على مثل الذي هم عليه اليوم، ما كان لهم بالله وعظمته علم.

وقوله " كبرت كلمة تخرج من افواههم " نصب (كلمة) عل التمييز، وتقديره كبرت كلمتهم التي قالوها كلمة، كما تقول: نعم رجلا عمرو، ونعم الرجل رجلا قام.

وقال بعضهم: نصب (كلمة) لانها في معنى: اكبر بها كلمة، كقوله " وساء‌ت

___________________________________

(1) ما بين القوسين ساقط من المطبوعة.

[8]

مرتفقا "(1) وهي في النصب كقول الشاعر:

ولقد علمت إذا الرياح تروحت *** هدج الرئال تكبهن شمالا(2)

أي تكبهن الرياح شمالا، فكأنه قال كبرت تلك الكلمة.

وروي عن بعض المكيين انه قرأ ذلك بالرفع، كقولهم: كبر قولك، وكبر شأنك، فعلى هذا لا يكون في قوله (كبرت) مضمر، بل يكون صفة الكلمة، والاول أقوى، لاجماع القراء على النصب، وهذا شاذ، وتأويل الكلام: عظمت الكلمة كلمة تخرج من افواه هؤلاء القوم " الذين قالوا اتخذ الله ولدا " او الملائكة بنات الله.

وقوله " إن يقولون إلا كذبا " معناه ليس يقول هؤلاء القائلون " اتخذ الله ولدا " إلا كذبا " وفرية افتروها على الله - عزوجل -.

قوله تعالى: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث اسفا(6) إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم ايهم احسن عملا(7) وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا(8))

ثلاث آيات بلا خلاف.

يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله " فلعلك " يا محمد قاتل نفسك ومهلكها على آثار قومك الذين قالوا: " لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا... "(3) تمردا منهم على ربهم بأنهم لم يؤمنوا بهذا الكتاب الذي أنزلته عليك، فيصدقوا بأنه

___________________________________

(1) سورة 18، الكهف آية 29.

(2) تفسير الطبري 15 / 119 وهو في مجمع البيان 3 / 449.

(3) سورة 17، الاسرى الاية 90

[9]

من عند الله - حزنا وتلهفا ووجدا - بادبارهم عنك واعراضهم عن قبول ما اتيتهم به. و (أسفا) نصب على المصدر. يقال بخع نفسه يبخعها بخعا وبخوعا، قال ذو الرمة:

ألا ايهذا الباخع الوجد نفسه *** لشئ نحته عن يديه المقادر(1)

يريد (نحته) فخفف. وما ذكرناه قول قتادة وغيره.

وقوله " اسفا " قال قتادة: معناه غضبا وتقديره: فلعلك باخع نفسك إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا يعنى غضبا.

وقال مجاهد: معناه جزعا.

وفى رواية أخرى عن قتادة: حزنا عليهم. وفى رواية ثالثة عن قتادة حذرا.

وكسرت (إن) لانها في معنى الجزاء ولو فتحت لجاز قال الشاعر:

اتجزع أن بان الخليط المودع *** وحبل الصفا من عزة المتقطع(2)

وهذا معاتبة من الله لرسوله على وجده بمباعدة قومه إياه فيما دعاهم اليه من الايمان به والبراء‌ة والآلهة والانداد، وكان بهم رحيما، وهو قول ابن اسحاق.

وقوله " إنا جعلنا ما على الارض زينة لها " معناه انا جعلنا الذي على الارض من انواع المخلوقات جمادها وحيوانها ونباتها " زينة لها " يعني للارض " لنبلوهم ايهم " أي لنختبر عبادنا " ايهم أحسن عملا " يعني من اتبع امرنا ونهينا وعمل فيها بطاعتنا، وهو قول مجاهد.

قوله تعالى " وإنما لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا " فيه اخبار من الله تعالى انا مخربوها بعد عمارتنا إياها بما جعلنا عليها من الزينة فنصيرها صعيدا جرزا، والصعيد

___________________________________

(1) مجاز القرآن 1 / 393 وتفسير الطبري 15 / 120 وهو في مجمع البيان 3 / 448.

(2) مر هذا البيت في 1 / 349 من هذا الكتاب.

[10]

ظهر الارض، والجرز الذي لانبات عليه ولازرع ولاغرس.

وقيل انه أراد بالصعيد - ههنا - المستوي من وجه الارض.

وقال ابن عباس: معناه نهلك كل شئ عليها زينة.

وقال مجاهد: " جرزا " أي بلقعا.

وقال قتادة: هو مالا شجر فيه ولانبات.

وقال ابن زيد: الجرز الارض التي ليس فيها شئ، بدلالة قوله " أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الارض الجرز فنخرج به زرعا "(1) يعنى الارض التي ليس فيها شئ من النبات.

والصعيد المستوي قال: وهو كقوله تعالى " لاترى فيها عوجا ولا أمتا "(2)

قال سيبويه: يقال جرزت الارض فهي مجروزة وجرزها الجراد والنعم، وارضون اجراز اذا كان لا شئ فيها، ويقال للسنة المجدبة جرز، وسنون أجراز لجدوبها ويبسها وقلة امطارها.

قال الراجز: قد جرفتهن السنون الاجراز(3) ويقال: أجرز القوم إذا صارت ارضهم جرزا، وجرزواهم أرضهم أكلوا نباتها كله.

قوله تعالى: (أم حسبت أن اصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا(9) إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيى لنا من امرنا رشدا(10))

آيتان بلا خلاف.

يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله " أم حسبت " يا محمد، والمراد به أمته أي

___________________________________

(1) سورة 32، الم السجدة آية 27.

(2) سورة 20، طه آية 107.

(3) تفسير الطبري 15 / 121 وروايته (حرقتهن) بدل (جرفتهن)

[11]

أحسبت " أن اصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا " بل ما خلقت من السموات والارض وما بينهن من العجائب اعجب من اصحاب اهل الكهف، وحجتي بذلك ثابتة(1) على هؤلاء المشركين من قومك وغيرهم من جميع عبادي، وهو قول مجاهد وقتادة وابن اسحاق.

وقال قوم: معناه " أم حسبت " يا محمد " أن اصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا " فان الذي آتيتك من العلم والحكمة أفضل منه، وهو قول ابن عباس.

وقال الجبائي: المعنى أحسبت " أن اصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا " ولو لم نعلمك ذلك لما علمته.

والاول أشبه، لان الله تعالى جعل انزال سورد الكهف احتجاجا على الكفار بما واطأهم عليه اليهود، والمراد بالكهف في الآية كهف الجبل الذي أوى اليه القوم الذين قص الله شأنهم وذكر اخبارهم في هذه السورة.

واختلفوا في معنى " الرقيم " فقال قوم: هو اسم قرية - ذهب اليه ابن عباس - وفى رواية أخرى عنه: أنه واد بين غضبان، وايلة، دون فلسطين، وهو قريب من ايلة.

وقال عطية: " الرقيم " واد.

وقال قتادة: " الرقيم " اسم الوادي الذي فيه اصحاب الكهف.

وقال مجاهد: " الرقيم " كتاب تبيانهم.

وفي رواية ايضا عن ابن عباس أن " الرقيم " هو الكتاب.

وقال سعيد بن جبير: هو لوح من حجارة كتبوا فيه قصص اصحاب الكهف ثم وضعوه على باب الكهف، وهو اختيار البلخي والجبائي وجماعة.

وقيل: جعل ذلك اللوح في خزائن الملوك، لانه من عجائب الامور.

وقيل بل جعل على باب كهفهم.

وقال ابن زيد: " الرقيم " كتاب، ولذلك الكتاب خبر، فلم يخبر الله عن ذلك الكتاب وما فيه. وقرأ قوله " وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون "(2) وقال: هو اسم جبل اصحاب الكهف، *

___________________________________

(1) في المخطوطة (قائمة) بدل (ثابتة).

(2) سورة 83، المطففين آية 19 - 21

[12]

روى ذلك عن ابن عباس.

وقيل: إن اسم ذلك الجبل (تيحلوس)(1) وقيل تياحلوس(2).

وقد روي عن ابن عباس أنه قال: كل القرآن أعلمه إلا (حنان) و (الاواه) و " الرقيم ".

واختار الطبري أن يكون ذلك اسما لكتاب أو لوح أو حجر كتب فيه.

والرقيم (فعيل) أصله مرقوم، صرف إلى فعيل مثل جريح بمعنى مجروح وقتيل بمعنى مقتول يقال: رقمت الكتاب أرقمه إذا كتبته ومنه الرقيم في الثوب لانه خط يعرف به ثمنه.

وقيل للحبة أرقم لما فيها من الآثار، وتقول العرب عليك بالرقمة (بمعنى عليك برقمة الوادي حيث الماء)(3) ودع الضفة أي الجانب. والضفتان جانبا الوادي، ولعل من ذهب إلى أن الرقيم الوادي: ذهب إلى رقمة الوادي.

وقوله " إذ أوى الفتية إلى الكهف " معناه " أم حسبت أن اصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا " حين " أوى الفتية إلى الكهف " أي حين جاء أصحاب الكهف إلى الكهف، كهف الجبل هربا بدينهم إلى الله، قالوا إذ أووه " ربنا آتنا من لدنك رحمة " رغبة منهم إلى ربهم في أن يرزقهم من عنده رحمة.

وقوله " وهئ لنا من أمرنا رشدا " معناه انهم قالوا يسر لنا ما نبتغي ونلتمس من رضاك أي دلنا على ما فيه نجاتنا والهرب من الكفر بك ومن عبادة الاوثان التي يدعونا اليها قومنا " رشدا " أي رشدا إلى العمل الذي تحب. وقيل إن هؤلاء الفتية كانوا مسلمين على دين عيسى (ع) وكان ملكهم يعبد الاصنام، فهربوا بدينهم منه.

وقال آخرون: هربوا من الملك بجناية اتهموا بها

___________________________________

(1) في المخطوطة (بجلوس).

(2) في المخطوطة (بنا جلوس).

(3) ما بين القوسين ساقط من المطبوعة.

[13]

فدخلوا الكهف.

ويجوز " رشدا " - بضم الراء وتسكين الشين - غير أنه لم يقرأ به - ههنا - أحد، لان أو اخر الآيات كلها على وزن (فعل) فلم يخالفوا بينها.

قوله تعالى: (فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا(11) ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا(12))

آيتان.

يقول الله تعالى " فضربنا على آذانهم في الكهف " يعني بالنوم، كما يقول القائل لآخر: ضربك الله بالفالج بمعنى أبلاك الله به.

وقيل معناه منعناهم أن يسمعوا، والمعنى انمناهم.

وقوله " سنين عددا " معناه سنين معدودة.

ونصب (سنين) على الظرف بقوله " فضربنا " و " عددا " بمعنى معدود، والعد المصدر ومثله نقضت الشئ نقضا، والمنقوض نقض، وكذلك قبضته قبضا، والمقبوض قبض.

وقوله تعالى " ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا " معناه بعثنا هؤلاء الفتية الذين أووا إلى الكهف بعد ما ضربنا على آذانهم فيه سنين عددا، من رقدتهم لينظر عبادي فيعلموا بالبعث أي الطائفتين اللتين اختلفتا في قدر مبلغ مكث الفتية في كهفهم رقودا " أحصى لما لبثوا " بمعنى أصوب لقدر لبثهم فيه أمدا.

والامد الغاية قال النابغة:

ألا لمثلك او من أنت سابقه *** سبق الجواد إذا استولى على الامد(2)

وقال قوم: الحزبان جميعا كانا كافرين.

وقال آخرون: كان أحدهما مسلما

___________________________________

(1) تفسير الطبري 15 / 127 ومجمع البيان 3 / 451

[14]

والآخر كافرا، فالاول قول مجاهد.

وقال: الحزبان من قوم الفتية.

وقال قتادة: أحدهما كان كافرا، والآخر كان مؤمنا، ولم يكن لواحد منهما عليم بمقدار زمان لبثهم.

وقال قوم: الحزبان هم اصحاب الكهف اختلفوا في مدة لبثهم.

وقال قوم: احد الحزبين اصحاب الكهف، والآخر اصحابهم وقومهم.

ومعنى " أمدا " قال ابن عباس يعني بعيدا.

وقال مجاهد: يعني عددا.

ويحتمل نصب " أمدا " وجهين: احدهما - التمييز في قوله (أحصى) كأنه قال أي الحزبين اصوب عددا. والثاني - أن يكون نصبا بوقوع قوله " لبثوا " عليه، كأنه قال: أي الحزبين أحصى للبثهم غاية أي في الامد.

والفتية جمع فتى مثل صبي وصبية وغلام وغلمة.

قوله تعالى: (نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى(13) وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والارض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا(14) هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن اظلم ممن افترى على الله كذبا(15))

ثلاث آيات في عدد الكل - إلا الشامي - آخر الاولى " هدى " وعند الشامي شططا.

يقول الله تعالى إنا نخبرك يا محمد ونقص عليك نبأ هؤلاء الفتية الذين اووا إلى

[15]

الكهف على وجه الصحة. والقصص الخبر بمعاني يتلو بعضها بعضا واصله الاتباع من قولهم: قص أثره يقصه قصصا إذا اتبعه، ومنه قوله تعالى " وقالت لاخته قصيه " أي اتبعي أثره. والنبأ الخبر. وفتية جمع فتى،. وهوجمع لايقاس عليه لانه غير مطرد، وقد جاء غلام وغلمة وصبي وصبية، ولا يجوز غراب وغربة.

ثم اخبر عنهم بانهم فتية آمنوا بربهم، واعترفوا بتوحيده " وزدناهم هدى " والمعنى وزدناهم المعارف بما فعلنا لهم من الالطاف لما فيها من الآيات التي رأوها، ومن الربط على قلوبهم حتى تمسكوا بها.

وقوله " إذ قاموا فقالوا " معناه حين قاموا بحضرة الملك الجبار، فقالوا هذا القول الذي أفصحوا فيه عن الحق في الديانة ولم يستعملوا التقية، فقالوا: ربنا الذي نعبده هوالذي خلق السموات والارض لن ندعوا من دونه إلها آخر، فنوجه العبادة اليه، ومتى قلنا غير ذلك ودعونا معه إلها آخر " لقد قلنا إذا شططا ". والشطط الخروج عن الحد بالغلو فيه، فقلنا شططا أي غلوا في الكذب والبطلان.

قال الشاعر:

ألا يالقوم قد شطت عواذلي *** ويزعمن أن أودي بحقي باطلي

ويلحينني في اللهو ألا أحبه *** وللهو داع دائب غير غافل(1)

ومنه اشط فلان في السوم إذا تجاوز القدر بالغلو فيه يشط إشطاطا وشططا وشط منزل فلان يشط شطوطا إذا جاوز القدر في البعد، وشطت الجارية تشط شطاطا وشطاطة إذا جاوزة القدر في الطول.

وقوله " هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة " إخبار من الفتية بخضرة الملك على وجه الانكار على قومه " إن هؤلاء " قومك اتخذوا من دون الله آلهة يعبدونها " لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن اظلم ممن افترى على الله كذبا.

___________________________________

(1) قائله الاحوص. مجاز القرآن 1 / 394 والكامل للمبرد 49 وتفسير الطبري 15 / 128 واللسان والتاج (شطط).

[16]

معناه هلا يأتون على عبادتهم إياهم بحجة واضحة ودلالة بينة. وحذف لدلالة الكلام عليه ثم قالوا: فمن اظلم لنفسه ممن يتخرص على الله كذبا، ويضيف اليه مالا اصل له. وفي ذلك دلالة على أن التقليد في الدين لا يجوز وانه لايجوز أن يقبل دين إلا بحجة واضحة. وفى قصة اصحاب الكهف دلالة على أنه لا يجوز المقام في دار الكفر إذا كان لايمكن المقام فيه إلا باظهار كلمة الكفر وانه يجب الهجرة إلى دار الاسلام أو بحيث لا يحتاجون إلى التلفظ بكلمة الكفر.

قوله تعالى: (وإذ اعتز لتموهم وما يعبدون إلا الله فاووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من امركم مرفقا(16) وترى الشمس إذا طلعت تزاورعن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا(17) وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعية بالوصيد لو اطلعت عليهم لو ليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا(18))

ثلاث آيات بلا خلاف.

قرأ ابن عامر واهل الكوفة، وابوبكر والاعشى إلا يحيى والعليمي " مرفقا " بفتح الميم وكسر الفاء.

[17]

الباقون - بكسر الميم وفتح الفاء - وقرأ ابن عامر ويعقوب (تزور) - بتخفيف الزاي وتسكينها وتشديد الراء من غير ألف - وقرأ أهل الكوفة بتخفيف الزاي والف بعدها وتخفيف الراء. الباقون كذلك إلا أنهم شددوا الزاي. وقرأ أهل الحجاز " لمليت " بتشديد اللام. الباقون بتخفيفها وبالهمز.

قال ابوعبيدة: المرفق ما ارتفقت به وبعضهم يقول: المرفق. فأما في اليدين فهو (مرفق) بكسر الميم وفتح الفاء، وهو قول الكسائي، واجاز الفراء الفتح أيضا.

وقال ابوزيد يقال: رفق الله عليك أهون المرفق والرفق.

قال ابوعلي: ما حكاه أبوزيد في (المرفق) فانه جعله مصدرا، لانه جعله كالرفق، وكان القياس الفتح لانه من (يرفق) لكنه كقوله " مرجعكم "(1) " ويسألونك عن المحيض "(2) وقال ابوالحسن: (مرفقا) أي شيئا يرتفقون به مثل المقطع.

و (مرفقا) جعله اسما مثل المسجد أو يكون لغة يعنى في اسم المصدر مثل المطلع ونحوه. ولو كان على القياس لفتحت اللام.

وقال الحسن ايضا: مرفق - بكسر الميم وفتحها - لغتان لا فرقق بينهما انما هما اسمان مثل المسجد والمطبخ.

ومن قرأ " تزور " فانه مثل تحمر وتصفر، ومعناه تعدل وتميل قال عنترة:

فازور من وقع القنا بلبانه *** وشكى الي بعبرة وتحمحم(3)

وقرأ عاصم والجحدرى " تزوار " مثل تحمار وتصفار.

___________________________________

(1) سورة 3، آل عمران آية 55 وسورة 5، المائدة آية 51، 108 وسورة 6، الانعام آية 60، 164 وسورة 10 يونس آية 23 وسورة 11، هو آية 4 وسورة 29، العنكبوت آية 8 وسورة 31، لقمان آية 15.

(2) سورة 2 البقرة آية 222.

(3) ديوانه 30 من معلقته المشهورة

[18]

ومن قرأ " تزاور " أراد تتزاور فأدغم التاء في الراء.

ومن خفف اراد ذلك، وحذف إحدى التائين وهي الثانية مثل تساقط، وتساقط، وتظاهرون، وتظاهرون.

قال أبوالزحف:

ودون ليلى بلد سمهدر *** جدب المندى عن هوانا ازور(1)

يقال: هو أزور عن كذا أي مائل.

وفى فلان زور أي عوج، والزور - بسكون الواو - هو المصدر، ومثله الجوشن، والكلكل، والكلكال، كل ذلك يراد به المصدر وقال ابوالحسن: قراء‌ة ابن عامر " تزور " لا توضع في ذا المعنى، انما يقال: هو مزور عني أي منقبض.

وقال ابوعلي: يدل على أن (ازور) بمعنى انقبض - كما قال ابوالحسن - قول الشاعر: وأزور من وقع بلبانه(2) والذي حسن القراء‌ة به قول جرير:

عسفن على الاداعس من مهيل *** وفى الاظغان عن طلح ازورار(3)

فظاهر استعمال هذا (الاظغان) مثل استعماله في (الشمس).

ويقال: ملئ فلان وعيا وفزعا، فهو مملؤ، وملي، فهو مملي - بالتشديد، للتكثير من ملات الاناء فهو ملآن، وامتلا الحوض يمتلئ امتلاء‌ا، وقولهم: تمليت طويلا، وعانقت حبيبا، ومت شهيد ا، وابليت جديدا، فهو غير مهموز.

قال ابوالحسن: الخفيفة أجود في كلام العرب، لانهم يقولون ملاته رعبا، فلا يكادون يعرفون (ملاتني).

___________________________________

(1) ابوالزحف الكلبي مترجم في الشعراء 462. والبيت في مجاز القرآن 1 / 395 وتفسير القرطبى 10 / 350 وجمهرة اشعار العرب 1 / 443، 3 / 370 واللسان والتاج (زور سمهد، عشنزر).

(2) قد مرفي الصفحة التي قبلها.

(3) ديوانه (دار بيروت) 182 وروايته (على إلا ما عز من حبى).

[19]

قال ابوعلي: يدل على قول أبي الحسن قولهم (فيملا بيتنا اقطاوسمنا) وقال الاعشى: وقد ملات بكر ومن لف لفها وقال الآخر: لاتملا الدلو وعرق فيها وقولهم: (امتلات) يدل على (ملئ) لان مطاوع (فعلت) (افتعلت) وقد انشدوا في التثقيل قول المخبل السعدي: فملا من كعب سلاسله وقوله " وإذ اعتزلتموهم " خطاب من اهل الكهف بعضهم لبعض، ودعاء بعضهم بعضا إلى أن يأووا إلى الكهف، رجاء من الله أن ينشر لهم من رحمته ويبسطها عليهم، ويهيئ لهم من أمرهم مرفقا اي شيئا يرتفق به ويستعان به كالمقطع والمجزر.

وقوله " وما يعبدون إلا الله " (ما) في موضع نصب ومعناه وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون من دون الله من الاصنام والاوثان، ويحتمل الاستثناء امرين: أحدهما - أن يكون متصلا، فيجوز على ذلك أن يكون فيهم من يعبد الله مع عبادة الوثن، فيكون اعتزالهم للاوثان دون الله. والثاني - يجوز أن يكون جميعهم كان يعبد الاوثان دون الله فعلى هذا يكون الاستثناء منقطعا.

وقوله " فأووا إلى الكهف " أي اجعلوه مأواكم ومقركم " ينشر " الله " لكم من رحمته ويهيئ لكم من امركم " ما ترتفقون به.

[20]

وقوله " فأووا " جواب (إذ) كما تقول: إذ فعلت قبيحا، فتب.

وقوله " وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين " أي تعدل عنهم وتميل، يقال: ازور ازورارا، وفيه زور أي ميل.

وقوله " وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال " قيل في معناه قولان: أحدهما - تقطعهم في ذات الشمال أي انها تجوزهم منحرفة عنهم، من قولك قرضته بالمقراض أي قطعته. الثاني - تعطيهم اليسير من شعاعها ثم تأخذه بانصرافها، ومن قرض الدراهم التي تسترد.

وقال مجاهد: تقرضهم تتركهم.

وقال ابوعبيدة كذلك هو في كلامهم يقال: قرضت الموضع إذا قطعته وجاوزته.

وقال الكسائي والفراء: هو المجاوزة يقال: قرضني فلان يقرضني وجازني يجوزني بمعنى واحد، قال ذو الرمة:

إلى قرض يقرض اجواز مشرف *** شمالا وعن ايمانهن الفوارس(1)

والقرض يستعمل في اشياء غير هذا، فمنه القطع للثوب وغيره، ومنه سمي المقراض، ومنه قرض الفار.

وقال ابوالدرداء: (إن قارضتهم قارضوك وإن تركتهم لم يتركوك) ومعناه إن طعنت فيهم وعبتهم فعلوا بك مثله وإن تركتهم منه لم يتركوك.

والقرض، من يتقارض الناس بينهم الاموال، وقد يكون ذلك في الثناء تثني عليه كما يثني عليك.

والقرض بلغة أهل الحجاز المضاربة، والقرض قول الشعر القصيد منه خاصة دون الرجز، وقيل للشعر قريض.

ومن ذلك قول الاغلب العجلي:

___________________________________

(1) ديوانه 313 وتفسير الطبري 15 / 130 وتفسير القرطبي 10 / 469 والصحاح والتاج، واللسان (قرض) ومجمع البلدان 4 / 463 ومجاز القرآن 1 / 400 وغيرها.

[21]

أرجزا يريد أو قريضا والمعنى في الآية ان الشمس لا تصيبهم البتة أو في اكثر الامر، فتكون صورهم محفوظة. وقيل ان الكهف الذي كانوا فيه كان محاذيا لبنات النعش إذا جازت خط نصف النهار. والفجوة: المتسع من الارض.

وقال قتادة: في فضاء منه، وتجمع فجوات وفجاء ممدود، وقيل الفجوة متسع داخل الكهف بحيث لايراه من كان ببابه، وكان الكلب بباب الفجوة.

وقوله " ذلك من آيات الله " أي ادلته وبراهينه " من يهد الله فهو المهتد " معناه من يسمه الله هاديا ويحكم بهدايته " فهو المهتد ".

ويحتمل أن يكون اراد: من يهده الله إلى الجنة، فهو المهتدي في الحقيقة.

ويحتمل أن يكون: من يلطف الله له بما يهتدى عنده، فهو المهتدي " ومن يضلل " اى يحكم بضلاله أو يسميه ضالا أو من يضله عن طريق الجنة، ويعاقبه " فلن تجد له وليا مرشدا " اى معينا وناصرا يرشده إلى الجنة والثواب.

ثم قال تعالى " وتحسبهم " يعني وتحسب يا محمد أهل الكهف إذا رأيتهم " ايقاظا " أي منتبهين " وهم رقود " أي نيام. وقيل انهم كانوا في مكان موحش منه، أعينهم مفتوحة يتنفسون ولا يتكلمون. وواحد (رقود) راقد أى نائم.

وقوله " ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال " اخبار منه تعالى عما يفعل بهم وكيفية حفظ اجسادهم بأن يقلبهم من جنب إلى جنب إلى اليمين تارة وإلى الشمال أخرى.

وقوله " وكلبهم باسط ذراعية بالوصيد " قال ابن عباس: الوصيد الفناء، وبه قال مجاهد وقتادة والضحاك. وفي رواية أخرى عن ابن عباس: انه هو الباب اذا

[22]

أغلمته، ومنه " نار موصدة "(2). ويجمع (وصيد) وصائد ووصد، وفى واحد لغتان: وصيد، وأصيد. وأوصدت وآصدت. وليس أحدهما مؤخوذا من الآخر، بل هما لغتان مثل ورخت الكتاب وأرخته، ووكدت الامر وأكدته.

وقوله " لو اطلعت عليهم لو ليت منهم فرارا " نصب على المصدر، ومعناه لو اشرفت عليهم لا عرضت عنهم هربا استيحاشا للموضع " ولملئت منهم رعبا " نصب على الحال، والمعنى لما ألبسهم الله تعالى من الهيبة لئلا يصل اليهم احد حتى يبلغ الكتاب اجله فيهم، فينتبهون من رقدتهم باذن الله عند ذلك من امرهم.

وقيل انه: كانت اضفارهم قد طالت، وكذلك شعورهم، فلذلك يأخذه الرعب منهم.

وقال الجبائي: نومهم ثلثمائة سنة وتسع سنين - لا تتغير احوالهم ولايطعمون ولا يشربون - معجزة لاتكون إلا لنبي. وقيل النبي كان احدهم، وهم الرئيس الذى اتبعوه وآمنوا به.

___________________________________

(1) سورة 90 البلد آية 20

[23]

قوله تعالى: (وكذلك بعثناهم ليتساء‌لوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما او بعض يوم قالوا ربكم اعلم بما لبثتم فابعثوا احدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر ايها ازكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم احدا(19) انهم ان يظهروا عليكم يرجموكم او يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا اذا ابدا(20) وكذلك اعثرنا عليهم ليعلموا ان وعد الله حق وان الساعة لاريب فيها إذ يتنازعون بينهم امرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم اعلم بهم قال الذين غلبوا على امرهم لنتخذن عليهم مسجدا(21))

قرأ " بورقكم " - بسكون الراء - أبوعمرو وحده وأبوبكر عن عاصم الباقون بكسر الراء.

وروي عن أبي عمرو بورقكم " بادغام القاف في الكاف.

وفي (ورقكم) اربع لغات - فتح الواو وكسر الراء - وهو الاصل. وفتح الواو وسكون الراء. وكسر الواو وسكون الراء. والادغام.

وفالورق الدراهم، ويقال ايضا بفتح الراء، ويجمع اوراق.

ورجل رواق كثير الدراهم.

فأما ما يكتب فيه فهو (الورق) بفتح الراء لا غير.

والورق الغلمان الملاح.

وقيل الورق - بفتح الراء - المال كله المواشي وغيرها قال العجاج: اغفر خطاياي وطوح ورقي في قصة أهل الكهف اعتبار ودلالة على أن من قدر على نقض العادة - بتلك المعجزة - قادر لايعجزه شئ، وإن التدبير يجري بحسب الاختيار، لا بايجاب الطبائع، كما يتوهمه بعض الجهال، لانه على تدبير مختار، كما يدل على تدبير عالم. ووجه التشبيه في قوله " وكذلك بعثناهم " أي كما حفظنا احوالهم تلك المدة " بعثناهم " من تلك الرقدة، لان أحد الامرين كالآخر في أنه لايقدر عليه إلا الله تعالى.

بين الله تعالى أنه بعث أهل الكهف بعد نومهم الطويل ورقدتهم البعيدة ليسأل بعضهم بعضا عن مدة مقامهم، فيتنبهوا بذلك على معرفة صانعهم إن كانوا كفارا.

[24]

وإن كانوا مؤمنين تثبتوا زيادة على ما معهم، ويزدادوا يقينا إلى يقينهم.

وقال البلخي: اللام في قوله " ليتسألوا " لام العاقبة، لان التساؤل بينهم قد وقع.

ثم اخبر تعالى أن قائلا منهم قال: للباقين " كم لبثتم " مستفهما لهم، فقالوا في جوابه: " لبثنا يوما أو بعض يوم " وانما اخبروا بذلك من غير أن يعلموا صحته، لان الاخبار في مثل هذا عن غالب الظن وعلى ذلك وقع السؤال، لان النائم لايدري، ولا يتحقق مقدار نومه إلا على غالب الظن.

وقيل أنهم لما ناموا كان عند طلوع الشمس فلما انتبهوا كانت الشمس دنت للغروب بقليل.

فلذلك قالوا: يوما أو بعض يوم - ذكره الحسن -.

وقيل ايضا إن الخبر بأنهم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم ليس ينافى انهم لبثوا مدة طويلة، لان المدة الطويلة تأتي على قصيرة وتزيد عليها لا محالة.

ثم قالوا " ربكم اعلم بما لبثتم " ومعناه ان الذي خلقكم اعرف بمدة لبثكم على التحقيق. والاعلم هو من كانت علومه اكثر أو صفاته في كونه عالما أزيد.

وقيل: إن الاعلم هو من كانت معلوماته اكثر، وهذا ليس بصحيح، لانه يلزم انه عالم من اجل العلوم.

ثم قال بعضهم لبعض " فابعثوا احدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر ايها ازكى طعاما " وقيل في معناه قولان: احدهما - قال قتادة: " ازكى " أجل وخير. والثاني - ايها أنمى طعاما بأنه طاهر حلال، لانهم كانوا يذبحون للاوثان، وهم كفار أرجاس.

وقيل معناه ايها اكثر فان الزكاء والنماء الزيادة.

" فليأتكم برزق منه وليتلطف " في شرائه واخفاء أمره " ولا يشعرن بكم احدا " أي لايعلمن بمكانكم أحدا.

وقيل: المعنى وإن ظهر عليه فلا يوقعن اخوانه فيما وقع فيه لانهم " إن يظهروا عليكم " ويعلموا بمكانكم " يرجموكم ".

قال الحسن: معناه يرجموكم بالحجارة.

وقال ابن جريج: يشتموكم ويؤذوكم بالقول القبيح " أو يعيدوكم في ملتهم " اي

[25]

يردوكم في عبادة الاصنام.

ومتى فعلتم ذلك " لن تفلحوا " بعد ذلك " ابدا " ولا تفوزوا بشئ من الخير.

ثم قال: " وكذلك اعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق " ومعناه انا كما فعلنا بهم ما مضى ذكره، مثل ذلك اظهرنا عليهم واطلعنا عليهم، ليعلم الذين يكذبون بالعث " أن وعد الله حق " ويزداد المؤمنون ايمانا، والتقدير، ليستدلوا بما يؤديهم إلى العلم بأن الوعد في قيام الساعة حق كما قبضت ارواح هؤلاء الفتية تلك المدة.

ثم بعثوا كأنهم لم يزالوا أحياء على تلك الصفة.

وقوله " إذ يتنازعون بينهم امرهم " يجوز أن تكون (إذ) نصبا ب‍ " يعلموا " في وقت منازعتهم. ويجوز أن يكون بقوله " أعثرنا " والتقدير: وكذلك اطلعنا إذ وقعت المنازعة في امرهم. والمعنى انهم لما ظهروا عليهم وعرفوا خبرهم اماتهم الله في الكهف، فاختلف الذين ظهروا على امرهم من اهل مدينتهم من المؤمنين وهم الذين غلبوا على امرهم. وقيل رؤساؤهم الذين استولوا على امرهم. فقال بعضهم: ابنوا عليهم مسجدا ليصلي فيه المؤمنون تبركا بهم(1).

وقيل إن النزاع كان في ان بعضهم قال: قد ماتوا في الكهف. وبعضهم قال: لابل هم نيام كما كانوا، فقال عند ذلك بعضهم: إن الذي خلقهم وانامهم وبعثهم اعلم بحالهم وكيفية امرهم، فقال عند ذلك الذين غلبوا على امرهم من رؤسائهم لنتخذن عليهم مسجدا. وروي انهم لما جاؤا إلى فم الغار دخل صاحبهم اليهم واخبرهم بما كانوا عنه غافلين مدة مفامهم، فسألوا الله

___________________________________

(1) وفي المخطوطة زيادة وقال بعضهم: " ابنوا عليهم مسجدا " ليصلوا فيه إذا انتبهوا).

[26]

تعالى ان يعيدهم إلى حالتهم الاولى فاعادهم اليها، وحال بين من قصدهم وبين الوصول الهيم بأن اضلهم عن الطريق إلى الكهف الذي كانوا فيه، فلم يهتدوا اليهم. وقيل انهم لما دخلوا الغار سدوا على نفوسهم بالحجارة فلم يهتد احد اليهم لذلك.

قوله تعالى: (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربى اعلم بعدتهم ما يعلمهم الا قليل فلا تمار فيهم الا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم احدا(22) ولا تقولن لشئ إنى فاعل ذلك غدا(23) الا ان يشاء الله واذكر ربك اذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربى لاقرب من هذا رشدا(24))

يقول الله لنبيه صلى الله عليه وآله انه سيقول قوم من المختلفين في عدد اصحاب الكهف في هذا الوقت: انهم ثلاثة رابعهم كلبهم، وطائفة أخرى يقولون: خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب، وتقول طائفة ثالثة: انهم سبعة وثامنهم كلبهم. وذهب بعضهم إلى انهم سبعة لدخول واو العطف بعده في قوله " وثامنهم كلبهم " ولم يقل ذلك في الاول. وهذا ليس بشئ، لانه انما لم يدخل الواو في الاول، لانه جاء على الصفة بالجملة، والثاني على العطف على الجملة.

قال الرماني: وفرق بينهما، لان السبعة أصل للمبالغة في العدة، كما قال (عزوجل): استغفر لهم أولا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن

[27]

يغفر الله لهم "(1) وحكى البلخي عن بعض أهل العلم أنه قال: الواجب أن يعد في الحساب: واحد اثنان ثلاثة اربعة، فاذا بلغت إلى السبعة قلت: وثمانية - بالواو - اتباعا للآية.

وقوله " رجما بالغيب " قال قتادة: معنا قذفا بالظن.

وقال المؤرج: ظنا بالغيب بلغة هذيل.

وقال قوم: ما لم تستيقنه فهو الرجم بالغيب قال الشاعر: واجعل مني الحق غيبا مرجما(2) وقال زهير:

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم *** وما هو عنها بالحديث المرجم(3)

ثم قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله: قل لهم يا محمد: ربي اعلم بعدتهم، من الخائضين في ذلك والفائلين في عددهم بغير علم.

ثم قال تعالى: ليس يعلم عددهم إلا قليل من الناس، وهم النبي ومن أعلمه الله من نبيه.

وقال ابن عباس: أنا من القليل الذين يعلمون ذلك: كانوا سبعة وثامنهم كلبهم.

ثم قال تعالى، ناهيا لنبيه - والمراد به امته - " فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ".

قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك: معناه إلا بما أظهرنا لك من امرهم، والمعنى انه لايجوز أن تماري وتجادل إلا بحجة ودلالة، واخبار من الله، وهو المراء الظاهر.

وقال الضحاك: معناه حسبك ما ما قصصنا عليك.

وقال البلخي: وفى ذلك دلالة على أن المراء قد يحسن إذا كان بالحق وبالصحيح من القول. وإنما المذموم منه ما كان باطلا والغرض المبالغة لا بيان الحق. والمراء الخصومة والجدل.

___________________________________

(1) سورة 9 التوبة آية 8.

(2) قد مر هذا البيت كاملا في 1 / 205 من هذا الكتاب وقد نسبه هناك إلى عمير بن طارق. وروايته (الظن) بدل (الحق)(3) ديوانه (دار بيروت) 81 وهو في تفسير القرطبى 10 / 383

[28]

وقوله " ولا تستفت فيهم " يعني في أهل الكهف، وفى مقدار عددهم " منهم " يعني من اهل الكتاب " أحدا " ولا تستفهم من جهتهم. وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة.

وقوله " ولاتقولن لشئ اني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله " نهي من الله تعالى لنبيه ان يقول: اني افعل شيئا في الغد إلا أن يقيد قوله بمشيئة الله، فيقول: ان شاء الله، لانه لا يأمن اخترامه، فيكون خبره كذبا. وإذا قيده بقوله إن شاء الله، ثم لم يفعل، لم يكن كاذبا. والمراد بالخطاب جميع المكلفين، ومتى اخبر المخبر عن ظنه وعزمه بأنه يفعل شيئا فيما بعد ثم لم يفعل لا يكون كاذبا، لانه اخبر عن ظنه وهو صادق فيه.

وقال قوم: إلا أن يشاء الله، معناه إلا أن يشاء الله أن يلجئني إلى تركه.

وقال الفراء: قوله " إلا أن يشاء الله " بمعنى المصدر، فكأنه قال إلا مشيئة الله والمعنى إلا ما يريده الله. وإذا كان الله تعالى لايشاء إلا الطاعات فكأنه قال: لاتقل اني افعل إلا الطاعات وما يقرب إلى الله. هذا وجه حسن. ولا يطعن في ذلك جواز الاخبار عما يريد فعله من المباحات التي لا يشاؤها الله، لان هذا النهي ليس نهي تحريم، وانما هو نهي تنزيه، لانه لو لم يقل ذلك لما أتم بلا خلاف وانما هو نهي تحريم فيما يتعلق بالقبيح فانه لا يجوز أن يقول اني افعل ذلك بحال.

والآية تضمنت أن لايقول الانسان اني افعل غدا شيئا إلا أن يشاء الله. فأما أن يعزم عليه من ذكر ذلك، فلا يلزم المشيئة فيه إلا ندبا. بغير الآية.

وقوله " واذكر ربك إذا نسيت " قال الحسن: معناه انه اذا نسي أن يقول: إن شاء الله، ثم ذكر فليقل ان شاء الله.

وقال ابن عباس: له ان يستثني ولو إلى سنة.

وقال بعضهم: وله أن يستثني بعد الحنث إلا انه لاتسقط عنه الكفارة في اليمين، إلا إن يكون الاستثناء موصولا بالاجماع.

[29]

وقال الحسن له أن يستثني ما لم يقم من مجلسه الذي هو فيه، فان قام بطل استثناؤه.

وقال قوم " واذكر ربك إذا نسيت " أمرا ثم تذكرته، فان لم تذكره فقل " عسى أن يهديني ربي لاقرب من هذا رشدا ".

وقال بعضهم: عسى أن يعطيني ربي من ارشد ما هو أولى من قصة اصحاب الكهف.

والذي نقوله: ان الاستثناء متى لم يكن متصلا بالكلام أو في حكم المتصل، لم يكن له تعلق بالاول ولا حكم له، وانه يجوز دخول الاستثناء بمشيئة الله في جميع انواع الكلام: من الامر.

والنهي، والخبر، والايمان، وغير ذلك.

ومتى استثنى ثم خالف لم يكن حانثا في يمينه ولا كاذبا في خبره.

ومتى هو استثناه بعد مدة بعد انفصال الكلام لم يبطل ذلك حنثه ولزمته الكفارة.

ولو لم نقل ذلك أدى إلى ان لايصح يمين ولاخبر ولاعقد، فان الانسان متى شاء استثنى في كلامه ويبطل حكم كلامه.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال: (من حلف على أمر يفعله ثم رأى ما هو خير له فليحنث وليكفر عن يمينه) ولو كان الاستثناء جائزا بعد مدة، لكان يقول فليستثني ولا يحتاج إلى الكفارة ولا يلزمه الحنث.

وقد روي في اخبارنا مثل ما حكيناه عن ابن عباس.

ويشبه أن يكون المراد به أنه اذا استثنى وكان قد نسي من غير تعمد فانه يحصل له ثواب المستثني دون أن يؤثر في كلامه، وهو الاشبه بابن عباس وأليق بعمله وفعله، فان ما حكي عنه بعيد جدا.

وقال المبرد، وجماعة: إن قوله " ولا تقولن لشئ اني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله " ضم الاستثناء إلى الكلام الذي قبله.

ثم قال " واذكر ربك إذ نسيت وقل عسى " استأنف كلاما آخر وقصة أخرى.

وقال الجبائي هذا استئناف كلام من الله، وأمر منه لنبيه صلى الله عليه وآله أنه اذا أراد فعلا من الافعال فنسيه فليذكر الله وليقل عسى أن يهديني ربي لاقرب مما نسيته رشدا.

وقال عكرمة: " اذكر ربك اذا نسيت " معناه اذا نسيت امرا فاذكر ربك تتذكره، وهذا يدل على أنه لم يرد اليمين في الاستثناء.

[30]

وقيل سبب نزول ذلك أن قريشا لما جاء‌ت وسألت النبي صلى الله عليه وآله عن قصة اصحاب الكهف وقصة ذي القرنين، فقال لهم: غدا اخبركم، فأبطأ عنه جبرائيل. وقيل تأخر عنه اياما ثم أتاه بخبرهم. وهذا ليس بصحيح، لانه لو كان كذلك بأن وعدهم بأن يخبرهم غدا ثم لم يخبرهم لكان كذبا، وهو منه محال.

وقال ابراهيم: اذا حلف الحالف والكلام متصل فله استئناؤه اذا قال ان شاء الله.

وقال الكسائي والفراء: التقدير: ولا تقولن لشئ اني فاعل ذلك غدا إلا أن تقول ان شاء الله فأضمر القول، وانما كان الاستثناء مؤثرا اذا كان الكلام متصلا لانه يدل على انه يؤل كلامه، وإذا لم يكن متصلا فقد استقرت نيته وثبتت فلا يؤثر الاستثناء فيها.(1)

وروي عن ابن عباس انه قال: " رابعهم كلبهم " يعني راعيا يتبعهم، حكاه قطرب. وقال اخبر عن الكلب وأراد صاحبه، كقوله " واسأل القرية ". وانما اراد اهلها. (وهذا لايصح مع ظاهر قوله " وكلبهم باسط ذارعيه ") وقال الجبائي: لما اجتازوا على الراعي، فقال لهم اين تريدون قالوا: نفر بديننا، فقال الراعي: انا أولى بذلك، فتبعهم وتبعه الكلب.

وفي اصحاب الحديث من يقول: ان الكلب خاطبهم بالتوحيد والاعتراف بما اعترفوا به، ولذلك تبعهم. وهذا خرق عادة يجوز أن يكون الله فعله لطفا لهم، ومعجزة لبعضهم على ما حكي ان بعضهم كان نبيا، وهو رئيسهم، فيكون ذلك معجزة له، غير انه ليس بمقطوع به.

وقوله " عسى أن يهديني ربي لاقرب من هذا رشدا " معناه قل يا محمد عسى ان يعطيني ربي من الآيات على النبوة ما يكون اقرب وأدل من قصة اصحاب الكهف.

___________________________________

(1) كان في هذه الفقرات المتقدمة وما بعدها، اخطاء كثيرة ونقص واضح في المطبوعة فصحح على المخطوطة ولكثرة الاخطاء نبهنا عليها جملة.

الآية: 25 - 49

قوله تعالى: (ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا(25) قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السموات والارض أبصر به واسمع ما لهم من دونه من ولى ولا يشرك في حكمه أحدا(26) واتل ما اوحى إليك من كتاب ربك لامبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا(27))

ثلاث آيات بلا خلاف.

قرأ حمزة والكسائي " ثلاثمائة سنين " مضافا. الباقون بالتنوين، قال الفراء: من العرب من يضع (سنين) في موضع (سنة) فهي في موضع خفض على قراء‌ة من أضاف قال عنترة:

فيها اثنتان وأربعون حلوبة *** سودا كخافية الغراب الاسحم(1)

فمن نون نصب سنين ب‍ " لبثوا " وتقديره سنين ثلاثمائة، ف‍ (سنين) مفعول (لبثوا) و (ثلاثمائة) بدل، كما تقول خرجت أياما خمسة وصمت سنين عشرة. وان شئت نصبت " ثلاثمائة " ب‍ (لبثوا) وجعلت (سنين) بدلا ومفسرة لها.

ومن أضاف قال ابن خالوية: هي قراء‌ة غير مختارة، لانهم لايضيفون مثل هذا العدد إلا إلى الافراد فيقولون ثلاثمائة درهم ولا يقولون ثلاثمائة دراهم قال ابوعلي الفارسي قد جاء مثل ذلك مضافا إلى الجمع، قال الشاعر:

فما زودوني غير سحق عمامة *** وخمس مئ منها قسي وزائف(2)

___________________________________

(1) ديوانه (دار بيروت) 71 من معلقته الشهيرة.

(2) لسان العرب قسا) نسبه إلى مزرد

[32]

جمع على فعل. وقد كسر القاف كما كسر في (حلى) وقرأ ابن عامر، " ولا تشرك " بالتاء على الخطاب. الباقون بالياء على الخبر، فمن قرأ على النهي قال تقديره " لاتشرك " ايها الانسان. ومن قرأ على الخبر، فلتقدم الغيبة. وهو قوله " ما لهم من دونه من ولي " والهاء للغيبة.

وقرأ الحسن " تسع وتسعون "(1) بفتح التاء - يقال تسع بكسر التاء وفتحها، وهما لغتان. والكسر اكثر وافصح.

قوله " ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا " الآية معناه إخبار من الله تعالى وبيان عن مقدار مدة لبثهم يعني أصحاب الكهف إلى وقت إنتباههم.

ثم قال لنبيه، فان حاجك المشركون فيهم من أهل الكتاب، فقل " الله اعلم بما لبثوا " وهو قول مجاهد، والضحاك، وعبيد بن عمير، كما قال " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا "(2) ومن قرأ بالتاء، قال معناه لاتنسبن احدا إلى عالم الغيب. ويحتمل أن يكون المعنى لايجوز لحاكم أن يحكم إلا بما حكم الله به أو بما دل على حكم الله، وليس لاحد أن يحكم من قبل نفسه، فيكون شريكا لله في أمره وحكمه. وقيل إن معناه " قل الله أعلم بما لبثوا " إلى أن ماتوا.

وحكى عن قتادة أن ذلك حكاية عن قول اليهود فانهم الذين قالوا لبثوا في كهفهم ثلثمائة سنين وازدادوا تسعا. وقوى ذلك بقوله " قل الله اعلم بما لبثوا " فذكر تعالى أنه العالم بذلك دون غيره. وقد ضعف جماعة هذا الوجه قالوا: لان الوجه الاول أحسن، لانه ليس لنا أن نصرف اخبار الله إلى أنه حكاية إلا بدليل قاطع، ولانه معتمد الاعتبار الذي بينه الله (عزوجل) للعباد.

وقوله " له غيب السموات والارض " فالغيب يكون للشئ بحيث لا يقع

___________________________________

(1) سورة 38 صلى الله عليه وآله آية 23.

(2) سورة 72 - الجن - آية 26

[33]

عليه الادراك، ولا يغيب عن الله تعالى شئ، لانه لايكون بحيث لايدركه.

وقيل " عالم الغيب والشهادة "(1) معناه ما يغيب عن احساس العباد وما يشاهدونه.

وقيل ما يصح ان يشاهد وما لا يصح أن يشاهد.

وقوله " اسمع به وابصر "(2) معناه ما أسمعه وما أبصره بأنه لا يخفى عليه شئ فخرج التعجب على وجه التعظيم له تعالى.

وقوله " ما لهم من دونه من ولي " اي ليس للخلق وقيل إنه راجع إلى اهل الكهف أي ليس لهم من دون الله ولي ولا ناصر " ولايشرك " يعني الله " في حكمه " بما يخبر به من الغيب " احدا ".

ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله " اتل ما أوحي اليك " أي اقرأ عليهم ما أوحى الله اليك من اخبار اصحاب الكهف وغيرهم.

وقوله " لامبدل لكلماته " أي لا مغير لما أخبر الله تعالى به، لانه صدق ولا يجوز أن يكون بخلافه " ولن تجد من دونه ملتحدا " ومعناه ملتجأ تهرب اليه وقال مجاهد: ملجأ، وقال قتادة: موئلا. وقيل: معدلا.

وهذه الاقوال متقاربة المعنى وهو من قولهم لحدت إلى كذا أي ملت اليه، ومنه اللحد، لانه في ناحية القبر وليس بالشق الذي في وسطه، ومنه الالحاد في الدين، وهو العدول عن الحق فيه.

(وسنين) فيه لغتان تجمع جمع السلامة وجمع التكسير فالسلامة هذه سنون ورأيت سنين وجمع التكسير بتنوين النون تقول هذه سنون وصمت سنينا وعجبت من سنين.

وقوله " وازدادوا تسعا " يعني تسع سنين، فاستغنى بالتفسير في الاول عن اعادته ههنا.

___________________________________

(1) سورة 6 الانعام آية 73 وسورة 13 - الرعد - آية 10 وغيرهما كثيرا في القرآن.

(2) سورة 19 مريم آية

[34]

قوله تعالى: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشى يريدون وجهه ولاتعد عيناك عنهم تريد زينة الحيوة الدنيا ولا تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هويه وكان أمره فرطا(28) وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساء‌ت مرتفقا(29) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا(30))

ثلاث آيات بلا خلاف.

قرأ ابن عامر وحده " بالغدوة والعشي " بضم الغين والواو، وإسكان الدال. الباقون بفتح الغين والدال، ومع الالف، ولايجوز عند أهل العربية إدخال الالف واللام على غدوة، لانها معرفة، ولو كانت نكرة لجاز فيها الاضافة ولا يجوز غدوة يوم الجمعة كما يجوز غداة يوم الجمعة.

وقال ابوعلي النحوي من أدخل الالف واللام، فانه يجوز - وإن كان معرفة - أن تنكر، كما حكى أبوزيد لقيته فينة. والفينة بعد الفينة، ففينة مثل غدوة في التعريف، ومثل قولهم: اما النضرة، فلا نضرة، فأجري مجرى ما يكون سائغا في الجنس. ومن قرأ بالغداة، فقوله أبين.

وقال ابن خالويه: العرب تدخل الالف واللام على

[35]

المعرفة إذا جاؤا بما فيه الالف واللام ليزدوج الكلام، قال الشاعر:

وجدنا الوليد بن اليزيد مباركا *** شديدا باعباء الخلافة كاهله(1)

فادخل الالف واللام على اليزيد لما جاور الوليد، فلذلك أدخل ابن عامر الالف واللام في (الغدوة) لما جاور العشي.

والعرب تجعل (بكرة وغدوة وسحر) معارف إذا أرادوا اليوم بعينه.

أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله بالصبر على جملة المؤمنين الذين يدعون الله بالغداة والعشي، والصبر على ثلاثة اقسام: صبر واجب مفروض وهو ما كان على اداء الواجبات التي تشق على النفس وتحتاج إلى التكلف.

والثاني - ما هو مندوب فان الصبر عليه مندوب اليه.

والثالث - مباح جائز، وهو الصبر على المباحات التي ليست بطاعة لله.

وقوله " يريدون وجهه " معناه يريدون تعظيمه والقربة اليه دون الرياء والسمعة، فذكر الوجه بمعنى لاجل التعظيم، كما يقال اكرمته لوجهك أي لتعظيمك لان من عادتهم أن يذكروا وجه الشئ ويريدون به الشئ المعظم. كقولهم هذا وجه الرأي أي هذا الرأي الحق المعظم.

وقوله " ولا تعد عيناك عنهم " معناه لا تتجاوز عيناك إلى غيرهم ولا تنصرف وقيل انها نزلت في سلمان واصحابه إلى سواهم من أرباب الدنيا الممرحين فيها " تريد " بذلك " زينة الحياة الدنيا. ولاتطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا " نزلت في عيينة بن حصين.

وقيل في معناه ثلاثة أقوال: احدها - لاتطع من صادفناه غافلا عن ذكرنا كقولهم احمدت فلانا أي صادفته محمودا فهو من باب صادفناه على صفة.

الثاني - لاتطع من سميناه غافلا، ونسبناه إلى الغفلة كقولهم أكفرناه أي نسبناه إلى الكفر.

___________________________________

(1) مر تخريجه في 4 / 208 من هذا الكتاب

[36]

والثالث - لا تطع من أغفلنا قلبه أي جعلناه غافلا بتعرضه للغفلة.

وقيل لم يسمه الله بما يسم به قلوب المؤمنين مما ينبئ عن فلاحهم، كما قال " كتب في قلوبهم الايمان "(1).

" واتبع هواه " يعني الذي أغفلناه عن ذكرنا " اتبع هواه، وكان أمره فرطا " معناه تجاوزا للحق وخروجا عنه، من قولهم أفرط إفراطا اذا أسرف، فاما فرط فمعناه قصر عن التقدم إلى الحق الذي يلزمه.

وقيل معناه وكان أمره سرفا.

ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله أن يقول لهم الذي أتيتكم به هو الحق من ربكم الذي خلقكم " فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر " صورته صورة الامر والمراد به التهديد وهو آكد في التهدد من جهة أنه كأنه مأمور بما يوجب اهانته.

ثم أخبر أنه أعد للظالمين العصاة نارا أحاط بهم سرادقها فالسرادق المحيط بما فيه مما ينقل معه والاصل سرادق الفسطاط قال رؤبة:

يا حكم بن المنذر بن الجارود *** سرادق المجد إليك ممدود(2)

وقال ابن عباس سرادقها حائط من نار يطيف بهم، وقيل سرادقها دخانها قبل وصولهم اليها.

وقيل السرادق ثوب يدار حول الفسطاط.

وقوله " وإن يستغيثوا " معناه إن طلبوا الغوث والنجاة، وطلبوا ماء لشدة ما هم فيه من العذاب " اغيثوا بماء كالمهل " والمهل كل شئ أذيب حتى ماع، كالصفر والرصاص والذهب والحديد، وغير ذلك - في قول ابن مسعود - وقال مجاهد: هو القيح والدم.

وقال ابن عباس هو دردي الزيت.

___________________________________

(1) سورة 58 المجادلة، آية 22.

(2) تفسير القرطبى 10 / 393 ومجاز القرآن 1 / 399 واللسان (سردق) وسيبويه 1 / 272

[37]

وقال سعيد بن جبير هو الشئ الذي قد انتهى حره " يشوي الوجوه " أي يحرقها من شدة حره إذا قربت منه.

ثم قال تعالى مخبرا عن ذلك بأنه " بئس الشراب " يعني ذلك المهل " وساء‌ت مرتفقا " وقيل معناه المتكأ من المرفق، كما قال أبوذؤيب:

بات الخلي وبت الليل مرتفقا *** كان عيني فيها الصاب مذبوح(1)

وقيل هو من الرفق.

وقال مجاهد معناه مجتمعا كأنه ذهب به إلى معنى مرافقة.

ثم أخبر تعالى عن المؤمنين الذين يعملون الصالحات من الطاعات ويجتنبون المعاصي بأنه لا يضيع أجر من أحسن عملا ولا يبطل ثوابه.

وقيل في خبر " إن الذين آمنوا " ثلاثة أقوال: احدها - ان خبره قوله " اولئك لهم جنات عدن " ويكون قوله " إنا لانضيع اجرمن احسن عملا " اعتراضا بين الاسم والخبر.

الثاني - ان يكون الخبر إنا لانضيع أجره، إلا انه وقع المظهر موقع المضمر.

والثالث - أن يكون على البدل، فلا يحتاج الاول إلى خبر، كقول الشاعر:

إن الخليفة ان الله سربله *** سربال ملك به ترجى الخواتيم

فاخبر عن الثاني وأضرب عن الاول.

___________________________________

(1) ديوان الهذليبن 1 / 104 وتفسير الطبري 15 / 148 ومجاز القرآن 1 / 400 وتفسير القرطبي 10 / 395 والتاج واللسان والصحاح (صوب) وغيرها

[38]

قوله تعالى: (أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الانهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على ألارائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا(31) واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لاحدهما جنتين من أعناب وحففنا هما بنخل وجعلنا بينهما زرعا(32) كلتا الجنتين آتت اكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلا لما نهرا(33) وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا(34))

أربع آيات في الكوفي والبصري وثلاث في المدنى تمام الثانية (زرعا).

قرأ عاصم وأبوجعفر وروح " وكان له ثمر ".

" واحيط بثمره " بفتح الثاء والميم فيهما، وافقهم رويس في الاولى.

وقرأ أبوعمرو - بضم الثاء وسكون الميم - فيهما.

الباقون بضمهما فيهما.

قال ابوعلي: الثمر ما يجتنى من ذي الثمر وجمعه ثمرات مثل رحبة ورحبات: ورقبة ورقبات، ويجوز في جمع (ثمرة) ضربان: احدهما - على ثمر، كبقرة وبقر والاخر - على التكسير، فتقول ثمار كرقبة ورقاب، فيشبه المخلوقات بالمصنوعات وشبه كل واحد منهما بالآخر.

ويجوز في القياس أن يكسر (ثمار) الذي هو جمع ثمرة على ثمر، ككتاب وكتب، ويجوز أن يكون ثمر جمع ثمرة كبدنة وبدن وخشبة وخشب، ويجوز أن يكون ثمر واحدا كعنق وطنب، فعلى جميع هذه الوجوه يجوز اسكان العين منه.

[39]

ومثله في قوله " واحيط بثمره ".

وقال بعض أهل اللغة: الثمر المال، والثمر المأكول.

وجاء في التفسير (إن الثمر النخل والشجر) ولم يرد به الثمر.

فالثمر - على ما روي عن جماعة من السلف - الاصول التي تحمل الثمرة لا نفس الثمرة بدلالة قوله " فاصبح يقلب كفيه على ما انفق فيها " أي في الجنة والنفقة انما تكون على ذوات الثمر في الاكثر، فكأن الآية التي أرسلت عليها اصطلمت الاصول وإجتاحتها، كما قال تعالى في صفة الجنة الاخرى " فأصبحت كالصريم "(1) أي كالليل في سواده لاحتراقها بعد أن كانت كالنها في بياضها.

وحكي عن أبي عمرو، إن الثمرة والثمر أنواع المال من الذهب والفضة وغيرهما يقال: فلان مثمر أي كثير المال، ذهب اليه مجاهد وغيره.

اخبر الله تعالى في الآية الاولى عما للمؤمنين الذين آمنوا وعملوا الصالحات الذين أخبر عنهم بأنه لايضيع عملهم الحسن، وما قد أعد لهم، فقال " لهم جنات عدن " والجنات جمع جنة، وهي البستان الذي فيها الشجر.

ومعنى (عدن) أي موضع اقامة، وانما سمي بذلك.

لانهم يبقون فيها ببقاء الله دائما وأبدا، والعدن الاقامة.

وقيل: هو اسم من اسماء الجنة - في قول الحسن - ويقال عدن بالمكان يعدن عدنا اذا أقام فيه، فسمى الجنة عدنا من اقامة الخلق فيها.

ثم وصف هذه الجنة، فقال " تجري من تحتهم الانهار " وقيل في معنا ذلك قولان: احدهما - إن انهار الجنة في اخاديد من الارض، فلذلك قال من تحتهم. الثاني - انهم على غرف فيها فالانهار تجري من تحتهم، كما قال تعالى " وهم في الغرفات آمنون "(2).

___________________________________

(1) سورة 68 - القلم آية 20.

(2) سورة 34 سبأ آية 37

[40]

وقوله " يحلون فيها من اساور من ذهب " أي يجعل لهم فيها حليا من زينة من أساور، وهو جمع اسوار على حذف الزيادة، لان مع الزيادة أساوير، في قول قطرب.

وقيل هو جمع اسورة، واسورة جمع سوار، يقال بكسر السين وضمها - في قول الزجاج - والسوار زينة تلبس في الزند من اليد. وقيل هو من زينة الملوك يسور في اليد ويتوج على الرأس.

" ويلبسون ثيابا خضرا من سندس واستبرق " فالسندس مارق من الديباج واحده سندسة وهي الرقيقة من الديباج، على أحسن ما يكون وأفخره، فلذلك شوق الله اليه. والاستبرق الغليظ من الديباج.

وقيل هو الحرير قال المرقش:

تراهن يلبسن المشاعر مرة *** واستبرق الديباج طورا لباسها(1)

وقوله تعالى " متكئين " نصب على الحال " فيها " يعني في الجنة " على الارائك " جمع أريكة، وهي السرير قال الشاعر:

خدودا جفت في السير حتى كأنما *** يباشرن بالمعزاء مس الارائك(2)

وقال الاعشى:

بين الرواق وجانب من سيرها *** منها وبين أريكة الانضاد(3)

أي السرير في الحجلة.

وقال الزجاج: الارائك الفرش في الحجال.

ثم قال تعالى إن ذلك " نعم الثواب " والجزاء على الطاعات " وحسنت مرتفقا " يعني

___________________________________

(1) تفسير القرطبي 10 / 397 وتفسير الطبري 15 / 148 وهو في مجمع البيان 3 / 466.

(2) قائله دون الرمة ديوانه 442 ومجاز القرآن 1 / 401 وتفسير الطبري 15 / 148.

(3) ديوان الاعشيين (طبع بيانة) 344 وتفسير الطبري 15 / 148 ومجاز القرآن 1 / 401.

[41]

حسنت الجنة مرتفقا، فلذلك أنث الفعل، ومعنى " مرتفقا " اي مجلسا، وهو نصب على التمييز.

ثم قال " واضرب لهم مثلا رجلين " أي اضرب رجلين لهم مثلا " جعلنا لاحدهما جنتين من اعناب وحففناهما بنخل " أي جعلنا النخل مطيفا بهما يقال حفه القوم يريد إذا طافوا به " وجعلنا بينهما زرعا " اعلام بأن عمارتها كاملة متصلة لا يفصل بينمها إلا عمارة.

واعلمنا أنهما كاملتان في تأدية كل حملهامن غلتها، فقال " كلتا الجنتين آتت اكلها " أي طعمها وما يؤكل منها " ولم تظلم منه شيأ " أي لم تنقص بل أخرجت ثمرها على الكمال والتمام، قال الشاعر:

يظلمني مالي كذا ولوى يدي *** لوى يده الله الذي هو غالبه(1)

أي ينقصني مالي.

وقال الحسن: معناه لم ينقص " وفجرنا خلالهما نهرا " أي شققنا نهرا بينهما، وفائدتهما أنهما يشربان من نهر واحد.

" وكان له ثمر " وقرئ (ثمر) قال مجاهد هو ذهب، وفضة.

وقال ابن عباس وقتادة: هو صنوف الاموال، يقال: ثمار وثمر مثل حمار وحمر، ويجوز أن يكون جمع ثمر، مثل خشب وخشب، وانما قال " كلتا الجنتين آتت " على لفظ كلتا، لانه بمنزلة (كل) في مخرج التوحيد.

ولو قال آتتا، على الجنتين كان جائزا قال الشاعر في التوحيد:

وكلتاهما قد خط لي في صحيفتي *** فلا العيش اهواه ولا الموت أروح(2)

ويجوز كلاهما في الحديث قال الشاعر:

كلا عقبيه قد تشعث رأسها *** من الضرب في جنبي ثقال مباشر

والالف واللام في كلتا ليست ألف التثنية، ولذلك يجوز أن تقول الاثنتان

___________________________________

(1) مر تخريجه في 2 / 508.

(2) البيت في مجمع البيان غير منسوب

[42]

قام، ويجوز ان يقال كل الجنة آتت. ولايجوز كل المرأة قامت، لان بعض الامرأة ليس بامراة وبعض الجنة جنة، فكأنه قال كل جنة من جملة ما آتت.

وقوله " فقال لصاحبه وهو يحاوره " أي يقول احد الرجلين لصاحبه يعني صاحبي الجنتين اللتين ضرب بهما المثل، يقول لصاحبه الآخر " وهو يحاوره " أي يراجعه الكلام " أنا اكثر منك مالا وأعز نفرا " أي أجمع مالا وأعز عشيرة واكثر انصارا، وقد فسرناه فيما مضى وإنما قال " وفجرنا خلالهما نهرا " والنهر يتفجر من موضع واحد لان النهر يمتد حتى يصير التفجر كانه فيه كله، فالتخفيف والتثقيل فيه جائزان ومنه " حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا "(1) يخفف ويثقل على ما مضى القول فيه.

قوله تعالى: (ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا(35) وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربى لاجدن خيرا منها منقلبا(36) قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سويك رجلا(37))

آيتان في عدد اسماعيل وشامى وثلاثة في ما عداه لانهم عدوا ابدا اية ولم يعدها اسماعيل ولا الشامى وثلاثة آيات في الكوفي والمدنى الاول واثنتان في المدنى الاخير.

قرأ اهل الحجاز وابن عامر " خيرا منهما " بزيادة ميم على التثنية. الباقون بلا ميم.

___________________________________

(1) سورة 17 - الاسرى آية 90

[43]

اخبر الله تعالى عن أحد الرجلين اللذين ضرب بهما المثل، وهو صاحب الجنتين انه دخل جنته وهي البستان الذي يجنه الشجر ويحفه الزهر، " وهو ظالم لنفسه " أي باخس لها حقها بارتكاب القبيح والاخلال بالواجب اللذين يستحق بهما العقاب ويفوته بهما الثواب، فلما رأى هذا الجاهل ما راقه وشاهد ما أعجبه، وكبرفي نفسه توهم أنه يدوم، وأن مثله لا يفنى، فقال " ما أظن ان تبيد هذه أبدا " أي تهلك هذه الجنة أبدا " وما أظن الساعة قائمة " يعني يوم القيامة أي تقوم، كما يدعيه الموحدون.

ثم قال " ولئن رددت إلى ربي " وجدت " خيرا منها " يعني من الجنة.

ومن قرأ " منهما " أراد الجنتين " منقلبا " أي في المرجع اليه.

وانما قال هذا مع كفره بالله تعالى، لان المعنى ان رددت إلى ربي، كما يدعى من رجوعي، فلي خير من هذه، تحكما سولته له نفسه، لا مطمع فيه.

وقال ابن زيد: شك، ثم قال على شكه في الرجوع إلى ربه ما أعطاني هذه الاولى عنده خير منها " فقال له صاحبه وهو يحاوره " أي يراجعه الكلام " اكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا " ومعنى خلقك من تراب أن اصلك من تراب إذ خلق اباك آدم (ع) من تراب، فهو من تراب ويصير إلى التراب، وقيل لما كانت النطفة يخلقها الله بمجرى العادة من الغذاء، والغذاء نبت من التراب، جاز أن يقال: خلقك من تراب، لان أصله تراب كما قال من نطفة، وهو في هذه الحال خلق سوي حي، لكن لما كان أصله كذلك جاز أن يقال ذلك.

وفى الآية دلالة على ان الشك في البعث والنشور كفر، والوجه في خلق البشر وغيره من الحيوان وتنقله من تراب إلى نطفة، ثم إلى علقة، ثم إلى صورة، ثم إلى طفولية، ثم إلى حال الرجولية، ما في ذلك من الاعتبار الذي هو دال على تدبير مدبر

[44]

مختار يصرف الاشياء من حال إلى حال، لان ما يكون في الطبع يكون دفعة واحدة كالكتابة التي يوجدها بالطبائع من لايحسن الكتابة، فلما انشأ الخلق حالا بعد حال دل على أنه عالم مختار.

و (المحاورة) مراجعة الكلام و (المنقلب) المعاد، و (التسوية) جعل الشئ على مقدار سواه، فقوله " سواك رجلا " أي كملك رجلا.

قوله تعالى: (لكنا هو الله ربى ولا اشرك بربى أحدا(38) ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا(39) فعسى ربى أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا(40) أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا(41))

أربع آيات بلا خلاف.

قرأ نافع - في رواية المسيبي - وابن عامر، وابوجعفر، ورويس، والبرجمي، والعبسي " لكنا هو الله ربي " باثبات الالف في الوصل، وهي قراء‌ة ورش عن نافع. والباقون بغير الف في الوصل. ولم يختلفوا في الوقف أنه بألف. وقد جاء الاثبات في الوصل، قال الاعشى:

فكيف أنا وانتحالى القوافي *** بعد المشيب كفى ذاك عارا(1)

___________________________________

(1) ديوانه (دار بيروت) 84 وطبع (بيانه) 41 والقرطبي 10 / 405 وروايته (فما انا أم ما انتحالي القوافى)

[45]

غير ان ذلك من ضروة الشعر، ويجوز في " لكنا هو الله ربي " خمسة أوجه في العربية.

احدها - لكن هو الله - بالتشديد - من غير الف في الوصل والوقف.

الثاني - بالف في الوصل والوقف.

الثالث - لكننا باظهار النونين وطرح الهمزة.

الرابع - لكن هو الله ربي بالتخفيف.

الخامس - لكن انا على الاصل.

وقال الكسائي: العرب تقول: أن قائم بمعنى أنا قائم، فهذا نظير " لكن هو الله " ومن قرأ لكنا في الوصل احتمل امرين: أحدهما - أن يجعل الضمير المتصل مثل المنفصل الذي هو نحن، فيدغم النون من " لكن " - لسكونها - في النون من علامة الضمير، فيكون على هذا باثبات الالف وصلا ووقفا، لان أحدا لا يحذف الالف من (انا فعلنا).

وقوله " هو الله " فهو ضمير علامة الحديث والقصة. كقوله " فاذا هي شاخصة "(1) وقوله " قل هو الله احد " والتقدير: الامر: الله احد، لان هذا الضمير يدخل على المبتدإ والخبر، فيصير المبتدأ والخبر في موضع خبر وعاد على الضمير الذي دخلت عليه (لكن) على المعنى، ولو عاد على اللفظ لقال: لكنا هو الله ربنا. ودخلت (لكن) مخففة على الضمير، كما دخلت في قوله " انا معكم "(2) والوجه الاخر - أن يكون ما حكاه سيبويه أنه سمع من يقول أعطني يبضة فشدد وألحق الهاء بالتشديد الموقف، والهاء مثل الالف في سبساء، والياء في (عيهل) واجرى الهاء مجراهما في الاطلاق، كما كانت مثلهما في نحو قوله:

___________________________________

(1) سورة 21 الانبياء آية 97.

(2) سورة 2 البقرة آية 14

[46]

صفية قومي ولا تجزعي *** وبكى النساء على حمزة(1)

وهذا الذي حكاه سيبويه ليس في شعر، فكذلك الآية يكون الالف فيها كالهاء، ولاتكون الهاء للوقف لان هاء الوقف لايبين بها المعرب، ولا ما ضارع المعرب فعلى احد هذين الوجهين يكون قول من اثبت الالف في الوصل أو عليهما جميعا، ولو كانت فاصلة، لكان مثل " فاضلونا السبيلا "(2) وفى (أنا) في الاصل ثلاث لغات أجودها (أنا قمت) كقوله " أنا ربكم الاعلى " بغير ألف في اللفظ، ويجوز (أنا قمت) باثبات الالف، وهو ضعيف جدا وحكوا أن قمت باسكان النون، وهو ضعيف أيضا وأما " لكنا هو الله ربي " باثبات الالف فهو الجيد، لان الهمزة قد حذفت من انا فصار اثبات الالف عوضا عن الهمزة، وحكي أن أبيا قرأ " لكن انا هو الله " قال الزجاج وهو الجيد البالغ، وما قرأه القراء ايضا جيد.

وقوله " قلت ما شاء الله " تحتمل (ما) أن تكون رفعا، وتقديره قلت الامر ما شاء الله، ويجوز ان تكون نصبا على معنى الشرط والجزاء.

والجواب مضمر وتقديره أي شئ شاء الله كان، وتضمر الجواب، كما تضمر جواب (لو) في قوله " ولو أن قرآنا سيرت به الجبال "(3) والمعنى كان هذا القرآن.

ومعنى " لاقوة إلا بالله " لا يقدر أحد إلا بالله، لان الله هو الذي يفعل القدرة للفعل.

وقوله " ان ترني انا اقل " منصوب بأنه مفعول ثان ل‍ (ترني) و " أنا " تصلح لشيئين: احدهما - ان تكون توكيدا للنون والياء. والثاني - ان تكون فصلا كما تقول: كنت انت القائم يا هذا، ويجوز رفع (اقل) وبه قرأ عيسى بن عمر على ان يكون (أنا) مبتدأ و (اقل) خبره.

___________________________________

(1) البيت في مجمع البيان 3 / 470.

(2) وسورة 33 - الاحراب آية 67.

(3) سورة 13 - الرعد - آية 33

[47]

والجملة في موضع المفعول الثاني - ل‍ (ترني) وقوله " غورا " قراه البرجمي بضم الغين - ههنا - وفي الملك، وانما جاز ان يقع المصدر في موضع الصفة في ماء غور، للمبالغة، كما تقول في الحسن وجهه: نور ساطع، وقال الشاعر:

تظل جياده نوحا عليه *** مقلدة أعنتها صفونا(1)

حكى الله تعالى عن الذي قال لصاحبه " اكفرت بالذي خلقك من تراب " أنه قال " لكن هو الله ربي " ومعناه لكن أنا هو الله ربي إلا أنه حذف الهمزة، والقى حركتها على الساكن الذي قبلها، فالتقت النونان، وأدغمت احداهما في الاخرى، كما قال الشاعر:

ويرمينني بالطرف أي انت مذنب *** ويقلينني لكن إياك لا أقلى(2)

أي لكن أنا.

وقوله " ولا أشرك بربي احدا " أي لا أشرك بعبادتي أحدا مع الله بل أوجهها إليه خالصة له وحده. وإنما استحال الشرك في العبادة، لانها لاتستحق إلا باصول النعم التي لاتواز بها نعمة منعم، وذلك لا يقدر عليه أحد إلا الله.

ثم قال له " ولو لا إذ دخلت جنتك " والمعنى هلا حين دخلت جنتك " قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله " لاحد من الخلق " ان ترني أنا اقل منك مالا وولدا فعسى ربي أن يؤتيني " بمعنى ان يعطيني خيرا من جنتك جنة في الدار الآخرة " وأن يرسل عليها " أي على جنتك حسبانا من السماء.

قال ابن عباس، وقتادة: عذابا.

وقيل نارا من السماء تحرقها. وقيل أصل الحسبان السهام التي ترمى لتجري في طلق واحد، وكان ذلك من رمي الاساورة. والحسبان المرامي الكثيرة مثل كثرة الحساب واحده حسبانة.

___________________________________

(1) قيل ان البيت لعمر بن كلثوم من معلقته وهو في أمالي السيد المرتضى 1 / 105، 201.

(2) تفسير القرطبى 10 / 405، ومجمع البيان 3 / 470

[48]

وقوله " فتصبح صعيدا زلقا " أي ترابا محترقا. والزلق الذي لانبات فيها.

وقال الزجاج: الصعيد الطريق الذي لانبات فيه أي ملساء ما أنبتت من شئ قد ذهب.

وقال الزجاج: المعنى ويرسل عليها عذاب حساب بما كسبت يداك، لان الحسبان هو الحساب.

وقوله " او يصبح ماؤها غورا " أي ذاهبا في باطن غامض. والمعنى غائرا، فوضع المصدر موضع الصفة ونصب على الحال ولذلك لايثنى ولا يجمع.

وقوله " فلن تستطيع له طلبا " أي لا تقدر على طلب الماء إذا غار، والطلب تقليب الامر لوجدان ما يهلك.

قال الرماني هذا أصله، ثم قيل للمريد من غيره فعلا: طالب لذلك الفعل بارادته او أمره والمفكر في المعنى (طالب) لادراك ما فيه وكذلك السائل.

قوله تعالى: (وأحيط بثمرة فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهى خاوية على عروشها ويقول يا ليتنى لم أشرك بربى أحدا(42) ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا(43) هنالك الولاية لله ألحق هو خير ثوابا وخير عقبا(44))

ثلاث آيات بلا خلاف.

قرأ ابن كثير، وابن عامر، ونافع وعاصم " الولاية " بفتح الواو " لله الحق " بكسر القاف، وقرأ حمزة بكسرهما.

وقرأ ابوعمرو: بفتح الواو، وضم القاف.

وقرأ الكسائي بكسر الواو وضم القاف.

وقرأ اهل الكوفة إلا عاصما " ولم يكن " بالياء الباقون بالتاء.

[49]

من قرأ بالتاء فلتأنيث الفئة، والفئة الجماعة، وقد يسمى الرجل الواحد فئة، كما ان الطائفة تكون جماعة وواحدا.

قال ابن عباس في قوله " وليشهد عذابهما طائفة " فالطائفة قد تكون الرجل الواحد.

ومن قرأ بالياء فلقوله " ينصرونه " ولان التأنيث غير حقيقي.

واما (الولاية) بفتح الواو، وكسرها فلغتان مثل الوكالة والوكالة والدلالة والدلالة.

وقال قوم: هما مصدران فالمكسور مصدر الوالي من الامارة والسلطان. والمفتوح مصدر الولي ضد العدو، تقول: هذا ولي بين الولاية.

واما قوله " الحق " فمن خفض قال الحق هو الله فخفضه نعتا لله، واحتج بقراء‌ة ابن مسعود " هنالك الولاية لله وهو الحق " وفى قراء‌ة ابي " هنالك الولاية الحق لله " ومن رفع جعله نعتا للولاية، وأجاز الكوفيون والبصريون النصب بمعنى أحق ذلك حقا، والحق اليقين بعد الشك.

قوله " واحيط بثمره " معناه هلكت ثمرهم عن آخرها، ولم يسلم منها شئ كما يقال أحاط بهم العدو إذا هلكوا عن آخرهم والاحاطة ادارة الحائط على الشئ.

ومنه قوله " ولا يحيطون بشئ من علمه "(1) أي لا يعلمون معلوماته، والحد محيط بجميع المحدود.

وقوله " فاصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها " أي يتحسر على ما انفق في عمارتها " وهي خاوية على عروشها " معناه حيطانها قائمة لا سقوف عليها، لانها انهارت

___________________________________

(1) سورة 2 - البقرة - آية 256

[50]

فصارت في قرارها، وخوت فصارت خاوية من الاساس.

ومثله قولهم وقعت: الدار على سقوفها أي أعلاها على أسفلها.

وقيل خاوية على بيوتها، والعروش الابنية أي قد ذهب شجرها وبقيت جدر انها، لاخير فيها.

وقيل العروش السقوف، فصارت الحيطان على السقوف.

وقوله " ويقول ياليتني لم اشرك بربي احدا " اخبار منه تعالى عما يقول صاحب الجنة الهالكة، وانه يندم على ما كان منه من الشرك بالله.

ثم قال تعالى " ولم يكن له فئة " اي جماعة " ينصرونه من دون الله " قال العجاج: كما يجوز الفئة الكمي وقوله تعالى " وما كان منتصرا " قال قتادة: معنا ما كان ممتنعا. وقيل معناه ما كان منتصرا بان يسترد بدل ما كان ذهب منه.

وقوله (هنالك الولاية لله الحق) اخبار منه تعالى ان في ذلك الموضع الولاية بالنصرة والاعزاز لله (عزوجل) لايملكها احد من العباد يعمل بالفساد فيها، كما قد مكن في الدنيا على طريق الاختيار، فيصح الجزاء في غيرها.

وقوله (هو خير ثوابا وخير عقبا) انما قال هو خير ثوابا مع أنه لايثيب أحد إلا الله لامرين: احدهما - انه على رد ادعاء الجهال انه قد يثيب غير الله، فتقديره لو كان غيره يثيب، لكان هو خير ثوابا. والثاني انه خير جزاء على العمل.

وعاقبة ما يدعو اليه خير من عاقبة ما لا يدعو اليه.

والولاية بفتح الواو ضد العداوة، وبكسرها الامارة والسلطان.

وقرأ عاصم وحمزة " عقبا " بسكون القاف. الباقون بضمتين وهما لغتان بمعنى العاقبة، وهو نصب على التمييز (وهنالك) اشارة إلى يوم القيامة. والمعنى ان يوم القيامة تتبين نصرة الله، لاوليائه.

[51]

و (عقبا) أي عاقبة يقال عقبى الدار، وعقب الدار، وعقب الدار، وعاقبة الدار بمعنى واحد.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=1273
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29