• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : التبيان في تفسير القرآن (الجزء الثاني) ، تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي .
                    • الموضوع : سورة آل عمران (من آية 37 ـ 75) .

سورة آل عمران (من آية 37 ـ 75)

[446]

 قوله تعالى: فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب(37)

آية واحدة بلا خلاف.

القراء‌ة، والمعنى، واللغة: قرأ أهل الكوفة " كفلها " بالتشديد. الباقون بالتخفيف.

والتخفيف أليق بقوله " أيهم يكفل مريم "(1) وقرأ أهل الكوفة إلا أبابكر (زكريا) مقصورا. الباقون بالمد.

ونصب (زكرياء) مع المد أبوبكر. الباقون بالرفع.

قوله: " فتقبلها ربها بقبول حسن " معناه رضيها في النذر الذي نذرته بالاخلاص للعبادة في بيت المقدس، ولم يقبل قبلها أنثى في ذلك المعنى. وإنما جاء مصدر تقبلها على القبول دون التقبل، لان فيه معنى قبلها.

وقال أبوعمرو: لانظير للقبول في المصادر، ففتح فاء الفعل والباب كله مضموم الفاء كالدخول، والخروج، وقال سيبويه: جاء‌ت خمسة مصادر على فعول: قبول، ووضوح، وظهور، وولوغ، ووقود إلا أن الاكثر في وقود الضم إذا أريد المصدر. وأجاز الزجاج في القبول الضم.

وقوله: " وأنبتها نباتا حسنا " معناه أنشأها إنشاء حسنا في عذابها وحسن تربيتها. والكفل تضمن مؤنة الانسان كفلته أكفله كفلا فأنا كافل: إذا تكلفت مؤنته. ومنه " وكفلها زكريا " ومن قرأ بالتثقيل فمعنا كفلها الله زكريا والكفيل: الضامن.

والكفل: مؤخر العجز. والكفل من الرجال الذي يكون في مؤخر الحرب همته الفرار. والكفل النصيب.

ومنه قوله: (يؤتكم كفلين من رحمته)(2) وقوله: (ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها)(3) وأصل الباب التأخر فمنه الكفالة الضمان.

وفي زكريا ثلاث لغات: المد، والقصر. وقد قرئ بهما وزكري بالياء المشددة وأحكامها مختلفة في الجمع.

___________________________________

(1) سورة آل عمران آية: 44.

(2) سورة الحديد آية: 28.

(3) سورة النساء آية: 84.

[447]

والتثنية، فمن مد قال في التثنية: زكريا وان. وفي الجمع زكريا وون.

ومن قصر قال في التثنية زكريان. وفي الجمع زكريون.

والذي بالياء زكريان في التثنية، وزكريون في الجمع، وزكرياء بالمد لايجوز صرفه لان فيه ألفي التأنيث.

ومن قال: لانه أعجمي معرفة يلزمه إذا نكر أن يصرفه، وهذا لايجوز.

وأما زكري، فان ينصرف لانه بنأ النسب خرج إلى شبه العربي كما خرج مدائني إلى شبه الواحد على قول المبرد.

والمحراب: مقام الامام من المسجد وأصله أكرم موضع في المجلس وأشرفه قال عدي بن زيد العبادي:

كدمى العجاج في المحاريب أو كال‍ *** بيض في الروض زهره مستنير(1)

وقيل هو المكان العالي ذكره الزجاج قال الشاعر:

ربة محراب إذا جئتها *** لم ألقها أو أرتقي سلما(2)

وقوله: " وجد عندها رزقا "، فالرزق هو ما للانسان، الانتفاع به على وجه ليس لاحد منعه.

المعنى: وقيل إنه كان فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف في قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وابن اسحق.

وقال: تكلمت في المهد، ولم تلقم ثديا قط، وإنما كان يأتيها رزقها من الجنة، وهذه تكرمة من الله تعالى لها.

وعندنا يجوز فعل ذلك بالاولياء والصالحين، وإن لم يكونوا أنبياء.

ومن منع منه قالوا فيه قولين: أحدهما - أن ذلك كان آية لدعوة زكريا لها بالرزق في الجلمة.

والثاني - قال قوم: هو تأسيس لنبوة المسيح، والاول قول الجبائي.

واختار وجها آخر أن يكون الله (تعالى) سخر لها بعض عباده أن يأتيها به بلطفه على مجرى

___________________________________

(1) ديوانه في شعراء الجاهلية: 455.

يصف نساء يقول: هن كتماثيل العاج في محاريب المعابد.

والبيض: يعني بيض النعام.

والروض جمع روضة وهي البستان.

(2) قائله وضاح اليمني اللسان (حرب). وقد استشهد به على أن المحراب صدر البيت، وأكرم موضع فيه، والجمع المحاريب.

[448]

العادة، ولايكون معجزا، وهذا خلاف جميع أقوال المفسرين لانهم كلهم قالوا لما رأى زكريا ذلك قال: الذي يقدر على أن يأتي مريم بالرزق يقدر أن يخلق الولد من امرأة عاقر، فهنالك سأله أن يرزقه ولدا.

ويحتمل ايصال قوله: " إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " بما تقدم من وجهين: أحدهما - أن يكون حكاية لقول مريم. والثاني - أن يكون استئنافا من الله الاخبار به.

والاولى أن يكون على الاستئناف، لانه ليس من معنى الجواب عما سئلت عنه في شئ.

وقال الحسن هو على الحكاية.

وقوله: " بغير حساب " معناه بغير حساب الاستحقاق على العمل، لانه تفضل يبتدئ الله به من يشاء من خلقه. ويحتمل أن يكون المراد بغير تقتير كما يحسب الذي يخاف الاملاق. وقد بينا فيما مضى معنى (أنى) وأن معناه من أين لك.

وقال قوم معناه كيف لك. والاول أظهر.

قوله تعالى: هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء(38)

آية واحدة.

اللغة والمعنى: معنى هنالك: عند ذلك. والاصل فيه الطرف من المكان نحو رأيته هنا وهناك، وهنالك، والفصل بينهما، القرب والعبد، فهنا للقريب وهنالك للبعيد، وهناك لما بينهما.

وقال الزجاج: ويستعمل في الحال كقوله من ههنا قلت: كذا أي من هذا الوجه. وفيه معنى الاشارة كقولك: ذا، وذاك. وزيدت اللام لتأكيد التعريف، لان الاصل في زيادتها التعريف إلا أنها كسرت لالتقاء الساكنين كما كسرت في ذلك. ولايجوز إعرابها، لان فيها معنى الحرف.

ومعنى الاية عند ذلك الذي رأى من فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف على خلاف ما جرت به العادة، طمع في رزق الولد من العاقر على خلاف مجرى العادة، فسأل ذلك.

[449]

وزكريا (ع) وإن كان عالما بانه تعالى يقدر على خلق الولد من العاقر، وإن لم تجربه العادة، فانه كان يجوز ألا يفعل ذلك لبعض التدبير، فلما رأى خرق العادة بخلق الفاكهة في غير وقتها قوي ظنه أنه يفعل ذلك: إذا اقتضت المصلحة، وقوي في نفسه ما كان علمه، كما أن ابراهيم وإن كان عالما بأنه (تعالى) يقدر على إحياء الميت سأل ذلك مشاهدة لتأكد معرفته ونزول عنه خواطره.

وقال الجبائي: إن الله تعالى كان أذن له في المسألة وجعل وقته الذي أذن له فيه الوقت الذي رأى فيه المعجزة الظاهرة فلذلك دعا.

وقوله (قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة) فالهبة تمليك الشئ من غير ثمن تقول: وهب يهب، فهو واهب والشئ موهوب، وتواهبوا الامر بينهم تواهبا، واستوهبه استيهابا.

وقوله من لدنك معناه من عندك وإنما بني ولم يبن عند، لانه استبهم استبهام الحروف، لانه لايقع في جواب أين كما يقع عند نحو قوله أين زيد فتقول عندك، ولاتقول لدنك. " ذرية " تقع على الجمع، والواحد.

وقيل أن المراد ههنا واحد لقوله " فهب لي من لدنك وليا "(1) وأما بمعنى الجمع، فمثل قوله: " ذرية من حملنا من نوح "(2) وقوله: " طيبة " قال السدي معناه مباركة. وإنما انث طيبة، وهو سأل ولدا ذكرا على تأنيث الذرية كما قال الشاعر:

أبوك خليفة ولدته أخرى *** وأنت خليفة ذاك بالكمال(3)

وقال آخر:

فما نزدري من حية جبلية *** سكات إذا ما عاض ليس بأدردا(4)

فجمع التأنيث، والتذكير في بيت واحد مرة على اللفظ، ومرة على المعنى.

___________________________________

(1) سورة مريم آية: 4.

(2) سورة الاسراء آية: 3.

(3) اللسان: (خلف)، ومعاني القرآن للفراء 1: 208.

(4) اللسان: (سكت)، ومعاني القرآن للفراء 1: 208. الحية الجبلية لسعها أشد.

وحية سكوت وسكات - بضم السين -: اذا لم يشعر الملسوع بها حتى؟.

والادرد: الذي سقطت أسنانه، فلم؟ في فمه سن.

يصف رجلا داهية شبهه بالحية الجبلية السكوت.

[450]

وإنما يجوز هذا في أسماء الاجناس دون الاعلام نحو طلحة، وحمزة، وعنترة، لايجوز أن تقول جاء‌ت طلحة من قبل أن التذكير الحقيقي يغلب على تأنيت اللفظ فأما قوله:

وعنترة الفيحاء جاء‌ت ملاما *** كأنك فند من عماية أسود

فانما أراد شفة عنترة، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.

وقوله: (إنك سميع الدعاء) معناه سامع الدعاء بمعنى قابل الدعاء.

ومنه قول القائل: سمع الله لمن حمده أي قبل الله دعاه وأصل السمع ادراك المسموع وإنما قيل للقابل سامع لان من كان أهلا أن يسمع منه فهو أهل أن يقبل منه خلاف من لايعتد بكلامه فكلامه بمنزلة ما لم يسمع.

قوله تعالى: فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب إن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين(39)

آية واحدة بلا خلاف.

القراء‌ة: قرأ حمزة والكسائي وخلف " فناداه الملائكة " على التذكير، والامالة.

الباقون على التأنيث، فالاول على المعنى، والثاني على اللفظ.

وقرأ حمزة وابن عامر " إن الله " بكسر الهمزة على الحكاية.

الباقون بفتحها على اعمال المناداة، وتقديره نادته بأن الله.

وقرأ حمزة والكسائي " يبشرك " بفتح الياء وتخفيف الشين وضمها.

الباقون بضم الياء وتشديد الشين.

[451]

المعنى واللغة: وقال السدي الذي نادى زكريا جبريل وحده، فعلى هذا يكون ذهب مذهب الجمع كما يقولون ذهب في السفن وإنما خرج في سفينة وخرج على البغال وإنما ركب بغلا واحدا.

وقال غيره: ناداه جماعة من الملائكة كأنه قيل: النداء جاء من قبل الملائكة وإنما جاز ذلك لعادة جارية نحو قولهم: ناداه أهل العسكر، وناداه أهل البلد.

وقوله: (وهو قائم يصلي) جملة في موضع الحال.

وقوله: (إن الله يبشرك) في بشره من البشرى ثلاث لغات: بشره يبشره وبشره يبشره بشرا، وأبشره بشارا عن أبي العباس.

وقرأ حميد " ييشرك " من أبشر، وكل ذلك لظهور السرور في بشرة الوجه.

وقيل إن الثقل من البشارة، والمخفف من السرور، والمعنيان متقاربان.

وأنشد الاخفش:

وإذا لقيت الباهشين إلى الندى *** غبرا أكفهم بقاع ممحل

فاعنهم وابشر بما بشروا به *** وإذا هم نزلوا بضنك فانزل(1)

قال الزجاج هذا على بشر يبشر إذا فرح. وأصل هذا كله أن بشرة الانسان تنسبط عند السرور.

وقوله: (بيحيى) قال قتادة سمى يحيى، لان الله تعالى أحياه بالايمان سماه الله بهذا الاسم قبل مولده.

وقوله: (مصدقا) نصب على الحال من يحيى " بكلمة " يعني المسيح (ع) في قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والربيع، والضحاك، والسدي وجميع أهل التأويل إلا ما حكي عن أبي عبيدة أنه قال " بكلمة " أي بكتاب الله كما يقولون أنشدني فلان كلمة فلان أي قصيدته وإن طالت، وإنما سمي المسيح كلمة الله لامرين: أحدهما - أنه كان بكلمة الله من غير أب من ولد آدم. والثاني - لان الناس يهتدون به في الدين كما يهتدون بكلام الله.

وقوله: (وسيدا) يعني مالكا لمن يجب عليه طاعته. ومن ذلك سيد الغلام

___________________________________

(1) قائله عبد قيس بن خفاف البرجمي.

اللسان: (كرب)، (بشر)، (؟)، معاني القرآن للفراء 1: 212 والبيتان من قصيدة ينصح بها ولده جبيل.؟ رواية المصادر مختلفة.

البهش: الفرح. بهش إلى الشئ: فرح به وأسرع اليه.

الندى: الكرم. الممحل: المجدب الضك: الضيق.

[452]

يعني مالكه، ولا يقال سيد الثوب بمعنى مالك الثوب، لانه لايتصور هناك وجوب طاعته.

وأصل السواد الشخص، فقيل سيد القوم بمعنى مالك السواد الاعظم، وهو الشخص الذي تجب طاعتة لمالكه، وهذا إذا قيل مضافا أو مقيدا فأما إذا اطلق فلا ينبغي إلا لله تعالى، لانه المالك لجميع الخلق.

وقيل: معناه ههنا وسيدا في العلم والعبادة في قول قتادة.

وقال الجبائي: معناه وسيدا للمؤمنين بالرياسة لهم.

وقال الضحاك: سيدا في الحلم والتقى.

وقيل سواد الانسان لشخصه، لانه يستر به لستر سواد الظلمة بتكائفه، وتسوله.

" وحصورا " معناه الممتنع من الجماع. ومنه قيل للذي يمتنع أن يخرج مع ندمائه شيأ للنفقة حصور قال الاخطل:

وشارب مربح بالكاس نادمني *** لابالحصور ولافيها بسوار(1)

يعني معربد ويقال للذي يكتم سره حصور ويقال: حصر في قراء‌ته إذا امتنع بالانقطاع فيها ومنه حصر العدو منعه الناس من التصرف.

وقال عبدالله: الحصور العنين.

وقال سعيد بن المسيب إنما كان معه مثل هدب الثوب.

وقال الحسن، وقتادة هو الذي لا يأتي النساء، وهو المروي عن أبي عبدالله (ع)، وقال بعضهم هو الذي لايبالي ألا يأتي النساء.

وقوله: " ونبيا من الصالحين " (من) ههنا لتبيين الصفة ليس المراد به التبعيض، لان النبي لايكون إلا صالحا.

الآية: 40 - 49

قوله تعالى: قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء(40)

___________________________________

(1) ديوانه: 116، واللسان: (حصر)، (سأر)، (سور)، وطبقات فحول الشعراء: 432، ومجاز القرآن 1: 92.

المربح: المعطي الربح للتاجر. ير؟ أنه؟ بثمن الخمر ولا؟ بما يبذل فيها.

والسوار: الذي تسور الخمر في دماغه ؟ على رفاقه.

[453]

المعنى إن قيل لم راجع هذه المراجعة مع ما بشره الله تعالى بأنه يهب له ذرية طيبة، وبعد أن سأل ذلك؟ قيل: إنما راجع ليعرف على أي حال يكون ذلك أيرده إلى حال الشباب وامرأته، أم مع الكبر، فقال الله (تعالى) " كذلك الله يفعل ما يشاء " أي على هذه الحال، وتقديره كذلك الامرالذي أنت عليه " يفعل الله ما يشاء " هذا قاله الحسن.

وقيل في وجه آخر، وهو أنه قال على وجه الاستعظام لمقدور الله والتعجب الذي يحدث للانسان عند ظهور آية عظيمة من آيات الله، كما يقول القائل: كيف سمحت نفسك باخراج الملك النفيس من يدك تعجبا من جوده، واعترافا بعظمه.

وقال بعضهم: إن ذلك إنما كان للوسوسة التي خالطت قلبه من قبل الشيطان حتى خيلت ليه أن النداء كان من غير الملائكة. وهذا لايجوز، لان النداء كان على وجه الاعجاز على عادة الملك فيما يأتي به من الوحي عن الله، والانبياء (ع) لايجوز عليهم تلاعب الشيطان بهم حتى يختلط عليهم طريق الافهام، فلا يعرفوا نداء ملك من نداء شيطان أو انسان.

اللغة: والغلام: هو الشباب من الناس. يقال: غلام بين الغلومية والغلومة والغلمة.

والاغتلام: شدة طلب النكاح.

والغيلم(1) منع الماء من الابار، لانه طلب الظهور.

وغلم الاديم جعله في غلمة ليتفسخ عنه صوفه، لانه طلب لتقطعه.

وقوله: (وقد بلغني الكبر) والمراد بلغت الكبر، لان الكبر بمنزلة الطالب له، فهو يأتيه بحدوثه فيه. والانسان أيضا يأتيه بمرور السنين عليه، كما يقول القائل: يقطعني الثوب وإنما هو يقطع الثوب. ولا يجوز أن يقول بلغني البلد بمعنى بلغت البلد، لان البلد لايأتيه أصلا.

وقوله: (وامرأتي عاقر) فالعاقر من النساء التي لا تلد يقال: امرأة عاقر، ورجل عاقر.

___________________________________

(1) الضفدع. ذكر السلحفاة. الشباب الكثير الشعر.

[454]

وقال عامر بن الطفيل:

لبئس الفتى ان كنت أعور عاقرا *** جبانا فما عذري لدى كل محضر(1)

وذلك لانه كالذي حدث به عقر يقعده عما يحاول من الامر.

وعقر كل شئ أصله. وعقر العاقر المصدر.

والعقر دية فرج المرأة: إذا غصبت نفسها وبيضة العقر آخر بيضة.

والعقر: الجرح.

والعقر: محلة القوم.

والعاقر معروف.

والعقار الخمر.

والمعاقرة إدمان شربها مع أهلها.

وأصل الباب: العقرالذي هو أصل كل شئ، فعقر العاقر لانقطاع أصل النسل.

قوله تعالى: قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والابكار(41)

الاية: العلامة وإنما سأل العلامة، والاية لوقت الحمل الذي سأل ربه ليتعجل السرور به في قول الحسن، فجعل الله تعالى آيته في امساك لسانه، فلم يقدر أن يكلم الناس إلا إيماء من غير آفة حدثت في لسانه، كما يقال في مريم " ثلاث ليال سويا " هذا قول الحسن، وقتادة، والربيع، وأكثر المفسرين.

اللغة: وفي وزن " آية " ثلاثة أقوال: أحدها - فعلة إلا أنه شذ من جهة إعلال العين مع كون اللام حرف؟. وإنما القياس في مثله أعلال اللام نحو حياة ونواة. ونظيرها راية وطاية، وشذ ذلك، للاشعار بقوة اعلال العين.

الثاني - فعلة آية إلا أنها قلبت كراهية التضعيف نحو طاي في طيي.

___________________________________

(1) ديوانه: 119 ومجاز القرآن 1: 92 في المطبوعة (اغدر) بدل (اعور). وعامر بن الطفيل أحد العوران. ذهبت عينه يوم فيف الريح وأما عقمه، فقد قال: مالي ولد واني لعاهر الذكر، واني لاعور البصر.

[455]

الثالث - فاعلة منقوصة وهذا ضعيف، لانهم صغروها أيية ولو كانت فاعلة لقالوا أوية إلا أنه يجوز على ترخيم التصغير نحو فطيمة. " والرمز " الايماء بالشفتين. وقد يستعمل في الايماء بالحاجبين، والعينين واليدين.

والاول أغلب قال جؤية بن عائذ:

وكان تكلم الابطال رمزا *** وغمغمة لهم مثل الهرير(1)

يقال منه: رمز يرمز رمزا.

ويقال ارتمز: إذا تحرك. واصله الحركة.

المعنى، واللغة: وقال مجاهد: الرمز تحريك الشفتين. وقال قتادة الرمز الاشارة.

وقوله: (واذكر ربك كثيرا) معناه أنه لما منع من كلام الناس عرف أنه لا يمنع من الذكر لله والتسبيح له، وذلك أعظم الاية وأبين المعجزة.

وقوله: (سبح) معناه ههنا صل يقال فرغت من سبحتي أي من صلاتي. وأصل التسبيح التعظيم لله وتنزيهه عما لا يليق به. والعشي من حين زوال الشمس إلى غروب الشمس في قول مجاهد.

قال الشاعر:

فلا الظل من برد الضحى يستطيعه *** ولا الغي من برد العشي تذوق

والعشاء من لدن غروب الشمس إلى أن يولي صدر الليل. والعشاء طعام العشي.

والعشا ضعف العين والتعاشي: التعامي، لابهام أنه بمنزلة من هو في ظلمة لايبصر وأصل الباب الظلمة.

والابكار من حين طلوع الفجر إلى وقت الضحى.

وأصله التعجيل بالشئ يقال: أبكر ابكارا وبكر يبكر بكورا.

وقال عمر بن أبي ربيعة: أمن آل نعم أنت عاد فمبكر(2) وقال جرير:

ألا بكرت سلمى فجذ بكورها *** وشق العصا بعد اجتماع أميرها(3)

___________________________________

(1) لم نجد هذا البيت. في المطبوعة (كأن) بدل (وكان) والصحيح ما ذكرناه.

(2) ديوانه مطلع قصيدته الرائية المشهورة وتتمه البيت: غداة غدأم رائح فمهجر.

(3) ديوانه: 136.؟ حكيم بن معية الربعي، وكان هجا جر؟. شق العصا. التفريق

[456]

ويقال في كل شئ تقدم: بكر ومنه الباكورة أول ما يجئ من الفاكهة.

وقوله تعالى: وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك اصطفاك على نساء العالمين(42)

آية واحدة.

العامل في (إذ) يحتمل أن يكون أحد شيئين: أحدهما - سميع عليم إذ قالت امرأة عمران. وإذ قالت الملائكة يكون؟ على (إذ) الاولى. الثاني - اذكر إذ قالت، لان المخاطب في حال تذكير وتعريف.

وقوله: (اصطفاك على نساء العالمين) يحتمل وجهين: قال الحسن وابن جريج على عالمي زمانها.

وهوقول أبي جعفر (ع)، لان فاطمة سيدة نساء العالمين.

وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين. وقال أيضا (ع) حسبك من نساء العالمين بأربع مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله.

الثاني - ما قاله الزجاج، واختاره الجبائي: إن معناه اختارك على نساء العالمين بحال جليلة من ولادة المسيح عيسى (ع).

وقوله: (وطهرك) في معناه قولان: أحدهما - قال الحسن، ومجاهد: طهرك من الكفر. والثاني - ذكره الزجاج أن معناه طهرك من سائر الادناس: الحيض، والنفاس، وغيرهما.

وإنما كرر لفظ اصطفاك، لان معنى الاول اصطفاك بالتفريغ لعبادته بما لطف لك حتى انقطعت إلى طاعته وصرت متوفرة على اتباع مرضاته ومعنى الثاني اصطفاك بالاختيار لولادة نبيه عيسى (ع) على قول الجبائي.

وقال أبوجعفر (ع) اصطفاها أولا من ذرية الانبياء وطهرها من السفاح.

[457]

والثاني - اصطفاها لولادة عيسى (ع) من غير فحل.

وفي ظهور الملائكة لمريم قالوا قولين: أحدهما - أن ذلك معجزة لزكريا (ع)، لان مريم لم تكن نبية، لقول الله تعالى " وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم "(1).

والثاني - أن يكون ذلك برهانا لنبوة عيسى (ع) كما كان ظهور الشهب والغمامة وغير ذلك معجزة للنبي صلى الله عليه وآله قبل بعثته، فالاول قول الجبائي، والثاني قول ابن الاخشاد.

ويجوز عندنا أن يكون ذلك معجزة لها وكرامة، وإن لم تكن نبية لان اظهار المعجزات - عندنا - تجوز على يد الاولياء، والصالحين، لانها إنما تدل على صدق من ظهرت على يده سواء كان نبيا أو إماما أو صالحا، على أنه يحتمل أن يكون الله تعالى قال ذلك لمريم على لسان زكريا (ع).

وقد يقال: قال الله لها * وإن كان بواسطة كما تقول: قال الله للخلق كذا وكذا وإن كان على لسان النبي صلى الله عليه وآله، ولايحتاج مع ذلك إلى ما قالوه.

قوله تعالى: يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين(43)

آية واحدة بلا خلاف.

قيل في معنى قوله: " اقنتى " ثلاثة أقوال: أحدها - قال سعيد بن جبير أن معناه اخلصي لربك العبادة.

الثاني - قال قتادة معناه اديمي الطاعة.

الثالث - قال مجاهد اطلبي القيام في الصلاة.

وأصل القنوت الدوام على الشئ.

وقوله: (واسجدي) وأصل السجود الانخفاض الشديد للخضوع قال الشاعر:

فكلتاهما خرت واسجد راسها *** كما سجدت نصرانة لم تحنف(2)

وكذلك القول في الركوع إلا أن السجود أشد انخفاضا. وقد بينا فيما

___________________________________

(1) سورة يوسف آية: 109 وسورة النحل آية: 43 وسورة الانبياء آية: 7.

(2) مر تخريجه في 1: 281.

[458]

مضى حقيقته. وإنما قدم ذكر السجود في الاية على الركوع، لان النية به التأخير والتقدير اركعي واسجدي، لان الواو لا توجب الترتيب، لانها نظيرة التثنية إذا اتفقت الاسماء والصفات. تقول جاء‌ني زيد وعمرو، ولو جمعت بينهما في الخبر لقلت جاء‌ني الزيدان.

وقوله: (مع الراكعين) فيه قولان أحدهما - أن معناه افعلى مثل فعلهم. الثاني - قال الجبائي: أي في صلاة الجماعة.

قوله تعالى: ذلك من أنباء الغيب نوحية اليك وما كنت لديهم إذ يلقون اقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون(44)

آية.

المعنى، واللغة: ذلك إشارة إلى الاخبار عما تقدم من القصص. وفيه احتجاج على المشركين، من حيث أنه جاء بما لا يعلم إلا من أربعة أوجه: إما مشاهدة الحال، او قراء‌ة الكتب، أو تعليم بعض العباد، أو بوحي من الله. وقد بطلت الاوجه الثلاثة للعلم بأنها لم تكن حاصلة للنبي صلى الله عليه وآله. فصح أنه على الوجه الرابع: بوحي من الله (تعالى).

والايحاء: هو القاء المعنى إلى صاحبه فقوله: " نوحيه اليك " أي نلقي معناه اليك.

والايحاء: الارسال إلى الانبياء تقول: أوحى الله إليه أي أرسل إليه ملكا.

والايحاء الالهام ومنه قوله تعالى " وأوحى ربك إلى النحل "(1) أي ألهما وقوله: " بأن ربك أوحى لها "(2) معناه ألقى إليها معنى ما أراد فيها.

___________________________________

(1) سورة؟ آية: 68.

(2) سورة الزلزال آية: 5.

[459]

قال العجاج: أوحى لها القرار فاستقرت(1) والايحاء الايماء قال الشاعر: فأوحت إلينا والانامل رسلها ومنه قوله: " فاوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا "(2) أي أشار إليهم، والوحي: الكتاب.

يقال: وحى يحي وحيا أي كتب، لان به يلقي المعنى إلى صاحبه قال روبة: لقدر كان وحاه الواحي وقال: في سور من ربنا موحية وقال آخر: من رسم آثار كوحي الواحي وأصل الباب القاء المعنى إلى صاحبه.

وقوله: " أوحيت إلى الحواريين "(3) أي ألقى إليهم وألهمهم إلهاما.

ومنه قوله: " وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم "(4) أي يلقون إليهم وقوله: " وأوحي إلي هذا القرآن "(5) أي ألقي إلي.

والغيب: خفاء الشئ عن الادراك. تقول غاب عني كذا يغيب غيبا وغيابا. والغائب: نقيض الحاضر.

وقوله: (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) قيل فيه قولان: أحدها - التعجب من حرصهم على كفالتها، لفضلها. ذكره قتادة، لانه

___________________________________

(1) ديوانه: 5 واللسان (وحى) من رجز يذكر فيه ربه ويثني عليه بآلائه، أوله:

الحمد لله الذي استقلت *** باذنه السماء واطمأنت

باذنه الارض وما تعتت *** أوحى لها القرار فاستقرت

وشدها بالراسيات الثبت *** رب البلاد والعباد؟

وفي أحد روايتي اللسان (وحى لها)؟ (أوحى لها).

(2) سورة مريم آية: 11.

(3) سورة المائدة آية: 114.

(4) سورة الانعام آية: 121.

(5) سورة الانعام آية: 19.

[460]

قال: فشاح القوم عليها، فقال زكريا: أنا أولى، لان خالتها عندي.

وقال القوم: نحن أولى لانها بنت إمامنا، لان عمران كان إمام الجماعة.

الثاني - التعجب من تدافعهم لكفالتها، لشدة الازمة التي لحقتهم حتى وفق لها خير الكفلاء بها زكريا (ع) وفي الاية حذف وتقديرها " إذ يلقون أقلامهم " لينظروا " أيهم يكفل مريم " أي أيهم أحق بكفالتها.

والاقلام معناها ههنا القداح وذلك أنهم ألقوها تلقاء الجرية، فاستقبلت عصا زكريا جرية الماء مصعدة. وانحدرت أقلام الباقين، فقرعهم زكريا في قول الربيع، وكان ذلك معجزة له (ع).

والقلم: الذي يكتب به.

والقلم: الذي يجال بين القوم، كل إنسان وقلمه، وهو القدح.

والقلم: قص الظفر قلمته تقليما.

ومقالم الرمح كعوبه.

والقلامة هي المقلومة عن طرف الظفر وأصل الباب قطع طرف الشئ.

وقوله: (وما كنت لديهم إذ يختصمون) فيه دلالة على أنهم قد بلغوا في التشاح عليها إلى حد الخصومة، وفي وقت التشاح قولان: أحدهما - حين ولادتها وحمل أمها إياها إلى الكنيسة تشاحوا في الذي يخصها ويحضنها ويكفل بتربيتها، وهو الاكثر. وقال بعضهم إنه كان ذلك بعد كبرها وعجز زكريا عن تربيتها. و (إذ) الاولى متعلقة بقوله: " وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم " والثانية بقوله: " يختصمون " على قول الزجاج.

قوله تعالى: إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والاخرة ومن المقربين(45)

آية عند الجميع.

العامل في (إذ) يحتمل أمرين أحدهما - وما كنت لديهم إذ قالت الملائكة.

الثاني - يختصمون " إذ قالت الملائكة ": " إن الله يبشرك " فالتبشير إخبار المرء بما يسر

[461]

من الامر سمي بذلك لظهور السرور في بشرة وجهه عند إخباره بما يسره، لان أصله البشرة وهي ظاهر الجلد.

وقوله: (بكلمة منه) هو المسيح سماه الله كلمة على قول ابن عباس وقتادة وذلك يحتمل ثلاثة أوجه: سمي بذلك، لانه كان بكلمة الله من غير والد وهو قوله: " كن فيكون "(1).

الثاني - لان الله تعالى بشربه في الكتب السالفة، كما تقول: الذي يخبرنا بأمر يكون (إذا خرج موافقا لامره)(2) قد جاء في قول لي وكلامي. فمن البشارة به في التوراة آتانا الله من سببنا، فأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران. وساعير هو الموضع الذي بعث منه المسيح (ع).

الثالث - لان الله يهدي به كما يهدي بكلمته.

والقول الثاني مما قيل في الكلمة: أنها بمعنى البشارة كأنه قيل ببشارة منه: ولد اسمه المسيح والتأويل الاول أقوى، لقوله: " إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه "(3)، ولانه معلوم من دين المسلمين أن كلمة الله المسيح (ع) وإنما ذكر الضمير في اسمه وهو عائد إلى الكلمة، لانه واقع على مذكر، فاذا ذكر ذهب إلى المعنى، واذا أنث ذهب إلى اللفظ.

وقيل في تسمية المسيح مسيحا: قولان: أحدهما - قال الحسن، وسعيد: لانه مسح بالبركة.

وقال آخرون: لانه مسح بالتطهر من الذنوب.

وقال الجبائي سمي بذلك، لانه مسح بدهن زيت بورك فيه. وكانت الانبياء تتمسح به.

فان قيل: يجب على ذلك أن يكون الانبياء كلهم يسمون مسيحا؟ قلنا: لايمتنع أن يختص بذلك بعضهم، وإن كان المعنى في الجميع حاصلا، كما قالوا في ابراهيم خليل الله.

وأصله ممسوح عدل عن مفعول إلى فعيل.

وقوله: (وجيها) نصب على الحال. ومعنى الوجيه الكريم على من يسأله

___________________________________

(1) سورة البقرة آية: 118 وسورة آل عمران آية: 47 وسورة الانعام آية: 73 وسورة النحل: 40 وسورة مريم آية: 35 وسورة يس آية: 82 وسورة المؤمن آية: 68.

(2) ما بين القوسين من مجمع البيان وكان في المطبوعة نقص في هذا الموضع كما أن الجملة التي بعدها لاتقرأ.

(3) سورة آل عمران: 17.

[462]

لانه لايرده لكرم وجهه عنده، خلاف من يبذل وجهه للمسألة فيرد، يقال منه وجه الرجل يوجه وجاهة، وله جاه عند الناس وجاهة أي منزلة رفيعة.

قوله: " ومن المقربين " معناه إلى ثواب الله وكرامته، وكذلك التقرب إلى الله إنما هو التقرب إلى ثوابه وكرامته. وفي الاية دلالة على تكذيب اليهود في الفرية على أم المسيح وتكذيب النصارى في ادعاء إلهيته على ما ذكره محمد بن جعفر بن الزبير وغيره.

قوله تعالى: ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين(46)

آية.

الاعراب: موضع " ويكلم الناس في المهد " نصب على الحال عطفا على (وجيها) ومكلما وكذلك عطف عليه (وكهلا) بالنصب. ويجوز عطف الفاعل على الفعل لتقارب معنيهما قال الشاعر:

بات يغشاها بعضب باتر *** يقصد في أسوقها وجائر(1)

أي ويجوز وقال آخر:

يا ليتني علقت غير خارج *** قبل الصباح ذات خلق بارج

أم صبى قد حبا أم دارج(2) أي أو درج ويجوز في قوله: " وكهلا " أن يكون معطوفا على الظرف من قوله: " من المهد ".

اللغة: والمهد مضجع الصبي في رضاعه في قول ابن عباس، مأخوذ من التمهيد.

___________________________________

(1) معاني القرآن للفراء 1: 213 وأمالي ابن الشجري 2: 167 وخزانة الادب 2: 345 واللسان (كهل) ورواية البيت مختلفة. فبعضها (بت أعشيها..).

(2) هكذا في المطبوعة ورواية اللسان (درج):

يا ليتني قد زرت غير خارج *** أم صبي قد حبا ودارج

[463]

والكهل: من كان فوق حال الغلمومة، ودون الشيخوخة.

ومنه اكتهل النبت: إذا طال، وقوي.

ومنه الكاهل فوق الظهر إلى ما يلي العنق والمرأة كهلة.

قال الراجز:

ولا أعود بعدها كريا *** امارس الكهلة والصبيا(1)

وقيل الكهولة بلوغ أربع وثلاثين سنة.

وقال مجاهد: الكهل: الحليم وأصل الباب العلو، فالكهل لعلو سنه، أو لعلو منزلته.

المعنى: ووجه كلامه في المهد تبرئة لامه مما قذفت به، وجلالة له بالمعجزة التي ظهرت فيه.

فان قيل: فما معنى " وكهلا " وليس بمنكر الكلام من الكهل؟ قيل فيه ثلاثة أوجه: أحدها - يكلمهم كهلا بالوحي الذي يأتيه من قبل الله.

الثاني - انه يبلغ حال الكهل في السن، وفي ذلك أيضا إعجاز لكون المخبر على ما أخبر به.

الثالث - أن المراد به الرد على النصارى بما كان منه من التقلب في الاحوال، لانه مناف لصفة الاله.

فان قيل كيف جحدت النصارى كلام المسيح في المهد وهو معجزة عظيمة؟ قلنا: لان في ذلك ابطال مذهبهم، لانه قال: " إني عبدالله "(2) فاستمروا على تكذيب من أخبر أنه شاهده كذلك.

وفي ظهور المعجزة في تلك الحال قيل فيه قولان: أحدهما - إنها كانت مقرونة بنبوة المسيح، لانه كمل عقله في تلك الحال حتى عرف الله بالاستدلال، ثم أوحى إليه بما تلكم به، هذا قول أبي على الجبائي.

وقال ابن الاخشاذ: إن كل ذلك كان على جهة التأسيس لنبوته، والتمكين لها بما يكون دالا عليها، وبشارة متقدمة لها.

ويجوز - عندنا - الوجهان. ويجوز أيضا أن يكون ذلك معجزة لمريم تدل على براء‌ة ساحتها مما قذفت على ما بينا جوازه فيما مضى.

___________________________________

(1) قائله عذافر الفقيمي أمالي القالي 2: 215 وشرح أدب الكاتب لابن السيد: 217، 389، واللسان (كهل)، (كرا)، (شعفر)، (أمم) وغيرها كثير كريا: مكاري وكان عذافر يكرى ابله إلى مكة فاكر معة - رجل من أهل البصرة - بعيرا يركبه هو وزوجته وفي الطريق قال بهما رحز طويل.

(2) سورة مريم آية: 30.

[464]

قوله تعالى: قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فانما يقول له كن فيكون(47)

آية واحدة: المعنى: إن قيل سألت مريم عن خلق الولد من غير مسيس مع أنها لاتنكر ذلك في مقدور الله تعالى؟ قلنا: فيه وجهان: أحدهما - أنها استفهمت أيكون ذلك، وهي على حالتها من غير بشر أم على مجرى العادة من بشر، كما يقول القائل: كيف تبعث بفلان في هذا السفر، وليس معه ما يركبه معناه، لانه قوي أم هناك مركوب؟ الثاني - ان في البشرة: التعجب مما خرج عن المعتاد فتعجبت من عظم قدرة الله كما يقول القائل عند الاية يراها: ما أعظم الله، وكما يقول القائل لغيره كيف تهب ضيعتك، وهي أجل شئ لك. وليس يشك في هبته وإنما يتعجب من جوده.

وقوله: (قال كذلك الله) حكاية ما قال لها الملك.

وقوله: " كن فيكون " قيل في معناه قولان: أحدهما - أنه على جهة المثل لان منزلة جميع ما يريد احداثه من جسم أو عرض كثر ذلك أو قل، فانما هو بمنزلة قول القائل: كن، في أنه يكون بغير علاج، ولا معاناة، ولا تكلف سبب، ولا أداة، ولا شغل ببعض عن بعض، ولا انتهاء فيه إلى حد لا يمكن ضعفه، ولا زيادة عليه.

الثاني - ان معناه أن الله تعالى جعل (كن) علامة للملائكة فيما يريد إحداثه

[465]

لما فيها من اللطف، والاعتبار. ويمكن الدلالة على الامور المقدورة لله تعالى.

وقول من قال ان قوله: " كن " سبب للحوادث التي يفعلها الله تعالى فاسد من وجوه: أحدها - ان القادر بقدرة يقدر على أن يفعل من غير سبب، فالقادر للنفس بذلك أولى.

ومنها أن " كن " محدثه فلو احتاجت إلى " كن " أخرى لتسلسل، وذلك فاسد. ولو استند ذلك إلى كن قديمة، لوجب قدم المكون، لانه كان يجب أن يكون عقيبه، لان الفاء توجب التعقيب وذلك يؤدي إلى قدم المكونات.

ومنها أنه لو ولدت لولدت من فعلنا كالاعتماد. وإنما استعمل القديم لفظة الامرفيما ليس بأمر هاهنا ليدل بذلك على أن فعله بمنزلة فعل المأمور في أنه لاكلفة على الامر، فكذلك هذا لاكلفة على الفاعل، وذلك على عادة العرب في جعلهم وقوع الشئ عقيب الارادة بمنزلة الجواب عن السؤال قال الشاعر:

وقالت لنا العينان سمعا وطاعة *** وحدرتا كالدر لما يثقب(1)

فجعل انحدار الدمع قولا على الوجه الذي بيناه.

وقوله: (كن فيكون) ههنا لايجوز فيه إلا الرفع، لانه لا يصلح أن يكون جوابا للام في كن لان الجواب يجب بوجود الاول نحو اتني فاكرمك وقم فاقوم معك. ولا يجوز قم فيقوم، لانه بتقدير قم فانك إن تقم يقم. وهذا لا معنى له، ولكن يجوز الرفع على الاختيار انه سيقوم ويجوز في قوله: " إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون "(2) النصب، لانه معطوف على " أن نقول " كأنه قيل أن نقول فيكون.

___________________________________

(1) مر تخريجه في 1: 431.

(2) سورة النحل آية: 40

[466]

قوله تعالى: ويعلمه الكتاب والحكمة والتوارة والانجيل(48)

القراء‌ة، والحجة: قرأ أهل المدينة، وعاصم، ويعقوب " ويعلمه " بالياء الباقون بالنون.

فمن قرأ بالياء حمله على " يخلق ما يشاء " ويعلمه.

ومن قرأ بالنون حمله على قوله: " نوحيه إليك ".

والنون أفخم في الاخبار، لان الياء حكاية عن الملك.

المعنى، والاعراب: ومعنى قوله: " ويعلمه الكتاب " قال ابن جريج: الكتابة بيده.

وقال أبوعلي: كتاب آخر غير التوراة، والانجيل نحو الزبور أو غيره.

فان قيل: لم أفرد التوراة والانجيل بالذكر مع دخولهما في الحكمة؟ قيل: إنما أفردهما بالذكر تنبيها على فضلهما مع جلالة موقعهما كما قال: " وملائكته ورسله وجبريل وميكال "(1) وموضع يعلمه من الاعراب يحتمل أن يكون نصبا بالعطف على وجيها.

ويحتمل أن يكون لا موضع له من الاعراب، لانه عطف على جملة لا موضع لها، وهي قوله: " كذلك الله يخلق ما يشاء ".

وقال بعضهم: هو عطف " نوحيه إليك " قال الرماني: هذا لايجوز، لانه يخرجه من معنى البشارة به لمريم. وإنما هو محمول على مشاكلته لا على جهة العطف عليه.

وعد أهل الكوفة التوراة والانجيل، ولم يعدوا رسولا إلى بني اسرائيل لتنكب الاستئناف بأن المفتوحة. والاستئناف بذكر المنصوب كثير في الكلام. وأما أهل المدينة فانما طلبوا تمام صفة المسيح، لان تقديره ومعلما كذا ورسولا إلى كذا.

___________________________________

(1) سورة البقرة آية: 98

[467]

قوله تعالى: ورسولا إلى بني إسرائيل إني قد جئتكم بآية من ربكم اني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فانفخ فيه فيكون طيرا باذن الله وأبرئ الاكمه والابرص وأحيي الموتى باذن الله وانبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لاية لكم إن كنتم مؤمنين(49)

آية.

القراء‌ة: قرأ أهل المدينة ويعقوب " طائرا بأذن الله " الباقون " طيرا " وهو الاجود، لانه إسم جنس وطائر صفه.

وقرأ نافع وحده " إني أخلق " بكسر الهمزة.

الباقون بفتحها الاعراب، والحجة: يحتمل نصب قوله: " ورسولا " وجهين أحدهما - بتقدير ويجعله رسولا فحذف لدلالة الاشارة عليه. والثاني - أن يكون نصبا على الحال عطفا على وجيها، لا أنه في ذلك الوقت يكون رسولا بمعنى أنه يرسل رسولا.

وقال الزجاج وجها ثالثا بمعنى يكلمهم رسولا في المهد ب‍ " أني قد جئتكم بآية من ربكم " ولو قرئت (إني) بالكسر (قد جئتكم) كان صوابا.

والمعنى يقول " إني قد جئتكم بآية من ربكم " أي بعلامة تدل على ثبوت رسالتي.

وموضع " إني أخلق " يحتمل أن يكون خفضا ورفعا، فمن قرأبا لخفص فعلى البدل من آية بمعنى جئتكم بأني أخلق لكم من الطين. والرفع أريد به الاية إني أخلق من الطين. وجائز أن يكون (إني أخلق لكم) مخبرهم بهذه الاية ما هي أي أقول لكم " إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير ".

المعنى: والمراد بالخلق التقدير دون الاحداث، يقال في التفسير أنه صنع من الطين كهيئة الخفاش، ونفخ فيه فصار طائرا. وجاز أن يقول فيه للفظ الطين.

[468]

وقال في موضع آخر " فينفخ فيها فتكون طائرا باذني "(1) للفظ الهيئة.

اللغة: والطين معروف. ومنه طنت الكتاب طينا أي جعلت عليه طينا، لاختمه. وطينت البيت تطيينا.

والطيانة: حرفة الطيان والطينة: قطعة من طين يختم بها الصك ونحوه.

والهيأة: الحال الظاهرة هاء فلان يهاء هيئة. ومن قرأ (هيئت) معناه تهيأت لك فأما " هيت لك " فهلم لك والهيئ: الحسن الهيئة من كل شئ. والمهاياة: أمر يتهايا عليه القوم فيتراضون به.

وقوله: " فانفخ فيه " النفخ معروف تقول نفخ ينفخ نفخا، وانتفخ انتفاخا، ونفخه نفخا.

والنفاخة للماء، والنفخة نحو الورم في البطن.

والنفخة: نفخة الصور يوم القيامة.

والمنفاخ كير الحداد.

وأصل الباب نفخ الريح التي تخرج من الفم.

المعنى: ومعنى " أنفخ فيه " يعني أنفخ فيه الروح وهو جسم رقيق كالريح، وهو غير الحياة، لان الجسم انما يحيا بما يفعله الله تعالى فيه من الحياة، لان الاجسام كلها متماثلة يحيي الله منها ما يشاء.

وإنما قيد قوله: " فيكون طيرا بأذن الله " ولم يقيد قوله: " أخلق من الطين كهيئة الطير " بذكر إذن الله لينبه بذكر الاذن أنه من فعل الله دون عيسى.

وأما التصوير والنفخ، ففعله، لانه مما يدخل تحت مقدور القدر، وليس كذلك انقلاب الجماد حيوانا فانه لايقدر على ذلك أحد سواه تعالى.

وقوله: (وأحيي الموتى بأذن الله) على وجه المجاز إضافة إلى نفسه وحقيقته ادعوا الله باحياء الموتى فيحييهم الله فيحيون باذنه.

اللغة والمعنى: وقوله: " وأبرئ الاكمه " فالبرء والشفاء والعافية نظائر في اللغة.

___________________________________

(1) سورة المائدة آية: 113.

[469]

والاكمه الذي يولد أعمى في قول قتادة، وأبي علي وقال الحسن، والسدي: هو الاعمي.

والكمه عند العرب العمى كمه يكمه كمها قال سويد بن أبي كاهل:

كمهت عيناه حتى ابيضتا *** فهو يلحي نفسه لما نزع(1)

والابرص معروف.

وقوله: (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) أي أخبركم وأعلمكم بالذي تأكلونه، فتكون (ما) بمعنى الذي ويحتمل أن تكون (ما) مع ما بعدها بمنزلة المصدر، ويكون تقديره أخبركم بأكلكم.

والاول أجود لقوله: " وما تدخرون " ويحتمل أن يكون المراد أيضا وادخاركم.

والاذخار الافتعال من الذخر ذخرت أذخر ذخرا وأذخرت اذخارا.

وأصل الباب الذخر، وهو خب‌ء الشئ لتأتيه.

وإنما أبدلت الدال من الذال في " تدخرون " لتعديل الحروف أو أبدلت الدال من الذال بوجهين الجهر واختلاف المخرج، فبدل ذلك بالدال، لانها موافقة للتاء بالمخرج والدال بالجهر، فلذلك كان الاختيار، وكان يجوز تذخرون بالذال على الاصل ونظير ذلك في التعديل بين الحروف وازدجر، فمن اضطر، واصطبر، لموافقة الطاء للضاد والضاد بالاستعلاء والاطباق، ولم يجز إدغام الزاي في الدال، لانها من حروف الصفير. ولكن يجوز مزجر. ولم يدغم الضاد في الطاء لان فيها استطالة.

والمجهور من الحروف: كل حرف اشبع الاعتماد عليه في موضعه ومنع النفس أن يجري معه.

والمهموس: كل حرف أضعف الاعتماد عليه في موضعه وجرى معه النفس.

وقوله: (إن في ذلك لاية لكم إن كنتم مؤمنين) وإن كانت آية للجميع، لان معناه " إن كنتم مؤمنين " بالله إذ كان لايصح العلم بمدلول المعجزة إلا لمن آمن بالله، لان العلم بالمرسل قبل العلم بالرسول. وإنما يقال هي آية للجميع بأن يقدموا قبل ذلك الاستدلال على التوحيد. وأيضا بأن من استحق وصفه بأنه مؤمن علم أن ذلك من آيات الله عزوجل.

___________________________________

(1) اللسان (كمه) وروايته (لما) بدل (حتى) وكذلك رواية المفضليات: 405. يلحى نفسه أي يلومها. لما نزع يعني لما ترك.

[470]

الآية: 50 - 59

قوله تعالى: ومصدقا لما بين يدي من التوارة ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون(50)

آية واحدة

الاعراب: ومصدقا نصب على الحال وتقديره قد جئتكم مصدقا، لان أول الكلام يدل عليه ونظيره جئته بمايجب ومعرفا له، وليس عطفا على وجيها ولا رسولا لقوله " لما بين يدي " ولم يقل لما بين يديه.

المعنى: وقوله: (ولاحل لكم بعضه الذي حرم عليكم) فانما أحل لهم لحوم الابل والثروب وأشياء من الطير والحيتان، مما كان محرما في شرع موسى (ع) ولم يحل لهم جميع ما كان محرما عليهم من الظلم، والغصب، والكذب، والعبث وغير ذلك، فلذلك قال " بعض الذي حرم عليكم " وبمثل هذا قال قتادة والربيع، وابن جريج ووهب ابن منية، وأكثر المفسرين.

وقال أبوعبيدة أراد كل الذي حرم عليكم واستشهد على ذلك بقول لبيد:

تزاك أمكنة إذا لم أرضها *** أو يعتلق بعض النفوس حمامها(1)

قال معناه أو يعتلق نفسي حمامها.

وأنكر الزجاج تأويله. وقال: هو خطاء من وجهين: أحدهما - أن البعض لايكون بمعنى الكل. والاخر - أنه لايجوز تحليل

___________________________________

(1) اللسان (بعض) ذكر العجز فقط.

[471]

المحرمات أجمع، لانه يدخل في ذلك الكذب، والظلم، والكفر قال: ومعنى البيت أو يعتلق نفسي حمامها، كما يقول القائل: بعضنا يعرفك يريد أنا أعرفك، وهذا أيضا إنما هو تبعيض صحيح.

ووجه الاية ما ذكره أبوعلي، وجماعة من المفسرين. أن قوما من اليهود حرموا على نفوسهم أشياء ما حرمها الله عليهم، فجاء بتحليل ذلك.

قال الرماني: تأويل الاية على ما قالوه، لكنه لايمتنع أن يوضع البعض في موضع الكل اذا كانت هناك قرينة تدل عليه، كما يجوز وضع الكل في موضع البعض بقرينة.

قوله: (ولاحل لكم) معطوف على معنى الكلام الاول، لان معنا جئتكم لاصدق ما بين يدي من التوارة، ولاحل لكم، كما يقول القائل: جئته معتذرا ولاجتلب عطفه. والاحلال هو الاطلاق في الفعل بتحسينه، والتحريم هو حظر الفعل بتقبيحه. والفرق بين التصديق، والتقليد أن التصديق لايكون إلا فيما يبرهن عند صاحبه. والتقليد يكون فيما لم يتبرهن، ولهذا لم نكن مقلدين للنبي صلى الله عليه وآله وإن كنا مصدقين له.

قوله تعالى: إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم(51)

آية.

قوله: (إن الله ربي وربكم) استئناف كلام، لانه رأس آية، وعليه جميع العلماء. وكان يجوز أن تفتح الهمزة على قوله: " وجئتكم " ب‍ " أن الله ربي وربكم ".

والفرق بين قوله " إن الله ربي وربكم " وقوله " ربنا " أن الاول آكد في إقراره بالربوبية، لانه ذكر على التفصيل، فهو أبعد من الغلط في التأويل، لان لقائل أن يقول الذكر قد يجوز في الجملة على التغليب كما يغلب التذكير على التأنيث في الجملة دون التفصيل. والربوبية هي تنشئة الشئ حالا بعد حال حتى يبلغ حد الكمال في التربية.

[472]

فلما كان الله تعالى مالكا لانشاء العالم كان ربا، ولاتطلق هذه الصفة إلا عليه تعالى، لان اطلاقها يقتضي الملك بجميع الخلق، فأما إجراؤها على غيره، فعلى وجه التقييد، كقولك رب الدار، ورب الضيعة.

وقالوا في وصف قوم من العلماء: هم أرباب البيان يراد به شدة اقتدارهم عليه.

وقوله: " هذا صراط مستقيم " فالاستقامة استمرار الشئ في جهة واحدة، ونظيرها الاستواء: خلاف الاعوجاج، فلذلك قيل للطريق المؤدي إلى المراد الموصل إلى الحق: طريق الاستقامة، لانه يفضي بصاحبه إلى غرضه، وقد استوفينا معناه في سورة الحمد. وقد يوصف الدليل بأنه طريق مستقيم، لانه يؤدي إلى الحق اليقين.

وفي الاية حجة على النصارى بما قاله المسيح مما يقرون به أنه في الانجيل من نحو هذا الكلام، لان فيه أذهب إلى إلهي، وإلهكم، كقوله ههنا: " إن الله ربي وربكم "

قوله تعالى: فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون(52)

آية.

اللغة: الاحساس هو الوجود بالحاسة، أحس يحس إحساسا. والحس القتل، لانه يحس بألمه، ومنه قوله: " إذ تحسونهم " باذنه "(1) والحس: العطف، لاحساس الرقة على صاحبه. والاصل فيه إدراك الشئ من جهة الملابسة.

ومعنى الاية: فلما علم عيسى منهم الكفر، قال: " من أنصاري إلى الله ". والانصار جمع نصير مثل شريف وأشراف، وشهيد وأشهاد. وإنما لم يحمل على ناصر لانه يجب أن يحمل على نظيره من فعيل وأفعال.

___________________________________

(1) سورة آل عمران آية: 152.

[473]

المعنى: وقوله: " من أنصاري إلى الله " قيل فيه ثلاثة أقوال: أحدها - من أعواني على هؤلاء الكفار إلى معونة الله أي مع معونة الله في قول السدي، وابن جريج وإنما جاز أن تكون (إلى) بمعنى (مع) لما دخل الكلام من معنى الاضافة ومعنى المصاحبة، ونظيره (الذود إلى الذود إبل) أي مع الذود. ومثله " ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم "(1) أي مع أموالكم، وقولك: قدم زيد ومعه مال، فلايجوز فيه إلى وكذلك قدم إلى أهله، لايجوز فيه مع، لاختلاف المعنى.

الثاني - قال الحسن من أنصاري في السبيل إلى الله، لانه دعاهم إلى سبيل الله.

الثالث - قال الجبائي: من أنصاري لله، كما قال: " هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق "(2) ووجه ذلك أن العرض يصلح فيه اللام على طريق العلة وإلى طريق النهاية.

فان قيل عيسى إنما بعث بالوعظ دون الحرب لم استنصر عليهم؟ قلنا: للحماية من الكافرين الذين أرادوا قتله عند اظهار الدعوة - في قول الحسن ومجاهد - وقال آخرون: يجوز أن يكون طلب النصرة للتمكين من إقامة الحجة وإنما قاله ليتميز الموافق من المخالف.

وقوله: (قال الحواريون) اختلفوا في تسميتهم حواريين على ثلاثة أقوال قال سعيد بن جبير: سموا بذلك لنقاء ثيابهم.

الثاني - قال ابن جريج عن أبي أرطاء أنهم كانوا قصارين يبيضون الثياب.

الثالث - قال قتادة، والضحاك: لانهم خاصة الانبياء يذهب إلى نقاء قلوبهم كنقاء الابيض بالتحوير.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: الزبير ابن عمتي وحواري من أمتي.

___________________________________

(1) سورة النساء آية: 2.

(2) سوة يونس آية: 35.

[474]

اللغة: وأصل الحواري الحور، وهو شدة البياض. ومنه الحواري من الطعام لشدة بياضه. ومنه الاحور، والحوراء لنقاء بياض العين، ومنه الحواريات نساء الانصار لبياضهن.

قال أبوجلدة اليشكري(1):

فقل للحواريات يبكين غيرنا *** ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح(2)

وقال بعض بني كلاب:

ولكنه ألقى زمام قلوصه *** ليحيا كريما أو يموت حواريا

أي ناصرا لرفاقه غير خاذل لهم.

والمحور: الحديدة التي تدور عليها البكرة، لانها تنصقل حتى تبيض وحار يحور: إذا رجع، لانقلابه في الطريق الذي جاء فيه كانقلاب المحور بالتحوير.

المعنى: وفي الاية حجة على من زعم أن المسيح والذين آمنوا به، كانوا نصارى فبين الله تعالى أنهم كانوا مسلمين كما بين ذلك في قصة ابراهيم (ع) حيث قال " ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما ".

قوله تعالى: ربنا آمنا بما أنزلت وأتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين(53)

آية واحدة بلا خلاف.

___________________________________

(1) هو أبوجلدة بن عبيد بن منفذ اليشكري من شعراء الدولة الاموية، وكان من أخص الناس بالحجاج ثم فارقه وخرج مع ابن الاشعث، وصار من أشد الناس تحريضا على الحجاج.

(2) اللسان (حور)، والاغاني 11: 311 وحماسة بن الشجري: 65 وهو من أبيات قالها في التحريض على قتال أهل الشام.

[475]

هذا حكاية لقول الحواريين حيث قالوا " آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ".

قالوا " ربنا " ومعناه يا ربنا ونصبه، لانه نداء مضاف. " آمنا " أي صدقنا. وإنما لم يقل رب العباد آمنا للاختصاص بما أنعم به عليهم من الايمان الذي أجابوا إليه دون غيرهم ممن عدل عنه.

وإنما قال " ربنا آمنا " على لفظ الخطاب ولم يعدل إلى لفظ الغائب، فكان أبلغ في التعظيم، كما تقول السمع والطاعة للملك، فيكون أفخم من أن يقال: لك أيها الملك، لان المشاهدة أغنت عن التصريح بالخطاب وصار كالاستدلال له مع الغنى عنه وليس كذلك استعماله مع الحاجة إليه، لانه لايدل على ابتداء له.

فان قيل لم حذف (يا) من يا ربنا آمنا، ولم يحذف من " يا عبادي لاخوف عليكم "(1)؟ قلنا حذف للاستغناء عن تنبيه المدعو، وليس كذلك الثاني لانه بشارة للعباد ينبغي أن يمد بها لان سماعها ما يسر.

وقوله: (واتبعنا الرسول) فالاتباع سلوك طريقة الداعي على الاجابة إلى ما دعا إليه، وليس كل إجابة اتباعا، لان اجابة الدعاء يجوز على الله تعالى ولا يجوز عليه الاتباع.

وقوله: (فاكتبنا مع الشاهدين) قيل معناه قولان: أحدهما - اثبت اسماء‌نا مع اسمائهم لنفوز بمثل ما فازوا، وننال من الكرامة مثل ما نالوا، ونستمتع بالدخول في جملتهم والانضمام إليهم. الثاني - يصل ما بيننا وبينهم بالخلة على التقوى، والمودة على سلوك طريق الهدى، وتجنب طريق الردى، وعلى هذا يكونون فيه بمنزة من كتب عليهم.

وحقيقة الشاهد المخبر بالشئ عن مشاهدة، وقد يتصرف فيه، فيقال: البرهان شاهد بحق أي هو بمنزلة المخبر به عن مشاهدة. ويقال هذا شاهد أي معد للشهادة والمراد في الاية الشاهدين بالحق المنكرين للباطل.

قوله تعالى: ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين(54)

آية.

___________________________________

(1) سورة الزخرف آية 68.

[476]

المعنى: قيل في معنى الاية قولان: أحدهما - قال السدي مكروا بالمسيح بالحيلة عليه، لقتله " ومكر الله بردهم " بالخيبة، لالقائه شبه المسيح على غيره.

الثاني - " مكروا " باضمار الكفر " ومكر الله " بمجازاتهم عليه بالعقوبة.

والمكر، وإن كان قبيحا فانما أضافه تعالى إلى نفسه لمزاوجة الكلام، كما قال: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم "(1) وليس باعتداء وإنما هو جزاء، وهذا أحد وجوه البلاغة، لانه على أربعة أقسام: أحدها - المزاوجة نحو " ومكروا ومكر الله ".

والثاني - المجانسة نحو قوله: " يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والابصار "(2).

الثالث - المطابقة نحو قوله: " ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا "(3) بالنصب على مطابقة الجواب للسؤال.

والرابع - المقابلة نحو قوله: " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة "(4) قال الشاعر:

واعلم وأيقن ان ملكك زائل *** واعلم بأن كما تدين تدان(5)

أي كما تجزي تجزى.

والاول ليس بجزاء وأصل المكر الالتفاف، فمنه المكر ضروب من الشجر مثل الدعل ونحوه، لالتفافه. والممكورة من النساء الملتفة والمكر طين أحمر شبيه بالمغرة. وثوب ممكور إذا صبغ بذلك الطين. والمكر الاحتيال

___________________________________

(1) سورة البقرة آية: 194.

(2) سورة النور آية: 37.

(3) سورة النحل آية: 30.

(4) سورة القيامة آية: 22 - 25.

(5) اللسان (زنا)، (دان) وجمهرة الامثال للعسكري: 169 وغيرها وقد نسبه في اللسان إلى خلويلد بن نوفل الكلابي. وقيل: هو لبعض الكلابيين.

وقيل: ليزيد بن الصعق الكلابي.

وقد مر البيت في 1: 36 وروايته هناك (بأنك ما تدين تدان).

وروايته اللسان:

يا حار ايقن أن ملكك زائل *** واعلم بأن كما تدين تدان

وحار: ترخيم حارث.

والمخاطب هنا الحارث بن أبي شمر الغساني وكان قد اغتصب ابنة الشاعر فخاطبه في قصيدة منها هذا البيت.

[477]

على العبد، لالتفاف المكروه عليه.

وحد المكر: خب‌ء يختدع به العبد لايقاعه في الضر. والفرق بين المكر والحيلة أن الحيلة قد تكون، لاظهار ما تعسر من الفعل من غير قصد إلى الاضرار بالعبد. والمكر حيلة على العبد توقعه في مثل الرهق.

قوله تعالى: إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون(55)

آية.

الاعراب: العامل في (إذ) يحتمل أحد أمرين.

أحدهما - قوله: " ومكروا ومكرالله " " إذ قال ". والاخر ذاك " إذ قال يا عيسى " وعيسى في موضع الضم، لانه منادا مفرد، ولكن لايبين فيه لانه منقوص، وعيسى لاينصرف لاجتماع العجمة والتعريف على قول الزجاج، لانه حمل الالف على حكم الملحق بمخرج ولم يحملها على التأنيث، فأما الالف في زكريا، فلا يكون إلا للتأنيث، لانه لا مثال له في الاصول.

وإذا عرب جرى على قياس كلامهم في أن الالف الزائدة لاتخلو أن تكون للتأنيث أو للالحاق، فاذا بطل أحدهما صح أنها للاخر. وإنما وجب ذلك، لانه يجري مجرى الاعراب بالعوامل، فأما الاشتقاق، فلا يجب، لانه تصريف من أصل المشتق، وليس العربي بأصل للعجمي، وذلك نحو العيس وهو بياض الابل والعوس وهو السياسة لو كان عربيا، لصلح أخذه من أحد الاصلين.

[478]

وإذا أخذ من أحدهما امتنع من الاخر، فلذلك إذا أخذ من العجمي امتنع من العربي.

وقوله: (إني متوفيك) قيل في معناه ثلاثة أقوال: أحدها - قابضك برفعك من الارض إلى السماء من غير وفاة موت في قول الحسن وابن جريج وابن زيد.

الثاني - متوفيك وفاة نوم في قول ابن عباس ووهب ابن منية.

والثالث - ان فيه تقديما وتأخيرا، ومعناه إني رافعك، ومتوفيك فيما بعد ذكره الفراء.

وقوله: " ورافعك " قيل في معناه قولان: أحدهما - رافعك في السماء فجعل ذلك رفعا إليه للتفخيم واجراء‌ه على طريق التعظيم.

والاخر - مصيرك إلى كرامتي كما يقال رفع إلى السلطان، ورفع الكتاب إلى الديوان.

وقال ابراهيم " إني ذاهب إلى ربي "(6). وإنما ذهب من العراق إلى الشام. وإنما أراد إلى حيث أمرني ربي بالمضي إليه.

وقوله: (ومطهرك) قيل فيه قولان: أحدهما - مطهرك باخراجك من بين الارجاس، لان كونه في جملتهم بمنزلة التنجيس له بهم، وإن كان عليه السلام طاهرا في كل حال، وإنما ذلك على ازالته عن مجاورة الانجاس.

والثاني - قال أبوعلي: تطهيره: منعه من كفر يفعلونه بالقتل الذي كانوا هموا به لان ذلك نجس طهره الله منه.

وقوله: (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة يحتمل أن يكون جعلهم فوقهم بالحجة والبرهان، ويحتمل أن يكون ذلك بالعز والغلبة، وقال الحسن، وقتادة، والربيع: المعني بهذه الاية أهل الايمان. وما جاء به دون الذين كذبوه أو كذبوا عليه.

وقال ابن زيد: المعني به النصارى، وهم فرق اليهود من حيث كانوا اليهود أذل منهم إلى يوم القيامة، ولهذا زال الملك عنهم وإن ان ثابتا في النصارى في بلاد الروم وغيرها، فهم أعز منهم وفوقهم.

وقال الجبائي فيه دلالة على أنه لايكون لليهود مملكة إلى يوم القيامة كما للروم.

والوجه الاول أقوى، لانه أظهر إذا كان على جهة الترغيب في الحق.

[479]

وقوله: (ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون) وجه اتصاله بالكلام كأنه قال أما الدنيا فأنتم فيها على هذه الحال، وأما الاخرة، فيقع فيها التوفية للحقوق على التمام والكمال. وإنما عدل عن الغيبة إلى الخطاب في قوله: " ثم إلي مرجعكم " لتغلب الحاضر على الغائب لما دخل معه في المعنى كما يقول بعض الملوك: قد بلغني عن أهل بلد كذا جميل، فأحسن إليكم معشر الرعية.

وقوله تعالى: فاما الذين كفروا فاعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والاخرة وما لهم من ناصرين(56)

آية واحدة بلا خلاف.

معنى قوله " فأما " تفصيل المجمل على قولك فيجازي العباد أما المؤمن فبالثواب وأما الكافر فبالعقاب.

وقوله: " فاعذبهم " فالعذاب: استمرار الالام لان أصله استمرار الشئ، فمنه العذوبة لاستمرار العذب في الحلق، ومنه العذبة لاستمرارها بالحركة.

وقوله " شديدا " فالشدة صعوبة بالانتقام.

والقوة: عظم القدرة، فالشدة نقيض الرخاوة.

والقوة نقيض الضعف، فشدة العذاب قد تكون بالتضعيف، وقد تكون بالتحبيس.

وقوله: (في الدنيا والاخرة) فعذابهم في الدنيا اذلالهم بالقتل، والاسر، والسبي، والخسف، والجزية، وكلما فعل على وجه الذلة والاهانة. وفي الاخرة عذاب الابد.

والفرق بين الاخرة والانتهاء أن الاخرة قد تكون بعد العمل، فأما الانتهاء فجزء منه لايكون بعد كماله هذا إذا اطلق فان اضيف فقيل آخر العمل فمعناه انتهاء العمل.

وقوله: (وما لهم من ناصرين) فالنصرة هي المعونة على العدو خاصة. والمعونة هي زيادة في القوة وقد تكون على العدو، وغير العدو.

[480]

قوله تعالى: وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لايحب الظالمين(57)

آية واحدة بلا خلاف.

قرأ " فيوفيهم " بالياء حفص ورويس. الباقون بالنون.

فان قيل: لم كرر الوعد ههنا وقد ذكر في غير هذا الموضع من القرآن؟ قلنا: ليس ذلك بتكرير في المعنى، لان معنى ذلك آمنوا بك يا عيسى وعملوا الصالحات فيما دعوتهم إليه من الهدى، لانه تفصيل ما أجمل في قوله: " ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون "

وقوله: " وعملوا الصالحات " ليس بتقييد للوعد بكل واحدة من الخصلتين على اختلاف فائدة الصفتين، وفي الاية دلالة على بطلان مذهب المجبرة في أن الله تعالى يريد الظلم، لانه قال: " لايحب الظالمين " وإذا لم يحب الظالم لم يحب فعل الظلم، لانه إنما لم يجز محبة الظالم لظلمه. والمحبة هي الارادة، وفي الاية دلالة على أنه لايجازي المحسن بما يستحقه المسئ ولا المسئ با يستحقه المحسن، لان ذلك ظلم.

ومعنى التوفية في الاية مساواة مقدار الاستحقاق لان المقدار لايخلو أن يكون مساويا أو زائدا أو ناقصا، والزيادة على مقدار رالاستحقاق لايجوز أن يعطي ثواب العمل من ليس بعامل لكن تجوز الزيادة على وجه التفضل، فأما التوفية، فواجبه في الحكمة والنقصان لايجوز، لانه ظلم.

وفي الاية دلالة على بطلان القول بالتحابط، لانه تعالى وعد بتوفية الاجور ولم يشرط الاحباط، فوجب حمل الكلام على ظاهره.

قوله تعالى: ذلك نتلوه عليك من الايات والذكر الحكيم(58)

آية واحدة.

[481]

المعنى: " ذلك " اشارة إلى الاخبار عن عيسى، وزكريا، ويحيى، عن الحواريين، واليهود من بني إسرائيل، وهو في موضع نصب بما تقدم.

و " نتلوه عليك " لما فيه من الاية لمن تذكر في ذلك واعتبر به. والذكر وإن كان حكمة فانما وصفه بأنه حكيم من حيث لما كان ما فيه من الدلالة بمنزلة الناطق بالحكمة حسن وصفه بأنه حكيم من هذه الجهة، كما وصفت الدلالة بأنها دليل لما فيها من البيان، وذلك لانه الناطق بالبيان.

الاعراب: وموضع " نتلوه " من الاعراب يحتمل أمرين: أحدهما - أن يكون رفعا بأنه خبر ذلك، والثاني - ألا يكون له موضع، لانه صلة ذلك وتقديره: الذي نتلوه عليك من الايات، ويكون موضع " من الايات " رفعا بأنه خبر ذلك.

ذكره الزجاج وأنشدوا في مثله:

عدس ما للعباد عليك إمارة *** أمنت وهذا تحملين طليق(1)

بمعنى والذي تحملين طليق.

المعنى: وقيل في معنى قوله: " نتلوه عليك " قولان: أحدهما - نكلمك به، ويكون وضع " نتلوه " موضع نكلم كما يقول القائل: انشأ زيد الكتاب وتلاوة عمرو، فالتلاوة تكون الاظهار الكلام على جهة الحكاية الثاني - " نتلوه عليك " بأمرنا جبريل أن يتلوه عليك على قول الجبائي، والذكر حصول ما به يظهر المعنى للنفس ويكون كلاما وغير كلام من بيان أو خاطر على

___________________________________

(1) البيت مشهور في كتب النحو.

[482]

البال، وليس إذا ظهر الشئ للنفس دل على صحته، لان الضدين قد يظهران ولايجوز صحتهما معا.

قوله تعالى: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون(59)

آية.

قال ابن عباس، والحسن وقتادة: هذه الاية نزلت في وفد نجران: السيد والعاقب، قالا للنبي صلى الله عليه وآله هل رأيت ولدا من غير ذكر، فأنزل الله تعالى الاية. والمثل ذكر سائر يدل على أن سبيل الثاني سبيل الاول، فذكر الله آدم بأن انشأه من غير والد يدل على أن سبيل الثاني سبيل الاول في باب الامكان، والقدرة.

وفي ذلك دلالة على (بطلان قول) من حرم النظر، لان الله تعالى احتج به على المشركين ولايجوز أن يدلهم إلا بما فيه دليل فقياس خلق عيسى من غير ذكر كقياس خلق آدم بل هو فيه أوجب، لانه في آدم من غير أنثى، ولاذكر.

ومعنى " خلقه " أنشأه، ولا موضع له من الاعراب، لانه لا يصلح أن يكون صفة لادم من حيث هو نكرة، ولايكون حالا له، لانه ماض فهو متصل في المعنى غير متصل في اللفظ من علامات الاتصال من الاعراب أو مرتبة كالصلة.

وقوله: (كن فيكون) قد بينا معناه فيما مضى وأنه اخبار عن سرعة الفعل وتيسره من غير مشقة ولا إبطاء وقيل إنه يفعله عند قوله: " كن " ويكون ذلك علامة للملائكة على ما يريد الله إنشاء‌ه.

وقوله: " فيكون " رفع لا يجوز فيه النصب على جواب الامر في كن، لان جواب الشرط غيره في نفسه أو معناه نحو اتني فاكرمك واتني فتحسن إلي، فهذا يجوز، لان تقديره فانك إن تأتني تحسن إلي، ولايجوز تقدير (أن)، فيكون بالنصب، لان تقدير كن فانك أن تكن فهذا لايصح، لان الجواب هو الشرط على معناه، ولكن يجوز الرفع على فهو يكون.

[483]

الآية: 60 - 69

قوله تعالى: ألحق من ربك فلا تكن من الممترين(60)

آية.

الاعراب: الحق رفع بأنه خبر ابتداء محذوف وتقديره ذلك الاخبار في أمر عيسى الحق من ربك، فحذف، لتقدم ذكره وأغنى بشاهد الحال عن الاشارة إليه كما تقول الهلال أي هذا الهلال.

المعنى واللغة: وقوله: (فلا تكن من الممترين) يحتمل أمرين: أحدهما - أن يكون خطابا للنبي صلى الله عليه وآله والمراد به غيره، كما قال. " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء "(1).

والاخر - " فلا تكن من الممترين " أيها السامع للبرهان من المكلفين كائنا من كان.

والامتراء الشك، ومثله المرية وأصله الاستخراج مرى الضرع يمريه مريا: إذا استخرج اللبن منه يمسحه ليدر، وكذلك الريح تمري السحاب مريا. فالامتراء شك كحال المستخرج لما لايعرف.

وإنما قال: " الحق من ربك " ولم يقتصر على قوله: " ذلك الحق " " فلا تكن من الممترين " لان في هذه الاية دلالة على أنه الحق، لانه من ربك، ولو قال ذلك الحق " فلا تكن من الممترين " لان في هذه الاية دلالة على أنه الحق، لانه من ربك.

ولو قال: ذلك الحق فلا تكن(2) لم يفد هذه الفائدة.

والفرق بين قوله: " فلا تكن من الممترين " وبين قوله: فلا تكن ممتريا أن ذلك أبلغ في النهي، لانه اشارة إلى قوم قد عرفت حالهم في النقص والعيب.

___________________________________

(1) سورة الطلاق آية: 1.

(2) هكذا في المطبوعة وفيه تكرار كما ترى.

[484]

قوله تعالى: فمن حاجك فيه من بعد ما جاء‌ك من العلم فقل تعالوا ندع أبناء‌نا وأبناء‌كم ونساء‌نا ونساء‌كم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين(61)

آية بلا خلاف.

المعنى: الهاء في قوله: " فيه " يحتمل أن تكون عائدة إلى أحد أمرين: أحدهما - إلى عيسى في قوله: " إن مثل عيسى عند الله " في قول قتادة. الثاني - أن تكون عائدة على الحق في قوله " الحق من ربك ".

والذين دعاهم النبي صلى الله عليه وآله في المباهلة نصارى نجران، ولما نزلت الاية أخذ النبي صلى الله عليه وآله بيد على وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، ثم دعا النصارى إلى المباهلة، فاحجموا عنها، وأقروا بالذلة والجزية.

ويقال: إن بعضهم قال لبعض إن باهلتموه اضطرم انوادي نارا عليكم ولم يبق نصراني ولا نصرانية إلى يوم القيامة.

وروي أن النبي صلى الله عليه وآله قال لاصحابه: مثل ذلك.

ولا خلاف بين أهل العلم أنهم لم يجيبوا إلى المباهلة.

اللغة، والمعنى: و " تعاوا " أصله من العلو، يقال منه تعاليت أتعالى تعاليا: إذا جئت وأصله المجئ إلى الارتفاع إلا أنه كثر في الاستعمال حتى صار لكل مجئ وصار تعالى بمنزلة هلم.

وقيل في معنى الابتهال قولان: أحدهما - الالتعان بهله الله أي لعنه وعليه بهلة الله. الثاني " بتهل " ندعوا بهلاك الكاذب.

[485]

وقال لبيد: نظر الدهر إليهم فابتهل(1)

أي دعا عليهم بالهلاك كاللعن، وهو المباعدة من رحمة الله عقابا على معصيته فلذلك لايجوز أن يلعن من ليس بعاص من طفل أو يهيمة أو نحو ذلك.

وقال أبوبكر الرازي: الاية تدل على أن الحسن والحسين ابناه، وأن ولد البنت ابن على الحقيقة.

وقال ابن أبي علان: فيها دلالة على أن الحسن والحسين كانا مكلفين في تلك الحال، لان المباهلة لاتجوز إلا مع البالغين.

واستدل أصحابنا بهذه الاية على أن أمير المؤمنين (ع) كان أفضل الصحابة من وجهين: أحدهما - أن موضوع المباهلة ليتميز المحق من المبطل وذلك لايصح أن يفعل إلا بمن هو مأمون الباطن مقطوعا على صحة عقيدته أفضل الناس عند الله. والثاني - أنه صلى الله عليه وآله جعله مثل نفسه بقوله: " وأنفسنا وأنفسكم " لانه أراد بقوله: " أبناء‌نا " الحسن والحسين (ع) بلا خلاف.

وبقوله: " ونساء‌نا ونساء‌كم " فاطمة (ع) وبقوله: " وأنفسنا " أراد به نفسه، ونفس علي (ع) لانه لم يحضر غيرهما بلا خلاف، وإذا جعله مثل نفسه، وجب ألا يدانيه أحد في الفضل، ولايقاربه. ومتى قيل لهم أنه أدخل في المباهلة الحسن والحسين (ع) مع كونهما غير بالغين وغير مستحقين للثواب، وإن كانا مستحقين للثواب لم يكونا أفضل الصحابة.

قال لهم أصحابنا: إن الحسن والحسين (ع). كانا بالغين مكلفين، لان البلوغ وكمال العقل لا يفتقر إلى شرط مخصوص، ولذلك تكلم عيسى في المهد بما دل على كونه مكلفا عاقلا، وقد حكيت ذلك عن امام من أئمة المعتزلة مثل ذلك وقالوا أيضا أعني أصحابنا: إنهما كانا أفضل الصحابة بعد أبيهما وجدهما، لان كثرة الثواب ليس بموقوف على كثرة الافعال، فصغر سنهما لا يمنع من أن يكون

___________________________________

(1) ديوانه قصيدة 39 البيت 81، وأمالي الشريف المرتضى 1: 45 وأساس البلاغة (بهل) وصدره: في قروم سادة من قومه

[486]

معرفتهما وطاعتهما لله، وإقرارهما بالنبي صلى الله عليه وآله وقع على وجه يستحق به من الثواب ما يزيد على ثواب كل من عاصر هما سوى جدهما وأبيهما. وقد فرغنا الكلام في ذلك واستقصيناه في كتاب الامامة.

قوله تعالى: إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم(62)

آية.

المعنى، واللغة: إن قيل: لم قال: " إن هذا لهو القصص " مع قيام الحجة، وشهادة المعجزة له؟ قلنا: معناه البيان عن أن مخالفتهم له بعد وضوح أمره يجري مجرى العناد فيه، وكذلك قوله: " وما من إله إلا الله ".

والقصص: الخبر الذي تتابع فيه المعاني وأصله اتباع الاثر، وفلان يقص أثر فلان أي يتبعه.

وقوله: (وما من إله إلا الله) دخول (من) فيه تدل على عموم النفي لكل إله غير الله.

ولو قال: ما إله إلا الله لم يفد ذلك وإنما أفادت (من) هذا المعنى، لان أصلها لابتداء الغاية فدلت على استغراق النفي من ابتداء الغاية إلى انتهائها. ويجوز جر اسم الله على البدل من إله، لان ذلك لايحسن في الكلام، لان (من) لا تدخل في الايجاب وما بعد (إلا) هنا إيجاب، ولاتدخل أيضا على المعرفة للعموم، ولا يحسن إلا رفعه على الموضع، كأنه قيل ما لكم إله إلا الله.

وما لكم مستحق للعبادة إلا الله قال الشاعر:

ابني لبيني لستم بيد *** الايد ليست لها عضد

أنشدوه بالجر، فعلى هذا يجوز ما جاء‌ني من رجل إلا زيد، وليس هو وجه الكلام، ولكنه يتبعه وإن لم يصلح إعادة العامل فيه، كما يقال: اختصم زيد وعمرو، ولا يجوز واختصم عمرو.

وقوله: " وإن الله لهو العزيز الحكيم " معناه

[487]

لا أحد يستحق إطلاق هذه الصفة إلا هو، فوصل ذلك بذكر التوحيد في الالهية لانه حجة على صحته من حيث لو كان إله آخر، لبطل إطلاق هذه الصفة.

الاعراب: وموضع هو من الاعراب يحتمل أمرين: أحدهما - أن يكون فصلا، وهو الذي تسمية الكوفيون عمادا، فلا يكون له موضع من الاعراب، لانه في حكم الحرف ويكون القصص خبر إن.

والاخر - أن يكون إسما موضعه رفع بالابتداء والقصص خبر إن والجملة خبر إن.

قوله تعالى: فان تولوا فان الله عليم بالمفسدين(63)

اللغة والمعنى: التولي عن الحق هو اعتقاد خلافه بعد ظهوره، لانه كالادبار عنه بعد الاقبال. وتولى عنه خلاف تولى إليه. والاصل واحد كما أن رغب عنه خلاف رغب فيه. وهو الزوال بالوجه عن جهته إلى غيره، فأصل التولي كون الشئ يلي غيره من غير فصل بينه وبينه، فقيل تولى عنه أي زال عن جهته.

وقوله: (فان الله عليم بالمفسدين) إنما خص المفسدين بأنه عليم بهم على جهة التهديد لهم، والوعد بما يعلمه مما وقع من إفسادهم كما يقول القائل أنا أعلم بسر فلان، وما يجري إليه من الفساد. والافساد إيقاع الشئ على خلاف ما توجبه الحكمة، وهو ضد الاصلاح، لانه ايقاع الشئ على مقدار ما توجبه الحكمة.

والفرق بين الفساد، والقبيح: أن الفساد تغيير عن المقدار الذي تدعو إليه الحكمة بدلالة أن نقيضه الصلاح، فاذا قصر عن المقدار أو أفرط لم يصلح، فاذا كان على المقدار صلح، وليس كذلك القبيح، لانه ليس فيه معنى المقدار. وإنما القبيح ما تزجر عنه الحكمة كما أن الحسن ما تدعوا إليه الحكمة.

[488]

قوله تعالى: قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فان تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون(64)

آية واحدة.

النزول: قيل في من نزلت هذه الاية ثلاثة أقوال: أحدهما - ذكره الحسن، والسدي، وابن زيد، ومحمد بن جعفر بن الزبير: أنهم نصارى نجران.

والثاني - قال قتادة، والربيع، وابن جريج: أنهم يهود المدينة، وقد روى ذلك أصحابنا. ووجه هذا القول أنهم أطاعوا الاحبار طاعة الارباب، فسلكوا بهم طريق الضلال. ويدل على ذلك قوله: (عزوجل) " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله "(1) وروي عن أبي عبدالله (ع) أنه قال ما عبدوهم من دون الله وإنما حرموا لهم حلالا وأحلوا لهم حراما، فكان ذلك اتخاذ الارباب من دون الله.

الثالث - ذكره أبوعلي الجبائي أنها في الفريقين من أهل الكتاب على ظاهر الكلام.

المعنى، والاعراب، واللغة: وقوله: (إلى كلمة سواء) فسواء إسم وليس بصفة وإنما جر سواء بتقدير ذات سواء في قول الزجاج. وكان يجوز نصبه على المصدر، وموضع " أن لا " خفض على البدل من (كلمة).

وقال الرماني: إنما أجراه على الاول، وهو الثاني ولايجوز في مثل قولك مررت برجل سواء عليه الخير والشر غير الرفع لامرين: أحدهما - أن رفع الثاني بتقدير محذوف، كأنه قال هي " ألا تعبد إلا

___________________________________

(1) سورة التوبة آية: 32.

[489]

الله "، فيكون سواء من صفة الكلمة في اللفظ، والمعنى. ويجوز أن يكون موضعه خفضا على البدل من الكلمة، وتقديره تعالوا إلى ألا نعبد إلا الله، وكذلك جاء مالا يصلح للاول على الاستئناف، نحو " الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد "(1) وكذلك " أم حسب الذين اجترحوا السيئآت أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم "(2).

الثاني - أن يقع بمعنى المصدر في موضع الصفة الجارية بتقدير (كلمة) مستوية " بيننا وبينكم " فيها الامتناع من عبادة غير الله. وإنما جاز، لان لانعت بغير معنى الكلمة، فصار بمنزلة إضمار الكلمة.

والفرق بين كلمة عدل وكلمة سواء (أن " كلمة سواء ") بمعنى مستوية وأن عدل بمعنى عادلة فيما يكون منها، كما تقول رجل عدل أي عادل، فاما كلمة مستوية فمستقيمة، كما يقال الرجل مستو - في نفسه - غير مائل عن جهته فلذلك فسر سواء على الوجهين، فكان يجوز في العربية الجزم في " ألا نعبد إلا الله " على طريق النهي، كقولك اتني وقت يأتي الناس لاتجئ في غير ذلك من الاوقات، ويجوز فيه الرفع أيضا بمعنى الحكاية على أن تقول " لانعبد إلا الله " وأجاز الفراء الجزم عطفا على موضع (أن) لانها في موضع جواب الامر على تقدير " تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولانشرك به شيئا " كما تقول: تعالوا لا نقل إلا خيرا، وهذا لايجوز عند البصريين، لان (أن) لا توافق معنى الجواب كالفاء في قوله: " فأصدق وأكن من الصالحين "(3) كما توافقه " إذا " في قوله: " وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون "(4) واللام في قوله: " فان تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون " إنما اتصل بما قبله على تقدير قابلوا إعراضهم عن الحق بخلافه للانكار عليهم وتجديدا للاقرار به عند صدهم أي أقيموا على إسلامكم، وقولوا لهم: " اشهدوا بأنا مسلمون " مقيمون على الاسلام.

___________________________________

(1) سورة الحج آية: 25.

(2) سورة الجاثية آية: 20.

(3) سورة المنافقين آية: 10.

(4) سورة الروم آية 36.

[490]

قوله تعالى: يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والانجيل إلا من بعده أفلا تعقلون(65)

آية واحدة.

النزول: روي عن ابن عباس، والحسن، وقتادة والسدي أن أحبار اليهود ونصارى نجران اجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وآله فتنازعوا في ابراهيم، فقالت اليهود: ما كان إلا يهوديا.

وقالت النصارى ما كان إلا نصرانيا، فأنزل الله تعالى هذه الاية.

اللغة: وقوله: " لم تحاجون " فالحجاج، والمحاجة واحد، وهو الجدال أما بحجة أو شبهة، وقد يسمى الجدال بابهام الحجة حجاجا، وعلى ذلك كان أهل الكتاب في ادعائهم لابراهيم، لانهم أو هموا صحة الدعوى من غير سلوك لطريق الهدى ولا تعلق بما يظن به صحة المعنى. وأما الحجة فهو البيان الذي يشهد لصحة المقالة، وهي والدلالة بمعنى واحد. والفرق بين الحجاج والجدال أن الحجاج يتضمن اما بحجة أو شبهة أو ابهام في الحقيقة، لان أصله من الجدل، وهو شدة الفتل.

المعنى: وقوله: (أفلا تعقلون) معناه أفلا تعقلون فساد هذه الدعوى إذ العقل يمنع من الاقامة على دعوى بغير حجة، فكيف بما قد علم، وظهر فساده بالمناقضة. وفي ذلك دلالة على أن العاقل لايعذر في الاقامة على الدعوى من غير حجة، لما فيه من البيان عن الفساد والانتقاض. ولان العقل طريق العلم، فكيف يضل عن الرشد من قد جعل الله إليه السبيل !.

[491]

قوله تعالى: ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لاتعلمون(66)

آية واحدة.

القراء‌ة: قرأ أهل المدينة وأبو عمرو " ها أنتم " بتخفيف الهمزة حيث وقع الباقون بتخفيفها(1) وكلهم أثبت الالف قبل الهمزة إلا بان عامر عن قنبل فانه حذفها.

المعنى واللغة: " ها " للتنبيه وإنما نبههم على أنفسهم وإن كان الانسان لاينبه على نفسه وإنما ينبه على ما أغفله من حاله، لان المراد بذلك تنبيههم بذكر ما يعلمون على ما لا يعلمون، فلذلك خرج التنبيه على النفس، والمراد على حال النفس. ولو جاء على الاصل، لكان لابد من ذكر النفس للبيان، ففيه مع ذلك ايجاز. وقد كثر التنبيه في هذه ولم يكثر في ها أنت، لان ذا مبهم من حيث يصلح لكل حاضر والمعنى فيه على واحد بعينه مما يصلح له فقوى بالتنبيه، لتحريك النفس على طلبه بعينه، وليس كذلك أنت، لانه لايصلح لكل حاضر في الجملة، وإنما هو للمخاطب.

إن قيل أين خبر أنتم في " ها أنتم "؟ قيل: يحتمل أمرين: أحدهما - حاججتم على أن يكون " هؤلاء " تابعا عطف بيان. والثاني - أن يكون الخبر " هؤلاء " على معنى هؤلاء بمعنى الذين وما بعده صلة له.

فان قيل: ما الذي حاجوا فيه مما لهم به علم؟ قلنا: أما الذي لهم به علم فما وجدوه في كتبهم، لانهم يعلمون أنهم وجدوه فيها وأما الذي ليس لهم به علم فشأن إبراهيم على قول السدي وأبي علي.

___________________________________

(1) هكذا وجدناه في الاصل وهو كما ترى. وفي مجمع البيان. قرأ أهل الكوفة (ها أنتم) بالمد والهمزة وقرأ أهل المدينة وأبوعمرو بغير مد ولا همزة الا بقدر خروج الالف الساكنة. وقرأ ابن عامر بالمد دون الهمزة.

[492]

وقوله: " والله يعلم " يعني شأن ابراهيم وكلماليس عليه دليل، لانه علام الغيوب العالم بغير تعليم " وأنتم لاتعلمون " ذلك، فينبغي أن تلتمسوا حقه من باطله من جهة عالم به.

قال أبوعلي الفارسي: وجه قراء‌ة إبن كثير أنه أبدل من الهمزة هاء والتقدير أأنتم، فابدل من همزة الاستفهام هاء، وذلك جائز. قال: ولايجوز على هذا أن تكون (ها) للتنبيه. وحذف الالف منها في مثل هلم، لان الحذف إنما يجوز إذا كان فيها تضعيف.

قوله تعالى: ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين(67)

آية.

المعنى: ذكر الحسن، وقتادة، وعامر، وهوالمروي عن أبي جعفر (ع): أن اليهود قالت: كان ابراهيم يهوديا، وقالت النصارى كان نصرانيا، فاكذبهم الله في ذلك بانزال هذه الاية.

فان قيل: هل كان الله تعبد باليهودية والنصرانية ثم نسخا أم لا؟ قلنا: كان الذي بعثه الله به شرع موسى ثم شرع عيسى ثم نسخهما فأما اليهودية والنصرانية فصفتا ذم قد دل القرآن والاجماع على ذلك، لان موسى لم يكن يهوديا، وعيسى لم يكن نصرانيا، لقوله تعالى: " ان الدين عند الله الاسلام " واليهودية ملة محرفة عن شرع موسى وكذلك النصرانية محرفة عن شرع عيسى.

وقيل في أصل الصفة بيهود قولان: أحدهما - أنهم ولد يهود. والاخر - أنه مأخوذ من هاد يهود إذا رجع.

وفي النصارى قولان: أحدهما - أنه مأخوذ من ناصرة قرية بالشام. والاخر - أنه من نصر المسيح.

وكيف تصرفت الحال فقد صارتا صفتي ذم تجريان على فرقتين ضالتين.

[493]

فان قيل: إن كان ابراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، لان التوارة والانجيل أنزلا بعده، فيجب أن لايكون مسلما، لان القرآن أيضا أنزل بعده؟ قلنا: لايجب ذلك، لان التوراة والانجيل أنزلا من بعده من غير أن يكون فيها ذكر له بأنه يهوديا أو نصرانيا. والقرآن أنزل من بعده وفيه الذكر له بأنه كان حنيفا مسلما.

وقيل في معنى الحنيف قولان: أحدهما - المستقيم الدين، لان الحنف هو الاستقامة في اللغة. وإنما سمي من كان معوج الرجل أحنف على طريق التفاؤل كما قيل للضرير إنه بصير.

والثاني - إن الحنيف هو المائل إلى الحق في الدين فيكون مأخوذا من الحنف في القدم، وهو الميل.

فان قيل: هل كان إبراهيم على جميع ما نحن عليه الان من شرع الاسلام؟ قلنا. هو (ع) كان مسلما، وإن كان على بعض شريعتنا، لان في شرعنا تلاوة الكتاب في صلاتنا وما أنزل القرآن إلا على نبينا، وإنما قلنا: إنه مسلم باقامة بعض الشريعة، لان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله كانوا مسلمين في الابتداء قبل استكمال الشرع. وقد سماه الله تعالى مسلما، فلا مرية تبقى بعد ذلك.

قوله تعالى: إن أولى الناس بابراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين(68)

آية واحدة.

المعنى: معنى قوله: " إن أولى الناس بابراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي " أي أحقهم بنصرته بالمعونة أو الحجة، لان الذين اتبعوه في زمانه تولوه بالنصرة على عدوه حتى ظهر أمره، وعلت كلمته. وسائر المؤمنين يتولونه بالحجة بما كان عليه من الحق وتبرئته من كل عيب، فالله تعالى ولي المؤمنين، لانه يوليهم النصرة، والمؤمن ولي الله لهذا المعني بعينه. وقيل، لانه يولي صفاته التعظيم. ويجوز،

[494]

لانهم يتولون نصرة ما أمره به من الدين. وقيل والله ولي المؤمنين، لانه يتولى نصرهم. والمؤمنون أولياء الله، لانهم يتولون نصر دينه الذي أمرهم به.

اللغة: " وأولى " الذي هو بمعنى أفعل من غيره لايجمع ولا يثنى، لانه يتضمن معنى الفعل والمصدر على تقدير يزيد فضله على فضله في أفضل منه. ومعنى قولنا: هذا الفعل أولى من غيره أي بأن يفعل.

وقولنا زيد أولى من غيره معناه: أنه على حال هو بها أحق من غيره.

وقوله: " للذين اتبعوه " فالاتباع جريان الثاني على طريقة الاول من حيث هو عليه كالمدلول الذي يتبع الدليل في سلوك الطريق أو في التصحيح، لانه إن صح الدليل صح المدلول عليه لصحته، وكذلك المأموم الذي يتبع الامام.

فان قيل: لم فصل ذكر النبي صلى الله عليه وآله من ذكر المؤمنين؟ قلنا: يحتمل أمرين: أحدهما - أنه بمعنى والذين آمنوا به، فتقدم ذكره ليدخل في الولاية ويعود إليه الكتابة. والثاني - أن اختصاصه بالذكر بالحال العليا في الفضل.

قوله تعالى: ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون(69)

اللغة: معنى ودت: تمنت وإذا كانت بمعنى التمني، فهي تصلح للماضي والحاضر والمستقبل فلذلك جاز ب‍ (لو) وليس كذلك المحبة والارادة، لانهما لا يتعلقان إلا بالمستقبل فلا يجوز أن يكون بمعنى أرادت " لو يضلونكم " كما يجوز ودت " لو يضلونكم "، لان الارادة تجري مجرى الاستدعاء إلى الفعل أو مجرى العلة

[495]

في ترتيب الفعل، فأما التمني، فهو تقدير شئ في النفس يستمتع بتقريره.

والفرق بين ود لو يضله، وبين ود أن يضله: أن (أن) للاستقبال وليس كذلك (لو) وقوله: (لو يضلونكم) فالاضلال: الاهلاك بالدخول في الضلال.

وأصل الضلال الهلاك من قوله: " أئذا ضللنا في الارض "(1) أي هلكنا.

المعنى: وقوله: (وما يضلون إلا أنفسهم) قيل فيه قولان: أحدهما - أن المؤمنين لا يقبلون مايدعونهم إليه من ترك الاسلام إلى غيره من الاديان فيحصل عليهم حينئذ الاثم والوبال، والاستدعاء إلى الضلال. الثاني - " وما يضلون إلا أنفسهم " بفعل الضلال كما يقال ما أهلك إلا نفسه أي لايعتد بهلاك غيره في عظم هلاكه.

اللغة: والفرق بين أضله عن الطريق وبين أخرجه عن الطريق: أن أضله عنه يكون بالاستدعاء إلى غيره دون فعل الضلال. واخرجه عنه قد يكون بفعل الخروج منه. والفرق بين الاضلال والاستدعاء إلى الضلال أن الاضلال لايكون إلا إذا قبل المدعو، فأما الاستدعاء إلى الضلال، فيكون، قبل المدعو أم لم يقبل.

وحقيقة الاضلال: الدعاء إلى الضلال الذي يقبله المدعو.

وقال بعضهم: إنه لا يصح إضلال أحد بغيره. وإنما يقال ذلك على وجه المجاز ذهب إلى أنه يفعل فعل الضلال في غيره، لانه لايوصف بأنه مضل لغيره إلا إذا أضل المدعو باغوائه.

قال الرماني: وهذا غير صحيح، لانه يذم بالاستدعاء إلى الضلال الذي يقبله المدعو أكثر مما يذم بالاستدعاء إلى الضلال الذي لا يقبله المدعو، فلذلك فرق بين الاستدعاء‌ين فوصف أحدهما بالاضلال ولم يوصف الاخر.

___________________________________

(1) سورة الم السجدة آية: 10.

[496]

الآية: 70 - 79

قوله تعالى: يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون(70)

آية واحدة بلا خلاف.

اللغة: قوله: " يا أهل " نصب، لانه منادى مضاف.

وقوله: " لم " أصله لما، لانها (ما) التي للاستفهام دخلت عليها اللام وإنما حذفت لاتصالها بحرف الاضافة مع وقوعها ظرفا تدل عليها الفتحة. وكذلك قياسها مع سائر حروف الاضافة مثل " فيم تبشرون "(1) " وعم يتساء‌لون "(2) وإنما حذفت الالف من (ما) في الاستفهام، ولم تحذف من (ما) في الصلات لان الظرف أقوى على التغيير من وسط الاسم كما يقوى على التغيير بالاعراب، والتنوين.

والالف في الصلة بمنزلة حرف في وسط الاسم، لانه لايتم إلا بصلته، وليس كذلك الاستفهام، لان الالف فيه منتهى الاسم، و (لم) أصلها (لما) وهي مخالفة عند البصريين ل‍ (كم) على ما قاله الكسائي أن اصلها كما، لان (كم) مخالفة (لما) في اللفظ، والمعنى: أما في اللفظ، فلانه كان يجب أن تبقى الفتحة لتدل على الالف، كما بقيت في (لم) ونحوه، والامر بخلافه.

وأما في المعنى، فلان (كم) سؤال عن العدد، و (ما) سؤال عن الجنس، فليست منها في شئ، ولا لكاف التشبيه في (كم) معنى، ويلزمه في متى أن تكون أصلها (ما) إلا أنهم زادوا التاء، لانه تغيير من غير دليل، فاذا لم يمنع في أحدهما لم يمنع في الاخر.

وإنما بني على نظيره في حذف الالف، فلذلك يلزمه أن يبنى على نظيره في زيادة التاء قبل الالف، نحو (رهبوتى خير من رحمونى) قال الزجاج: قول الكسائي في هذا لايعرج عليه.

___________________________________

(1) سورة الحجر آية: 54.

(2) سورة النبأ آية: 1.

[497]

المعنى: وقوله: (لم تكفرون بآيات الله) معناه لم تجحدون آيات الله.

" وأنتم تشهدون " قيل في معناه قولان: أحدهما - وأنتم تشهدون بما يدل على صحتها من كتابكم الذي فيه البشارة بها في قول قتادة والربيع والسدي. والثاني - وأنتم تشهدون بمثلها من آيات الانبياء التي تقرون بها.

والشهادة الخبر بالشئ عن مشاهدة: إما للخبر به، وإما لما يظهر به ظهوره بالمشاهدة. فاذا شهد بالاقرار، فهو مشاهدة المخبر به، وإذا شهد بالملك، فهو يظهر به ظهوره بالمشاهدة.

وإنما قيل: شهد بالباطل، لانه يخبر عن مشاهدة في دعواه.

وقوله: (وأنتم تشهدون) فيه حذف، وتقديره " وأنتم تشهدون " ما عليكم فيه الحجة فحذف للايجاز مع الاستغناء عنه بالتوبيخ الذى تضمنه الكلام. والحجة في ذلك من وجهين: أحدهما - الاقرار بما فيه من البشارة من الكتاب. والثاني - الاقرار بمثله من الايات.

قوله تعالى: يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون(71)

آية بلا خلاف.

المعنى: قيل في معنى قوله: " لم تلبسون الحق بالباطل " ثلاثة أقوال: أحدها - بتحريف التوارة والانجيل في قول الحسن وابن زيد.

الثاني - قال ابن عباس، وقتادة: باظهار الاسلام، وإبطان النفاق، وفي قلوبهم من اليهودية والنصرانية مأمنا، لانهم يداعوا إلى الاظهار الاسلام في صدر

[498]

النهار والرجوع عنه في آخره لتشكيك الناس فيه.

الثالث - بالايمان بموسى، وعيسى، والكفر بمحمد صلى الله عليه وآله.

والحق الذي كتموه - في قول الحسن، وغيره من المفسرين -: هو ما وجدوه من صفة النبي صلى الله عليه وآله والبشارة به في كتبهم على وجه العناد من علمائهم.

وقوله: (وأنتم تعلمون) فيه حذف وتقديره وأنتم تعلمون الحق، لان التقريع قد دل على أنهم كتموا الحق وهم يعلمون أنه حق. ولو كتموه وهم لايعلمون أنه حق لم يلائم معنى التقريع الذي دل على أنهم كتموا الحق وهم يعلمون أنه حق ولم يلائم معنى التقريع الذي دل عليه الكلام.

وقيل أيضا: وأنتم تعلمون الامور التي يصح بها التكليف.

والاول أصح، لما بيناه من الذم على الكتمان.

فان قيل: إذا كانوا يعلمون الحق في الدين، فقد صح كونهم معاندين فلم ينكر مذهب أصحاب المعارف الذين يقولون أن كل كافر معاند؟ قلنا: هذا في قوم مخصوصين يجوز على مثلهم الكتمان، فأما الخلق الكثير، فلايصح ذلك منهم، كما يجوز الكتمان على القليل، ولايجوز على الكثير فيما طريقه الاخبار. على أن في الاية ما يدل على فساد قول أصحاب المعارف.

وهو الاخبار بأنهم كتموا الحق الذي علموا، فلو اشترك الناس فيه، لما صح الكتمان كما لايصح في ما يعلمونه من المشاهدات والضروريات، لاشتراكهم في العلم به.

وقوله: (وتكتمون الحق) رفع، لانه معطوف على قوله: " تلبسون " وكان يجوز النصب، فتقول: وتكتموا الحق على الصرف، كما لو قلت لم تقوم وتقعد كان جائزا أي لم تجمع الفعلين وأنت مستغن باحدهما عن الاخر.

قوله تعالى: وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون(72)

آية.

[499]

اللغة: الطائفة الجماعة. وقيل في أصلها قولان: أحدهما - أنه كالرفقة التي من شأنها أن تطوف البلاد في السفر الذي يقع عليه الاجتماع. والاخر - أنها جماعة يستوي بها حلقة يطاف حولها. وإنما دخلت هاء التأنيث فيها لمعنى المضاعفة اللازمة كما دخلت في الجماعة، لان في اصل التأنيث معنى التضعيف من أجل انه مركب على التذكير.

المعنى: وفي قوله: " آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره " ثلاثة أقوال: أولها - أظهروا الايمان لهم في أول النهار وارجعوا عنه في آخره، فانه أحرى أن ينقلبوا عن دينهم.

الثاني - آمنوا بصلاتهم إلى بيت المقدس في أول النهار، واكفروا بصلاتهم إلى الكعبة في آخره ليرجعوا بذلك عن دينهم.

الثالث - أظهروا الايمان في صدر النهار لما سلف لكم من الاقرار بصفة محمد صلى الله عليه وآله، ثم ارجعوا في آخره لتوهموهم أنه كان وقع عليكم غلط في صفته.

والوجه الاول قول أكثر أهل العلم.

ووجه النهار هو أوله عند جميع المفسرين، كقتادة، والربيع، ومجاهد. وانما سمي أول النهار بأنه وجهه لاحد أمرين: أحدهما - لانه أول ما يواجه منه كما يقال، لاول الثوب وجه الثوب. الثاني - لانه كالوجه في أنه أعلاه وأشرف ما فيه قال ربيع ابن زياد:

من كان مسرورا بمقتل مالك *** فليأت نسوتنا بوجه نهار(1)

___________________________________

(1) اللسان (وجه) والاغاني 16: 27، ومجاز القرآن 1: 97، وحماسة أبي تمام 3: 26 وخزانة الادب 3: 538 من أبيات قالها لما قتل حميمه مالك بن زهير، وقد استعد لطلب ثاره وبعده:

[500]

وقيل في معنى البيت: انه كان من عادتهم أن لاتنوح نساؤهم على قتلاهم إلا بعد أن يؤخذ بثاره، فاراد الشاعر أن يبين أنهم أخذوا بثار مالك بأن النساء ينحن عليه. ولذلك قال في البيت الذي بعده: يجد النساء حواسرا يندبنه.

وقوله: (لعلهم يرجعون) فيه حذف وتقديره: لعلهم يرجعون عن دينهم في قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد.

قوله تعالى: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم(73)

آية.

المعنى، والاعراب: قال الحسن: القائلين " لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم " هم يهود خيبر ليهود المدينة.

وقال قتادة، والربيع، والسدي، وابن زيد: هم بعض اليهود لبعض.

وقيل في معنى الاية ستة أقوال:

أحدها - قال الحسن، ومجاهد: اعرض بقوله: " قل إن الهدى هدى الله " وتقديره: " ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم " ولا تؤمنوا " أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم " ولا تؤمنوا " أن يحاجوكم عند ربكم " لانه لاحجة لهم.

قال أبوعلي الفارسي. وتقديره ولا تصدقوا ب‍ " أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم " " إلا لمن تبع دينكم ".

___________________________________

(1)

يجد النساء حوسرا يندبنه *** يبكين قبل تبلج الاسحار

قد كن يخبأن الوحوه تسترا *** فاليوم حين برزن للنظار

بخمشن حرات الوجوه على امرئ *** سهل الخليقة طيب الاخبار

[501]

الثاني - قال السدي، وابن جريج: هو على الاتصال بالهدى دون الاعتراض، والمعنى " قل إن الهدى هدى الله أن " لا " يؤتى أحد مثل ما أوتيتم " أيها المسلمون، كقوله " يبين الله لكم أن تضلوا "(1) وأن لا " يحاجوكم عند ربكم " لانه لاحجة لهم.

الثالث - قال الكسائي، والفراء: " أو يحاجوكم عند ربكم " بمعنى حتى " يحاجوكم عند ربكم " على التبعيد كما يقال لا تلنقي معه أو تقوم الساعة.

الرابع - قال أبوعلي: " قل إن الهدى هدى الله " فلا تجحدوا " أن يؤتى أحد مثل ا أوتيتم ".

الخامس - قال الزجاج: " ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم " لئلا تكون طريقا لعبدة الاوثان إلى تصديقه.

السادس - " أو يحاجوكم عند ربكم " ان اعترفتم به، فيلزمكم العمل به منهم، لاقراركم بصحته.

وفي دخول اللام في قوله: " إلا لن " قيل فيه قولان: أحدهما - أن تكون زائدة كاللام في قوله: " ردف لكم "(2) أي ردفكم بمعنى لاتصدقوا إلا من تبع دينكم.

قال المبرد: إنما يسوغ ذلك على تقدير المصدر بعد تمام الكلام، فأما قام لزيد بمعنى قام زيد، فلا يجوز، لانه لايحمل على التأويل إلا بعد التمام.

والقول الاخر - لاتعترفوا بالحق " إلا لمن تبع دينكم " فتدخل للتعدية، وقال أبوعلي الفارسي لا يجوز أن يتعلق اللام في قوله: " لمن تبع دينكم " بقوله: " ولا تؤمنوا "، لانه قد تعلق به حرف الجر في قوله: " بأن يؤتى " كما لا يتعلق مفعولان بفعل واحد.

فان قيل: لم جاز حذف (لا) من قوله تعالى " أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم " على قول من قال ذلك؟ قلنا: الدلالة عليها كالدلالة في

___________________________________

(1) سورة النساء آية: 175.

(2) سورة النمل آية: 72.

[502]

جواب القسم، نحو والله أقوم أي لا أقوم قال امرؤ القيس:

فقلت يمين الله أبرح قاعدا *** ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي(1)

أي لا أبرح.

والدليل عليه في الاية اتصاله بالعرض في اختصاص أهل الايمان،، فلا يتبعه في المعنى إلا على " أن لا " " يؤتى أحد مثل ما أوتيتم " وكذلك " يبين الله لكم أن تضلو "(2) لان البيان لايكون طريقا إلى الضلال.

وقال المبرد تقديره كراهة " أن تضلوا "، وكراهة " ان يؤتي أحد مثل ما أوتيتم " فحمله على الاكثر، لان حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أكثر من حذف (لا).

وقوله: (والله واسع عليم) معناه واسع الرحمة عليم بالمصلحة، فمن صلح له ذلك من غيركم فهو يؤتيه تفضلا عليه.

قوله تعالى: يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم(74)

آية.

اللغة: الاختصاص: انفراد بعض الاشياء بمعنى دون غيره، كالانفراد بالملك أو الفعل أو العلم أو السبب أو الطلب أو غير ذلك. ويصح الانفراد بالنفس وغير النفس، وليس كذلك الاختصاص، لانه نقيض الاشتراك. والانفراد نقيض الازدواج.

والفرق بين الاختصاص، والخاصة: أن الخاصة تحتمل الاضافة وغير الاضافة، لانها نقيض العامة، فأما الاختصاص، فلا يكون إلا على الاضافة، لانه اختصاص بكذا دون كذا.

___________________________________

(1) مر البيت في 2: 227.

(2) سورة النساء آية: 175.

[503]

المعنى: وقيل في معنى الرحمة ههنا قولان: أحدهما - قال الحسن، ومجاهد، والربيع، والجبائي: إنها السورة وقال ابن جريج: هي القرآن، والاسلام. ووجه هذا القول أنه يختصهم بالاسلام بما لهم من اللطف فيه. وفي الاية دلالة على أن النبوة ليست مستحقة بالافعال، لانها لو كانت جزاء، لما جاز أن يقول يختص بها من يشاء، كما لا يجوز أن يختص بعقابه من يشاء من عباده. فان قيل اللطف مستحق، وهو يختص به من يشاء من عباده؟ قلنا: لانه قد يكون لطفا على وجه الاختصاص دون الاشتراك وليس كذلك الثواب.

اللغة: وقوله: (والله ذو الفضل العظيم)، فالفضل الزيادة عن الاحسان وأصله على الطلاق الزيادة يقال في بدنه فضل أي زيادة. والفاضل: الزائد على غيره في خصال الخير، فأما التفضل، فزيادة النفع على مقدار الاستحقاق ثم كثر استعماله حتى صار لكل نفع قصد به فاعله أن ينفع صاحبه.

وقوله تعالى: ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لايؤده إليك إلا مادمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الاميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون(75)

آية بلا خلاف.

القراء‌ة، والحجة: قرأ أبوعمرو " يؤده إليك " باسكان الهاء الباقون باشباعها.

قال الزجاج: هذا غلط من الراوي كما غلط في " بارئكم "(1) باسكان

___________________________________

(1) سورة البقرة آية: 54.

[504]

الهمزة، وإنما كان أبوعمرو يختلس الحركة فيما رواه الضباط عنه كسيبويه وغيره. وإنما لم يجز حذف الحركة، كما لم يجز في هذا غلام فاعلم، لانه لما حذفت الياء تركت الكسرة لتدل عليها.

المعنى، واللغة: والقنطار: قد ذكرنا الخلاف في مقداره، فانه على قول الحسن ألف ومأتا مثقال.

وفي قول أبي نضرة ملا مسك ثور ذهبا.

وقيل سبعون ألفا عن مجاهد.

وعن أبي صالح أنه مئة رطل.

والفرق بين " تأمنه بقنطار " وتأمنه على قنطار أن معنى الباء الصاق الامانة، ومعنى على استعلاء الامانة، وهما يتعاقبان في هذا الموضع، لتقارب المعنى، كما يقال: مررت به ومررت عليه.

وقوله: (إلا ما دمت عليه قائما) قيل في معناه قولان: أحدهما - " إلا مادمت عليه قائما " بالتقاضي والمطالبة في قول قتادة، ومجاهد و (الثاني) قال السدي إلا مادمت عليه قائما بالاجتماع معه، والملازمة. ومعناه إلا ما دمت عليه قائما على رأسه. ودمت ودمت لغتان مثل مت ومت لكن من كسر الدال والميم قال في المستقبل: تدام وتمات، وهي لغة ازد لغة السراة، ومن جاورهم.

وقوله: " ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الاميين سبيل " قيل في معناه قولان: أحدهما - قال قتادة والسدي: قالت اليهود ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل، لانهم مشركون. و (الثاني) قال الحسن وابن جريج: لانهم تحولوا عن دينهم الذي عاملناهم عليه وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم.

وقوله: (وهم يعلمون) معناه يعلمون هذا الكذب على الله تعالى، فيقدمون عليه، والحجة قائمة عليهم فيه.

وقال قوم: قوله: " ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده

[505]

إليك " يعني النصارى، لانهم لايستحلون أموال من خالفهم، وعنى بقوله: " ومنهم من إن تأمنه بدينار " اليهود لانهم يستحلون مال كل من خالفهم في حل السبت. وعلى هذا يسقط سؤال من يقول أي فائدة في ذكر ذلك، لان من المعلوم في كل حال من كل أمة أن فيها من يؤدي الامانة وفيها من لايؤديها، فلا فائدة في ذلك؟ فان هذا ميز بين الفريقين.

ومن قال بالاول يمكنه أن يقول فائدة الاية القطع على أن فيهم هؤلاء، وهؤلاء وسائر الناس يجوز أن لايكون فيهم إلا أحد الفريقين، فلذلك فائدة بينة. ويمكن أيضا أن تكون الفائدة أن هؤلاء لايؤدون الامانة لاستحلالهم ذلك بقوله: " ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الاميين سبيل " وسائر الفرق وإن كان منهم من لا يؤدي الامانة، لانعلم أنه يستحلها وذلك فائدة.

 

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=1219
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18